|
Re: ناس الفيس بوك - وداعة الثعابين (Re: محمد إبراهيم علي)
|
. وداعة الثعابين
د. محمد المخزنجي
منذ تعرّفت على الثعابين وأنا أتعجّب للبشر. فعندما أخذني أبي, وأنا طفل, إلى حديقة الحيوان, لم يثر دهشتي شيء مثل الثعابين في بيت الزواحف. تشبث بذهني سؤال مشدوه عن تعايش الأفاعي معاً في تلك الأقفاص الزجاجية, ولماذا لا يلدغ بعضها بعضاً, ومعظمها مزوّد بأنياب سامة?! لازمني السؤال سنوات عدة حتى شغفت بعلم الإثولوجي الذي يدرس سلوك الحيوان, ووجدت إجابة عن سؤالي القديم في حقيقة عامة لا تكاد تشوبها إلا استثناءات شاذة قليلة, وهذه الحقيقة تقول إن الحيوانات من النوع الواحد لا تقتل بني جنسها. حتى عندما تتصارع بسبب الطعام أو مناطق النفوذ أو منافسات التناسل, لا تقتل, بل ينتهي تصارعها بحركات رمزية تعلن عن انسحاب الضعيف منها أمام القوي, ولو إلى حين, فالذئب المستسلم يتدحرج على ظهره والقرد المغلوب يشيح بنظره بعيداً, وعلى الفور يتوقف المهاجم, فماذا عن الثعابين? إنها ترقص! ففي المكسيك التي يهوى أهلها مصارعة الثعابين, يدفعون ثعابينهم لتتواجه, وتبرق هجمات خاطفة من التراشق بالرءوس الصغيرة, لكنها لا تنتهي أبداً باللدغ القاتل, فعندما يزن كل ثعبان قوة خصمه, يرقص الأضعف رقصة يحرص خلالها على كشف بطنه لغريمه, يتجاوب معها الغريم بالرقص, فيهبط المغلوب ويزحف متراجعا إلى الخلف. صرت أحترم الثعابين وإن ظل خوفي منها قائماً, وحتى أحسم هذه الازدواجية سارعت باقتناص فرصة سنحت لي في تايلاند, زرت مزرعة للزواحف تتيح للزائر ملامسة آمنة للثعابين, ولن أنسى - بعد قشعريرة اللمسات الأولى - ذلك التمسيد الرائع لانسياب جسم أفعى من نوع (البوا) العملاقة حملتها على كتفي وبين ذراعي لعشر دقائق كاملة. وستظل قصة الكاتب (وليم سارويان) التي تتغزّل بثعبان يتدفأ على عشب الحديقة بأشعة شمس وانية في نهار شتوي من أحب القصص العالمي إلى نفسي. الثعابين لا تقتل بني جنسها كما معظم المخلوقات, أما الإنسان فهو قاتل لبني جنسه بامتياز, وإذا كانت مواجهات الخصوم المسلحين تمنطق القتل بمقولة إنني إن لم أفعل لقتلتني, فما الذي يبرر قتل المدنيين العزل من قبل المدججين بالسلاح?! سواء كان هذا السلاح فئوس المسعورين في مذابح القرويين والرعاة التي لم تستثن حتى الرضع في الجزائر?! أو طائرات الموت التي ضربت برجي مركز التجارة في نيويورك?! مروراً بصواريخ ودبابات الجيش الإسرائيلي التي لا تكف عن تلطيخ وجه البشرية كلها بعمليات إبادة للفلسطينيين بتواطؤ مشهود ومنحط ممن يدعون التحضّر في عالمنا?! وانتهاء - حتى لحظة كتابة هذه السطور - بالقاذفات الاستراتيجية التي تدفن الأطفال أحياء في تراب أفغانستان?! وميكروبات الجمرة التي يوزعها خفاش دمـوي مختبئ في الظلمة?!
إنها وجوه متعددة لشيطان بشري واحد, لابد أنه ينفي عـن ضــــحاياه صـــفة البشرية ليبيح لنفسه دماءهم, وهو نفي يحط بمصطنعيه - أيّاً كانت ذرائعهم - إلى مرتبة الجحود بقدرة الخـــلق التـــي سوّت البشر بشراً. فهل أكون مخطئاً باحترامي للثعابين, واعتزازي بحمل (البوا) على كتفي, وتوقي لمشاهدة مصــارعة الأفاعي... في المكسيك؟
.
| |
|
|
|
|