غاب أبو سن ولعب أبو ضنب مقال لسمؤال أبو سن رداً علي مصطفي البطل

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-09-2024, 11:23 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثالث للعام 2010م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
07-15-2010, 04:22 PM

زهير الزناتي
<aزهير الزناتي
تاريخ التسجيل: 03-28-2008
مجموع المشاركات: 12241

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: غاب أبو سن ولعب أبو ضنب مقال لسمؤال أبو سن رداً علي مصطفي البطل (Re: عصام دهب)

    نعود مرة أخري لنشر المقالات وعذراً للغياب القسري
                  

07-15-2010, 04:31 PM

زهير الزناتي
<aزهير الزناتي
تاريخ التسجيل: 03-28-2008
مجموع المشاركات: 12241

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: غاب أبو سن ولعب أبو ضنب مقال لسمؤال أبو سن رداً علي مصطفي البطل (Re: زهير الزناتي)

    السموأل أبو سن (4)
    Quote: مدخل أول



    " إنني أقف في يد الله العظمى، ومن هناك أصارع خطة مكتومة ملؤها الحقد والخيانة"

    بانكو في مسرحية "ماكبث"



    كنت قد توصلت في قرارة نفسي إلى ضرورة الكف عن الإسترسال في ملاحقة الكتابات الموتورة للكاتب مصطفى البطل وتدليسه المستمر على القارئ، وشغفه العجيب بتلوين الوقائع وتحريفها بعد أن بيّنا ماهية بواعثه في نقد كتاب "المجذوب والذكريات" والتشنيع بكاتبه. والواقع إن الكاتب مصطفى البطل لم يجشمنا الكثير من العبء في إثبات صحة ما أوردنا، فقد تبرع بإكمال الباقي من كونه غارق حتى إذنيه في "خطة مكتومة ملؤها الحقد والخيانة" لاغتيال شخصية الراحل علي أبوسن تحت ذريعة نقد مذكراته. ولحسن الحظ كان البطل قد نشر مقاله في اليوم التالي لنشر مقالنا الذي أمطنا فيه اللثام عن دوره الصغير في اللعبة الكبيرة، فلم يتسنَّ له نفي شئ مما ذكرنا بل أكده بخط يده بما لم يتطلب منا مزيداً التوضيحات. وكنت أجدني مستعيناً بحقيقة أن الكتاب قد صدر بالفعل وبُذل للناس. ومدركاً أن من يبحث عن حقائق الأشياء في مكامنها لا في تخريجات كتاب العلاقات العامة لن يلبث أن يستوعب أي نوع من العبث يمارسه البطل الآن في تشويه صورة الراحل علي أبوسن. وأن من يسعى في هذا الأمر إلى نهاياته، سيرى حقيقة ما كان من أمر الكاتب مصطفى البطل وغلوه المفضوح في التعريض بالكتاب وكاتبه، وفي أشاعة كثير من زبد الأقاويل حوله عبر الجدل الدعائي.

    والجدل الدعائي Ad hominem argument هو مبحث يعرفه المتخصصون في آليات إغتيال الشخصية. إذ يقوم على عنصرين لم أجد في حياتي مثالاً أصدق تعبيراً عنهما كما رأيته في أراجيف البطل. وأول هذين العنصرين هو مهاجمة موضوع الكاتب- وهو هنا كتاب "المجذوب والذكريات"، بتلفاق لا يواجه ما أبرزه من حقائق ووقائع في مؤلفه أو موضوعه ويشمل ذلك مهاجمة الكاتب أو المؤلف أو المستهدف في شخصه بتسليبه من كل مزيه، ورميه بكل الموبقات والوان البهتان. ثم تأتي المرحلة الثانية من مراحل هذا الجدل، وتتمثل في إتخاذ نفس الهجوم والتهم التي سيقت ضده من نفس الجهة في أول الأمر، كأدلة على إدانته وذلك بلا شك أسطع فنون الشر الإنساني وأغباها في نفس الوقت.

    ومن المفارقات اللغوية البديعة في الأمر إن الجدل الدعائي نفسه تطلق عليه كلمة أخرى هي كلمة Fallacy، وينطقها اللسان (فـَلَسِي)، لتشابه الكلمة العربية المرتبطة بالفلس معناً ونطقاً. وهكذا يكون الجدل الدعائي، والإفلاس والفلس، جميعها عملة واحدة، في مفارقة لغوية وبلاغية طريفة، تقودنا إلى واحد من أميز تجار تلك العملة، الكاتب مصطفى البطل.

    المهم أنني كنت قد حزمت أمري على التوقف عن متابعة إفتراءات البطل، مراهناً على القارئ الذي تهمه الحقائق لا الإثارة. وعلى المثقف الذي يتجاوز زخرف الإنشاء والصياغات الدرامية، ويقصد إلى المعاني الحقيقية، المباشرة والدلالية، في ما صاغه مؤلف "المجذوب والذكريات" في سفره الغني الهام. وقد سرّني أن هذا بلا ريب سيخفف كثيراً من عنت القراءة المعيبة التي يعملها البطل تحريفاً للوقائع التي سردها مؤلف الكتاب، وتزويراً لأحداثه وتشويهاً متعمداً لكاتبه.

    لكن ما دفعني للعودة مرة أخرى لتناول مقالات البطل المعيبة في حق المذكرات، هو المنحى الجديد الذي حاول أن يدخل فيه الكاتب بعد أن أفسدنا حيثيته الأولى وبارت كل بوار إلا من امتياز الإثارة، وبعدما تكشف للجميع أن البطل ليس أكثر من مجرد نموذج آخر للكاتب، "جُنُب القلب طاهر الأطراف"، يظهر خلاف ما يبطن، ويمارس ضرباً مقيتاً من ضروب التقوّل والبهتان، ويداري على ذلك بإمعانه في الحذلقة والإدعاء فيصف دوافعه للكتابة عن المذكرات بأنها من موجبات الدفاع عن التاريخ ضد التزوير!

    وأصدق القارئ إنني من هول ما رأيت من تجانف البطل عن الحق، وحمله وتحامله على المذكرات، في مسكعته التي أسماها "أحاديث الأدب وقلة الأدب"، حتى حسبته يكتب عن أمر آخر غير كتاب "المجذوب والذكريات". وأصدقه أنني أعدت كرّاتي في قراءة الكتاب وتقليب صفحاته الممتعة التي تحكي عن تجربة ثرية لسوداني نادر، هو كاتب مقتدر، تميز كتاباته الدقة وحس التشويق والصياغات الممتعة. ويتوفر على قدر مهول من المعلومات التي تعبر عن ذاكرة غنية راصدة فاحصة. وأمضيت وقتاً طويلاً في إعادة قراءة أجزاء مختلفة منه، وكنت في خلال ذلك أحاول إعمال القراءة العكسية في أكثر تأويلاتها تطرفا فلم أجد سبباً لهذا الفحش من البطل. وعلى أية حال أتاح لي كل هذا العنت فرصة إعادة إكتشاف ما في الكتاب من إشراقات مما لفت نظري له البطل، ومعلومات ثرة، مما سأعود للكتابة عنه لاحقاً عساى أجلي بعض التشويش والعبث الذي أعمله فيه كاتب الإثارة.

    يتميز كتاب "المجذوب والذكريات" بأنه قارب حياتنا وتجاربنا وإختلافاتنا وتنوعنا، ونجاحاتنا وخيباتنا من منظور إنساني شامل دون أن يغفل التكوين النفسي والوجداني لكاتبه وخلفيته الثقافية التي شكلها تكوينه السوداني وتجارب حياته الغنية. وبذلك إستطاع الكاتب ان يطرح بلغة الضاد كتاباً سودانياً تجاوز حواجز التابوهات ومقتضيات مصانعة المسئولين والمتنفذين. نعم أغضب الكتاب البعض وهذا شئ طبيعي، إذ لا يتصور أن يكتب شخص مذكراته وتشمل الرضا عن الجميع إلا إذا كنا في صدد المجاملات التي يجب أن تكون آخر ما يخطر ببال كاتب المذكرات. والمحك هو أن الكاتب إلتزم الصدق منهجاً في كتابه مثلما إنتهجه في حياته الملأى بالعواصف. وليس ثمة برهان على ذلك أقوى من كونه قد عاش أكثر من سبع سنوات بعد صدور كتابه لم نسمع فيها من ذهب إلى تكذيبه على تعدد المنابر التي لا تحصى ولا تعد، ولم تظهر مثل هذه الإدعاءات إلا بعد وفاة الرجل.

    ورغم ما يبدو في ظاهر الأمر من أن الكتاب قد طغت عليه طبيعة تكوين الكاتب وأسلوبه الذي يميل في أحيان كثيرة إلى أنماط الحياة الغربية، إلا أننا في مواطن عديدة منه نجدنا أمام شخص شديد الإرتباط بمجتمعه، وتقاليده القبلية، ونظم مجتمعه. وهنا في تقديري تكمن إجابة أكثر الأسئلة إستفزازاً في مقاربة الكتاب! وهو كيف لاقح المؤلف بين هذه العناصر التي تبدو في ظاهرها شديدة التباين، فإنتظمت في قوام واحد لتشكل شخصية المؤلف؟ وفي هذه الجزئية في تقديري يكمن مفتاح الدخول إلى الحالة الذهنية والتكوين النفسي لكاتب سفر الذكريات بما يتيح أمام المحلل فرص الولوج إلى ما إستعصى عليه تحليله وتأويله مما جاء في دفق الذكريات.

    يتناول الكتاب الذي تمحور حول صداقة الكاتب علي أبوسن بالشاعر العملاق محمد المهدي المجذوب، عوالماً متكاملة لابد أن القارئ لن يجد لها رابطاً لو أنها طرحت له خارج سياقه. ففي خيط واحدٍ جزل، إنطلق الكاتب لينسج منظومة سردية متصلة. ووصف وأسهب في وصف مقاطع من شريط حياته المحتشدة بالأحداث والمفاجآت والمواقف. لم يرتبط الكاتب في هذا بجغرافيا السودان أو ديمغرافياه، وإنما إنطلق ككائن عالمي إحتك مع محيطه العربي والأفريقي والاوروبي. فكتب عن مراحل حساسة من حياة أناس لعبوا أدواراً تاريخية في بلادهم. عن جيل ما بعد الإستقلال في العالم العربي، وعن حقبة مصر عبد الناصر وبومدين، والتاريخ غير المرئي لعلاقات السلطة في مصر، وكتب عن الصراع الذي وسم تلك الفترة ليس في ميادين المعارك فحسب بل وفي ساحات الفكر في عواصم العالم القاصية. وتناول الكتاب من رموزنا الثقافية والوطنية فشرح وأسهب وتغنى وأطنب، وقرظ وقرع. والقارئ في كل ذلك لكأنما يحس تدفق نفس الكاتب فوق صفحات الكتاب التي تعلو به فيها الأحداث وتهبط في سجال لا يسمح له بالتوقف ولو للحظة. وقد أجاد الناقد الراحل الكبير رجاء النقاش حين وصف أسلوب كتابة الكتاب بانها ضرب من ضروب التداعي الحر في الكتابة.

    إسترجع الكتاب الكثير من المواقف المرحة، والمدهشة، والمخيبة والمحزنه مع طائفة كبيرة ممن ساهموا بدرجات مختلفة في رسم واقعنا الراهن. ومن ضمن من تناولهم الكاتب في مواقف بعضها عابر وبعضها متكرر، جمال محمد أحمد، ومحمد عبد الحي، ومحمد أحمد محجوب، ومالك بن نبي، ووليم دينق، والطيب صالح، وسعيد الكرمي، وأحمد خير. كتب المؤلف عن كل هؤلاء وعن مواقف إنسانية عاشها معهم. هي قطعاً مما لا يمكن أن يجده القارئ في أي مكان آخر، بعض تلك المواقف حزين، وبعضها مثير، وبعضها غاية في الطرافة وذلك كله هو من التاريخ الخفي لمجتمعاتنا. وقد كان المؤلف في كل هذه التجارب، مشاركاً فاعلاً مؤثراً وناجحاً.

    أما بخصوص ما اعتبرته في تقديري من عيوب الكتاب ومثالبه، وهي أمور لا يخلو منها كتاب، فقد تذكرت كيف كانت مثار نقاشات طويلة وحافلة بيني وبين الراحل أعدت فيها إكتشافي له، وإطلعت على جوانب مدهشة في شخصيته بالغة النظام والتعقيد. وإستشفيت فلسفته في أسلوب كتابته للكتاب وألممت بنظرته ومراميه البعيدة ومقاصده مما وصفته أنا كعيوب في الكتاب. كان ناجحاً محباً ويحترم الناجحين. وكان يقارب كل الأمور في حياته من منظار فلسفي واسع حاديه التريث والتفكير المتئد قبل أن النطق بالكلام أياً كان موضوعه.



    الخطل في تخريجات البطل



    باغتُّ نفسي، وأنا أستعيد هذه الإنطباعات والصور; قائلاً، ربما كانت قراءتي هي قراءة عين الرضا التي هي عن كل عيب كليلة، وأنني أنظر للأمور بحكم علاقتي بالراحل، نظرة تعميني عن حقيقة الأمر، فقلبت حولي، وإعدت قراءة ما كتبه آخرون عن الكتاب. نفس الكتاب الذي عاث فيه البطل المفتقر ليس فقط إلى الحساسية الإبداعية، وإنما إلى روح المرح، وأعمل فيه تخريباً كما الثور في مستودع الخزف، هو نفس الكتاب الذي إستقبله آخرون باحتفاء كبير وتقدير أكبر، ومنهم الكاتب الكبير الراحل رجاء النقاش الذي كتب سلسلة من المقالات نشرها في مجلة الوطن العربي غداة صدور الكتاب قال في مبتدرها :" ومنذ أسابيع صدر كتاب جديد في جزءين يبلغان معاً ما يقرب من خمسمائة صفحة، والكتاب عنوانه "المجذوب والذكريات"وله عنوان فرعي طويل آخر هو "أحاديث الأدب والسياسة بين الخرطوم ولندن،والقاهرة وباريس". و الكتاب من تأليف أديب سوداني هو الأستاذ علي أبوسن وهو إنسان مثقف صاحب تجربة واسعة في الأدب والفن والسياسة والدبلوماسية والحياة. وبالرغم من أنني أعرف "علي أبوسن" منذ الستينات وربما قبل ذلك، إلا أنني لم أكن أعرف أن حياته غنية بالأحداث إلى الحد الكبير الذي إكتشفته وأنا أقرأ هذ الكتاب الجديد. فلم أكد أقرأ الصفحات الأولى من الكتاب حتى وجدتني أجري وراء صفحاته الاخرى مثل المسحور حتى إنتهيت من قراته في ليال معدودات. ومصدر المتعة في الكتاب أنه مكتوب بأمانة وصدق. وأنه يكسب "ثقة القارئ" منذ سطوره الأولى، و أنه لا يخفي شيئا ولا يخاف من شئ، ولذلك جاء هذا الكتاب طريفا ومدهشا معا، وأمتزجت فيه الحياة السياسية بالحياة الأدبية و التجارب الشخصية. وإذا كانت خلفية الكتاب سياسية، فإن مضمونه أدبي وإنساني".

    ويسترسل النقاش " وكاتبنا علي أبوسن ينتمي إلى قبيلة عريقة في السودان هي قبيلة "الشكرية"، وكان فيها باشوات ومشايخ وأعيان ورجال يهابهم الإنجليز ويحسبون لهم ألف حساب. وقد تعلم في القاهرة و حصل على ليسانس "دار العلوم" في أواخر الخمسينات، ثم سافر إلى لندن وعمل مذيعاً في الإذاعة العربية هنا، حيث كان يعمل أيضاً عدد آخر من الشخصيات البارزه التي أصبح لها بعد ذلك حضور قوي على الساحة الأدبية والفكرية في العالم العربي و على رأس هذه الشخصيات الطيب صالح. وقد لقي "علي أبوسن" في مجتمع لندن نجاحاً عملياً كبيراً، ولقي نجاحاً شخصياً إلى جانب ذلك. فكان شديد الثقة بنفسه، وإستطاع أن يلفت النظر بقوة شخصيته، وبوسامته الرجولية العربية الأفريقية، مما حرك نحوه أكبر المشاعر في نفوس فاتنات المتمع الإنجليزي. وكان ل "علي أبوسن" في هذا المجال تجارب عجيبة كتب عنها في كتابه الجديد بقدر كبير من الصراحة والوضوح. وقد إستطاعت هذه التجارب الشخصية التي كشفها "علي أبوسن" أن توضح أمام القارئ المهتم بأدب الطيب صالح تلك الأجواء التي خرجت منها رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" حيث كان بطلها مصطفى سعيد يخوض مغامراته و تجاربه المثيرة مع فتيات إنجلترا وقد أشار الطيب صالح في إحدى مداعباته ذات مرة وهو يتحدث مع الممثلة المصرية ماجدة الخطيب في حضور "علي أبوسن" إلى أن "علي" هو نفسه "مصطفى سعيد" بطل "موسم الهجرة إلى الشمال". وفي الجزء الخاص بالتجارب الإنجليزية من كتاب "علي أبوسن" نتذكر تماماً أجواء رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" و نجد إضاءة قوية تكشف أمامنا المادة الإنسانية الأولية لهذه الرواية الفريدة في الأدب العربي، و التي أصبحت الآن ذات شهرة عالمية بعد ترجمتها إلى العديد من اللغات الحية".

    وما ذكره النقاش من أمر مصطفى سعيد وغيره، والطريقة التي مر بها على تعليقات الراحل الطيب صالح، هو في حقيقته يعبر تعبيراً دقيقاً عن شمول النظرة، ومنهجية النقد وتأسيس العبارة على أرضية المعرفة المتراكمة لا على الفراغ. هي نظرة يتضح فيها الفرق واضحاً بين القراءة المنتجة للمعرفة، وبين قراءة الخطل التي تقفز قفزاً لمحصلات مرسومة مسبقاً!



    الإتحاد الاشتراكي... رمتني بدائها وانسلت!



    أقول ما كان ضرنا شئ من قول الرجل الذي تصدى لمهمة الدفاع عن التاريخ، ويا لها من مهمة، لولا أنه إبتدر مهمته (الجليلة) بسيل من الأكاذيب والإفتراءات وبنات خياله (المطاليق) أعادتنا للرد عليه. فقد أسهب الرجل بما يكفي وأعاد نقل وجهات نظرٍ سمعناها وقرأنا عنها، بحذافيرها، بل ولم يتوانى حتى عن نقل عناوين مقالات البعض بكاملها في حربــه تلك ضد أبوسن. لكن ما زاد إشفاقي على الرجل هو ما حاق به من إرتباك وتناقض في وصف علاقة أبوسن بالخارجية ووزيرها الأسبق الدكتور منصور خالد. ويبدو لي أنه، بعد تنبيهنا له، إلى دلالات مقاله الأول في الإساءة لمنصور خالد حين صوره كفتوة وبلطجي وزارة الخارجية، مما جزمنا بأن الدكتور منصور خالد لم يستحسنه، قام صاحبنا إلى تخريج آخر قلب فيه كل فرضيته الأولى التي قامت على أن أبوسن كان نكراً منسياً في وزارة الخارجية، ليجعل منه، في مقاله اللاحق، رجل الخارجية القوي، الآمر الناهي، الذي ناطح الوزير نفسه -الحجر الأسود سابقاً- بما جعل الوزير يضع هوانه و قلة حيلته مباشرة أمام الرئيس بتخييره بين أن يتنحى هو عن الخارجية لعلي أبوسن أو أن ينقل أبوسن إلى وزارة أخرى!! صور البطل أبوسن على أنه شخص مغلوب على أمره منتهى أحلامه أن يكون وكيل وزارة أو أمين أمانة في الإتحاد الإشتراكي، قبل أن يعيده إلينا في نسخته الجديدة، الباطش الآمر الناهي، الذي ترتعد أوصال الخارجية لمجرد وقع أقدامه في ردهاتها، ولله في خلقه شئون! فهل يحتاج القارئ مزيداً من التوضيح للوقوف على هذا النموذج من "محننا السودانية"؟؟

    ويبدو أن مسألة الإتحاد الإشتراكي، هي الخيط الواهن الوحيد الذي تبقى للبطل في مسألة تشويه علي أبوسن بعد أن إستعصت عليه المداخل، وبعد أن بار مسعاه في النقد الأخلاقي المغرض. ولأن البطل يمتهن الكذب ويتحراه فإنه يقول دون أن يهتز له سنان قلم: "ويقول معاصروه من الدبلوماسيين(...) - وهم كثر يعاظلون الدنيا بين الوطن والمهاجر - إنهم ذاقوا الأمرّين جراء نفوذه المتفاحش وسلطته وعنجهيته واستعلائه على الآخرين بحكم انتمائه ومركزه في التنظيم الحاكم(..) وقد تملكت صاحبنا عهدذاك نزعة مستفحلة لأن يلعب دوراً متعاظماً يشبه ذلك الدور الذي كان يلعبه منسوبو الحزب الشيوعي في شرق أوربا داخل وزاراتهم(..). وقد أغرى منصب "أمين الاتحاد الاشتراكي" في ذلك الموقع التنفيذي الحساس، علي أبوسن لأن يتدخل في شؤون الوزارة واختصاصات وكيلها ووزيرها، وأن يدبِّج التقارير عن ضعف التزام بعض المسؤولين بما فيهم الوزير، بمبادئ وأهداف "ثورة مايو". ومما أخذه على الوزير، وكتبه في تقاريره ثم أشاعه في اجتماعات مفتوحة، ما وصفه بأنه "ضعف في الأداء العام". وهنا برز الاحتكاك الأول بينه وبين الدكتور منصور خالد، الذي كان يشغل وقتها منصب الوزير.

    كان من الطبيعي ألا يكون وجود أبي سن وممارساته التسلطية مقبولة عند وزير في حجم وجبروت ونفوذ منصور وقتها، فما كان من الأخير إلا أن كشر عن أنيابه للموظف الصغير الذي لم يعرف حدوده". إنتهى الإقتباس.

    وسيتحتم علينا إذا من الإقتباس السابق أن نأخذ ثلاث إدعاءات على سبيل الحقائق المطلقة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وهي كالتالي:

    أولاً: إن الرجل كان له مركز ونفوذ مخيف في التنظيم الحاكم! وكان البطل قد رماه بقلة الشأن وصغر المقام ففي أي من الوصفين تقع الحقيقة؟

    ثانياً: إن الرجل كان بالفعل يشغل ذلك المنصب، أمين الإتحاد الإشتراكي! وكان البطل قد قطع بأن هذا المنصب كان منتهى أحلام وآمال أبوسن وأحالنا إلى قصة الحجر الشهير، الذي لابد أن القارئ يذكره جيداً؟؟ حجر المنصورالأسود كما أسماه أخونا البطل!

    ثالثاً: إن منصور خالد وزير خارجية نميري الأشهر، كان ضعيف الإلتزام تجاه نظام مايو! وهذه بالطبع محيرة! وستغضب منصور خالد نفسه قبل أن تضحك القراء، ولا أرى لزوماً لأن أضيف أي إضافة!

    ودعونا من هذا كله لنقف على مسألة هامة لصيقة بالموضوع. ألا يتساءل سائل، من أين للبطل بمثل هذه المعلومات الدقيقة المفصلة والتي هي في حقيقتها نتاج ما تتناقله خطوط الهواتف عابرة المحيطات من (قوالات) في أكبر عمليات النميمة أو(القطيعة)؟! إن مجمل محمولات كاتبنا هي محض إنطباعات ومرارات وأمزجة شخصية لا أكثر ولا أقل. نقول أن مصادر البطل في مجمل بهتانه لكاتب المذكرات هي نتاج الـ Gossip التي يتصيدها من مصادر بعينها وينتشي بما يتسقطه منها، وإلا من أين لمثل البطل الذي تفصله عن بقية (الأبطال) سنوات طويله تجعل مجايلته لهذه الأحداث-التي لم يرصدها كتاب- من المستحيلات. كيف تسنى له معرفة وضعية لا يمكن أن يعرفها إلا من عاشها ما لم تكن قد رويت له رواية شخصية؟! لقد إستقى صاحبنا رواياته (المحسنة) "بضبانتها" من أعداء الراحل أبوسن. ولو كان البطل كاتباً مسؤولاً كما يدعي، لمارس ذاك القدر مما أسماه "الصحافة الإستقصائية" لمعرفة المسائل من جوانبها وتلمس أطرافها الأخرى. أو كان على أقل تقدير تحقق من وجهة النظر الأخرى التي رواها مؤلف الكتاب الذي يعكف البطل على التشهير به، ولو لإبداء شئ من الحياد. ولكن محاولة البطل الخائبة لإغتيال شخصية أبوسن، جعلته لا يرى الأشياء إلا من خلال منظار واحد هو منظار الغل والتشفي.

    ولقد ذكر الراحل أبوسن في كتابه" المجذوب والذكريات" عن أمر الخارجية والإتحاد الإشتراكي ما يوضح تماماً حقيقة الصورة التي كان عليها الإتحاد الاشتراكي وأبان في كتابه إبانة من لا يداري كيف أن التذرع بالاتحاد الاشتراكي كان مخرجا لإعادة تشكيل إتحاد الدبلوماسيين الذي عطله الوزير آنذاك. قال أبوسن:" كان منصور يعرف أن قيام تنظيم من أي نوع تعترف به الدولة في وزارة الخارجية، سيمنح الدبلوماسيين المقهورين صوتا مسموعا يكشف ما تعانيه الخارجية على يديه. وقد نجح في منع إعادة تكوين إتحاد الدبلوماسيين حتى عدت أنا من باريس. كان علي أن أزيح من عقول الزملاء وقلوبهم موجات الرعب التي بثها فيها صلف منصور خالد و تجبره. وأقنعتهم بعد معاناة شديدة بضرورة الإجتماع وإنتخاب لجنة جديدة للإتحاد. ثم دعوت إلى إجتماع مشترك للجان إتحادات الدبلوماسيين والإداريين والعمال، وعرضت عليهم فكرة إنشاء إتحاد موحد لجميع العاملين بوزارة الخارجية. وقد إعتبر الجميع ذلك الإقتراح فكرة جريئة جداً في ظل تقاليد التمايز المهني والطبقي بين تلك الفئات الثلاث. في البداية لم يصدق أعضاء إتحادي الإداريين والعمال إنني جاد في إقتراحي، فترددوا. ولكن بعد أن تأكدوا من الجدية وافقوا بل تحمسوا واندفعوا يدعون للفكرة. لم يكن منصور يعترف بأي من تلك الإتحادات، ولكنه لم يكن يستطيع أن يفعل شيئاً بعد أن أستصدر جعفر بخيت قرارا من نميري بعدم تعرض الوزراء لعملية إنشاء النقابات والإتحادات لتكون جزءاً من مكونات الإتحاد الإشتراكي". إنتهى كلام أبوسن.

    وأود أن أعود هنا إلى الإشارة إلى ما تلقيته من الكاتب الأستاذ محجوب بابا، وكان قد أرسل مقالا كامل حول الأمر إلى كل من "الأحداث" و "سودانايل" ولكنه لم ينشر لتقديرات المسئولين في كلا الصحيفتين. ومما جاء في مقال الأستاذ محجوب بابا " أن عضوية الرسميين في الإتحاد الإشتراكي قبل القادمين المتصالحين مع مايو كانت فرض عينٍ بالصفة والوضع الوظيفي وشيخ العرب المرحوم أبوسن منهم، ولا يُعقَل تعميم سُبَة الشمولية والإفساد عليهم أجمعين ومنهم من يُجمع المجتمع على طهارة سيرتهم. من حقائق التاريخ تجسم العيب كله والإفساد حتى لرأس الأفعى في سدنته اللاحقينن. هكذا الحقيقة قد إستوجبت على المرحوم أبوسن ورفاقه الميامين الإستماته لحماية الحزب الإتحادي الديمقراطي من ويلاتهم، وفي مظاهر يومنا الحاضر خير شاهد وبرهان". إنتهى حديث الأستاذ محجوب بابا، فهل ثمة إبانة في هذا الأمر أكثر مما قيل؟

    على أن القارئ لا بد سيتساءل عن الواقعة التي نقلها البطل في شأن علاقة أبوسن بالسلطة، هل من المعقول أن يصل (الموظف الصغير) في سلطته وجبروته حداً يدفع بوزير الخارجية أن يخير الرئيس، فيما يشبه حالة "الحرد"، بين أن يعين هذا الموظف الصغير وزيراً للخارجية أو يضعه في أمانة العلاقات الخارجية بالإتحاد الاشتراكي؟

    يقول البطل أن رياح مايو قد تقلبت بغير ما تشتهي سفن أبوسن، فوجد الرجل نفسه "على قارعة الطريق"، بغير وظيفة في الخارجية، وبغير موقع في الإتحاد الإشتراكي. فتأمل عزيزي القارئ! وليتأمل هذا القول كل من في رأسه بعض عقل يميز به! فإذا كان أبوسن ذلك السادن المايوي، وربيب الدكتاتوريات، هل كان وجد نفسه خارج منظمات السلطة ومؤسسات الدولة في نفس الوقت؟ أم أن خروجه في عز فورة مايو من كل ذلك هو أقوى شهادة للرجل على رفضه لتلك الدكتاتورية ومعارضته لها؟؟! لن يزيف البطل الحقائق. فقد خرج الرجل من النظام ومؤسسات الدولة لأنه قال لا في وجه من قالوا نعم. ولن يجد (أرزقية) الكتابة فرصة ليلوثوا أبوسن بتهم تمجيد الدكتاتوريات والتمسح بترابها.

    ونعود لتعرية ما كان من أمر الكاتب المقدام الذي ورط نفسه في هذا الأمر، وسعى بلا تبصر ولا معرفة في مشروع إغتيال شخصية أبوسن، وقد وقع البطل في شر أعماله حينما حاول أن يضفي على مهمته "الصغيرة"، رداء التوثيق والتقصي. وحاول التدثر في هذا الأمر بدثار الباحث المستقصي، المنافح عن الحقيقة، المطارد لها عبر الفلوات والمظان. فيقول: "وككاتب مسئول (..) خطر لى ان الجأ الى نهج الصحافة الاستقصائية التى توثق للحقائق مباشرة، عوضاً عن الركون الى روايات مجالس المؤانسة المرسلة. وهل يصعب على مثلي أن يحصل على رقم تلفون هاتف الاستاذ فضل عبيد النقال؟ (...)

    وقبل أن نأتي إلى المرحلة التي وصل إليها الكاتب "المسؤول" من الكذب الصريح، سنشرح للقارئ العزيز، أو – العزيز الأكرم- خلفية على قدر كبير من الأهمية قبل أن ننزع آخر أوراق الأباطيل. والخلفية تتمثل في إن السيد فضل عبيد كان جار علي أبوسن في الحي قبل أن يكون زميله في الخارجية. وربطت بين الرجلين علاقات جيرة طويلة ممتدة. إتصلا فيها على مستوى الأسرتين، وربطت بين ذريتيهما روابط الصداقة والأخوة الحقة منذ وقت طويل. والواقع إن ما تجرأ عليه البطل في حربه غير الكريمة تجاه كاتب المذكرات، كشف الستار عن الحد الذي يمكن أن يصل إليه في الفجور. فهو لا يبالي أن يتأذى من يتأذى ممن يستعين به في سعيه اللاهث لتعضيد باطله. وقد آلمني حقاً أن البطل قد تسبب برعونة فادحة بإحداث حالة من الحرج الشديد لدى أسرة عمنا الفاضل فضل عبيد ولديه بشكل مباشر نتيجة لما خلفه نشر ما إدعاه البطل على لسانه على صفحات الصحف. فنظراً للعلاقة الوشيجة التي تربط بين أسرتي الراحل أبوسن وأسرة العم فضل عبيد، فقد كان طبيعياً أن ينزعج الناس غاية الإنزعاج و أن يستفسروا عن حقيقة ما إفتراه الكاتب مصطفى البطل. وهناك إستطراد لابد منه قبل أن نكمل هذه الجزئية التي تكشف ما يمكن ان يبلغه الإفك من مبلغ.

    أقول بدءاً، من البديهي إنني لم أقف عند هذه النقطة في مقال البطل من أجل الدفاع عن الراحل علي أبوسن ضد تهمة السرقة والنهب التي رماه بها البطل. فالرجل ببساطة شديدة لم يكن يحتاج لذلك، وإتهامه بسرقة لوحات فنية هو من قبيل السُخف لا أكثر ولا أقل. لكني كنت حريصاً على الوقوف على كيفية إخراج البطل و"مونتاجه" لحديث الناس وتوظيفه لقصصه الفطيرة بمنطق القص واللصق فقط ليسوق مقاله الأسبوعي وهو أمر صار معروفاً عنه وقد كرره مع أفراد عديدين لا يتسع المجال لذكرهم. كما أرجو أن يعذرني القارئ إذ أنني في وضعية حرجة للغايةً، ما بين الإسترسال في الرد على كذب البطل وفضحه على الملا، ببيانات وشواهد ماثلة في علاقة أسرتي الراحل علي أبوسن والأستاذ فضل عبيد تثبت بهتان البطل للرجل، وبين النزول عند رغبة العم فضل عبيد، الذي تأذي أيما تأذي من هذا الإستغلال السئ الذي تعرض له. ولا ريب أن ما نشر عنه كان قد قوبل بكثير من الإستغراب من قبل أسرة الراحل علي أبوسن التي بهظها هول المفاجأة مما نقل على لسان العم فضل عبيد الذي نفى نفياً قاطعاً أنه وجه إتهامات كمثل التي ساقها البطل، إلى أبوسن. بل وعبر عن غضبه الشديد لما تعرض له من إستغلال لدرجة إعتزامه الوصول الى صحيفة الأحداث للإحتجاج على ما نُشر عنه في مقال البطل.

    إننا على إلمام تام بمثل هذه المسائل الإنسانية ونقدرها حق قدرها ونفهم أسبابها ودوافعها وظرفها. ونقدر رغبة الأستاذ فضل عبيد في ألا ينفتح جدل يحشر فيه إسمه في مجموعة (قوالات). كما نتصور العنت الذي يمر به كل شخص في مثل هذه المرحلة من حياته حين يوضع موضع الإفتراءات التي ما أنزل الله بها من سلطان. أقول لكل هذه الملابسات الإنسانية الدقيقة للغاية، سنعلِّق تفاصيل ردنا الماحق على البطل ومن يديره في هذا الأمر، ولكن إلى حين. ولن ينفد الكذاب بعبثه وأفاعيله التي سيأتيه خراجها طال الزمن أم قصر! وحبل الكذب جد قصير.



    دار العلوم.. ولِمَ يخجل أبوسن؟



    يقول البطل أن علي أبوسن كان يخجل من خلفيته الدراسية بكلية دار العلوم. و هو بالطبع قول لم يستنتجه البطل، وإنما نقله نقلا عن الناقد الدكتور عبد الله حمدنا الله. وإذا كان لدكتور حمدنا الله اسبابه التي نحترمها كآراء ونوردها في إطار إعمال النقد للكتاب. فإننا لا نفهم أن يردد البطل ذلك الاتهام كأنما مدعياً الأصالة فيه، وكأنما كان من بنات أفكاره. على أية حال هذا الإتهام ربما كان أخف الاتهامات بؤساً في لائحة البطل العنقودية التي لم تبق ولم تذر. أما ما كان من شأن أبوسن في هذا الأمر، فقد اعتبر الراحل كلية دار العلوم وساماً على صدره، ولم يبدر منه من قريب أو بعيد ما يشي بغير ذلك بل كان فخوراً أن وصوله لدار العلوم نفسه كان ضرباً من ضروب الكفاح، والإجتهاد، والعزم لا يتوفر إلا لمن كان يملك الطموح والروح الوثابة. وإحتفظ أبوسن بوفائه لدار العلوم فكان لصيقاً بها مشاركاً في أنشطتها. وإستمرت صداقاته مع زملائه من دار العلوم وكان هؤلاء هم أصدقاء مسيرة حياته الذين ظلوا بقربه وظل يردد أسماءهم حتى قبيل رحيله. إدعى البطل إن أبوسن كان يخجل من خلفيته التعليمية ومن كونه خريج دار العلوم! والواقع أنه ليس في عدم ذكر كلية دار العلوم في مذكرات أبوسن ما يشي بخجله منها. فهي ليست الجزء الوحيد في حياته الذي لم يذكره في مذكراته. فهناك فترات أخرى كان شديد الإحتفاء بها في حياته ولم يذكرها، وأهمها مراحل طفولته وصباه بين كسلا والخرطوم، وتلك كانت فترات خصبة للغاية في حياته. ولكن أغلب ظننا أن السبب الرئيسي في ذلك يعود إلى أنه إتخذ من رسائل المجذوب محوراً يتناول فيها محطات الأدب والسياسة وأحاديثها وأشجانها. وقد طغت تلك العلاقة على منطلقات محاور الكاتب في تناوله محطات الذكريات. فالكتاب إتخذ في عنوانه إسم المجذوب قبل الذكريات، وهنا دلالة ضمنية على تقاسم مفردتي العنوان موضوع الكتاب. فكان القارئ يستصحب المجذوب حتى في المساحات التي لا تتناوله. على أية سنعود لاحقاً لهذه الفرية المضحكة في حديث البطل والتي نقلها "بضبانتها" من إستنتاجات الناقد الدكتور عبد الله حمدنا الله، حتى أنه في غفلة من أمره أشار في صلب مقاله إلى "همبتة المذكرات"، في إشارة إلى مقال حمدنا الله ونسي أنه عنون مقاله بـ"بلطجة المذكرات" فصرنا عبر إسقاطات العقل الباطن للبطل، في حيرة من أمر ما نقرأ، هل هو مقال حمدنا الله أم مقال البطل!



    عقدة "أبوسن" أم عقدة البطل



    ورغم أن تناول مثل هذه المسائل يعد من توافه الأمور حينما نكون بصدد تقييم كتاب مثل" المجذوب والذكريات"، لكن هذا لفت نظري إلى أمر إهتمام البطل الشديد بالخلفيات التعليمية والألقاب الأكاديمية أكثر من إهتمامه بمنتجها ومخرجاتها. وهو ما يعبر بصورة أو أخرى عن أزمة عميقة يعيشها أو فراغات يحسها في هذا المجال ربما كانت تعبر عن خلفية تعليمية مضطربه تفسد عليه حياته. فالبطل قد حشد مقالا طويلاً (يهز ويرز) وسمه بـ "رجال حول حرف الدال"، كان كل همه رصد حملة الدكتوراة، ومدى إستحقاقهم لها. ونشر ذلك المقال أيضاً في موقع سودان فور أول المعروف بإنضباطه الشديد في التعامل مع الألقاب العلمية، وفي إحترام التقاليد الأكاديمية. فتعرض لنقد شديد لم تفلح معه تبريراته المختلفة. ولما تبدى له هزال حجته، إنصرف عن الموقع لا يلوي على شئ وترك أسئلة الناس معلقة في الهواء. نقول إذا كان أمر الإهتمام المزعج بالألقاب والخلفيات الأكاديمية في قشورها دون تقصي محمولات صاحبها الفكرية وما أسفرت عنه في تشكيل تكوينه ووعيه، هو إحدى العُقد التي تشوش تفكيرنا بصورة عامة وتحتل حيزاً كبيراً من نهجنا المظهري، فقد إحترت في ذلك لدى البطل الذي يبدو أنه شديد النقد لأنماط حياتنا وثقافتنا. والحق أن كتاباته حول المحن السودانية في أمريكا كانت قد لاقت لديّ إستحسانا كبيراً لما فيها من إضاءة لبعض سلبيات ثقافتنا الإجتماعية وسلوكنا العام. ولكن خاطراً خطر لي بعد قراءة تعليقات البطل في ذات النهج الملاحق لعلي أبوسن في أمر إشارته لبعض المؤسسات الأكاديمية في كتابه. وقد حرت في الأمر أيما حيرة. فعلاقة علي أبوسن بجامعة لندن كان سببها إلتحاقه ببرنامج دراساته العليا فيها وهو أمر لا أجد فيه أية غرابة. وما أعرفه بالفعل إن أبوسن كانت له دراسات متخصصة حول علاقات السودان بالحبشة خلال الفترة المهدية. ولدي ضمن أوراق الراحل رسائل مشرفين أكاديميين في هذا الخصوص واردة للراحل علي أبوسن إبان عمله في إذاعة بي بي سي يناقش فيها مراسلهُ جوانب من البحوث التي أرسلها له أبوسن.

    كما أني أجد أنه من الطبيعي لعلي أبوسن الذي عاش في فرنسا ودرس اللغة الفرنسية، وكان من المتحدثين بها، لا غرابة أن تكون له علاقة وثيقة بمؤسساتها الأكاديمية. فما هي الغرابة في أن يذكرها في مذكراته تلك طالما أنها إرتبطت عنده بأحداث وفترة هامة في حياته؟ لكن البطل المستغرق بعقدة الشكليات الأكاديمية لا يريحه ذلك ولا يقع عنده موقعاً حسناً. فواصل عبثه وملاحقته لعلي أبوسن الذي لم يدع يوما إمتيازاً بدرجة أكاديمية أو لقب علمي ليتوسل به للأوساط الثقافية والسياسية. وإنما فرض نفسه قوة وإقتداره، كمثقف من طراز رفيع عميق الرؤية. كان المؤرخ الموسوعي المصري الراحل الكبير الدكتور يونان لبيب رزق يطلق على الراحل أبوسن إسم " ملك الندوات"، كل ما قابله في محفل علمي أو خطابي، وذلك لحضوره الطاغي، وقدراته الهائلة في الحديث، ولباقته ودقته في التعبير. ونحن حين نطّلع على سيرة (أخينا) البطل المحتشدة بالكثير من الالقاب العلمية، والأكاديمية. نتساءل، هل يقبل البطل أن يضعه الناس أيضاً وبمتابعة تفصيلية في دائرة الضوء لتقصي ما هو كائن من أمره؟

    على أية حال، سيذهب جفاءً كل هذا الإجحاف ومحاولات إغتيال الشخصية التي مورست وتمارس في حق أبوسن وسيبقى علي أبوسن أيقونة ساطعة للمثقف العضوي بإمتياز. وشاهد ذلك أنه رفض خيانة قضيته في صراع الديمقراطية مع الديكتاتورية، ولم يتوقف عند ذلك بل حارب من أجل إتساق سلوكه مع فكره ضد ضروريات المجاملات والنفاق الإجتماعي، ولم يثنيه عن نهجه ذاك كل ما واجهه من محن. ولعله من غرائب ما نعيشه في زمننا هذا أن يعادى أبوسن بالمزايا التي ينبغي أن تجلب له الحب والتقدير، ومن المؤسف أن يكون ذلك مدخل البعض للنيل منه وتشويه صورته! أتأمل ذلك وكأني بالراحل أبوسن يبسم في وجه هؤلاء، ومردداً مع صفي خلواته "الأستاذ" أبو الطيب المتنبي حين يقول:

    أ ُعَادَى على ما يُوجبُ الحُبَّ للفَتى وَأهْدَأُ وَالأفكارُ فيّ تَجُـولُ

    سِوَى وَجَعِ الحُسّادِ داوِ فإنّـهُ إذا حلّ في قَلْبٍ فَلَيسَ يحُولُ

    وَلا تَطْمَعَنْ من حاسِدٍ في مَوَدّةٍ وَإنْ كُنْتَ تُبْديهَا لَهُ وَتُنيـلُ

    ****
                  

07-15-2010, 04:59 PM

زهير الزناتي
<aزهير الزناتي
تاريخ التسجيل: 03-28-2008
مجموع المشاركات: 12241

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: غاب أبو سن ولعب أبو ضنب مقال لسمؤال أبو سن رداً علي مصطفي البطل (Re: زهير الزناتي)
                  

07-15-2010, 05:04 PM

زهير الزناتي
<aزهير الزناتي
تاريخ التسجيل: 03-28-2008
مجموع المشاركات: 12241

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: غاب أبو سن ولعب أبو ضنب مقال لسمؤال أبو سن رداً علي مصطفي البطل (Re: زهير الزناتي)
                  

07-15-2010, 05:14 PM

زهير الزناتي
<aزهير الزناتي
تاريخ التسجيل: 03-28-2008
مجموع المشاركات: 12241

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: غاب أبو سن ولعب أبو ضنب مقال لسمؤال أبو سن رداً علي مصطفي البطل (Re: زهير الزناتي)

    البطل 3
    Quote: (1)

    مازال البعض يستعظم علينا، ونحن نواصل سلسلة الأدب وقلة الأدب، "الخوض في سيرة الراحل علي أبو سن"، تغشّته الرحمات. نردُّ عليهم - بغير إبطاء - متسائلين: ومن خاض في سيرة أبي ن؟ لا شأن لنا بالرجل وسيرته الخاصة، وإنما نحن نتناول بعينٍ فاحصة وعقلٍ متمحّص كتابه الموسوم "المجذوب والذكريات: أحاديث الأدب والسياسة". وكنت قد كتبت في مقالٍ سابق: (أن الكتاب منشورٌ ومطروح في الأسواق بقاهرة المعز وعدد من المدن العربية، وأن غياب المؤلفين عن مسارح الحياة لا ينبغي أن يقف حائلاً دون عرض آثارهم مما أودعوه في كتبهم أمام موازين النقد. ولو كانت وفاة المؤلفين سبباً للامتناع عن تقويم الآثار المنشورة ونقدها لفسدت سماءُ العلم وافتقرت أرض الثقافة).

    ثم أن بعض أحباب الراحل وحواريوه قاموا بخلق صورٍ ضوئية من صفحات الكتاب، ثم أسروا بها في ليل الأسافير "تعميماً للفائدة"! فكان ذلك أدعى الى أن ننهض بما فرضه الله علينا من واجب النصيحة، والإمام أحمد يقول: (إذا سكت العالم والجاهل يجهل فمتى يظهر الحق؟). ونحن لا نعدُّ أنفسنا في زمرة العلماء. حاشا لله أن نكون ممن لا يرحمون أنفسهم فلا يعرفون أقدارها. ولكننا نزعم أن بين جنبينا من البيّنات الرواسخ ما يخبط الضلالات التي حواها كتاب أبي سن فيمحقها محقاً، ومن حق أهلينا علينا أن نبسطها بين أيديهم، فيكون لنا عند الله أجر الصادعين بالحق، والمهطعين في دروب المكرمات.

    وفضلاً عن ذلك فان ابن أخ صاحب الذكريات المسطورة المنشورة، السموأل أبوسن، تصدى لنا على رؤوس الأشهاد، وتحدانا في رابعة النهار أن ننشر ما عندنا إن كنا من الصادقين، واتّهمنا بالختل والمخادعة، وافترى علينا بساقط القول أننا لم نؤثر التوقف عن نشر ما عندنا إلا عندما أحاقت بنا الخيبة إذ كتب: (حاول البطل أن يجد نسقاً غيبياً ليبرر به خيبته وفشله.. مصوراً ذلك بأنه إرادة الله). قرأنا ذلك السفه فهاجت في دواخلنا كلمات عمرو بن كلثوم: (ألا لا يجهلنْ أحدٌ علينا/ فنجهلُ فوق جهل الجاهلينا). ولكننا نحمد خالقنا الحنّان المنان أن ملّكنا عنان أنفسنا، فلم نُسلم قيادنا لعصبيات الجاهلية. وإنما نلوذ بهدى الله، وهُدى الله هو الملاذ (ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى). ونحن، علم الله، لم نستجب لذلك التحدي منشرحين محبورين، ولم نعد لنقف بين يدى هذه السلسلة، بعد ان أوليناها ظهرنا، نعرض متاعنا ونفردُ قلاعنا. بل ولجنا الى ساحتها بصدرٍ مغموم وعقلٍ مهموم، فهي مهمةٌ يثقل علينا حملها، كما ثقل على السير ونستون تشيرشل حمل صليب اللورين، أعلى ما تمنحه فرنسا من أوسمة. قلده الجنرال ديجول ذلك الصليب فقال، للكُره الذي يُضمره للجنرال وتفاخره ببلده:

    The cross of the Lorraine is the heaviest cross that I had ever carried

    (إن وسام صليب اللورين هو أثقل وسام أحمله على صدري). وكأنّا به مثل يسوع المسيح يحمل صليبه في طريق الجلجثة.



    (2)

    ومن عجب أن أكبر ما أخذناه على المؤلف نفسه هو أنه لم يرعَ في كتابه حُرمة الموتى، فلم يستنكف أن يبشّع بالراحلين ويلطخ سيَرهم بالوحل، دون ذنبٍ جنوه سوى انه كانت لهم في الدنيا اختيارات غير اختياراته، ورؤىً غير رؤاه. بل إنه لم يتورع عن أن يتهم السيد الحسن بالسرقة، وهو الرجل الذي ما زال الآلاف من أهل السودان، وفي جمعهم آل بيت أبي سن العتيد، يحسبونه قديساً. ######ر من عملاق الاقتصاد السوداني، خليل عثمان، بعد عشر سنواتٍ من وفاته، فصوَّره في صورة الطرير الأهطل الذي لا يميز في عوالم السياسة والاقتصاد رأسه من رجليه. ومسح الأرض بالقائد اليساري الفذ والقانونى الضليع صاحب التاريخ الوطني الناصع، عابدين إسماعيل، بعد سنوات طوال من وفاته، وجعل منه فوق صفحات كتابه أضحوكةً ومهزأة، فأشاع عنه أنه بهلوان مهرج، وحاقد، وضعيف في اللغة الإنجليزية! وكتب عن صحافي متميز، من الآباء المؤسسين لصناعة الاعلام في السودان، بعد عشرين عاماً من رحيله عن دنيانا، أن سلطات دولة أجنبية ألقت القبض عليه وأودعته السجن بتهمةٍ مخلةٍ بالشرف. وذكر عن زوجة قيادي سياسي سوداني بارز، شغل منصباً دستورياً سيادياً، غادرنا الى دار البقاء قبل أعوام، أن الشرطة البريطانية ألقت القبض عليها متلبسةً بالسرقة في محلات ماركس اند سبنسر بلندن.

    بل انَّ أبا سن لم يحفظ عُشرة زملائه ورفقاء دربه، الذين عمل معهم جنباً الى جنب في مسيرة حياته العملية، وأكل معهم الخبز والإدام في إناءٍ واحد، فلم يردعه رادع من أن يذكرهم وهم بين يدي ربهم بالسوء. من هؤلاء سفراء من أميز رموز الدبلوماسية السودانية، ومنهم مسؤولون في هيئات عربية عمل بها واكتاد رغيفه من خيرها. من بين زملائه ورفقاء دربه وكيل ووزير الخارجية الأسبق الراحل هاشم عثمان، الذي كتب عنه بعد عدة سنوات من وفاته انه كان رجلاً إمّعة، مدجّن، لا يهش ولا ينش، ولا يفكر ولا يتنفس إلا بأوامر من آخرين. وكتب عن زميليه السفيرين عيسى مصطفى سلامة وحامد محمد الأمين انهما قطيع من الأغنام منكسر، فاقد الهيبة، يقوده راعٍ سفيه. والقائمة تطول.

    ولكن الأمانة تقتضي أن نسجّل هنا اننا، وبعد لأي، عثرنا على سفيرٍ سوداني واحد من زملاء المؤلف نال كلمة إشادة، بل أن المؤلف صرّح بأنه يحبه (كنت أحبه حقاً!!). وقد كتب عن هذا السفير انه جاء الى بيت المؤلف ذات يوم وهو يبكي والدموع تغرق عينيه ليطلب عفوه ومغفرته رجاء تخفيف ذنوبه. وادّعى المؤلف أن السفير النادم قال له: (أنا خضعت لمنصور خالد وعملت أشياء ######ة ضدك وأنت لا تعرف). ويبدو أن الندم لم يشفع للسفير كثيراً اذ لم يمنع أبو سن من أن يضيف في حق الرجل، الذي قال لنا إنه يحبه، إنه: (كان ضحيةً لبعض العُقد الشخصية الكامنة في نفسه والتي تمكن منصور من استغلالها). والذين يعرفون العوالم السفلية لوزارة الخارجية السودانية في تلك الحقبة يعرفون بالضرورة أن المؤلف يجهد هنا لتوظيف واستثمار بعض السفاهات العرقية والعنصرية التي كانت فاشية في ذلك العهد، ثم تعاظمت في زماننا هذا. وكان السفير المعني قد تُوفيَ قبل سنوات من نسبة هذه الأباطيل والمزاعم المبتذلة اليه ونشرها على لسانه في قراطيس أبي سن.

    (3)

    وترانا – أعزك الله – قد وصلنا أخيراً الى محطة الدكتور منصور خالد. وكنا قد ذكرنا لك من قبل أن التساؤلات دهمتنا بعد أن فرغنا من قراءة المذكرات: لماذا لم يُطلق المؤلف على كتابه "المنصور والذكريات"، بدلاً عن "المجذوب والذكريات"؟ إذ وجدنا انه حتى المجذوب نفسه وظّفه المؤلف ######ّره تسخيراً لتأمين خطوط امدادته في حربه المسعورة ضد منصور. وبينما يشتمل الكتاب على رسائل يفترض أن المجذوب أرسلها اليه ويطرق في بعضها سيرة منصور، إلا أن المؤلف مضى قدماً فأضاف على لسان المجذوب أقوالاً أخرى مرسلة، زعم أن المجذوب ذكرها له في جلساتٍ خاصة، ولكننا بطبيعة الحال لا نجد دليلاً قاطعاً على نسبتها للشاعر الكبير.

    كتب أبو سن: (جلسنا، المجذوب وأنا، نناقش ونحلل هذه الظاهرة [ظاهرة منصور خالد].. وحددنا محاور ثلاثة للمناقشة هي: علاقة منصور بوزارة الخارجية، علاقة منصور بالأدب والشعر، وعلاقة منصور بالمرأة).

    وقد انتهت مناقشات الصديقين، كما حررها أبوسن، في المحور الأول الى أن منصور وزيرٌ فاشل للخارجية، وأنه لا يصلح لشئ. أما محور الأدب والشعر فقد خلص البحث فيه الى نتيجةٍ مدهشة ومباغتة، لم تكن لتخطر لأحد ببال، وهي أن منصور ليس من الجعليين العمراب كما يزعم في سيرته الذاتية، بل انه ينحدر من قبيلة الفلاتة في غرب إفريقيا. ولكن الخلاصة الأكثر إدهاشاً وإثارةً للحيرة جاءت في نهاية مداولات الصديقين حول محور علاقة منصور بالمرأة، إذ قطع أبوسن وجزم أنه، وبرغم غرام منصور بالنساء وغرام النساء به، إلا أن منصور ليست له قصة حب حقيقية واحدة في حياته. وقد وقفت كثيراً عند خلاصة هذا المحور الأخير من محاور البحث، ونظرت فيه بجد، كوني أعلم أن المؤلف من أهل الذكر في مضمار النساء والحب، ثم تساءلت: كيف يمكن لأحد، مهما كانت ملكاته ومواهبه وقدراته، أن يقرر بهذه الدرجة من الثقة الباترة واليقين المطلق عن إنسان آخر أنه ليست له قصة حب واحدة؟ هكذا، ضربة لازب! كيف يتأتى له أن يشق خويصات قلوب الناس ويستعلمها، والحب من شُغل القلوب؟! وعندما استعقد الأمر واستعصت عليّ مغاليقه حدثتني نفسي أن هذه ربما كانت واحدة من فرائد مذكرات أبي سن التي أفادنا أبو الفوارس السموأل أنها كتبت لزمانٍ غير زماننا، وأن فهومنا تندُّ عنها، وأن الجدب والإدقاع الثقافي الذي ضربنا في عصر الإنقاذ يحول بيننا وبين استيعابها!

    (4)

    يقدم أبوسن في مذكراته تحليلاً نفسانياً لشخصية منصور، ونستفيد من تحليله أن منصور ينطوي على حقدٍ دفين على وزارة الخارجية ودبلوماسييها، وقد جاء لمنصب الوزارة وتولاها، بعد انقلاب مايو، وهو يستبطن الغل لأهل الدبلوماسية. ما هو مصدر الحقد والغل؟ المصدر عند صاحبنا هو عجز منصور واستخذاءه عن الجلوس لامتحان السلك الدبلوماسي. أي والله، هكذا! ويقرر صاحبنا بذات النهج الإطلاقي القطعي الباتر أن الالتحاق بوزارة الخارجية (كانت أمنية حياة منصور). وتحيّرنا مرة أخرى ملكات المؤلف النادرة وقدراته الخارقة في معرفة دواخل البشر وأخصّ خصائصهم. وأنا أعلم أن بعض العاملين بوزارة الخارجية، في زمانها القديم، كانت تعشش في أذهانهم أوهام كهذه، تسمعهم يرددونها عندما يقلبون ظهر المجن لرصفائهم من كادرات أجهزة الدولة الاخرى. ولكن لم يخطر بذهني قط أن أحداً، في تمام عقله، يمكن أن يراوده ذات الوهم بشأن رجل، مثل منصور، سيرته الذاتية كتابٌ مفتوح على قارعة الطريق. ونحن نعلم، كما يعلم غيرنا، أن منصور كان أول سوداني على الإطلاق يحصل على منحة فولبرايت بعد تخرجه في جامعة الخرطوم، وما أدراك ما منحة فولبرايت، ثم غادر على الفور الى الولايات المتحدة. وهناك حصل - وهو في عشرينات عمره - على وظيفةٍ مرموقة بالإداراة القانونية للسكرتارية العامة لهيئة الأمم المتحدة بنيويورك. وقد شغلها لبعض الوقت قبل أن يعرض عليه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي منصب نائب المندوب المقيم بالجزائر. وبعد فترة قصيرة في ذلك المنصب استقطبته هيئة اليونسكو بباريس، وهي المدينة التي حصل على درجة الدكتوراه من جامعتها، ولمّا يبلغ الثلاثين. هل تحدثك هذه السيرة الذاتية - أعزك الله - أن صاحبها يمكن أن تكون "أمنية حياته" أن يلتحق بأي وظيفة في وزارة الخارجية السودانية؟!

    (5)

    ثم أن علي أبوسن توسل الى هدم منصور وتشويه صورته بوسيلة، لا يلجأ اليها لاجئ إلا وهو موتور أصاب الشلل لبّه وأطاشت الموجدة صوابه، وهو أن يفصل الرجل فصلاً تعسفياً عن نسبه العربي، فينسبه بدلاً عن ذلك الى أصول إفريقية، يوحي المؤلف انها أصول إنسان رخيصة. ولا عبرة بعد ذلك أن يكتب من يستخدم مثل هذا السلاح الخبيث بين معقوفتين عبارات من شاكلة (مع احترامنا لقبيلة الفلاتة ودورها) كما يفعل السخفاء والمستكبرون. وفي مسعاه الماكر الى غرضه يدّعي أبوسن أن الشاعر محمد المهدي المجذوب فاجأه بالسؤال التالي: (هل سمعت منصور خالد ينشد الشعر أبداً؟)، فلما أجابه بالنفى واصل المجذوب: (هناك أمر يحيرني وهو المفارقة الهائلة بين كتابة منصور ولسانه. أقرؤه فأجده يستخدم أسلوباً فصيحاً، ثم أجده يستشهد بجيّد الشعر من المتنبئ وغيره، ولكنني حينما أجالسه لا أسمع منه كلاماً فصيحاً، لا شعراً ولا أدباً. وهو لا يجيد الخطابة، بل لا يستطيع، كما هو الطبيعي بالنسبة لمن يكتب بهذا الأسلوب الممعن في الفصاحة التحدث بالعربية الفصحى أمام المنتديات). وتتواصل المسرحية المصطنعة عندما يكتب أبوسن أن ملاحظات المجذوب تطابقت تماماً مع صورة منصور الأدبية واللغوية كما عرفها، وهي أن لسان منصور أغلف يفتقر الى الفصاحة العربية، فالفصاحة عربياً إنما هي في اللسان الناطق، لا في البيان المكتوب. ويخلص أبوسن الى انه (ليس هناك شريان عربي واحد يسري من رأس منصور الى لسانه).

    وفي سعيه لتطوير المنطق أعلاه باتجاه الهدف الإستراتيجي وهو إثبات نسب منصور غير العربي، يزعم أبو سن انه والمجذوب معاً استأنفا البحث والتقصي حتى وقعا على شئ ملفت للنظر في سيرة الرجل نشرته إحدى الصحف في حوار مع منصور، ذكر فيه انه (ينحدر من أسرة يعتبر "مختصر الخليل" فيها من كتب الصغار). وهذه العبارة هي التي أضاءت الطريق لإثبات نسب منصور الحقيقي. حيث أفاد المجذوب - بحسب ادّعاء أبي سن - أن مختصر الخليل من الكتب المنتشرة في نيجيريا، وأن من يعنون بذلك الكتاب هم أهل غرب إفريقيا. هل وصلتك الرسالة، أعزك الله؟ ولكن الأمر لا ينتهي في هذه النقطة. بل ان الحوار يستمر بين الصديقين حول أصول منصور المفترضة، فيتناول المجذوب وأبي سن القبائل ذات الأصول النيجيرية ويسخران منها ويتخذانها هزوءاً، وهما يختتمان الفصل الاخير من فعاليات هذه الحفلة العنصرية التي تنضح قبحاً. إقرأه يكتب فى ختام المناقشة المفترضة: (أنا أعرف أغنية شهيرة تقول كلماتها: البرنو والفلاتة/ تدوسهم الكراكة/ كراكة نمرة تلاتة). وقد عرفنا الفلاتة، كما عرفنا السبب الذى أتى بهم الى أتون هذه الحرب العنصرية، ولكن ما ذنب البرنو حتى تدوسهم "كراكة" أبي سن؟! الغريب والمثير للحيرة أن أبا سن الذي يجاهر بإظهار الاحتقار للقبائل ذات الأصول الإفريقية، يملأ هو نفسه الدنيا تفاخراً - في أجزاء أخرى من مذكراته – لمجرد كونه شغل وظيفة "مدير الإدارة الإفريقية" في جامعة الدول العربية!

    (6)

    واستغلال اسم محمد المهدي المجذوب - بعد رحيله عن الدنيا - لإنفاذ رغبات المؤلف في التعبير عن حنقه على منصور لا يكاد يخطئه النظر في المثال الذي فصّلناه. بيد أن هناك معضلتين رئيسيتين تحفان بدعاية أبي سن المتقدمة. الأولى أن منصور شخصٌ حقيقي من لحم ودم يسعى بين الناس. وكثيرٌ من السودانيين، ومن بينهم كاتب هذه الكلمات، سمعوه وهو يتحدث في الإذاعات المسموعة والمرئية، وفي المحافل المحلية والعربية، وفي المنابر السياسية والندوات الثقافية، فهل لاحظ أحد أن لسان منصور أغلف، أو أنه لا يحسن الكلام بالعربية، أو أنه يعجز عن قراءة الشعر العربى بطلاقة كما يزعم أبو سن؟!

    أما المعضلة الثانية فهي انه يصعب تماماً تصور ضلوع المجذوب في حملة التشكيك في أصل منصور والطعن في نسبه. وذلك لسبب هيّن للغاية، فالشاعر محمد المهدي مجذوب هو الابن الأكبر للشيخ مجذوب جلال الدين، صاحب ديوان "السول في مدح الرسول". وفي واحدة مما نشر في ذلك الديوان قصيدة رد بها الشيخ على قصيدة أخرى بعث بها اليه الشيخ عبد العزيز الدباغ محمد عبد الماجد، عم الدكتور منصور خالد أحمد عبد الماجد، تذكّر فيها صحاب الدباغ، ومنهم الشيخ قريب الله أب صالح. ويشير فيها الى أصل آل عبد الماجد كونهم وارثين للفضل والمحامد، ويقول في مقدمتها: (واصحب لأهل الله أين كانوا/ واهاً لهم قد بعدوا وبانوا/ فمنهم السالكُ والمجذوب/ ومنهم المُحب والمحبوبُ). ثم يرد في مدح الشيخ عبد العزيز، عم منصور خالد: (وإنني منذ جئت أم درمانا/ ولا أزال ولهاً لهفانا/ وقلت للزين أخي في الله/ من لي بعالم اوّاه/ من لي بصاحبٍ يفي بصحبتي/ "والياً اذا ما ثنيت لا تثبت"/ أهلاً بمن أسرع في البلاغ/ أخي المفدى رحبنا الدباغ/ ابن محمد عبد الماجد/ العالم الفذ الفقيه العابد/ قد ورثوا للفضل والمحامد/ من جدهم أبي الفخار حامد/ وهو الشهير في الأنام بالعصا/ وأنه أعده لمن عصا). أو لا ترى - أعزك الله - أن الأحق بالعصا هو الذي يتكذب على الموتى؟!

    (7)

    وافتئات أبي سن على اسم المجذوب بعد رحيله مما لا يحتاج الى بيان. وهو يفعل ذلك في بعض الأحيان بغير مسوّغ مفهوم سوى التماس الذرائع لطرق موضوعات معينة يعشق الاستفاضة فيها. فعندما أراد الحديث عن فرنسا وحياته الصاخبة وما استهواه في عوالمها، لم يتجه الى غايته مباشرةً، بل كتب ان المجذوب طلب منه أن يحدثه عن الفرق بين لندن وباريس. ويفترض هنا أن المجذوب يعرف لندن، فقد ورد في الكتاب انه زارها عدة مرات، ولكنه لا يعرف فرنسا على ظنٍ من أبي سن انه لم يرها. وقد فات على أبي سن، أو لعله لم يكن يدرى، أن المجذوب زار فرنسا فعلاً قبل ذلك التاريخ وشاهد عدداً من مدنها. بل ان المجذوب أقام ضيفاً في دار منصور خالد نفسه، في قلب باريس، إبان عمل الأخير في اليونسكو. وما أن عاد المجذوب الى الخرطوم حتى سطّر رسالةً مطولة بعث بها الى منصور. ومما جاء في رسالته تلك:

    (انجُ سعد فقد هلك سعيد. وسعيد هذا تسمى به كل نبتةٍ عتية - مثلي - في المستنقع العربي. فإن كنت في باريس وحننت الى المستنقع فأنا إنسان أدمن الموت، وأنا أُعيذك - أيها العزيز - من مثل هذا الحنين القال. لقد جاء بنا الفتح العربي الى هذه الأرض الخبيثة، وتبع آباؤنا الأعراب أجمالهم الى السلم الشاحب في صحراء السودان فأضلهم السراب. والسراب السوداني - وقاك الله وحماك - من أبخرة المستنقع. "الشمس تطلع في السودان كاذبةً/ وليس تُنبت غير اليأسِ والعدمِ/ آثارها الفجرُ فقّاعاً أكابدُه/ كأساً تجفُّ وقطراً طامساً يدمي". لم تطل صحبتى لك في باريس في منزلك الأنيس، أنا لها أبد الدهر ذاكر. ولكن كنت مذهولاً مشتتاً أحاول أن أختزن لألاء النفوس والكنوس في قلبي الحزين. أبلغ سلامي الى كل من تراه، وحسبي هذا من حياة).

    وقد جاء في تعليق لمنصور على رسالة المجذوب: (رحم الله الشاعر الشعبي محمد المهدي المجذوب فقد كان بلاغياً لا ينحبس عنده قول. وفصيحاً لا ينعجم عنده تعبير. انتحارياً في حبه لوطنه حتى أخذ يتحاشى عن الحياة عندما غلبه الأمر وأعياه. وكيف لا يعييه الأمر وقد صار شأن الوطن الى قومٍ مقحطين لا خلّ عندهم ولا ماء). {النخبة السودانية}.

    (8)

    وسنوافيك - أعزك الله - ضمن هذه السلسلة بمزيد من شاكلة ما قرأت. وفى خطتنا أن ندلف الى بعض المغارات التي قادنا اليها أبو سن وهو يخوض معركته ويدير صراعه مع منصور. وهو صراعٌ يزعم أن بعض الدبلوماسيين وصفوه بأنه "صراع الأفيال"، ولكنه صححهم قائلا: (بل هو صراع بين الإنسان وفيل الأحراش). ثم نريد بعد أن نخرج بك من تلك المغارات الى ضوء الشمس أن نعرض عليك ما عندنا في شأن الإنسان والفيل، ثم نأتيك بالخبر اليقين في أمر سيرة أبي سن السياسية، وسيرة علاقته بمنصور، وهى السيرة التي حمل صاحبنا قلمه وقام بإعادة صياغتها على الورق، فبدّل وقائعها تبديلا، وافترى فيها على التاريخ، وزوّر الحادثات بجرأة أدهشتنا وأدهشت كثيرين غيرنا، فصدَّقه السذَّج والبسطاء والواهمون من أدعياء المعارضة، والمتعبّطون في دورب السياسة بغير علمٍ ولا هُدىً ولا كتابٍ منير. ومن هؤلاء من دبّجوا المقالات في نصحنا، وحدَّثونا عن (سيرة نضال علي أبوسن الناصعة في مناطحة مايو والشموليين). وهؤلاء البؤساء لا يعلمون أن ابوسن كان من أنبياء الشمولية وأئمتها ومنظريها. كان رائداً من رواد الاتحاد الاشتراكي السوداني عهد صولته وعنفوانه، ومبشراً من مبشريه. ولا يدرون أن مئات المساهمات التي كتبها حول أنجع السبل لتعميق مفاهيم الاتحاد الاشتراكي وترسيخها في البيئة السودانية ما زالت محفوظة، لم ترثّ أوراقها بعد.

    وستعرف مني كيف أن الصراع المزعوم بين أبي سن، كادر الاتحاد الاشتراكي فى أوج عهود الشمولية من سبعينيات القرن الماضي، والدكتور منصور خالد وزير الخارجية، إنما دار رحاه في الأصل والأساس حول قضيةٍ وحيدة، وهي أن وزارة الخارجية - بزعم أبي سن - تنكّبت الطريق فأخفقت في التعبير عن أهداف "ثورة مايو"، والالتزام بمقررات المؤتمر القومي للاتحاد الاشتراكي. وما زال أناسٌ كُثْر في عنفوان العقل وفتوة الجسد، يمشون بين ظهرانينا غداة يومنا هذا، تترامى إلى آذانهم من تحت طيات الأزمنة أصداء صوت أبي سن المتميز تجلجل داخل مؤتمرات الاتحاد الاشتراكي عبر مكبرات الصوت.

    موعدنا الأربعاء اذن، وصبحُ الأربعاء قريب.

    [ نواصل].



                  

07-15-2010, 05:01 PM

زهير الزناتي
<aزهير الزناتي
تاريخ التسجيل: 03-28-2008
مجموع المشاركات: 12241

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: غاب أبو سن ولعب أبو ضنب مقال لسمؤال أبو سن رداً علي مصطفي البطل (Re: زهير الزناتي)

    البطل 4
    Quote: (1)

    لم يكن اختيارنا لكتاب مذكرات الراحل علي أبوسن مادةً للعرض والنقد في زاويتنا هذه اختياراً اعتباطياً نخبط به بنات المطابع خبط عشواء. ومن نافلة القول أن السبب لم يكن هو قيمة الكتاب ومحتواه، فليس للكتاب من قيمةٍ أو محتوى. غير أنه كان من أبرز الدوافع والعوامل التي اهمّتنا وأقضت مضاجعنا منهج صاحب الكتاب، الذي عمد من خلاله الى إعادة صياغة تاريخٍ قريب ما زالت حادثاته حيةً تنبض في صدور الناس. قام الى أوراقها فخلطها خلطاً، كما تخلط الفاكهة في الخلاطات الكهربائية، فزوّر وقائعها، وغبّش شواهدها، ثم فككها تفكيكاً وركّب في أحشائها من عنده محركات جديدة.

    والتاريخ هو ذاكرة الشعوب وضميرها. والتعابث به والاحتيال عليه جنحةٌ تستوجب التوقيف والمساءلة. ومن هنا فقد كان التصدي لواجب حماية ذاكرة الأمة، مهما كانت ضآلة الثغرة التي نقف عليها، مهمةٌ جليلة نهضنا اليها وأخذناها بحقها إيماناً واحتسابا. وسنعرض لكثير من ذلك في يومنا هذا ونفصّله، ونُقيم على مذكرات أبي سن، كما سطرها، حججنا الناهضة. وليت الأمر وقف عند السيرة الذاتية للمؤلف، وأدب المذكرات مرادفٌ لأدب السيرة الذاتية. لو اقتصر عليها لما كانت دية الكتاب عندنا إلا أن نتصفحه ثم نطرحه ونقول: هذا كاتبٌ نفّاخٌ نفّاش، نالت منه الدنيا منالها. وما أكثر النفاخين النفاشين من حولنا، ثم لمضينا في شؤون حياتنا وشجونها، لا نلوي على شيء. ولكن المؤلف تجاوز سيرته الى سير الآخرين فبدلها تبديلا، لم تأخذه في جنحة التبديل لومة لائم. والعجيب انه يفعل ذلك والناس أحياءٌ يرزقون، ينظرون وقد جحظت منهم الأعين، وأخذت منهم الحيرة كل مأخذ، يهزون الرؤوس، ويضربون الكف بالكف!

    (2)

    ولا يهولنك - أعزك الله - ما فعل أبوسن. ليس هو والله نسيج وحده في التخليط والتفحيط. المخلّطون والمفحّطون كُثر. وتزوير المذكرات وتلوين السير الذاتية رزيّة فاشية عند أهل الشرق وأهل الغرب أجمعين. وقد بلغ الحزن من كثرة التزوير وضعف الالتزام بالقواعد الأخلاقية والعلمية في كتابة المذكرات والسير الذاتية بين العربان، والمتسربلين بسرابيلهم، بالصحافي العربي الأشهر غسان الإمام مبلغاً دفع به لأن يكتب: (التاريخ عندنا منظومة حقائق ووقائع محاطة بحرس من الأوهام والمغالطات والأكاذيب). وقبيل سنوات قلائل هزّت الدوائر الأدبية والفنية والأكاديمية في الولايات المتحدة فضيحةٌ كبرى، جللت رأس أحد أشهر الكتّاب الأمريكيين المعاصرين، جيمس فري، الذي تصدرت مؤلفاته لأعوام عديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في الولايات المتحدة. وكان الرجل قد قام بكتابة ونشر سيرته الذاتية تحت عنوان (مليون قطعة صغيرة)، فحازت المذكرات من فورها على عدد من الجوائز المتميزة، ومن بينها جائزة وينفري الرفيعة. وقد بلغ توزيع ذلك الكتاب أربع مليون نسخة. ولكن أحد المراكز البحثية المتخصصة كشف بعد ذلك أن كثيراً من الوقائع التي أوردها المؤلف مختلقة وملفقة، وطرح الأدلة الدامغة على ذلك، فوقفت الساحات الثقافية الأمريكية على رجلٍ واحدة. ووقف جيمس فري على رأسه، وبقيت رجلاه معلقتان في الهواء حتى يومنا هذا!

    كذلك زلزلت المجتمعات الأدبية الأوربية زلزالاً شديداً قبل سنوات قليلة، عندما اضطرت الدار الناشرة للسيرة الذاتية للكاتبة البريطانية ذات الصيت العالمي، جوديث كيلي، الى سحب كتاب مذكراتها من الأسواق، وعنوانه (Rock Me Gently) أو "هزّني بلطف". وذلك بعد أن تكشف أن كثيراً من الروايات التي وردت في الكتاب على انها مذكرات المؤلفة وتفصيلات حياتها، مصطنعة ومخترعة. ووجدت الكاتبة الكبيرة عقب تلك الفضيحة المدوية من "يهزها"، كما هي رغبتها، ولكن بغير لطف! (من اجل المزيد فى مضمار "همبتة المذكرات" أقرأ - أعزك الله - سلسلة صديقنا الكاتب الرصين محمد عثمان ابراهيم بعنوان: الفايكلوريزم الجديد "حكاية نورما خورى وحكاية اسماعيل بيه"، ملحق "رؤى واتجاهات بصحيفة "الاحداث"، اغسطس 2009).

    (3)

    هناك أمران يبدو أن أبا سن يخجل منهما خجلاً شديداً فيتحاشاهما تماماً، ويضرب عليهما حجاباً كثيفاً، ثم يسعى عبر كل سطور مذكراته الى التعمية عليهما ما استطاع الى ذلك سبيلا. أولاهما أنه، في حياته كلها - تلقّى تعليماً نظامياً في مؤسسة تعليمية واحدة، هي دار العلوم بمصر. وهي الدار التي كان المصريون يتندرون على طلابها، من دارسي المتون والحواشي، ويطلقون على المتخرج منها لقب "درعمي". ومسعى أبوسن الكثيف، الذي اتخذ شكل العقدة النفسية، لستر هذه الخلفية التعليمية عن العيون مرده، في تقديرنا، الى أنه لا يريد أن يُكتب عليه انه تخرَّج في مدرسة للعُرفاء، لا سيما وأن الرجل تعتريه حالة تقترب من الهوس تدفعه دفعاً لأن يعيد صياغة ذاته وتسويقها كإنسان متحضر ومتحرر ومستغرق تماماً في الحياة الغربية. ولم يكن غريباً أن تكون واحدة من أكبر المآخذ التي أخذها على المؤلف بعض من تناولوا بالنقد كتاب "المجذوب والذكريات" عند أول صدوره قبل سنوات، هو أنه لم يذكر دار العلوم ولا مرةً واحدة في كتابه. وليس من الطبيعي أن يسجل شخص ذكريات حياته كلها فتخلو من سطرٍ واحد عن المؤسسة التعليمية التي درس وتخرج فيها.

    وفي مقابل هذا الجحود والنكران للتعليم الديني والأصولي المعهدي فإنك ترى أبوسن يكثر من ذكر جامعات أوربية، لم يتخرج منها ولم تمنحه شهادة أكاديمية واحدة. ولكنه – مع ذلك - يوحي للقارئ من طرفٍ خفي ومن خلال عبارات منثورة هنا وهناك بذكاءٍ شديد انه درس فيها وتخرّج منها. تقرأ في المذكرات عبارات عارضة، ولكنها مختارة بعناية، كأن يكتب عن علاقة عاطفية عاشها ثم يقول إن مسرحها كان جامعة لندن. ومن البديهي لو انه كانت هناك علائق عاطفية مكانها جامعةٌ ما فلا بد أن يكون أطراف العلاقة طلاباً أو أساتذة في تلك الجامعة! أو أن يحقن مسار حديث معين أثناء السرد بعبارة مثل "رآني فلان وأنا خارج من كلية الاليانس فرانسيز في باريس"!

    وحب أبوسن لأن يُنسب الى جامعة لندن، عوضاً عن المعاهد العربية الأصولية، هو الذي حدا به لأن يدس بعض العبارات على لسان صديقه المفترض الشاعر محمد المهدي المجذوب، فيكتب مثلاً: (سألني المجذوب عن رسالتي للدكتوراه التي عنوانها "العلاقات السودانية الإثيوبية في عهد الدولة المهدية). وقد وجدت في إشارة أبي سن الشاطحة الى (البروفيسور سارجنت المشرف على رسالتي) أمراً ممعناً في الغرابة. ذلك أن البروفيسور سارجنت هو أستاذ اللغة العربية بجامعة لندن. وهو البروفيسور الذي تتلمذ على يديه الراحل الدكتور عبد الله الطيب، رحمه الله، والدكتور محمد إبراهيم الشوش، أطال الله في عمره. ولا علاقة للبروفيسور سارجنت هذا، من قريب أو بعيد، بمادة التاريخ ولا بالعلوم السياسية، وهما الحقلان الأكاديميان اللذان يمكن أن تندرج تحتهما رسالة أبي سن المشار اليها، فما هي يا تُرى الإجازة التي منحت له إذن بموجب تلك الرسالة؟! لا أحد يعرف. أو لعل غيرنا يعرف، ولكنه يخفي فمه تحت كُمِّه، ولا يقول!

    ونحن نميل الى الاعتقاد بأن جنوح أبي سن المرَضي لستر خلفيته التعليمية وكدّه المضني للتظليل عليها، وكأنها مسبة تجلب العار، يمتد أيضاً الى تاريخه العَقَدي والسياسي، الذي جهد صاحبنا ما وسعه الجهد لاخفائه في مذكراته، إذ لم ترد عن ذلك التاريخ كلمة واحدة في كل صفحات الكتاب. وتلك أيضاً من الغرائب اللافتة للانتباه، فما قيمة أية مذكرات لا يشير فيها الكاتب الى عقائده الفكرية وانتماءاته السياسية الاولى، بل ويُهيل عليها التراب، ويفر منها فراراً لكأنها الجرب الأجرب. وما العيب في أن ينتمي المرء الى فكرة أو جماعة معينة، ثم ينكص على عقبيه ويتخذ لنفسه مساراً فكرياً جديداً؟ ولكن حرص أبي سن على الطلاء الغربي والمساحيق التحررية التي غطَّى به وجهه يأبى عليه أن يقر بأنه التحق في حياته الباكرة بجماعة الإخوان المسلمين. والثابت عند من يعرفون التاريخ الحقيقي للرجل إنه كان قد التحق بالجماعة ولعب دوراً نشطاً في صفوفها. والشائع بين من زامله في ذلك التنظيم انه كان شديد التعصب في نزعته الإسلاموية، بل انه عرف بكونه من أشد أعضاء التنظيم تطرفاً. وقد شهد بذلك عددٌ ممن عرفوه وزاملوه وانتظموا في الجماعة بجانبه، ومنهم الشيخ الجليل الأستاذ محمد خير عبد القادر أمدّ الله في عمره.

    (4)

    أما الأمر الثاني الذي يخجل منه أبوسن خجلاً شديداً وجهد لاخفائه في مذكراته، فاضطره الأمر اضطراراً لتزوير الوقائع والأحداث تزويراً شنيعاً، مع ان شهودها أحياء يلبسون ثوب العافية، فهو دوره القيادي في تنظيم الاتحاد الاشتراكي المايوي أثناء عمله في وزارة الخارجية، ثم بعد انتقاله متفرغاً للأمانة العامة للاتحاد الاشتراكي. وذلك مع انه لم يستنكف أن يكتب على سبيل النفخ والنفش أن رئيس الوزراء بابكر عوض الله قال له بعد الانقلاب مباشرة في مايو 1969م: (أنا قلت لأعضاء مجلس قيادة الثورة أنا عندي زول ممتاز حيتولى لينا إنشاء التنظيم السياسي للثورة). وهذا "الزول الممتاز" هو علي أبوسن نفسه بطبيعة الحال، وكان يشغل وقتها وظيفة سكرتير ثالث في السلك الوظيفي لوزارة الخارجية. ومعلوم أن الرجل قام في مرحلة لاحقة من حياته بإعادة اكتشاف نفسه وتسويقها كواحد من أعتى أعداء الشمولية والمناضلين ضد مايو ونظامها!

    ما يهمنا هنا هو أن صاحبنا تسنّم وبمحض إرادته بل وبمبادرة خالصة منه – خلال حقبة السبعينيات - موقع أمين فرع الاتحاد الاشتراكي بوزارة الخارجية. وقد ظل الدبلوماسيون ينأون بأنفسهم عن إنشاء فرع للاتحاد الاشتراكي بوزارتهم فلم يقم للاتحاد الاشتراكي كيان عندهم حتى جاء أبوسن وركب رأسه وأصرَّ على أن يكون لتنظيم الاتحاد الاشتراكي وجودٌ فاعل هناك، محتمياً بالشعار الذي اشتهر وقتها عن مواقع أخرى ومؤداه انه لن تكون الوزارة "جزيرة معزولة في محيط ثوري". ويقول معاصروه من الدبلوماسيين - وهم كثر يعاظلون الدنيا بين الوطن والمهاجر - إنهم ذاقوا الأمرّين جراء نفوذه المتفاحش وسلطته وعنجهيته واستعلائه على الآخرين بحكم انتمائه ومركزه في التنظيم الحاكم. وقد تملكت صاحبنا عهدذاك نزعة مستفحلة لأن يلعب دوراً متعاظماً يشبه ذلك الدور الذي كان يلعبه منسوبو الحزب الشيوعي في شرق أوربا داخل وزاراتهم. وقد أغرى منصب "أمين الاتحاد الاشتراكي" في ذلك الموقع التنفيذي الحساس، علي أبوسن لأن يتدخل في شؤون الوزارة واختصاصات وكيلها ووزيرها، وأن يدبِّج التقارير عن ضعف التزام بعض المسؤولين بما فيهم الوزير، بمبادئ وأهداف "ثورة مايو". ومما أخذه على الوزير، وكتبه في تقاريره ثم أشاعه في اجتماعات مفتوحة، ما وصفه بأنه "ضعف في الأداء العام". وهنا برز الاحتكاك الأول بينه وبين الدكتور منصور خالد، الذي كان يشغل وقتها منصب الوزير.

    كان من الطبيعي ألا يكون وجود أبي سن وممارساته التسلطية مقبولة عند وزير في حجم وجبروت ونفوذ منصور وقتها، فما كان من الأخير إلا أن كشر عن أنيابه للموظف الصغير الذي لم يعرف حدوده. والحال كذلك فقد وجد أبو سن انه من الأنسب له أن يترك الوزارة قولاً واحداً ويلتحق على سبيل الانتداب بالاتحاد الاشتراكي متفرغاً بذلك للعمل السياسي، وذلك حتى يأمن مكر منصور. ولكنه وبعد أن وجد لنفسه موطئ قدم داخل ذلك التنظيم - بمعونة من أحد المناوئين لمنصور داخل تشكيلات المجموعات المتنافسة والمتصارعة، وهو المرحوم الرشيد الطاهر - حدثته نفسه، الأمّارة بمناطحة الأفيال، أن يناطح وزير الخارجية علناً. وهناك وفي ساحة الاتحاد الاشتراكي - حصن ابى سن الأخير - كُتب الفصل النهائى في المعركة التي خرج منها صاحبنا وقد خسر كل شيء، الى درجة أن مسؤول الشؤون الإدارية بدار الاتحاد الاشتراكي، العقيد مصطفى عبادي، أمر خفراء الباب الخارجي بمنع أبي سن من الدخول من بوابة الاتحاد الاشتراكي، وذلك ما سطره أبوسن نفسه في الصفحة (165) من الجزء الثاني!

    (5)

    عقب انقلاب الخامس من سبتمبر 1975م المندحر، والذي كان قائده الرسمي المرحوم المقدم حسن حسين عثمان، وقائده الفعلي ضابط الصف حماد الإحيمر، عُقد اجتماعٌ تداولي خاص في مقر الاتحاد الاشتراكي بغرض جرد حساب أداء التنظيم خلال محنة الانقلاب. ولم يكن يُدْعَى الى مثل هذا النوع من اجتماعات النقد الذاتي غير أهل الدار، فلا سبيل الى الأغيار للمشاركة فيها. وقد كان أبوسن من المدعوين لذلك الاجتماع (لو كان الرجل من أعداء النظام، كما حشَا في مذكراته، لكان الأحرى به أن يكون يومها مع الإحيمر لا مع النميري). طلب أبوسن الكلمة فلما وضع المايكروفون بين يديه ألقى على الحاضرين خطبة عصماء خصّص نصفها الأول للإشادة بالرئيس السابق ودوره في خلق سودان جديد قوي ومتماسك أصبح مثار اهتمام العالم. ثم أضاف إن الرئيس القائد (وكان ذلك هو اللقب الرسمي للرئيس نميري) حقق للسودان بفضل قيادته الرشيدة انتصارات عظمى في جميع المجالات باستثناء المجال الخارجي. وهنا انتقل صاحبنا الى النصف الثاني وفيه تناول بالنقد وزارة الخارجية، فزعم انها فشلت تحت قيادتها الحالية في التعبير عن الرؤى والتصورات الكبرى التي ظل الرئيس يطرحها في خطبه التي وصفها أبوسن بـ"المنارات الهادية". ثم قدم بعض الأمثلة لأوجه الإخفاق كما تصورها هو.

    عقب ذلك طلب الرئيس نميري من وزير الخارجية التعقيب على مداخلة "العضو المحترم أبوسن"، فعقَّب الدكتور منصور تعقيباً موجزاً جاء فيه أن السياسة الخارجية للحكومة لا يضعها الوزير، وإنما تضع خطوطها العامة لجنة العلاقات الخارجية بالاتحاد الاشتراكي. وفي نهاية تلك الجلسة جرت محادثة علنية مفتوحة بين الرئيس نميري ووزير خارجيته، استمع اليها جميع من كانوا على المنصة، وثلاثة منهم أحياء، فضلاً عن عدد من أفراد طاقم السكرتارية، وجميعهم أحياء يرزقون. وجرت المحادثة على النحو التالي: (الرئيس نميرى: الزول ده عايز شنو بالضبط؟/ د. منصور: طالما ظن انه قادر على ما عجز عنه وزيرك فأمامك واحد من خيارين، إما تعيينه وزيراً للخارجية، أو تنتدبه للعمل في أمانة العلاقات الخارجية حتى يضع لوزارة الخارجية سياسة أفضل). ولكن الرئيس بدلاً عن انتدابه فإنه أصدر قراراً بنقل علي أبوسن نقلاً نهائياً من وزارة الخارجية، وعينه في موقع متقدم بأمانة العلاقات الخارجية بالاتحاد الاشتراكي. وقد سعد أبو سن وقتها بذلك القرار الرئاسي سعادةً طاغية، لم يخفها على أحد، على ظن منه بأن الموقع المتقدم بأمانة الاتحاد الاشتراكي قد يفتح الباب واسعاً أمام طموحه السياسي الذي لا يعرف حدوداً. ولكن رياح مايو أتت بغير ما اشتهت سفن صاحبنا، فما هو إلا عام وبعض عام إلا وأجرى الرئيس بعض التعديلات على أمانات الاتحاد الاشتراكي وشاغليها، وكان من مؤدى تلك التعديلات فقدان أبو سن لموقعه في أمانة العلاقات الخارجية. وفجأة وجد الرجل نفسه على قارعة الطريق، بغير موقع في التنظيم السياسي وبغير وظيفة في وزارة الخارجية، التي كان قد نقل منها نقلاً نهائياً بموجب القرار الأول.

    (6)

    عقب انهيار النظام المايوي في أبريل 1985م قام وزير خارجية حكومة الانتفاضة، الأستاذ إبراهيم طه أيوب، بتشكيل لجنة لإعادة الدبلوماسيين "المفصولين تعسفياً" من وزارة الخارجية خلال العهد المايوي. عهدت رئاسة هذه اللجنة في مرحلتها الأولى الى السفير هاشم محمد صالح، ثم في مرحلة ثانية الى السفير نوري صديق. وكلا السفيرين، وأعضاء اللجنة الآخرين، أحياء يتنفسون في سماء الخرطوم، أطال الله في أعمارهم جميعاً. وقد تقدم الراحل علي أبو سن بطلبٍ مكتوب الى هذه اللجنة يطلب إعادته الى السلك الدبلوماسي بوزارة الخارجية. وقد نظرت اللجنة في طلبه وقررت عدم إعادته الى الوزارة، ثم أوردت الأسباب في خطاب بعثت به اليه رداً على طلبه. وقد جاء في خطاب اللجنة أنها غير مختصة بالنظر في طلبه حيث إنه لم يفصل من الوزارة، بأي وجه من وجوه الفصل من الخدمة، بل إنه انتقل بكامل إرادته ووعيه من وظيفته التنفيذية الدبلوماسية بالخارجية الى وظيفة سياسية بالاتحاد الاشتراكي. وصورة الخطاب الموصوف، فضلاً عن التقرير النهائي للجنة ووثائقها، محفوظة بكاملها ضمن أرشيف إدارة الشؤون الإدارية بوزارة الخارجية.

    (7)

    الذي سجلناه بعاليه هو التاريخ الثابت والمرصود، الذي لا يزال شهوده من وزراء وسفراء ودبلوماسيون وإداريون وصحافيون وكادرات سياسية على قيد الحياة، ولا تزال وثائقه نابضة تفترش غرف دار الوثائق القومية ووزارة الخارجية السودانية. فماذا كتب أبوسن في مذكراته وهو يعرض هذا التاريخ؟! اخترع صاحب المذكرات روايات بلقاء سوّد بها عدداً مهولاً من صفحات كتابه. أغرب ما في عرض الرجل لسيرته الذاتية انه لا يشير قط لدوره السياسي الراكز في التنظيمات المايوية. والأكثر غرابة انه يطرح نفسه كمناضل يرفض الشمولية إجمالاً، ويمقتها ويحتقرها، وينظر الى سدنتها من تحت أرنبة أنفه. ثم إنه يقدم لقارئه نماذج متعددة لنضال باسل مزعوم لإسقاط نظام مايو، بينما التاريخ الثابت والمرصود يدلنا على أن نظام مايو هو الذي أسقطه!

    وقد هالنا، كما هال كثيرٌ غيرنا، أن نقرأ روايته الغريبة عن الحرب المتوهمة بينه وبين الدكتور منصور خالد، والتي كتب الرجل في صددها كلاماً تذهل له كل مرضعة عما أرضعت. وسنعرض لبعض هذه الروايات في حينها ضمن هذه السلسلة. ولكن الذي يهمنا في هذا المقام هو مناقشة الكيفية التي عرض بها صاحبنا ذلك التاريخ، وتلك الوقائع، التي فصلناها لك تفصيلا، وعلى وجه التخصيص رواية تنحيته عن موقعه بالتنظيم السياسي. لم تشر المذكرات من قريب أو بعيد الى حقيقة أن مؤلفها لم يكن أصلاً ضمن قوة وزارة الخارجية عند فصله. ولكنه بدلاً عن ذلك كتب - خلافاً للحقيقة- في مذكراته أن قراراً صدر بفصله من وزارة الخارجية، وأن الدكتور منصور خالد بعث اليه بالقرار على يد سائقه الخاص، الذي جاء بسيارة الوزير المرسيدس الحكومية الخاصة في منتصف الليل الى منزل أبي سن بحي العمارات ليسلمه خطاب الفصل من الوزارة (الوزارة التي لم يكن اسم كاتب المذكرات وقتها مسجلاً ضمن موظفيها أساساً!) وأضاف ان السائق اعتذر له بأن الوزير هو الذي فرض عليه أن يأتيه في ذلك الوقت المتأخر من الليل! وهذه الرواية العجيبة التي لا يسندها واقع ولا منطق، تطرحها المذكرات كواحدة من مرتكزات تاريخ أبوسن النضالي ضد مايو ونظامها!

    ولكن الرجل، والحق يقال، لم يتركنا وحدنا في بيداء الحيرة، بل دعم روايته العجيبة تلك بأدلة يفترض انها ستعبّد الطريق أمامنا فنفهم ونستوعب الحقيقة من أمر صراعه المتوهم مع منصور، وهو الصراع الذي أفضى الى فصله من وزارة الخارجية كما ادّعى. الدليل الأول هو اجتماع دار بينه وبين وكيل وزارة الخارجية وقتها، الأستاذ فضل عبيد. وهناك أدلة أخرى تجدها في ما كتبه المؤلف عن دعمٍ تلقّاه من آخرين منهم السيدة عوضية أبوصالح (شقيقة الدكتور حسين أبوصالح)، مديرة مكتب وزير الخارجية وقتها، ومساندتها له في مواقفه الرجولية ضد الوزير. وقد زكّى المؤلف السيدة عوضية وأشاد بمواقفها المتميزة في ذلك الصراع. وسنأتيك الى الوكيل، وسنأتيك الى السيدة عوضية، فخذ - أعزك الله - نفساً طويلاً، ثم الحق بنا الى الفقرة التالية.

    (8)

    في هذا الاجتماع بين وكيل وزارة الخارجية الأستاذ فضل عبيد وأبوسن يقول الأخير انه استقى نبأ فصله من وزارة الخارجية للمرة الاولى. وبحسب الرواية، فإن الوكيل فضل عبيد، اجتاحته حالة من الحزن العميق بسبب قرار الفصل أبدع المؤلف وأفاض في وصفها. وعقب ذلك اللقاء يقول المؤلف إنه ذهب الى مكتبه حيث جمع أغراضه الشخصية وغادر الوزارة للمرة الأخيرة. وقد انتهى ذلك اللقاء بين الوكيل والدبلوماسي المفصول نهاية درامية. كيف؟ كانت هناك - بحسب أبي سن - لوحات تشكيلية بالغة الروعة أتى بها الوكيل من دولة أجنبية ووضعها في مكتبه. وفي نهاية ذلك اللقاء قام الوكيل الحزين وجمع كل هذه اللوحات وأعطاها الدبلوماسي المفصول، وطلب منه أن يأخذها هدية منه، وقال له بلهجة من يكاد الحزن يقتل فؤاده: (خذ هذه اللوحات يا علي. أنت تستحقها). هل نحتاج الى بينات وحيثيات وأدلة أقوى من هذه على صدق ودقة رواية فصل أبوسن من وزارة الخارجية؟ لا أعتقد. هذه رواية جيدة من أي جنب أتيتها. كما ان الأستاذ فضل عبيد من أكثر الشخصيات احتراماً وموثوقية، وهو من الذين يُحسب كلامهم بحساب وتوزن أفعالهم بموازين الذهب. ماذا نريد بعد ذلك؟ أم هو غلاط والسلام؟!

    هناك للأسف مشكلة واحدة في أمر رواية أبي سن المتقدمة. وهي أن الأستاذ فضل عبيد وكيل وزارة الخارجية الأسبق جاءته ثلة من السفراء عقب صدور الكتاب قبل سنوات تستفسر منه عن صحة الرواية التي ضمنها أبوسن سيرته الذاتية ونشرها في مذكراته منسوبةً الى وكيل الوزارة، فكانت إجابة الوكيل السابق أن ردّ الرواية بأكملها، ونفاها نفياً قاطعاً. جميل. ماذا أفعل أنا الآن؟ هل أكتفي بهذه المعلومة؟ أبداً. فانا احب ان احصحص الاشياء بنفسى. وككاتب مسئول خطر لى ان الجأ الى نهج الصحافة الاستقصائية التى توثق للحقائق مباشرة، عوضاً عن الركون الى روايات مجالس المؤانسة المرسلة. وهل يصعب على مثلي أن يحصل على رقم تلفون هاتف الاستاذ فضل عبيد النقال؟ خلال المحادثة التي جرت بيني وبين الأستاذ فضل عبيد، حفظه الله وأمد عمره، ونفع بلاده بفيض خبرته وعلمه، لاحظت تردد الرجل في أن يدلي في الأمر بدلو، وقد استحصن بحديث: "اذكروا محاسن موتاكم". غير أنني ألححت عليه إلحاحاً، وحججته بأنني شديد العناية بأدب المذكرات، وانني لا أذكر أحداً بسوء وإنما أحقق كتاباً كتبه صاحبه وطرحه للناس في الأسواق، وان اسم الوكيل السابق مدون في هذا الكتاب، وانه شاهد على ما ورد فيه، ثم ذكرته بالآية الكريمة من سورة النساء: (ولا تكتموا الشهادة، ومن يكتمها فإنه آثمٌ قلبه).

    جاءتني بعد ذلك - وعلى مضض - شهادة الأستاذ فضل عبيد. ها هي، أعزك الله، أمامك فاقرأ باسم ربك الأكرم: (قلت لمن سألوني من قبل حول ذات الأمر ان هذا اللقاء بيني وبين أبوسن لم يحدث، وما كتبه أبوسن من حديث، ونسب فيه الى شخصي ما نسب كله مختلق. والرواية من أولها الى آخرها عارية من الصحة تماماً). وحول ما كتبه أبوسن في مذكراته عن اللوحات التشكيلية التي أهداها له الوكيل بعد فصله، من قبيل الوداع، كانت إفادة الأستاذ فضل عبيد علي النحو التالي: (نعم كانت هناك لوحات تشكيلية في مكتبي، وهي لرسام زائيري شهير. ولم يحدث أن أهديت هذه اللوحات لأبي سن، ولم أفكر في إهدائها له أو لأي شخص غيره. الذي حدث هو أن أبوسن جاءني ذات يوم وذكر لي انه يزمع إقامة معرض للوحاته الخاصة، واستأذنني أن أُعيره بعض تلك اللوحات ليضعها في المعرض ثم يعيدها اليّ، وقد أخذها بالفعل على هذا الأساس. ولكنه لم يعدها قط. وقد فوجئت بها بعد ذلك معلقة في صالون منزله، فلذتُ بالصمت إذ لم أشأ أن ألاحقه بعد ذلك). هذه هي كلمات وكيل وزارة الخارجية الذي كتب أبوسن في مذكراته انه علم منه بقرار فصله، وانه أهداه لوحاته التشكيلية الغالية تحت تأثير لحظات حزن غامر اعترته بسبب قرار الفصل. وقد نقلنا اليك شهادة الرجل بنصّها وفصّها. ثم ماذا نقول بعد ذلك؟!

    أما السيدة الفضلى عوضية أبوصالح التي نثر المؤلف اسمها في كتابه عدة مرات وزعم انها آزرته في حربه على منصور، ونسب اليها روايات ما أنزل الله بها من سلطان، فقد تفضلت بدورها مشكورةً بالإجابة على أسئلتي. والسيدة عوضية، شأنها شأن الأستاذ فضل عبيد، تعيش في مدينة الخرطوم، وهي متاحة لكل من قصدها من أهل الصحافة والإعلام، سجل خدمتها المتميز في وزارة الخارجية كتابٌ مفتوح، لا تخُفي شيئاً ولا تخشى غير الله. وقد ذكرت لي بلغة عربية مبينة، لا لجج فيها ولا عوج، ان كل ما سطره أبوسن ونسبه اليها في مذكراته هراءٌ محض، ليس له من الحق نصيب.

    ذاك ما كتب أبوسن، وهذا ما ردت به السيدة الكريمة، وهل بعد الحق إلا الضلال؟

    (9)

    هذا هو ما كان من أمر رواية أبي سن المدهونة، بشأن بطولات فصله من وزارة الخارجية، التي شغل بها الدنيا، واختلط أمرها على الناس اجمعين، بما فيهم الرئيس السابق جعفر نميري نفسه، الذي أدخل في رأسه دهاقنة القصور من أعداء منصور بعض الترهات فذكرها في أحاديث صحفية حول هذه القضية، وهو يستهدف وزير خارجيته الذى تمرد عليه، وقد نأتى الى تلك الترهات فى حينها.

    وسيتصل مشوارنا، إن شاء الله، ونحن نميط غُلالات الأضاليل عن وجه هذه المذكرات، التي يفترض انها تقدم لأجيالنا الطالعة العظات والعبر وخلاصات التجارب الإنسانية الهادية، ولكننا ما رأينا فيها إلا التخاليط والخرابيط ولجاج بني معيط.

    وما زال ليلنا مع كتاب أبي سن طفلاً يحبو! [ نواصل ].






                  

07-15-2010, 05:07 PM

زهير الزناتي
<aزهير الزناتي
تاريخ التسجيل: 03-28-2008
مجموع المشاركات: 12241

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: غاب أبو سن ولعب أبو ضنب مقال لسمؤال أبو سن رداً علي مصطفي البطل (Re: زهير الزناتي)

    البطل 5
    Quote: يا شيخ الصعاليك اليتامى

    ويا مسكاً يضوع الآن خلف الموت

    أسراراً، وأذكاراً، وأشجارا

    ورؤيا آسرة

    الله يا شيخ القضايا الخاسرة

    (من قصيدة " قبر على موج الدميرة" للشاعر كمال الجزولى، فى رثاء الراحل محمد المهدى مجذوب)



    (1)

    لا تراودنا ذرة شك فى أن قيام أبى سن بنشر الرسائل الخاصة لشاعرنا الكبير محمد المهدى المجذوب بعد وفاته تمثل معلماً فارقاً فى سيرة الفجيعة الاخلاقية التى ألحقها بمضمار كتابة المذكرات فى السودان. يضاف الى ذلك الروايات المرسلة ذات المضامين المستقبحة الحاطة من أقدار الناس، التى لم ترد فى الرسائل والمكاتبات ولكن صاحب المذكرات صاغها من عنده ثم وضعها على لسان المجذوب، مدعياً ان المجذوب ذكرها له فى لقاءات خاصة جمعتهما. ولا عبرة هنا بما كتبه خلصاء صاحب المذكرات من الذين احتفوا بهذه الرسائل، وعدوا نشرها فتحاً أدبياً، ونعتوا المنددين بنهج اذاعة اسرار الأصدقاء الشخصية، بعد رحيلهم عن دنيانا، بأنهم يرتهنون الى قيمٍ مهترئة ومُثُلٍ بالية تجاوزها الزمان.

    أى فتح أدبى هذا الذى يُفضح فيه، وتبذل للغاشين والماشين، أخص وادق أسرار رجل محصن يكتب الى امرأة اجنبية يحدثها بمثل ما حدثت الرسائل الفتاة روزمارى؟ (يناديها بعض من طرقوا هذه القضية ب "الشاعرة روزمارى". ليست هى بشاعرة ولا يحزنون، وانما صبية التقطها ابوسن من طرقات لندن). وهى رسائل يفترض أن المجذوب كتبها وبعث بها الى فتاة يافعة تنهد للخروج من سن المراهقة. وبحسب رجاء النقاش، الذى استقى معلوماته من ابى سن، فان شاعرنا كتبها وهو فى سن الخامسة والاربعين وما بعدها، بينما كانت الفتاة روزمارى فى التاسعة عشر وفقاً لأغلب الروايات (يقول النقاش انها كانت فى العشرين، لا التاسعة عشر. لا فرق). وتشتمل الرسائل الى الفتاة روزمارى على جوانب قد ترد فى مواددات حميمة بين رجل وامرأة، ولكنها بالقطع واليقين، وبكل المعايير، لا تصلح للنشر. واكاد اجزم، بغير كثير حذر، ان المجذوب لو كان حياً وقرأ بعض عبارات تلك الرسائل منشورة ومنسوبة اليه لسقط مغشيا عليه من فوره. والمجذوب نبات لبيئة سودانية أصيلة تتجذر فيها القيم الرفيعة، ويقوم "الانفلات" فيها مقام الاستثناء الذى يثبت الاحكام والقواعد ويعضدها. ونود ان نبسط امامك فى يومنا هذا- اعزك الله - بعض المآخذ التى اخذناها على صنيع صاحب المذكرات باذاعة رسائل المجذوب الخاصة على الملأ.

    (2)

    فى مذكراته الموسومة (فى بلاط الدبلوماسية والسلطة)، أورد وزير الرئاسة والسفير السابق الاستاذ ابوبكر عثمان محمد صالح، رواية عن واحد من متصوفة الحركة الاتحادية فى مرحلة الاستقلال، هو الراحل الوزير محمد نورالدين. وجوهر الرواية هى ان الرجل مرت به ظروف مالية قاسية ابان وجوده بمصر، وعندما علم بذلك الراحل الشريف حسين الهندى، الذى صادف مروره بالقاهرة، بادر بدفع ديون الرجل بكاملها دون علمه. ولكنه اشترط على ابى بكر ان يُبقي الامر سراً والا يخبر نورالدين بأنه هو الذى سدد عنه ديونه. وقد تُوفي الوزير نورالدين وهو يظن ان المقرض هو ابوبكر، ووجد ابناؤه بين اوراقه عند الوفاة توثيقاً لذلك المبلغ واشارة الى انها دين مستحق لابى بكر. وبعد ان وردت هذه الرواية تلاها مباشرة توضيح من كاتب المذكرات جاء فيه انه لم يضمّن كتابه هذه المعلومات الا بعد ان استأذن اسرة المرحوم محمد نورالدين، وحصل على موافقة ابنه الاكبر الاستاذ صلاح محمد نورالدين (راجع سلسلة مقالاتنا بعنوان: ابوبكر عثمان فى بلاط الدبلوماسية والسلطة). تلك اذن هى اصول التعرض لسير الناس وخصوصياتهم ومعالجتها فى الكتابات المبذولة، وابوبكر يفهم، بغير شك، تلك الاصول ولا يعدوها، ومثله كثير.

    ومن الاعراف المستقرة فى السلوك العام ان الاسرار التى تنتهى عند طرفٍ من الاطراف عن طريق المشافهة او المكاتبة لا تبذل للاغيار بغير اذن اهلها. ومأخذنا الأساسى على ابى سن هو انه بادر الى استباحة أسرار الشاعر المجذوب، بعد وفاته دون اذن من اسرته، وهى معلومة استوثقنا منها. اسرة الشاعر الكبير لم تطلع على اصول هذه الرسائل المزعومة، ولم تقرر انها مخطوطةٌ بخط يده، ولم تأذن بنشرها. وليس بأيدينا والحال كذلك، ولا بيد غيرنا، ما يقطع بأن هذه الرسائل قد كتبها المجذوب فعلاً، وذلك باستثناء افادات ابى سن نفسه بطبيعة الحال. ولا بد انك - اعزك الله- تعرف جيداً مدى مصداقية افادات الرجل، لا سيما وانك طالعت الحلقة الرابعة من هذه السلسلة!

    وكان ابوسن قد نشر من قبل رسائل الشيخ حسن الترابى الخاصة، التى زعم ان الشيخ بعث بها اليه على عهد الشباب، دون اذن منه أيضاً، مما احنق عليه الشيخ، فقام - محقاً- باستخدام سلطات النيابة العمومية التى كان يتمتع بها لحظر الكتاب. وفى حالة الشيخ الترابى فان أبا سن لم ينشر رسائله الخاصة على انها "فتح أدبى"، وانما نشرها فى اطار مكايدات سياسية بحتة. والاحتفاظ بالرسائل الحميمية التى كتبها الاصدقاء فى عهود الصفاء، ثم استخدامها فى زمانٍ لاحق كسلاحٍ لتصفية الخصومات بنشرها واذاعتها على الناس اجمعين بغرض إضعاف الخصوم السياسيين وأيذاء مشاعرهم، بعد ان تتفرق بهم شعاب الدنيا، مسلكٌ مستقذرٌ مستفجَر، تمجّه الفطرة السليمة ويأباه الضمير الحر.

    الحقوق العرفية والقانونية فى أمر خصوصيات الناس مؤصّلة ومؤثلة، لا يتعداها الا متعدٍ مجانفٍ للنصفة. ونحن - ولله الحمد والمنة - لا نقف موقفنا هذا فرادى معزولين، بل هو موقف نجد انفسنا فيه على ذات الضفة مع عدد من لوامع المثقفين السودانيين، فى مقدمتهم شيخنا الدكتور عبد الله حمدنا الله، والدكتورة لمياء شمت، والدكتور مبارك بشير وغيرهم ممن كتبوا، عند اول ظهور المذكرات ودخولها حيز التداول، منددين بشرعة العدوان ونهج الافتئات على الحقوق. وقد وجدنا انفسنا على ذات الضفة ايضاً مع المثقف الشفيف صاحب الحرف الوضئ، المهندس عبدالله الشقلينى، الذى كتب فى منبر "سودان راى" الالكترونى:(من حق أبوسن أن يكتب وان يأخذ الاذن بالكتابة وفق الاسس المتعارف عليها قبل النشر. ومن حق البطل ان يتناول تفصيلات ما ورد فى كتاب ابوسن. ومن حق الأسر الممتدة ان تستوثق مما ورد حقاً مأذوناً من صاحب الشأن. ومن حق الاحفاد الا تتجول حيوات اهليهم الخاصة فى الفضاء بدون التوثيق الذى عنيناه، وبدون الاذن). ويضيف الاستاذ الشقلينى:(الموضوع ذو صلة بطرق كتابة المذكرات. وقد تحدثنا عن المنسوب للآخرين وضرورة أخذ موافقتهم قبل النشر. أما مذكرات كاتبها فهو أمرٌ يهمه. ومن هنا فان المدخل هو حق النسخ. وهو يطرح مصداقية هذه المذكرات ان كانت غير موثقة. هناك نظم لكتابة المذكرات، فالامر ليس بعمل هواة. واعتقد ان الامر يستحق النقاش. ليس من باب الاخلاق كما يصر البعض، ولكن من باب حق النقل عن الآخرين دون تصريح).

    وفى ذات الموقع كتب العالم الفذ البروفيسور بدرالدين حامد الهاشمى: ( قرأت قبل سنوات مذكرات الشيخ بابكر بدرى، التى وُصفت بأنها المذكرات السودانية الوحيدة التى تتميز بالصدق الكامل. وقرأت كذلك مذكرات محمد خير البدوى، وهى ايضا صريحة جدا. الفرق بين تلك المذكرات وما سطره المرحوم ابوسن هو ان بابكر بدرى ومحمد خير البدوى كانوا صرحاء جداً فيما يخصهما فقط. أى انهما لم يذكرا ما قد يمس الآخرين. لم يعجبنى البتة نشر ابوسن لمكاتبات خاصة لصديق لا نعلم ان كان قد سمح بنشرها ام لا. هذا يمثل مشكلاً اخلاقيا. لا اعتقد انه يجوز ان تنشر مراسلات كتبها صديق فى زمن سابق دون علمه وموافقته. هذه فى نظرى من بدهيات اخلاقيات الكتابة. فى مجال النشر العلمى، على سبيل المثال، لا استطيع قانوناً ان أنشر مقالا علمياً كتبته مع آخرين حتى ارسل للناشر موافقات خطية من هؤلاء الآخرين المشاركين فى كتابة المقال).

    (3)

    ثم انه جاء فى الأثر أن "المجالس بأماناتها". واذا لزم حفظ الامانات فى حال المجالس المحضورة، والا ما سميت "مجالس"، فالأوْلى ان تكون "الرسائل بأماناتها" أيضاً. فالرسالة تحوى سر رجل واحد او امرأة واحدة الى رفيق او رفيقة. والحديث الذى اقتصر على متراسلين اثنين أدعى وأحق بالحفاظ على حرمته من حديث ذاع فى مجلس تحضره ثلة من الناس.

    غير ان الذى يبعث على الاستغراب ويثير استهجاننا حقاً هو ان أبا سن بادر الى نشر رسائل خاصة لم يكن هو طرفاً فيها أساساً. العلاقة المفترضة انما هى بين المجذوب والفتاة روزمارى، التى كانت الرسائل تصلها عبر البريد مباشرةً. الذى حدث هنا هو ان أبا سن حافظ هو ايضا على علاقة ما بالفتاة، ثم حصل منها بطريقٍ من الطرق على الرسائل التى يفترض ان المجذوب كان يبعث بها اليها، ثم أخفى هذه الرسائل لحقبة طويلة، حتى اذا غاب المجذوب عن الحياة، اخرج الرسائل من مخبئها واذاعها فى كتابه. والواقع ان بأيدينا دليلا قطعياً ، يوفره كتاب المذكرات، على ان المجذوب طلب من ابى سن، ابان وجود الاخير فى لندن، ان يتسلم نيابة عنه الخطابات التى سبق ان بعث بها الى الفتاة واعادتها اليه عن طريق الحقيبة الدبلوماسية. أقرأ فى رسالة منه بتاريخ 20/04/1968 :(أرجو اذا لقيتها [روزمارى] ان تتسلم هذه الخطابات وتعيدها اليّ بالحقيبة). الأمر اذن لا يحتمل الجدل. لقد تسلم ابوسن الرسائل فعلاً، فنفذ بذلك الجزء الاول من طلب صديقه، ولكنه التوى عليه بشأن الجزء الثانى، فلم يُعد الخطابات اليه عن طريق الحقيبة، وانما احتفظ بها لنفسه حتى يأتى اليوم المناسب لاستثمارها!

    ولو كانت روزمارى مثلاً هى التى تولت كبر نشر الرسائل لاختلف الامر اختلافاً بيّناً، فهى هنا طرفٌ اصيل فى العلاقة. ولكانت والحال كذلك نظيراً لغادة السمان التى بادرت من عند نفسها فنشرت رسائل غسان كنفانى اليها، او العراقية ديزى الامير التى سعت الى نشر رسائل اخرى، مشابهة فى طبيعتها لرسائل روزمارى، كان المجذوب يبعث بها اليها. وغير هؤلاء كثيرات وكثيرون.

    (4)

    بيد أنّ الطامة الكبرى فى مسلك ابى سن هى مصادرته اسم المجذوب وتوظيفه واستغلاله على نحوٍ مُسف يزرى بشاعرنا الكبير أبشع زراية. وكانت استاذة الأدب الانجليزى الدكتورة لمياء شمت قد بادرت فكتبت قبلنا مستعجبةً تندد بصنيع ابى سن:(كيف أمكنه ان يتجاسر كل هذا التجاسر على المجذوب، هاتكاً حرمة خصوصيته ب###### الكلام الذى لا يرتفع الا بأجنحة الطبع والتوزيع، منازلاً صمته الأبدى بساقط القول الذى يقتحم حديقته سهلة الاكناف، حين نامت عنها الاعين وتركتها هكذا لترعاها الضباع، فتطفئ وردها، وتحصب ثمارها، وتسحق كائناتها الصغيرة واطيارها الصداحة، من للمجذوب؟ من للمجذوب؟!) وأضافت الدكتورة لمياء، وهى تواصل مسيرة الاحتجاج وتلقى بالاضواء الكاشفة على مهزلة استغلال اسم الشاعر الكبير:(تم توزيع الكتاب توسلاً او تسولاً، بعنوانه الذى يحمل اسم المجذوب، فى تحايل ######## لم يرع ابسط مواضعات العلاقة بين النص وعنوانه. فقد قام كاتبه "الجسور" بفتق رتق الصلة المفترضة بين المضمون والعنوان، غير آبه البتة بامكانية كشف الخدعة المستخدمة فقط لغرض القبض على انتباه القارئ ريثما يتمكن الكاتب من سرد سيرته الذاتية العجائبية "سيرة الكاتب نفسه"، التى يتشابك دغل احداثها بصورةٍ تبهظ العقل والخيال معاً. وفى خضم نظام تلك السيرة الذاتية المدهشة لا يفوت على الكاتب ان يذكر المجذوب أحيانا بحفنة من العبارات تتفرق عبر الصفحات، حيث يتم استحضار المجذوب بشكل طارئ ليقوم بالتعليق او التأكيد على حكايا تدعم من مزاعم الكاتب، خاصة فى شأن فتوحاته الادبية والفكرية والسياسية الكبرى، ثم بعد ذلك يطرح المجذوب جانباً ليخلد ردحاً من الصفحات لصمتٍ رهيب لا يخرج منه الا لشهادة اخرى). [الرأى العام، 22/7/2001 م].

    ولا جدال فى ان الكتاب لا يضيف الى شاعرنا الكبير مثقال خردلة. بل انه – وهذا هو الأنكى وأضل – يخصم من رصيده ويضعه كرمز من رموزنا الثقافية تحت اضواء سالبة. فليس من قيمة أدبية، او غير أدبية، يستقيها المرء من نشر معلومة تفيد بأن المجذوب لم يكن يصوم رمضان، ويجاهر بذلك فيدخن السيجار بغير مبالاة فى روابع نهارات الشهر الفضيل أمام رائد الاخوان المسلمين الشيخ على طالب اللهً؟! وليس هناك من قيمة يعتد بها فى تلك الاحاديث العجيبة المريبة عن تفصيلات الحياة الجنسية ودقائق القضايا المتعلقة بمعاشرة النساء على نحو ما جاء فى الرسائل المفترضة الى روزمارى. ثم ان الرسائل التى نشرها ابوسن، تُسقط على الرجل، من حيث لم يحتسب، أضواءً غريبةً شاذة لم يألفها السودانيون عن شاعرهم. فهى تظهره فى صورة الرجل المضطرب المتهافت على النساء من غير تثبت او روية. ولعل هذا ما حدا بالسفير جمال محمد ابراهيم ان يضيف فى مقاله الذى أشرنا اليه فى حلقةٍ متقدمة من حلقات هذه السلسلة: (ولعلي على يقين أنه لم يُعرف عن شاعرنا الراحل رحمه الله أنه كان "زير نساء" ، أو هو ممن شغلت ملاحقة النساء جلّ وقته ولونت علاقاته).

    ونحن نعرف من الكتاب ان الفتاة روزمارى لم تكن فى الواقع سعيدة تماماً برسائل المجذوب اليها، بل انها لم تحتف به اجمالاً. كانت الرسالة تصلها بعد الرسالة فلا ترد، حتى اذا سطرت رداً متباعداً كتبته موجزا مقتضباً لا يروى ظمأ الصادى. وقد شكا المجذوب فى رسائل مفترضة الى المجذوب من اهمال الفتاة وعدم احتفالها به. ونفهم من بعض هذه المكاتبات ان روزمارى لم تكتب للمجذوب فى حقيقة الأمر سوى رسالتين فقط، مقابل الفيض المنهمر من رسائل المجذوب اليها. فعندما ساءت العلائق بين الطرفين نتيجة لاهمال روزمارى للمجذوب كتب الاخير غاضباً يطلب ان ترجع الفتاة رسائله اليها، مع تعهد منه بان يعيد اليها رسالتين، هى جملة ما كتبت الفتاة اليه. اقرأ فى خطابه الذى يؤذن بانتهاء العلاقة: ( أكون شاكراً لو اعادت الىّ خطاباتى، مع وعد شريف من جانبى بأن أبعث اليها بخطابيها).

    ثم ان روزمارى شكت صراحةً من "حرارة اللغة والاسلوب" وذكرت انها لا تألف ذلك. وأشارت الى ان هذه الرسائل تسببت لها فى حرج مع خطيبها، اعتذر عنه شاعرنا، فقد كانت الفتاة مرتبطة برجل آخر. وذات الشئ ينطبق على رسائل المجذوب الى العراقية ديزى الامير، فقد ابدت استغرابها فى مقال منشور من ان المجذوب كان يكتب اليها تلك الرسائل مع ان العلاقة بينهما علاقة عارضة وليست بالعمق الكافى. كما انها طلبت الا ترسل الرسائل المتلاحقة على عنوان منزلها حتى لا تقع فى ايدى احد من اسرتها، واقترحت ان ترسل الى جهة وسيطة تتلقاها وتقوم بتوصيلها اليها. ومثل روزمارى لم تكن ديزى فى غالب امرها تكتب ردوداً منتظمة او غير منتظمة، بل كانت تجمع الرسائل وتضعها فى مظروف سميك، وهو المظروف الذى حملته فى وقت لاحق، سرة فى خيط، وسلمته الى رجاء النقاش!

    (5)

    خلافاً لما يظن كثيرون ممن لم يطلعوا على مراسلات المجذوب وروزمارى الانجليزية وديزى العراقية، ولكنهم ما فتئوا يمزجون الزيت بالماء بغير تبصّر، فان هذه الرسائل لا تتضمن أية قيمة أدبية يعتد بها تبرر نشرها على الملأ. وليس هناك من وجه للمقاربة او المقارنة بين رسائل المجذوب الى صاحبتيه، ورسائل انور المعداوى – على سبيل المثال – الى الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان، أو رسائل غسان كنفانى الى غادة السمان، او حتى رسائل العقاد الى مى زيادة، كما يشيع هؤلاء التخليطيون. فكل هؤلاء رجالاً ونساءً شخصيات متقاربة فى السن والفكر والشعور والاهتمامات، تعارفت تعارفاً مباشراً، تطور بعد ذلك الى صلات حميمةً، وقد جمعت بينهم الصوالين الادبية ومجالس السمر ودوائر المعاش والعمل المشترك. والاهم من ذلك ان الرسائل بين هذه الشخصيات تبودلت بين الطرفين، نساءً ورجالاً، تبادلاً متكافئاً، فلم تكن رسائل من طرف واحد، كما هو الحال بالنسبة لرسائل المجذوب لصاحبتيه المفترضتين فى غالبها الاعم. (بعث المجذوب بعدد مقدر من الرسائل الى روزمارى ولم يكن قد التقاها اصلاً، كما انه التقى ديزى الامير مرة واحدة لقاءً عارضاً على هامش احدى المؤتمرات الثقافية فى بيروت قبل ان يغمرها برسائله، كما اوضحت هى نفسها فى مقال منشور).

    وقد تناولت أمر رسائل المجذوب هذه الناقدة السعودية المعروفة لطيفة الشعلان فى مادة مطولة نشرتها الشهر الماضى صحيفة (الحياة) اللندنية تحت عنوان (لطيفة الشعلان تعود الى قضية أدبية قديمة متجددة: أى حب جمع بين فدوى طوقان وانور المعداوى؟). وقد اشارت الناقدة السعودية فى اطار مقالتها الى رسائل الشاعر محمد المهدى المجذوب الى العراقية ديزى الامير. وكانت ديزى قد جمعت هذه الرسائل وسلمتها الى الناقد المصرى رجاء النقاش لينظر فيها. ولكن النقاش بعد ان تسلم الرسائل ومحصها تركها جانباً ولم يعرها اهتماماً. وقد توصلت الناقدة لطيفة الشعلان فى مقالها المار ذكره الى ان النقّاش اهمل رسائل المجذوب وتجاوزها لسبب هين ويسير وهو انه لم يجد فى هذه الرسائل قيمة ادبية تذكر. كتبت الناقدة الكبيرة: ( النقّاش ببساطة لم يجد فى تلك الرسائل القيمة الأدبية والتاريخية والجمالية .... والا لنشرها من غير تردد).

    واذا كانت هذه هى آراء النقاد العرب حول رسائل المجذوب الى اديبة عراقية تقاربه فى السن، التقاها وتعرف اليها فعلا، فكيف يكون الحال بالنسبة لرسائل المجذوب الى فتاة انجليزية تصغره بست وعشرين عاماً، كتب اغلب رسائله اليها دون ان يكون قد رأى وجهها؟

    (6)

    قرأت مؤخراً مقالاً لحبيبنا السفير جمال محمد ابراهيم نشرته مؤخراً صحيفة "السفير" اللبنانية الرصينة، يشدد فيه النكير على الناقدة لطيفة الشعلان، ويظهر الاستهجان لما ابدته من "تحقير" لرسائل المجذوب الى العراقية ديزى الامير. وهو موقف يظاهره فيه ويؤازره عليه الاستاذ عمر جعفر السورى. وقد قرأت مقالة جمال بعنايةٍ فائقة، غير أن حججه ودفوعه وهجماته المرتدة على ابنة الشعلان لم تقع من عقلى موقعاً حصيناً. لا عبرة عندى بما خلص اليه جمال و عمر السورى من ان استنتاج الناقدة لا يسنده برهان ولا يعضده دليل. بل هو – وأيم الحق- استنتاجٌ وسيم يتكئ على جدران المنطق، وتدعمه القرائن الظرفية المتواترة. وليس ادل على ذلك من ان ديزى الامير نفسها كتبت فى مقال منشور، نوهنا به فى موقع سابق ضمن هذه السلسلة، ان رجاء النقاش كان يتحرق شوقاً للحصول على هذه الرسائل، ومارس عليها - فى سبيل الظفر بها - ضغوطاً هائلة، حتى اذعنت الاديبة العراقية واستجابت. فلما وضعت المرأة الرسائل بين يديه، ما لبث ان نظر اليها وتفحصها، ثم اشاح بوجهه عنها ولم يكتب فى شأنها سطراً واحداً!

    جاء فى مقالة جمال، وهو رأى استحسنه فتبناه عن جعفر السورى: (هذه هى للأسف الشديد نظرة الانتلجنسيا العربية الى المبدعين السودانيين. فهم يستغربون فى كثير من الأحايين كيف بزغ نجم الطيب صالح، وكيف سطعت انوار الفيتورى ولا يعرفون غيرهما. ومن لا يملك الا ان يوافق صديقى عمر فيما كتب؟) وانا بطبيعة الحال لا اوافق جمالاً ولا اوافق عمر. وكيف اوافقهما وهما يخلطان الارز بالعدس ويشتتان الكرة يمينا ويساراً؟ فى العربان عنصرية؟ نعم، ما فى ذلك شك؟ وهى فاشية عندهم منذ عهد جدنا عنترة بن شداد ومن قبله. وما هو الجديد فى ذلك ايها الكاتبان الفحلان، أصلحكما الله وأصلح بكما؟ بيد أن حالنا لن يستقيم قط ان نحن روضنا انفسنا، الأمارة بتمحك المعاذير، على ان نغض الطرف عن أضواء الحقيقة المبهرة كلما سطعت، مثلما جذوة الشمس، واستخفينا فراراً من صهدها تحت غربال الميز العرقى.

    (7)

    لم يعد لدينا مزيد نقوله فى أمر الاحتيال الأرعن والافتئات على اسم المجذوب واستثماره، بغير حياء، لترويج التصاوير النرجسية وتسويق الاوهام الطاؤوسية. ولكن الدكتورة لمياء شمت عندها ما تقول اذ كتبت: (المجذوب الذى يحمل الغلاف اسمه مجرد حاشية على تلك المتون، او مجرد ظل لذاك الهيكل الضوئى المجيد، او قل مجرد سطح عاكس لتلك المجرة الدرية الغاصة بالضياء، او لعله مسرب جانبى لتصريف تلك الطاقات الذهنية المفيضة، اومجرد خلفية خافته لمسرح وجود ذاك الفرد المطلق. يُستدعى من آن لآخر للتعليق بصورة مجلوبة خالية من التلقائية على انجاز وفتوحات وعبقريات الكاتب. ان أعتى ميكانيزمات الاختزال والخفض لا يمكنها ان تحول المجذوب بكل قوة تأثيره الوجدانية وكارزيمية جاذبيته الاجتماعية الانسانية، وطاقته الفكرية والروحية وحساسيته المستدقة، وتبصراته العميقة وحججه الراجحة وحدسه النافذ وبيانه الوثاب الى محض هامش زائد. كيف يتحول المجذوب بتدبير ينطوى على الخبث الى مجرد ممثل آلى لدور ثانوى فى كتاب يتزين باسمه؟ من للمجذوب والأيادى اللصة تنبش حرمة قبره، وتحرق اوراقه وتسرق وسامته؟) "المصدر السابق".

    وما زال ليلنا مع مذكرات أبى سن طفلاً يحبو!

    [ نواصل ].

    الرسائل العزيزية

    عرّفناك من قبل، ايها الاكرم، على خالنا عبد العزيز محمد عبد اللطيف، قاضى المديرية الاسبق، والمستشار القانونى بالمملكة السعودية حالياً، والمعروف فى اوساط اسرتنا الممتدة باسم (مولانا عزيز). واطلعناك على بعض رسائله الالكترونية التى ما ينفك يبعث بها الينا على سبيل المناصحة. وهذا آخر ما وصلنا من رسائله يناصحنا فى أمر سلسلة الادب وقلة الادب:

    (سلام يا مصطفى - انني في غاية الحزن والالم لأننى لا اعرف متي ستخرج من جلباب المشاطات وستات الشاى والجبنة وحكاياتهن الفارغة، ومن قال وقيل. لماذ تستهلك الوقت الثمين في كتابة كل هذه الحلقات وفي قيادة معركة فارغة لا قيمة لها؟ هذا موظف سابق في الخارجية وجد لديه الامكانيات المالية والوقت لكتابة ونشر كتاب زبالة مكانه برميل القمامة .لا اري سببا واحدا للانشغال بهذه التفاهات والانحدار لهذا المستوي . العبرة ليست فى طبع ونشر كتاب، وانما بشخص الكاتب وتاريخه وافكاره ومواقفه. وليس كل من طبع ونشر كتاباً يعتبر كاتباً. يا مصطفي أهلنا في السودان مشغولين بكسب العيش وما عندهم وقت للفارغات. الدكتور منصور خالد عنده قدرات كبيرة وفي غاية البلاغة والفصاحة ولا يحتاح الي محام للدفاع عنه، وهو ذاته لم ينحدر الي مستوي بذاءات ابوسن لانه يحترم نفسه فما دخلك انت بالموضوع؟ انت تقول ان ابوسن (عمد الى اعادة صياغة تاريخ قريب ما زالت وقائعه حية تنبض في صدور الناس). طيب اذا الوقائع حية فى صدور الناس انت تعبان ليه؟! ارجو منك ان تفحص وتقارن الكلام الفارغ الذى تكتبه انت بما كتبه الاستاذ فتحى الضو فى مقاله هذا الاسبوع عن الديكتاتوريات نقلا عن مجلة "فورين بوليسى" الامريكية. مقال جاد وممتاز وغنى ومفيد للقارئ، وبعيد عن شغل المشاطات. مع تحياتى.

    خالك عبد العزيز).

    انتهت رسالة خالنا مناضل الكيبورد، وعليها اشكره. واعتذر نيابة عن الاسرة لكل المشّاطات وستات الشاى على امتداد سوداننا الغالى. وقد احلنا الرسالة فى وقتها الى كهف صديقنا الاستاذ فتحى الضو، رئيس حزب الكهوف، بشيكاغو، الذي افادنا بأنه قام بتسجيل مولانا عزيز ومنحه بطاقة عضوية حزبه، الذى يضم جميع مناضلى الكيبورد على مستوى الوطن والمهاجر.

                  

07-15-2010, 05:09 PM

زهير الزناتي
<aزهير الزناتي
تاريخ التسجيل: 03-28-2008
مجموع المشاركات: 12241

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: غاب أبو سن ولعب أبو ضنب مقال لسمؤال أبو سن رداً علي مصطفي البطل (Re: زهير الزناتي)

    البطل 6
    Quote: (1)

    تظل روح النرجسية ونسائم الطاؤوسية، التي استأثرت بمذكرات الراحل علي أبوسن وغلبت عليها، في طليعة العوامل التي فتكت بكتاب "المجذوب والذكريات" فتكاً، وانتهت به الى منحدرٍ مُعتم، متنكّبٍ للجادة، ومفارقٌ لسكك الفكر الرصين. ولولا ذلك العوار، وبعض عللٍ أخرى، مما لحق بهذه السيرة الذاتية لكان خليقاً بها أن تأخذ موقعها اللائق كمصدر من مصادر فهم المجتمعات والدول وتدوين التاريخ. إلى جانب غَلَبة النرجسية والطاؤوسية، يأتي داء المجاهرة والتباهي بالسلوك الفضائحي السافر، والاندفاع المتلذّذ الى حشد الروايات التي تُظهر الكاتب وكأنه عُيينة بن حصن، أحمق فزارة المطاع، الذي قيل إنه مات عن عشرة آلاف جارية. بل أن الكاتب، كما بيّنا من قبل، لا تأخذه لومة لائم في أحاديث الجنس فيفضح أسماء شخصيات بارزة في مجتمعنا ويتحدث، دون خشية أو رادع، عن ولع هذه الشخصيات بالنساء، كما هو الحال مع صحافي سوداني كبير، رحل عن دنيانا قبل صدور الكتاب بسنوات، ذكر اسمه كاملاً، ثم حكى عنه حكايات لا تصلح للنشر عند أهل النُهَى، وكتب ان ذلك الصحافي اشتهر بين أصدقائه بلقب "ود أبرق"، ثم أضاف: (وهو نوع من العصافير شديد النشاط الجنسي)!

    لا يطيق أبو سن إلا يتحدث عن ولعه الخاص بالنساء وولع النساء به للحظة واحدة، حتى إنه لم يجد وسيلة يعبر بها عن ضخامة حزنه على القائد الشيوعي عبد الخالق محجوب عندما تناهى إليه خبر إعدامه عام 1971م سوى أن يقول إن الأسى قد بلغَ به مبلغاً امتنع معه عن النظر الى صدور النساء العارية لأسبوع كامل، وهو مستلقٍ على بلاج شاطئ العراة المسمى "سانت تروبي" في منطقة الريفيرا الفرنسية. وبعد أن فصّل كاتب المذكرات نوبة الضيق التي اعترته بعد إعدام عبد الخالق ووصف الحالة النفسيَّة المزرية التي وجد نفسه في قبضتها من هول الفاجعة، كتب يصف أيامه الحزينة وهو على شاطئ الريفيرا: (كنت أقضي وقتي على البلاج.. ولم أخلق علاقة مع أحد. حتى في "سانت تروبي"، حيث تسبح الفاتنات عاريات الصدور، لم أجد في نفسي ميلاً إلى النظر..)، يا لجلال الموت ويا لعظمة المشاعر. وها نحن نعرف مقدار عبد الخالق وعمق معزته في نفس صاحبنا، الذي لا يترك صدور النساء في حالها إلا عند الملمات العظام.

    (2)

    وخلافاً لما قد يظن البعض فإنه لا اعتراض لنا من حيث المبدأ على تضمين كتب السيرة الذاتية جوانب من التاريخ السري لأصحابها، وقد شاع في صناعة المذكرات، منذ منتصف القرن المنقضى، ما يعرف بـ(أدب البوح). ونحن مثل غيرنا لا نستملح الطُهرية الكاذبة، التي تصوّر كُتاب المذكرات في صور ملائكية مثالية. لم يقدح من مذكرات الزعيم الوطني المصري سعد زغلول في شيء انه اعترف صراحةً بأنه كان في بعض فترات حياته مولعاً بالقمار، ولم ينل من أديبنا العالمي نجيب محفوظ في شيء كونه أملى على كاتب سيرته الذاتية إنه كانت له علاقات نسائية آثمة، وإنه كان يتعاطى المخدرات في مراحل عمرية باكرة. ولكننا كرهنا من سيرة أبي سن أنه جعل من فتوحاته النسائية محور مذكراته وعمودها، فأفاض واستفاض، وأطال واستطال، حتى وقر في يقيننا أن الأمر ليس أمر سيرة ذاتية، بل أمر عقدة نفسية مستحكمة، وأن حاجة الكاتب الى طبيب نفسي يداوي عنه تلك الحالة المرضية، ربما سبقت حاجته الى كتابة مذكراته.

    غير أن المجاهرة والتباهي المتعمد بالأخبار والأفكار الصادمة للشعور العام تصل ذروتها عندما يُظهر صاحب المذكرات - بغير مدعاة - الزراية والاستخفاف بعقيدة الإسلام، وهي عقيدة السواد الأعظم من أهل السودان. وذاك منحدرٌ وعر لا يطرقه طارق إلا وقد غابت عنه الحكمة وتملّكه شيطان مُريد، فما بالك برجل تلقَّى العلم في محاضن الإسلام ومعاقله: المعهد العلمي ودار العلوم!

    (3)

    لم أصدِّق عيناي عندما بلغت الصفحة الستين بعد المائة من الجزء الثاني، وفيها بعض خزعبلات أبي سن ومعاركه الدونكيشوتية مع الدكتور منصور خالد. يقول الكاتب إن منصور وضع على جدران مكتبه الوزاري عدداً من اللوحات التي تشتمل على آيات قرآنية، وأضاف إنه استفسر الفنانة كمالا إبراهيم إسحق عن هذه اللوحات القرآنية فأفادته بأنها من أعمال بعض فناني المعهد الفني بالخرطوم. والمعلومة صحيحة بالقطع، فقد كان أول ما تبادر الى ذهني وأنا أُطالع تلك الفقرة حديثٌ سمعته قبل عهد طويل من صديقي الدكتور الأمين حمودة الباشا، الذي عمل في النصف الثاني من التسعينيات خبيراً بإحدى المنظمات الدولية بنيروبي، وعندما كرَّ عائداً الى الولايات المتحدة كان مما حكاه لي انه زار مكتب الدكتور منصور خالد في العاصمة الكينية، وكانت أول ملاحظة له عندما ولج من باب المكتب هي لوحات الآيات القرآنية الضخمة المعلَّقة على الجدران. منصور إذن ممن يزينون المكاتب والمساكن بالآيات القرآنية، وماذا في ذلك؟ هو مسلمٌ ترَّبى في بيئة مسلمة.. هل هناك مشكلة؟! نعم. الجزء الأصغر من المشكلة هو أن كاتب المذكرات يعتقد أن بعض الآيات التي اختارها الوزير كان يستهدف بها أبوسن نفسه. وهذا من قبيل الوهم والهذر الذي ألفناه عند صاحبنا وما عدنا نتوقف عنده، خاصة وأن الكاتب يذكر آيات قرآنية بعينها، يقول الذين عاصروا ذلك الزمان أنها - خلافاً لزعم الكاتب - لم تكن من بين الآيات التي طرَّز بها منصور جدران مكتبه الوزاري. ولكن الذي حيّرنا وأرهق عقولنا هو الاستنتاج الذي استقاه أبوسن وصرَّح به كتابةً، تأسيساً على كون منصور يحتفي بالآيات القرآنية من حيث المبدأ. كتب أبوسن: (هذه اللافتات الحائطية [القرآنية] فجعتني مرة أخرى في منصور، لأنها كشفت لي أن علاقته بالحضارة والثقافة هي مجرد قشرة لا تلبث، عند حكة بسيطة، أن تكشف عما تحتها من جلد سميك من التخلف). هل صعقك هذا الاستنتاج الشاطح - أعزك الله - كما صعقني وحيّرني؟ هاك إذن مزيداً من الصعق ومزيداً من الحيرة، واقرأ هذا الدليل الآخر الذي توسَّل به صاحب المذكرات الى إثبات أن منصور "رغم مظهره البراق بالثقافة والحضارة فإنه في جوهره رجل متخلف". الدليل يا هداك الله، صدِّق أو لا تصدِّق، هو أن الدكتور منصور خالد يحمل معه دوماً داخل حقيبته الخاصة عند التسفار نسخة من المصحف الشريف!! وقد اجتهد صاحب المذكرات لتوفير البيّنات القاطعة على صدق ادعائه، فذكر اسماً لشخصية سودانية بارزة شهدت بأم عينها المصحف في حقيبة منصور خالد، وأضاف بكل ثقة إن هذه الشخصية سألت منصور عن سبب حمله المصحف الشريف في حقيبته، "فكان رد منصور إنه يحمل المصحف معه دائماً لأنه يتفاءل به" (ص، (160)، الجزء الثاني). يا لمنصور المتخلف! يعلِّق الآيات القرآنية على الجدران، ويحمل المصحف في حقيبته؟!

    (4)

    وقد عرضنا عليك من قبل – في مقام النرجسية – نماذج عديدة من الروايات التي اشتمل عليها الكتاب والتي يعرض فيها المؤلف نفسه في صورة الشخصية الأسطورية التي حازت المجد من أطرافه، حتى ليتقازم أمامه "نيلسون مانديلا" و"شارل ديغول" و"بابلو نيرودا". فهو الذي اجتمع قادة الأمة ورموزها على أن شفاء السودان من أسقامه ونجاته من وهدة التخلف ربما تحققت على يديه الكريمتين! يدهشك أن تقرأ في صفحات الكتاب كيف أن الزعيم إسماعيل الأزهري كان مأخوذاً بشخصية أبي سن، وهو لمّا يزل في عشرينات عمره، الى درجة أن دهاقين الساسة من شيوخ الحزب الاتحادي وقادته التاريخيين تملكهم الخوف على مواقعهم فجلسوا بليل يحيكون المؤمرات ويتناجون حول أنجع السبل لفك عُرَى الصلات الوثقى التي ربطت الفتى المعجزة بالأزهري. يحدثنا صاحبنا بأن الرئيس الأزهري كان يقدمه على كل السياسيين المخضرمين من أساطين الحزب وان القطبين الاتحاديين الضخمين أحمد زين العابدين وعبد الماجد أبوحسبو كانا يخشيان بأسه ويلتمسان الوسائل لإبعاده عن الرئيس (الذي كان يثق ثقة كاملة في رأيي ويقدمني على الجميع)!!

    وقد استفاض صاحب المذكرات، ما وسعته الإفاضة، في تبيان عمق الصلات الشخصية التي ربطته برئيس الوزراء السابق بابكر عوض الله، وكيف انه كان من أقرب المقربين اليه. كتب: (كنت أسهر مع بابكر أربع ليالٍ في الأسبوع على الأقل). بل إنه كان عندما يحضر الى الخرطوم من مقر عمله بسفارات السودان بالخارج فإنه - بحسب المذكرات - كان يتوجه من المطار رأساً الى منزل بابكر عوض الله بحي العمارات فيقيم معه وسط أسرته. ولكن صاحب المذكرات اكتشف أخيراً أن بابكر، الرجل الوحيد في تاريخ السودان الذي جمع بين رئاسة البرلمان ورئاسة القضاء ورئاسة الوزراء، لم يسعَ إلى صداقته لوجه الله، بل لهدف دنيوي زائل، وهو أن (يستغل مقدرات) أبي سن (في مسعاه لتنفيذ انقلاب مايو). كتب صاحبنا إن "مخطط" بابكر كان هو: (أن يستغل مقدراتي ثم يلقيني كحبة النوى بعد أن ينجز انقلاب مايو)، فتأمل!

    (5)

    إلى جانب النرجسية المفرطة والتباهي بالفتوحات النسائية بغير مدعاة، فإن أكثر ما نالَ من قيمة المذكرات وأضرَّ بمصداقيتها هو ميل صاحبها الى الترخص الشديد في تدوين الحقائق الثابتة وإيراد الوقائع المحقّقة والمستقرة في الذهن العام، فضلاً عن خصلة الانسياق بغير تمييز أو احتراس وراء الرغبة الجارفة في تتبيل الروايات بالتوابل الهندية والعربية، والإفراط في دلق "المحلبية" على حنّاء مذكراته. وذلك كله مما يتعارض كلياً مع مقتضيات ومتطلبات إحسان فن الرواية والصدق في تقديم الحقائق بحسبانها أمانة ووديعة لدى التاريخ. بل إن صاحبنا يعمد في بعض الأحيان الى تغبية القارئ والاستغناء عن عقله تماماً، بالمراهنة على تقادم الوقائع والحادثات، والتعويل على خصيصة سرعة نسيان التاريخ عند السودانيين، فيعيد صياغة الاحداث، او يبتر خواتيم الأشياء كما تداعت على الأرض، ويخترع لها من عنده خواتيم تثير العجب وتبعث على الحيرة.

    ما قولك في هذا المثال: يذكر صاحب المذكرات أن نائب رئيس مجلس قيادة الثورة ورئيس الوزراء استدعاه، بعد اندلاع انقلاب 25 مايو 1969م الى الخرطوم من مقر عمله بسفارة السودان بلندن، حيث كان يعمل سكرتيراً ثانياً. ويقول إن نائب الرئيس عرض عليه منصب وكيل وزارة الشباب. وبعد أخذ ورد قرر صاحبنا، بمحض رغبته واختياره، ألا يقبل هذا المنصب وأن يعود الى وظيفته سكرتيراً ثانياً في وزارة الخارجية. ثم يضيف، وهذا هو العجب العجاب بعينه، انه فرض على نائب رئيس الدولة أن يكتب له وثيقة يسجل فيها بخط يده إنه - أي أبوسن نفسه - هو الذي اعتذر عن المنصب بعد أن عُرض عليه، وأن نائب الرئيس وافق صاغراً وكتب له الوثيقة وسلمها له وهو يتمتم: (والله انتو يا ناس أبوسن، كرامتكم دي ما بتلعبوا فيها).

    هذه هي رواية صاحبنا. ونحن نفترض جدلاً أن مكتب نائب الرئيس اتصل بأبي سن، بعد يوم أو يومين أو ربما وثلاثة من نجاح الانقلاب، عن طريق وزارة الخارجية. وأن أبا سن بادر الى الاتصال بمكتب الخطوط الجوية السودانية بلندن لحجز مقعد الى الخرطوم، فهو موظف دولة ملزم باستخدام الناقل الوطني، وذلك بطبيعة الحال في العام 1969م حيث كانت هناك طائرة واحدة فقط في الأسبوع تصل بريطانيا العظمى بالسودان. ثم سافر صاحبنا على جناح الطائر الميمون ووصل الى البلاد حيث التقى بعد ذلك بنائب رئيس الدولة وجرت بينها المفاوضات حول توليه منصب وكيل وزارة الشباب. ثم فكر الرجل وقلَّب أخماسه وأسداسه، واستشار من أهله وأصدقائه أهل الشورى، ثم عاد بقرار الاعتذار عن تولي المنصب. عظيم. نحن هنا أمام فعاليات تستغرق في أفضل الاحتمالات سبعة إلى عشرة أيام! ولكن التاريخ المرصود، عنده رواية أخرى تجئ على النحو التالي: في صبيحة انقلاب الخامس والعشرين من مايو 1969م، صدر الأمر الجمهوري الثالث بتشكيل مجلس الوزراء، وأُذيع على الشعب عبر جهازي الإذاعة والتلفزة (جميع القرارات والمراسيم الجمهورية وبضمنها قرار تشكيل مجلس الوزراء كانت معدة سلفاً، وأُذيعت جميعاً بصورة متسلسلة ذلك الصباح، بصوت المرحوم المقدم (م) محمود حسيب). تضمن القرار الجمهوري، بعد تسمية الوزراء والوزارات، فقرة إضافية تقول بأن (هناك ثلاث وزارات أخرى هى: وزارة الشباب، ووزارة التعاون والتنمية الريفية، ووزارة الانتاج والاصلاح الزراعى، ستتم تسمية وزراءها خلال الأيام القليلة القادمة). وبالفعل وخلال أيام تمت تسمية الدكتور منصور خالد وزيراً للشباب (رشحه للمنصب وزير الإرشاد القومي وعضو الحزب الشيوعي الأستاذ محجوب عثمان). وعقب أدائه القسم مباشرةً قام الدكتور منصور خالد بتعيين المرحوم الأستاذ أحمد عبد الحليم وكيلاً لوزارة الشباب. هل ترى - أصلحك الله - كيف ان رواية أبوسن هنا لا تدخل العقل إلا كما يلج الجمل من سم الخياط! فالمنطق المدعوم بالتاريخ الثابت والمحقّق لا يقبلها ولا يزكيها. فإما أن المنصب عُرض عليه فعلاً، ولكن استعصى تنفيذه لأن الوزير الذي أجلسته الثورة على كرسي تلك الوزارة لم يقبل بالترشيح واختار للمنصب شخصاً آخر هو الأستاذ أحمد عبد الحليم، أو أن الرواية مختلقة من أساسها. والذي لا نشك فيه هنا هو أن النزعة النرجسية في شخصية صاحب المذكرات تجعل من الصعب عليه الاعتراف بأن منصور رفضه واختار بدلاً عنه شخصاً آخر!

    (6)

    المتمعن في روايات أبو سن المتلاحقة عبر مذكراته يلاحظ عنايته الشديدة بالآثار الانطباعية التي يمكن أن تتركها هذه الروايات على القارئ من حيث تأكيد وتثبيت صورته كإنسان رفيع ومتحضر ومثقف واسع الصلات. غير أن كثيراً من هذه الروايات تقود القارئ المتقصي إلى خلاصات مغايرة. فعندما يريد أبوسن أن يعرض بدايات حياته في أم درمان كمثقف يختلط بالصفوة ويعتني بقضايا الفكر فإنه يشير الى عضويته التأسيسية في ندوة، كانت تنعقد كل يوم أحد، تضم عدداً محدوداً من المثقفين، الذين سيصبحون من ذوي الأسماء اللامعة. العجيب هنا هو انه عندما يعرض لنا أسماء رفاقه المفترضين فإنك تكتشف انه لا يعرف هذه الشخصيات حقاً، وان غاية مراده من رص الأسماء وادعاء صداقتها ربما كان هو مجرد تقديم صورة معينة عن نفسه للقارئ. على سبيل المثال يكتب أبوسن في الصفحة (28) من الجزء الأول عن شخصية الراحل الصحافي الكبير جمال عبد الملك ابن خلدون، الذي يُفترض انه كان عضواً في تلك الخلية الصغيرة من المثقفين التي انتمى اليها صاحبنا، ويعرّف أبوسن الرجل على النحو التالي: (اسمه ابن خلدون، وهو مصري إخواني، جاء هارباً الى السودان مع زميل آخر له، وقد أصبح صحافياً وباحثاً معروفاً فيما بعد). والحقيقة ان ابن خلدون لم يكن قط عضواً في جماعة الإخوان المسلمين، لا فى مصر ولا فى السودان، وذلك لسبب ممعن فى البساطة، وهو ان الرجل لم يكن يدين بالإسلام أساساً، اذ انه قبطي مسيحي، (اسمه الأصلي "عبد الملاك"، قبل أن يقوم بتغييره). وكيف لقبطي مسيحي أن يكون "اخوانيا" نشطاً تطارده الحكومة المصرية فيهرب الى السودان كما يزعم صاحبنا؟ والحق أن ابن خلدون عرف بكونه يسارياً بارزاً من نشطاء حركة "حدتو" الماركسية. وأعجب لرجل يفخر بالانتماء الى خلية ضيقة من المثقفين لا شغل لها غير قضايا الفكر، ثم لا يفرق من أعضاء خليته بين الشيوعي والاخواني، ولا يميز بين المسلم والمسيحي!

    ومثل هذا التخليط في أمر الشخصيات المحلية، تجده أيضاً في معالجة الكاتب لبعض أسماء الأمريكيين والأوربيين المتناثرة فوق صفحات الكتاب. فعندما ركب المؤلف موجة إثبات عمالة منصور خالد للمخابرات الأمريكية تجده يذكر اسماً لشخصية أمريكية شهيرة على المستويين الأمريكي والدولي هو المستر صاي سالزبيرجر الذي نفهم من المذكرات أن منصور على علاقة به، والعلاقة بسالزبيرجر هذا، بحسب أبو سن، توقع المتورط فيها لزوماً في محظور الاشتباه بالعمالة للمخابرات الأمريكية. وقد تم تعريف سالسبيرجر في الكتاب هكذا: (عميل المخابرات الأمريكية المعروف). وتلك من التعريفات المحيرة أيضاً، فكيف يكون الفرد عميلاً مخابراتياً ويكون معروفاً في ذات الوقت؟ وتخطّف الأسماء الأجنبية من المصادر المختلفة كيفما اتفق وإيرادها في كتابات السودانيين بغرض إثبات السلطة المعرفية المتخطية للحدود المحلية بلية من البلايا التي رزئنا بها. وواضح من السياق الذي أورد فيه أبوسن اسم سالزبيرجر انه لا يعرفه، ولو عرفه لما تردد في إيراد صفته الحقيقية، أو لامتنع، على الاقل، عن وصفه بأنه "عميل معروف" للمخابرات الأمريكية. وأغلب الظن انه وقع على اسمه سماعاً فحفظه ثم أخذ يخبط به خبط عشواء. الواقع أن صاي سالزبيرجر هو واحد من أهم الشخصيات في الولايات المتحدة، وقد يشق على مدير المخابرات الأمريكية نفسه أن يحصل على موعد لمقابلته! سالزبيرجر هذا من أكبر ملاك صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، وهو صديق لمنصور خالد بحسب كتابات منشورة. والنيويورك تايمز والواشنطن بوست هما الصحيفتان اللتان يترقب الناس، في الولايات المتحدة وأوربا، ويترصدون رؤاهما ومواقفهما من الانتخابات العامة لكيما يروا الى أي جانب من مرشحي الرئاسة تقف الصحيفتان، فرأيهما دوماً هو الرأي المرجح. وملاك النيويورك تايمز والواشنطن بوست، مثل ملاك جنرال موتورز، هم من يحكمون أمريكا.

    ومثل ذلك الولع غير المستبصر بالأسماء الكبيرة واللامعة تجده عند استخدام الكاتب لاسم الصحافي الفرنسي الأشهر أريك رولو، الذي يرد اسمه في الكتاب عدة مرات هكذا: (اليهودي اريك رولو). ومثل هذا النوع من الاستخدام للاسم مسبوقاً بالديانة تجده عادةً عند المتطرفين الإسلامويين، ورجرجة الكتاب من المتبذلين الى الجمهور الأسفل من عامة العوام، الذين يستهويهم هذا النوع من التوصيف الاستعدائي الأجوف للشخصيات الدولية. وورود مثل هذه الأوصاف من رجل يضع الكثير من المساحيق الحضارية الغربية على وجهه، لدرجة انه يعتقد أن حمل المصحف في الحقائب الشخصية ربما كان مؤشراً على التخلف الحضاري، مما يثير العجب. ولكن العجب يُبطله عرفان السبب. والسبب أن "اريك رولو" هو أيضاً صديق لمنصور خالد. ولا مانع في هذه الحالة من غض البصر عن "مقتضيات الحضارة" واللجوء الى حيل التخلف. ولكن الشيء الذي لسنا على يقين من أن أبا سن كان يعرفه هو أن منصور ليس الصديق السوداني الوحيد للفرنسي "ايريك رولو". الذين يعرفون السودان والسودانيين جيداً، يعرفون بالقطع أن الصديق الأول، بل أصدق أصدقاء "اريك رولو" في السودان، كان هو الراحل عبد الخالق محجوب، وهو ما كتبه "اريك رولو" نفسه. وكنا نظن أن أبا سن يحترم عبد الخالق ويقدره حق قدره، مما يوجب عليه أن يبدي بعض الاحترام اللائق لأصدقائه من الأجانب. ألم يخبرنا انه أضرب عن نهود النساء وأعجازهن الطرية لسبعة أيام كاملات حزناً عليه؟!

    (7)

    وعلى حرص أبي سن على تقديم نفسه كرجل فكر ومنهج، وإكثاره من الاستدلالات والإيحاءات الأكاديمية في مذكراته، فإنك لا تخطئ الهشاشة الظاهرة في بنيته المنهجية العلمية. من شواهد ذلك أن أبا سن تطوَّع بصياغة تعريف لمصطلح "النخبة"، وذلك في إطار معركة افتعلها وأراد لها أن تكون صراعاً فكرياً بينه وبين الدكتور منصور خالد، حيث افترع مع الرجل نزاعاً حول التعريف الصحيح لذلك المصطلح. ومنازعة منصور وملاقاته في الشعاب الفكرية رياضةٌ خطرة يجمل بأهل النُهى التنائي عنها، فإن لم يكن من الملاقاة بدٌّ فاسألوا الله السلامة. ما علينا، المهم أن أبا سن قدَّم لنا مشكوراً في إطار فتحه الفكري تعريفاً لمصطلح النخبة، وهذا هو التعريف: (النخبة هي الفئة الوطنية الواعية التي تتميز بالطموح الوطني في التقدم والرفاهية لشعبها وتتصف بالاعتزاز الوطني والمصداقية). ولا بد أن فئة من قرائي الأفاضل من معاشر الأكاديميين والمهتمين بالفكر والمنهج إجمالاً، فضلاً عن الأحبة من عشيرة بنى ثقيف، أخذت الآن تهز رأسها وتضرب كفاً بكف، فالاصطلاحات جميعاً، كما هو في علم أهل المصطلح، لا يتم تعريفها بمعايير قيمية. ولا نظن أن صاحبنا كان قد قرأ في حياته العامرة بالمبهجات أياً من معاجم اللغة أو السياسة ليعرف ما الذي يعنيه حقاً مصطلح النخبة(Elite) ، قبل أن يُلقي بنفسه في لجة ذلك العراك!

    ويحيّرنا أن المؤلف لا يأبه ولا يلقي بالاً للتناقضات التي تحفُّ برواياته التى لا تنتهى، فهو يكتب انه ذهب الى قصر الاليزيه لحضور حفل عشاء دبلوماسي ممثلاً للحكومة السودانية، وقد كان يشغل وظيفة دبلوماسية بسفارة السودان في باريس. ثم يمضي قُدُماً فيذكر أن الصحافي الكبير الراحل محمد الخليفة طه الريفي نشر في الصفحة الأخيرة من جريدة "الصحافة" صورة له - أي لأبي سن - وهو يصافح الرئيس الفرنسي أثناء ذلك العشاء، وأن الريفي تعرَّض للتقريع الشديد وكاد يفقد وظيفته بسبب نشر الصورة. لماذا؟ لأن بعض النافذين في حكومة مايو احتجوا على نشر صورته وهو الرجل (المعروف بمعارضته للنظام)! سبحان الله. كيف يكون الواحد من هؤلاء "معروفاً بمعارضته للنظام" ويكون في ذات الوقت ممثلاً لحكومة ذات النظام في الموائد والمحافل الأجنبية؟ والذين عاشوا ذلك الزمان يدركون تماماً أن "المشتبه" فقط في معارضتهم للنظام، ما كانوا يجدون لأنفسهم موطئ قدم في وزارة كوزارة الخارجية ولا في غيرها، ناهيك عن أن يكون الواحد "معارضاً معروفاً" كما يتفاخر صاحبنا. ومن غرائب المدهشات ان الرجل " المعروف بمعارضته للنظام" عاد الى الخرطوم سالماً غانماً عند انتهاء فترة عمله الدبلوماسى بباريس، بعد سبعة أشهر فقط من ذلك التاريخ، فكان اول عمل له بعد عودته، كما سبق وبيّنا، ان بادر وأشرف بنفسه على تأسيس فرع الاتحاد الاشتراكي برئاسة وزارة الخارجية، وتولّى منصب أمين فرع موقع العمل بالوزارة، ثم انتقل في وقت لاحق ليصبح عضواً من أنشط أعضاء أمانة العلاقات الخارجية بتنظيم الاتحاد الاشتراكي، وقد طمح الى تولي منصب أمين تلك الأمانة المتخصصة، وهو ما يعادل درجة الوزير المركزى، لولا أن أطاحت به وبآماله مؤامرات السياسيين!

    (8)

    وحكايات منصور مع توابل أبوسن لا تنتهي. وعلى عادته في أن ينسب الى الآخرين بدون حساب ولا خشية من عقاب، فقد نسب صاحبنا الى منصور انه (استجوب) الراحل عبد الخالق محجوب قبل مقتله عقب أحداث يوليو 1971م وان عبد الخالق رد على إحدى أسئلة منصور أثناء الاستجواب بقوله: (أنا عايز أنتهي). وذلك على الرغم من أن لمنصور كتاب كامل صدر قبل مذكرات أبوسن بسنوات طويلة فصّل فيه أمر لقائه بعبد الخالق قبل محاكمته تفصيلاً دقيقاً (الصفحة 24 وما بعدها، من كتاب Nimeiri and the Revolution of Dismay ، الفصل المعنون Euphoria and Tension). ولم يحدث أن استجوب الرجل عبد الخالق ولم يسأله سؤالاً واحداً، بل ولم يلتقِ به قط منفرداً وإنما في معية عدد كبير من الناس. وكل ما دار بينهما هو انه حيّاه وأشعل له سيجارة. وكل من لاحق الوقائع المحققة والمنشورة لتلك الأحداث يعرف أن عبارة (أنا عايز أنتهي) عبارة جد ذائعة في التاريخ السياسي السوداني المعاصر، بعد أن أصبحت من مأثور ما ورد على لسان عبد الخالق في إجابة له على إحدى الأسئلة التي توجه بها اليه الرئيس السابق جعفر نميري على ملأ من الناس. وقد أُذيعت وقائع استجواب النميرى لعبد الخالق عشرات المرات، كما إن مئات الوثائق الراصدة لأحداث 1971م تحفل بها!

    ويذكر أبوسن على نهج تتبيل الروايات وإضافة الملح والفلفل اليها ان النميري، في ثورة غضب جامحة، (عزل الوزير وحاكم الإقليم الشرقي الراحل عبد الله الحسن الخضر بعد أسبوع واحد من تعيينه). وغضبة النميري من الرجل حقيقة، ولكنه لم يعزله بعد أسبوع، بل استمر عبد الله الحسن حاكماً للإقليم لمدة اثني عشر شهراً بالتمام والكمال! ومن رواياته المتبّلة، التي لا يقبلها العقل، ولكنه لا يتردد في إيرادها، انه كان له الفضل في إنقاذ حياة الفنان التشكيلي عثمان وقيع الله من موت محقق. كيف؟ يقول إن الفنان الكبير كان يرقد فاقد الوعي تماماً، تفصله من الموت لحظات، في قسم الحوادث بالمستشفى بلندن، ولكن الأطباء تركوه لمصيره ورفضوا علاجه، لأنهم لم يعثروا على جواز سفره. ولكن أبا سن ظهر فجأه وأبرز بطاقته الدبلوماسية فوافق الأطباء على علاجه وكتبت للفنان الكبير حياة جديدة. ومعلوم أن المستشفيات وأقسام الحوادث في أوربا كلها وفي الولايات المتحدة وكندا، بنص القوانين السائدة في تلك البلدان، تقدم العلاج الفوري للمرضى والمصابين الذين يصلون الى غرف الطوارئ، دون سؤال عن جواز السفر أو غيره. وليس صحيحاً أن الإنسان يُترك ليموت في أي من الدول الغربية إذا كان فاقداً الوعي ولم يُعثر معه على جواز سفر كما يحدثنا صاحب التوابل!

    غير ان من ألطف الروايات المتبلة بالبهار الهندي التي وجدتها عند أبي سن تلك التي زعم فيها ان القصر الملكي في بريطانيا رفض تسلم أوراق اعتماد سفير السودان الراحل سر الختم الخليفة، لأن رجال المراسم الملكية ظنوا انه يحمل لقب سير، وذلك تأسيساً على الحروف الثلاثة الأولى من اسمه (Alkhatim-Sir)، حيث ان التقليد البريطاني يقضي بأن حاملي لقب سير لا يضعون ألقابهم أمام أسمائهم عند مخاطبتهم للملكة. ومن أغرب الغرائب التى تستتبعها هذه الرواية - لو أننا صدقنا أبي سن، أن القصر الملكي، وهو الجهة التي تمنح الألقاب في بريطانيا، لا يعرف ان كان قد منح سودانياً هذا اللقب الرفيع ام لا! وقد أجمع عدد من السفراء والدبلوماسيين الذين عاصروا الراحل سر الختم الخليفة وسنوات سفارته في لندن على نفي هذه (النكتة) نفياً تاماً، ولكنهم أيضاً ردوها الى أن الكاتب انما أراد أن يضيف شيئاً من الفلفل للطرفة التي كانت سائدة في ذلك العهد بين السودانيين عند الإشارة لرئيس وزراء حكومة أكتوبر سر الختم الخليفة، خاصةً عندما يتحدثون بشأنه مع البريطانيين!



    نقلاً عن صحيفة (الاحداث)



                  

07-18-2010, 04:27 PM

زهير الزناتي
<aزهير الزناتي
تاريخ التسجيل: 03-28-2008
مجموع المشاركات: 12241

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: غاب أبو سن ولعب أبو ضنب مقال لسمؤال أبو سن رداً علي مصطفي البطل (Re: زهير الزناتي)

    نتمني ألا يتوقف السموأل عن الكتابة ... فلا زال هنالك الكثير ليقوله .. ونمنتي أن يتم نشر الكتاب لم لديه نسخة منه ...
                  

07-21-2010, 04:48 PM

زهير الزناتي
<aزهير الزناتي
تاريخ التسجيل: 03-28-2008
مجموع المشاركات: 12241

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: غاب أبو سن ولعب أبو ضنب مقال لسمؤال أبو سن رداً علي مصطفي البطل (Re: زهير الزناتي)

    تمنينا إلا يتوقف السموأل عن الكتابة فتوقف البطل أيضاً .. إذا صدرت الأحداث اليوم دون مقال البطل الراتب ... نتمني أن يتسمر السجال الأبدي المثمر في مثل هذه المعارك الأدبية ... فقد كانت مقالات كلا الطرفين قطع أدبية وإن كانت هنالك بعض التجاوزات هنا وهناك إلا إننا استمتعنا بأدب راقي ... فالشكر لهما معاً ....
                  

07-21-2010, 08:49 PM

زهير الزناتي
<aزهير الزناتي
تاريخ التسجيل: 03-28-2008
مجموع المشاركات: 12241

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: غاب أبو سن ولعب أبو ضنب مقال لسمؤال أبو سن رداً علي مصطفي البطل (Re: زهير الزناتي)

    مقال ذي صلة

    Quote: صحافة التسرية والمناصحة

    مصطفى عبد العزيز البطل نموذجاً.



    إنتشر في الأونة الأخيرة لون من الصحافة الورقية هو في الأساس للتسرية عن القارئ وفي ذات الوقت يتسم كتابه بمناصحة النظام الحاكم في السودان. ربما كان هذا الضرب شائعاً من قبل وأنا (ما واخدش بالي) على الرغم من زعمي بعدم صحة الفرضية الأخيرة، حيث إنني أصف نفسي بالمتابعة الدقيقة لكل ما يكتبه السودانيون في صحافتهم أو في صحافة غيرهم. وأنا زعيم –أي أزعم- أيضاً أن هذا الضرب هو واحدة من الـexternalities أو الـby-products، حسب لغة الاقتصاد الكلي ويعني المصطلحان المنتجات الجانبية إن صحت الترجمة، لنظام حكم دربته ليست قاصرة على مصادرة الحريات وحسب بل حيوات البشر نفسها، وتضاهي في ذلك أيما دربة لأي نظام إستبدادي على مستوى العالم كأنظمة هتلر وستالين وصدام والأنظمة الشهيرة بجرائم الحرب والجرائم الموجهة ضد الإنسانية عبر التاريخ البشري.



    أي، بعبارة أخرى، نحن أمام عصر جديد من عصور إنحطاط الصحافة السودانية، شبيه تماماً بعصور إنحطاط الأدب المكتوب باللغة العربية عندما سيطرت النخب الأموية والعثمانية على البلاد الناطقة باللغة العربية وبعض البلدان الناطقة بغيرها. ومن نافلة القول أن العامل الحفاز الـcatalyst وراء الإنحطاطين هو القمع السياسي لكافة أشكال حرية التعبير. ويا للصدفة فالسودان تحكمه عصبة أموية وعثمانية بل وطالبانية ولأمد جاوز العشرين سنة. إذاً من الطبيعي أن تنحط ليس الصحافة وحسب وإنما كافة أشكال الأدب والثقافة والفنون والإبداع، لكن بصورة تختلف في المقدار والنوع عن عصور الإنحطاط الأخرى، لما يتسم به عصرنا من طوفان للمعلومات التي لا تعرف الحد والحدود ولا حتى التعذير.



    حسب قوانين علم النفس الإجتماعي فإن فعل السلطة القاضي بمصادرة الحريات والقمع والإرهاب بكافة الأشكال يترتب عليه أحد فعلين فإما المناهضة لهذا القمع أوالتماهي معه. والتماهي (درجات) يتراوح بين التملق إلى اللامبالاة. وفي الحالة السودانية هنالك الصحافة ذات الكتابات المناهضة لسياسات القمع الممنهج الذي تمارسه سلطة المؤتمر الوطني التي لم يتغير نهجها القمعي حتى بعد مسرحية الإنتخابات الهزلية مؤكدة بذلك تزويرها للإنتخابات، الأمر الذي لا يحتاج إلى تأكيد. كتاب الصحافة المناهضة يدفعون أثماناً باهظة في سياق مطالبتهم بحرية التعبير مثل الإعتقال والسجن والتعذيب ومصادرة الصحف بقرارات من جهاز الأمن لا القضاء، هذا فضلاً عن الرقابة القبلية التي تمنع نشر الكتابات المناهضة للقمع في كل الأحيان إلخ. وليس بمستغرب ألا يجد هؤلاء الكتاب المناهضون للقمع أي كلمة تعاطف من كتاب التسرية والمناصحة المتماهون مع قمع السلطة.



    شغلنا الكاتب الصحفي مصطفى عبد العزيز البطل قبل أيام، وأعتقد لا يزال يكتب، لكنه لم يعد يشغلني، بنقده لمذكرات د. علي أبوسن. وحسب زعمه في الحلقات الأولى من هذه المقالات الناقدة للمذكرات، بأن هذا الكتاب ليس فيه مايحفل به، بالتالي لِمَ الكتابة عنه؟ أمن قلة ما يستحق الكتابة عنه وما يستحقه القراء من كتابهم أن يميطوا اللثام لهم عنه؟ حتى ولو من باب اللحمة والإنتماء للقلم وما يلاقيه بعضٌ من حملته. غير جدير بالذكر أن تلك الكتابات تزامنت مع مقالات لاهبة أودع كتابها السجون وصودرت صحفهم ومقالات أخرى تناصرهم وتشد من أزرهم وأزر أسرهم، لكن البطل آثر أن يخصنا بنقدهـ لمذكرات ليس بها ما يحفل به على حد تعبيره.



    ولعلني تعمدت أن أقول غير جدير بالذكر، لإن مقالات البطل كلها من هذه الشاكلة وفي كل الأزمنة والمناخات وحتى عند الإنتخابات المزورة وتعذيب رفاق القلم وترويع صغارهم وكبارهم، لذلك فهي تحشر نفسها حشراً في صحافة الإنحطاط المنشغلة بسفاسف الأمور والمنصرفة عن القضايا الكبرى، بالتالي هي صحافة تسرية وتسلية وإخوانيات. القضايا الكبرى لها كتابها الكبار بدورهم. البطل يكتب من خارج السودان ورغم ذلك فهو ينزع إلى التسرية عن قرائه وإنتقاد مذكرات د. علي أبو سن دون غيره ممن يستحقون ما هو أكثر من الإنتقاد بل يستحقون المثول أمام المحاكم عن جرائم ثابتة ومؤكدة وأدلتها القطعية متوفرة وموجودة.



    من إرشيف كامل للكاتب أحتفظ به في كومبيوتري الخاص وجدت مقالتين تحت عنوان (يا إنقاذيون: الدين النصيحة) و(العبد في التزوير والرب في التدبير)،تمثلان إنحرافاً معيارياً عن مقالات التسرية والإخوانيات التي تشكل القسم الأكبر من كتابات البطل. وهما-أي المقالتين- إذ تفارقان، على إستحياء، درب التسرية والإخوانيات تندرجان صراحة تحت باب المناصحة للنظام القمعي، على نحو ما عبر عن ذلك عنوان المقالة الأولى، ومن باب أن ذلك من حقوق ولاة الأمر على الرعية، وعند البطل من دون التدقيق في الكيفية التي يتولى بها هؤلاء الولاة الأمر ولا في الكيفية التي يتصرفون بها في هذه الولاية (بمعنى mandate) فهو حقهم والسلام وربما بعد السمع والطاعة (كمان).



    لوح المحبوب مصطفى عبد العزيز البطل الذي يتأرجح بين التسرية والمناصحة يحظى بقراءة واسعة وسط القراء السودانيين وربما تقريظهم. وهذا لعمري مؤشر قوي على إنحطاط الصحافة وتدنِ كبير ما وصلته في مسيرتها من قبل، وربما مؤشر لظواهر أخرى ليس المجال مجال تفنيدها. فالقارئ السوداني-او قل السوداني- الذي يبحث عن حقه الطبيعي المهدر في الحياة (الكريمة أو غير الكريمة) مجرد حق أن يبقى على قيد الحياة في مناطق عديدة من السودان وبفعل سلطة ينبغي أن تزاح لا أن تناصح، لا يبحث عن التسرية والإبتسامة والتمتع بمقدرات الكاتب في الكتابة والسخرية والتنكيت، بل يبحث بين السطور، إن استطاع إليها سبيلاً، عن همومه ومشاكله .



    ومظاهر إنحطاط الصحافة في عهد الإنقاذ المتطاول لا تنحصر في ظهور كتابة التسرية والمناصحة وإنما تتعداها إلى مظاهر أخرى كالرقابة القبلية وإعتقال الصحفيين عن مقالات رأي وتقديمهم إلى محاكم جائرة في نظام قضائي غير نزيه وغير مستقل ومصادرة الصحف بقرارات من الأجهزة الأمنية. لكن صحافة التسرية والمناصحة ينبغي التعامل معها بحذر ويقظة، فهي تدس السم في الدسم وتتلبس لبوس المعارضة والتنوير وهي في الواقع تكرس للقمع والتجهيل وتصمت صمت القبور عن جرائم السلطة الغاشمة حتى في هجمتها الشرسة على الحريات الصحفية.





    مرتضى جعفر الخليفة

    مترجم


    المصدر

    http://www.sudaneseonline.com/ar3/publish/article_2235.shtml
                  

07-24-2010, 01:14 PM

زهير الزناتي
<aزهير الزناتي
تاريخ التسجيل: 03-28-2008
مجموع المشاركات: 12241

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: غاب أبو سن ولعب أبو ضنب مقال لسمؤال أبو سن رداً علي مصطفي البطل (Re: زهير الزناتي)

                  


[رد على الموضوع] صفحة 2 „‰ 2:   <<  1 2  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de