أين يجلس حزب الأمة الآن???

نعى اليم ...... سودانيز اون لاين دوت كم تحتسب الزميل فتحي البحيري فى رحمه الله
وداعاً فتحي البحيري
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-28-2024, 01:36 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الأول للعام 2007م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
03-02-2007, 04:54 PM

الجيلى أحمد
<aالجيلى أحمد
تاريخ التسجيل: 03-27-2006
مجموع المشاركات: 3236

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? (Re: الجيلى أحمد)

    (3)

    وتتواصل المخازي والتي لو صدق فيها واصف لوصف هؤلاء القادة باالتساهل لدرجة الخيانة العظمي
    هؤلاء القادة خيالات المآتة الذين يقضون أوقاتهم في صرعات لا حد لها وكلام لا ينقطع من رئيس لوزارة سماه الشعب سخرية "أبو الكلام" وسماه "الرئيس السندكالي" . ويتساءلون بكل براءة بعد كل هذا : أين قانون الدفاع علي الديمقراطية ؟؟؟ ويتساءلون لماذا وقف الشعب السوداني متفرجا والديمقراطية تذبح؟؟؟ ...

    Quote: بعد يومين من استلامها، أي في يوم 22/2/1989، تحسَّس رئيس الوزراء قلمه, وردَّ على المذكرة بمذكرة مطوَّلة, تحدث فيها بتفصيلات عن واقع ”فانتازي“, وكان لافتاً توقفه في بندين متصلين بالتداعيات اللاحقة, فالبند السابع عشر من المذكرة، جاء فيه: «إننا جميعاً، قيادة وقاعدة، منتشرين في كل بقاع السودان, يجب أن نؤكد بوضوح لا لبس فيه أننا مع خيار الشعب السوداني الأصيل في الحفاظ على الديمقراطية, كما أكدنا ذلك في السادس من أبريل, وإننا نرفض كل أنواع الديكتاتورية, وسنظل أوفياء لواجبنا المقدَّس في حفظ وصون سيادة الوطن».. ردَّ رئيس الوزراء على ذلك بقوله: «هذا التزامٌ إيجابي في حد ذاته, كذلك لا بديل له، فالانقلاب العسكري ممكنٌ وسهل, الثورة عليه ممكنة وحدثت, وعلينا أن نجنِّب بلادنا هذه الدوامة».. ثم البند الآخر الذي جاء في ختام المذكرة، ورمى بتاريخٍ قاطع: «نرفع لكم هذه المذكرة النابعة من إجماع القوات المسلحة لاتخاذ القرارات اللازمة في ظرف أسبوع من اليوم».. وردَّ عليها المهدي: «هذه نهاية غير موفقة، لأنها تشبِه الإنذار، وتفتح باب ملابسات, فالذين يريدون إحداث انقلاب عسكري سيجدون منها مدخلاً».

    بعد أن ردَّ منفرداً، رأى المهدي بعدئذٍ ضرورة إشراك طاقم مجلس وزرائه، الذي قوامه قارعو طبول الحرب, فتضامنوا معه بردٍ في 25/2/1989.. ومع اقتراب العد التنازلي لمُهلة الأسبوع، خاطب المهدي الجمعية التأسيسية في 27/2/1989, وطَلَب إمهالاً حتى الخامس من مارس/آذار, وقرنه بطلب تفويض من الجيش, والتزامٌ بعدم اللجوء لانقلاب عسكري، حتى يُباشر تنفيذ المطلوب في المُذكرة.. كذلك طلب من النقابات الكف عن الإضرابات عن العمل، والاتجاه للإنتاج.. وكما ذكرنا من قبل، قرن عدم تنفيذ هذه الطلبات بتقديم استقالته في اليوم المُحدَّد
    .


    Quote: عاد الفريق عبدالرحمن سعيد أدراجه إلى مقر هيئة القيادة في الخرطوم, وأبلغها بمذكرة تحوي مُجمل الأوضاع، بما في ذلك تفاصيل ميلودراما الجندي المجهول, الذي وُورِيَ الثرى في ذات الموقع الذي شهد ملحمته الشخصية, ووُرِيَت معه قصَّته بكل أبعادها، الإنسانية والمأساوية.. قصة لو حدثت في قطر يحترم ساسته إرادة أبنائه, لاستوجبت في حدِّها الأدنى استقالة عامودية، تبدأ من رأس الهرم في السلطة, مروراً بالجهاز التنفيذي, وانتهاءً بهيئة القيادة العسكرية.. وأما في حدها الأعلى، فذلك ما لا يخضع لاجتهادات بحسب المُثل والأخلاقيات في العمل العام.. لكن المُفارقة، أن شاهد المأساة, وقارئيها في التقارير, وسامعيها من على البعد, طَفِقوا جميعاً يبحثون عن دور جديد في سلطة قادمة.

    كانت رواية الجندي قد تعدَّت أروقة هيئة القيادة, واستقرت في أجهزة الدولة العليا.. ولم يكن رئيس الوزراء استثناء.. ذلك هو ما حدا بهيئة القيادة طلب اجتماع مع مجلس الدفاع الوطني, للتفاكر فيما آل إليه الوضع من بؤس وتردٍ, وقد سبق لها -أي هيئة القيادة- طَرق أبواب السلطة التنفيذية، بمذكرات متتالية، حتى كلَّ متنها.

    الاجتماع المذكور تمَّ في الأسبوع الثاني من فبراير/شباط 1989, وحضره من مجلس الدفاع الوطني رئيس الوزراء الصادق المهدي, د. حسن الترابي وزير الخارجية, إلى جانب وزراء المالية والداخلية والأمن الوطني.. ومن جانب هيئة القيادة، الفريق عبدالماجد حامد خليل وزير الدفاع, الفريق فتحي أحمد علي القائد العام, الفريق مهدي بابو نِمِر رئيس هيئة الأركان, ونوَّابه: الفريق عبدالرحمن سعيد ”عمليات“, الفريق تاور السنوسي ”إمداد“، والفريق محمد زين العابدين ”إدارة“.

    في بداية الاجتماع، قرأ الفريق فتحي أحمد علي بعض نصوص المذكرات التي سبق وأن أرسلتها هيئة القيادة, وتحدَّث الفريق عبدالماجد خليل مُستعرضاً الأوضاع التي وصلت إليها المُؤسسة العسكرية, مُؤكداً في ختامها على تعامل السلطة التنفيذية السلبي مع تلك المذكرات. إلاَّ أن رئيس الوزراء، غضَّ الطرف في تعقيبه عن تلك الملاحظات، وحوَّل حديثه إلى تقصير القوات المُسلحة في القيام بواجبها، بنفس التسلسل سابق الذكر.. أما د. الترابي، فقد التقط القفاز ليصُب اللوم أيضاً على هيئة القيادة، في تقصيرها بعدم متابعة تلك المُذكرات، لأن: «مصيرها دائما ما يكون في الأدراج». فأصبح الحديث بينه ووزير الدفاع سجالاً, لاسيَّما أنه سبق أن أنحى عليه باللائمة، في تكراره الكلام عن السلام وهو وزير دفاع, وفق ما ذكرنا آنفاً. وقبل أن ينفض الاجتماع، طلب الفريق زين العابدين السماح له بدقائق معدودات, فتحدَّث في نقاط ثلاث, مؤكداً على أن المعنويات العالية للقوَّات المسلحة تعتمد على تماسك الجبهة الداخلية, وطالب بجهود دبلوماسية لقطع الإمدادات عن الحركة الشعبية، والتي تتلقاها من دول الجوار, وختم بضرورة إنهاء حالة اللاحرب واللاسلم التي تعيشها البلاد.

    لأن ما قيل في الاجتماع تبخَّر في الهواء, وما كتب في المُذكرات كان مصيره الأدراج, خرجت هيئة القيادة بقناعة مفادها أن السُلطة التنفيذية عاجزة تماماً عن تلبية متطلبات المؤسسة العسكرية.. أما على الصعيد السياسي، المرتبط بتماسك الجبهة الداخلية, فقد تفرَّقت أحزابه أيدي سبأ.. بين راغب، ومتمنِّع، ومعارض لاتفاقية السلام.. والمدهش أن رئيس الوزراء كان قاسماً مشتركاً أعظم في هذا الثالوث المتناقض.

    بعد ذلك الاجتماع بأيامٍ قلائل، رأى وزير الدفاع أن استقالته أمرٌ لا مناص منه.. وبعدها بثلاثة أيام، دعا القائد العام كل قيادات القوَّات المسلحة من كافة الوحدات للتشاور, وذلك ما أسفرت عنه المذكرة الشهيرة. ورغم أن الزيارات الليلية تفزعُ السياسيين, خاصة في السودان، الذي كثرت فيه الانقلابات العسكرية, لم ينتظر القائد العام صباح اليوم التالي, فحمل المذكِّرة، وبصُحبته رئيس هيئة الأركان للعمليات الفريق مهدي بابو نِمِر، وأحد نوابه, وسلموها لرئيس مجلس رأس الدولة أحمد الميرغني, ومن ثمَّ إلى السيد الصادق المهدي في الثانية عشرة منتصف الليل.

    بعد يومين من استلامها، أي في يوم 22/2/1989، تحسَّس رئيس الوزراء قلمه, وردَّ على المذكرة بمذكرة مطوَّلة, تحدث فيها بتفصيلات عن واقع ”فانتازي“, وكان لافتاً توقفه في بندين متصلين بالتداعيات اللاحقة, فالبند السابع عشر من المذكرة، جاء فيه: «إننا جميعاً، قيادة وقاعدة، منتشرين في كل بقاع السودان, يجب أن نؤكد بوضوح لا لبس فيه أننا مع خيار الشعب السوداني الأصيل في الحفاظ على الديمقراطية, كما أكدنا ذلك في السادس من أبريل, وإننا نرفض كل أنواع الديكتاتورية, وسنظل أوفياء لواجبنا المقدَّس في حفظ وصون سيادة الوطن».. ردَّ رئيس الوزراء على ذلك بقوله: «هذا التزامٌ إيجابي في حد ذاته, كذلك لا بديل له، فالانقلاب العسكري ممكنٌ وسهل, الثورة عليه ممكنة وحدثت, وعلينا أن نجنِّب بلادنا هذه الدوامة».. ثم البند الآخر الذي جاء في ختام المذكرة، ورمى بتاريخٍ قاطع: «نرفع لكم هذه المذكرة النابعة من إجماع القوات المسلحة لاتخاذ القرارات اللازمة في ظرف أسبوع من اليوم».. وردَّ عليها المهدي: «هذه نهاية غير موفقة، لأنها تشبِه الإنذار، وتفتح باب ملابسات, فالذين يريدون إحداث انقلاب عسكري سيجدون منها مدخلاً».

    بعد أن ردَّ منفرداً، رأى المهدي بعدئذٍ ضرورة إشراك طاقم مجلس وزرائه، الذي قوامه قارعو طبول الحرب, فتضامنوا معه بردٍ في 25/2/1989.. ومع اقتراب العد التنازلي لمُهلة الأسبوع، خاطب المهدي الجمعية التأسيسية في 27/2/1989, وطَلَب إمهالاً حتى الخامس من مارس/آذار, وقرنه بطلب تفويض من الجيش, والتزامٌ بعدم اللجوء لانقلاب عسكري، حتى يُباشر تنفيذ المطلوب في المُذكرة.. كذلك طلب من النقابات الكف عن الإضرابات عن العمل، والاتجاه للإنتاج.. وكما ذكرنا من قبل، قرن عدم تنفيذ هذه الطلبات بتقديم استقالته في اليوم المُحدَّد.

    أجهضت هيئة القيادة توقعاته في اليوم التالي مُباشرة، وأعلنت في بيان لها أنها: «لا تفوِّض مطلقاً صلاحياتها ومسؤولياتها المنصوص عليها في المادة [15] من دستور السودان الانتقالي».. وعلى حذوها سارت القطاعات المهنية الأخرى, فوضعوا رئيس الوزراء في محك صعب, تحَلحَلَ منه بالرواية التي ذكرنا, والتي لم تخطر على بال بشر!!

    واقع الأمر، أن هيئة القيادة نفسها تراخَت في فترة الأسبوع الذي حدَّدته كإنذار, بدليل مُضي أكثر من شهر حتى تشكيل حكومة الوحدة الوطنية في 26/3/1989.. والواقع أن التراخي انعكس على رئيس الوزراء برداً وسلاماً, ولربما تواترت إليه أنباء ”القسم الغموص“، فزادت من اطمئنانه, ولم ينس أن يُسمِّي كل ذلك ”تمريناً ديمقراطياً“.. مثلما أبدى قياديٌ آخر ارتياحه بالتقليل من شأن الإنذار, إذ نفى السيد مُبارَك الفاضل وزير الداخلية: «أن يكون لإنذار الجيش أي مدلولات، سوى الحصول على رد, بدليل أن الإنذار انتهى ولم يحدث شيء».

    ذلك ما كان من أمر القوَّات المُسلحة عشية دخول البلاد في متاهتها الكبرى.. وتلك بعض ردود فعل رئيس الوزراء إزاء التطورات التي كانت تمورُ بداخلها.. ومن المُفارقات، أنه بعد أن غادر كرسي السلطة، وركن إلى حالات التأمل التي يهواها، أصرَّ في تقييمه لتلك الأوضاع على ما لا رأته عين, أو سمعت به أذن, أو حسَّه مواطنٌ في بلد الثلاثين مليون نسمة: «حققتُ للبلاد أنا وزملائي تمويلاً تنموياً في حدود [3] مليارات من الدولارات, ولسد العجز السنوي والمعدات العسكرية تمويلاً بلغ في السنوات الثلاث [4] مليارات من الدولارات, أنا لستُ فخوراً بالحصول على هذه المليارات السبعة, وما مولتُ من تنمية وبترول وسلع تموينيه، واستهلاكية، ومعدات, وكنتُ أعتبرها مرحلة تنتهي بقيام الانتخابات العامة المتوقعة في أبريل 1990، ليواجه أهل السودان قَدرهم، وكان برنامجنا للانتخابات سيكون في هذا الاتجاه». وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم.. فمن المؤكد أن رئيس الوزراء قد خلط بين التمنيات والواقع, الذي لم يشهد ولو قدراً ضئيلاً من تلك الإنجازات.. فعلاَّّم الانقلاب إن كان ذلك حقيقة؟! ولماذا يقف مواطن أترفته هذه الإنجازات موقفاً محايداً من الانقلاب بعد حدوثه؟!

    من جهة ثانية، يبقى اعتراف رئيس الوزراء بتأزيم فترة حكمه أمراً عصياً، رغم تمدد السنين، وتداخل الأحداث.. كذلك يصعب الطلب منه توجيه ذات النقد لنفسه، مثلما وجَّهه لهيئة قيادة القوَّات المسلحة, خاصة أنه تقلَّد، إلى جانب رئاسة الوزارة, منصب وزير الدفاع لعامين من أصل ثلاثة أعوام وبضعة أشهر, هي فترة حكمه في الفترة الديمقراطية الثالثة, والتي شكَّل فيها خَمس حكومات، رأسها جميعها دون كللٍ أو ملل, وبهمَّة مَن ترجَّحت إنجازاته على إخفاقاته.

    غير أن المُتابع لمسيرة المؤسَّسة العسكرية نفسها، منذ سيل المذكرة الذي جرى من عَلٍ, لا يستطيع أن يتغافل عن مسئوليتها فيما حدث بعدئذٍ.. فهيئة القيادة رمت بتهديدٍ لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى، فتقاصر فعلها عن قولها.. ومذكرتها، حتى لو حَسُنَت النوايا حولها كآلية ضغط، إلا أنها تحوَّلت إلى خطأ قاتل، تَجرَّعته قبل الآخرين.. فهي، وفق تقدير أحد منسوبيها: «هيئة القيادة جهَّزت المسرح تماماً لقيام حركة انقلابية بأي مجموعة منظَّمة, إن لم يكن باسم القائد العام كما حدث فعلاً, فقد خلقت لهم المبرِّرات والأسانيد التي جاءت في المذكرة». وكان لافتاً في أكثر من فقرة، تأكيد الدور المُناط بالقوات المسلحة، بما في ذلك حماية النظام الديمقراطي, لكنها في واقع الأمر: «وضعت الجمرة على أنف النظام الديمقراطي, ولم تفعل سوى تجهيز المسرح لانقلابٍ عسكري, قام بتسديد أولى لطماته إلى كل من ساهم، أو كتب، أو شاركَ في إعداد المذكرة». والحقيقة ليسوا كلهم, فبعضُ الذين تآمروا على النظام الديمقراطي، كانوا حضوراً, وآخرون مِمَّن غيَّروا ولاءاتهم، وانغمسوا في سلطة الإنقاذ، كانوا حضوراً أيضاً. لم يكن كل الذين شاركوا في عزف ذلك اللحن الجنائزي للنظام الديمقراطي، من المؤمنين قولاً وفعلاً بمنطوق المادة [15] من الدستور الانتقالي لعام 1985, والتي تمَّ الاستشهاد بها في صدر المذكرة.

    القائد العام، الفريق أول فتحي أحمد علي -رحمه الله- حتى بعد أن استنسرت بأرضه البغاث, عزَّ عليه الاعتراف بحُدود مسئوليته.. فردَّاً على سؤالٍ إن كان يشعر بالتقصير، أو المسؤولية، لأنه لم يكتشف تحرُّكات الانقلابيين، وهم ضباط تحت إمرته، قال: «أنا لا أشعر بالتقصير إطلاقاً»!! رغماً عن أنه من المعروف، لدى القاصي والداني، أن الاختراق الحقيقي للقوَّات المُسلحة من قِبَلِ الجبهة الإسلامية، انطلق من حصنه الأمين, بعد أن جنَّدت مُدير مكتبه، ”العقيد بحري سيِّد الحُسيني عبدالكريم“ لصالحها, فأمدَّها بكل حركات وسكنات المؤسَّسة العسكريَّة، التي كانت تصبُّ في مكتب القائد العام.. وقد ركن الفريق فتحي، بعد وقوع الكارثة، إلى تفسير ذلك بمثالية -عُرِفَت عنه- وكانت أقرب إلى ”ندم الكسعي“, وإن صَعُبَ عليه الإفصاح عنه, فكتب يقول عن مدير مكتبه: «مَثلٌ للخيانة والغدر بشرف المهنة، وقسم الولاء للوطن، ولقائده.. لقد باع الاثنين بعد مذكرة القوات المسلحة بمبلغ [3] ملايين جنيه.. لقد نسَّق مع المتآمرين، وأفشى أسرار القيادة، وتحركاتها، وساعد في خطة الخداع على باقي القيادات.. رجلٌ ضرب أمته، وخان أمانتها، وأذلها ببيع ضميره وشرفه وقسمه العسكري.. فهل يُرجى منه أي خير لوطنه وشعبه وجيشه؟! إن الخيانة قديمة قِدَم التاريخ، وبراعة الماكرين والمتآمرين تفوت ولو إلى حين, على الأذكياء».

    لأن التاريخ تسلسلٌ لا فجوات فيه, تلاحقت لعنة المذكرة - كما سنبيِّن لاحقاً- على القائد العام، وهو يخوض غمار العمل المُعارض، في تجربة القيادة الشرعية, فلدغ من ذات الجحر للمرة الثانية!! وإن كانت المسؤولية التاريخية قد أناخت بكلكلها يومذاك على القائد العام, إلا أنها شملت كل أعضاء هيئة القيادة تالياً, الذين ازدردوا كلمات المذكرة حرفاً حرفا, وناموا ملء جفونهم عن شواردها، حتى لحظة إنفاذ الانقلاب.. ويضاعفُ من حجم مسؤولياتهم، أن بعضهم كان بمقدوره أن يفعل شيئاً مضاداً يُربِكُ به - على الأقل- خطة الانقلابيين, مثل رئيس هيئة الأركان مهدي بابو نِمِر، الذي عيَّنته الإنقاذ وزيراً للصحة لبعض الوقت, وكان قد أُعتقل من منزله في وقت متأخر من صبيحة يوم الجمعة, بعد أن ذاعَ خبر الانقلاب، وعمَّ العاصمة والقرى، والعالم الخارجي.. فقد ثبت أنه كان بمقدوره -في إطار خطط الإرباك- تحريك بعض الوحدات العسكرية, خاصة تلك التي تقع في منطقة أمدرمان، مقر سكنه, والتي لم تكن ضمن خطة الانقلابيين بالكامل!! ولا يدري المرء إن كان قد استذكر ساعة اعتقاله قولاً مأثوراً، نطق به قبل أقل من أسبوع من الانقلاب, وذلك حينما انفعل في لقاءٍ تنويري بمنطقة الخرطوم بحري العسكرية، وهو يشرح ملابسات الانقلاب ”المايوي“، فقال: «مافي واحد يقدر يعمل انقلاب ونِحنا -أي هيئة القيادة- موجودين». ثم مدير الاستخبارات العسكرية، اللواء صلاح مصطفى, والذي برع قبل أسبوع أيضاً في متابعة سيناريو ذلك الانقلاب الوهمي, وعجز جهازه عن توفير دليل يعتقل بموجبه أصحاب الانقلاب الحقيقي!! أما بقية العِقد النضيد، من أعضاء هيئة القيادة، فلم يكونوا بأحسن حالاً, ”فقد وافق شنٌّ طبقه“.

    عوداً على بدءٍ, كانت تلك وقفات في المسارين، أوردناها كأمثلة لنوضِّح من خلالها -دون تعسف أو أحكام مسبَّقة- مسئولية رئيس الوزراء, وكذا الآخرين في ما حدث من تطورات سياسية وعسكرية، أجهضت النظام الديمقراطي، وغيَّرت مسيرة البلاد السياسية, بتأكيد أن مسئوليته تجاوزت حدود العلم المسبق بالانقلاب, وساهمت في تأزيم المناخ السياسي، الذي هيأ الظروف لحدوث الانقلاب نفسه.. وعليه، فلا غرو أن وجد رئيس الوزراء ضالته فيما ردَّده البعض، من أن الانقلاب تمَّ لقطع الطريق أمام مبادرة السلام!! وهو التفسير الذي استخلص النتائج دون النظر للحيثيات, ولا ينفي منطلقات الجبهة الإسلامية في تنفيذ الانقلاب حيث إنها أيضاً كانت ضمن الزاعمين بنجاح جولة المفاوضات في 4/7/1989، وانعقاد المؤتمر الدستوري في 18/9/1989.. غير أن انحياز رئيس الوزراء لهذا المذهب التفسيري، يجيء من منطلق عقدة ذنب سياسية اقترفها يومذاك، ولا يود الإفصاح عنها كحقيقة, أو الاعتراف بها كنقد ذاتي.. فكلاهما ليس لهما متسع في قاموسه.



    المَشْهَدُ الثانِي: مُؤامَرَة عَلى المؤَامَرة

    نسبة إلى أن هذا المشهد ليس معنياً بالتوثيق الكامل، لبدايات تسرُّب عناصر تنظيم الإخوان المُسلمين، في أوساط القوَّات المُسلحة, لهذا سيتركز المبحث في الكيفية التي خُطط ودُبر ونُفذ بها انقلاب الثلاثين من يونيو/حزيران 1989.. علماً بأنه لم يكن وليد تلك اللحظة، فقد طرحت فكرة الانقلاب أكثر من مرة، وفي فترات تاريخية مُختلفة، كانت تطفو أحياناً صعوداً، وتختفي أحياناً أُخرى هبوطاً، طبقاً لمجريات الأحداث. وبغضِّ النظر عن تفصيلات كثيرة، فقد كان تغلغل كوادر عسكرية إسلامية في أوساط القوَّات المُسلحة، في الفترة التي انخرط فيها تنظيم ”الإخوان المسلمين“ في النظام المايوي ”جعفر نميري“، بمُوجب ما سُمِّي بـ”المُصالحة الوطنية“ في 1977، حافزاً في تكوين جناح عسكري للتنظيم، أوكل أمر قيادته للعميد مهندس ”الهادي المأمون المرضي“, لكنه كان بمثابة ”خليَّة نائمة“، وخملت الفكرة نفسها –أي الانقلاب- إلى حدٍ ما، إثر تحكم التنظيم في النظام المايوي العام 1983، بعد تبني الأخير تطبيق ما سُمِّي بـ”قوانين الشريعة الإسلامية“، أو ”قوانين سبتمبر 1983“ وفق الشهر الذي صدرت فيه. ونشطت مرة أخرى، بعد انتفاضة أبريل 1985، تحسُّباً من الضربة القاصمة التي وجَّهها نميري للكوادر القيادية في التنظيم قبيل الانتفاضة، باعتقالاتٍ جماعيَّة في 10/3/1985، طالت معظم قيادات الإخوان، وعلى رأسهم د. حسن الترابي، وأسماهم وقتئذ تشفياً بـ”إخوان الشيطان“.

    في الفترة المذكورة، تولى قيادة التنظيم المُقدم طيار ”مُختار محمَّدين“, بدلاً من العميد المرضي.. وتُجمع المصادر على أن الفترة التي تولَّى فيها ”محمَّدين“ قيادة التنظيم, وهي مطلعُ الثمانينيات، كانت هي البداية الجادَّة لبناء تنظيم عسكري فاعل لحركة الإخوان المُسلمين، داخل القوَّات المُسلحة. ثمَّ تولى بعد ذلك الملف بأكمله في القيادة السياسية للتنظيم، أثناء الفترة الانتقالية، السيد ”علي عثمان محمد طه“، وبرزت فكرة تدبير الانقلاب بشكل جدِّي خلالها، مُوازية للمُشاركة السياسية للتنظيم مع بقية القوى السياسيَّة في الحياة الديمقراطية. ورغم اضطراب وعدم استقرار المناخ السياسي في تلك الفترة، والذي ربما كان مُحفزاً لتنفيذ الفكرة، إلاَّ أن غالبية قيادة التنظيم عارضت تقويتها, بدعوى أن الآثار السالبة التي خلَّفها الحكم ”المايوي“ سياسياً ومعنوياً, ربما تحولُ دون نجاح الفكرة, من حيثُ تأييدها، والتجاوب معها في الأوساط الجماهيرية, وأُرجِئت ريثما تنتهي الفترة الانتقالية, لتقييمُ تجربة مُشاركة التنظيم، الذي اتخذ مُسَمَّى ”الجبهة القومية الإسلامية“ في مايو/أيار1985، قبيل إجراء الانتخابات البرلمانية, ونظامها الديمقراطي الذي سيتأسَّس عليها.

    في غضون ذلك، تمدَّد التنظيم السري العسكري أثناء الفترة الديمقراطية (1986–1989)، وخلال فترتها الزمنية القصيرة, وبما صاحبها من عدم استقرار واضطراب في المُناخ السياسي, تحفزت أوساط ”الجبهة القومية الإسلامية“ لتنفيذ فكرة الانقلاب، بعد أن ساهمت بقدرٍ كبير في إضعاف النظام الديمقراطي نفسه, خاصَّة في النصف الثاني من العام 1988. بَيْدَ أن خُطط الجبهة اضطربت أيضاً، على إثر اختطاف الموت لرئيس التنظيم السري، المُقدم ”مُختار محمَّدين“، بعد تحطم طائرته نهاية العام نفسه، في مناطق العمليات بسماء مدينة الناصر، واختير مُجدَّداً اللواء ”محمد المأمون الهادي المرضي“ الذي حلَّ مكانه لفترة انتقالية قصيرة، ثم اختير العميد ”عثمان أحمد حسن“. ومع ذلك، ظلَّ الأول قريباً من التنظيم, ويبدو أنه كان الأكثر إلماماً بخفاياه: «كانت المفاجأة هي في ظهوره بعد يوم واحد من انقلاب الجبهة الإسلامية في 30 يونيو 1989، كشخص له نفوذٌ كبير في السُلطة الجديدة, إذ قام بتفقد دار الضيافة، التي كانت تضم المُعتقلين من قادة القوَّات المسلحة, وكنتُ شاهد عيان لرُوحِ الغبطَة والتشفِّي التي ظهرت عليه خلال طوافه غير المُبرَّر على منطقة عسكرية، وهو متقاعدٌ خارج الخدمة. عند صدور قرار تعيين مجلس وزراء الانقلاب, عُيِّن اللواء المُهندس الهادي المأمون المرضي وزيراً للأشغال العامة, وكان يقول للمُقرَّبين منه: في واقع الأمر.. ”أنا رئيس هذه الحكومة“.. “I am the defacto Prime Minister of this Government”».. وأصبحت للتنظيم أذرع كثيرة في كل فروع القوَّات المُسلحة داخل وخارج العاصمة.

    نشطت فكرة الانقلاب، واتخذت طوراً فعلياً وعملياً، في الشهور الأولى للعام 1989, ثمَّ ”دشَّنتها“ مُذكرة القوَّات المسلحة، التي قُدِّمت للقيادة السياسية في فبراير/شباط من نفس العام, فصعدت الفكرة إلى مرقى مُتقدِّم في الربع الأخير للفترة الديمقراطية.. ففي إطار تداعيات هذه المُذكرة، كان تقييم الجبهة الإسلامية لها أنها: ”عمل انقلابي“.. أو بالكاد، مُقدِّمة ”لمشروع انقلابي“.. وبالرغم من أن فكرة الانقلاب في ملامحها العامَّة، بدأت تظهرُ بمظهر المشروع المنافس والنقيض لـ”مُبادرة السلام“ (الميرغني- قرنق)، وبالرغم من أن المُبادرة نفسها، إن أقدم طرفاها -الحكومة والحركة الشعبية- على تنفيذها ”بمُعجزة“، فإن الجبهة الإسلامية لن تجد ما تعتاشُ به في خطابها السياسي والتعبوي، القائم على النقيض، بقرع طبول الحرب.

    إلا أنه، وفق ما أشرنا إليه في محور سابق، لم تكن أولوية التنظيم في قطع الطريق أمام ذلك الهدف، ولكنه جاء تالياً.. ويبدو أن ذلك ما رمى له الماسك بزمام الملف في حديث جاء بين السطور, وإن استجار فيه بذرائع فقه الضرورة، فقال: «على الصعيد العسكري، الانقلابيون الذين عملوا باسم ضباط المُذكِّرة، أو غيرهم من المدارس الانقلابية، هم الذين أنهوا النظامُ الديمقراطي التعدُّدي. وعلى الصعيد السياسي، كانت موافقة رئيس الوزراء صاحب الأغلبية البرلمانية على الامتثال لوجهة نظر بضعة ضباط, هُم ضباط المُذكِّرة التي تمثل انقلابا على الديمقراطية والشرعية والتعددية. ففي مناخ كهذا أعتبر نفسي فيه زعيماً للمُعارضة, وفى أي برلمان أعارض بعد أن تحوَّل البرلمان المُنتخب لجثة هامدة, ورث شئونه آخرون، لا تمثيل ولا وجود لهم في الجمعية التأسيسية؟ إن موقفي وموقف غيري من الذين وقفوا مع الإنقاذ وهُم من مختلف الأحزاب والتيارات والمدارس الفكرية, انطلق من حقائق ثابتة، تقول إن الانقلابيين اليساريين وبعض الذين لا يمكن أن يؤتمنوا على البلد في طريقهم لوأد النظام البرلماني التعددي».. عليه، وبغض النظر عن التبريرات، فقد كان هاجس الجبهة الإسلامية أخذ زمام المُبادرة، باستباق تنظيماتٍ سرية وعلنية، أخذت تتبارى لتنفيذ ذات الفكرة.. ولما كانت القوات المسلحة هي هدف أولئك جميعاً، فقد رأت الجبهة الإسلامية أن المُذكِّرة وفَّرَت فرصة يمكن استثمارها، كغطاء تأميني يزيد من معدَّلات نجاح الانقلاب.

    المُفارقة، أن د. حسن الترابي، الأمين العام ”للجبهة القومية الإسلامية“ لم يُظهر مُيولاً حماسية لتنفيذ فكرة انقلاب عسكري لإجهاض النظام الديمقراطي الأخير, إلاَّ في رحلة الشوط الأخير تلك.. ولم يكن ذلك زهداً في العمل الانقلابي نفسه، ولا حُباً في النظام الديمقراطي كمنهج سياسي، ولكن تلك هي إحدى طرائقه في المُمارسة السياسية، كما خبرها المُقرَّبون، ولهذا رغب –التفافاً- أن تأتي الفكرة من داخل المؤسَّسة التنظيمية, وهي هيئة مجلس شورى الجبهة الإسلامية (التناقض أن عملاً غير شرعي يبحثُ عن مؤسَّسية), والتي اجتمعت بكامل عضويتها (60 عضواً) عقب المُذكرة، لمُناقشة فكرة الانقلاب، نزولاً عند رغبة الأمين العام، الذي تظاهر وقتئذٍ بالوقوف على السياج.. وبعد طرحها وتداولها، أجاز المجلس الفكرة بشبه إجماع، ولم يعترض صراحة سوى د. الطيب زين العابدين، وتحفَّظ عليها السيد أحمد عبدالرحمن، ود. إبراهيم أحمد عمر، ويبدو أن تحفظهما كان من مُنطلق التشكك في نجاحها، سيَّما وأن الأول -وفق ما أوردنا في مشهد سابق- كان من أنصار انقلاب مُزدَوج بين الجبهة الإسلامية وحزب الأمَّة. وبعد إجازة الاقتراح، وجد د. الترابي نفسه أمام واقع لن يُجدي معه الحياد فتيلاً, ويُعتقدُ أيضاً أن توجُّسه لم يكن مُتعلقاً بالفكرة نفسها، بقدر ما كان مُتعلقاً بمُنفِّذيها من العسكريين, الذين لا يعلمُ عنهم شيئاً, وليست له صلة مُباشرة معهم, بل إنه لا يملكُ أي معلومات كافية عن أيٍ منهم.. فعلاقتهم المُباشرة كانت، وظلت محصورة مع نائبه، السيد علي عثمان محمد طه، كما ذكرنا.

    قرارُ إجازة الانقلاب من الهيئة, تبعته قراراتٌ أخرى, حيث أوكِل للأمين العام الإشراف على تنفيذ الفكرة, على أن يختار بحريَّة من يشاء لإنجازها, وبحيث لا يعلمُ أعضاؤها أسماءهم، أو مهامَّهم, ويقوم الأمين العام كذلك ”بتنويرهم“ كل ثلاثة أشهر.. وبدوره، قام د. الترابي باختيار ستة، هم السادة: علي عثمان محمد طه, ياسين عمر الإمام, إبراهيم السنوسي, علي الحاج, عبدالله حسن أحمد, عوض الجاز.. واستند الاختيار إلى أن الأوَّل هو المسؤول منذ البداية عن المِلف العسكري, بينما كان الأخير مسؤولاً عن التأمين والجهاز الأمني في التنظيم، منذ البداية أيضاً.. أما البقية، فقد انحصرت مهامهم في الاستقطاب، التعبئة، التمويه، التمويل، وتأسيس خلايا هرمية ولجان، وكذلك السيناريوهات السياسية والحملات الإعلامية, وتهيئة الأوساط الجماهيرية (مثل التظاهرات المُتواصلة ضد المُبادرة، بذريعة التخلِّي عن الشريعة والاستسلام ”لحركة التمرُّد“) ولعلَّ تفرُّعاتها معروفة في هذا الصدد.

    غير أن أخطر ما طرح في سيناريو التنفيذ، ما اقترحه أحدهم حول ”ضرورة تصفية القيادات الطائفية، وقياديين من الحزب الشيوعي“، الأمر الذي تباينت حوله آراء المجموعة بين مُؤيِّد (3)، ومُعترض (1)، ومُتحفِّظ (2)، فتداولوها مع د. الترابي، الذي رفضها تماماً.. وعوضاً عن ذلك، تمَّ التواصي والاتفاق على سيناريو ”عدم استخدام العنف إلاَّ في حالة مُبادرة الطرف الآخر“. أيضاً وضع المُخطِّطون نسبة كبيرة للفشل، بمعطيات الأمر الواقع نظرياً, مُستندين على أن القوى السياسية والنقابية ربما تلجأ إلى تفعيل ”ميثاق الدفاع عن الديمقراطية“, ممَّا سيضع الانقلابيين في محك صعب.. إضافة للحاجز النفسي، الذي يُحتملُ أن يقف حائلاً دون تقبُّل الشارع السُوداني لفكرة الانقلاب نفسها, خاصة أن مُمارسات الديكتاتورية الثانية لم تطمس آثارها بعد. وقد وجد السيناريو علاجاً لهذه الاحتمالات المُتوقعة, بالتراضي حول اتباع الأسلوب الفرانكوي، ”الصدمة الفجائية“, وذلك باستخدام ”العنف بمقدارٍ“ ترهيباً, و”الإغراء بإسراف“ ترغيباً, وهو المنهج الذي استمر لعدة سنوات بعد الانقلاب.

    على صعيد الترتيبات العسكريَّة، لم يكن الضبَّاط العسكريون الخمسة عشر, الذين أنيطت بهم مُهمَّة التنفيذ, من المُنتمين فعلياً لتنظيم الجبهة الإسلامية، سوى ستة منهم، وثلاثة ذوي توجهات إسلامية خاصة، والبقيَّة لا من هؤلاء ولا أولئك.. وكلتا المجموعتين، أُلحقت بالفكرة إلحاقاً.. بعضهم قبل التنفيذ بأيام معدودات، وهم لا يعلمون من أمرها نصباً, كما أن الستة المُنضوين تحت لواء التنظيم فعلياً, لم يكن بينهم واحدٌ في الهيكل التنظيمي للجبهة الإسلامية, ويشارُ إليهم جميعاً بـ”التنظيم العسكري السري“, وبأسماءٍ ”كودية“.. لهذا، فقد ارتأى المسؤول عن الملف إدخال عُنصر المال، لأول مرة في تاريخ الانقلابات العسكرية في السُودان, باقتراحٍ وافقت عليه المجموعة, وبموجبه تمَّ تسليم كل منهم مبلغ ستة ملايين جنيه سُوداني، نقداً وعينياً, تحوطاً لتأمين أُسرهِم من غوائل الدهر، في حال فشل الانقلاب، وتعرُّضهم لمُحاكماتٍ قد تصل حدَّ الإعدام. ولعل شراء الذِمَم هذا قد شكل ضمانة في قطع دابر الثرثرة، التي طالما كشفت أسرار معظم الانقلابات العسكريَّة في السُودان.

    استلزمت نواحٍ إجرائية تعديل قيادة التنظيم العسكري السرِّي، بإحلال العميد عمر حسن أحمد البشير بدلاً من العميد عثمان أحمد حسن, وذلك نسبة لتردُّد الأخير دوماً، بدعوى ”عدم الجاهزيَّة“.. أما الأول، فإضافة إلى حماسه واندفاعه المعروفين، وعُضويته المُبكرة في التنظيم, ورُتبته العسكريَّة الكبيرة، فإن اختياره تمَّ وفق ما يُسمَّى بـ”التقييم الذاتي“ في الأجندة التنظيمية للجبهة الإسلامية في اختيار القيادة، وهو يختصُّ بتقييم مَلَكَات وصِفات وسُلوك الشخص المعني, وأهمَّ ما فيه، افتراضه عدم خضوع المَعنِي بالاختبار للعاطفة ”في حال وجد نفسه في موقفٍ ينشأ عند التنفيذ، أو بعده، في أي إجراء يتطلَّب توطيد أركان السُلطة في أوقات الشدَّة والأزمات“.. وقد تطابقت ”الظروف الاجتماعية الخاصة“ للعميد البشير في التقييم مع تلك الفرضيَّة، والتي تماثل إلى حدٍ ما ذات ”الظروف“ التي كانت مُحيطة بتكوين الرئيس المخلوع جعفر نميري, ويعتقد بأنها تحكمت في تصرُّفاته، ومُمارساته في الحكم.. ويُذكرُ أن منهج التقييم المذكور, يتم إجراؤه بصورة سريَّة، دون علم الشخص المعني, ويظلُّ كذلك.. وربَّما يعلمه لاحقاً، بطريق غير مباشر، أو لا يعلمه على الإطلاق.

    أرسل السيد على عثمان طه -المسؤول عن المِلف- أحد كوادر الحركة الإسلامية، ”علي سليمان“، إلى العميد عمر حسن أحمد البشير، في قيادته بمنطقة المُجلد، جنوب كردفان.. وحضرا معاُ وِفقَ توجيهاته, وأقاما لبعض الوقت في مدينة الأُبيِّض, في منزل مسؤول الحركة الإسلامية ”علي النخيلة“، ومن ثمَّ اتجها نحو الخرطوم.. وكان أول عملٍ قام به العميد البشير، بعد وصوله, تسجيل البيان الأول للانقلاب في استوديوهات ”مُنظمة الدعوة الإسلامية“، وبإشراف فني من مسئول الاعلام فيها”عوض جادين“ وآخرين.. وبعد الاطمئنان على اكتمال كل الترتيبات، حدَّدت المجموعة ساعة الصفر لتنفيذ الانقلاب في الثانية بعد منتصف ليلة الخميس 22/6/1989.

    غير أن حدثاً مفاجئاً أربك الخُطة لبعض الوقت, إذ تمَّ في صبيحة الأحد 18/6/1989 اعتقال عدد من قادة وحدات عسكريَّة في العاصمة، على رأسهم العميد أحمد فضل الله، بتهمة التخطيط لانقلاب عسكري, وهو الحدثُ الذي أشرنا له بتفاصيل في المشهد السابق, وقلنا إنه كان ينبغي أن يكون حافزاً للقيادة السياسيَّة والعسكريَّة لاتخاذ المزيد من التأمين والإجراءات التحوطيَّة, واعتبره كثيرٌ من المُحللين السياسيِّين انقلاباً تمويهياً، للتغطية على الانقلاب الحقيقي, ولم يكن في واقع الأمر كذلك, فقد فوجئت به مجموعة الستة، وسابعهم د. الترابي, وكان الشيء الوحيد المربك -بالنسبة لهم- هو أن الاعتقالات شملت عدداً من كوادر التنظيم السرِّي، المُناط بها تنفيذ الانقلاب الحقيقي, فاستلزمت الخطة تغييراً طفيفاً!! كان المُدهشُ فيها تأجيل ساعة الصفر، لتكون بعد أسبوع واحد فقط من الموعد الأول, الأمر الذي اعتبره البعض أيضاً استهانة بالإجراءات الأمنية, لكن المجموعة استندت إلى عدَّة أسباب, أهمُّها خشيتها من ترهُّل الخطة، وسيناريوهاتها المتعدِّدة، والتي وُضِعَت بإحكامٍ، وقطعت شوطاً بعيداً.. كذلك للاستفادة من انشغال الأجهزة الاستخباراتية العسكرية, والقيادتين السياسية والعسكرية أيضاً بالتحقيقات حول المُحاولة المذكورة.. علاوة على أن رئيس الانقلاب نفسه كان مُقدَّراً له أن يُغادر السودان في الأول من يوليو/تموز، لحضور دورة في أكاديمية ناصر العسكرية بمصر لمدة عام, وجيء به من حاميته بغرض إكمال إجراءات استلام أمر تحرُّكه.. ولذا، فإن تأجيله لفترة طويلة قد يُلفت الأنظار لشيء ما.. المُفارقة، أنه حتى ذاك الوقت لم يحدُث أن التقاه د. الترابي, الذي كان لا يعرفه سوى اسماً، وكذا بقية المجموعة، باستثناء السيد علي عثمان طه.

    ضمن إطار سيناريوهات الانقلاب, قرَّرت مجموعة الستة المُشرفة, من باب التمويه ودرءاً للشبهات، أن تشمل الاعتقالات د. الترابي وآخرين، منهم: إبراهيم السنوسي وياسين عمر الإمام، واستثنت علي عثمان طه وعوض الجاز، وطلب من عبدالله حسن أحمد الاختفاء مؤقتاً, ووُجِّه د.علي الحاج بالسفر للخارج, فتجوَّل بين العواصم لأكثر من خمسة أشهر, حتى بعد نجاح الانقلاب!! وتمَّ التأكيد لدكتور الترابي بأن اعتقاله مع الآخرين لن يدوم لأكثر من شهر، على أسوأ الفروض.. ويبدو أن الفكرة قد راقت له, وصادفت هوىً في نفسه, فهي في وجهها الآخر تجعله بمنأى - في حال الفشل- عن فعلٍ بغير المُخاطرة، فهو لا يدفع أي سياسي للافتخار أو التباهي, لا سيَّما وقد عُرف عن د. الترابي أنه من جنس السياسيِّين الميكافيليين والدُهاة, الذين لا يتورَّعون عن بناء مجدٍ شخصي على أنقاض الآخرين. ومع كل ذلك، لم تحقق فكرة التمويه أغراضها المرسومة، وفق ما خططت المجموعة.

    في الشوط الثاني من السيناريو، وبعد أن وضعت مجموعة علي عثمان طه الترتيبات النهائية، بتغيُّراتها الطفيفة التي تضمَّنت ساعة الصفر البديلة, عرض الأمر برمَّته على د. الترابي، الذي طلب أن يُحضِروا له الضابط الذي وقع عليه الاختيار ليكون قائداً للانقلاب, فجيء إليه بالعميد عمر حسن البشير قبل يومٍ واحد من التاريخ المُحدَّد، أي في 29/6/1989, وفي ذاك اللقاء، الذي كان قصيراً, فوجئ الأخيرُ بالأوَّل يضعُ المُصحف بين يديه, علماً بأنه أدَّى القسم سلفاً, لكن الترابي طلب منه في المرة الثانية أن يُقسِم ”بألاَّ ينفرد بالسُلطة مُستقبلاً في حال نجح الانقلاب, وتوطدت أركان السُلطة الجديدة“.. لم يكن المذكورُ في وضعٍ يسمحُ له بأن يفكر مليَّاً فيما قاله ”الشيخ الدكتور“, ربَّما ليُبعِد أي شكوك أو هواجس قد تنعكس سلباً على علاقة مازالت تحبو, أو ربَّما كان في عجلةٍ من أمره، لمعانقة مَجد شخصي!! وأياً كان التفسيرُ، فالمُهم أنه أقسم دون تردُّدٍ، ودون تعقيب.. ولم يكن فيما تبقى من حديثٍ غير دعم القسم, بالتأكيد على ما يُطمئِنُ في توجهاته الإسلامية على المستوى الخاص, وزاد عليها بإلحاق غالبية الأسرة على المُستوى العام.. والمُفارقة، أن المُزايدة في التوجُّهات، لم تمنع تكرار القسم، وبذات المشهد، على مدى فترات التوتر في العلاقة بينهُما, وحتى قبيل ما سُمِّي بـ”المُفاصلة“ التي شقَّت صف الحركة الإسلامية، بعد عقدٍ كامل من نجاح الانقلاب.

    لم يكن السيد علي عثمان طه نجماً ساطعاً في الحركة الإسلامية، بالنظر إلى آخرين قضوا جُلَّ عُمرهم فيها، منذ بواكير تأسيسها, وإن كانوا جميعاً مِمَّن يدينون بولاء كبير للترابي، وزعامته للكيان، ذلك باستثناء الجناح المُنقسِم عن الحركة، بزعامة صادق عبدالله عبدالماجد وآخرين، تمرَّدوا على قيادته، بذريعة الاختلاف معه حول بعض أفكاره الجدلية، وليس من بينهم من يُمكن أن يُنازعه تلك الزعامة التي تبوأها بملكاته الخاصَّة, وقد تمَّ ترفيعُ علي عثمان طه في المؤتمر الثاني، بمساندة حقيقية من الترابي نفسه، ليُصبح نائباً له.. وبالتالي، فقد كان يتمتَّع بثقته المُفرطة، التي كرَّست الانطباع بأنه وريثه في زعامة الحركة الإسلامية أيضاً. وللسيد علي عثمان طه قدرات ومُميِّزات خاصة أيضاً, سيَّما في العمل خلف الكواليس، وسياسة التخفي, بمثال دوره.. فبالرغم من أنه لعب دوراً محورياً في تخطيط وتنفيذ فكرة الانقلاب، كما أوردنا, إلاَّ أنه ظلَّ في حالة نفي مُستمر، حتى في الوقائع التي صنعها بيده: «لم أُعتقل بالرغم من كوني كنتُ مطلوباً القبض عليّ في قائمة السياسيِّين الآخرين, ولكن الجنود أخطأوا عنوان بيتي, ممَّا منحني فرصة الاتصال بمجموعتي التي قيَّمت الموقف تجاه الطلاَّب, ثم طوَّرته من خلال القطاع الطلابي، والذي تسيطر الجبهة الإسلامية على اتحاداته, حيث قامت اللجنة التنفيذية لاتحاد طلاب جامعة الخرطوم بنقل مُساندتها وتأييدها للانقلاب العسكري للفريق البشير».

    واقعُ الأمر، رغم أسلوب المراوغة الذي اتَّبعته الطغمة الحاكمة في إخفاء هُويَّة الانقلاب السياسية والأيديولوجية, إلاَّ أن الاتهام ظل محورياً في الداخل والخارج, وبالتالي كان ثابتاً في كل الحوارات التي أجراها الصحفيون العرب والأجانب مع قادة الانقلاب.. لم يتردَّد في طرحه حتى الذين شاركوهم ذات الانتماء الأيديولوجي, مثل الكاتب المصري الإسلامي فهمي هويدي، الذي جاء إلى الخرطوم في زيارة طابعها البحث والتأكد, فطرح السؤال على الفريق عمر البشير، وكالعهد به، كانت إجابته غريبة ومدهشة معا: «الذين يعارضوننا لم يجدوا شيئاً يتهموننا به، سوى مسألة الانتماء للجبهة الإسلاميَّة, وسيظلُّ هذا السيفُ مُشهراً حتى يجدوا شيئاً آخر يأخذونه علينا.. فيلاحقوننا به.. ونحن نفهم دوافع المُلحِّين على مسألة العلاقة بالجبهة, فهم يُريدون حصارنا وعزلنا سياسياً وإعلامياً في الداخل، بوضع الثورة في حدود ذلك المجرى الضيِّق». وبمثل هذا الخطاب المُتلجلِج، سار حتى الذين قلنا إنهم أُلحِقوا بالفكرة إلحاقاً، وهم لا يعون من أسرارها شيئاً: «هذا هراءٌ تجاوزناه، لأننا ثورة قامت لاستقطاب جميع الفعاليات, والدعوة التي وجَّهناها للدكتور الترابي للمشاركة، هي نفسها الدعوة التي وجَّهناها إلى جون قرنق ومحمد عثمان الميرغني والصادق المهدي». لم يكن من السهل على الحاكمين الجُدُد الاستمرار طويلاً في سياسة إنكار هويَّة الانقلاب, وذلك بالنظر إلى الواقع الذي كانت مُجرياته تؤكد بوضوح أيلولة الوضع بالكامل للجبهة الإسلامية.

    قبل أن يطوي العام الأوَّل أوراقه, بدأت السلطة بإزاحة القناع تدريجياً, بالإيحاء أولاً بأن الجبهة الإسلامية تعملُ لتأييد الانقلاب، وبأنه ليس من صنعها، فقبَيل الاحتفال بالذكرى الأولى للانقلاب، صدر تقريرٌ تقييمي سرِّي, تمَّ توزيعه في نطاقٍ ضيِّق للمُوالين, وكان بعنوان: ”السودان, حقائق ووثائق“، جاء فيه: «إن تأييد الجبهة الإسلاميَّة للنظام في ظلِّ مُعاداة القوى الأخرى له يؤدي إلى مزيد من التلاحم، ولو من باب المصير المشترك, وستسعى الجبهة لتنمية علاقتها مع النظام كل يوم جديد, بنفس الكفاءة السابقة مع نظام نميري، إن لم يكن بتجويدٍ أكثر».. ومضى التقرير في الكشف الفاضح: «إن ثراء فقه الجبهة في مجال التعاون مع النظم العسكرية هو المدخلُ لفهم العلاقة بين الجبهة والثورة, فإذا كان كل حزب له كامل الحرية في تحمل نتائج سلوكه السياسي, فمن باب أولى أن تسلك الجبهة ما تشاء, فقط أن لا تبني مواقفها على مواقف أحزاب أخرى».

    إن إزاحة القناع تدريجياً كانت قد أملتها ظروف نأي جميع القوى السياسية عن المشاركة، أو التأييد.. إضافة إلى اتخاذ غالبيَّة الجماهير موقفاً حيادياً أقرب إلى السلبيَّة, كما أنها جاءت في إطار تحوُّل كلي، أزمعت السلطة الجديدة عليه, بغية عدم إتاحة الفرصة في أن تتحوَّل تلك المُقاطعة إلى فعل إيجابي، مُتمرِّد عليها, فقد جُوبهت حينذاك بأوَّل إضراب نفَّذته ”نقابة الأطباء“، في 26/11/1989, الأمر الذي دعاها إلى تنزيل المنهج القمعي، أو ”الصدمة الفجائية“ ترهيباً لكلِّ من تسوِّلُ له نفسه مُعارضتها, فأصدروا حكماً بالإعدام على نقيب الأطباء، د. مأمون محمد حسين, وحكماً بالسجن لمدة 15 عاماً على د. سيد محمد عبدالله بتاريخ 10/12/1989، في اليوم الذي يُصادف الاحتفال بذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان, وفى ذلك حكمة!! ثم تواصل مُسلسَلُ العنف الدموي بإعدام [28] ضابطاً في شهر رمضان، وعشيَّة عيد الفطر, وتلك حكمة أخرى!! وابتدعت السُلطة ظاهرة المُعتقلات السريَّة التي سُمِّيت من فرط ما يجري في داخلها بـ”بيوت الأشباح“, مارست فيها شتى صنوف التعذيب على المُعارضين, حدَّ التورُّط في جرائم جنائيَّة مُتعدِّدة, على يد عصبة تخصَّصت في ذلك, وبإشرافٍ مُباشر من د. عوض الجاز، د. نافع علي نافع واللواء بكري حسن صالح.. كذلك شرعت السلطة في تصفية جهازي الخدمة المدنية والمؤسَّسة العسكرية، وبقية القوَّات النظامية (الشرطة، السجون، حرس الصيد وضباط الجمارك) بقوائم فصلٍ تعسفي مُتتالية، سُمِّيت بالإحالة للتقاعد ”للصالح العام“, وإحلال كوادرها، وآخرين ذوي انتماءاتٍ هشة، بغرض استمالتهم.

    كانت هذه الإجراءات الترهيبية قد خلقت ”علاقة عصبية“, بين السُلطة الجديدة والمُواطنين, تواصل ليلها بنهارها، في ظلِّ القوانين المقيِّدة للحريَّات, ودبَّابات وعربات مجهزة شاهرة فوَّهات مدافعها، ومُرابطة -حتى يومنا هذا- في المواقع الإستراتيجية.. أيقنت السلطة أن القمع هو الوسيلة الوحيدة التي يُمكن أن توطِّد أركان حُكمها, فاستمرَّت فيه على مدى الأيام, لم يمل فيها الجلاَّد أنين الضحيَّة.

    بعد يوم مُضنٍ أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 1989، جاء العميد ”فيصل مدني مُختار“ إلى منزله مساءً، وقبل أن يستجم قليلاً، جاءه ”الرائد إبراهيم شمس الدين“، و”العقيد الطيب إبراهيم“ (الشهير بـ”سيخة“)، وألحَّا عليه بالخروج معهُما، فطافا به على بعض نقاط التفتيش، وكذلك على المواقع التي خصِّصت كمُعتقلات، وانتهى بهم الطِوافُ إلى منزل في الرياض، فتِحَت لهم بوَّابته بعد إشارات معيَّنة، ”نورُ السيَّارة وجهازُ التنبيه“، وصعدوا إلى صالونٍ في الطابق الثاني.. وبعد فترة قصيرة، دخل عليهم السيد علي عثمان طه ود. عوض الجاز، وكانت هذه هي المرَّة الأولى التي يرى فيها العميد فيصل المذكورين.. ودار حديثٌ مقتضبٌ حول حُدود علاقة التنظيم بالانقلاب، أهمُّ ما فيه ما قاله الأول للأخير، فيما يشبه التوجيهات: «يا أخ فيصل، طبعاً الانقلاب ده نحن عملناه، وبالتالي نحن بنساعدكم بعمل قرارات وإجراءات، وما عليكم إلا التنفيذ فقط». وفي صباح اليوم التالي، قابل المعني بالحديث العميد عثمان أحمد حسن، والعقيد فيصل أبوصالح، وسرد لهم فحوى ما دار في لقاء الأمس، فقال له الثاني إن نفس هذه القصَّة تكرَّرت معه، واستغرب الأول الرواية، أو هكذا ادَّعى, لأنه لا يستطيع أن يقول بأنه كان من المُفترض أن يكون قائد الانقلاب نفسه، فذهب ثلاثتهم للعميد عمر البشير، الذي أنكر من جانبه خُضوع المجلس العسكري لأي تأثيراتٍ خارجية. واتضح أن السيناريو برمته كان مُرتباً, فقد جرى مع آخرين أيضاً.

    تزامناً مع تلك الإجراءات، بدأت الروايات تتواترُ عن وجود ”مجلسٌ أربعيني“ يُديرُ شُئون الحكم من وراء ستار, وأخذت الروايات طابعاً أسطورياً, قامت السُلطة نفسها بتغذيتها على النهج الماسوني, في الوقت الذي لم يكن فيه هناك مجلسٌ أربعيني بعينِه, وكان ذلك عبارة عن ”المنظومة داخل النظام“، وهي المجموعة التي يقفُ على رأسها السيد علي عثمان طه, وتوسَّعت بعد نجاح الانقلاب، بالاعتماد على كوادر مُدرَّبة, كوَّنت أجهزة أمنيَّة ومهنيَّة مُتعدِّدة، لإحكام القبضة على مفاصل المُجتمع, وإخضاعه بالعنف والقهر والترويع، وفق المنهج المذكور من قبل.. وفي هذا الصدد، غذَّت السُلطة أيضاً روايات أخرى، مثل مخابئ سريَّة لأسلحة مُخزَّنة في الأحياء، تحسُّباً لساعة مُواجهة, وإن كانت الظاهرة حقيقية، لكن كان تضخيمها بغرض التخويف والترهيب.

    في أوائل ديسمبر/كانون الأول 1989، ظلَّت سيِّدة مُرابطة في منزل العميد فيصل مدني، ورفضت أن تغادره ما لم تره، وعند وصوله في وقتٍ متأخر من المساء، قالت له السيدة إنها خالة شاب اسمه ”مجدي محجوب محمد أحمد“، ورَوَت له حكاية اعتقاله ومحاكمته: «...وأنهم قالوا حيعدموه».. وأضافت أنها قصدته، لأنهم أخبروها: «...بأنك رجل طيب و”ود ناس“».. فحاول العميد فيصل الاتصال بعدَّة أرقام لزملائه في المجلس العسكري، ولم يوفَّق.. غادر منزله إلى ضاحية الرياض, وقصد المنزل الذي سبق أن ذهب إليه مرَّة واحدة، واتَّبع نفس الطريقة، الإشارات وجهاز التنبيه، ففتِحت له البوَّابة.. اتضح لاحقاً أن هذا المنزل هو مقرُّ منظمة الدعوة الإسلامية.. وجد هناك اللواء الزبير محمد صالح ود. عوض الجاز، فأخبرهم بسبب مجيئه.. وبينما صمت الثاني، قال الأول: «يا فيصل يا أخي، الناس ديل مُساندِننا، ومشاكل البلد دي تقيلة، وفهَّمونا إنو قصَّة الاقتصاد دي ما بتتحلَّ إلا يكون في إجراءات عنيفة، كان إعدام ولا غيره»، وصمت.. ثمَّ قال الثاني بعدها، وباختصارٍ شديد: «الموضوع البتتكلَّم عنه ده انتهى بدري»!! وخرج المذكور لا يلوي على شيء .

    كان لهذه الإجراءات وغيرها وجه آخر غير مرئي، في إطار النظام نفسه، و”المنظومة“ التي بداخله.. فالترابي ظلَّ في سجن كوبر، ضمن المُعتقلين الآخرين، لفترة ناهزت الستة أشهر, تحجَّج له خلالها المُخططون والمُنفذون, بأن إطالة بقائه لمزيدٍ من التمويه، غير عابئين بالروايات التي أجهضت منذ اليوم الأول السيناريو المزعوم.. أما ”المنظومة“ التي يقف على رأسها السيد علي عثمان طه, التي تغيَّرت وجوهاً ومهام, فبعد أن نجح سيناريو الانقلاب, أخذت زعيمُها العزَّة بالإثم، فتمدَّدت آماله وطموحاته وأحلامه, وراودته النفسُ الأمَّارة في زعامة التنظيم والنظام, والتي لن تتأتَّى إلاَّ بعملٍ دؤوب خلف الكواليس، يُزيحُ به الترابي عن موقعه.. وقد رسموا له دوراً أبوياً، بُغية أن يُمارس دور ”المُرشد“، كما في الثورة الإيرانية, فعمل الزعيم جاهداً مع الفئة التي اصطفاها، على ترتيب شئون النظام الجديد، في غضون الفترة التي قضاها المذكور في سجن كوبر, وهو لا يدري أن ما كان يجري خارج الأسوار، قطع شوطاً طويلاً, أصبح فيه ”النائبُ“ فاعلاً، و”الفاعلُ“ فعلاً مبنياً على المجهول!!

    بعد قضائه شهور ”العدَّة السياسيَّة“ في سجن كوبر, خرج الترابي، وبدأ يلمسُ ابتعاد شئون الدولة الجديدة بعيداً عن شواطئه.. فتعمَّقت شكوكه وهواجسه تجاه العسكريِّين, فقام في العام 1992 بحلِّ المجلس العسكري, ظناً منه أن ذلك سيقطعُ دابر الفتنة.. ومرة أخرى، لم تمتد ظنونه لأبعد من ذلك, ولأنه -”بعناده“ المعروف- أراد أن يكون المُتحكِّم الوحيد, في وسطٍ ذاقَ فيه الأخيرون طعم السُلطة.. كان من الطبيعي، أن ينشأ توتر دائم, ورغم أن صراعاً في طوره الجنيني بدأ يتبلور - دون حدَّة أو ضجة- وراء الكواليس، إلاَّ أن الطرفين استطاعا إخفاءه لبعض الوقت.

    صاحَبَ ذلك دخولُ حدثين مُهمَّين, أربكا سياسة التخفي، وسارعا في كشف قناع السُلطة نهائياً، على المستويين الداخلي والخارجي, وانعكسا من جهة أخرى على صِراع الكواليس, وفيه تسنَّى للترابي الإمساك بخيوط السلطة، وإعادتها إلى حياضه.
    • الأول: عندما حدث الغزوُ العراقي لدولة الكويت، في أغسطس/آب 1990, اتخذت الطغمة الحاكمة في السودان قرارها بالانحياز للدولة الغازية, وكان ذلك تنفيذاً لقرارٍ من التنظيم الدولي للحركة الإسلامية, وللترابي فيه نفوذ ودور مؤثر. وكما هو معروف، فقد بنى التنظيم حساباته, ليس حباً في نظام صدَّام حسين، وإنما استند إلى تقديرات إرث القوميَّة العربيَّة، التي عَصَفَ بها الغزو, فتدافعوا نحو بغداد، وأعلنوا تأييداً مُطلقاً للنظام العراقي، في السرِّ والعلن, وهم يعلمون أنه يخوضُ معركة خاسرة.. وشرعوا في تعبئة المُواطنين في العواصم العربية والإسلامية، بتظاهراتٍ مُتصلة، وبشعارات إسلامية، أقنعوا النظام العراقي سلفا بتبنِّيها, مُوقنين بأن تلك التعبئة التي قدحوا زنادها، ستحقق لهم وجوداً بين الجماهير من المحيط إلى الخليج.. وفى ذلك، زايدت الطغمة الحاكمة في الخرطوم, برسالة فحواها أن نموذج الدولة الإسلامية المُرتجى قد وَضَعَ لبناته في السُودان.

    نتيجة لكل ذلك, حدثت القطيعة الكاملة بين النظام والحكومة المصريَّة, أكثر الأطراف التي كانت مُؤيِّدة وداعمة له، منذ لحظة استيلائه على السلطة, وأصبحت الدولة المصرية فيما بعد أُولى ساحاته في تطبيق إستراتيجية ”تصدير الثورة الأصولية“. كذلك أورَث الانحياز إلى جانب العراق السلطة مقاطعة إقليمية ودولية شبه كاملتين, وانعكست بصورة أساسيَّة في المجال الاقتصادي, لكن الترابي -من خلال الرسالة الموجَّهة للتنظيم الدولي- عَمِلَ على سدِّ الفجوة الاقتصادية, ونجح في استدرار دعمه, واستقطاب كوادر إسلامية للاستثمار في السُودان. ثم خطا الترابي خطوة أخرى، بتوسيع قاعدة التنظيم العالمي من خلال فكرة ما أسماه بـ”المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي“, وجمع شتاتاً مُبعثراً في أرجاء الدنيا، لتأسيس الكيان الجديد, واجتمعوا في الخرطوم في أبريل/نيسان 1991، وانتخبوه أميناً عاماً.

                  

العنوان الكاتب Date
أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد02-27-07, 03:02 AM
  Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الصادق خليفة02-27-07, 07:21 AM
    Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? Nader Abu Kadouk02-27-07, 07:29 AM
      Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد02-27-07, 06:14 PM
    Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد02-27-07, 06:11 PM
  Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? حمزاوي02-27-07, 07:37 AM
    Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? عبدالمنعم خيرالله02-27-07, 08:41 AM
      Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد02-27-07, 06:17 PM
    Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد02-28-07, 02:08 AM
  Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? Tabaldina02-27-07, 08:57 AM
    Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? محمد عادل02-27-07, 12:59 PM
  Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? Tabaldina02-27-07, 01:26 PM
    Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? محمد عادل02-27-07, 01:32 PM
      Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? Tabaldina02-27-07, 02:08 PM
        Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد02-27-07, 06:23 PM
      Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد02-27-07, 10:06 PM
  Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? حمزاوي02-27-07, 01:33 PM
  Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? lana mahdi02-27-07, 01:33 PM
    Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد02-27-07, 06:31 PM
      Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? عبدالمنعم خيرالله02-28-07, 03:56 AM
        Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد02-28-07, 01:45 PM
          Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? عبدالمنعم خيرالله03-01-07, 02:01 AM
            Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-01-07, 02:18 AM
            Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? عبدالمنعم خيرالله03-01-07, 03:31 AM
              Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-01-07, 03:40 AM
                Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? عبدالمنعم خيرالله03-01-07, 04:13 AM
  Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? محمد فرح02-28-07, 02:20 PM
    Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد02-28-07, 03:36 PM
      Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? خالد عويس02-28-07, 04:39 PM
        Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد02-28-07, 06:27 PM
          Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? محمد حسن العمدة03-01-07, 01:19 AM
            Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-01-07, 01:33 AM
              Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? محمد حسن العمدة03-01-07, 02:16 AM
                Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-01-07, 03:50 AM
  Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-01-07, 02:26 AM
    Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? Mohamed Doudi03-01-07, 03:55 AM
      Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-01-07, 04:10 AM
        Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? عبدالمنعم خيرالله03-01-07, 05:26 AM
          Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? محمد حسن العمدة03-01-07, 11:40 PM
            Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? عبدالمنعم خيرالله03-01-07, 11:58 PM
            Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-02-07, 00:19 AM
              Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? نيازي مصطفى03-02-07, 02:58 AM
  Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-02-07, 04:25 PM
  Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-02-07, 04:32 PM
    Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-02-07, 04:40 PM
      Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-02-07, 04:49 PM
      Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-02-07, 04:54 PM
      Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-02-07, 04:59 PM
      Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-02-07, 05:03 PM
    Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? saif massad ali03-02-07, 04:48 PM
      Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-02-07, 05:05 PM
      Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-02-07, 05:10 PM
        Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? هاشم نوريت03-02-07, 05:30 PM
        Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-02-07, 05:32 PM
        Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-02-07, 05:39 PM
        Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-02-07, 05:46 PM
        Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-02-07, 05:50 PM
        Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-02-07, 05:57 PM
          Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-02-07, 09:30 PM
            Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? Abdel Aati03-05-07, 02:17 AM
              Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? إسماعيل وراق03-05-07, 06:48 AM
                Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-05-07, 11:36 PM
                Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-06-07, 01:38 AM
                  Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? إسماعيل وراق03-06-07, 06:35 AM
                Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-06-07, 01:53 AM
              Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? الجيلى أحمد03-05-07, 11:24 PM
                Re: أين يجلس حزب الأمة الآن??? محمد حسن العمدة03-06-07, 00:34 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de