أعلام و أماكن صور نادرة (3)

Quote: كتب د.محمد المهدي بشرى في ذكرى أربعينيته( حتيكابي .. أخر الأنجم الزواهر) مساء الخامس من يناير توقف عن الخفقان قلب آخر أنجم البراري الزواهر: حتيكابي .. تلك الأنجم التي أضاءت سماء البراري وكالشهب سرعان ما انطفأ بريقها . صناع الحياة مضوا في دروب الموت ، أبو زيد موسى، مولانا حسن البداني، عبيد أحمد ، ومصطفى أحمد الشيخ و أولاد عبد الوهاب، عبد الرحيم وأحمد ومحمد خلف الله، يوسف حمد ، وفاطمة النقر ، وسكينة عالم وإبراهيم عالم وإبراهيم مضوي وكمال محمد إبراهيم .. ذهبوا جميعاً إلى رحاب الله ، والآن يلحق بهم في الرفيق الأعلى فتى الفتيان، واحد من أعز فلذات البراري، هذه المرة باغته الموت الذي ظل يتربص به طوال عمره، كان دائماً يقهر المرض بإرادة لا تلين، ظل بمصر قرابة العام يصارع المرض ونال المرض من جسمه الناحل ، وخرج من محنة المرض أكثر إيماناً بخالقه الذي ابتلاه بالمرض ، لكن هذه المرة نفذ القضاء وفي لمح البصر سرق الموت أخلص أبناء بري المحس وأنبلهم وأصدقهم محبة ووداداً..أحب المحس وأحب بري ، أحب شجرها وبشرها ونيلها ، بري المحس بكل روعتها ، جنجة وجربان وحسبو مرحوم لاعب فذ ، قل أن تجود الملاعب بمثله ، إبراهيم كبير لعب في الفريق القومي ولما يبلغ السادسة عشرة من عمره ، وعبد الله لوفتى عندما قفز ليضرب الكرة برأسه كان يشاهد أولاد الهاشماب يلعبون الدافوري في الحارة ، وأحمد قنديل يا ساعي البريد حملتك رسالة للسافر بعيد سافر يبني نفسه زي كل الشباب و " يا جميل سلم " و " تجرحني ليه وأنا كلي جراح " كان أحمد قنديل قد سبق الجميع بالأوكسترا التي تصاحبه بالعزف ، خمسة عشر عازفاً ، جميعهم يرتدون زياً واحداً ، قميص أحمر كبدي وبنطلون أسود ، تضم الفرقة أمهر العازفين ،وكلهم اولاد البرارى نور الدين مسمار يحتضن الكمان ، كما تحضن الأم وليدها ، عبد الله قلندر عازف الأكورديون ، أبو زيد والسر كردي يعزفان الإيقاع بأنامل ذهبية ، ثم السر دبور والطيب عبد الرحمن ، تخرج الفرقة الموسيقية فيأخذ كل عازف موقعه ، تماماً كما يفعل عازفو أكبر الفرق الأوربية ، تبدأ الأوركسترا وصلتها ، ربما الوسيم لأحمد المصطفى ، يدخل نور الدين في صولو ، وسط هتاف الحضور يدخل قنديل ( أو قندلة) ، يبدأ الغناء وعندما يستبد به الطرب يتلاعب بالعود، يضعه خلف ظهره تارة وتارة على كتفه، ولا يستطيع الحضور صبراً فيصرخ الجميع إعجاباً ، وكان عبيد أحمد يغني ما شقيتك إنت الشقيتني ، وفي جانب آخر يصدح عبد المجيد فرانسيس يصوته الجميل أروع أغنيات الشفيع. أسد البراري يوقف زحف الهلال .. أسد البراري يصل نهائي كأس السودان ضد أهلي مدني ، خرجت مدني عن بكرة أبيها تشجع فريقها لكن الأسد يذيق الأهلي مرارة الهزيمة وسط جمهوره ، صلاح أبو شليخ وبكري بخيت وعمر خواجة وقسم السيد (ترانسيستور) وحسبو الصغير وعبد الكافي ، لم يكن ذاك أسد البراري بل كان رويال مدريد أو مانشستر يونايتد، بكت جماهير الأسد التي رافقت فريقها ، يرقص الجميع فرحاً في وسط استاد مدني يتقدمهم الأمين البدراوي والحاج المشرف والنور مرحوم وحتيكابي وعمر الهادي وصالح النجعموري وكل الذين نذروا انفسهم لحب البراري . كانت البراري تضج بالحياة ، وكان حتيكابي حتى آخر أنفاسه عاشقاً متيماً للبراري ، ونذر عمره لأهلها . كان حتيكابي موسوعة تمشي على قدمين ، صحافي وقاص ومسرحي ومؤرخ ونسابة ومناضل جسور، وفوق كل هذا شخص ودود لا يملك المرء إلا أن يحبه، فقد عاش بسيطاً لا يحمل من حطام الدنيا سوى قلمه ومحبة لا محدودة للجميع ، قلبه الكبير يمتلئ بالأحلام ، وكان ذهنه الوقاد يتفتق عن الكثير من المشاريع ، في نهاية الخمسينيات أصدر مجلة كل الفنون ، وكان هو صاحب امتيازها ورئيس التحرير ، اما مدير التحرير فهو عبد الرحمن حمزة علي وسكرتير التحرير عبد الرحمن بلاص ، وقد صدر العدد الأول منها في فبراير 1959. خاطب رئيس التحرير القراء في كلمة التحرير في العدد الأول قائلاً " نضع بين أيديكم الآن أول عدد من مجلة " كل الفنون" لقد ظلت بلادنا تفتقد حتى الأمس المنبر الحي المستقل والمعبر عن دنيا الفنون والثقافة والرياضة وهي قوى عظيمة ذات أثر فعال في تطوير حياة الأمم والشعوب ، فعزمنا بمشيئة الله أن نسد هذا النقص ونلج هذا الميدان الجديد يحدونا الأمل .." ومن أسف فإن المجلة لم تعمر طويلاً ، صدرت منها أعداد لا تتجاوز أصابع اليدين، لكن حتيكابي ظل يمسك قلمه ولم يتراجع عن أحلامه وأشواقه العظيمة. ظل يواصل الكتابة في الصحف السيارة وكان يكتب في الصراحة والميدان والسودان الجديد وغيرها ، وكان حبه الأول للفنون خاصة السينما ، وكان يحكي بكل فخر وسعادة أنه من السودانيين القلائل الذين رأوا الممثل العالمي شارلي شابلن رؤية العين ، حدث ذلك في خمسينيات القرن الماضي ، كانت الطائرة التي تحمل شارلي شابلن وريتا هيوارت وزوجها ألاغا خان قد توقفت في مطار وادي سيدنا ، كان الشاب حتيكابي ينظر بكل إعجاب إلى بطله المحبوب وريتا هيوارت التي خلبت قلوب الملايين. وحتيكابي عصامي وذو إرادة حديدية ، فقد التحق بكلية الآداب – جامعة الخرطوم وهويقارب الستين، بعد أن تخرج منها إبنه البكر ، وتخرج حتيكابي فيها بنجاح كبير ، وبالطبع تخصص في علمه الأثير : التاريخ ، وقد أفاده هذا التخصص في تتبع الأنساب وتوثيقها . كان حتيكابي يسابق الزمن في تحقيق الأحلام التي امتلأ بها وجدانه ، كان كثير الحديث عن الإعداد لحفل يقام في هذا العام بمناسبة مرور ثمانين عاماً على إنشاء فريق بري الرياضي ، وكان كذلك يحلم بالإعداد لحفل كبير احتفاءً بمرور مائة عام على نقل بري المحس من موقعها على النيل الى موقعها الحالي، لكن الموت كان أسرع. حقا ًمات حتيكابي ولم يمهله الموت لتحقيق احلامه العظيمة ، ولايجد المرء أبلغ مما قاله التجاني يوسف بشير في رثاء جد حتيكابي، أبي القاسم أحمد هاشم يا ذماء من الفضيلة كل النبـل في سره وفي أحشائه غاض في نبعه الرجاء وجف الأمل الحلو في قرارة مائه وانطوى خافق أغر من الفكـر عزيز على بعد انطوائه عوجلت أمة عليه وفي أنفسنا حاجة إلى استبقائـــــــه فاجهشي للبكاء أيتها الأنفــاس أو أجملي على لأوائـه وتعالي نستلهم الموت ما يرفــع عن لغزه سميك غطائه