أين يجلس حزب الأمة الآن???

نعى اليم ...... سودانيز اون لاين دوت كم تحتسب الزميل فتحي البحيري فى رحمه الله
وداعاً فتحي البحيري
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-27-2024, 09:27 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الأول للعام 2007م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
03-02-2007, 04:59 PM

الجيلى أحمد
<aالجيلى أحمد
تاريخ التسجيل: 03-27-2006
مجموع المشاركات: 3236

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? (Re: الجيلى أحمد)

    (4)

    Quote: أيضاً لا ينبغي أن يُشكل هذا الأمر أي مفاجأة, فالسيِّدان تصالحا مع نفسيهما وواقعهما.. فمن المؤكد أن النظام الديمقراطي -بغضِّ النظر عن المناورات الحزبية- إن لم يكن متقاطعاً مع البنية الطائفية التي يستند عليها الكيانان, فهو يأتي خصماً عليهما، بما يمكن أن يشعُّه من تنوير وتطوير سياسيٍ وثقافي وفكري, في حياة الفرد خاصة، والمُجتمع بصفة عامة.. غير أن المُهم، أن الحدث الذي مَزَجَ ”القداسة“ بـ”السياسة“ كرَّس الظاهرة، التي أصبحت وبالاً على السُودان وأهله.


    Quote: في إطار صراع الكواليس، هدف الترابي من وراء كل ذلك، إلى تأكيد زعامته للحاكمين بأنه ”المُخلِّص“ الذي يُمكنُ الاعتماد عليه في المُلمَّات, ونظراً لأن الآخرين لا تتعدَّى علاقاتهم الحُدود الجغرافية للسُودان, فقد اختار ميداناً لا يستطيع أي أحدٍ مِمَّن يُمكنُ أن تسوِّل له نفسه منازعته الزعامة, منافسته فيه.. وبعد اختياره أميناً عاماً للتنظيم الجديد, أراد الترابي تسجيل نقطة إضافية تعزِّز وجوده، على مستوى السلطة، ومستوى التنظيم, فاختار ميداناً آخر، كان يُمثل مُعضلة حقيقية للحركة الإسلامية العالمية, فاختار أفغانستان، لأن المُتعاركين فيها ”إخوة برباط العقيدة“, فغادرَ إلى بيشاور منتصف يوليو/تموز1991، للتوسُّط بين ”المجاهدين“ الأفغان, وإيقاف بحور الدم المُنهمرة من كل الأطراف.. وفي هذه الزيارة، التقى للمرة الأولى أسامة بن لادن، وآخرين من المتطرِّفين الإسلاميين, ودعاهم لزيارة السودان ”ضيوفاً مُقيمين“, وقد لاقت الدعوة هوىً في نفوسهم، فلبُّوها مُهْطِعين.

    كذلك استخدم الترابي علاقاته في تأسيس علاقة خاصة وداعمة، بين طهران والخرطوم.. وقبل أن يطوي العام آخر أيامه، كان الرئيسُ الإيراني هاشمي رافسنجاني قد حلَّ زائراً السُودان في 13/12/1991، على رأس وفد ضخم، مُكوَّن من 157 شخصاً بينهم أكثر من 80 ضابطاً في الجيش والاستخبارات, قضوا ثلاثة أيام في الخرطوم, وتوطدت العلاقة بمشاريع مُختلفة ومُتعدِّدة، بعضها أثار جدلاً.. وكانت تلك الزيارة مدعاة للمُجتمع الدولي بوضع العلاقة في عين العاصفة, حتى أصبح التحلحُل منها صعباً ومكلِّفاً فيما بعد.

    • ثانياً: أما التطوُّر الثاني، الذي استمر الترابي خلاله في إرسال إشاراته لزمرة الكواليس, فقد تمثل في التحوُّلات الدراماتيكية التي حدثت في منطقة القرن الأفريقي، مُستهل العام 1991, إذ انهار نظام سِياد برِّي في الصومال في فبراير/شباط1991, الأمر الذي أغرى التنظيم الجديد، ”المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي“، الذي يقفُ على رأسِه الترابي، بدخول ”المستنقع“ الصُومالي، بغرض تصدير الأصوليَّة الدينيَّة, مُستنداً إلى مُكوِّنات المُجتمع الصومالي في توافر العناصر الروحيَّة العقائدية.. وهو القطر العربي الأفريقي الوحيد الذي يدينُ جميع سكَّانه بالإسلام، على هدى مذهبٍ واحد، هو المذهبُ الشافعي.. كذلك انهار نظام مَنغِستو هيلاماريام في إثيوبيا في مايو/أيار1991, حيث تتوافرُ ذات العناصر، وإن بدرجة نسبيَّة، إذ يُقدَّر عدد المُسلمين فيها بأكثر من 65% من جملة السكان، الذين يناهزون الستين مليوناً, إلاَّ أن الإحصاء الرسمي يُقلِّلُ من تلك النسبة.. ثم برزت أيضاً إريتريا كدولة وليدة في المنطقة، بعد تحرُّرِها من إثيوبيا في مايو/أيار 1991، وكذا تشيرُ الإحصاءات الرسمية فيها إلى أن شُعُوبها تتناصفُ الإسلام والمسيحيَّة. ومِمَّا يجدُر ذِكرُه، أن الجبهة الإسلامية، وتحديداً زعيمها الترابي، كانت له علاقاتٌ وطيدة ومُبكِّرة مع قادة النظامين الجديدين ”الجبهة الديمقراطية لشعوب إثيوبيا“ في أديس أبابا، و”الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا“ في أسمرا, وذلك أثناء حقبة الديمقراطية الثالثة في السُودان, وقد أسقطت تلك العلاقة الخلفيَّة الماركسية للجبهتين معاً, وتوطدت أكثر بعد استلام الجبهة الإسلامية مقاليد السُلطة, وقبيل وصول الجبهتين لسُدة الحكم, وذلك من خلال تقديم دعم عسكري ولوجستي لهُما، كان له أثره الفاعل في المساعدة على سُقوط نظام مَنغِستو.. ومن جهة أخرى، كانت التحوُّلات في إثيوبيا قد أصابت الحركة الشعبية لتحرير السودان في مقتل, وتغيَّرت تبعاً لذلك استراتيجية النظام نحو جنوب السُودان, من ”مزاج“ التهيؤ والاستعداد، والعمل على فصله, إلى كيانٍ يُمكن إخضاعه - تبعا لتلك التحوُّلات- بالقوة العسكريَّة, وأسلمَته ليُصبِح جسراً أمام التمدُّد الأصولي نحو قلب القارة الأفريقيَّة. وعموماً، نظر التنظيمُ الجديد لكل تلك التحوُّلات باعتبارها ساحة للتحرُّك في أوساط نحو خمسين مليون مُسلم في منطقة القرن الأفريقي, ولم يستصعب الغاية, حتى وإن طال السفر.

    مضى الترابي في توجيه رسائله المُباشرة وغير المُباشرة لعدّة أطراف, أهمُّها جماعة ”صراع الكواليس“.. واختار في الخطوة التالية هدفاً توخى فيه تأكيد ”عالَميَّته“, فذهب إلى واشنطن لمُحاورة القطب الذي أصبح متسيِّداً الشأن الدولي، فيما سُمِّي بـ”النظام العالمي الجديد“.. أعدَّ له مجلس النوَّاب الأمريكي ”الكونجرس“ جلسة استماع في مايو/أيار 1992 لمُحاورته, ورغم الاتهامات التي انهالت عليه، وكانت دفوعاته حولها ضعيفة, إلاَّ أن الترابي، بميكافيليته المعهودة، كان سعيداً بالمُناسبة، والتي كانت بزعمه - وفق وقائع محضر الجلسة- رسالة لمن يهُمُّه الأمر. ويذكر أن الادارة الامريكية كانت قلقة بشأن علاقة النظام بدوائر ارهابيه, لكنها لا تملك دليلاً كافياً, وفق ما أكده سفيرها حينذاك في الخرطوم «الحكومة السودانية كانت تنكر علاقتها بالارهاب, وكنت أردد أن واشنطن لديها أدلة, وسئلت عن أدلة للأسف لم تملكني واشنطن معلومة أستطيع أن أطلق بها يدي وأضغط على الحكومة, مع أنني كنت على يقين بأن هناك علاقة مع بعض الاطراف في الحكومة ومنظمات, مثل حماس وحزب الله والجماعة الاسلامية وحركة الجهاد الاسلامية لتحرير فلسطين».

    لم يكن ختامُ تلك الزيارة مِسكاً بالنسبة له, إذ تعرَّض لاعتداء من مُواطن سُوداني مُقيم في كندا ”هاشم بدرالدين“, وبمنطق الغرائز الإنسانية، لم يكن غريباً أن يستدعي الحادث شماتة بعض المُعارضين.. إلاَّ أن الغريب في الأمر حقاً أن بعض جماعة ”المنظومة“ رأت أن الأقدار وفَّرت لها فرصة في استثمار مأساويَّة الحدث، وتجييره لمصالحها, وذلك بالاستمرار في ترتيب شئون الحكم، إبان الفترة التي قضاها مُستشفياً.. ولاحقاً، زلَّ لسانُ أحدهم، وأفصح عن تلك المشاعر السالبة، بالتشكيك في قواهُ العقلية.

    خلال هذا وذاك, كان الصراعُ -أو الترابي نفسه- قد دفع السُلطة للكشف تماماً عن وجهها الثيوقراطي, وشرعت في تطبيق برنامج الجبهة الإسلاميَّة، وتنزيله على أرض الواقع, باستخدام الشعارات البرَّاقة، دون مضمونٍ حقيقي, واستعمال الخطاب الديني بكثافة, وتفسير غير المألوف للناس في مناحي حيواتهم المُختلفة.. بفقه الضرورة حيناً, وبشيء من الديماجوجية أحياناً أُخَر.. وفي هذا الصدد، فقد أدهش الفريق عمر البشير زميلة صحفية، سألته عن ظاهرة حظر التجوُّل التي امتدَّت لأكثر من ثلاث سنوات من عمر النظام، فقال لها:
    = حظر التجول رغبة مفروضة علينا من الشعب, فقد وجد الشعب الاستقرار الأسري فيه, فالأبناء والأزواج يعودون إلى بيوتهم باكراً، وعندما جئنا إلى الحكم، كان هناك فراغٌ أمني في الخرطوم, نلاحظ كيف كان الناس يضعون السلك الشائك حول بيوتهم، لحماية أنفسهم من زوَّار الليل ”الحرامية“، وحظر التجوُّل جعل الناس مُطمئنين، ينامون الليل إلى الصبح، بلا إزعاج الحرامية.
    • هل تتكلم بجدية سيادة الرئيس؟
    = أنا أتكلم جدي, وأنا أطلب منك أن تأتي إلى السودان وتتجولي في الشارع السُوداني لاستفتاء الناس في شأن حظر التجول, فإذا لم يكن هو رغبة شعبية، خصوصاً من العنصر النسائي, فنحنُ نلغيه في اليوم التالي.
    • لا يمكن أن أتصوَّر أن أي شعب يريد أن يفرض على نفسه حظر التجوُّل, هذا كلامٌ بعيد عن المنطق؟
    = تعالي الخرطوم إذن.. أطلبُ منك أن تأتي إلى الخرطوم وتستفتي الشعب السُوداني، خصوصاً العنصر النسائي مثلك, إن كان يريد رفع حظر التجوُّل أم لا. نحن متأكدون أن أكثر قرار سيكون غير مقبول لدى الشعب السُوداني هو رفع حظر التجول.

    الغريب أن الرئيس الذي حاكى باستلامه السُلطة الذين عناهم بتسوُّر حيطان المنازل ليلاً، كان يُدلي بآرائه تلك في ردهات الهيئة الأمَمِيَّة في قلب مدينة نيويورك, والتي واحدة مِن مهام تأسيسها، رعاية حقوق الإنسان في العالم.

    غير أنه لم يكُن وحده آنذاك، فقد تواصل مُسلسلُ الدهشة.. ففي المجال الاقتصادي، شاء آخرون إحياء عظام ”ماري أنطوانيت“ وهي رميمٌ.. فردَّاً على سؤالٍ عن الغرض من الإجراءات الماليَّة التي أثارت سُخط المُواطنين، قال أحدهُم: «إن المُواطن العادي في قمة السعادة من تلك الإجراءات, وكلُّ ما يُشاعُ في هذا الصدد من حديثِ الأغنياء».. وجاراهُ ثانٍ: «الشعبُ السُوداني يتفهَّم تماماً ما حدث ويحدُث، وأعرفُ أن المُواطن السُوداني الذي يحصلُ على ثلاث وجبات، يُحاوِلُ توفير واحدة منها للدفاع عن البلاد».. وبزَّهُم ثالثٌ: «إنهم في الخارج يتساءلون، لماذا التزم السودانيون الهدوء, رغم المُعاناة والضيق، وارتفاع تكاليف المعيشة، ولم يتضجَّروا أو يندفعوا في المُظاهرات كما هو حالهم كلما أرادوا التعبير عن السُخط والغضب, وقد قال لي نقابيٌ قديم، إن السبب وراء هذه الظاهرة هو الاقتناع بطهارة الحكم».. ثم زاد: «إن السُودانيِّين لا يثورون بسبب الفقر أو عدم مقدرتهم على شراء اللحوم, ولكن يحدُث ذلك إذا حدث الفساد والانحراف، أو إذا أُهينوا في تفسير صمتهم, والشعب السُوداني يمنحُ فرصته للجديَّة، ونظامُ الإنقاذ يلمسُ الأوتار النفسيَّة، ويضعُ يده على مزاج وقناعات الشخصيَّة السُودانيَّة».. ثم ضربَ مثلاً بمدينة ”ثائرة“ من مُدُن السُودان: «فمدينة عطبرة، وهي عاصمة العمَّال في السودان، ظلت تاريخياً تتحرَّك وتتمرَّد ضد أقل القرارات تأثيراً على حياتها. الآن بلغ سعر كيلو اللحم خمسمائة جنية, ومع ذلك فإن الحياة في المدينة تمضي طبيعيَّة». وختم آخرٌ بمدحٍ في مكان ذم: «لا أعتقدُ أن الشعب السُوداني مُغفل أو ضعيف إلى درجة تأييد هذه الحكومة قهراً وقمعاً على مدى10 سنوات».. على الرغم من أن الأخير هذا ناقض حديثه بعد أقل من عامين, إثر تجرُّعه من الكأس نفسها، المرارة التي أذاقتها الإنقاذ للذين فسَّر المذكور صمتهم بالرضى, فأصبح يدعوهم جهراً للإطاحة بالنظام؟!

    مع ذلك، فإن النماذج سالفة الذكر، مع ملاحظة أن جميعها نشِرَت خارج السُودان في ظلِّ تشدُّد السُلطة بعدم دخول أي مطبوعة للبلاد, تشحذ الأذهان للتأمُّل في ظاهرة استطالة سنوات الإنقاذ, رغم الواقع الذي يدحضُ كلَّ حرف نطق به المذكورون أعلاه.

    كانت الأزمة الاقتصادية كلما اشتدت، وزادت ضيقاً ومعاناة على المُواطنين, عصَبَت السُلطة بطونهم بخطابٍ وشعارات لا تغني ولا تسمِن ولا تشبِعُ مِن جوعٍ، مثال: «لقد حدَّدنا أهدافنا ومبادئنا, فإذا كان الهدف هو الإسلام، حسب إيماننا، فإن ما نطبقه الآن في السُودان هو أمرٌ من ربَنا سُبحانه وتعالى, فلا يمكن لنا أن نحاول أن نُرضي البشر لنُغضِبَ الله سُبحانه وتعالي, مهما كان الأمر».. وقوله أيضاً: «الاقتصاد يُعاني اليوم لأننا حمَّلناه فاتورة الشريعة, وهل كان الناس يتوقعون منا أن نبيع ديننا بدراهم معدودات».

    ظلَّت ألسُن مبعوثي العناية الإلهيَّة لأهل السُودان ترسِلُ مثل هذه ”الصواعق“ الشعاراتيَّة, في حين أن المُخاطبين يعلمون بأنهم جُبِلوا على دين الإسلام بالفِطرة.. يبدأون يومهُم بالبَسمَلة، ويختمونه بالحوقلة, وهم ثاني ثلاثة في الأمَّة الإسلاميَّة جمعاء مِمَّن اعتادوا الصلاة على المُصطفى ”صلعم“ كلَّما خرجت مِن جوفهم زفرة حرَّى، تدهمهم حينما يسمعون مثل ذلك اللغو مِن الحديث.. ولم يدَّع أحدٌ منهم أنه أراد أن يبيع دينه بدراهم، كثرُت أو قلَّت, وإنما قالوا: نريدُ نظاماً يكفلُ لنا حريَّاتنا الأساسيَّة.. يُطعِمُنا مِن جوعٍ, ويسقينا مِن ظمأ, ويؤمِّننا مِن خوفٍ.

    خطابُ التعمية شمِلَ أيضاً المجال السياسي، فعندما تسألُ السُلطة عن مُصادرتها الحريَّات العامة, تلجأ الطغمة الحاكمة إلى فقه المقارنات البائس.. فردَّاً على سؤالٍ حول ما إذا كان النظام يقبل بالتعدُّدية، ومُشاركة المُعارضة في الحكومة، يكون الرد: «لماذا تتحدَّثين عن التعدُّدية في السُودان وحدَهُ, وأين التعدُّدية في العالم العربي؟؟».. أي أن افتراض غيابها في العالم المذكور، يُبرِّر غيابها عن السُودان.. وأحياناً يأتي المُبرِّر نفسه -بعد عولمته- بمنطق الوصاية, علماً بأن قائله كان يومذاك في قمَّة مجده الشخصي، قبل أن ينقلب عليه حواريِّوه: «إن الذي يحدُثُ عندنا باسم التعدديَّة، أو الديمقراطية الغربية, هو أقربُ إلى السُلطة الديماجوجية، أو الغوغائية, التي تقود حفنة من الأفراد والبيوتات إلى السُلطة بدون مُمارسة الشورى الحقيقيَّة, لا في داخل الحزب نفسه، ولا في داخل القطر عامة».. والمُفارقة، أنه حتى بعدما انقلبوا عليه، لم تحُل المِحنة عُقدة من لسانه، ليقول للملأ إن المُغامرة العسكرية المؤدلجة صادرَت حق الشعب في خياراته السياسية الطبيعية.

    استكمالاً للدائرة، فقد طالت مُمارساتُ الإنقاذ قطاعات أخرى, الأمر الذي استنفر أحد الكتاب السياسيِّين، فكتب مُستنهضاً هِمم المُتقاعسين، لجعل مُمارسات السُلطة فيما أسماه بـ”أم الكبائر“، منطلقاً للإطاحة بها: «إنني أرى أن النظام الأصولي العسكري أبشعُ نظام حكم في البلاد منذ أن تكوَّن السُودان -بشكلٍ عام- على يد محمد علي باشا القرن الماضي, ومن أعظم الكبائر في سِجلِّ النظام، مُعاداته للآداب والفنون والفكر, ولهذا ينبغي تنسيق كل الطاقات لإطاحة الديكتاتورية، ووضع حدٍ للتدمير الذي تمارسه على جميع الأصعدة».. بالرغم من أن الداعي لم يمضِ شخصياً – بقلمه- في ذات الطريق، للوصول بالدعوة إلى نهاياتها المنطقية.

    بَيْدَ أنَّ هذه المُمارسات طارت شظاياها، وأصابت آخرين, وكان لها انعكاساتها على مستوى الإقليم, ويبدو أنها -رغم سلبيتها- كانت بمثابة بروباجاندا ”دعاية“ لصالح الترابي، في صراعاته الخفية.. فقد جاء أول اتهام من بلد نَمذَجَت الجبهة الإسلاميَّة تجربته، واعتبرتها إحدى منطلقاتها في الانقلاب.. فبعد سلسلة مُظاهراتٍ واضطرابات شهدتها العاصمة الجزائرية, صرَّح مسؤولون لوكالة الأنباء الرسمية بتاريخ 31/5/1991: «بتورُّط نظام الجبهة الإسلامية السُودانيَّة في الشئون الداخلية لبلادهم».. ثم أعقبتها تونس على لسان رئيسها، زين العابدين بن علي، في الليموند الفرنسية بتاريخ 12/7/1991, بنفس الاتهام، إلى أن سحبت سفيرها من الخرطوم في 15/10/1991, حيث كان ”راشد الغنوشي“ زعيم ”حركة النهضة“ من بين المشاركين في فعاليات المؤتمر الشعبي الإسلامي, وبموجب توجيهاتٍ من الترابي، مُنِحَ جواز سَفَرٍ سوداني ”دبلوماسي“ في مايو/أيار 1991!! وعندما قامت السُلطات التونسيَّة بنشر نسخة مُصوَّرة منه, اعترف الترابي في تصريحاتٍ صحافية بتاريخ 18/10/1991، وقال: «إن ذلك جزءٌ من التقاليد السُودانيَّة في مُساعدة اللاجئين».. وتلاهُما الرئيس المِصري حُسني مُبارَك في الحياة 16/7/1991, بشيء مِن السُخرية: «البشير راجل طيِّب وأمير، بس الثاني اللي بيلعب مِن الخلف، ونحن فاهمين»، وأضاف: «الترابي هو الذي يعمل المشاكل، وفاهم بأنه سينشر مبادئه الهدَّامة في كل منطقة من العالم, ويلعب على دول المغرب العربي».. ثم مؤكداً في موقع إعلامي آخر بأنه يملكُ: «أدلَّة دامغة على تورُّط نظام الجبهة في أحداث الجزائر».

    الذين تسابقوا في تأكيدات تورُّط النظام، والترابي بصفة خاصة, لو كانوا يعلمون صراع الكواليس، لأدركوا أن الرجُل حينها كان سيسعَدُ بالمزيد، حتى لو كالوا له أطناناً منه.. وكان حينما يقول: «لا دور لي في إدارة الحكم, ولكن بالضرورة لي دور فكري عام»، فإن تلك من الرسائل المعنيَّة بها ”زُمرة الكواليس“, وبعضهُم يقرؤها جيداً، أكثر من أصحاب القرار في دول الإقليم، التي استهدفتها طموحاته, وليس المشروع كما تخيَّلوا.. وبعد تأكيد الترابي زعامته مُجدَّداً، كان بعضُ أفراد ”الزمرة“ نفسها قد استكان, وبعضُها الآخر رضخ لمشيئته وزعامته, فأصبحت ”المنشية“ مَحَجًّاً لكل رجالات الدولة, بعد أن صارت القراراتُ، صغيرها وكبيرها، يُصدِرُها ”الشيخ الدكتور“ مِن دارِه تلك، دون قرطاسٍ، أو قلمٍ يُدمي بنانه.

    غير أن للشفاهة تفسيراً آخر في مُمارسات ”الشيخ الدكتور“, فالمُتربِّصون به تورَّطوا في انتهاكات جنائية متعدِّدة على المستوى الداخلي (التعذيب, التصفيات الجسدية, الإعدامات) وأيضاً على المستوى الخارجي لاحقاً.. وقد اكتفى في جميعها بحُدود العِلم، عِلماً بأنَّ حُدود العِلم هي أيضاً نوعٌ من التواطؤ، أو المشاركة النسبيَّة في المسؤولية.. لم يكن ذلك اجتناباً للشرِّ، بقدر ما كان الترابي يُدرِكُ، بدهائه ومكرِه المعروفين، أن ثمَّة لحظة فاصلة يُحتملُ حدوثها.

    عاد الترابي بعد شفائه لمُمارسة دوره, في حين تضاءلت غايات ”زمرة الكواليس“, انحناءً للعاصفة، أو استسلاماً لواقعٍ أحكم الشيخُ الدكتور قبضته عليه.. غير أنه أقدم في العام 1993 على خطأ إستراتيجي في إطار الصراع, حيث أصدر مُغترَّاً ”فرماناً“ يقضي بحلِّ تنظيم الجبهة، لعدم جدواه، بعد أن أصبحت نظاماً: «سعيتُ لتوسيع دائرة الحزب كلَّما اكتشفتُ ازدياد الذين يُؤمنون بما أدعو إليه, للدرجة التي وصلتُ فيها إلى قناعة كاملة بأنَّه ليس هناك ما تسَمَّى بالجبهة القومية الإسلامية, وارتضينا على رؤوس الأشهاد أنه لو قدِّر لهذه البلاد أن تعود مرة أخرى إلى نظام أحزاب، فإنني لن أكون عضواً في حزبٍ يحمل اسم الجبهة الإسلامية، أو غيرها من الأحزاب». رغم أن ذلك قولٌ يدُلُّ على أن ذكاءه لم يُسعفه في قراءة صحائف المُستقبل قراءة صحيحة، فالأشهاد الذين خبروا ميكافيليته يعلمون أنه الآن رئيس حزب المؤتمر الشعبي.. وتبع ذلك حلُّ هيئة مجلس الشورى ”بالتجاهُل“، إلى أن غابت في زحمة الأحداث.. وبهاتين الخطوتين، يبدو أن الترابي اقتنع بأن الكرة قد استقرَّت تماماً في ملعبه, بلا رقيبٍ أو حسيب, فوجَّه أبصاره إلى ما خلف الحُدود, مُتوخياً دوراً أمَمِيَّاً، بغرورٍ شديد: «إنه نموذج سُوداني سنجرِّبه ونحسنه، ثم نهديه إلى المُسلمين, ثم بعد ذلك إلى الغرب».

    في الفصلين الثالث والخامس، سنتابع الأحداث التي أدَّت إلى بداية التصدُّع بين الترابي و”المنظومة“, إلى أن اختار كلُّ طرفٍ المُضي في طريق.








    المَشْهَدُ الثالِث: المُترَبصُون والهارِبُون

    إذن، فقد مثلت الساعة الثانية من صبيحة الجمعة 30/6/1989 حداً فاصلاً في التاريخ السياسي السُوداني الحديث, بين نظامين نقيضين.. ديمقراطية -بغض النظر عن مُمارسة قاصرة أوصلتها إلى شيخوخة مبكرة- وانقلابٌ عسكري دشَّن لنظامٍ ديكتاتوري، أخفى هويته الثيوقراطية، ولو إلى حين.

    لم يكن سيناريو الانقلاب نفسه مُرهقاً في التنفيذ, كما ذكرنا في المشهد السابق, بل ربما كان الأيسر في سلسلة ما يربو على الثلاثين انقلاباً -ناجحاً وفاشلاً- خرجت جميعها من رحم المؤسَّسة العسكرية, على مدى نصف قرنٍ منذ استقلال السُودان في العام1956.

    ولسنا بصدد إعادة تسجيل تفاصيل ما وثقناه من قبل، حول وقائع الانقلاب, وزاد عليها آخرون -مع قلتها- بتوثيقٍ مُحكم أيضاً، لكننا نستزيد هنا بتسليط الضوء على بعض المفاهيم المُلتبسة التي سيَّلت فيها الأقلام أحباراً.

    أكد كل الذين كتبوا عن هذه الفترة، أن الجبهة الإسلامية استخدمت خدعة ماكرة لتنفيذ سيناريو الانقلاب, بترويج أنه تمَّ باسم القوَّات المُسلحة، وهيئة قيادتها.. والذين يقفون عند هذا الحد في تفسير الملابسات، يُرسِّخون -من حيث لا يدرون- لخطأ أكبر, فذلك يعني لو أن الانقلاب قامت به هيئة القيادة، لأصبح عملاً محموداً ومُباركاً.. وواقع الأمر، أن كلا العملين مذموم, سواءٌ كان السيناريو الذي نجح، أو السيناريو الذي كان في مخيِّلة بعض أعضاء هيئة القيادة، وشريحة كبيرة من الضباط, أكدته المُداولات والمناخ الذي وُلدت فيه ”المُذكرة“.. وعليه، فما من منطق، أو سبب، يجعل البعض يتحسَّر على انقلاب لم يخرج من عباءة هيئة القيادة.. بحسب كونه ”انقلاب أخيار“.. مثلما لا ينبغي أن يشكل الانقلاب -الذي نجح مفاجأة للبعض- باعتبار أنه ”انقلاب أشرار“، لأن المتابعين لمسيرة تنظيم الجبهة الإسلامية يعلمون أن الأمر برمَّته يتَّسق مع أفكاره المُناهضة للديمقراطية.. وهي أفكارٌ لم تكن حبيسة الصدور, وإنما عبَّرت عن نفسها على لسان قادتها مراراً وتكراراً.

    من جهة أخرى, يُذكر أن مثل هذا الفهم المُلتبس، في تفسير الفعل ورد الفعل في الواقع السياسي السُوداني، تكرَّرت مشاهده.. فعندما ضاق صدر السيد عبدالله خليل، رئيس الوزراء خلال الحقبة الديمقراطية الأولى، وأمين عام حزب الأمة أيضاً, بالمُناورات السياسية الحزبية، قدَّم النظام الديمقراطي بأكمله -أيا كان فجوره وتقواه- قرباناً للعسكريين.. قام بكرمٍ طائي بتسليم السُلطة للفريق إبراهيم عبود، وزمرته من كبار الضباط، وعلى الفور قام السيدان عبدالرحمن المهدي، زعيم طائفة الأنصار، وعلي الميرغني زعيم طائفة الختمية, بمُباركة الانقلاب، وإضفاء الشرعية الواقعية عليه، قبل أن يضيع صوت الفريق عبود في غياهب الصمت بعد إلقائه ”البيان رقم واحد“. والمُدهش أن تجد الوقائع التاريخية المثبتة تفسيراً عند السيد الصادق المهدي, ويعزي ما حدث إلى أنه/ «نتيجة سوء تفاهم بين سكرتير حزب الأمَّة السيد عبدالله خليل ورئيسه وراعيه السيد عبدالرحمن المهدي». ويعلم السيد الصادق أن بيان الأخير، الذي سمي فيه الانقلاب بـ«يوم الخلاص»، و«الثورة المباركة»، واضحٌ لا لبس فيه.. بل إنه ناب نفسه عن العسكريين قبل أن يُباشروا مسئولياتهم، فقال: «لن يسمحوا بالتردد والفوضى والفساد والعبث في هذه البلاد».. وطلب من أبناء الأمة المكلومة أن تذهب إلى: «أعمالها في هدوء وثقة لتأييد رجال الثورة».. فأين سوء التفاهم هنا، كما تساءل كاتب قبلنا؟!

    أيضاً لا ينبغي أن يُشكل هذا الأمر أي مفاجأة, فالسيِّدان تصالحا مع نفسيهما وواقعهما.. فمن المؤكد أن النظام الديمقراطي -بغضِّ النظر عن المناورات الحزبية- إن لم يكن متقاطعاً مع البنية الطائفية التي يستند عليها الكيانان, فهو يأتي خصماً عليهما، بما يمكن أن يشعُّه من تنوير وتطوير سياسيٍ وثقافي وفكري, في حياة الفرد خاصة، والمُجتمع بصفة عامة.. غير أن المُهم، أن الحدث الذي مَزَجَ ”القداسة“ بـ”السياسة“ كرَّس الظاهرة، التي أصبحت وبالاً على السُودان وأهله.

    والغريب أن الظاهرة كرَّست بدورها للفهم الخاطئ في دور المُؤسَّسة العسكرية, التي مُنِحَت حق الوصاية على الشعب في اختياراته السياسية, إدعاء أن القوات المسلحة مناط بها حفظ الأمن، متى ما لاح انفراط عقده في الأفق.. وإعادة الاستقرار، متى ما ظهر اضطراب ركائزه على الأرض.. وهى المرجعية التي يلجأ إليها الانقلابيون، كلما تَسنى لهم الإمساك بخناق السُلطة, وقد وجدت سنداً من مُختلف القوى السياسية، بذرائع مُختلفة، مثلما ذهب في ذلك حزب الأمَّة وأمينه العام في الانقلاب الأول.. وتكرَّر المشهد في الديمقراطية الثانية, عندما شعر الحزب الشيوعي بأن الأرض أصبحت تميد تحت قدميه, وأن بعض القوى السياسية شَرَعَت في تجهيز ”حبال المسد“ لتلفها حول رقبته، رغم أنف النظام الديمقراطي، لم يجد الحزب الشيوعي حينها حرجاً في مساندة الانقلاب العسكري الثاني في 25 مايو من العام 1969، ويجد تبريراً غريباً من ناشط طليعي في الحزب، قال: «ونذكر أن ذلك تمّ والحزب محلول, ونشاطه محظور, وصحفه موقوفة, وممتلكاته مصادرة, ورغم أنف الحقيقة والتاريخ والقضاء المستقل, فما الذي كان مطلوباً منه إذن؟ يُدعى إلى الحرب ولا يُدعى إلى المنادمة».. ولعل الإجابة المُختصرة تؤكد أن تلك ”أدواء“ لا ينبغي أن يكون ”دواؤها“ انقلاباً, فذلك يعني أن الحزب استيأس، أو استصعب - سيَّان- تعبئة الجماهير، وهو الحق الطبيعي المشروع في المُمارسة السياسية, إن لم يكن لسواد عيون الحزب، فللحفاظ على مُكتسباته الديمقراطية بحدٍ أدنى.. ودوننا تجربة الحزب الرائدة في الشعار الذي طرحه في العام 1961، ”الإضراب السياسي والعصيان المدني“، والذي أنتجت تراكماته ثورة أكتوبر/تشرين الأول 1964.. والمُفارقة حقاً، أن يُؤيِّد، أو يصنع، أو يُساند الحزب انقلاب 1969، بوصفه انقلاباً تقدمياً, في حين أنه كان الاستثناء الوحيد بين القوى السياسية في مُعارضة انقلاب 1958 -بيان 17/11/1958- بوصفه انقلاباً رجعياً.

    ولأن ما بُنِي على خطأ، بالضرورة يؤدي إلى نتائج خاطئة أيضاً, فالتجربة التي حاولت أدبيات الحزب الشيوعي التحايل عليها ابتداءً, بأنها ”تهمة لا ينكرها، وشرفٌ لا يدَّعيه“.. كان الحزب قد تجرَّع سُمومها قبل الآخرين, بالانقسام التنظيمي في العام 1970، والذي انعكس سلباً على نمُوِّه وتطوُّره السياسي, وتجلَّت إفرازاته في لجوء الحزب مرة أخرى إلى ”ثأر سياسي“ عَبْرَ انقلابٍ عسكري مُضاد, تحمَّل تبعاته الثقيلة في يوليو/تموز 1971، إذ كانت حصيلته المأساوية إعدامات طالت قياداته التاريخية, نفذها نظام نميري بدمٍ بارد, فيما أسماه الحزب بـ”أسبوع الآلام“.

    في لحظةٍ تاريخيةٍ نادرة، ورغم أنها خارج الحدود, قدَّم السيد التيجاني الطيب نقداً للحزب في ما اعتبره ”أخطاء تستوجب الاعتراف“ في ثلاث قضايا, هي: موقف الحزب الشيوعي من أطروحات الحكم الذاتي قبل الاستقلال, المشاركة في المجلس المركزي لنظام عبود, وأخيراً انقلاب نميري، أو ”نظام مايو“. وراهناً، رغم التبرير السابق، كتب أحد نشطاء الحزب نقداً واعترافاً جريئاً، ودعا الآخرين لحذوهم.. «ما نقوله باستقامة كاملة، إن الحزب الشيوعي مسؤولٌ أمام الجماهير عن انقلاب 25 مايو، طالما قطاعٌ مؤثر وقوي، وجزءٌ واسعٌ من قيادته مشى في تدبير الانقلاب قبل قيامه, أو مؤازرته بعد قيامه, وكذلك دفع قطاعات واسعة جداً من جماهير الحزب الشيوعي، وجماهير النقابات المتحالفة معه في دعم هذا الانقلاب, إذن الحزب الشيوعي مسؤولٌ أخلاقياً وسياسياً, وندعو أي ”زول“ مسؤول في الحركة السياسية عن انقلاب عسكري أن يعترف بذلك دون تبرير».. ويضيف أيضاً: «19 يوليو أيضاً مسؤولٌ عنها الحزب الشيوعي سياسياً وأخلاقياً». وقد دعا السيد الصادق المهدي في ورقة له إلى: «ضرورة فتح ملف الانقلابات في السودان».

    كان ينبغي أن تكون هذه التجارب مصدر عظَة واعتبار للآخرين.. لكن المُفارقة، أن الجبهة الإسلامية، بعدما سارت في الطريق نفسه بانقلاب 1989، عَمَدَت إلى إخفاء هويتها الثيوقراطية في البداية، بدعوى استفادتها من ”تكنيك“ فشل انقلاب يوليو/تموز 1971، الذي أسفر عن واجهته الشيوعية بصورة صارخة, وهي ذريعة كان يفترض أن تكون مدعاة لعدم تنفيذ الانقلاب، لا العكس, لأن مضمونها يعني أن التكوين النفسي والسياسي للشعب السُوداني لا ينسجم مع المُطلق في الأيديولوجيات، سواءٌ كانت يميناً أو يساراً.

    ثم تأتي مُفارقة أخرى على الشعب اليتيم، الذي تعَلَّم الانقلابيون ”الحلاقة“ في رؤوس أبنائه.. فبعد أن دانت السُلطة لطغمة ”الإنقاذ“ بعد الانقلاب, أصدروا قراراً ”وطنيا“، أطلَقوا بموجبه سراح أربعة من رموز النظام المايوي, كانوا قد حُوكِموا بالسجن في الفترة الانتقالية, وفسَّر الفريق عمر البشير الأمر بقوله: «نحن اتخذنا القانون كمُبرِّر لإطلاق سراح هؤلاء.. وأصدرنا قراراً في حق كل من حُوكِم بسبب خرق المادة 96 من قانون العقوبات (إعلان الحرب على الدولة) أو المادة 21 الخاصة بالتمرد.. هذا تسقط عنه الإدانة.. لأننا نحن بتحرُّكنا خرقنا هاتين المادتين.. فمن هذا المنطلق، ومنطلق أخلاقي أيضاً, نحن طالما خرقنا هذه المواد، لا نقبل بأن يُحاكم بها شخص قبلنا».

    أبت الأحداث إلاَّ أن تَكشف زيف هذا الادعاء في منطلقاته، بما فيها الأخلاقية.. فبعد شهورٍ قلائل، وتحديداً في أبريل/نيسان 1990، أرادت مجموعة من الضباط القيام بانقلابٍ عسكريٍ -أيا كانت دوافعه- على الانقلابيين أنفسهم, وعند فشل تدبيرهم أعدَّت السُلطة لهم مُحاكمات صورية، بالاستناد على ذات المواد المذكورة, وتمَّ تنفيذ الإعدامات في [28] ضابطاً بصورة وحشية مؤلمة، أسَّست لمنهج العنف، الذي اتخذه النظام وسيلة للبقاء في السلطة.

    اتصالاً مع حديث البداية, حول دور المؤسسة العسكرية, فمن التناقضات الغريبة في المُمارسة السياسية, التأكيد الدائم على أن القوَّات المسلحة يجب أن تبقى بمنأى عن موارد السياسة, وطالما استزاد السياسيون في هذا الصدد، بالعُرف والقوانين والتشريعات المُختلفة, والتي تسقط في أول مُنعطفٍ يستعين بقوتها الباطشة, حينما تتعثر خطى البعض، ويَدْلهمُّ لَيل خطوبهم, إما بدعوتها -كما ذكرنا- إلى تسلم السُلطة بعملٍ انقلابي, أو مُباركته بعد نجاحه, ومنحه شرعية الأمر الواقع بالمشاركة فيه.

    إن منسوبي القوَّات المسلحة هم شريحة في مجتمعٍ، الفرد فيه مُفرِط في تناول الشأن السياسي, لهذا ظلوا وما انفكوا يُمارسون نشاط أهل السياسة في السرِّ والعَلن.. مرة بالمُباشرة، كما في نصوص مذكرة فبراير/شباط 1989، والتي «حملت طابعاً مزدوجاً، عسكرياً وسياسياً، في آنٍ».. وأيضاً كانت في جوهرها ومضمونها مُطابقة ”حذوك النعل بالنعل“ للخطاب السياسي الذي كانت تلهَجُ به ألسنة القوى السياسية المُختلفة، في ذلك الوقت.. وهي أيضاً مشهدٌ مكررٌ -مع الفارق- لمُذكرةٍ سَبَقَ أن تقدَّم بها لفيفٌ من الضباط، بعد ثورة أكتوبر 1964، للسيد سِرالخَتِم الخليفة، رئيس وزراء الحكومة الانتقالية ووزير الدفاع, وكان من أهم بنودها: «تطهير القوات المُسلحة من العناصر التي أيَّدت نظام الفريق إبراهيم عبود»، وهو المطلب الذي جَهَرَت به بعض القوى السياسية حينها. وأحياناً تتم المشاركة في النشاط السياسي بطريقة غير مُباشرة, وذلك بالتحايُل في الانقلابات، تحت دعاوى ”خلاص“ أو ”إنقاذ“ الوطن.. فمُذكرة فبراير - التي أشرنا إليها مراراً- استلَّت نصاً قننه لها السياسيون في الدستور الانتقالي لعام 1985، ويقرأ: «قوات الشعب المسلحة جزء لا يتجزأ من الشعب، ومهمتها حماية البلاد، وسلامة أراضيها، وأمنها، وحماية مكتسبات ثورة رجب الشعبية».. فلا غرو إن اختزلت هذه الحماية بالانقضاض على السُلطة نفسها, فكأنما النخبة السياسية التي تواصت على ذلك النص الفضفاض، أرادت شَرْعَنة تحايُلها في الشأن السياسي.

    بذات المستوى، كان اعتبار المُؤسسة العسكرية ضمن القوى السياسية والنقابية التي وقعت ”ميثاق الدفاع عن الديمقراطية“ في 17/11/1985، اعترافاً ضمنياً في حدِّ ذاته، بدورها السياسي -غير المعلن- وأَحقيتها المُعلنة في الخوضِ في القضايا السياسية المصيريَّة, على الرغم من أن الوثيقة المشار إليها أصبحت أثراً بعد عين, فقد كانت القوَّات المُسلحة، المُوقعة عليها، هي التي داست عليها بدبَّاباتها المُجنزرة في يونيو/حزيران 1989، ذلك لأن الجيوش بتكوينها، تنفرُ من كلمة ”الديمقراطية“, باعتبارها رجسٌ من عَمَل المَدنيِّين، في القوانين العسكرية, التي تلزم بالولاء والطاعة والتنفيذ.

    إذن، يجب الاعتراف بأن النصوص فشلت في مُعالجة أزمةٍ مزمنة, مثلما أن العرف لم يكبح جماح الطامحين للوصول إلى سُدة السلطة، عبر عمل انقلابي, طالما أن مختلف القوى السياسية -في سعيها المحموم أيضاً نحو السلطة بوسائل غير ديمقراطية- ركضت خلف سراب المُؤسسة العسكرية, توهماً بأنه المُبتغى.. واستظلَّت بهجيرها، بحسبه المُرتجى!!

    لأسبابٍ غير الأسباب السياسية التي أوردناها، ثمة طرف يرى في المُؤسَّسة العسكرية وجهاً آخر، كوَّنته من خلال تجاربها الخاصة, بصورةٍ مُغايرة، لا تخلو من تطرُّفٍ ومُغالاة.. فمُنذ وقت مُبكر، دَعَت الحركة الشعبية لتحرير السودان، من خلال المانفستو التأسيسي الصادر في 31/7/1983، إلى تحطيم الجيش السُوداني, باعتباره مؤسَّسة رجعية انكشارية، وضع لبناتها الاستعمار البريطاني, وطوَّرها في ذات الاتجاه ما أسماه بـ”الاستعمار الحديث“, واقترح بديلاً لها، جيشاً ثورياً جديداً تتشكلُ نواته من الجيش الشعبي للحركة نفسها.

    بالرغم من أن الحركة الشعبية جعلت من ذلك المانفستو -فيما بعد- تراثاً في متحف التاريخ, إلاَّ أن تلك الأفكار ظلت المحور الرئيسي في إستراتيجيات قادتها, وقد عبَّر د. جون قرنق، بعد سنين عددا من صدور المانفستو في ذات السياق، بقوله: «الجيش النظامي يتعرَّض لتدميرٍ مُنظم من جهتين، الأولى: الجبهة الإسلامية الحاكمة في الخرطوم, والثانية: قوَّات الجيش الشعبي.. ونجحت الجبهتان في مهمتهما، والجيش السوداني الآن يحتضر، وضعيف، والسبب هو التحالف غير المعلن بيننا والجبهة من أجل تدميره». واقع الأمر، إن هذا التفكير سبق لقائد الحركة التعبير عنه، غير مرَّة، في اجتماعات هيئة قيادة التجمُّع الوطني الديمقراطي, دون أن يجد حظَّه في نقاشٍ موضوعي بناء، تهيباً من إيقاظ الفتنة النائمة.. إلا أنها وجدت من أيقظها مرَّة، برميةٍ من رامٍ لم يتورَّع في إزاحة الغطاء عن المسكوت عنه.

    جاء ذلك في ندوة كنا قد أقمناها، على هامش اجتماعات هيئة قيادة التجمُّع في أسمرا، في الفترة من 9/1 إلى 11/1/1996, بعدما تأخر انعقاد الاجتماع لأكثر من أسبوع، في انتظار وصول د. قرنق، حيث تحدَّث باقان أموم، القيادي في الحركة الشعبية، بوضوحٍ فاق حدَّ الصراحة, وأورد آراء أصابت المشاركين بوجومٍ، فقال حول موضوع الجيش: «الجبهة الإسلامية أحدثت ثورة حقيقية، مع أنها ثورة رجعية, إذ استطاعت تحطيم جهاز الدولة القديم، والتي أسميها ”دولة الجلاَّبة“, والناس في الجنوب لا يشعرون بأنهم جزء من هذه الدولة, لأنها ليست ضمن طموحاتهم وأحلامهم, ونحن في الحركة بصورة خاصة لا نبكي على ذلك, لأننا لسنا خسرانين.. فجهاز الدولة القديم، بما في ذلك الجيش، جهاز قهر.. مثلاً كان يصعُب في فترة من الفترات الحديث عن إعادة تشكيل وتركيب الجيش السوداني كمؤسسة عسكرية, باعتبار أنه أصبح مؤسسة عريقة مو######## من الاستعمار، تطوَّرت عبر عقودٍ ماضية, لكنها كانت جهازاً في يد السلطة، واستخدمته في قهر الشعب السوداني مرات عديدة، بما في ذلك شعب جنوب السودان.. الجبهة الإسلامية قامت بتحطيم ما كان يحلم به جنرالات معنا.. الجنرال فتحي والجنرال عبدالرحمن.. ولا حلَّ لدينا سوى تكسير هذه الأجهزة وإعادة بنائها».. ثم اقتبس باقان من تجربته الشخصية مثلاً مفزعاً، فأضاف: «أنا كشخص، ليس لديَّ ولاءٌ للسودان, وبالتالي فهو غريبٌ علىَّ.. في مدينة هافانا في كوبا، كنتُ أشعر بانتماءٍ، وأنني جزءٌ من المجتمع, وسألتُ نفسي: ”هل هذه خيانة، أم ماذا؟“.. لكن الحقيقة كنت أشعر بأنني مندمجٌ في المجتمع, ولا أشعر بالعزلة، أو أنني مواطنٌ من الدرجة الثانية.. في الخرطوم مثلاً، أشعرُ بأنَّني في الغربة.. كنتُ أقولُ لنفسي: ”هل هذه قِلَّةٌ في الوطنية، أم أن هناك سبباً آخر؟“.. الحقيقة، السبب أنني تَرَبَّيت على ذلك.. أنا أقول، كاقتراحٍ، إن عاصمة السودان الجديد يجب أن تتحوَّل من الخرطوم, لأن الخرطوم تذَكرنا بأشياءٍ مؤلمة كثيرة.. لابد أن نبحث عن مدينة أخرى، في أي مكان».

    لم يتطرَّق أحدٌ في الندوة لحديث السيد باقان، غير السيد التيجاني الطيب، الذي قال اختصاراً: «على الرغم من تفهُّمِنا للأسباب الموضوعية التي تقف خلف هذا الكلام, إلاَّ أن مثل هذه الآراء تفزِعنا».. وفى واقع الأمر، كان التيجاني متصالحاً مع نفسه, بل متصالحاً مع هواجس حزبه في هذا الشأن.. فهذه الآراء سبق أن كانت محور حوارٍ طويلٍ قبل نحو أكثر من عقدين, بين سكرتير الحزب محمد إبراهيم نقد، ود. جون قرنق، في أول جولة خارجية للأول بعد انتفاضة أبريل/نيسان 1985, ودارت حول مانفستو الحركة بشكلٍ عام، وآرائها في جهاز الدولة القديم، بما في ذلك الجيش بشكلٍ خاص.. إلا أن الثابت في تفكير قادة الحركة الشعبية، تمسُّكهم بهذا المفهوم من ”مَهْد“ بداياتها، وحتى ”لَحْد“ نيفاشا، الذي أفرز اتفاقاً، اقتسمت بموجبه الحركة الشعبية السلطة مع نظام الجبهة الإسلامية، أي ”جهاز الدولة القديم“، ذلك بالرغم من أن بند الترتيبات الأمنية عطَّل الوصول إلى اتفاقٍ في أكثر من مرحلةٍ من مراحل التفاوض.. ربما للأسباب المذكورة، والتي أقر بها قادتها.. أو ربما لقناعتهم بأن: «جيوش حركات التحرر مثل خيل المغول, إن ماتت الخيول، مات مالكوها»..!! على حدِّ تعبير أحد كوادرها.

    أيَّاً كانت الأسباب، فالثابت أن قائدها ظلَّ متعظاً، أو مسكوناً بـ”فوبيا“ الماضي, عندما جرَّد جعفر نميري, قائد حركة الأنانيا «2»، جوزيف لاقو، من جيشه بعد الاتفاقية, وجعله جنرالاً تائهاً في أقبية القصر الجمهوري.. «إن الحركة الشعبية لن تُكَرِّر الخطأ الإستراتيجي الذي وقعت فيه أنانيا «2»، عندما حلَّت جيشها بعد اتفاقية أديس أبابا 1972، مما أعطى الرئيس نميري فرصةً لعدم احترام الاتفاق فيما بعد». لهذا، كان قرنق يرى أن السبيل الوحيد لقتل تلك الهواجس.. «احتفاظ الحركة الشعبية بنحو مائة ألف مقاتل، في كامل استعدادهم العسكري، للدفاع عن الاتفاقيات إذا حاول الطرف الآخر تجاوزها، أو التملص منها». ورغم قولنا بأن المانفستو أصبح تراثاً في أدب الحركة، لكن د. قرنق رأى أن الاتفاقية المذكورة نفخت فيه الروح، خاصة في المسألة موضع الجدل.. «إن أكبر إنجاز حققه اتفاق نيفاشا للترتيبات الأمنية والعسكرية، هو وضع الجيش الشعبي في مصاف الجيش القومي السوداني». ذلك ما أفسح الآمال للحركة الشعبية في أن تطلب المزيد, فخَطَت خطوة أخرى بمطالبة النظام بالصرف على هذا الجيش, وكانت أيضاً تلك من النقاط التي تظاهر فيها الطرف المعني بالرفض والتمنُّع, ولم يكن بمقدوره الاستمرار في ذلك, فتمَّت معالجتها ضمن البنود السرِّية للاتفاقية، بمشاركة الوسطاء الراعين لها. وعليه، يمكن القول بأن بند الترتيبات الأمنية، يعد أولى الثمار التي قطفتها الحركة الشعبية من اتفاق نيفاشا الثنائي.. فهو، وإن لم يبلغ بها أقصى مرامي حلمها في تحطيم الجيش القومي, وإحلال جيشها الخاص محلَّه, فقد حافظ على قوتها العسكرية وفق نسبٍ, يحقُّ لها أن تزعم بأنها قاربت الحلم المشار إليه.

    من جهة أخرى، فإن الشريك الذي عقدت معه اتفاقاً، غير مُعلن، في تحطيم المؤسَّسة العسكرية، وفق ما أدلى به د. قرنق، كانت له أجندته الخاصة حيال تلك المؤسَّسة، منذ نجاح الانقلاب، وتسلُّمه مقاليد السلطة.. فمن المعروف أن الجبهة الإسلامية قد ثابرت طيلة عقدٍ ونصف على إحلال مجندي ”الدفاع الشعبي“ مكان الجيش, بفصل عشرات الآلاف من الخدمة العسكرية, وأدلجة من تبقى بوسائل مختلفة, وأيضا سواءٌ تحقق لها ما أرادت، أم لم يتحقق, تصبح المُحصِّلة أن المؤسسة العسكرية تخلخلت ركائزها، نتيجة الظروف التي وضعتها بين ”فكي كماشة“, وبالتالي طرأ تغيير على ما اصطلح على تسميته بـ”المثلث الذهبي“، بأضلاعه الثلاثة: أحزاب, نقابات, وقوَّات مسلحة.. وهي القوى مِحْوَر الصِّراع السياسي، حول السُلطة في السُودان، طيلة نصف قرن منذ استقلاله.

    بَيْدَ أننا هدفنا من تلك الفذلكة إلى توضيح الخلفيَّة التي نَهَضَ على جُدرانها انقلاب الجبهة الإسلامية في العام 1989، والذي دَفَعَت فيه المؤسسة العسكرية ثمناً باهظاً، قبل أن تنداح آثاره السالبة على القطاعات الأخرى في المجتمع السوداني.

    نعودُ إلى النقطة التي ابتدرنا بها الفصل، في الانقلاب نفسه, والذي ذكرنا أنه يعد من أسهل الانقلابات التي حدثت, وليس ذلك استهانة بالعدد القليل الذي نفَّذ الموضوع، إذ كانوا بضع عشراتٍ من المؤسَّسة العسكرية, انضمَّت لهم في ساعة الصفر عشراتٌ أخرى من كوادر الجبهة الإسلامية, وقد قُدِّر العدد الإجمالي بثلاثمائة فرد!! ولكن لأن الشرط القاسي في الحركات الانقلابية, وهو ”السريَّة“، كان قد سقط تماماً بالوقائع التي أشرنا لها في المشهد الأول, فقد كان معظم المتابعين للحراك السياسي، والناشطين فيه, وعلى رأسهم أقطاب الحكومة الديمقراطية ”الرشيدة“ يتحرَّون سماع ”المارشات العسكرية“، كما يتحرَّى الصائمون رؤية هلال رمضان!!

    وكما هو معلومٌ, فقد خطَّط الانقلابيون لكل شيء, عدا واحداً، جاء بمحضِ الصُدفة، مُتزامناً مع الساعات الحرجة في تنفيذ الانقلاب, فسهَّل عليهم الأمر من حيث لم يحتسبوا, إذ كان معظم قادة السلطة -حكاماً ومُعارضين- في حفل زواج إحدى الأسر السودانية، ”آل الكوباني“.. جاء بعضهم من الجمعية التأسيسية, بعد مداولاتٍ اتَّسَمَت بساقِط القول، في مناقشة بند حيوي.. ”الميزانية العامة“.. وكان بينهم أيضاً الذين انتووا الانقضاض على السلطة.. جاءوا خفافاً - من باب التمويه- وغادروا سراعاً، بلسان حالٍ يقول إن المناسبة ستكون بمثابة الفرح الأخير للنظام الديمقراطي، والقائمين عليه.

    ثمة ثلاثةٌ، من الذين افترِضَ فيهم السَّهر على حماية النظام، وتأمينه من غوائل الانقلابات العسكرية, بعد أن عَلِمُوا بحدوث ”المتوقَّع“, قاموا بعمل ”غير المُتوقَّع“, إذ اختاروا الهروب!! باعتباره أقصر الطرق لحماية الذات, وليْسَت السلطة، أو الوطن بأكمله!! من المُفارقات، انتماؤهم جميعاً إلى حزب الأمة!!

    لم يُرْهِق السيد مُبارَك الفاضل -وزير الداخلية- ذهنه كثيراً بالتفاصيل.. فبعد تبليغه هاتفياً، من بعض أفراد الأسرة الذين شاهدوا الدبَّابات تعبر الجسور الرابطة بين أجزاء العاصمة المثلثة, هَرَبَ على الفور من منزله، واختفى في منزل المحامي حسن عبدالله لنحو ثلاثة أسابيع, باشر خلالها اتصالاته مع بعض أركان الانقلاب، الذين كانوا يقبعون خلف الكواليس, ومنهم صهره د. غازي صلاح الدين العتباني.

    في هروبه، كان مُبارك قد خَشِيَ أمراً، واستسهل آخر.. فنسبة لأنه كان الوزير الوحيد في النظام الديمقراطي الذي طالته تهَمُ الفساد، حتى أُرْغِمَ رئيس الوزراء على تشكيل لجنة تقَصٍ له, فقد خشي البطش به في محاكمة إيجازية، يرتئي فيها الانقلابيون فتح ”ملفاته المُفخَّخَة“، للإيحاء بمحاكمة النظام الديمقراطي بأكمله.. لكنه في الوقت نفسه، كان قد وضع احتمال أنه لم يكن -في الأصل- ضد فكرة الانقلاب, بل كان أحد المُتحمِّسين له، وفق ما ذكرنا في الفصل السابق.. وعليه، كان في هروبه يُريدُ التأكد ممَّا إذا كان سيناريو ما حدث مُطابقاً لسيناريو بنات أفكاره.. ولمَّا تبيَّن له أن الانقلاب الجديد يدور في فلكٍ آخر, شَرَعَ في الهروب الثاني، إلى خارج الحدود، بسيارة جُهِّزَت خصيصاً لقطع الفيافي والصحاري, فاتجه نحو الحدود الليبية.. ونسبة للإجراءات الأمنية المكثَّفة التي اتبعها الانقلابيون, كان من الطبيعي أن تثور الأسئلة المُحرَّمة في كيفية ”نجاح هروبه“، في ظل تلك الظروف؟! وقد استقر الاجتهاد في أن الذين كان يُفاوِضُهم في الخفاء لعبوا دوراً في ذلك, أو على الأقل غضُّوا البصر عنه.

    في 28/7/1989، كان مُبارَك الفاضل في ضيافة الحكومة الليبية، إذ تجمعه علاقات مُميَّزة مع رئيس جهاز الأمن، العقيد صالح الدروقي.. بعد يومٍ من وصوله، زار الفريق عمر البشير -للمرة الأولى- طرابلس, وأثناء محادثاته مع العقيد معمر القذافي، سأله الأخير بصورة عَرَضِيَّة عن مُبارَك.. فقال له الأول، إنه هَرَبَ، وجار البحث عنه.. فأشار القذافي إلى غرفة مجاورة، وقال له: «إنه هنا»!! بالطبع، لم يكن البشير يعلم.. ولا يعلم أحدٌ ما الحكمة التي حَدَتْ بالقذافي إلى أن يفعل ذلك, أو ما تمَّ الاتفاق عليه.. لكن المُفارقة الغريبة، أن السيد مُبارَك الفاضل، بعد أن غادر طرابلس إلى سويسرا, لم تطأ قدمه أرض ليبيا مرة أخرى، إلا بعد عددٍ من السنين.

    السيد عبدالرحمن فرح، رئيس جهاز الأمن, كان ثاني الثلاثة الهاربين, والذي كان قد بَرَعَ قبل أقل من أسبوعٍ في رسم سيناريوهات ”وهميَّة“ لانقلاب ما سُمِّيَ بـ”المايويين“، وادَّعى فيه أن الجهاز العتيد الذي يرأسه: «كان يراقب نميري منذ أن كان بأسوان (مصر)». إلاَّ أنه في الانقلاب الحقيقي، عَجِزَت كل آلياته عن المتابعة والتقصِّي, ومسرح الحدث بالقرب من داره, فلحظة أن عَلِمَ بالأمر، قام على الفور بمغادرة منزله إلى منازل ”لها في القلوب منازل“!! فتنقل حتى استقرَّ به الوضع عند شقيقته ”سارة“ في الامتداد شارع «31».. ولأنه لا يملك هُدْهُد سُلَيْمان، ليأتيه بالخبر اليقين، رغم مرور ساعاتٍ على الانقلاب، لاحَت فيها تباشيرُ الصباح، لَجَأ إلى تسخير المُتَاح، فأرسل شقيقته إلى منزل العقيد كمال إسماعيل، المجاور لهم, يستفسِرُه إن كان لديه أية معلومات حول ما جرى؟! لَمْ يكن المسؤول بأَعلم من السائل, علماً بأن السائل يقف على رأس جهازٍ كان يُفترَضُ فيه أن تكون معلوماته حول الانقلاب قد رشحَت للناس, قبل أن يتبينوا الخيط الأبيض من الأسود فيه!! سِيَّما وأن رئيسه، حسب إفادته التي أوردناها، اعترف وقال إنه كان يعلمُ الكثير!!

    فَكر السيِّد فَرَح، ثم قدَّر، ثم قرَّر مواصلة الهروب والاختفاء.. وبغض النظر عن دعاوى ذلك, إلاَّ أنه أَدْبَرَ عن تنفيذ الفكرة، لأن ظروفه الصحية لا تسمحُ بالمُخاطرة.. وقبل أن يستسلم لمصيره، الذي ألحقه بزمرة المُعتقلين في سجن كوبر, كان وشقيقه ”خالد فرح“, قد لعبا دور ”حمامة السلام“, التي تطوف بين الانقلابيين ورئيس الوزراء الهارب, تنقل لهم ”شروطه“ للاستسلام!!

    أما رئيس الوزراء، السيد الصادق المهدي، فما أن تمَّ تبليغه بالخبر المُتوقَّع, حتى قامَ بغير المُتوقَّع!! فكان ثالث الهاربين.. ولأن ذلك ميدانٌ لا يستلزم التنظير، بقدر ما يتطلب التدبير, فقد كان هروبه فطيراً.. أُلقِىَ عليه القبض بنحو أقل من أسبوع، وهو يتأبَّط سيفاً من ”عُشَر“.. وهو عبارة عن مذكِّرة أعَدَّها سلفاً لتسليمها للانقلابيين.. «كنتُ قد أطلَعتُ الرجل على المذكرة, وقلتُ له إنني سأنتقلُ من مدينة أمدرمان إلى الخرطوم، حتى يَسهُل عليه الاتصال واللقاء، الذي كنت أريد أن يتم في القيادة العامة للجيش, وجئتُ المنزل الذي كنتُ أريد البقاء فيه في انتظار الرد، راكباً دراجة, واتضح أن هذا المنزل وهو منزل أختي وعمي مهدي حسين شريف كان مراقباً, وقبل أن أتَّصل بالشخص المعني تمَّ تطويق المنزل في اليوم ذاته وتمَّ اعتقالي». وبِغَضِّ النظر عن اللقاء الذي اجتهد المهدي في سبيله، ليتم في ”القيادة العامة“!! فَرُبَّ سائلٍ, إذا ما كان ذلك هدفه وطموحه، ففيمَ الهروب أصلاً؟! ورداً على المتسائلين، قال: «عندما اختفيتُ كان هناك سببان لاختفائي, أولاً كان هناك اتفاقٌ على ميثاق الدفاع عن الديمقراطية, يَنُصُّ على أن تتحرَّك القوى السياسية عند وقوع أي انقلاب عسكري, ولذلك كنت أريد أن أرى إذا كانت هناك جهة مستعدة للتحرُّك في هذا الإطار أم لا.. أما السبب الثاني فهو أنني كنت أريد معرفة طبيعة الحركة, لأن تقديري كان أن بعض الجهات الأجنبية تريد تنفيذ انقلاب, فإذا كان الانقلاب أجنبياً كنا سنخرج من البلاد ونقاومه».

    واقعُ الأمرِ، بهذا التفسير الحلزوني، حَيَّر رئيس الوزراء حتى الذين ينظرون لأخطائه بعين الرضا.. فهذا حديثٌ كالغربال.. كثير الثقوب.. فقد وَضَعَ المهدي تعريفاً نشازاً للانقلابات العسكرية، لم يَخْطر على قلب حكَّامٍ مُنتخبين مثله، انقلب عليهم العسكر في التاريخ القديم والحديث.. فالانقلاب -في شرعه- إن كان ”أجنبياً“ وَجَبَت مقاومته, وإن كان ”وطنياً“ يمكن مفاوضته!! فلا غرابة أن منحهم الشرعية ”المفقودة“ في بطن المُذكرة التي كان يتأبطها.. «معكم سلاح القوة، ومعنا الحق»!! قبل أن يتحَسَّسوا خطاهم، على أرض الواقع, ويتناسى المهدي في غمرة تبريراته تلك أنه حينما انتخِبَ رئيساً للوزراء، أدَّى القسم لحماية الدستور والنظام الديمقراطي، من أي أخطارٍ تتهدَّدهما، سواءٌ كانت وطنية، أو أجنبية.. والقادة التاريخيون لا ينتظرون الآخرين ليروا ما هم فاعلون.. وعندما يُقِرُّ بأن تقديراته أكدت له أن بعض الجهات الأجنبية تريد تنفيذ انقلابٍ, فما الذي فعله لقطع الطريق عليها؟!

    على أن التجربة أثبتت أن المهدي استمرأ تكرار أخطائه.. مثلما استمرأ تبريراته المُرهِقة للعقل والوجدان.. ففي تماثُلٍ من ماضيه السياسي القريب, وبالرغم من أنه كان جزءاً من التعقيدات السياسية، التي صاحبت أجواء السلطة قبيل انقلاب مايو/أيار 1969, ورغم الإرهاصات التي كانت تُشِيرُ أيضاً إلى احتمال الانقلاب, إلا أنه استبعد أي مُغامرة عسكرية تجهضُ النظام الديمقراطي, تماماً، مثلما استبعدها بعد عقدين في يونيو/حزيران 1989، وهو سيِّد العارفين بهما.. «قبل يومين من 25 مايو 1969، تَوَجَّهتُ وزميلٌ لي إلى منزل الصادق المهدي، حيث استعرضنا معه الأوضاع الداخلية, وسألناه إن كان يتوقع انقلاباً عسكرياً, فرفع أصابع يده اليسرى ليُعدِّد الأسباب التي تَحولُ دون وقوع انقلابٍ عسكري, ومنها أن ثورة أكتوبر لا يزال درسها وتجربتها في الخاطر، كما أن الظروف التي يمكن أن يتحرَّك فيها الجيش للاستيلاء على السلطة مغايرة تماما لتلك الظروف التي كانت سائدة في نوفمبر 1958». علماً بأن الظروف التي عدَّدها كان قد أسْهَمَ فيها بقدرٍ وافرٍ من التكدير السياسي.. فهي الفترة التي اشتَعَلَت فيها الخلافات الشهيرة بينه ورئيس الوزراء محمد أحمد محجوب, خفَّت حدَّتها بقبول الأخير بمُقترحٍ قضى بترشيح الإمام الهادي المهدي لنفسه -باعتباره راعي حزب الأمة- لرئاسة الجمهورية, والسيد الصادق لرئاسة الوزراء، -باعتباره رئيس الحزب- في حكومة مقبلة.. قدِّر أن تكون انتخاباتها العامة في مطلع العام 1970, إلاَّ أن المحجوب ضاق ذرعاً، بعد عودته من لندن التي كان يتداوى فيها، بطموح المهدي المُتعجِّل للرئاسة, فقام بتقديم استقالته.. إلاَّ أن وساطة على طريقة ”الأجاويد“ السُودانية, كان روَّادها السادة الهادي المهدي، محمد عثمان الميرغني وإسماعيل الأزهري, طلبوا منه تعليقها، وعدم تقديمها لمجلس السيادة, وكانوا يأملون في بقائه إلى حين إجراء الانتخابات، بقناعة سائدة في أن ما تبقى من فترة كفيلٌ بتحقيق بعض الاستقرار للمناخ السياسي المُضطرب.

    في غمرة التمنيات، قطع انقلاب مايو الطريق.. ويُذكَر أنه بعد وقوعه، لم يكن للسيد الصادق أي تحفُّظات عليه، سوى إبعاد ”الواجهة الشيوعية“.. ربَّما لأنه انقلاب ”وطني“، بحسبِ عُرفِه!! وقد نقل رغبته تلك إلى جعفر نميري قائد الانقلاب, بل تطوَّع بتقديم خدماته لإقناع عمه الإمام الهادي, فأعطاه نميري ضوءاً أخضر, فغادر إلى الجزيرة أبا، التي استعصم بها الإمام الهادي، مُصمِّماً على مُعارضة ”الانقلاب الشيوعي“, لكن الأخير طلبَ منه البقاء في الجزيرة للهدف نفسه, عوضاً عن اصطحابه هو للخرطوم لمُفاوضة الانقلابيين.. وأثناء ذلك، توجَّس الانقلابيون منه خيفة، بظنهم أنه خدعهم, فاستدعوه بدعوى مواصلة الحوار, وعند وصوله، تمَّ اعتقاله، وإرساله إلى سجن بورتسودان, وبذلك منحه الانقلابيون ”شرف“ معارضتهم!! وهو شرفٌ لم يسلم من الأذى، ليس لأنه لم يُرَق على جانبيه الدمُ, ولكن لأنه شرفٌ سعى له, ولم يَسْعَ هو إليه!!

    إذا ما أضفنا لكل ذلك ”الصفقة السياسية“ التي تمَّت بينه وبين نميري العام 1977, والتي سُمِّيت تجاوزاً بـ”المُصالحة الوطنية“, فقد كانت في حقيقتها قواسِم مشتركةً لأفكارٍ شمولية, طَمَحَ لها المهدي، ولوَّح له بها النظام المايوي.. مثل الجمهورية الرئاسية, والتنظيم السياسي الواحد، والتوجهات الإسلامية.. إلخ, ولم تكن الديمقراطية فيها سوى ”فريضة غائبة“, لم تجرِ سيرتها، لا على الورق، ولا حتى على الألسن!! ولولا أن نميري انقلب على نفسه في العام 1983، متعلقاً بما أسماه بـ”القوانين الإسلامية“, ولولا أنه تنكر بعدئذٍ لِمَا وَعَدَ به المهدي لذاته, لَمَا وَجَدَ الأخير هذا تبريراً في مُعارضة نظام نميري, والذي لا فرق في توجُّهاته الديكتاتورية في أيٍ من سِني حكمه الست عشرة, عليه فإن استنساخ الأخطاء، وتبريرُ الفشل, يظلاَّن سِمَة مسيرة السيد الصادق المهدي السياسية, لكنه لا يأبه لذلك كثيراً.

    عندما شَغَلت السلطة التنفيذية نفسها بالهروب، حين وقوع الانقلاب, في موقعٍ آخر كان القائد العام للقوات المُسلحة، الفريق فتحي أحمد على، يخوض معركة محدودة, قدِّر لها أن تكون المعركة ”اليتيمة“ التي جَرَت لحماية كبرياء النظام الديمقراطي, وقد وثَّق لها على النحو التالي: «صباح يوم الجمعة سعت 210، حُوصِرَ منزلي في حي كوبر، بعد أن تمَّ قطع كل التلفونات، بقوة فيها [5] ضبَّاط، وعدد يتراوح ما بين 30-45 من مليشيات الجبهة، في زي القوات المسلحة، ومعهم بعض المُستَجدِّين من سلاح النقل, ودارت معركة بالرشاشات استمرت من سعت 220 إلى 520، كنتُ بالداخل مع أربعة فقط من حرسي الخاص. قتل واحدٌ، وجُرحَ أربعة من المتآمرين, وفشلوا في اقتحام المنزل وبعد ما استعانوا بمدرعة كسرت الباب الرئيسي للمنزل وَوَجَّهَت فوهة مدفعها نحو المبنى, وعندها آثرتُ سلامة أسرتي وأطفالي, فأمرتُ الحرس بالانسحاب ثم ارتديتُ الزي العسكري وذهبتُ في حراستهم المُشَدَّدة إلى فرع البحوث العسكرية بالقرب من القيادة العامة, ومنه إلى منزل الضيافة وأُرْجِعتُ مساء السبت إلى منزلي في كوبر, وظَلَلتُ تحت الحراسة لمدة أسبوعين, وبعدها رُفعت الحراسة لكنني كنت تحت المراقبة لفترة طويلة. لو تحرَّكت قوة لنجدتي خلال الساعات الثلاث لَتَغَيَّر الموقف, ولعلَّ في ذلك حكمة يعلمها الله ونحن لا نعلم إلا القليل».

    إن ”لو“ تلك، التي ختم بها القائد العام شهادته, لا تفتحُ عمل الشيطان فحسب, وإنَّما تفتحُ أبواب تاريخ سُوِّدت صفحاته.. فبينما كان يطمحُ في تحرُّكِ قوةٍ تغيِّر الموقف, لم يكن هناك واحد من طاقم أركان هيئة قيادته ذرَفَ دمعة حرى على الديمقراطية الموءودة, ناهيك عن القيام بنجدتها.. ولا يدري المرء إن كان القليل الذي يعلمه ”القائد العام“ في ذلك الوقت, يضم بين دفتيه إحجام هؤلاء، وهروب أولئك.. لكن بالطبع ذاك ما كان يعلمه الانقلابيون، فلم يتردَّدوا لحظة في إعادته إلى منزله في اليوم التالي, بعد أن أصبح جنرالاً بلا جيش!!

    على أننا نستوقف أنفسنا قليلاً عند ظاهرة هروب السُلطة التنفيذية, ليس باعتبارها ظاهرة جديدة، أو شاذة في التاريخ السياسي السُوداني، منذ أن عَرفت الدبابات طريقها نحو مباني الإذاعة والتلفزيون، لنشر ”البيان رقم واحد“ على الملأ, ولكن لأن المنطق جافاها لأسباب ثلاثة:
    • أولاً: الهاربون الثلاثة ينتمون إلى طائفة عُرِفَت في الواقع السُوداني بالشجاعة والإقدام, استناداً إلى تُراثٍ الثورة المهدية.. من هذا المنطلق، لم يكن متوقعاً من ”الخلف“ غير اتِّباع سُنة ”السلف“, والتي ليس بالضرورة أن يكون معنياً بها امتشاقُ السّيوف، أو التمَنطق بالأسلحة الناريَّة، لمواجهة سلطة مُغتصِبة لسلطة شرعية.. فللشجاعة ألفُ بابٍ.. عليه، وبهذا المنطق، فإن هروبهم جاء خَصْماً على ذلك التراث, مهما تعدَّدت الأسباب الذرائعية.
    • ثانياً: يقف السيد الصادق المهدي على رأس السُلطة التنفيذية, باعتباره رئيس وزراء منتخباً, وتولَّى مسؤولياته بقسمٍ لحماية الدستور، والنظام الديمقراطي.. وكذلك فَعَلَ الوزير والمستشار.. ولم يكن مُطلقاً في تلك الحماية مُفرَدَة تُشِيرُ إلى الهروب, والذي سجَّلوا بموجبه سابقة في مضمار السياسة السُودانية, حيث إنه في كل الانقلابات العسكرية التي أجهَضَت نظماً ديمقراطية, استبقت القيادات السياسية نفسها في انتظار قدَرِها ومصيرها، عدا حالة واحدة، سجَّلها الشريف حسين الهندي، عند وقوع انقلاب مايو 1969.
    • ثالثاً: المعروف أن السيد الصادق المهدي، طيلة مُمارسته العمل السياسي, جَعَلَ بينه وبين المال العام حرمة, فلم يستغل منصبه في اكتنازه, ولم يُفسِد أو يَختلِس, حتى إن الانقلابيين أنفسهم لم يجدوا شيئا يَصِمُونَه به في بياناتهم الأولى، غير ”كثرة الكلام“.. وعليه، فإن خُلو سِجِله من تلك الآفة، التي طالما اتخذها الانقلابيون وسيلة للمحاكمة والمحاسبة والإدانة, كان ينبغي أن يكون دافِعَه في المقاومة, أو انتظار مصيره بأضعف الإيمان.. في حين يرى البعض أن هروب وزير الداخلية جاء مُنسجماً مع الجَدَل الذي طوَّقه في الاتهام بالفساد.

    خلاصة، تجدُرُ الإشارة إلى أن تحديد هذه الأسماء فَرضَته ظاهرة الهروب, لكنَّه، من جهة أخرى، لا يعني أنها المسؤولة وحدها عن انهيار النظام الديمقراطي، وإن كان لها القدح المُعلى.. لكن الإنصاف يقتضي ذِكر لاعبين آخرين، في ضرَّاء أهل السودان.. ومن باب التعميم، يمكن القول بأن الديمقراطية الثالثة في السُودان كانت نموذجاً لنظامٍ فَالِتٍ، أضاعت هويَّته السياسية قوى حزبية، اختلط حابلها بنابلها.. خَاضَت غِمار التجربة بفؤادٍ أفرغ من ”جوف أم موسى“.. بلا برنامجٍ, وبلا وسائل, وبلا أهداف.. غابت عن أركانها الديمقراطية وسيلة, فتوسَّلتها غاية لحكم البلاد.. وتنظيمات نقابية ومهنية اختلَّ ميزان أخذها وعطائها.. لم تكن تعرف ما تريد، أو تدري ما تفعل.. وجمعية تأسيسية – برلمان- يؤم مبناها الفخيم نوابٌ, لا همَّ لهم سِوى إنعاش أجسادهم بهوائها الرطِبُ العليل.. ومجلس سيادة ليس له من وجودٍ محسوس، سوى الاسم التاريخي, شَغَلَ أعضاؤه أنفسَهُم بسُننٍ في القضايا الانصرافية، والمحسوبية، والصرفُ البذخي.. خدمة مدنية عاطلة, وصحافة تعطَّلت حواسُّها الخمس, فانحدرت مِهنياً وأخلاقياً.

    دارُ عرضٍ كبيرة، بمساحة مليون ميل مربع.. جَرَت فيها وقائِع مسرحيةٍ مُمِلَّة لنحو أربعين شهراً, رغم اعتكاف الجمهور الذي كان العمل أدنى من طموحاته, وعندما أُسدِل الستار، هَرَعَ المُمثلون لاستدعاء الجماهير الغائبة.. نصبوا لها سُرادقاً للعزاء, طلباً للمواساة في المأساة التي امتدَّت لأكثر من عقدٍ ونصف العقد من الزمان, بلسان حالٍ يقول: فقط، كونوا عليها شهوداً!!

    هكذا تحدَّث العسكر بذاك المنطق، الذي عايشه وحسَّه كل أهل السُودان.. لكن لم يكن ذلك يعني أن الحل يكمُن في انقلابٍ يرتدي قناع الثيوقراطية.. ولم تكن المُمارسة تعني فشل المنهج الديمقراطي.. وأيضاً، لا يعني ذلك بيع الناس الوهم والشعارات الجوفاء، وحصرهم في أقببِة الجهل والتخلُّف, فجميعهم قد أضاع زمناً غالياً، اقتطعه السُودان من تقدُّمه ونَمَائِه وازدهاره.. ولا عزاء للمكلومين!!
                  

العنوان الكاتب Date
أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد02-27-07, 03:02 AM
  Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الصادق خليفة02-27-07, 07:21 AM
    Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? Nader Abu Kadouk02-27-07, 07:29 AM
      Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد02-27-07, 06:14 PM
    Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد02-27-07, 06:11 PM
  Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? حمزاوي02-27-07, 07:37 AM
    Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? عبدالمنعم خيرالله02-27-07, 08:41 AM
      Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد02-27-07, 06:17 PM
    Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد02-28-07, 02:08 AM
  Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? Tabaldina02-27-07, 08:57 AM
    Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? محمد عادل02-27-07, 12:59 PM
  Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? Tabaldina02-27-07, 01:26 PM
    Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? محمد عادل02-27-07, 01:32 PM
      Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? Tabaldina02-27-07, 02:08 PM
        Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد02-27-07, 06:23 PM
      Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد02-27-07, 10:06 PM
  Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? حمزاوي02-27-07, 01:33 PM
  Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? lana mahdi02-27-07, 01:33 PM
    Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد02-27-07, 06:31 PM
      Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? عبدالمنعم خيرالله02-28-07, 03:56 AM
        Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد02-28-07, 01:45 PM
          Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? عبدالمنعم خيرالله03-01-07, 02:01 AM
            Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-01-07, 02:18 AM
            Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? عبدالمنعم خيرالله03-01-07, 03:31 AM
              Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-01-07, 03:40 AM
                Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? عبدالمنعم خيرالله03-01-07, 04:13 AM
  Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? محمد فرح02-28-07, 02:20 PM
    Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد02-28-07, 03:36 PM
      Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? خالد عويس02-28-07, 04:39 PM
        Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد02-28-07, 06:27 PM
          Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? محمد حسن العمدة03-01-07, 01:19 AM
            Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-01-07, 01:33 AM
              Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? محمد حسن العمدة03-01-07, 02:16 AM
                Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-01-07, 03:50 AM
  Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-01-07, 02:26 AM
    Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? Mohamed Doudi03-01-07, 03:55 AM
      Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-01-07, 04:10 AM
        Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? عبدالمنعم خيرالله03-01-07, 05:26 AM
          Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? محمد حسن العمدة03-01-07, 11:40 PM
            Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? عبدالمنعم خيرالله03-01-07, 11:58 PM
            Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-02-07, 00:19 AM
              Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? نيازي مصطفى03-02-07, 02:58 AM
  Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-02-07, 04:25 PM
  Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-02-07, 04:32 PM
    Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-02-07, 04:40 PM
      Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-02-07, 04:49 PM
      Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-02-07, 04:54 PM
      Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-02-07, 04:59 PM
      Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-02-07, 05:03 PM
    Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? saif massad ali03-02-07, 04:48 PM
      Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-02-07, 05:05 PM
      Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-02-07, 05:10 PM
        Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? هاشم نوريت03-02-07, 05:30 PM
        Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-02-07, 05:32 PM
        Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-02-07, 05:39 PM
        Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-02-07, 05:46 PM
        Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-02-07, 05:50 PM
        Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-02-07, 05:57 PM
          Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-02-07, 09:30 PM
            Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? Abdel Aati03-05-07, 02:17 AM
              Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? إسماعيل وراق03-05-07, 06:48 AM
                Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-05-07, 11:36 PM
                Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-06-07, 01:38 AM
                  Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? إسماعيل وراق03-06-07, 06:35 AM
                Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-06-07, 01:53 AM
              Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-05-07, 11:24 PM
                Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? محمد حسن العمدة03-06-07, 00:34 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de