خورخي بورخيس: أغنية إلى عندليب كشفت لي جوهر الشعر . أستمتعوأ!!!

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-25-2024, 03:20 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الأول للعام 2007م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
02-24-2007, 05:33 PM

jini
<ajini
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 30716

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
خورخي بورخيس: أغنية إلى عندليب كشفت لي جوهر الشعر . أستمتعوأ!!!

    Quote:

    محاضرات عن قراءاته الأولى بالعربية
    دمشق: مهدي محمد علي

    يقول بورخيس في خواتيم محاضرته الاولى التي تحمل عنوان (لغز الشعر).. يقول: «إننا نعرف ما هو الشعر. نعرف ذلك جيدا الى حد لا نستطيع معه تعريفه بكلمات أخرى، مثلما نحن عاجزون عن تعريف مذاق القهوة، واللون الاحمر او الاصفر، او معنى الغضب، الحب، الكراهية، الفجر، الغروب، او حب بلادنا. هذه الاشياء متجذرة فينا بحيث لا يمكن التعبير عنها الا بهذه الرموز المشتركة التي نتداولها. وما حاجتنا الى مزيد من الكلمات؟».

    يمكننا اعتبار هذه السطور احدى اهم الاضاءات لعنوان كتابه او محاضراته الست عن (صنعة الشعر).. الشعر باعتباره محض تجليات خاصة مثل تجليات: مذاق القهوة، واللون الاحمر او الاصفر، او الغضب، الحب، الكراهية، الفجر، الغروب، او حب بلادنا.. وهنا يحسن بي ان استشهد لهذه الحالة الاخيرة (حب البلاد) بقول شاعر عربي:

    بلاد ألفناها على كل حـــــالةٍ

    وقد يؤلف الشيء الذي ليس بالحسن

    وتُستعذب الأرض التي لا هوى بها

    ولا ماؤها عذب ولكنها الوطن!

    انه الشيء الحبيب والباهر دون تفسير، لأنه هو هكذا، خُلق فينا مثلما خلقنا... انها حالة صفات غير مقبولة، ولكنها محبوبة، فهل لهذه الحالة من تفسير محدد؟! اذ كيف يؤلف الشيء الذي ليس بالحسن؟! وكيف تستعذب الأرض التي ليس فيها الهواء الطيب «ولا ماؤها عذب».. والأمر كذلك مع الشعر الجيد فهو شيء حبيب وباهر دون معرفة أو تفسير.

    يقول بورخيس: «هناك أشعار تكون جميلة بصورة لا ريب فيها، دون ان يكون لها معنى، ولكن حتى في هذه الحالة يكون لها معنى: ليس معنى للعقل، وإنما للمخيلة..». ويضيف بورخيس هنا قائلا: «لا توجد بالنسبة لي، على الاقل، صورة واضحة. توجد متعة الكلمات، ومتعة ايقاع الكلمات دون شك، متعة موسيقى الكلمات».

    ان هذا يذكرنا بالشاعر والناقد ت. اس. اليوت الذي يقول بهذا الصدد «.. القارئ الاكثر نضجا لا يحفل بمسألة الفهم، أو قل ليس من أول قراءة».. واليوت يؤكد هذا المنحى من خلال تجربته الخاصة باعتباره شاعرا وناقدا في الوقت ذاته، ويتابع اليوت قائلا: «ان بعض الشعر الذي شغفني هو شعر لم أفهمه من أول قراءة، وبعضه شعر لا أحسبني أفهمه حتى اليوم».

    .. ونمضي في هذا المنحى مع بورخيس، وهو يورد مثالا لنص شعري جميل ومحبوب، دون ان يكون مفهوما.. انه يورد ابياتا يقول عنها: «انها تخلو من المعنى بصورة جميلة، بطريقة تبعث في النفس بهجة مطلقة، انها لا ترمي الى قول أي شيء».. ثم يورد تلك الأبيات:

    أيتها الحمامة المهاجرة المتخيلة

    يا من تشعلين آخر الغراميات

    يا روحا من ضوء، من موسيقى، من أزهار

    أيتها الحمامة المهاجرة المتخيلة

    ويعقب على الأبيات قائلا بأن هذه الأبيات لا تعني شيئا، لم تكتب كي تعني شيئا، ومع ذلك، فإنها متماسكة.. تتماسك كشيء جميل. إنها ـ بالنسبة لي على الأقل ـ جمال لا ينضب.

    ويستشهد بورخيس بكلام لروبرت لويس ستيفنسون الذي يقول «إن مادة الشعر هي الكلمات، وهذه الكلمات، كما يقول ستيفنسون هي لغة الحياة الحقيقية. إننا نستخدم الكلمات للأغراض اليومية التافهة، والكلمات هي مادة الشعر، مثلما هي النغمات مادة الموسيقى. ويتحدث ستيفنسون عن الكلمات كما لو انها مجرد قطع تركيبية مخصصة لتأمين حلول لحاجات عملية، ويبدي اعجابه بالشاعر القادر، بهذه الرموز المتيبسة المكرسة لأغراض يومية، أو مجردة، على تركيب بناء، يسميه ستيفنسون (النسيج).. ويتابع بورخيس هذه الأفكار في مكان آخر قائلا إن الكلمات كانت سحرية في البدء، وتعاد الى السحر على يد الشعراء»!.

    وفي مكان آخر يتابع بورخيس هذه التداعيات حول الكلمات ومدلولاتها في الحياة وفي الشعر، فيرى ان الشعر لا يسعى الى ان يستبدل، بقدرة السحر، حفنة من العملات المنطقية، وإنما هو، بالأحرى، يعيد اللغة الى منبعها الأصلي.. ويتابع قائلا: تذكروا ان (الفريد نورث ويتهد) قد كتب أن من بين الضلالات الكثيرة تبرز ضلالة المعجم الكامل المحكم.. يعني خدعة التفكير في أننا نستطيع أن نجد في المعجم، معادلا ورمزا دقيقا لكل ما تدركه الحواس.. ثم يختتم هذا المورد بالقول: «لا وجود لمثل هذا المعجم»! في محاضرته السادسة والأخيرة التي حملت عنوان (معتقد الشاعر) يعرض لنا بورخيس تجربته الذاتية في كتابة الشعر، فيشير إلى أنه يعتبر كل النظريات الشعرية إنما هي مجرد أدوات لكتابة القصيدة، وأنه يفترض أنه لا بد من وجود معتقدات كثيرة بهذا الخصوص، بقدر ما هنالك من أديان أو شعراء.. كذلك يقول قولاً باهراً وعميقاً بخصوص ما قرأه وما يكتبه.. يقول «أظن أن ما قرأته أهم بكثير مما كتبته، فالمرء يقرأ ما يرغب فيه، لكنه لا يكتب ما يرغب فيه، وإنما ما يستطيعه».

    بعد ذلك يروي لنا بورخيس كيف تكشفت له حرفة الشعر، فيورد مقطعاً من قصيدة (كيتس) الشهيرة (أغنية إلى عندليب):

    أنت لم تولد للموت، أيها العصفور الخالد

    يجب ألا يدوسك أناس آخرون جائعون

    الصوت الذي أسمعه عابراً هذه الليلة، هو الذي سمعه

    في الأيام القديمة، الفلاح والملك

    ربما هذا الغناء نفسه، قد شق طريقاً

    إلى قلب روث الحزين، عندما، بحنين إلى المنزل

    توقَّفتْ باكيةً في حقل قمح غريب

    ويعقب بورخيس على ذلك بأن يقول بأنه كان يظن أنه يعرف كل شيء عن الكلمات عندما كان طفلاً، غير أنه يكتشف بعد استغرابه من كلمات القصيدة التي تعتبر الطيور ـ تعتبر الحيوانات ـ شيئاً خالداً.. ويقول أيضاً: «كنت أعتبر اللغة شيئا لقول أشياء، للشكوى، أو للقول إنني لست سعيداً، أو حزيناً، ولكنني عندما سمعت تلك الأبيات (وأنا ما زلت، بطريقة ما، أسمعها منذ ذلك الحين) عرفت أنه يمكن للغة كذلك أن تكون موسيقى وعاطفة» ثم يختتم هذا المورد ـ كما نختتم سطورنا هذه ـ بقوله: «وهكذا راح الشعر ينكشف لي»!
                  

02-24-2007, 06:18 PM

doma
<adoma
تاريخ التسجيل: 02-04-2002
مجموع المشاركات: 15970

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: خورخي بورخيس: أغنية إلى عندليب كشفت لي جوهر الشعر . أستمتعوأ!!! (Re: jini)

    ابو الجنون مختاراتك دايما رائعه .
    شكرا يا دفعه
                  

02-24-2007, 07:05 PM

jini
<ajini
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 30716

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: خورخي بورخيس: أغنية إلى عندليب كشفت لي جوهر الشعر . أستمتعوأ!!! (Re: doma)

    Quote: ابو الجنون مختاراتك دايما رائعه .
    شكرا يا دفعه


    سلام يا دفعة ليك وحشة!
    ارجنتينا بلد النجوم الساطعة ماردونا وايفيتا وبورخيس بلد ولود
    احتى فى الكرة اشجع ارجنتينا بجنون وكانى من مواليد بونس ايرس (الهواء العليل)
    بورخيس دا السهل الممتنع بى ذاتوا وصفاتو
    وهاكى دى كمان
    Quote: كتاب /مع خورخي بورخيس في عوالمه الخيالية

    مع خورخي بورخيس في عوالمه الخيالية:شيء من الفانتازيا كي يصبح العالم أكثر واقعية

    بقلم: يوسف فاخوري

    كثيراً ما قابلت ارجنتينين عاديين، وبمجرد معرفتي بجنسيتهم أبدأ حديثي معهم عن خورخي لويس بورخيس. أشهر كتابهم القاصين. وكم كانت فرحتهم تصل إلى حد القفز والتهليل، أن أكلمهم عن بورخيس وليس مارادونا. فكل من يقابلهم لا يعرف من الارجنتين سوى نجم الكرة الذهبي. ومع يقيني ان كرة القدم فن جميل، إلا ان المشهد يعكس دلالة واضحة. ان لغة العقل والمشاعر لا يمكن مقارنتها بلغة الأقدام. أما الدلالة الثانية فهي تلك المعرفة الوثيقة لشعب من العالم الثالث يقرأ أدبه جيداً ويعتز بكتابه.
    هذا الكاتب الذي كان يتباهى ساخراً انه وزع سبعاً وثلاثين نسخة فقط من أول كتاب له في الثلاثينيات، أصبح في منتصف الستينيات نجماً أدبياً كبيراً.
    والغريب ان هذا الكاتب العاشق لفن القصة القصيرة والشعر، أصبح الدافع الأساسي في تطور الرواية الأمريكية اللاتينية، رغم انه لم يكتب الرواية. بل انه كان ينظر للرواية بتعال ويقول »لماذا نستغرق خمسمائة صفحة لبسط فكرة يستغرق عرضها الشفوي دقائق معدودة«.
    يقول الكاتب الفرنسي اندريه موروا »ان قصص بورخيس تجعلنا نصفه بأنه عظيم بفضل ذكائها المذهل، وثروتها من الابتكار، وأسلوبها المحكم الرياضي تقريباً. فليس لبورخيس أي وطن روحي. فهو يخلق خارج الزمان والمكان، عوالم خيالية ورمزية فيما صار يعرف بالميتافيزيقيا الخاصة به.
    وبإدراك واع يحدد لنا الكاتب المكسيكي كارلوس فوينتس موقع بورخيس من الأدب الأمريكي اللاتيني. يقول »الأثر النهائي لنثر بورخيس، والذي لولاه لما كانت هناك أصلا رواية أمريكية اسبانية، هو انه يثبت قبل كل شيء، ان أمريكا اللاتينية تفتقر إلى لغة، وانها بالتالي ينبغي ان تخلق لغة. وليفعل ذلك يخلط بورخيس الانواع الأدبية، وينقد كافة التقاليد، ويستأصل العادات الرديئة، ويخلق نسقاً جديداً للدقة والصرامة.
    كان لبورخيس الذي ولد عام 1899 ومات عام 1986 أسلاف بريطانيون، وكان يتكلم اللغة الإنجليزية بطلاقة. وكان في بيته مكتبة حافلة بكتب انجليزية لا حصر لها. سافر إلى أوروبا في سن الخامسة عشرة، وعاش في سويسرا واسبانيا، وتعلم اللغة اللاتينية، والفرنسية، والألمانية وعاد إلى الارجنتين في الحادية عشرة من عمره. وقد أتاح له اتقانه عدة لغات ثروة معرفية، وقراءة في مصادر مختلفة. مما جعله يعلن انه قارئ أكثر منه كاتب.
    يقول خوليو كورتاثار »علمني بورخيس ان أحذف كل العبارات المتكلفة، والتكرارات، وعلامات الحذف، وعلامات التعجب العديمة الفائدة، والعادة التي لا نزال نلقاها في الكثير من الأدب الردئ، والتي تتمثل في ان يقال في صفحة ما يمكن قوله في سطر«.
    الروائي ماريو بارجاس يوسا الذي كان مبهوراً بكتابات سارتر في مطلع شبابه، وكان يرى في مواقف وكتابات بورخيس المناقضة لليسار نوعاً من الزخرفات لفراغ طنان. انعكست لديه الصورة بعد أن بلغ نضجه. فكتب سارتر لم تعد تبهره، بينما واصل قراءة قصص ومقالات وقصائد بورخيس لمرات عديدة، وفي كل مرة تذهله بروعة ودقة نثره، وصفاء قصصه، وكمال مهارة صنعته، وقدرته على تحويل الواقع اليومي إلى فانتازيا خالصة. وهو ما سيظهر في روايات جارثيا ماركيث فيما بعد. مما جعله يدرك ان التقيمات الأدبية عابرة، وان الزمن يكشف عن خداع في رؤية جوهر العديد من الكتاب. وفي حوار صحفي أجراه يوسا مع بورخيس سأله »ما رأيك في السياسة؟ فأجاب بامتعاض: انها أحد أشكال الملل«.
    يتلاعب بورخيس باللغة وبالمعاني داخلها حين يقول (كل كاتب يخلق أسلافه) إذ يعترف بمصادره واقتباساته، فقد قرأ فلاسفة الإغريق السكندريين، وفلاسفة العصور الوسطى، وهو معجب بشكل خاص بالكاتب الانجليزي جه ويلز ووليم ون وكافكا وادجار ألن بو وتشيستيرون وغيرهم ممن يضيق المجال عن ذكرهم.
    ومن وجهة نظره لا أحد يمكنه ان يدعي الأصالة في الأدب. فكافة الكتاب ناسخون مخلصون تقريبا للروح، ومترجمون شارحون للنماذج الأصلية الموجودة سلفا. كما يرى ان أي كتاب عظيم وباق لابد من ان يكون مبهماً، فهو مرآة تكشف ملامح القارئ، غير انه لابد من أن يبدو المؤلف غير مدرك لأهمية إنتاجه.
    بعض الكتاب مازالوا يصرون على ان الواقعية هي ان يلتصقوا بالواقع أكثر، لكن البعض - وهم قليل - يعرفون كيف يبتعدون عن الواقع كي يصيروا أكثر واقعية.

    عن الرايه
                  

02-25-2007, 09:19 PM

صابرين الصباغ
<aصابرين الصباغ
تاريخ التسجيل: 02-22-2007
مجموع المشاركات: 131

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: خورخي بورخيس: أغنية إلى عندليب كشفت لي جوهر الشعر . أستمتعوأ!!! (Re: jini)

    عرفت أنه يمكن للغة كذلك أن تكون موسيقى وعاطفة
    رائع جدا الموضوع
    اختيار جميل جدا
    مودتي واحترامي
                  

02-25-2007, 09:45 PM

jini
<ajini
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 30716

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: خورخي بورخيس: أغنية إلى عندليب كشفت لي جوهر الشعر . أستمتعوأ!!! (Re: jini)

    Quote: عرفت أنه يمكن للغة كذلك أن تكون موسيقى وعاطفة
    رائع جدا الموضوع
    اختيار جميل جدا
    مودتي واحترامي

    اختنا صابرين شكرا للمرور البهى

    Quote: أجزاء من سيرة ذاتية
    خورخي لويس بورخيس


    ترجمة: بسام حجار (شاعر ومترجم من لبنان)

    "قاص وباحث"، صفتان (فقط) تلازمان كل تعريف بحياة وأعمال خورخي لويس بورخيس (ولد في بوينس آيرس عام 1899 وتوفي في جينيف عام 1986، كتب أعماله القليلة بلغات مختلفة، ثم ترجمت هذه اللغات بدورها إلى لغات مختلفة. بعض ما كتبه في أبحاثه وضمنه سيرته الذاتية المبعثرة، لم يكن سوى تلفيق؛ وفي بعض محاضراته التي دعي إلى القائها بين الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا واليابان، أجرى تدقيقا مطولا في نصوص مختلفة، واستند إلى مراجع غير موجودة، وأحيانا إلى مؤلفين اخترع أسماءهم وسيرهم ومجالات اختصاصهم. ومع ذلك قيل عنه انه أحد أساتذة الأدب في القرن العشرين.

    لم يعترف بورخيس الا بالقصة فنا أدبيا صرفا. شغف بالشعر وكتب بعضا منه، لكنه أهمل الرواية والأنواع الأدبية الأخرى. العالم بالنسبة له، هو مكتبة هائلة، حتى يحار واحدنا حيال ما يصفه بالعيش. أما الكتاب فهم كائنات مختلقة على غرار ما يؤلفونه، ففي آخر الأمر لا أحد يعرف من يكتب ماذا أو ماذا يكتب من؟ الاختلاق هو الحقيقة والحقيقة هي اختلاق.

    كتب الكثير عن أدبه وسيرته، وحين أراد أن يكتب، هو، سيرته كتبها أجزاء فير مكتملة بالانجليزية، وفي نيويورك عام 1970؟ لذلك أذنت لنفسي أن أنقل إلى العربية أجزاء من هذا النص عن لفة ثالثة هي الفرنسية، لظني أي في ذلك لا أخون النص الا قليلا، لأن خيانة النص الأصلية قد اقترفها كاتبه.

    الأرجح أن بعض الأسماء والعناوين والأحداث في هذا النص مختلق. لم أشر في أي موضع إلى مثل هذا الاحتمال لأن الاشارة تفسد سياق الاختلاق، ولأن أدوات التحقق معدومة أو شبه مستحيلة، ولأن الاختلاق يجعل النص طبقات متراصة من الكذب والصدق إلى أن يتبادلا صفتيهما؛ واذ ذاك كيف الاهتداء إلى ما كان صدقا وما كان كذبا في حكاية، مجرد حكاية؟

    فيما يلي الترجمة العربية للصفحات الأولى من "محاولة في (كتابة) سيرة ذاتية" الذي صدر، في طبعته الفرنسية، ملحقا بـ "كتاب المقدمات" لخورخي لويس بورخيس (سلسلة كتاب الجيب "فوليو"- باريس 1987).

    لا استطيع القول ما اذا كانت ذكرياتي الاولي ترقى إلى الضفة الشرقية او الضفة الغربية من نهر دولابلاتا الموحل المتهادي، بمونتفيديو حيث كنا نقضي أوقات عطل طويلة كسولة في فيلا عمي فرانشيسكو هاييدو، أو في بوينس أيرس، حيث رأيت النور، في وسط تلك المدينة عام 1899، ناحية شارع توكومان بين سويباشاوا سمرالدا، في منزل صغير متواضع يمتلكه جداي لأبي. على غرار معظم المنازل وقتذاك، كان سطحه مصطبة ومدخله بهوا فسيحا مزينا بعقد جسر يسمى "الزاغوان" وقد ألحق به خزان نجر مياهنا منه، وبردحتين خارجيتين. ولابد اننا سرعان ما انتقلنا منه للاقامة في ضاحية باليرمو لأنه المكان الذي ترقى اليه ذكرياتي الاولي عن منزل آخر من راحتين مطليتين وحديقة مجهزة بناعورة هوائية عالية ومن الجهة الأخرى من الحديقة فسحة أرض بور. في تلك الحقبة كانت باليرمو تلك التي أقمنا فيها، بالقرب من شارعي ستراند وغواتيمالا- ضاحية فقيرة من ضواحي المدينة وخير من سكانها لا يعترفون بأنهم يقطنونها بل يكتفون بالقول، إذا سئلوا، أنهم يقيمون في الناحية الشمالية من المدينة. كنا نقيم في أحد المنازل ذات الطابقين النادر وجودها في الشارع، فيما الجوار يقتصر بمعظمه، على منازل وطيئة وأراض بور. لطالما تحدثت عن تلك الناحية ناعتا اياها بالوضيعة غير أي لم أكن أقصد بذلك حرفية ما تعنيه عبارة SLUM في أمريكا، ففي باليرمو كان يقيم أناس فقراء لكنهم لائقون، والى جانب هؤلاء أناس غير مرغوب فيهم. كان في باليرمو أيضا لصوص وأشقياء- يسمون بالكومبا ودريثويس - اشتهروا بمشاجرات المدى، غير أن هذا الوجه من أوجه باليرمو لم يطغ على مخيلتي الا فيما بعد، لانهم في المنزل، كانوا يبذلون ما بوسعهم لكي لا ندرك ذلك وكانوا يفلحون في سعيهم على أكمل وجه، مثل هذا التغافل لم يكن ليشمل جارنا ايفاريستو كارييغو الذي صودف انه كان أول شاعر أرجنتيني يستغل تلك الامكانيات الادبية المتاحة في متناول يده، أما أنا فكنت غير مدرك تقريبا لوجود الكومبادريتوس لأني، عمليا ما كنت أغادر البيت مطلقا.

    أبي، خورخي غييرمو بورخيس كان محاميا، فيلسوفا فوضويا- من مريدي سبنسر- وكان، في الوقت نفسه، يدرس مادة علم النفس في معهد المعلمين للفات الحديثة حيث يعطي دروسه باللغة الانجليزية مستندا إلى مؤلف وليم جيس المختصر في علم النفس. وكان مرد إلمام أبي بالانجليزية إلى كون والدته، فاني هاسلام مولودة في ستافوردوشاير لأسرة متحررة من نورثميرلاند، اذ حملتها ظروف غير اعتيادية إلى أمريكا الجنوبية. فقد تزوجت الأخت البكر لفاني هاسلام مهندسا ايطاليا يهوديا يدعى خورخي سواريس هو الذي أدخل على الأرجنتين أولى حافلات الترامواي التي تجرها الخيل، واستقر هو وزوجته في هذه البلاد واستقدم اليها فاني، اذكر سالفة من تلك الحقبة. كان سواريس ضيفا على "بلاط" الجنرال أوركويزا، في أنثري ريوس، واقترف خطأ ان يفوز في الدور الأول للعبة الورق على الجنرال وهو طاغية المقاطعة الذي لا يتوانى عن قطع الرقاب، فور انتهاء الدور سارع بعض الضيوف المجربين إلى ابداء النصح وقالوا لسواريس إنه إذا أراد أن يحظى بالموافقة على تسيير حافلاته في انحاء المقاطعة، فما عليه، قطعا إلا أن يخسر كل مساء حفنة لا بأس بها من النقود الذهبية خلال اللعبة. ولأن أوركويزا لاعب أخرق إلى أقصى الحدود عانى سواريس الأمرين لكي يتمكن من خسارة المبالغ المطلوبة.

    في بارانا، عاصمة مقاطعة انتري ريوس، التقت فاني هاسلام، الكولونيل فرنسيسكو بورخيس. كان ذلك في عام 1870 أو 1971، خلال حصار المدينة من قبل (0المونتانيروس"، ميليشيا الرعاة أنصار ريكاردو لوبيز خوران. وكان بورخيس الوافد رأس فرقته، قائدا للجنود الذين يدافعون عن المدينة. رأته فاني هاسلام من على شرفة منزلها. وفي الليلة نفسها أقيم حفل راقص احتفاء بقدوم القوات الحكومية المتحررة، فاني والكولونيل التقيا ورقصا سويا وتحابا فأفضى بهما ذلك إلى الزواج.

    كان أبي أصغر الولدين اللذين رزقاهما، ولد في أنتري ريوس وكان من عادته ان يشرح لجدتي، وهي الانجليزية الجديرة بالاحترام، بأنه ليس حقا من أبناء أنتري ريوس، لأن "أمه حبلت به في البامبا". وكانت جدتي تجيبه آنذاك بكل التحفظ الذي يؤثر عن الانجليز: "اني لا أدرك ماذا تقصد حقا". غير أن ما كان أبي يردده هو صحيح فعلا، ذلك أن جدي كان في مطلع السبعينات قد عين، في البامبا، قائدا عاما للحدود الشمالية والغربية لمقاطعة بوينس ايوس. وفي طفولتي سمعت الكثير من الحكايات التي كانت فاني تسردها على مسمعي وتدور حول الحياة في المناطق الحدودية في ذلك الوقت. وقد نقلت وقائع احداها في "حكاية المحارب والسيرة". لقد أتيح لجدتي أن تلتقي عددا من زعماء الهنود الذين كانت أسماؤهم الغريبة، على ما أعتقد، سيمون كوليكويو، وكاترييل، وبنسين ونامونكورا. عام 1874 في أثناء إحدى حروبنا الأهلية، وافت المنية جدي، الكولونيل بورخيس. كان عندها في الحادية والأربعين، فقد أرغمته ظروف هزيمته في معركة لافردي على التنقل ممتطيا حصانه، مشتملا بالبانشو الأبيض، ومتبوعا بعشرة رجال أو اثني عشر رجلا، على مقربة من خطوط الأعداء التي أطلقت منها الرصاصتان الرمنغتون اللتان أردتاه. وكانت تلك هي المرة الأولى التي تستخدم في الغدارات الرمنغتون في الأرجنتين. ولا أملك الا أن يذهلني، كل صباح، مجرد التفكير في أني استعمل شفرات من نفس ماركة البندقية التي أردت جدي.

    كانت فاني هاسلام شغوفة بالقراءة، وكان الناس لا ينفكون يرددون على مسمعها، هي التي تخطت الثمانين، ظنا منهم أنهم بذلك يسعدونها، بأن في أيامنا هذه لا نجد كتابا يضاهون ديكتر وثاكري، فتجيبهم جدتي: "إذا أردتم الحق اني اؤثر على من ذكرتم أمثال ارنولد بينيت وجيلسوورثي وولز".

    وكانت قبيل وفاتها عن عمر يناهز التسعين عاما، قد اعتادت أن تدعونا للجلوس بجانب سريرها وتقول لنا بالانجليزية (فقد كانت تتكلم الاسبانية بطلاقة ولكنها اسبانية ركيكة) وبصرتها الخافت: "إني امرأة عجوز تحتضر ببطء شديد. وليس في ذلك ما هو لافت أو غير معتاد". فهي ما كانت ترى أدنى سبب موجب لحال الاضطراب الذي يسود المنزل، بل كانت مربكة حيال الوقت المتمادي الذي يستغرقه موتها الوشيك.

    كان أبي رجلا بالغ الذكاء، وعلى غرار الرجال الأذكياء جميعا، كان رجلا طيب القلب. ذات يوم أشار علي بأن أراقب مليا الجنود والبزات النظامية والثكن والبيارق والرهبان والمجازر، لأن كل ذلك على وشك أن يزول، ومأتمكن، على هذا النحو، من أن أحكي لأولادي بأني حقا شهدت كل ذلك. لم تتحقق نبوءته، لأسفي الشديد، إلى اليوم. كان أبي رجلا على قدر من التواضع جعله يتوق أن يكون، لو استطاع، غير مرئي. وعلى الرغم من افتخاره بنسبه الانجليزي، فقد اعتاد أن يسخر منه على سبيل الدعابة، فيقول متظاهرا بالحيرة: "في آخر الأمر، من يكون الانجليز؟ انهم مجموعة من العمال الزراعيين الألمان". كان شديد الاعجاب بشيلي وكيتس وسوينبرج، وكان شغوفا بمجالين من مجالات القراءة. تأتي أولا مؤلفات الميتافيزيقا وعلم النفس (بركلي، هيوم، رويس، ووليم جايمس). وفي المرتبة الثانية الأدب والمؤلفات التي تتناول الشرق (لاين،.بورتن، وبدين). فهو من كشف لي معنى الشعر ومغزاه - واقع أن الكلمات ليست أداة اتصال وحسب بل هي أيضا رموز سحرية وموسيقى. وعندما أنصرف اليوم إلى تلاوة قصائد بالإنجليزية، تقول لي أمي أن نبراتي هي هي نبراته. وهو أيضا- وان لم أدرك ذلك في حينه - أول من قرأ علي مبادئ الفلسفة. وفى صباي المبكر جدا شرح لي، مستعينا برقعة شطرنج، مفارقات زينون - أخيل والسلحفاة - والطيران الجامد للسهم واستحالة الحركة. وقيما بعد، ومن دون أن يأتي على ذكر بركلي، اجتهد ما أمكنه الاجتهاد في تلقيني المبادئ الأولية للنزعة المثالية.

    أمي، ليونور آسيفيدو دو بورخيس، من أسرة عريقة أرجنتينية وأوروجوانية، وهي في الرابعة والثمانين من عمرها مازالت في صحة ممتازة، مقدامة وكاثوليكية صالحة. ففي عهد طفولتي كان الدين هو حمى النساء والأولاد. أما الرجال في بوينس آيرس فكانوا، في معظمهم، من ذوي الأهواء التحررية - مع أنهم لو طرح عليهم السؤال آنذاك لأجابوا جميعا، من دون شك، بأنهم كاثوليكيون. أحسب أي ورثت عن أمي فضيلة أنها دائما كانت تحسن الظن بالآخر انطلاقا من حسها العميق بالصداقة. فقد كانت أمي تهوى حسن الضيافة. ومنذ اليوم الذي تعلمت فيه اللغة الإنجليزية، كفت تقريبا عن قراءة أي شيء الا بالإنجليزية. اثر وفاة والدي، واذ شعرت بأنها باتت عاجزة عن التركيز على أي نص مطبوع، شرعت في ترجمة "الكوميديا البشرية" لوليم سارويان لكي تنكب على عمل ما. وقد صدرت تلك الترجمة في كتاب واستحقت عليها استحسان الجالية الأرمنية في بوينس آيرس، فيما بعد انكبت على ترجمة بضع حكايات لهاوثرن وأحد مؤلفات هربرت ريد حول الفن. كما أنجزت ترجمات لملفيل وفيرجينيا وولف وفوكنر يعتقد اليوم أنها لي. لطالما كانت بالنسبة لي رفيقا- خصوصا خلال هذه الأعوام الأخيرة، لما صرت أعمى- وصديقا مفعما بالتفهم والتغاضي. لسنوات طويلة والى وقت قريب، تولت هي أعمال السكرتارية لأجلي، فردت على الرسائل التي تصلني، وقرأت لي، ودونت ما أمليته عليها، ورافقتني في أسفاري الكثيرة، داخل بلادي أو خارجها، وهي التي، وان لم أفكر في الأمر آنذاك، نمت في، بروية وشدة، ما أنجزته في حياتي الأدبية.

    جدها هو الكولونيل ايزيدور سواريس، الذي كان في الرابعة والعشرين حين قاد، خلال العام 1824، هجوم سلاح الفرسان البيروفي والكولومبي، والذي بفضله تغيرت موازين المعركة فأحرز النصر في معركة خونين في البيرو، كانت تلك المعركة هي المعركة ما قبل الأخيرة في حرب الاستقلال الأمريكية الجنوبية. وعلى الرغم من أن: سواريس كان ابن العم الشقيق لخوان مانويل دي روزاس الذي نصب نفسه ديكتاتورا على الأرجنتين بين 1835 و1852، فقد فضل حياة المنفى والعوز في مونتيفيديو على الحياة في ظل الطغيان في بوينس آيريس. طبعا صودرت ممتلكاته، وأعدم أحد أشقائه. فرد آخر من عائلة أمي كان يدعى فرنسيسكو دي لابريدا، وهو الذي أعلن في توكومان خلال رئاسته الكونجرس عام 1816، استقلال الكونفيدرالية الأرجنتينية، ثم قتل عام 1829 في غمرة حرب أهلية، والد أمي، ايزيدور آسيفيدو، الذي لم يكن رجلا عسكريا، خاض هو الآخر حروبا أهلية بين 1860 و1880. وبهذا أكون امتلكت أسلافا محاربين من عائلتي لأبي ولأمي. وقد يفسر هذا أحلام مصيري الملحمي الذي لم تشذ الآلهة أن أعطاه لحكمة منها دون شك.

    لقد قلت فيما سبق انني أمضيت القسط الاوفر من مراهقتي بين جدران المنزل ولا فتقارنا لأتراب الطفولة عمدنا، أنا وأختي، إلى اختلاق رفيقين متخيلين أسيمناهما لأسباب أجهلها كويلوس وطاحونة الهواء. (وعندما مللناهما أخيرا، قلنا لأمي أنهما ماتا). لطالما كنت حسير النظر أرتدي نظارة، ناحل الجسم. وبما أن معظم أفراد عائلتي كانوا عسكريين - حتى أن أحدهم كان ضابطا بحريا- وليقيني بأني لن أكون مثلهم ذات يوم، فقد استبد بي، في سن مبكرة جدا، احساسي بالخجل من كوني شخصا لا يحب الا الكتب بدل أن أكون رجلا فاعلا. وطوال مراهقتي لازمني الشعور بأن حبهم لي هو من قبيل السلوك الجائر، كنت لا أستحق أن أحب، بأية حال، وأذكر أن يوم الاحتفال بعيد ميلادي كان يسبب لي حرجا لا يوصف، لأن الجميع يغدقون علي بالهدايا وأنا أشعر بأني لم أفعل شيئا لكي أستحقها وبأني، في ذلك الموقف، ألعب لعبة المحتال، ولم أتمكن من تخطي ذلك الشعور الا بعد أن تجاوزت الثلاثين. في المنزل كنا نتكلم الإنجليزية والاسبانية، سواء بسواء، وان سئلت عما كان الأشد تأثيرا في حياتي لأجبت على الفور: مكتبة أبي. وقد يخطر ببالي أحيانا أنني، في الواقع، لم أغادر تلك المكتبة يوما. فمازالت ماثلة أمام عيني، حجرة منفردة، غطيت جدرانها برفوف ذات واجهات زجاجية، ولابد انها كانت تحتوي بضعة آلاف من المجلدات.

    كنت حسير النظر إذن إلى درجة جعلتني أنسى معظم وجو» تلك الحقبة (والأرجح أن حين أفكر في جدي اسيفيدو، إنما أفكر في صورته على ما أظن) ومع ذلك فاني مازلت أذكر بوضوح عددا من الرسوم التوضيحية في دائرتي معارف شامبرز وبريتانيكا. وأولى الروايات التي قرأتها كانت (HLJCKLEBRY) أعقبتها (Roughing it) و (Flush Days in California) كما قرأت كتب القبطان ماريا و (Les bremiess homes dows la lunu) لوليز، وادجار ألن بو وطبعة بمجلد واحد للونغفيلو، و (Llsle on heron) وديكنز، ودون كيشوت، (Ton Brouns school Days) ولويس كارول، و(Les Aventures de Mr. Vadaut Green) (وهو كتاب منسي الآن)، وألف ليلة وليلة لبرتون، كان كتاب برتون مليئا بما اعتبر آنذاك، اباحيات، وحظرت قراءته علينا، لذا قرأته خلسة، على السطح، غير اني كنت في تلك الحقبة مفتونا بسحر هذا الكتاب فلم أعر أي انتباه للفقرات الفاضحة، قارئا تلك الحكايات لا يساورني أدنى شك بأنها قد تنطوي على معنى آخر. تلك الكتب التي ذكرتها كنت قد قرأتها بالانجليزية. وعندما قرأت، فيما بعد "دون كيشوت"، في نصها الاصلي بدا لي النص ترجمة رديئة، ومازلت أذكر جيدا تلك الاغلفة الحمراء السميكة التي تحمل عناوين بأحرف مذهبة، التي كانت تصدرها دار نشر غارينيه. ثم جاء يوم تبعثرت فيه مكتبة أبي وعندما قرأت "دون كيشوت" في طبعة مختلفة، أحسست بأن هذه ليست "دون كيشوت" الحقة.. فيما بعد استحصل لي صديق على نسخة من طبعة غارينيه وفيها الرسوم نفسها والهوامش ففيها في أسفل الصفحات ملحق تصويب أخطاء الطباعة، نفسه، فكل هذه الاشياء كانت بالنسبة لي، جزءا لا يتجزأ من الكتاب. فكان ذاك في نظري هو "دون كيشوت" الأصلي، بالاسبانية قرأت أيضا عددا من مؤلفات ادوارد جوتييونير عن الخارجين على القانون، وديوسبيوادوست الارجنتيني- وفي طليعتهم خوان مورييرا- بالإضافة إلى كتابه(Siluetas militare) الذي يتضمن سردا حماسيا لمصرع الكولونيل بورخيس. وكانت أمي قد حظرت علينا قراءة "مارتن فبيرو" لأنه كتاب لا يثير الا اهتمام الدنيئين وتلامذة المدارس، ناهيك عن كونه لا يتحدث عن الرعاة الارجنتينيين الفعليين. هذا الكتاب أيضا قرأته خلسة. وكان رد فعل والدتي مبنيا على واقع ان هرنانديز هو أحد أنصار دي روزاس، وهو تاليا، عدو اسلافنا أنصار الحزب الوحدوي. كما قرأت (Facundo) لسارمينثو، وعددا كبيرا من المؤلفات حول الميثولوجيا الإغريقية، وقيما بعد، حول الميثولوجيا الاسكندنافية. وقد طرقت الشعر من باب اللغة الإنجليزية - شيلي، كيشس، فيتزجرالد سوينبرن، الشعراء المفضلين لدي وبإمكانه ان يتلو الكثير من أشعارهم وغالبا ما كان يفعل.

    لقد كان الشغف بالأدب تقليدا متوارثا في أسرة أبي فشقيق جده، خوان كريسوستومو لافيندر، كان أحد أوائل شعراء الأرجنتين. ونظم نشيدا حول مقتل صديقه الجنرال مانويل بلغرانو عام 1920.

    أحد ابناء عم أبي، ويدعى آلفارو مليان لافينور، الذي أعرفه منذ صباي، كان شاعرا قليل الشأن ولكن ذا حظوة استطاع فيما بعد أن يصبح عضوا في أكاديمية الآداب الأرجنتينية، وجد أبي لوالدته، ويدعى ادوارد يونج هاسلام، كان قد أصدر أحدى أولى الصحف الانجليزية في الأرجنتين، الـ (Southern)، وحائزا على شهادة الدكتوراة في الفلسفة او الآداب، ما عدت أذكر بالضبط، من جامعة هايدلبرنج. اذ لم يكن هاسلام يمتلك الإمكانات المادية التي تخوله الالتحاق باكسفورد أو كامبريدج، فتوجه إلى ألمانيا حيث نال شهادته بعد أن أنهى كل دراسته باللاتينية. وفي النهاية توفي في بارانا. ألف أبي رواية نشرها في مايورك عام 1921، حول تاريخ انتري ريوس.

    كان عنوانها: "الكوديلو" (الزعيم). وألف أيضا (وأتلف) كشكول دراسات، وأصدر ترجمة لعمر الخيام نقلا عن ترجمة فيتزجيرالد ملتزما تشطير الأبيات كما وردت في الأصل. ألف كتابا هو عبارة عن مجموعة حكايات شرقية - على غرار ألف ليلة وليلة - مسرحية مأساوية، عنوانها (Hicia la noda) (نحو العدم) تدور أحداثها حول اب محبط من ابنه، كما نشر عددا من السونيتات الجميلة محاكيا اسلوب الشاعر الأرجنتيني أنريكي بانكس. منذ طفولتي، ومذ صار أبي كفيفا، توافق جميع من حولي على ضرورة أن أتمم المصير الأدبي الذي لم تشذ الظروف أن يكون لأبي. كان أمرا بديهيا (فمثل هذه الأمور أشد تأثيرا من تلك التي يعبر عنها ببساطة)، كان المرتقب في أن أصبح كاتبا.

    كان أول عهدي بالكتابة حين كنت في السادسة او السابعة، حاولت ان أقلد الكتاب الكلاسيكيين باللغة الاسبانية - ميجيل دوسرفانتس، على سبيل المثال. وألفت بانجليزية رديئة جدا نوعا من التاريخ الميسر للميثولوجيا الكلاسيكية، أحسب انه كان سرقة موصوفة لمؤلف لمبريير.. كانت تلك، على ما اعتقد، خطواتي الأولى في عالم الأدب. وقصتي الأولى كانت حكاية عجيبة، كتبتها مقلدا سرفانتس - رواية فروسية عثيثة عنوانها: (La visua ratal) (مقدم الخوذة القاتل)، كنت أنكب على كتابة مثل تلك الأمور على دفاتر مدرسية، وكان أبي حريصا على عدم التدخل فيما أفعل، اذ يتيح لي سانحة أن اقترف أخطائي الخاصة، حتى أنه خاطبني ذات مرة قائلا: "الأولاد هم الذين يربون آباءهم وليس العكس". "حين شارفت على سن التاسعة ترجمت "الأمير السعيد" لأوسكار وايلد، إلى الأسبانية، ونشرت تلك الترجمة في أحدى صحف بوينس آيرس، EIPais وبما أنها حملت توقيع "خورخي بورخيس" كان من الطبيعي أن تنسب تلك الترجمة إلى أبي (....).
                  

02-25-2007, 10:01 PM

jini
<ajini
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 30716

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: خورخي بورخيس: أغنية إلى عندليب كشفت لي جوهر الشعر . أستمتعوأ!!! (Re: jini)

    Quote: الشعر وفنّ حكاية القصص

    خورخي لويس بورخيس

    ترجمة: صالح علماني

    خورخي لويس بورخيسلا بد من أخذ التمايزات اللفظية في الاعتبار، لأنها تمثل تمايزات ذهنية، وثقافية. ولكن المؤسف أن كلمة "شاعر" قد انقسمت إلى اثنين. فعندما نتكلم اليوم عن شاعر ما، لا نفكر إلا في شخص ينطق بنغمات غنائية ومحكمة التناسق من نوع "بسفنٍ، كان البحر ملطخاً هنا وهناك، كأنها نجوم في السماء"؛ ووردزورث. أو "لماذا، وأنت موسيقى، تُحزنك الموسيقى؟ فالمسرة تسعى إلى المسرات، والسعادة ترغب في سعادة أخرى"، (شكسبير). بينما كان القدماء، عندما يتكلمون عن شاعر ـ "خالق" ـ لا يعتبرونه مجرد مُطلِق لهذه النغمات الغنائية السامية وحسب، وإنما يرون فيه كذلك راوية حكايات. حكايات يمكننا أن نجد فيها كل أصوات البشرية: ليس أصوات الغنائية، والتأمل، والكآبة فقط، وإنما كذلك أصوات الشجاعة والأمل. هذا يعني أنني سأتحدث عما أفترض أنه أقدم أشكال الشعر: الملحمة. فلنشغل أنفسنا بها لبعض الوقت.
    ربما كان أول مثال يرد إلى ذهننا هو قصة طروادة، مثلما أسماها أندرو لانغ Andrew Lang، وترجمها بصورة بالغة الصواب. فلنتفحص فيها طريقة السرد المغرقة في القدم لقصة. منذ البيت الأول نجد شيئاً كهذا: "ربة الشعر، حدثيني عن غضبة آخيل". أو كما ترجمها البروفسور روس Rouse على ما أظن: "رجل غاضب: هذا هو موضوعي". ربما أن هوميروس، أو الرجل الذي نسميه هوميروس (وهذه قضية قديمة)، قد فكر في كتابة قصيدة عن رجل غاضب، وهذا يشوشنا، لأننا نفكر في الغضب على طريقة اللاتينيين: (ira furor brevis) الغضب هو ضرب آني وعابر من الجنون، إنه نوبة جنون. صحيح أن حبكة الإلياذة، بحد ذاتها، ليست ممتعة تماماً: فهذه الفكرة عن بطل معكر المزاج في خيمته، يشعر بأن الملك قد عامله بصورة جائرة، فيخوض الحرب كما لو أنها نزاع شخصي، لأنهم قتلوا صديقه، ويبيع للأب في النهاية، جثة الرجل الذي قتله.
    ولكن، (وقد أكون قلت ذلك من قبل؛ بل أنا واثق من أنني قلته)، ربما تفتقر نوايا الشاعر إلى الأهمية. فما يهم اليوم ـ وإن كان هوميروس يعتقد حقاً أنه يروي هذه القصة (قصة الرجل الغاضب) ـ هو أنه يروي في الواقع شيئاً أكثر نبلاً: إنه يروي قصة رجل، بطل، يهاجم مدينة يعرف أنه لن يقتحمها أبداً، رجل يعرف أنه سيموت قبل أن تسقط المدينة. ولكن القصة الأشد تأثيراً هي قصة الرجال المدافعين عن مدينةٍ يعرفون مصيرها مسبقاً، مدينة آخذة بالاحتراق. أنا أظن أن هذا هو موضوع الإلياذة الحقيقي. وقد فكر البشر على الدوام، في الواقع، بأن الطرواديين هم الأبطال الحقيقيون. ونفكر في فرجيل Virgilio، ولكننا نستطيع أن نفكر أيضاً في سنوري ستورلاسون Snorri Sturluson، الذي كتب في أولى سنوات شبابه، أن "أودين" Odin ـ وأعني أودين، إله السكسونيين ـ هو ابن بريامو Priamo وأخ هكتور. لقد بحث البشر دوماً عن التضامن والتآلف مع الطرواديين المهزومين، وليس مع الإغريق المنتصرين. ربما لأن هناك في الهزيمة كرامة يصعب عليها أن تتوافق مع النصر.
    فلنتناول قصيدة ملحمية ثانية: الأوديسة. يمكننا أن نقرأ الأوديسة بطريقتين. افترض أن الرجل (أو المرأة، مثلما كان يرى صمويل بتلر Samuel Butler الذي كتبها)، لم يكن يجهل أنها تتضمن في الواقع قصتين: عودة أوليسيس إلى بيته، وعجائب البحر ومخاطره. إذا ما تناولنا الأوديسة بالمعنى الأول، فستكون لدينا فكرة العودة، فكرة أننا نعيش في الصحراء، وأن بيتنا الحقيقي هو في الماضي، أو في السماء، أو في أي مكان آخر، وأننا لسنا في بيتنا مطلقاً.
    ولكن، لا شك في أنه لا بد لحياة البحارة والرجوع من أن تتحول إلى شيء مشوق. وهكذا، شيئاً فشيئاً، راحت تُضاف عجائب كثيرة. وعندما نلجأ إلى ألف ليلة وليلة، نجد أن النسخة العربية من الأوديسة، أي رحلات سندباد السبع، ليست قصة عودة، وإنما قصة مغامرات؛ وأظن أننا نقرؤها على أنها كذلك. عندما نقرأ الأوديسة، أظن أن ما نشعر به هو الافتتان بالبحر، سحر البحر. ما نشعر به هو ما يكشف لنا عنه الملاح. فمثلاً: ليست لديه حماسة للقيثارة، ولا لتوزيع الخواتم، ولا لمتعة المرأة، ولا لعظمة العالم. إنه يبحث عن أعالي التيارات المالحة وحسب. وهكذا تكون لدينا القصتان في قصة واحدة: يمكننا أن نقرأها على أنها عودة إلى البيت، وباعتبارها قصة مغامرات، ربما هي أروع قصة مغامرات كُتبت أو غُنيت.
    فلننتقل الآن إلى "قصيدة" ثالثة، تبرز أعلى بكثير من الأخريين، وأعني: الأناجيل الأربعة. فالأناجيل يمكن أن تُقرأ أيضاً بطريقتين. المؤمن يقرؤها على أنها القصة الغريبة لرجل، لإله، يُكَفِّر عن خطايا البشرية. إله يتقبل العذاب، يتقبل الموت على "الصليب المرّ" (الـ(bittre cross)، مثلما يقول شكسبير). هناك قراءة أكثر غرابة، أجدها لدى لانغلاندLangland : فكرة أن الرب أراد أن يعرف العذاب البشري بكليته، وأنه لم يكتف بمعرفته ذهنياً، مثلما هو متاح له إلوهياً؛ أراد أن يعاني كإنسان وبمحدودية إنسان. أما من هو (مثل كثيرين منا) غير مؤمن، فيمكنه أن يقرأ القصة بطريقة أخرى. يمكننا أن نفكر برجل نزق، رجل يعتقد أنه إله، ثم يكتشف في النهاية أنه ليس سوى بشر وأن الرب ـ ربه ـ قد تخلى عنه.
    فلنقل إن هذه القصص الثلاث ـ قصة طروادة، وقصة أوليسيس، وقصة يسوع ـ كانت كافية للبشرية طوال قرون طويلة. رواها الناس، وأعادوا روايتها مرة بعد أخرى؛ وضعوا لها موسيقى، رسموها. رُويت مرات كثيرة، لكن القصص تبقى حية، بلا حدود. ويمكن لنا أن نفكر في أن أحداً، بعد ألف سنة، أو عشرة آلاف سنة، قد يعود مرة أخرى إلى كتابتها. ولكن، هناك فرق في حالة الأناجيل: فأنا أظن أنه لا يمكن لقصة المسيح أن تُروى بصورة أفضل. لقد رُويت مرات كثيرة، ولكنني أعتقد أن الآيات القليلة التي نقرأ فيها، على سبيل المثال، كيف أغوى الشيطان المسيح، تتضمن قوة أكبر من كتب "الفردوس المستعاد" الأربعة. فأحدنا يستشف بأن الشك ربما لم يكن يراود ميلتون حول نوع الإنسان الذي كأنه المسيح.
    حسن، لدينا هذه القصص، ولدينا واقع أن البشر لا يحتاجون إلى كثير من القصص. يخيل إليَّ أن تشاوسر Chaucer لم يفكر قط في ابتكار قصة. لا أظن أن الناس كانوا أقل قدرة على الابتكار في تلك الأيام منهم اليوم. أعتقد أنهم كانوا يكتفون بالتنويعات الجديدة التي تضاف إلى القصة... التنويعات الحاذقة التي يضيفونها إلى القصة. وهذا يسهّل، فوق ذلك، مهمة الشاعر. فمستمعوه وقراؤه يعرفون مسبقاً ما الذي سيقوله، ويمكن لهم أن يقوّموا بمقياسهم العادل ما طرأ من اختلافات.
    حسناً، الملحمة ـ ويمكننا اعتبار الأناجيل نوعاً من الملحمة الإلهية ـ تقبل كل شيء. لكن الشعر، مثلما قلت، عانى انقساماً؛ أو بعبارة أدق، صارت لدينا القصيدة الغنائية والمرثية من جهة، ولدينا من جهة أخرى رواية القصص: لدينا الرواية. ويكاد أحدنا أن يشعر بإغواء اعتبار الرواية موتاً للملحمة، على الرغم من وجود روائيين من أمثال جوزيف كونراد أو هيرمان ميلفيل، حيث تستعيد الرواية كرامة الملحمة وجدارتها.
    إذا ما فكرنا في الرواية والملحمة، فإننا نجد أنفسنا منقادين إلى إغواء التفكير في أن الفرق الأساسي بينهما يقوم على الفرق بين الشعر والنثر، بين غناء الشيء أو عرضه. لكنني أفكر في أن هناك فرقاً أكبر. فالفرق يستند في الواقع إلى أن المهم في الملحمة هو البطل: إنسان هو نمط لكل البشر. بينما جوهر معظم الروايات، كما يشير مينكين Mencken، يستند إلى إخفاق إنسان، إلى انحطاط الشخصية وترديها.
    هذا يقودنا إلى قضية أخرى: ما الذي نفكر فيه عن السعادة؟ ما الذي نفكر فيه بشأن الهزيمة، والنصر؟ عندما يتحدث الناس اليوم عن نهاية سعيدة، يعتبرونها محض تنازل للجمهور أو وسيلة ترويج تجارية؛ يعتبرونها مصطنعة. ولكن البشر، طوال قرون، كانوا قادرين، بصدق، على الإيمان بالسعادة والنصر، وإن كانوا يشعرون بما للهزيمة من جدارة وكرامة محتمتين. فعندما يكتب الناس، على سبيل المثال، عن "الفرو الذهبي" (إحدى أقدم قصص البشرية)، فإن المستمعين والقراء يعرفون منذ البدء أن الكنز سيُعثر عليه في النهاية.
    حسن، إذا ما بدأت مغامرةٌ اليوم، فإننا نعرف أنها ستنتهي إلى الإخفاق. وعندما نقرأ ـ ويخطر لي مثال أقدره ـ أوراق أسبرن The Aspern Papers، نعرف أن الأوراق لن يُعثر عليها أبداً. وعندما نقرأ القلعة لفرانز كافكا، نعرف أن الرجل لن يدخل أبداً إلى القلعة. هذا يعني، لا يمكننا أن نؤمن حقاً بالسعادة والفوز. وربما كانت هذه واحدة من مبائس عصرنا. يخيل إليّ أن كافكا كان يشعر عملياً بالشيء نفسه عندما رغب في أن تُتلف كتبه: كان يرغب في الواقع في كتابة كتاب سعيد وانتصاري، وأدرك أن ذلك لم يكن مستحيلاً عليه. لقد كان بإمكانه أن يكتبه، دون شك، لكن الجمهور كان سيرى أنه لا يعبر عن حقيقة أحلامه.
    فلنقل إن الإنسان، في أواخر القرن الثامن عشر أو بدايات القرن التاسع عشر (ولماذا نزعج أنفسنا في مناقشة التواريخ الدقيقة)، بدأ بابتكار الحبكات. ربما يمكننا القول إن العملية بدأت مع هاوثورن وإدغار ألن بو، وإن يكن هناك، دون شك، رواد على الدوام. ومثلما يشير روبن داريو، ليس ثمة من هو آدم أدبي. ولكن إدغار ألن بو هو الذي كتب أن القصة يجب أن تُكتب وعينها على الجملة الأخيرة، وأن تُكتب القصيدة وعينها على البيت الأخير. فانحدر هذا بالقصة إلى حيلة،وفي القرنين التاسع عشر والعشرين اخترع الناس كل أنواع الحبكات. وكانت هذه الحبكات أحياناً بالغة الحذق والإتقان؛ وهي، إذا ما اقتصرنا على حكايتها، أكثر حذقاً من حبكة الملحمة. ولكننا، لسبب ما، نلحظ فيها شيئاً مصطنعاً؛ أو بكلمة أدق، شيئاً مبتذلاً. وإذا ما تناولنا حالتين محددتين ـ ولتكونا قصة الدكتور جايكل والمستر هايد، وروايةً أو فيلماً مثل Psicosis ـ يمكن لحبكة الثانية أن تكون أكثر براعة، ولكننا نستشف أن هناك شيئاً أكثر وراء حبكة ستيفنسون.
    بالنسبة إلى الفكرة التي صغتها في البداية، عن أنه لا وجود إلا لعدد ضئيل من الحبكات، ربما علينا أن نذكر تلك الكتب التي لا ينصب فيها الاهتمام على الحبكة، وإنما على تنوع الحبكات وتبدلها. إنني أفكر في ألف ليلة وليلة، في أورلاند الغضوب وكتب أخرى من هذا النوع. يمكننا أن نضيف كذلك فكرة الكنز المشؤوم. وهذه نجدها في V?lsunga Saga، وربما في نهاية بيوولفBeowulf : فكرة كنز يجلب الشرور للناس الذين يجدونه. وهنا يمكننا الوصول إلى الفكرة التي حاولتُ تطويرها في محاضرتي الأخيرة، حول الاستعارة: فكرة أنه ربما كانت كل الحبكات تستجيب فقط لعدد محدود من الأنماط. إن الناس اليوم، بالطبع، يخترعون الكثير من الحبكات التي تصيبنا بالانبهار. ولكن هجمة الحبكات الحاذقة هذه قد تضعف وتنهار، ونكتشف عندئذ أن كل هذه الحبكات ما هي إلا تنويعات ظاهرية لعدد محدود من الحبكات الجوهرية. وهذا، بالنسبة لي، خارج النقاش الآن.
    لا بد من الإشارة إلى واقع آخر: يبدو أن الشعراء ينسون أن حكاية الحكايات كانت أساسية، ذات مرة؛ وأنه لم يكن يُنظر إلى حكاية قصة وإلقاء بعض أبيات الشعر على أنهما شيئان مختلفان. فالرجل الذي يحكي قصة، ويغنيها؛ لم يكن مستمعوه يعتبرونه رجلاً يمارس مهمة ذات مظهرين. أو ربما لم يكن يتشكل لديهم، أصلاً، الانطباع بأن هناك مظهرين مختلفين، بل ينظرون إلى ذلك كله باعتباره شيئاً أساسياً.
    نصل الآن إلى زمننا، حيث نجد هذا الوضع الغريب فعلاً: لقد عشنا حربين عالميتين، ولكن، لسبب ما، لم تنبثق عنهما ملحمة؛ ربما باستثناء أعمدة الحكمة السبعة. ففي أعمدة الحكمة السبعة نجد الكثير من السمات الملحمية. ولكن الكتاب مثقل بواقع أن البطل هو الراوي نفسه؛ مما يفرض عليه أحياناً أن يتصاغر، يتأنسن، ويبالغ في جعل نفسه قريباً من المعقول وقابلاً للتصديق. ويجد نفسه مضطراً، عملياً، إلى اللجوء إلى حيل الروائي.
    هناك كتاب آخر، منسي إلى حد بعيد، قرأته على ما أعتقد، سنة 1915: رواية تدعى "النار" Le Feu، لهنري باربوس. كان المؤلف داعية
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de