د. منصور خالد .. عامان من السلام : حساب الربح و الخسارة

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-27-2024, 02:34 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الأول للعام 2007م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
02-14-2007, 11:20 AM

محمد يسن علي بدر
<aمحمد يسن علي بدر
تاريخ التسجيل: 12-28-2005
مجموع المشاركات: 623

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
د. منصور خالد .. عامان من السلام : حساب الربح و الخسارة



    تلبية لطلب الاخ الفاضل ياسر الشريف ... بأن تكون جميع مقالات الدكتور منصور خالد (عامان من السلام: حساب الربح والخسارة) في بوست واحد ... نأمل أن نوفق في هذا البوست الذي نخصصه للمقالات المنشورة سلفاً.. علماً بأنني فشلت في ايجاد بعض المقالات وامل لحاقاً في الحصول عليها وارجو المساعدة في ذلك..
    _________________________________________________________________________________

    لثلاثاء 16 يناير 2007
    د. منصور خالد
    عامان من السلام : حساب الربح و الخسارة (1)
    ... ليس في الصمت كلام

    مدخل
    لِعلةٍ آثرتُ الصوم عن الكتابة في الصحف السيارة ، و الحديث في المنابر العامة ، حول القضايا الوطنية رغم مناشدات الأقربين الذين توهموا أن في الصمت كلاماً ، بل رغم الاستدراج المُلحِف دون رُخصة ، و الناعم دون هوادة ، من صحاب كرام . للمناشدين نقول إننا لم نَصطَمْ عن الحديث إمساكاً عن القول ، أو نجفل عن القلم زُهداً في الكتابة . لذلك أسباب أخريات ، فيهن الخصيص الذي لا شأن للناس به ، و منهن ما هو خاص لا نَكْفَ عن الافضاء به ، و ما هو عام و من حق الناس أن يعرفوه . من ذلك الخاص الذي لا نستنكف الحديث عنه الظروف التي عدنا فيها الى الوطن عودة تَمامَية ننكر فيها ونستوحش الكثير مما نرى و من نرى : '' لا أنتِ أنتِ ، و لا الديارُ ديارُ '' . و لا سبيل لاستعادة المرء لتوازنه في مثل تلك الظروف الا باستدراك ما فاته بين الأهل الأقربين ، و ذلك أمر تستوجبه الرعاية و الذمم ، و بين الأصدقاء الحقيقيين يسلونك عن الهموم . و الأصدقاء الحقيقيون هم من عرفناهم ، على مقربة أو مبعدة ، عند الشدائد ، فعند الرخاء الكل صديق .
    نجئ ، من بعد ، الى العام ، وأوله حرصنا على أن لا نلتهي بما هو عارض في الوقت الذي نحتشد فيه لتقويم موضوعي حول سودان ما بعد السلام . فالكتابة عن القضايا الراهنة في الصحف السيارة كثيراً ما يغلب عليها الهم الآني بالقدر الذي يشوه البانوراما الكاملة للوضع العام . كما أن الكتابة قيمة مضافة لحياة الكاتب ، و لن تكون ذات قيمة ان أهان المرء أمرها ، كان ذلك في التدقيق والتوثيق ، أو الصنعة والتجويد . لهذا ، لن يكون التقويم موضوعياً لتجربة السلام الشامل إن لم نترك تلك التجربة تتجاوز شهور التسنين ، بل سني الفطام عن عادات مرذولة استمرأها من عاش هانئاً بالتجربة الشمولية ، أو راضخاً مستسلماً لها . فبين الظلم و الاستكانة للظلم طاقة تبادلية ، كلاهما وجه للآخر ، يرفد الواحد منهما الآخر . و لهذا يمثل الوضع الذي جاءت به الاتفاقية نقلة هائلة بالنسبة لمن ألف الشمولية ، كما بالنسبة لمن استألفته الشمولية ، ومن يتعجل التغيير . و قد نسب للرئيس البشير قول صائب في هذا حين صرح أن المنازعات التي تنشب بين طرفي الاتفاقية ، شريكي الحكم ، تعود لطبيعة النقلة الهائلة من حالة الحرب الى واقع السلام . أصاب في القول أيضاً أحد المشاركين في مفاوضات السلام حين قال : '' الأمور في السياسة لا تتم بسلاسة النسيم و لا ينبغي أن تتعرض للعواصف الهوج '' ( أمين حسن عمر ، الحياة 9/7/2006 ) . هذا صحيح ، بيد أن تطور النزاعات الى عواصف هوجاء يقع دوماً عند استهانة طرف بالآخر أو تشاطره عليه . عندها يقود النزاع العاصف للإنزلاق في هوة سحيقة لا يعرف مداها إلا الله .
    السبب الثاني ذو الطابع العام هو أن الصمت خليق بمن توافرت له الأطر والمنابر ، في الداخل و الخارج ، التي يعالج من خلالها المشاكل التي تنجم عن تطبيق الاتفاقية ، و المشاكل كثر . و لم نبتدع هذه الاطر ، بداهة ، الا للتوسل بها لعلاج ما يعضل بنا من أمر و يستغلق . و قد ظللنا ، في هذا السفين الذي يحملنا نبدي الرأي كتابة ومشافهة ، وسنظل نفعل . نعلن للشركاء جهاراً و نُسِر لهم إسراراً دون أن يتولى أحد منهم فِرارا. لكل ذلك لا يحسبن أحد أن الصمت تعبير عن رِضى قنوع بما يتعيبه الناس ، و من بينهم رفاق لنا و مناصرون ، في ضروب الإِخلال العابر أو الجائر بنصوص الاتفاقية أو بروحها ، فكلول عين الرضا عن المعايب منقصة.
    اما الاستدراج الملحف و الناعم فشتان ماهما . من المُلحِفين أصدقاء من رجالات الصحافة (و نضيف نُسوانها حتي لا نُدرج بين نصراء هيمنة الذكورة ) . من هؤلاء الاستاذ الصديق رئيس تحرير هذه الصحيفة الذي أحمد له مواظبته علي دعوتي للرد علي مقالات كثر ، و منها شئ مما كتب . ذلك نبل منه . أفضيت لكمال بعدم ابتهاجي لبعض ما كتب ، أو نشرت صحيفته . كما انبأته أن الكثير مما يكتبه البعض ممن أشار اليهم غير خليق بالرد عليه لأنه أبعد ما يكون عن الأمانة والرزانة ، وأدني ما يكون الي السخف والانسلاخ عن الحلم .
    الاستدراج الناعم تضمنته رسائل الاستاذ حسين خوجلي لنا ، و أغلبها مفخخ . في واحدة من تلك الرسائل تمنى علينا صاحب '' ألوان '' أن نفضي بما ظنه اسراراً اخفيناها عن الناس قبل أن نتجندل ، قال : '' قل قولتك و امضي '' . و في رسالة مفخخة ثانية دعانا صاحب ألوان للمرافعة عن نفسنا حين قال : '' الرجل سيكبر في نظر الكثيرين لو قال في بعض المواقف كنت هنا مخطئاً و هنا ليست لدي اجابة '' ( الوان 27/9/2006 ) . تلك دعوة لا نُصفة فيها عندما توجه لرجل علانيةٍ ظاهر الأمر وفر للمكتبة السودانية اكثر من عشرة مؤلفات بالعربية و الانجليزية فلفل فيها الآخرين و نخل ماضيه . فان كنا أحسنّا فيما كتبنا فالخير أردنا ، و ان تكن الأخرى حسبنا أننا بذلنا جهدنا . و علي كل ، فدعوة الرجل لنا لنقد الذات أهل للبخبخة ، أي ان يقول المرء فيها : بخ بخ . و لعل السودان كان ليصبح أفضل حالاً مما عليه من رثاثة لو قال كل واحد ممن يدبرون شئون الناس فيه : هنا أخطأت . يصدق هذا علي الحاكم و المتطلع للحكم ، وعلي الإمام الشيخ و الشيخ الإمام ، و علي موجهي الرأي العام أصحاب القول الفصل في كل هؤلاء . و لأنا لا نفعل ذلك اصبح الرأي العام نفسه كائناً وهمياً لا يعبر الا عما تصطنعه العناصر المكونة له من وهوم . ثم ماذا عن الأسرار التي يترجى منا حسين أن نذيع بها ؟ من حق صاحب '' ألوان '' ، الأديب المستحصد لديوان العرب أن يعرف أننا في ما دعانا اليه كالشاعر الأموي مسكين الدرامي ، صـخـرة لا تـنـصــدع .

    لكل امرئ شِعبٌ من القلب فارغٌ
    وموضعُ نجوى لايُرامُ إطلاعُها
    وأخوانُ صدق لستُ مطلعَ بعضِهم
    على سر بعض غير أني جِماعُها

    يظلون شتى في البلاد وسرُهم
    الى صخرة أعيا الرجالَ انصداعُها
    الجهل البالغ و الاستهانة المفرطة

    تُري ما الذي يحملنا علي الكتابة اليوم بعد كل هذا التأبي ؟ نقول ، لا يدفع المرء الى الكتابة دعوة هذا ، أو ايماء ذلك ، و إنما يستفزه اليها أمر أشد خطراً : الجهل البالغ ، أو الاستهانة التي جاوزت الحد ، تجاه ما قضت به اتفاقية السلام الشامل ، كان ذلك في مبناها و معناها ، أو في روحها و نصوصها ، بل وتجاوزت تلك الاستهانة حدود الدستور وهو القانون الأعلى في البلاد . فعلى صفحات الصحف تُنشر كل يوم تعليقات وتصريحات واحكام قاطعة حول أحداث ووقائع ذات صلة لصيقة بتلك الاتفاقية دون أن يأبه كاتبوها لنقطة الاستدلال (point of reference) الرئيس على ما يشتجرون حوله ، ألا و هي الاتفاقية . بل إن بعضاً منهم يستخلص النتائج حول تلك الأحداث بأسلوب حدسي يوحي لنا أن الهدف من التعليق والتصريح ، في المقام الأول ، ارضاء خيلاء الكاتب ، لا إجلاء الحقيقة . ويتسمع الواحد منا لبعض شيوخ المعارضة وهم ينتهشون الاتفاقية حرفاً حرفاً في ذات الوقت الذي يُذكرون فيه الناس بتأييدهم للسلام الذي جاءت به ، ولا يكون ذلك التأييد إلا في جمل اعتراضية ، أو حواشٍ على متن كله نقد . تلك الجمل الاعتراضية لا تورد ، فيما نحسب ، الا لأِبراء الذمة . أما من جانب شركاء الاتفاقية فثمة ما يُلقي اليك أن بعضاً منهم أخذ يتظني أن ليس للسلام ثمن وتبعات ، و هذا خطأ فادح لن يقدم عليه الا هواة المعادلات الصفرية : الفوز بكل شي أو خسارة كل شي هذه اللعبة الصفريةذ (zero-sum game) هي ، في جوهرها ، استراتيجية غير ذكية ، إن جاز لنا أن نطلق على المغامرات صفة الاستراتيجية . يكاد المرء يظن أيضاً ان هناك من بين هؤلاء من توهم في نفسه مَناعةَ جانبٍ تجعله بِنجوةٍ من التنبيه ، بله النقد . هذا أيضاً خطأ فادح لأن للاتفاق انصاراً عازمين على انفاذ ما جاء فيه ، و في سبيل ذلك ، لن يتوانوا عن السعي لانقاذ هؤلاء المغامرين من أنفسهم ، و هم يلمِونهم على شَعَث : '' أي الرجال المهذبُ '' . و لعل المغامرين لم يدركوا بعد التحدي الوجودي الذي ستجابهه البلاد إن انهارت الاتفاقية . فالسودان كالدومنيو ، مكعبات لا تتماسك إلا بتساندها الى بعضها البعض . الاخفاق في تنفيذ الاتفاقية هذه المرة لن ينتهي الي تذييل لكتاب ابل الير حول خرق العهود ، بل الى تمزيق السودان كله تُجاهات المشارق و تُجاهات المغارب . و ما خَرَقَ العهود التي تحدث عنها ابيل الير إلا متشاطرون باءوا بخسران مبين . و الشاطر في لسان العرب هو من أعيا قومه شراً و خبثاً .

    عود على بدء
    لكل هذا عَزَمنا علي العود بالأمر الي بداياته رغم ما كتبنا في هذه الصحيفة عن أصول و مآلات اتفاق السلام بُعيَد توقيعه . نفعل هذا بعد عامين من إقرار الاتفاق على مشهد من العالم ، تذكرة لمن لا يتذكر ، و تبياناً لمن جهل أو تجاهل ، وتنبيهاً للمتشاطرين الجدد ، رغم أنا '' لا نقول الا قديماً ومعاداًمن قولنا مكروراً '' . العجز عن التعبير إزاء كل هذه المثالب والجهالات سيكون باهظ الكلفة ليس فقط علي شريكي الاتفاق ومعارضيهم ، فهؤلاء في نهاية الأمر فانون ، و انما علي الوطن كله ، اللهم إلا إن كان من بين المتجاهلين و المتشاطرين شماشنة لا يُضِيرهم هدم المعبد علي رؤوسهم و رؤوس غيرهم . و لأبي حيان التوحيدي قَالةٌ حول الصمت في مثل هذه المواقع ، قال صاحب '' المقابسات '' و '' أخلاق الوزيرين '' : '' الكلام في موقع الصمت فَضلٌ و هَذَر ، كما أن السكوت في موضع الكلام لُكنةٌ وحَصَر '' . و لسنا بحمد الله لُكُناً يعييهم المنطق ، و لا حُصُراً يصعبُ عليهم الإفصاح .
    عندما عدنا الي السودان بعد غيبة قاربت الثلاثة عقود من الزمان ظننا أن الاتفاق الذي جئنا به و جاء بنا الي حاضرة بلادنا حقق لتلك البلاد أمراً طالما تمنته ، و طالما دعونا له : العودة الي منصة التأسيس (bak to the drawing board) لرسم خطة لبناء سودان قوى موحد ومتصالح مع نفسه . و لم يكن السودان قبل توقيع الاتفاق ، كما لم يصبح بعده ، حديقة ورد . إلا أن الاتفاق وضع الملامح الرئيسة لسودان جديد يري كلُ سوداني وجهَه فيه ، و تنتهي فيه الي الأبد الظلامات التاريخية الحقيقية و المتوهمة (real or perceived) . وإن كانت تلك الظُلامات أشد ما تكون بروزاً في الجنوب بدليل حمل أهله للسلاح ، إلا انها تمتد لاقاليم أخري في الشرق و الغرب و الشمال القصي . و لن نجادل من يلُخون الكلام لَخاً حول طبيعة هذه الظلامات وماهيتها و دواعيها ، فمن الناس من تلبس عليهم أمرها أو استعجم فهمها ، بل منهم من لا يرى في الحديث عنها الا تآمراً على أهل السودان ، وكأن أهل السودان على واحد . لن نجادل هؤلاء أولاً لأن كل واحد منهم يعيش في عالم داخلي متصدع و فارغ من أية قيمة نبيلة . وأي تصدع أكثر من أن يظن شخص أن ما تواصى عليه أهل الشمال والجنوب في اتفاقية السلام الشامل ، و أن المبادئ النظيرة التي أقرها التجمع الديموقراطي ، وأن الملايين التي أحتشدت في الساحة الخضراء لاستقبال بطل السلام لا الحرب ، أمر فيه نظر لأنه وحده هو أبوعبيدة هذه الأمة. وثانياً لأن منطلق بحثنا هو اتفاقية السلام و ما تواصي عليه الطرفان فيها ، و إن كره الكارهون .
    جَماعُ ما تواصى عليه الطرفان في تحديدهم لطبيعة المشكل السوداني و توصيفهم لجذوره إختُزِل في ديباحة بروتوكول ماشاكوس ، الاطار الجامع لكل الاتفاقيات التي تلتها . تقول الديباجة :
    . '' وحيث أن الطرفين يرغبان في تسوية النزاع في السودان بأسلوب عادل و مستدام عن طريق معالجة الاسباب الجذرية للنزاع و عن طريق وضع إطار للحكم يتم من خلاله اقتسام السلطة و الثروة بصورة عادلة ، و ضمان حقوق الانسان '' .
    . '' و إذ يدركان أن النزاع في السودان هو أطول نزاع مستمر في افريقيا و أنه قد سبب خسائر مريعة في الأرواح و دمر البُني التحتية للبلاد و أهدر الموارد الاقتصادية و تسبب في معاناة لم يسبق لها مثيل ، لا سيما فيما يتعلق بشعب جنوب السودان '' .
    . '' وشعوراً منهما بأوجه الظلم و التباين التاريخية في التنمية بين مختلف المناطق في السودان التي تحتاج الى الاصلاح '' .
    . '' واقراراً منهما بأن اللحظة الحالية تهئ فرصة سانحة للتوصل الي اتفاقية سلام شامل لانهاء الحرب '' .
    . '' واقتناعاً منهما بان عملية السلام التي تقوم بها الهيئة المشتركة للتنمية ( ايقاد ) و التي اعيدت لها الحيوية تحت رئاسة الرئيس الكيني صاحب الفخامة دانيال اراب موي تتيح السبل لتسوية النزاع '' .
    . '' والتزاماً منهما بتسوية متفاوض عليها و سلمية وشاملة للنزاع تقوم علي أساس اعلان المبادئ لصالح جميع شعب السودان '' .
    في هذه الديباجة اعتراف جرئ بطبيعة المشكل ، لا سيما ان جاء من نظام شمالي حاكم ظل يحتكر الحكمَ كلَه ، والحقيقةَ جلَها ، خلال ما يقارب العقدين من الزمان. هذا الاعتراف يحسب لذلك النظام لاعليه. ولعلنا نضيف أن التجمع الوطني الديموقراطي ''المعارض'' في مؤتمر القرارات المصيرية باسمرا العام 1995 ذهب الى شئ من هذا حين سعي أعضاؤه مجتمعين لاصلاح ما اجترحوه فرادى منذ الاستقلال. على أن التشخيص الجيد للعلل هو نصف العلاج ، لا كَمُاله
                  

02-14-2007, 11:24 AM

محمد يسن علي بدر
<aمحمد يسن علي بدر
تاريخ التسجيل: 12-28-2005
مجموع المشاركات: 623

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. منصور خالد .. عامان من السلام : حساب الربح و الخسارة (Re: محمد يسن علي بدر)



    عامان من السلام : حساب الربح و الخسارة (2)‏‎ ‎
    حق‎ ‎تقرير المصير والوحدة الجاذبة

    بعد تلك الديباجة أنشئ الاتفاق على عمودين: الأول هو الاعتراف بحق الجنوب ‏في تقرير مصيره في حقبة زمنية أرادتها الحركة لمدة عامين يُصار بعدها الى ‏تقرير المصير طالما اعترض الطرف الآخر على النظام الكونفيدرالي، أي قيام ‏حكومة للشمال و أخرى للجنوب، وسلطة كونفدرالية أعلى تكون الرئاسة فيها ‏تبادلية خلال الفترة الانتقالية، وأرادتها الحكومة عشر سنوات. ومن بعد، استقر ‏الرأي، عقب تدخل الوسطاء، على ستة أعوام. ‏
    تقرير المصير موضوع محسوم من جانب أطراف السياسة السودانية منذ أن اقره ‏نظام الانقاذ في اجتماع فرانكفورت بين الدكتور علي الحاج والدكتور لام أكول ‏‏(1992) رغم امتعاض البعض من ذلك الاتفاق، كما أقره التجمع الوطني ‏الديموقراطي في مؤتمر القضايا المصيرية. وحقاً، لم يقر التجمع ذلك الحق لأهل ‏الجنوب وحدهم، بل أيضاً لكل أقوام السودان. ‏
    ‏ ‏
    في دنيا السياسة الواقعية تصبح اللجاجة في هذا الأمر ''عَرضة بره النقارة'' لا يعنينا ‏في كثير أو قليل أهل داحس والغبراء من أصحاب الثأرات المصطنعة الذين ما ‏زالوا يتوهمون بعد كل التجارب القاسية التي مر بها السودان أن الوحدة يمكن أن ‏تفرض بحد السيف. ولكن، يؤرقنا أن لا يزال في قلب الأخ النابه صديق الهندي، ‏الشريك في حكومة الوحدة الوطنية، شئ من حتى حول هذا الأمر. نقول يؤرقنا لأنا ‏عرفنا في الرجل نُبهاً يحميه من الزلول في الأحكام منذ أن قدمه لنا الراحل العظيم ‏الشريف حسين الهندي في لندن لنرفده بشئ من القليل الذي نعرف حول الدبلوماسية ‏إذ كان يعد اطروحة أكاديمية في هذا المجال. قال صديق ان تقرير المصير خطر ‏ماثل وسابقة في افريقيا (الصحافة 28/11/2006)، و كان حرياً به أن يقول ان ‏الانفصال خطر ماثل، ثم يتبع القول بحرف امتناع لإمتناع، أي امتناع الجواب ‏لإمتناع الشرط. ليته قال ''لو لم نفعل كذا لوقع الإنفصال''. و كذا هذه ليست ضميراً ‏مستتراً بل هي أمر أوضحته الاتفاقية بتفصيل ممل. هو صادق في قوله ان تقرير ‏المصير سابقة في افريقيا، و لكن كان من المستحب للشريف أن يستذكر ان حرب ‏السودان هي أطول حرب في افريقيا، ويستذكر أن تقرير المصير ما كان ليصبح ‏مطلباً لو فعلنا ما هو أدنى منه : النظام الفيدرالي في دستور السودان الأول، الحكم ‏الذاتي في مفاوضات المائدة المستديرة 1965، الحفاظ على الحكم الذاتي الإقليمي ‏في عهد النميري. ولعلنا هنا نزيل وهماً سائداً بأن قبول الفيدرالية يومذاك كان أمراً ‏مستعصياً لأن القيادات لم تدرك، أو أن أحداً ما كان ليجسر بالدعوة له (الطيب حاج ‏عطية، ندوة الفيدرالية، الأيام 28/11/2006). أوليس من المُدهش أن يجهل الذين ‏جعلوا من المؤتمر الهندي نموذجاً يحتذى في السياسة أكبر انجازات ذلك المؤتمر ‏في الحكم : اللامركزية والتمييز الايجابي للجماعات التي فاتتها التنمية والترقي في ‏العهد الاستعماري. وحول الجسارة في ابداء الرأي نقول إنه كان بين هؤلاء القادة ‏في ذلك الزمان سياسي بادر منذ 1955 بإعداد مذكرة ضافية عنوانها ''أسس ‏دستور السودان لقيام حكومة جمهورية فيدرالية ديموقراطية اشتراكية'' ذلكم الرجل ‏هو الأستاذ الشهيد محمود محمد طه. هذا أمر ينبغي أن لا يتجاهله المؤرخون. ‏
    وعلى أي، نعود للحديث عن تقرير المصير لنقول إنه أيضاً ما كان الراحل قرنق ‏نفسه ليدعو لتقرير المصير لو لم يسبقه اليه الدكتوران لام أكول وعلي الحاج في ‏اتفاق فرانكفورت العام 1992، وما تبع ذلك من انشقاق في صفوف الحركة قاده ‏زعيم الانفصاليين يومها، الدكتور رياك مشار، قبل عودته وصاحبه من بعده الى ‏صفوف الحركة ليصبح واحداً من أكبر الدعاة للوحدة. تقرير المصير، اذن، لم ‏يصنع في نيفاشا بل هو نتيجة طبيعية لخيبات متوالية ومتواترة نجمت عن العبث ‏بالإتفاقيات، منذ الاتفاق على اعلان الاستقلال من داخل البرلمان في العام 1955 ‏وحتى اتفاق السلام من الداخل في العام .1997 ''كلما عاهدوا عهداً نكثه فريق ‏منهم'' والخيبات المتوالية ان لم تكن حافزاً لتحويل المسار، تصبح أقرب المسالك ‏الى الدمار. ‏
    العمود الثاني لبروتوكول مشاكوس هو وحدة السودان شريطة ان تكون وحدة ‏جاذبة. وجاذبية الوحدة ليست مطلباً رومانسياً بل هي وضع قانوني مؤسسي، ولهذا ‏نص الدستور القومي في المادة 222 على ما يلي: ‏
    ‏(1) يجري قبل ستة أشهر في نهاية الفترة الانتقالية استفتاء باشراف دولي لمواطني ‏جنوب السودان تنظمه مفوضية استفتاء جنوب السودان بالتعاون مع الحكومة ‏القومية وحكومة جنوب السودان. ‏
    ‏(2) يصوت مواطنو جنوب السودان اما: ‏
    ‏(أ) لتأكيد وحدة السودان بالتصويت باستدامة نظام الحكم الذي أرسته اتفاقية السلام ‏وهذا الدستور. ‏
    ‏(ب) أو اختيار الانفصال. ‏
    نظام الحكم في الجنوب عبرت عنه الاتفاقية بدقة متناهية في نصوصها. أولاً، ‏بتحديد اطار قانوني دستوري لحكم الجنوب فُصلت فيه المؤسسات والسلطات ‏والصلاحيات، وهي مؤسسات وسلطات وصلاحيات لم يُحظَ بها الجنوب في أي من ‏الاتفاقيات التي سبقت. هذا أمر ينبغي على كل جنوبي منصف أن يحمده للحركة ‏الشعبية فلولا نضالها وثباتها ورؤيتها وتعبئتها للمحيط السياسي الشمالي، بما فيه ‏نظام الانقاذ ومعارضيه، وللمحيطين الاقليمي والخارجي، لما تحقق للجنوب ما ‏تحقق. فأقصى ما تحقق له في الماضي تراوح بين الحكم الذاتي الإقليمي في عهد ‏مايو، ومجلس التنسيق في عهد الانقاذ. كما ينبغي على ساسة الشمال الذين يقلقهم ‏تَحامُد الجنوبيين فيما بينهم، واستحسانهم على رؤوس الأشهاد، لقبول المؤتمر ‏الوطني لهذا الوضع الدستوري الجديد للجنوب، ان يدركوا دواعي التحامد ‏والاستحسان. فالمؤتمر هو أول حزب سياسي شمالي يوافق على وضع دستوري ‏للجنوب من غير سبق. لهذا فإن أية محاولة لتخذيل حكومة الجنوب بافتعال ‏المعارك، أو الانتقاص من السلطات، أو افتراض ان الحال في الجنوب سيبقى على ‏ما كان عليه قبل الاتفاق، ستكون هي أقصر الطرق المؤدية لانفصال الجنوب. ‏
    ثانياً: مشاركة الجنوب في الحكم القومي بحسب وزنه السكاني، وليس في هذه ‏المشاركة ما ينبغي أن يقلق له مواطن شمالي نظيف يؤمن بوحدة السودان وينادي ‏بها. لن يُقلق هذا الا الذين يريدون وحدة الشمال والجنوب، وهيمنة الشمال في آن ‏واحد. بيد أن الحروب التي تلظى بها السودان على مدى نصف قرن من الزمان ‏أثبتت ان هذا محال. الحكم أيضاً يتجاوز التمثيل الرمزي في الوزارات، بل ان ‏قاعدته الرأسية هي الخدمة العامة و مؤسسات الدولة الأخرى: العدلية والأمنية ‏والمالية، وهذا هو عصب الدولة. لهذا لا مناص من أن تشمل المشاركة هذه ‏المؤسسات، وفي ذلك تقول الفقرة 2-6-1 من البروتوكول: '' تعمل حكومة الوحدة ‏الوطنية على أن تكون الخدمة المدنية القومية، لا سيما على المستويات العليا ‏والمتوسطة، ممثلة لشعب السودان. وتحقيقاً لهذا الغرض ينبغي مراعاة المبادئ ‏التالية: تصحيح أوجه الاختلال والتمييز القائمة، أهمية الكفاءة و ضرورة التدريب، ‏أن يكون الحصول على الوظائف بالتنافس النزيه، لا يجوز لأي مستوى من ‏مستويات الحكم التمييز ضد أي مواطن سوداني مؤهل بسبب الدين أو العرق أو ‏الجنس أو المعتقدات السياسية، دعم الفئات الاضعف عن طريق التدريب لتحقيق ‏أهداف التمثيل المتساوي في اطار زمني متفق عليه، التعليم الاضافي للمتأثرين ‏بالحرب''. هذه المبادئ وجدت طريقها الى الدستور (المادة 136، موجهات ‏الاستيعاب في الخدمة المدنية القومية). هذا أيضاً اعتراف جرئ باختلال في جهاز ‏من اهم أجهزة الدولة قلما التفت اليه في الماضي اهل السياسة، بمن فيهم تجمعنا ‏الوطني في قراراته حول الخدمة العامة. فقرارات التجمع حول الخدمة المدنية ‏إنصبت جميعها حول حيدة الموظف العام ومهنيته، وهذا بلا ريب أمر ضروري. ‏ومن بعد كان التركيز في تلك القرارات على موضوع ''إعادة المفصولين'' رغم أن ‏دواعي التصفية في الخدمة المدنية تمتد الى آخرين لحق بهم ظلم تاريخي. أوليس ‏من الغريب، مثلاً، ان ليس من بين اهل الجنوب جميعاً من حُسِب أهلاً لوكالة ‏الوزارة أو ادارة الجامعة منذ الاستقلال رغم انه كان من بين هؤلاء نواب للرئيس ‏ووزراء وضباط عظام في الجيش وأساتذة مرموقون في الجامعات. الاعتراف ‏بأهمية التمييز الايجابي (‏affirmative action‏) وتفعيله هو الطريق الأمثل ‏لتجسير الفجوة بين المحظيين والمحرومين، أياً كانت اسباب الحظوة والحرمان. ‏وهذا ما فعلته نيفاشا لتترجم عموميات مشاكوس، وهو أيضاً اجراء من غير سبق ‏في بلادنا. على مثل ذلك الاجراء سبقتنا الهند، رغم حدة التفرقة والتمييز فيها، ‏بالتأطير الدستوري والقانوني لحقوق غير المحظيين ووضع البرامج اللازمة ‏لتنفيذها. كما سبقتنا اليها دولة استقلت بعدنا بعقد من الزمان هى ماليزيا عندما لجأت ‏الى التمييز الايجابي لتمكين المحرومين من المالاى من السلطة والثروة إزاء ‏استئثار الصينيين بالثروة ومراكز الدولة. وفعلته جنوب أفريقيا من بعد. ‏
    هذا النص في الاتفاقية اُطر دستورياً في المادة 138ب التي أوكلت للمفوضية ‏القومية للخدمة المدنية ''التأكد من شغل ما لا يقل عن عشرين بالمائة من الوظائف ‏في المستويات الوسيطة والعليا في الخدمة المدنية القومية، بما فيها وظائف الوكلاء ‏‏(التأكيد من عندنا)، بأشخاص مؤهلين من جنوب السودان (وليس من حزب بعينه ‏في جنوب السودان، والاضافة من عندنا) خلال السنوات الثلاث الأولى من الفترة ‏الانتقالية، وتصل هذه النسبة الى خمس وعشرين بالمائة خلال خمس سنوات''. وبما ‏أن هذه النسب تقديرية فقد نص بروتوكول ماشاكوس، بوجه عام، على أن النسب ‏المقترحة لتمثيل الجنوب في المؤسسات القومية نسب مؤقتة ويتم تأكيدها أو تعديلها ‏على أساس نتائج عملية التعداد السكاني (الفقرة 189). ‏
    الوحدة الجاذبة لها بعد ثقافي لم تغفله الاتفاقية خاصة في أمرين: الدين واللغات. ‏الموضوع الأول حُسم على وجه خرج به من الكلمات الشفرية (داcypher ‎words‏) مثل العلمانية التي ظلت تنادي بها الحركة، أو الدولة الدينية على امتداد ‏التراب السوداني التي كان يدعو لها نظام الانقاذ. تلك دعوةً حملته على جعل ‏الحرب من أجل تحقيقها جهاداً في سبيل الله. بروتوكول ماشاكوس أقر بأن يحكم ‏الجنوب وفق نظام يتم فيه الفصل بين الدين والدولة، نص على ما يلي في مادته ‏الثامنة: ‏
    ‏(1) تكون الشريعة الاسلامية والاجماع مصدراً للتشريعات التي تسن على ‏المستوى القومي وتطبق على ولايات شمال السودان. ‏
    ‏(2) يكون التوافق الشعبي وأعراف الشعب السوداني وتقاليده ومعتقداته الدينية التي ‏تأخذ في الاعتبار التنوع في السودان، مصدراً للتشريعات التي تسن على المستوى ‏القومى وتطبق على جنوب السودان أو ولاياته. ‏
    ووفقاً لهذا الفهم ذهب دستور جنوب السودان الى النص على الآتي في مادته ‏الثامنة: ‏
    ‏(1) في جنوب السودان يُفصل الدين عن الدولة. ‏
    ‏(2) كل الأديان تعامل بالتساوي ولا يجوز اعلان أي دين كدين رسمي لجنوب ‏السودان، ولا يجوز استخدام الدين أو العقائد الدينية لأغراض التفرقة. ‏
    في ذات الوقت، تواصى الطرفان في بروتوكول ماشاكوس على أن ''الديانات ‏والعادات والمعتقدات هي مصدر القوة المعنوية والالهام للشعب السوداني '' (الفقرة ‏‏6-1). كما اتفقا على ضمان ''حرية العقيدة والعبادة والضمير لاتباع جميع الديانات ‏أو المعتقدات أو العبادات و لا يتم التمييز ضد أي شخص على هذه الأسس'' (الفقرة ‏‏6-2). توافق الطرفان أيضاً على أن ''الاهلية للمناصب العامة بما في ذلك رئاسة ‏الجمهورية (التأكيد من جانب الكاتب) والخدمة العامة والتمتع بجميع الحقوق ‏والواجبات تكون على أساس المواطنة وليس على أساس الدين أو المعتقدات أو ‏العادات '' (الفقرة 3-6). هذا النص حسم خلافاً لاجباً حول ضرورة احترام التنوع ‏الديني، وبوجه خاص الحيلولة دون اقحام الدين في حقوق المواطنة بالقدر الذي ‏يحرم المواطن غير المسلم، بل المرأة المسلمة، من التطلع للولاية الكبرى حسب ‏مفاهيم الفقه التقليدي، ولهذا الرأي انصار وقف علمهم بأحكام السياسة الشرعية عند ‏الماوردي. ولعله من الانصاف أن نضيف ان هذا الأمر قد سبق البتُ فيه في دستور ‏‏1998 دون أن ينسب أحد ذلك الدستور للعلمانية. فالمادة 57 من ذلك الدستور ‏عينت شروطاً للأهلية متعارفة في الدساتير الديموقراطية لا تشمل اشارة للدين أو ‏الجنوسة. وفي حديث سابق لاحدى الصحف العربية المهاجرة قلنا إن السودان لن ‏يكون متصالحاً مع نفسه الا عندما يقبل دستورياً أن يحكمه غير مسلم أو مواطن ‏غير عربي الأصل. الا أن صديقنا صاحب ''الراية''، غفر الله له، أورد التصريح ‏في تعليق له على نحو معناه أن السودان لن يستقر الا إذا حكمه نصراني غير ‏عربي، وشتان بين القولين. وما كنا لنشير لذلك لولا الاوضاع التي فرضها دعاة ‏‏''الدولة الدينية''، فدساتير السودان منذ العام 1956 لم تكن تضع شرطاً حول ديانة ‏المتطلع لرئاسة الجمهورية. هذا ما كان من أمر الماضي. أما اليوم، فالذي تمنيناه ‏هو ما أقره الدكتور الترابي في دستور 1998، وأقره الدكتور غازي صلاح الدين ‏في بروتوكول مشاكوس، وأقره الاستاذ علي عثمان في بروتوكول نيفاشا، وأقره ‏الرئيس البشير في اعلان نيروبي، فالحمد لله من قبل ومن بعد. وفي نهاية الأمر فإن ‏الذي سيقرر في أمر الحاكم ليس هو النص الدستوري الجامد، بل الناخب وعندئذ، ‏كما يقولون، ''الحشاش يملا شبكته''. ويفيد أن نضيف أن صيغة ماشاكوس حول ‏الدين في الأوطان التي يمزقها الصراع الديني أصبحت نموذجاً يحتذى، ومثال ذلك ‏الفلبين (مطالبة الأقلية المسلمة بحقوق مستمدة من دينهم في بلد غالبيته من ‏المسيحيين) حيث طرح الوسطاء على طرفي النزاع الصيغة الماشاكوسية. ‏
    النص حول الديانات أنهى مزاعم كثراً كانت لا ترى في حديث الحركة عن ‏العلمانية الا محاولة للانسلاخ عن الدين أو نفيه عن حياة المواطنين، أو محاولة ‏مستترة لنصرنة الجنوب. فالنص على فصل الدين عن الدولة في دستور الجنوب ‏تبعه نص آخر يحث على احترام جميع الديانات والمعتقدات، في ذات الوقت الذي ‏حرم فيه على الدولة، كدولة، الالتزام بأي دين. عن هذا الوضع الدستوري الجديد ‏للاديان في دستور الجنوب تتداعى تبعات لا مناص من الاعتراف بها بدلاً عن ‏الهروب منها الى الأمام. هذا موضوع سنتطرق اليه لاحقاً في معرض حديثنا عن ‏التلبيس الذي لحق ببعض الاجراءات التي اتخذتها حكومة الجنوب تجاه بعض ‏المؤسسات الاسلامية القائمة، أو الممارسات في تلك الرقعة من الوطن التي حسبها ‏البعض انتهاكاً لحقوق المسلمين. ‏
                  

02-14-2007, 11:36 AM

علي محمد علي

تاريخ التسجيل: 12-04-2004
مجموع المشاركات: 0

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. منصور خالد .. عامان من السلام : حساب الربح و الخسارة (Re: محمد يسن علي بدر)

    up
                  

02-14-2007, 11:44 AM

محمد يسن علي بدر
<aمحمد يسن علي بدر
تاريخ التسجيل: 12-28-2005
مجموع المشاركات: 623

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. منصور خالد .. عامان من السلام : حساب الربح و الخسارة (Re: محمد يسن علي بدر)

    عامان من السلام : حساب الربح و الخسارة
    المقالة (3)

    غير متوفرة
    .............
                  

02-14-2007, 11:50 AM

محمد يسن علي بدر
<aمحمد يسن علي بدر
تاريخ التسجيل: 12-28-2005
مجموع المشاركات: 623

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. منصور خالد .. عامان من السلام : حساب الربح و الخسارة (Re: محمد يسن علي بدر)



    عامان من السلام : حساب الربح و الخسارة (4)

    الثلاثاء 23 يناير 2007
    د. منصور خالد

    شمولية الحل ومقومات الحكم وموجهاته


    ألحقت بديباجة ماشاكوس أيضاً مبادئ هادية حول قضايا التنمية والتوزيع المنصف للثروة ثم التحول الديمقراطي. غاية الأمر من ذلك التحول هو رد الحق الى أهله، أهل السودان حيث يقررون بِحُر ارادتهم من يحكمهم. ولقد أحسن الرئيس البشير صنعاً حينما أعلن خلال اسبوع واحد ان الانتخابات قائمة في مواعيدها لا محالة (خطاب الرئيس في ندوة سونا (27/11/2006)، وخطابه في القمة الافريقية الباسيفكية الكاريبية (7/12/2006)، ثم أضاف الى التوكيدين توكيداً آخر في خطابه قبل أيام في الاحتفاء بالعيد السنوي لذكرى استقلال السودان. لذلك، يلزمنا ان ننبه الى جوانب ثلاثة من البروتوكول. الجانب الأول هو شمولية الحل بمعنى السعي به لمعالجة المشاكل التي أقعدت السودان منذ الاستقلال، وعلى رأسها نظام الحكم والتنمية. لهذا تحدث البروتوكول في الفقرة (2-5-1) بالنص عن «ايجاد حل شامل يعالج التدهور الإقتصادي والإجتماعي في السودان (وليس فقط في جنوب السودان، والاضافة من عندنا) ويستبدل الحرب ليس بمجرد السلام بل أيضاً بالعدالة الاجتماعية والإقتصادية التي تحترم الحقوق الانسانية والسياسية الأساسية لجميع الشعب السوداني ». ولعل هذا هوالسبب في ان أصبحت اتفاقية السلام الشامل هى نقطة الاستدلال بالنسبة لكل اتفاقيات السلام التي تلتها مع تفريع في النغم دون تبديل في اللحن.
    التهميش، وما أدراك ما التهميش؟
    الجانب الثاني هوالبعد الاقتصادي وقد ظلت الحركة الشعبية منذ بداهة عهدها تتحدث عن التهميش الاقتصادي حتى ساد التعبير على الخطاب السياسي. والتهميش ليس وصفاً ابتدعته الحركة الشعبية بل هو نعت أطلقه الاجتماعيون في الستينات من القرن الماضي، قبل أن يأخذ به الاقتصاديون والسياسيون، كمرادف للاقصاء (exclusion) أوالحرمان (deprivation) اللذين تعاني منهما شريحة مجتمعية في بلد معين. لذلك ندهش عندما يستنكر الناس وصفاً علمياً لظاهرة محددة شاع في أدبيات علم الاجتماع منذ أربعين عاماً. ولربما يجد المرء عذراً لهؤلاء عند استشراء استخدام التعبير على كل من لحق به حيف طارئ. على كل، في حال السودان، نعني بالمهمشين أهل بعض اقاليم السودان، وشرائح من المجتمع في بعض مناطقه، بمن فيهم من هم في داخل المدن، تدنت كثيراً مستويات معيشتهم ومعدل نموهم عن معدل التنمية الاقتصادية في المناطق الأكثر تطوراً، لا بسبب الكوارث الطبيعية وانما بسبب السياسات. هذا الوضع لا يقتصر على الجنوب الذي لعبت الحروب دوراً هاماً في تعميق أزماته، بل يشمل مناطق عديدة في الغرب والشرق والشمال وأطراف المدن الكبرى.
    وبعيداً عن العموميات ولَبْس الحق بالباطل نسأل : أهناك تهميش؟ ومن همش من؟ وهل للشمال دور في تهميش الجنوب؟ وما هو هذا الشمال الذي نعنيه؟ بعيداً عن التعابير الشفرية، والاطروحات الميتافيزيقية، هناك الارقام والحساب. ما الذي تقوله الارقام؟ نستند الى واحد منها هوالمسح الذي اشرفت عليه اليونسيف وتقدمت به الى مؤتمر القمة للاطفال الذي عقدته الامم المتحدة في بداية القرن. ولكيلا ينبري لنا وطني غيور ليصم هذه الاحصائيات بأنها واحدة من مؤامرات الدول الخارجية التي تحسدنا على ما نحن فيه من خير ونعيم ولا تريد بنا الا الضر، نضيف ان التقرير اليونيسفي اشرف على اعداده ثلاثة عشر كوكباً من ابناء وبنات السودان الذين لا يقلون غيرة على وطنهم عن اولئك الوطنجية. من هؤلاء وكيل وزارة الصحة القومية، مدير المكتب المركزي للاحصاء، مندوب عن جامعة الخرطوم، مندوب عن وزارة التعاون الدولي، مندوب عن الهيئة القومية للمياه، الى جانب خمسة وثلاثين باحثاً حقلياً سودانياً، وتسعة عشر مراقباً ومثلهم من المنسقين في الولايات الشمالية والجنوبية. تقول الارقام ان 53% من الاطفال البالغين سن التعليم في بلادنا لا يتلقون تعليماً. وحين تبلغ نسبة الذين لا يتلقون التعليم في المراكز الحضرية 37 % ترتفع تلك النسبة في الريف الى 63 % ولا تزيد في دارفور عن 22% مقارنة بـ 72% من اطفال الخرطوم. وفي الريف ايضاً لا يُكمل ثُلث التلاميذ المحظوظين الذين يحصلون على فرص التعليم الفصل الخامس. اما السكان الذين هم فوق سن الخامسة عشر فنصفهم اميون وعلى وجه التحديد 53 % منهم. ومن هؤلاء 33 % في المدن و61% في الريف. وعند تفصيل هذه الارقام نجد انه في حين تبلغ نسبة الامية في الشمالية 28% ترتفع الى 725% في دارفور. وان تناولنا قضية الحصول على المياه الصالحة للشرب نجد ان 40 % من أهل السودان لا تتوافر لهم هذه المياه، منهم 33% في المدن و61% في الريف. وحين يحظى بالمياه الصحية 89% من اهل الخرطوم تبلغ النسبة 67% في الجزيرة، 64% في الشمالية، 33% في النيل الابيض، 26% في غرب كردفان. وحول استخدامات الطاقة يبلغ عدد الذين يستخدمون مصادر الطاقة الحديثة للوقود (الكهرباء والغاز) 12% من السكان وهم اهل المراكز الحضرية، في حين يظل الفحم والاخشاب هما المصدر الرئيس للوقود بالنسبة لـ 88% من اهل السودان، بكل ما يترتب على ذلك من قضاء على الغطاء الشجري الغابي والنباتي.
    sقد نتجادل الى قيام الساعة حول من هوالمسئول ولكن هذا الجدل البيزنطي لن يفيد فقراء الريف والمدينة، ولن يحقق الرفاه للسودان، ولن يطور أو ينقذ من الضياع والبيود اهم ثروة لأي بلد، الا وهى الانسان، اكبر رأسمال. هذه الاوضاع نتاج طبيعي لسياساتنا منذ الاستقلال، أو بالحري لانعدام الرؤية الصائبة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. خاصة وقد كان متوسط نصيب الفرد من الناتج القومي بالجنيهات السودانية غداة رحيل الاستعمار موزعاً على الأقاليم على الوجه التالي : (119) الخرطوم العاصمة، (71) الجزيرة، (28) المناطق الأخرى في الشمال الجغرافي، (12) جنوب السودان (المديريات الثلاث). لا نحسبن أن حكام السودان من أهل الشمال قد ائتمروا فيما بينهم للابقاء على هذا التوزيع غير العادل لنتاج التنمية ايذاءً لأهل الريف، وهم أهلهم، بل إن القصور عن إستبصار ما سيقود اليه المنهاج التنموي الذي ورثوه عن الاستعمار من نتائج مدمرة، كان أسُ الداء. فالاستعمار كان منطقياً مع نفسه عندما سعى للحصول من التنمية على أكبر عائد بأقل تكلفة. بنى وشيد حيثما كان ذلك محققاً لذلك الهدف : فالعمالة الأكثر قدرة وتأهيلاً منذ العهد التركي، والأرض السهلية المنبسطة، والماء الوفير، والاحتكاك بالعالم الخارجي، ومؤاني التصدير، كانت كلها في الشمال. والسودان ليس فريداً في هذا، فالى جانبه دول عديدة ذهبت بعد استقلالها لمعالجة البؤس الموروث، عن الاستعمار أو عن غيره، بسياسات ذات أولويات واضحة أهم ما فيها هو التمييز القصدي أو الايجابي لايجاد توازن كلي. وعلى كل، فان واجب الوارثين لتلك الأنظمة هو علاج الأخطاء في سياساتها لا التدافع لنقدها أوايجاد المعاذير لها. وما الذي صنعته نايفاشا الا خطوة أولى في طريق طويل وشاق.معالجة هذا الوضع لا تتحقق بالحديث عن التنمية المتوازنة، التعبير /الشعار الذي طغى على الخطاب السياسي/ الاقتصادي في كل عهود الانقلابات العسكرية والانتفاضات الشعبية، وانما بالرؤية الصائبة، فالبرامج التي تترجم الرؤية الى واقع، ثم التحديد العملي للموارد المطلوبة لتحقيق الأهداف المبتغاة. ولهذا ذهب بروتوكول نايفاشا الى ترجمة المبادئ العامة الواردة في بروتوكول ماشاكوس حول معالجة التدهور الاقتصادي الى مبادئ موجهة لاقتسام الثروة القومية، أو على الأصح التوزيع العادل لها. من هذه المبادئ :
    تقسيم ثروة البلاد على نحومتكافئ حتى يتمكن كل مستوى حكومي من الاضطلاع بمسؤولياته وواجباته القانونية.
    * كفالة تقسيم وتوزيع الثروة الناتجة عن موارد السودان لتعزيز الحياة والكرامة والظروف المعيشية لكل المواطنين دون تفرقة على أساس النوع أو العنصر أو الدين أو الانتماء السياسي أوالعرق أو اللغة أو الاقليم. ويقوم تخصيص هذه الثروة على مبدأ أن لكل أجزاء السودان الحق في التنمية (التأكيد من عندنا).
    * يتفق الطرفان أن جنوب السودان وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق تواجه احتياجات ملحة لكي :
    (1) تتمكن من الاضطلاع باعباء الحكومة الأساسية.
    (2) تتمكن من بناء الإدارة المدنية.
    (3) تعيد تأهيل واعمار البنية الأساسية العمرانية والاجتماعية في سودان ما بعد الصراع.
    * الالتزام بتفويض السلطة ولا مركزية القرار فيما يتعلق بالتنمية والخدمات.
    * بناء البنية التحتية والموارد البشرية والتنمية الاقتصادية المستدامة والقدرة على تلبية الاحتياجات الانسانية في اطار الشفافية والحكم الخاضع للمساءلة واتباع أفضل السبل المعروفة في الاستغلال المستدام للموارد الطبيعية (التأكيد من عند الكاتب).
    * لا يجوز للحكومة القومية حجب أي مخصصات مستحقة للولايات أو لحكومة الجنوب ويجوز لأي مستوى آخر للحكم احتجزت أموال مستحقة له أن يقيم دعوى في المحكمة الدستورية ضد أي جهاز أومستوى آخر يحتجز اموالاً مستحقة له.
    * الاستعانة بالعون الخارجي الى جانب الموارد المحلية لتنفيذ هذه الأهداف.
    لم يكتف بروتوكول نايفاشا بالنص على أهمية التوزيع العادل للثروة والمخصصات المالية، بل ابتدع الأجهزة الدائمة التي تتولى مراقبة منح الحصص المخصصة لحكومة الجنوب والولايات في الايرادات العامة وكفالة الشفافية والعدالة عند تخصيصها، وتلك المكلفة بتعبئة الموارد الاضافية لاعادة البناء والتنمية على المستوى القومي، ومستوى جنوب السودان. كما أقر الاتفاق، ونص الدستور على، انشاء صندوق قومي للايرادات يخضع لمراقبة الجهاز التشريعي وتقيد فيه كل الايرادات التي يتم تحصيلها من جانب الحكومة القومية بما في ذلك ايرادات البترول المستحقة''. وفي النص الأخير ما يدرء ما كان يتردد في صفوف المعارضة من شبهات بأن ايرادات البترول لا تُضمن في الميزانية العامة ولا تخضع للمراقبة العامة. وبهذه الاجراءات انتقل الاتفاق بشعار التنمية المتوازية من التمنيات أوالشعارات الى اطار البرامج والعمليات.
    ***********
    التحول الديموقراطي
    الجانب الثالث هوالتحول الديموقراطي. ولوكان بُغية الحركة الشعبية من التفاوض هو تحقيق مطالب الجنوب التاريخية والرضى بالأدنى على المستوى القومي الى حين الانفصال، لما واظبت على مدى عامين في الحوار حول أمور تعني الشمال بالمقام الأول، وعلى رأسها التحول الديموقراطي. التحول الديموقراطي يعني الانتقال بالسودان الى حكم يفسح المجال لكل القوى السياسية، وينهي كل مظاهر الشمولية خلال فترة انتقالية يحكمها دستور يوفر كما قالت الاتفاقية '' الحقوق الانسانية والسياسية لجميع شعب السودان (الفقرة 2-15 ماشاكوس). عموميات بروتوكولي ماشاكوس ونيفاشا فصلت في نصوص دستورية تضمنها باب كامل من الدستور توافرت فيه لأهل السودان حريات افتقدوها في زمان كانت فيه الديموقراطية تتألق بغيابها (Conspicuous by its absence) الديموقراطية التي اقررناها في ماشاكوس ونايفاشا ليست نظاماً اخترعه حزب أو مفكر سياسي على عينه، بل هى الديموقراطية المعرفة بالالف واللام والتي تقوم على مبادئ التداول السلمي للسلطة، احترام الحقوق الاساسية للانسان، ابتناء الحقوق والواجبات الدستورية والقانونية على اساس المواطنة، وسيادة حكم القانون. وان كان بينها وبين الديموقراطية اللبرالية من فروق فهى فروق في القسمات لا في الاساسيات، وان كان بينهما تمايز فهو في الفروع لا في الاصول.والآن، وقد استكشفنا جميعاً فضيلة الديموقراطية بعد عهود طوال جربنا فيها مبادئ لا حرية لأعداء الحرية، ولا صوت يعلوعلى صوت المعركة، ولا مكان للقدامى، وبالدم بالروح نفديك يا ثورتنا، ثم اخيراً تجربة المشروع الحضاري الذي يقاد له الناس لخيرهم خطم انوفهم، يستحب لنا، بل يجب علينا، ان ننظر للديموقراطية بمعناها الذي أوصفناه لا كمطمح، بل كغاية لا معدي عنها. ان لم نفعل، سيصبح السودان، وطناً يأكل الاجيال، اللهم الا ان كان قد حق عليه دعاء سعد بن ابي وقاص على أهل الكوفة : ''اللهم لا تُرضى عنهم امير، ولا تُرضهم بأمير''.
    ***********
    المُلاحاة حول الاتفاقية
    ومع صحة القول ان بلاغة الكلم لا تغني عن كفاءة العمل، بمعنى ان العبرة بتنفيذ الاتفاق، لا بحسن تهيئته وجودة ترتيبه، نتساءل ما هى اسباب الملاحاة حول الاتفاقية ان كان في مبادئها ومؤسساتها ما يحقق السلام في الجنوب، ويضع اساساً هادياً لمعالجة الصراعات الاخرى في السودان، ويؤسس لحكم يرضي طموحات اهل الاقاليم، ويهيئ لصاحب القول الفصل، شعب السودان، الوضع الذي يمكنه من ان يقضى بحريته واختياره في امر يحكمه، وتحت رقابة دولية حتى يعيد كل واحد منا الى مكانته واستحقاقه بين الناس. للملاحاة سببان في تقديرنا بعضها انطباعي، وبعضها موضوعي، ومنها ما هو ممعن في الذاتية. انطلاقاً مما قدمنا به هذه المقالات عن الدواعي التي تحفزنا للكتابة، سنتناول كل هذه الاسباب في معرض الاشارة اولاً الى الظروف التي تم فيها الاتفاق ومكنت من تحقيقه، وثانياً لما بدر في مواقف بعض المنسوبين الى طرفي الاتفاق من تشكك في صلاحية الاتفاق، أوعدم جدية في الالتزام بها، أوترخصاً في الحديث عنها بصورة توحي بعدم أخذها مأخذ الجد. وثانياً في مواقف المعارضين والصحافة تجاه الاتفاقية وما نلمسه فيها من استخلاص غير سليم لما احتوته، أو تفسير ضار لها، او استهانة بما يلزم فيه الجد. ولكيما يصبح تحليلنا لتلك الاسباب تحليلاً واقعياً دون نظر مثالي، لا بد ان يسبق التحليل تفصيلاً للظروف التي تم فيها الاتفاق، والعوامل التي احاطت باتمامه.لعلنا آخر من يصف اتفاقية السلام الشامل بالمثالية، رغم اطرائنا عليها كحل وسطى ينهي الحرب في الجنوب ويؤهله لحكم نفسه ولعب دوره في المحيط القومي برضاء اهله، ويضع الاسس لانهاء التململ في الاقاليم بأن يعهد لها، هى الأخرى، ادارة شئونها ويوفر لها الموارد التي تمكنها من ذلك، كما يضع حداً للجدل حول الهُوية بعد ان اضحى عقيماً لا ثمر منه. هذا الاتفاق تم بين طرفين لا يملك اي منهما ان يدعي انه يمثل كل اهل السودان، ولكن كليهما يمسك بمفاتيح التحكم في امر الحرب والسلام، كما يملكان القوة المادية والمعنوية لتأجيج الاولى وانفاذ الثانية. فالحركة الشعبية لا تستأثر بالجنوب كله، والمؤتمر الوطني لا يمثل السودان كله. الفريقان ظلا يحتربان لما يزيد على العقدين من الزمان حرباً اهدرت الموارد، وكادت تقضي على النسل. وكان لكل فريق نصراء، في هذا الجانب أو ذاك، منهم من جاء اليه حباً في علي، ومن جاء بغضاً في معاوية. وان كان دور انصار نظام الانقاذ من غير اهله في الشمال قد اضاف اليه بُعداً معنوياً، كما اضاف له من استنصروا به في الجنوب بُعداً مادياً يتمثل في زعزعة (destabilization) الحركة الشعبية، فقد كسبت الحركة الشعبية دعماً سياسياً ومعنوياً من قوى التجمع الوطني الديموقراطي في الشمال، كما كسب التجمع منها غطاء ردع لقوة الانقاذ التي انتزعت من بعض اطرافه السلطان، ومن البعض الآخر الحرية. رغم كل هذه الروايات داخل الرواية (plays within the play) ظلت الرواية الكبرى، أي الحرب هى الهاجس الأكبر عند الطرفين وعند دول الجوار والعالم.
    ***********
    كيف ننهي الحروب؟
    الحروب لا تنتهي الا بشيئين: حل وفاقي يتراضى عليه الطرفان، أو وضع فيه غالب ومغلوب. ولهنري كسنجر رأي في هذا عندما تسلم زمام المفاوضات لانهاء حرب فيتنام. قال لصقور الادارة الامريكية، وكان واحداً منهم : ''عندما يعجز الجيش عن محق العصابات (guerillas) يكون الجيش قد عجز عن تحقيق غرضه، وعندما تحافظ العصابات على وجودها وقدرتها على الايذاء تكون العصابات قد انتصرت''. في وضع كهذا يدرك السياسي الحصيف ان الهزيمة ليست هزيمة، وان الانتصار ليس انتصاراً، ويصبح الاستمرار في الحرب عبثاً، أوعلى الاقل عبئاً بلا طائل. فالحرب لا يمكن ان تكون هدفاً في حد ذاتها لمن اسماهم كسنجر ''العصابات'' ومن يسميهم اهل فيتنام الثوار ونسميهم في السودان جيش التحرير. فلهؤلاء غايات لا تتحقق الا بالسيطرة على الفضاء السياسي. من الجانب الآخر، فان الجيش لا يحارب من اجل الحرب وانما من اجل السيطرة على كامل التراب الوطني لأن هذا هو واجبه الاول، كما أن النظام الذي يحميه الجيش يريد استقراراً كاملاً ينصرف بعده الى تنفيذ اجندته السياسية، أياً كانت هذه الأجندة. هذا هوالسبب الأساس الذي مهد للاتفاق، وليس السبب في التفاوض، إذ تعود المفاوضات الى منتصف العام 1989 في اديس ابابا (أغسطس من ذاك العام) في بداية عهد الانقاذ تحت رعاية الرئيس السابق منقستو هايلي مريام، وفي نيروبي (ديسمبر 1989) تحت رعاية الرئيس الامريكي كارتر وباستضافة الرئيس الكيني اراب موي.
    أي اتفاق يتم تحت ظل ظروف كهذه لا يمكن ان يقود الى تحقيق السقف الأعلى لمطالب أي من الطرفين، فمطلب الانقاذ، بعد اخفاق محاولات السلام الاولى، كان هوالقضاء التام على الحركة الشعبية وصدها (أوبالحرى طرد قياداتها) الى خارج حدود السودان واقامة دولة اسلامية من نيمولي الى حلفا. ومطلب الحركة هو قيام دولة موحدة من حلفا الى نيمولي أيضاً يقوم الحكم فيها على أساس المواطنة ويُقصي فيها الدين عن أمور الحكم والسياسة. الهدفان لا يحققهما اتفاق سلام بل وثيقة استسلام بعد ان ينجوالمهزوم فيها بجلده، أويسقط ومن معه على أسنة رماحهم، أويخلع بزته العسكرية ويضع غدارته على طاولة المفاوضات ثم يوقع على الخطوط المرسومة مستسلماً. فمع التباين في الرؤى، والاختلاف في المنطلقات، كان لا بد للطرفين من التوافق على اتفاق حد أدنى لا غالب فيه ولا مغلوب (win.win agreement) وان كان ذلك الاتفاق لا يحقق السقف الأعلى لمطالب أي من الطرفين فمن بؤس التفكير ان يظن ظان من أنصار المؤتمر أوالحركة أنه قادر على تنفيذ اجندته القصوى عبر اتفاق طوعي مع الطرف النقيض، أو أن يستدرج طرف معارض ساسة الحركة لتقويض نظام الحكم خِلاساً، وكأنه يدعوهم لنقض غزلهم بيدهم
                  

02-14-2007, 12:03 PM

Yasir Elsharif
<aYasir Elsharif
تاريخ التسجيل: 12-09-2002
مجموع المشاركات: 48739

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. منصور خالد .. عامان من السلام : حساب الربح و الخسارة (Re: محمد يسن علي بدر)

    الله يفتح عليك يا أخي محمد يسن، ويعطي دكتورنا الكبير منصور خالد الصحة والعافية وطولة العمر..
                  

02-14-2007, 12:03 PM

Yasir Elsharif
<aYasir Elsharif
تاريخ التسجيل: 12-09-2002
مجموع المشاركات: 48739

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. منصور خالد .. عامان من السلام : حساب الربح و الخسارة (Re: محمد يسن علي بدر)

    الله يفتح عليك يا أخي محمد يسن، ويعطي دكتورنا الكبير منصور خالد الصحة والعافية وطولة العمر..
                  

02-14-2007, 12:08 PM

محمد يسن علي بدر
<aمحمد يسن علي بدر
تاريخ التسجيل: 12-28-2005
مجموع المشاركات: 623

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. منصور خالد .. عامان من السلام : حساب الربح و الخسارة (Re: محمد يسن علي بدر)

    عامان من السلام : حساب الربح والخسارة (5)
    اتفاقية السلام... صناعة خارجية

    بين من يُفترض، بل يلزم، تأييدهم للاتفاق، كما بين بعض من معارضيه، من يصرح حيناً، و يلمح احياناً، الى ان اتفاقية السلام الشامل صناعة خارجية. مثال ذلك قول الاستاذ قطبي المهدي وهو أسطون من أساطين حزب المؤتمر الوطني، أحد صانعي الاتفاقية، أن ''السلام لا تأتي به ورقة مساومات، واذا لم توجد قناعات حقيقة لا يتوفر السلام. الذين وقعوا هذه الاتفاقية هل كان قصدهم السلام، أم قصدهم مكاسب سياسية من قبل الضغوط الدولية على السودان ثم استخدام هذه المكاسب لمواصلة الحرب السياسية مع النظام. ومنذ البداية كانت تحفظاتنا هي هذه. نعرف نوايا الحكومة جيداً ونعرف نوايا الامريكان الذين كتبوا هذه الاتفاقية'' (الخرطوم 14/10/2006). فالاتفاقية عند القطب المؤتمري، اذن، صناعة امريكية، رؤى وصياغة. ما أظلم الرجل ! لا نقول هذا لأن الخارج لم يكن له دور، فللخارج دور كبير نقدره، بل نحرص على استمراره. فدوره هام لضمان الالتزام بنص الاتفاق حتى لا تلحق به خروقات كبيرة أو يستبيحه احد الطرفين. ودوره ضروري لاكمال بعض الاجراءات المترتبة على انفاذ الاتفاقية مثل نزع السلاح، وإزاحة الالغام، ودعم مشروعات الاغاثة خاصة للنازحين و اللاجئين، وتمويل اعادة البناء وفق مشروعات محددة اتفقت عليها اللجنة المشتركة للتقديرات، ثم تمويل مشروعات التنمية. و ما أكثر من يستنكفون، في أنفة زائفة وإباء مصطنع هذا ''التدخل الخارجي'' دون أن يقولوا للناس ما هي بدائلهم. ونتمنى ان لا تكون تلك البدائل مثل الوعود التي قطعت لتمويل القوات الافريقية في دارفور.


    فأكذوبة تلك التي توحي ان الخارج كان بعيداً عن صناعة السلام في السودان، وهى صناعة تعود الى الستينيات. ففي مؤتمر المائدة المستديرة، التي هى جهد سوداني خالص، لم نبطئ أو نخطئ في الاستعانة بمصر وغانا والجزائر ويوغندا، وكان للأخيرة دور ملحوظ، خاصة ماقام به يومذاك وزيرها فيليكس اوناما. وفي اتفاق اديس ابابا (1972) استعان النظام المايوي بامبراطور اثيوبيا الذي رعى الاتفاق، و بمجلس الكنائس العالمي ومجلس الكنائس الأفريقي اللذين لعبا دور الوسيط، وبمنظمة الوحدة الافريقية (مثلها مساعد الامين العام آنذاك، محمد سحنون) التي قامت بدور المراقب. وفي عهد حكومة الصادق الثانية توالى ''التدخل الاجنبي'' مرة للتوسط مع الحركة (اثيوبيا 1986 لترتيب لقاء قرنق، الصادق) واخرى للتمهيد وتسهيل اتفاق سلام (الميرغني، قرنق) في نوفمبر 1988، كما كان للجنرال اوباسانجو (وذلك قبل أن يصبح رئيساً للمرة الثانية) والولايات المتحدة عبر سفرائها المتعددين دور ملحوظ في صنع السلام، وقد أصدر اثنان منهما (دونالد بيترسون ونورمان اندرسون) كتابين رويا فيهما قصة تلك اللقاءات. ذلك، الى جانب الدور الذي لعبته الامم المتحدة في توفير وتسهيل الاشراف على المعونات الانسانية (برنامج شريان الحياة) طيلة سنى الحرب. وفي عهد الانقاذ توالى الوسطاء من دول الجوار مثل الرئيس موي منذ عام 1989، ومن الدول الافريقية الاخرى (مانديلا، اوباسانجو)، ومن الولايات المتحدة (الرئيس كارتر وهيرمان كوهين مساعد وزير الخارجية) وجاء من بعد دور الدول العربية وكان لبعضها مبادرات (مبادرة الشيخ زايد رحمة الله والمبادرة المصرية /الليبية والمبادرة الاريترية).

    الحديث عن التدخل الخارجي بلغ حد التسطيح حينما افضى سياسي معارض بالقول لأحد الصحف ''ان كل الاتفاقيات صناعة اجنبية والشاهد على ذلك الجنرال سيمبويا'' (الدكتور كدودة، الحياة 10/11/2006)، هكذا ببساطة، وكأن المتحدث يلقم المتسائلين حجراً. ثم ماله سيمبويا؟ أوليس هو الرجل الذي ابتعث التجمع الوطني المعارض وفداً ليلتقي نائبه السفير امبويا في نيروبي بقيادة نائب رئيس التجمع عبدالرحمن سعيد حتى يتمكن التجمع من المشاركة في مفاوضات الايقاد؟ تلك رغبة حال دونها ابتعاث نظام الانقاذ لواحد من رجالاته (قطبي المهدي) ليقول لامبويا ''ان دخل التجمع من الباب خرجنا من النافذة''. ثم أو لم نرتحل جميعاً لنناهض النظام من اسمرا وهى ليست، كما تشير خرائط الجغرافيا، واحدة من مدن السودان، ونعقد الاجتماعات في كمبالا واديس ابابا، ونيروبي والمدائن الاربع التي سميناها هى حواضر ''الدول الاجنبية'' التي لعبت دوراً في تحقيق اتفاق نايفاشا. ثم أولم نكن ننتظر بتلهف في القاهرة لقاء ''الخواجة'' جاك دانفورث الامريكي و''الخواجة'' آلان قولتي البريطاني، والسيدة هيلدا جونسون النرويجية، والايطالي الراحل السناتور سيري، واربعتهم هم الرقباء في مفاوضات ماشاكوس ونايفاشا. ثم أولم يكن شيخ المعارضين، كما هو شيخ المحدثين، عن التدخل الأجنبي يهرع بعد كل لقاء بأي من هؤلاء، لعقد ندوة يفضي فيها الى الناس باسرار لقائه، وهو بذلك غابط اشد الغبطة. الحديث عن الحل الأجنبي كِبر لا معنى له، فالسودان لم يعد هذا الوطن البكر والدرة العذراء. تلك الدرة ثقبت منذ زمان. ولا يعبر هذا الكبر، بل الاستكبار، الا عن عياء في الحجة. فان كان للناس ما يقولون حول الاتفاق، وهناك الكثير الذي ينبغي ان يقال عن انفاذه وتجويده خلال الأطر القائمة، فليقولوه. فعلى مدى عقود من الزمان ظللنا نقتل بعضنا البعض ولم ينبغ من بيننا حجاز، اي الشخص الذي يفصل بين المتخاصمين بالحق، و قول له ''حَجّاز''. فان انبرى حاجز لفك الاشتباك فيما بيننا فهذا كرم منه. وان اقبل علينا آخر دعوناه لعوننا على انهاء النزاع، فهذا جهد يستوجب الشكر. ولئن يذهب بعض المعارضين الذين ما تركوا باباً في الخارج الا وطرقوه، ولا زعيماً أجنبياً الا واستعصموا به، ولا وكالة دولية أو اقليمية الا واستنجدوا بها، أويذهب ممن ينبغي تأييدهم للاتفاق، الرجل الذي حمل نفسه، دون غيره، الى ''التدخل الاجنبي'' في عقر داره ليصد ابواب تلك الدار على غيره حتى يستأثر وحده بما فيه، لئن يذهب كل هؤلاء الى تهجين السلام بدعوى انه صناعة خارجية، فهذا تصاغر لا يليق.

    * * * *

    نقعد، نقوم على كيفنا

    ومن العجب العجاب زعم كثير منا بغير يقين ان السودان نسيج وحده. لسنا أقل من هؤلاء حباً لبلادنا واعجاباً بحسن شمائل اهله. ولكن ينبغي أيضاً ان نعرف قدر نفسنا، فالله لا يرحم من لا يعرف قدر نفسه. فنحن لسنا افضل حالاً من جنوب افريقيا التي ما كان لها ان تخرج من مأزقها دون عون ووساطات خارجية. ولسنا افضل حالاً من بريطانيا العظمى التي استنجدت بالرئيس كلينتون والسيناتور ميتشل لوضع اطار لحل المشكل الايرلندي. ولسنا افضل من اهل لبنان الذين استنجدوا بآل سعود ليخرجوهم من دوامة الحرب، فكان اتفاق الطائف. ولسنا أفضل من الفلسطينيين أصحاب ''القضية'' الذين هرعوا الى مدريد تحت رعاية الرئيس بوش الأب، والى واشنطن تحت رعاية الرئيس كلينتون ليبحثوا عن الحلول لقضاياهم. فلماذا نظن اننا نسيج وحدنا؟ ومما يزيد في العجب ان لبعض قيادات السودان وبعض صحافييه الذين يستكبرون التدخل الاجنبي المزعوم في شئون السودان، براعة لا حد لها في التوغل في شئون الآخرين، والمباهاة بانجازاتهم فيه. فما زلنا نباهي حتى اليوم في افلاحنا في التوفيق بين الراحلين عبد الناصر والفيصل (مؤتمر اللاءات الثلاثة العام 1967)، ونوالي الحديث في تفاخر عن دورنا في دعم الحركات الاريترية. ويستذكر آخرون سعى السيد الصادق المهدي ابان حكومته الأخيرة للتوفيق بين الاتراك واليونانيين القبارصة، وبين العرب وايران الخميني. وما فتئنا نتوسط بين سوريا ولبنان، وبين الطوائف المتحاربة في العراق ولبنان وتشيد بذلك نفس الأصوات والأقلام التي تلهج بالنقد ضد ''التدخل الاجنبي''.

    مبلغ الظن أننا تماماً كما وصفنا به الشاعر الشعبي، و لعله عكير الدامر : ''نحن اولاد بلد نقعد نقوم على كيفنا. لا يا سادة، بالقطع، العالم ليس على كيفنا. هذه لغة تصلح للذين تبدأ الرجولية عندهم وتنتهي بالبطان، ولعلها تعود الى قولهم بَطَنَ الرجل أي ضرب بطنه، ولا تكون البطانة عندنا الا في الظهر. نعم، ان جاز لهؤلاء ان '' يقوموا ويقعدوا على كيفهم ''، فمن عمه البصيرة ان يتظنى بذلك من ينبغي عليه ان يعرف ان القوة اليوم هى الوزن الاقتصادي الثقيل، وهى الموارد الطبيعية الضخمة المستغلة لا الكامنة، وهى الترجيح في موازين التجارة واسواق الاموال، وهى المناعة العسكرية، وهى التحكم في مؤسسات صنع القرار الدولية، السياسي منها والاقتصادي، هي السيطرة على السموات التي نعيش تحتها حتى كوكب المشترى، ويطلون علينا منها، إنساً كانوا أو شواطين مَرَدة، مرتين كل ساعة: ''انه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم''. من حقنا ان نستنكر استغلال بعض الدول، بل واحدة منها، لهذه المُكنات لتعيث فساداً في الارض وننسبها للشياطين. ولكن من واجبنا ان لا نتجاهلها عند صنع القرار في بلادنا. من يفعل ذلك يهلك، او ينتهى بنفسه الى حرج وضيق، أو يهلك عارياً جوعاناً في الصقيع كما هلك الاعرابي. قيل لاعرابي يمشي في شمل مرقع في يوم شاتٍ، أما تجد البرد يا أخ العرب؟ قال : ''امشي الخيزلى ويكفيني حسبي''، و الخيزلى مشية فيها تثاقل.

    أشد ما يحزن المرء في الحديث التالف عن الحل الاجنبي، أو كتابة الأمريكان للاتفاقية، الانكار الظالم للدور السوداني في صنع الاتفاق، والاجحاف بدور رجال اسهموا اسهاماً كبيراً في صوغه. الاتفاق صنعه جنود مجهولون وجنود ليسوا بالمجهولين من الطرفين، من بينهم ذوو القدرات الضخمة في التفاوض والحوار، وفي الانشاء والصياغة، و في القانون والسياسة والاقتصاد. أغلب هؤلاء استأنوا عند الزحام فلم يعد الناس يرونهم الا لماماً. ومنهم من هاجر في طلب العلم استدراكاً لما فاته بسبب الحرب، واخذ البعض ينسج حول هجرته الاقاويل، ومنهم من استعصم بمكتبه الخاص. ولكني لن اضيع هذه الفرصة لاجلي على الناس اسماء الجنود المجهولين الذين أثروا الاتفاق، في جوانبه الاقتصادية، بالكثير المفيد، لا لسبب الا لأن السيد الصادق المهدي، في نقده للاتفاقية، نعى على بروتوكول اقتسام الثروة ''قلة الدراسة والتحضير''. نشير الى دور الدكتور علي عبدالقادر علي والدكتور ابراهيم البدوي، و هما من انجب اقتصاديي السودان، جئ بهم لتقويم دراسات عديدة قام بها البنك الدولي وصندوق النقد وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية. كما نشير أيضاً لما أسهم به لاثراء دراسات الحركة الشعبية حول ادارة الموارد واعادة تأهيل الكوادر مثل الدكتور عبد الله حمدوك والدكتور راشد حسن اللذين وفدا علينا مع فريق مقتدر من جنوب أفريقيا. الى جانب هذين الاقتصاديين هؤلاء كان هناك جنود مجهولون حقاً لا يذكرهم الذاكرون: الدكتور لوكا بيونق، الدكتور لوال اشويك، والاستاذ الفاتح علي صديق. هذا هو مدى ''قلة الدراسة والتحضير''.

    * * * *

    الاستئثار بالحكم

    الى جانب الثنائية والتدخل الخارجي عاب الناقدون على طرفي الاتفاقية، استئثارهما بالحكم وفق نسب قرراها لنفسيهما في الشمال والجنوب، و شَهَروا بذلك في نقدهم. في هذا النقد، ان جاء من الجاهلين بأمر الاتفاقية والدستور، اشتباه وتخليط، علماً بأن الاتفاقية والدستور قد نُشرا على الملأ، وان جاء ممن قرأها ووعيها فهو تدليس. فالاتفاق يتحدث عن مرحلتين من تاريخ بدء انفاذه، المرحلة الاولى هي فترة السنوات الثلاث الاولى التي تقتضي طبيعة المهام والتدابير المنبثقة عنها امساك الطرفين بزمام الأمر، والمرحلة الثانية هى التي تعقب الانتخابات العامة ويقرر فيها الشعب بِحُرِ ارادته من يحكمه. لكل واحدة من الفترتين ترتيبات تتعلق بهيكل الحكم، و لهذا اورد الدستور في كل باب من ابوابه الرئيسة فصلين يتناولان وضعين مختلفين، فصل منها يتعلق بالاوضاع الطبيعية بالنسبة للسلطة التنفيذية، والسلطة التشريعية، وهى الاوضاع التي ستنجم عن الانتخابات العامة. وفصل آخر يتضمن احكاماً انتقالية تعالج الاوضاع الراهنة. فالوضع الطبيعي حول الرئاسة، مثلاً، يحدده الفصل الثاني من الباب الثالث من الدستور (المواد 51 - 64): تكوين مؤسسة الرئاسة من رئيس ونائبين، انتخاب الرئيس انتخاباً مباشراً، اجل الولاية، اسس تعيين نائبي الرئيس. في حين ينص الفصل الثالث في مواده 65 - 69 على الاحكام الانتقالية التي تتناول الاوضاع غير الطبيعية التي افرزتها اتفاقية السلام الشامل: شرعنة وضع الرئيس الحالي بموجب الدستور الجديد (دستور جمهورية السودان الانتقالي لسنة 2005)، اعتماد رئيس الحركة الشعبية أو من يخلفه كنائب اول للرئيس، اتخاذ المجلس الرئاسي لقراراته بتوافق الآراء.كما افرد الدستور فصلاً خاصاً للجهاز التنفيذي (الحكومة) لا ينطبق بطبيعته الا على الفترة ''غير الطبيعية'' هو الفصل الخامس. ذلك الفصل ينص على قيام حكومة وحدة وطنية قبل الانتخابات ويحدد واجباتها، كما يسمي ويحدد الحقائب الوزارية في تلك الحكومة في جدول ملحق باتفاقية السلام الشامل وكيفية توزيع الحقائب. يصدق هذا ايضاً على السلطة التشريعية اذ ابان الدستور في الفصل الاول من الباب الرابع اسس تكوين وانتخاب اعضائها انتخاباً حراً مباشراً (في حالة المجلس الوطني)، وانتخاباً حراً غير مباشر (في حالة مجلس الولايات الذي تنتخب الممثلين فيه المجالس التشريعية للولايات). ولا يحدد الدستور عدداً لاعضاء المجلس الوطني بل يترك ذلك للهيئة القومية للانتخابات لتقرره وفق المعايير المتعارفة مثل عدد السكان. بيد ان الباب الرابع يتناول في فصله الثاني الاحكام الانتقالية المتعلقة بالمجلس الراهن، فالى حين اجراء الانتخابات قضى الدستور في ذلك الفصل بتكوين مجلس يضم (450) عضواً معيناً من قبل الرئاسة ووزعت مقاعده وفق النسب المتفق عليها في الاتفاقية. ويعني هذا أن الترهل الذي يشهده المجلس الوطني الحالي وحكومة الوحدة الوطنية هو أمر اقتضته ضرورات الحكم الانتقالي ذي القاعدة الواسعة، ونتمنى أن لا يجد فيه الذين سيضعون قانون الانتخاب مندوحة للابقاء عليه (من ناحية الكم)، أو الابقاء على الشكل الحالي المترهل لمجلس الوزراء، خاصة في ظل اللامركزية التي نقلت أغلب سلطات المركز الى الولايات. وعلى كل، لا ينبغي ان تفاجئ النصوص الانتقالية احداً. هل ضار الطرفان القوى السياسة الاخرى بتلك القسمة؟ الجواب نعم، و''تلك اذاً قسمة ضيزى''. و هل هناك مبرر؟ الجواب نعم، وعلنا نعيد القارئ للاسباب التي أوردناها حول الظروف التي تم فيها الاتفاق، ونضيف الى ذلك الشرائط المطلوب توافرها لتنفيذه.

    الطرفان لم يستأثرا بالحكم في الفترة الاولى لأنهما خيار من خيار، وليس فقط لأن موازين القوة في اللحظة الراهنة ترجح بهما، و انما ايضاً لان القوة التي تحدث التغيير تحرص دوماً على الامساك بمفاتيح التغيير ريثما تُرسي قواعده. ان اكبر المهام التي يجابهها النظام الذي تولد عن الاتفاقية هى تنفيذ الاجراءات الامنية وسنتحدث عن امرها في مقال لاحق نتناول فيه العثرات التي مرت و تمر بها، والتهويش الذي طغى على تناول البعض لها في الصحافة. اياً كان الامر، فلا سبيل لارساء قواعد النظام الذي انشأته اتفاقية السلام الشامل الا بتنفيذ تلك الاجراءات من جانب الطرفين. فالحركة الشعبية، مثلاً، هى التي تسيطر على الجيش الشعبي في الجنوب وامتدادته في شرق السودان وجبال النوبة والنيل الازرق. والحكومة القائمة هى التي تسيطر على الجيش واجهزة الامن والشرطة والدفاع الشعبي وما يسمى بالقوات الصديقة عبر السودان، بما في ذلك جنوبه. قدرة المسيطرين على هذه القوات التي ظلت تخوض حرباً ضروساً ضد بعضها البعض هو وحده الكفيل بانهاء الحرب وازالة عقابيلها، أي دواهيها. وان لم يكن هناك سلام، فلن يكون استقرار أو ديموقراطية أو تنمية.

    * * * *

    سيطرة قوى التغيير، أو القوى التي حسبت انها صانعة التغيير، ظلت هى دأب تلك القوى في كل الفترات الانتقالية التي مر بها السودان. فعقب انتفاضة اكتوبر 1964 آلت مقاليد الامور لجبهة الهيئات ممثلة في النقابات العمالية والمهنية مع وجود رمزي للاحزاب (محمد احمد المحجوب عن حزب الامة، مبارك زروق عن الحزب الوطني الاتحادي، احمد سليمان عن الحزب الشيوعي، محمد صالح عمر عن الاخوان المسلمين). عن تلك الحكومة. أُقصِى، لا بارادة الشعب، بل ارادة القوى المهيمنة على الامور يومذاك، حزب الشعب الديموقراطي لموالاة كباره لنظام عبود. و عقب انتفاضة ابريل 1986 انتهى الحكم الى الجيش والتجمع النقابي، دون وجود رمزي او غير رمزي للاحزاب التي عكفت على اعادة تنظيم صفوفها تمهيداً للانتخابات العامة التي حُرِمت منها منذ 25 مايو .1969 وعندما وضع التجمع الوطني الديموقراطي برامجه المرحلية للحكم استقر رأيه على اقتسام السلطة في الفترة الانتقالية التي تسبق الانتخابات بين القوى السياسية والاجتماعية (النقابات) المكونة له والعزل الكامل للقوى الممثلة في حكم الانقاذ، لا سيما وقيام نظام التجمع نفسه كان رهيناً بـ ''اقتلاع'' ذلك الحكم من الجذور. ونقطع بأن نزاعاً كبيراً كان سيقع ان تم التحول على الوجه الذي كان التجمع ينشده. فموضوع الاتفاق على الانصبة بعد ''اقتلاع'' نظام الانقاذ أثاره قبل ''الاقتلاع'' السيد مبارك المهدي في اجتماع للتجمع باديس ابابا ابتناءً على نظرية ''الاوزان''. انبرى له في ذلك الاجتماع رئيس وفد الحركة الشعبية القائد سلفاكير يقول: ''عندنا مثل يقول قُبال الشكلة في قسمة لحم القرنتية نقتل القرنتية الأول''. و لم يترك ايليجا ماجوك، نائب محافظ بنك السودان حالياً، سلفا يكمل حديثه، بل اندفع هو الآخر يقول: ''نحن لم نشارك في البرلمانات السابقة ولهذا فالميزان الوحيد الذي نقيس به احجامنا السياسية هو الجهد الذي يجمعنا الآن، العمل لاقتلاع النظام. لذلك نطالب بنصف لحم القرنتية''. ذلك الجدل قاد الى انفضاض الاجتماع، ولم يعد للانعقاد الا بعد رسالة برقية بعث بها الراحل جون قرنق من جنوب السودان يقول فيها ''دعوا الحديث عن الاوزان والنسب وانصرفوا الى المهام العاجلة التي امامكم. ما امامكم هو استرداد الفضاء السياسي الذي ستقيمون فيه الحكم الذي ستوزعونه بينكم. تذكروا أن ذلك الفضاء يسيطر عليه اليوم نظام الجبهة القومية الاسلامية''. اروي هذه الوقائع لابين كيف كان بعض المعارضين في ظل الحرب، وما زال بعضهم في ظل السلام، مهموماً بأمر واحد، الصراع على السلطة، أو بالأحرى على مقاعد الحكم، حتى وان كان الحكم لعامين أو ثلاثة، كما هو الآن.

    من بين السوء الذي اخذه على الاتفاق نفر من المعارضين ان اتفاقاً كهذا كان لا بد من عرضه على استفتاء شعبي. وفي ظروف طبيعية فان الاقرار الشعبي لأي اتفاق يلحق تعديلاً جذرياً بكيان الدولة، واي قانون اساس يتبعه، امر واجب، وليس فقط مستحباً. لو كان السودان هو سويسرا لما احتاج احد للتساؤل، ولا كانت لنا مندوحة للرد. فاهل سويسرا يجرون الاستفتاء بصورة دورية على أي أمر ذي شأن. السؤال الذي يَرِدُ بداهة على الخاطر هو من الذي سيجري الاستفتاء؟ أهو الحكومة القائمة التي يرفضها الطرف الآخر المفاوض؟ ام سلطة اجنبية دون ان يثير احد، مرة اخرى، موضوع ''التدخل الاجنبي'' في شئون بلادنا؟ ومن الذي يستفتى في وطن مزقت الحروب اوصاله رأسياً وعمودياً: في الغابات، والمنافي، والملاجئ؟ هذا من الناحية العملية، أما من الناحية الموضوعية نقول إن الدعوة محاولة لاستيلاد تجربة لم يعرفها السودان من قبل، وعلى مر العهود الديموقراطية فيه. فان كانت الاتفاقيات لا تكسب مشروعيتها الا بالاستفتاء الشعبي فان اول القصيدة في تاريخنا كفر. فالاتفاق الانجليزي المصري الذي وضع السودان على عتبات الحكم الذاتي نص على منح السودان حق تقرير المصير: الخيار بين الوحدة مع مصر و الاستقلال. ذلك النص أُلغى بقرار البرلمان الذي لم يُنتخب الا للتمهيد لاجراء تقرير المصير. ففي اللحظة التي اعلن فيها البرلمان الاستقلال، حُرم الشعب من تقرير مصيره، رغم ايماننا بصحة القرار من الناحية السياسية. ودون ان نعود الى الختل الذي صحب ذلك القرار الجماعي بشأن وعد الجنوبيين بالنظر في أمر الفيدرالية، فذلك امر اوفيناه حقه فيما كتبنا، نقول إن القضية التي امامنا هى الزعم ان آلية الاستفتاء هى الوسيلة الوحيدة لاضفاء الشرعية على الدساتير والانظمة. نضيف ان دستور اكتوبر 1965 (تعديل دستور 1956) لم يقر باستفتاء، وان دستور 1985 لم يقر باستفتاء. المفارقة الكبرى، هى ان الدستورين الوحيدين اللذين اقرا باستفتاء هما دستور 1973 (في عهد مايو) ودستور 1998 (في عهد الانقاذ)، أي في ظل نظامين شموليين، مهما كان الرأي حول طبيعة النظامين وشرعيتهما عند معارضيهما، وبالتالي شرعية ما صدر عنهما من قرارات، فنحن هنا لسنا بصدد الحديث عن شرعية الانظمة وانما عن الآلية التي يلهج البعض بالحديث عنها، دون ان يمارسها عندما كان في الموقع الذي كان في مقدوره تطبيق ما يدعو اليه اليوم. هذا هو ما يسميه اخوتنا العسكر '' البيان بالعمل

    (عدل بواسطة محمد يسن علي بدر on 03-27-2007, 12:11 PM)

                  

02-14-2007, 12:30 PM

محمد يسن علي بدر
<aمحمد يسن علي بدر
تاريخ التسجيل: 12-28-2005
مجموع المشاركات: 623

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. منصور خالد .. عامان من السلام : حساب الربح و الخسارة (Re: محمد يسن علي بدر)


    عامان من السلام : حساب الربح والخسارة (6)
    عقلية الحرب وعقلية السلام

    د. منصور خالد

    اتفاقية السلام الشامل، اذن، هى اتفاقية ثنائية بين طرفين ما في ذلك من شك. كما هى اتفاقية استأثر فيها الطرفان بالسلطة لفترة موقوتة و لاسباب موضوعية، ما في ذلك شك. هذه الاتفاقية هى اولى المحاولات الجادة لمعالجة جذور المشكل السوداني برمته، ولقيت اهتماماً ودعماً وتأييداً اقليمياً ودولياً من غير مثال في تجارب السودان. رغم ذلك، هي ليست رسالة منزلة، أو كتاباً اكتمل نقطه وتمييزه. ففي الاتفاقية، بحسبانها وفاقاً بين طرفين نقيضين، فتوق لا تخفى على الناظر، كما تتخللها قنابل زمنية قابلة للانفجار ان لم تنزع عنها فتيلة الاشتعال في الوقت المطلوب والمكان المناسب. لهذا فان المسئولية عن نجاح الاتفاقية تقع، بالمقام الاول، على عاتق صانعيها. وعلى الطرفين واجبات، اولها هو استبطان روح الاتفاقية في تناولهم للقضايا العامة، وثانيها انفاذ الاتفاق على الوجه الذي اقتضته نصوصه. ذلك امر ثابت الوجوب لا شبهة فيه، ولا مجال للتحايل عليه أو التباطؤ المقصود في انفاذه. سنذهب، اذن، لامتحان مواقف الطرفين، ليس فقط على مستوى الاداء، بمعنى ما نفذ وما لم ينفذ من الاتفاق، وانما ايضاً بالنسبة للعقلية التي يقبلان بها على القضايا العامة. فللحرب عقلية، وللسلام عقلية أخرى، كما لكل منهما سايكولوجيته الخاصة. ولا شك في ان على الطرفين، وقد خلفا الحروب وراء ظهريهما، ان يروضا نفسيهما على جهاد النفس، واوله فطمها عن العوائد التي أفرزتها الشمولية أو عداوات الحروب. من تلك العوائد عدم الثقة المفرطة، والاستهانة بالطرف الآخر في الاتفاق، وببقية القوى السياسية الأخرى التي أوحينا لها أن السودان قد اقبل على عهد جديد تنبسط فيه الأرض، في حدود الدستور، امام الجميع دون تمييز. ومنها أخيراً، التذاكي على الناس الذي هو في حقيقته، كما يقول الانجليز، نصف زكانة (being clever by half) .

    _______________________________________________________

    لقد فرض الاتفاق التزامات حُددت فيها مواقيت التنفيذ، و على من تقع مسئولية التنفيذ، و من اين يجئ التمويل لذلك التنفيذ. مع ذلك، كان في التنفيذ بطء تولد عنه شعور بالاحباط. ففي أول حديث علني له قال السفير النرويجي توم فارلاسن رئيس مفوضية التقدير والتقويم ((Commission of Assessment and Evaluation، بعد ثمانية عشر شهراً من توقيع الاتفاقية، وعام كامل من قيام الحكومة الوطنية، وقع تأخير كبير في تنفيذ الاتفاقية، أرجع رئيس المفوضية بعض هذا التأخير الى أسباب فنية وعملية، واضاف ان التأخير ولد احساساً متزايداً بين افراد الشعب بالقنوط وخيبة الأمل. ومفوضية التقدير والتقويم هى الجهاز الذي أوكل له الطرفان مسئولية مراقبة تنفيذ الاتفاقية (يضم النرويج رئيساً، كينيا نائباً للرئيس، اثيوبيا، يوغندا، الولايات المتحدة، بريطانيا، بالاضافة الى ستة ممثلين لطرفي الاتفاق، ثلاثة عن كل طرف، كأعضاء).

    ما هي هذه الاسباب الفنية والعملية؟ ثمة عوامل موضوعية ادت الى تعطيل التنفيذ لضرورات التتابع (sequencing) فانشاء المحكمة الدستورية والمؤسسات العليا للقضاء القومي، مثلاً، كان رهيناً باجازة الدستور، مما اقتضى الابقاء على المؤسسات القديمة ريثما يجاز الدستور. ارتهن اجازة الدستور وتكوين الحكومات الولائية ايضاً انشاء بعض المؤسسات (المفوضيات الهامة) كمفوضية تخصيص ومراقبة الايرادات المالية، ومفوضية الخدمة المدنية. ومن جانب الحركة، قبل وقوع حدث زلزال هو رحيل قائد الحركة، أدى اجتياز الحركة لمراحل انتقالية متعددة الى بطء في التنفيذ : الانتقال من مرحلة الحرب الى مرحلة السلام، ومن مرحلة السلطة الادارية الشمولية في الجنوب الى مرحلة حكم يشاركها فيها آخرون، وفي حالة الجيش الشعبي من مرحلة جيش تحرير يخضع لحزب واحد الى جيش مهني يخضع لسلطة حكومة جنوب السودان. وزاد الحدث الزلزال الأمور تعقيداً. ولعل هذا موقع نشيد فيه بذكر مؤسسة عريقة ضربت المثل في حسن تقديرها للامور، وحرصها على الالتزام بما نصت عليه الاتفاقية، رغم ان المهمة التي اوكلت اليها كانت بالغة التعقيد. نشير على وجه التحديد لبنك السودان المركزي ومحافظه الهمام الدكتور صابر محمد الحسن. فالبنك هى اول مؤسسة فرغت من تعديل قوانينها لاستيعاب الواقع الجديد، و مدت يدها لحكومة جنوب السودان لتعينها في تدريب الكوادر، وانشأت بنك جنوب السودان و شيدت عمرانه، واحلت محافظ بنك الجنوب، بحسبانه نائباً لمحافظ بنك السودان، في الموقع الذي يستحقه في المؤسسة الام، ثم اخذت بلا ضوضاء في تنفيذ ما نصت عليه الاتفاقية والدستور حول إحلال الجنوبيين في المواقع التي يستأهلونها، وأصدرت أخيراً العملة الجديدة، رغم ما ترتب على ذلك من اعباء مالية وصعوبات فنية. ويؤسفنا أن نقول ان هذا نموذج لم تحذ حذوه قلة لم تبالِ ان تجعل من الشركاء الجدد اما '' تمامة عدد ''، أو مسئولين نصف مسئولية، يُجلى عليهم شئ و تُخفى عنهم اشياء.

    مع كل ذلك، فقد انجز الكثير مما تتطلبه الاتفاقية على الوجه الذي حددته نصوصها : اعتماد الدستور ووثيقة الحقوق، انشاء المفوضيات الا قليل مثل مفوضية الاراضي، اعادة تكوين الولايات على النحو الذي اقتضته الاتفاقية بما في ذلك تمكينها سلطوياً ومالياً، اشاعة جو من الحريات لم يألفه الناس قبل الاتفاقية، تلاقى السودانيين جميعاً للحوار في داخل وطنهم. هذه انجازات لا يصح التهوين من شأنها، خاصة من جانب من خبروا عهود اعتناف السلطان عنفواناً لا تمازجه رحمة، وعنافة لا تشوبها شفقة. من جانب آخر، يخطئ من يظن ان اعتماد الدستور بوثيقة حقوقه، واقامة المؤسسات الدستورية، وانشاء اجهزة الحكم البديلة لحكومة الانقاذ هو، في حد ذاته، نهاية المطاف. الذي يظن هذا يريد نظاماً على عينه، لا على عيون من صاغوا الاتفاق، وتراضوا على كلياته وجزئياته، وشدوا العزم على انفاذه. فالدستور ان لم يصبح نافذاً يبقى حبراً على ورق، والمؤسسات ان لم تكن فاعلة تضحى هياكل خاوية، والموروثات المؤسسية والقانونية التي يتعارض بقاؤها مع الدستور تصبح اجهاضاً للاتفاقية ان لم تلغ أو تعدل. ونعرف ان بعض هذه الاشياء لم تتم اما بسبب سلحفائية البيروقراطية، أو تباطؤها في انفاذ ما يضير مصالحها أو يخالف ما درجت عليه من عوائد. ولكنا نعرف ايضاً ان هناك تهويناً، أو لعله استهانة بما تواطأ عليه الطرفان من ميثاق غليظ، أو احجاماً ورجوعاً الى خلف عن عهد اخذنا في امره بالوثيقة. ما هى مظاهر هذا التراجع أو التهوين ؟

    النكوص والتراجع

    نبدأ بالنكوص والتراجع، و هو مزعم كبير. مزعمنا هذا توثقه مقالات الاستاذ قطبي المهدي التي أومأنا اليها في مقال سابق الى حديثه عن صياغة الامريكان لاتفاقية السلام. و لم نكن نعرف من قبل ان ادريس محمد عبد القادر ونيهال دينق وسيد الخطيب ودينق الور وامين حسن عمر ويحيى حسين ومطرف صديق من رعايا الولايات المتحدة الامريكية. هذا موضوع يمكن تجاوزه. في مقدورنا ايضاً الاغضاء عن قوله ''إن الاتفاقية جزء من مسلسل التراجعات في الطرح القومي'' (الوطن، حديث مع عادل سيد احمد 10/9/2006)، رغم التساؤل عن ان كان ذلك الطرح القومي يشمل اهل القبلة الذين نأوا بأنفسهم عنه الى بلاد الكافرين في المشارق والمغارب بميرغنيهم ومهديهم. وهل يشمل الذين امتطى الاجواء ليحرمهم من المشاركة في مفاوضات السلام يوم ان ذهب الى نيروبي ليقول لوسيط الايقاد، والفريق عبد الرحمن سعيد على الابواب، '' لو دخل هؤلاء من الباب لخرجنا من الشباك''. هؤلاء الذين سد الأستاذ قطبي الأبواب أمامهم ما جاءت بهم الى السودان الا ''الاتفاقيات التي صنعها الأمريكان''.

    على أن الذي لا يمكن التصامم عنه، أو الاغماض فيه، هو دعواه ان ''الحركة لم ترد الاتفاقية من اجل السلام وانما من اجل ممارسة الهيمنة لخدمة المخططات الصهيونية لتدمير هُوية السودان. وتبدت الآن ممارسات الحركة التي تؤكد ذلك مثل وقوفها مع التدخل الاجنبي'' (الخرطوم، 11/10/2006). وما ادراك ما التدخل الاجنبي! فالحركة الشعبية قالت وما زالت تقول إن دور الامم المتحدة في السودان كله، وليس فقط في دارفور، هام لرعاية اللاجئين و النازحين فلها في ذلك خبرة ومؤسسات، وهام لتوفير القوت لمن يحتاجه ولها في ذلك اجهزة ومصادر امداد. والحركة الشعبية قالت وما زالت تقول، انها لا تؤيد تغيير نظام الحكم بقوة خارجية طالما توافرت ادوات التغيير الشرعية في الداخل وعلى رأسها الانتخابات. والحركة قالت وتقول انها ضد الحصار الاقتصادي لأن اولى ضحاياه ستكون هى اتفاقية السلام. والحركة قالت وما زالت تقول، ان لأهل دارفور مطالب مشروعة في السلطة والثروة وتسعى مع شركائها في الحكم ومع المجتمع الدولي والاقليمي للبحث عن طرائق لاستيفاء هذه المطالب بدلاً عن الهرب منها الى الأمام، أو نصبها على معلاق مهترئ، اسميناه التدخل الاجنبي أو المخططات الصهيونية.

    وعلى أي، فموضوعنا هو الاتفاقية، و مع اعترافنا بحق المفكر والسياسي قطبي المهدي في ان يبدي ما يشاء من رأي فيها، فالرجل من اهل الفكر، الا ان هناك حدوداً لا بد ان يلتزم بها القيادي المؤتمري قطبي. نعرف مثلاً، أن للدكتور غازي صلاح الدين اعتراضات على منهج التفاوض في نايفاشا لم يخفها عن الناس، ولكنه ظل على رأس من ينادون بالالتزام بما اتفق عليه حزبه (ألوان 11/12/2006). هذا الالزام اوجبته الاتفاقية ليس فقط على من وقعها، بل على كل مسئول ومنتسب للحزبين. فالاتفاقية تقول ''بعد التوقيع يلتزم الطرفان بالاتفاق ويتكفلان بالالتزامات الناتجة عنه لا سيما الالتزام بتنفيذ الاتفاق و الانفاذ القانوني والدستوري للترتيبات المتفق عليها في هذه الاتفاقية. في اعقاب التوقيع يلتزم الطرفان بضمان احترام جميع الاجهزة واللجان والهياكل الواقعة تحت اشرافها و اعضائها بالاتفاق'' (الفقرتان 2-12-2 و 2-12-3 من بروتكول اقتسام السلطة). هذا النص لم يوضع عبثاً، بل لسد باب الذرائع. كل طرف كان يخشى ان تنبري واحدة من مؤسساته لتنقض الاتفاق، أو يقف أحد اعضائه ليقوضه، أو يدعي طرف عجزه عن تنفيذ الاتفاق لأن الاجهزة أو اللجان أو الهياكل أو الاعضاء التابعين له قد رفضوا اقراره. قد يفسر أحد طرفي الاتفاق بعض ما ورد فيه تفسيراً خاطئاً، فالتفسير الخاطئ يمكن ان يزال فساده. ولا يضير ان يتجادل المنسوبون الى الطرفين حول سلامة انفاذ نصوص الاتفاقية، فهناك اجهزة و مؤسسات اتفق الطرفان على ان يكون لها القول الفصل. أما التنكر للاتفاقية والمجاهرة بالعداء لها فخرق واضح لما قالت به الفقرتان اللتان أشرنا لهما. ما نقوله حول توجهات الاستاذ قطبي ليس استعداءً بل هو تقويم للعُدول.

    من مظاهر النكوص ايضاً، بل لعله من دواعيه، ظن البعض ان رحيل مؤسس الحركة ايذان بنهاية الاتفاق كما وضعه صانعوه. مبتغى هؤلاء هو تحقيق سلام بلا ثمن، و العودة بالسودان القهقري. يوهم هذا البعض نفسه ان هناك حركة شعبية غير تلك التي نمت على يد المناضل الراحل و غذاها بفكره. وان هذه الحركة - حتى و ان لم توجد - يمكن اصطناعها بتبني هذا من قيادييها، والقضاء المعنوي على ذاك. لم يصدق هؤلاء ما قاله سلفا كير في الوداع الاخير لقرنق عند قبره ان الحركة الشعبية سيارة بلا مسننة (تعشيقة) ارتدادية (a vehicle with no reverse gears) ولم يستذكروا ان الذي فاوض الحكومة في ماشاكوس ووقع الاتفاق الاطار لعملية السلام هو سلفا كير. ولم يصرفهم عن وهومهم إجماع قيادات الحركة في رمبيك (ابريل 2006)، و في جوبا (سبتمبر 2006) على الثبات في الخط السياسي الذي اختطته الحركة منذ نشأتها، وما اتفاقية السلام الشامل الا واحد من نتائجه. ولعلهم يدركون كل هذه الحقائق بعد نصيحة رئيس الحركة لهم في خطابه الأخير بمناسبة الذكرى الثانية لاتفاقية السلام أن يقلعوا عن الانطباعات الخادعة والأوهام (illusions and delusions). تصديقاً لهذه الوهوم (والوهم هو ما كان في الوجود أو لم يكن أخذ قطبي ونفر معه يصنفون الحركة في نوعين : أولاد قرنق ومن عداهم. والوصف مستنكر ان صدر ممن يقول ان القرآن دستوره، فالقرآن يقول ''ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله''. نقول هذا، رغم اننا لا نعرف واحداً من رجالات الحركة، بمن فيهم رئيسهم سلفا كير، يستنكف نسبته لمارد عملاق كان في الحرب أسد شري، وفي المجادلة متحدثاً متوقد الذكاء، وفي اللقاء مع الجماهير قائداً ملتهب الخاطر يدرك نبض شعبه. هذا '' لاب'' لم يكن مثل اضراب له لا ينظرون للواقع الا نظرة عوراء. تملى قرنق في واقع بلاده فادرك الممكن. وحدق فيه فتبين له غير الممكن. ثم اندفع نحو الممكن، تاركاً غير الممكن لمن لا يفلحون الا في معاقرة الأوهام. الحركة الشعبية (الحقيقية لا المتوهمة) تنظيم عملاق الجذور استغلظ زرعه، ومن الخير للسودان التعامل مع ذلك الجسم كما هو كائن لا كما يريده البعض ان يكون. فتبديل أعمدة المرمى في نصف المباراة لا يقدم عليه الا هداف غير ماهر، أو فريق يحسب انه يخوض مباراة ضد عميان.

    الظن بدفن الاتفاقية، بعد ان أُلحِد قرنق في قبره ولم يبق الا أن يدفن رفيقه في المفاوضات الاستاذ علي عثمان دفناً معنوياً، ظن ممعن في الخطأ. ومن الواضح ان هناك من احاك سيفه لينهش لحم أخيه. قد يكون هذا جزءًا من الصراعات في الحزب الشريك. هذا أمر لا يعنينا الا بالقدر الذي نتمنى فيه ان يظل ذلك الحزب متماسكاً ليكمل دوره في انفاذ الاتفاقية، لا في العود بنا الى المربع الأول. انظروا الى ما قال الاستاذ قطبي مؤخراً '' كل ما يطمح له السودانيون من حريات، لا مركزية، تعددية سياسية وفرها دستور 1998 و تلقتها طبقات الشعب كافة بالقبول حتى جاءت الحركات العنصرية المسلحة و اعادت تفسيرها تفسيراً ذاتياً محمولاً بمشاعر الكراهية و القتل والدم'' (الانتباهة 6/12/2006). الحركات العنصرية اسماها الاستاذ قطبي الشعوبيين، سيدالعارفين لما يعنيه التعبير. وعلى أي، كان ذلك الدستور الذي أحكم الدكتور الترابي صوغه قائماً على مدى سبع سنوات قبل الاتفاقية ولم ينه الحرب في الجنوب، ولم يقض على اوارها في الشرق، و لم يحمل زعيم المسلمين الميرغني ليعود الى الجنة التي خلقها الدستور لينعم بعسلها و لبنها بل ظل الى جانب ''العنصريين'' الذين يحملون السلاح، وما أقسى ذلك من وضع بالنسبة لرجل تنشأ على ''صلاة في سلام في سلام''. وحتى زعيم المسلمين الآخر السيد الصادق المهدي ما لبث بعد عودته أن أطلق على ما رأى اسم ''الفطيسة''. فمن هم ''طبقات الشعب كافة''.

    أما الحركات '' العنصرية '' المسلحة فهي وليد طبيعي لعقود من التجاهل، فالحركات في الجنوب يعود أصلها المبدئي الى الانيانيا الأولى، والحركات في الشرق يعود أصلها الى مؤتمر البجة قبيل مطلع الستينات، والحركات في دارفور يعود الى حركة سوني وحركة نهضة دارفور فيما بعد، والحركات في الجبال تعود الى اتحاد جبال النوبة الذي عرفه الناس منذ الستينات في القرن الماضي. فحمل السلاح من جانب كل هؤلاء هو تعبير عنيف عن هذه الظلامات والتي كان من الحسنات الكبرى للاتفاقية الاعتراف بها في ديباجة ماشاكوس. ثم ما بال الاستاذ قطبي الذي رافق من حملوا السلاح من هضاب اثيوبيا و صحارى ليبيا لاسقاط نظام حسبوه ظالماً، أو حملوه في قلب الخرطوم لاسقاط نظام عدّوه فاسداً، ان ينكر على غيره حمل السلاح. واعجب العجب، كما أومأنا، ان يَسِمَ الرجل ''عنصريي'' السودان المزعومين بالشعوبية. والشعوبية هي وصف أطلقه العرب المتعنصرون في العصر العباسي على كل رافض لافضلية العرب عليهم، رغم ان العرب هم أهل الدين الذي قال نبيُه عليه أفضل الصلوات: '' لا فضل لعربي على عجمي الا بالتقوى''. تهمة الشعوبية الصقت حتى بفحول الادباء والشعراء ذوي الاصول الاعجمية مثل بشار بن برد الذي زين شعره ديوان العرب حتى ذهب يقول :



    هل من رسول مُخبرٍ عني جميع العرب
    من كان حياً منهم ومن ثوى في التُرَب
    بانني ذو حسب عالٍ على ذي الحسب
    جدي الذي اسمو به كسرى وساسان أبي
    وقيصرٌ خالي اذا عددتُ يوماً نسبي

    أو ترى إلى أين دفع التعنصر شاعراً مثل بشار القائل عن نفسه ان له اثنتي عشرة قصيدة، لعنها الله ولعن قائلها، ان لم يكن في كل قصيدة بيت عين''، ولم يكن من الكاذبين. يبدو أن ترخص الاستاذ قطبي في استخدام النعوت، لا يعادله الا تسرعه ومغالاته في اصدار الأحكام، ولا نحسب أن هدف مفكر مثل قطبي دعوة أقوام السودان من غير العرب بفضل اهل الشمال أو بالحري افضليتهم عليهم، كما طالب القدامى بشار ورهطه.



    * * *

    هذا موقع يلزمنا أن نقول فيه كلمة صدق في حق من يريد قطبي دفنه حياً: الاستاذ على عثمان، رغم كل ما قلنا فيه في سنى الجفاء. لقد صحبنا الرجل في سنى التفاوض على مر الايام وكر الشهور مع الراحل جون قرنق. لم تكن امامهما ورقة، أو يكون موضوع حوارهما اقتسام السلطة والثروة. كانا يلتقيان للتداول حول ما الذي يستطيع الطرفان فعله لاستنقاذ السودان من اهوال الحرب ووحل التخلف. وكان سؤال قرنق: ''اهلنا تعبوا كثيراً من الحرب فما الذي نستطيع ان نفعل سوياً لانهاء هذا التعب؟''. في ذلك النقاش تجادل الرجلان حول الممكن و غير الممكن في دنيا السياسية الواقعية ثم تواصيا بالحق. فالذي يتحدث عن التنازلات الكبيرة يحدث بما لا يعرف. والذي يتحدث فيما لا يعلم، يرتاب الناس فيما يعلم. كما ان الذي يظن ان علي عثمان قد ذهب الى نايفاشا ليعود منها و الحركة في جيبه كما عاد دزرائيلي من مؤتمر برلين و هو يقول: '' سلام نبيل وقبرص في جيبي'' (Peace with honor and Cyprus in my pocket ) يعيش في كوكب آخر، فلا هو يعرف قوة الحركة و لا يعرف ما تحظى به من سند في الداخل و الخارج، و لا يدرك حجم المخاطر التي تتهدد وحدة السودان (وهذا أمر يعني فيما نحتسب الدكتور قطبي الذي عرفناه داعية لوحدة السودان لا واحداً من أهل المنبر)، و لا يعرف أيضاً نوع الضغوط التي تتهدد النظام الذي يتمنى استدامته على نحو ما كان عليه. مع ذلك، عاد علي عثمان بعد ان حقق لوطنه سلاماً طالما افتقده، و حقق لقومه اموراً اعيت غيره. حقق للنظام شرعية حقيقية، لا شرعية امر واقع، بالوصول الى وفاق مع كل معارضيه، من حَمَل السلاح منهم، و من حاربهم بالقلم. ومن عاداهم بكل الوسائط المتوفرة له. وحقق لحزبه، حزب المؤتمر، أغلبية في الحكم ريثما تتم الانتخابات، رضى بها المعارضون الآخرون وهم يكظمون غيظهم، ولما يزل البعض يرفضها. وحقق لنفس الحزب قبولاً دولياً واقليمياً مع قوى كانت تناصبه العداء وتحاربه في كل المحافل.

    لم يكن علي عثمان وحده في تلك المعركة، سبقه الى ساحاتها الدكتور غازي صلاح الدين فانجز الاتفاق/الاطار الذي قامت عليه الاتفاقية. وكان بصحبتهما فريق مقتدر من حزب المؤتمر الوطني لا ننكر قدراته رغم ما عانينا من رهق من جانب بعضهم، وهو رهق لا يغضب لان اغلب التلاوي كان حول الرؤى. الاتفاق لم يكن ضربة حظ، بل صنعه جنرالات السلام السودانيين، والجنرالات، كما قال نابليون، يصنعون حظوظهم. ثم كان وراء كل هؤلاء الرئيس البشير الذي لم يكن على تواصل دائم مع نائبه فحسب، بل مع الراحل قرنق. لم يصل الطرفان الى وفاق الا وكان البشير على الطرف الآخر من الهاتف يُهنئ. ولم يتوقفا عند أمر، الا وكان على الطرف الآخر يستمع لتفاصيل الموقف ليفصل فيها. ولهذا لم يكن غريباً ان يقف البشير في نايفاشا عقب التوقيع بالأحرف الأولى على الاتفاق قبيل عيد الميلاد ليهنئ أهل السودان مسلمين ومسيحيين بالسلام، و ليصف الاتفاقية بانها ايذان بمولد جمهورية السودان الثانية. هذا القول استعاده الرئيس بالأمس القريب في ذكرى الاحتفال بعيد الاستقلال الواحد والخمسين حيث أسمى الاتفاقية الاستقلال الثاني. التشهير بالرجل وحده، اذن، لا يصدر الا ممن يغمطون الناس اشياءهم، و يلتونهم اعمالهم، ''وان تطيعوا الله و رسوله لا يلتكم من اعمالكم شيئاً''، ونتمنى أن لا يكون قطبي من اولئك أو هؤلاء
                  

02-14-2007, 12:55 PM

محمد يسن علي بدر
<aمحمد يسن علي بدر
تاريخ التسجيل: 12-28-2005
مجموع المشاركات: 623

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. منصور خالد .. عامان من السلام : حساب الربح و الخسارة (Re: محمد يسن علي بدر)

    الأثنين 29 يناير 2007
    د. منصور خالد
    عامان من السلام : حساب الربح والخسارة.. (7)
    الدستور، من الذي يحميه ويرعاه؟
    الدستور والبيئة الوخيمة

    يأتي، من بعد، موضوع التهوين من أمر، ولا نقول الاستهانة، بالاتفاقية. ذلك تجلى في بعض الممارسات والتصريحات والاشارات التي صدرت من مسئولين هنا وهناك، تنم عن خفة، أو قل هوادة، في التعامل مع الاستحقاقات التي قضت بها الاتفاقية. هذا أمر لا يجوز التصامم عنه، فلو فعلنا لقاد ذلك الى مزيد من الاستخفاف. من ذلك، ايحاء بعض المسئولين في حكومة الجنوب في ممارساتهم اليومية بأن الجنوب استقل بشأنه ولا دور له في الحكم القومي، بل لا شأن للحكومة القومية به. ومن واجب الحركة الشعبية، ليس فقط بحسبانها الحزب الغالب في حكومة الجنوب بل، قبل ذلك، الطرف الثاني في الاتفاقية، ردع هؤلاء عن أوهامهم، لا سيما والحركة ما فتئت تؤكد التزامها بما نصت عليه الاتفاقية في كل الاجتماعات الدورية لمكتبها السياسي، كما تؤكد التزامها بالعمل على جعل الوحدة خياراً جاذباً. وان كان في الشمال من لا يريدون لها(أي الوحدة) ان تصبح كذلك فان واجبنا هو ابانة خطل رأيهم. هذا جزء من المعركة السياسية التي ظلت الحركة تخوضها منذ منشئها.

    الموضوع الأشد خطورة هو الاشارات والتصريحات التي تمس الحريات العامة و دور الاجهزة العدلية والأمنية في صيانتها. ذلك الموضوع احتل موقعاً بارزاً في الخطاب السياسي العام والمبارزات الصحفية الملتهبة، كان للاخ ياسر عرمان ونائب رئيس المجلس الوطني اتيم قرنق دور كبير فيها. لم تقع تلك المبارزات لأن الدستور لم يَفِ الأمر حقه، فقد اوفاه ايفاءً تاماً في وثيقة الحقوق، وبصورة لم تعرفها دساتير السودان من قبل. لمَ احتدم النزاع إذن؟ نجيب، ان الدستور ولد في بيئة أمنية وخيمة غير موافقة له، بل ومتعارضة معه، كان ذلك في القوانين أو الاجراءات. وطبعي ان لا يستمرئ الناس هذه القوانين والاجراءات. وبدهي أن يتوقع الناس، المؤيد منهم للاتفاقية و الحرون عن تأييدها، أن تنصرف حكومة الوحدة الوطنية لالغاء أو تعديل هذه القوانين بما يزيل التعارض بين الدستور والقوانين. هذا أمر نعرف جيداً أن الاجهزة العدلية تعكف عليه حسب أولويات قد لا نتفق عليها جميعاً. فأولى بالمراجعة والتقويم، بين كل القوانين، تلك التي تمس الحريات الاساسية، وتلجم السلطات الامنية واجهزة انفاذ القانون من التعدي عليها أو الخروج عنها. وأجدر بالمجلس الوطني الذي يجتمع وينفض، وفق ما تقول به لوائحه، أن لا يذهب في عطلة قبل اجازة تعديلات القوانين التي تتعارض مع الدستور، والتي ما زالت سارية بعد قرابة العامين من اقرار الدستور حتى لا يدع مجالاً للاختراص بأن هناك من يماطل في ذلك الأمر. ومهما كانت الظروف التي أدت الى التعطيل فلا عذر للاجهزة المسئولة عن ذلك الأمر أن تتمادى في البطء بعد توجيه رئيس الجمهورية بشأن هذه القوانين والاجراءات في خطابه الأخير بمناسبة الذكرى الحادية والخمسين لاستقلال السودان، وخطاب النائب الأول للرئيس في الذكرى الثانية لتوقيع الاتفاقية بكل تداعياته.

    أياً كانت اسباب البطء في القيام بهذه التعديلات فان هناك واجبات اولية لا بد من الالتفات اليها خاصة في الممارسات. ففي خلال العام الماضي وقعت احداث استوحشتها الحركة الشعبية مثل فرض الرقابة القبلية على الصحف، فنأت بنفسها عنها في بيان اصدره مكتبها السياسي (جوبا سبتمبر 2006)، في حين أن الوضع الطبيعي هو ان يساعف الشركاء، لا ان يناقروا، بعضهم بعضاً. ولن يكون الوضع طبيعياً عندما يرى احد شركاء الحكم في ممارسات بعض أجهزة الدولة استهانة بما جَدَ ولزم، واحترام وثيقة الحقوق على رأس ما يلزم. بمزيد من الايضاح نقول ان في فرض الرقابة القبلية على الصحف افتئات على الدستور بمخالفته لما نصت عليه المادة 39(2)، كفالة الدولة لحرية الصحافة ووسائل الاعلام الاخرى ''وفقاً لما ينظمه القانون في مجتمع ديموقراطي''. الكلمتان المفتاحيتان في هذا النص هما «ينظم» و«مجتمع ديموقراطي» : الأولى تؤكد ان دور الدولة هو تنظيم استخدام الحق، لا منحه أو حجره بقوانين تصدرها كما تهوى، والثانية تعني ان هذه القوانين نفسها لا يمكن ان تُبنى على رؤى فرد أو مجموعة أو هيئة تجتهد الرأي ولا تألو، وانما على ضوء ما هو متعارف في المجتمعات الديموقراطية. وحسناً فعل نائب الرئيس علي عثمان عندما أوقف هذا التجاوز معلناً ذلك في مؤتمر صحفي في الثامن عشر من سبتمبر في العام الماضي.

    بداء النار شرارة
    من الممارسات التي تستلزم التوقف عندها استمراء اجهزة انفاذ القانون والاجهزة العدلية عند تطبيق القوانين والاجراءات التي تتعارض مع الدستور لما درجت عليه في الماضي، وكأنها لم تستبطن روح الاتفاقية، بل نصوص الدستور في بعض الحالات. صحيح، ان تلك الحالات التي نشير اليها فردية. وصحيح أيضاً التصوير الرائع الذي جاء به ياسر عرمان حول الوضع الذي نحن عليه، عندما قال إن تعسر التنفيذ في بعض الأحيان شبيه بالصعوبة التي يتلقاها من يحاول اصلاح إطار عربة وهي تسير. أياً كان الأمر، نكرر القول إن الصمت عن أي ترخص في انفاذ الاتفاقية والدستور، يغري بالمزيد منه، فبداء النار شرارة.

    بوجه عام نتحدث في هذا المجال عن انتهاك الخصوصية (المادة 37 من الدستور)، وبوجه خاص عن حقوق غير المسلمين في العاصمة القومية (المادة 156 ج ود). وحول الاولى لا نتحدث عن حالات التربص والتقحم على الناس في حفلاتهم الخاصة دون ان يكون في تجمعهم ما يهدد القانون، ولكنا نتوقف كثيراً، كمثال باهر، عند رسالة بعث بها عالم سوداني مرموق لاحدى الصحف يشكو فيها من التعدي على خصوصيته. كتب الاستاذ البروفيسور احمد محمد الحسن، بلغة يكتنفها حزن واسى، يقول: ''اكتب هذا الموضوع وانا في طريقي الى البرازيل للمشاركة في مؤتمر اكاديمية العلوم لدول العالم الثالث، حيث طُلب مني أن اتحدث عن تجربتي وتجربة زملائي بمعهد الامراض المستوطنة في مجال البحث العلمي وما تحقق بالمعهد الذي صنفته الأكاديمية مركزاً متميزاً (Center of Excellence ) كنت في السابق، وكغيري، اصطحب معي كمبيوتري الشخصي الذي يحوي المحاضرات التي القيتها وأدون فيه ما يدور في المؤتمر الذي أشارك فيه. وقد آثرت عدم أخذ الكمبيوتر معي هذه المرة وذلك تفادياً لما سوف يحدث عند عودتي، حين يطلب مني تسليمه لسلطات مطار الخرطوم للكشف عن محتوياته وهذا ما ارفضه تماماً للاسباب الآتية : أولاً هذا الأمر فيه انتهاك صريح للحرية الشخصية واهدار لكرامة الانسان وتشكيك في مسلكه ومثله واخلاقه خاصة لشخص في خريف العمر قضى اكثر من خمسين حجة منها في تعليم النشء وممارسة مهنة الطب التي اؤتمن فيها على اسرار الناس وأعراضهم وبما أنني ادون في الكمبيوتر اسماء وعناوين، بل وصوربعض المرضى فكيف يجوز لي أن اخون الامانة و انكص بالعهد واسلم طائعاً مختاراً أو مرغماً كل ذلك الى شخص آخر كائناً من كان... الخ، «ومضى البروفيسور في رسالته» يقول لكل ما سبق قررت عدم اصطحاب الكمبيوتر وأرجو مخلصاً ان يُعاد النظر في هذا الأمر ولا يخالجني ادنى شك ان من اصدر هذا القرار لا يدرك ما تطرقت اليه و تطرق اليه آخرون وان صاحب القرار لا يرى في الكمبيوتر غير آلة للهو والتسلية ولا يدري ان الكمبيوتر الشخصي قد أصبح قلم و قرطاس هذا الزمان''.

    أحمد محمد الحسن، وزير البحث العلمي السابق والاستاذ بمعهد الامراض المستوطنة، ليس رجلاً عادياً. هو عالم من اعلامنا الأفذاذ وهب كل حياته للبحث والعلم. لم يفعل هذا زهادة في وطنه، وانما لأنه أوزن نفسه على أن أمثاله يخدمون اوطانهم بالانقطاع للعلم النافع. ولا شك لدي في أن ذهن السلطة التي اتخذت هذا القرار الذي اخرج هذا الرجل المنقطع للعلم عن صمته، وبوجه خاص مدير الجمارك الذي هو من بين اكثر من عرفت احتراماً لكل من هو قمين بالاحترام، لم يذهب الى احتمالات مثل تلك التي تعرض لها الأستاذ النابه. ان اللوائح والاجراءات التي لا يصحبها تنوير بما تقتضيه الاعراف ويفرضه الدستور من استحقاقات حتى يعين منفذيها على التمييز بين الناس والحالات عند تطبيق القانون، يوقع صناع القرار في حرج هم ونحن في غنى عنه.

    أما حول غير المسلمين، الذي كان يدور في خلدنا عند الاحتشاد لكتابة هذه المقالات هو ما تناصر من أنباء عن فرض الحدود على غير المسلمين وكأن الأجهزة التي قامت بذلك لم تقرأ المادة 156 من الدستور، خاصة الفقرة الفرعية(د) التي تقول ''تراعي المحاكم عند ممارسة سلطتها التقديرية في توقيع العقوبات على غير المسلمين المبدأ الراسخ في الشريعة الاسلامية أن غير المسلمين من السكان لا يخضعون للعقوبات الحدية المفروضة، وتطبق عليهم عقوبات تعزيرية وفقاً للقانون''. ذلك أمر لم تكن الاجهزة المعنية في حاجة الى نص دستوري بشأنه، بل أن النص، في حقيقته، تزيد لأنه لم يفعل أكثر من التأكيد على مبدأ راسخ في الشريعة الاسلامية، وفي تجارب الحكم الاسلامي الرشيد. بيد أن ضرورات التقارب دفعت الطرفين الى الرضى بهذه الصيغة. فنعرف مثلاً، أن خالد بن الوليد قضى لبلاد عانات «ان لا يهدم لهم بيعة ولا كنيسة وعلى أن يخرجوا صلبانهم في أيام عيدهم»، وان حذيفة بن اليمان أعطى أهل ماء دينار ''الامان على أنفسهم وأموالهم وأرواحهم ولا يغيرون عن ملة ولا يحال بينهم وبين شرائعهم وعوائدهم ولهم المنعة، وأن عمر بن عبد العزير أزاح اسامة بن زيد صاحب خراج مصر عن موقعه لقسوته على القبط''. أقرب الينا ما أقره عبد الله بن أبي سرح على عهد عمرو بن العاص في صلحه مع النوبه المسيحيين(دنقلا) بامدادهم، مقابل ثلثمائة وستين رأساً من الرقيق، بالقمح والشعير والكساء وألف اقنين من الخمر للمتملك (ملك النوبة) وثلاثمائة أخرى لكنائسهم (المقريزي في الخطط والبلاذري في الفتوح). هذا تاريخ نذكره ولا نُذَكر به الا الفريسيين، والفريسيون طائفة من متزمتي اليهود قال عنهم عيسى عليه السلام إنهم لا يقرأون الكتاب الا بعيون الموتى. أما الحاضر فيحكمه نَصٌ دستوري يلزم الكل. هذا مقام نشير فيه الى أن الذي وقع في ليلة عيد رأس السنة الميلادية الأخير في كنيسة كل القديسين بحي العمارات ليس بالأمر العابر. فمهما كانت الدواعي الأمنية، التي ندرك أهميتها، لا يمكن لأحد أن يبرر اقتحام الشرطة لدار عبادة وفي يوم مقدس عند أهله ويحصبه بالقنابل المسيلة للدموع. وطبعي أن يقع مثل هذا الفعل اذا كان أهم تنبيهات الشرطة قبيل أعياد الميلاد هى تحذير كل من تسول له نفسه اشاعة الفوضى في أعياد الميلاد من الاقدام على ما يخل بالأمن. كان الأوفق أن يبدأ البيان بتهنئة المواطنين المسيحيين بذلك العيد مع أطيب التمنيات لهم في احتفالاتهم، ثم يضيف أن الشرطة على أهبة الاستعداد للحيلولة دون أي انتهاك للقانون أو الاخلال به في تلك المناسبة. كلمات بسيطة لا تكلف كثيراً، ولكنها تعبر عن احساس بالآخر. هذا ما نعني بسايكولوجية السلام والتي يُعتبر احترام خصوصيات كل المواطنين واشاعة التسامح فيما بينهم من أولى مقوماتها.

    ما يريب وما لا يريب
    في الاشهر الماضية أيضاً صدرت تصريحات من مسئولين عن خطوط حمراء وبرتقالية قرأ بعض الناس فيها اكثر مما ينبغي ان يقرأوا، ورأوا في مطاويها معان لا أظنها خطرت بقلب المتحدث. وإن كانت لنا وقفة عند تلك التعليقات فانما هي فقط للقول إن الخط الأحمر الوحيد الذي ينبغي أن لا يتجاوزه الطرفان هو الاتفاقية والدستور، ما عدا ذلك فمن حق أي سياسي أن يلون خطوطه كما يريد ولا يلزمن بها الا نفسه. الا أنا نتوقف قليلاً عند حديث طويل دار بين وزير العدل، الأستاذ محمد علي المرضي، ومحقق صحفي فتاش وبارع في نصب الفخاخ (ضياء الدين بلال، الرأي العام 20/9/2006). ذلك الحديث اثار اهتمام عدد من صحابي القانونيين مما حملني على قراءته اكثر من مرة ليستوقفني فيه أمر هام هو التهوين من أمر أهم ما جاء به الدستور، ألا وهو وثيقة الحقوق. سأل ضياء الوزير عما حسبه تراجعاً عن الدستور في القرارات التي اشرنا اليها حول الرقابة على الصحف وواصفاً الوضع الذي ترتب عليها، أو أحاط بها، بأنه اقرب الى فرض حالة الطوارئ. قال الوزير: ''هذا غير صحيح و اظنك تقصد وثيقة الحقوق. فالحكومة هى التي ارتضت بها وكان يمكن باغلبيتها الميكانيكية ان تعدلها بالاضافة والحذف، ولم تفعل. «رد ضياء الدين»: انها لم تفعل لأن الامر مقيد بموافقة الحركة الشعبية التي تتهمكم بتجاوز الدستور''. قال الوزير: «كان يمكن الاتفاق على اعلان حالة الطوارئ في الشمال». قال الصحفي الملحاح: ''هذا ايضاً رهين بموافقة النائب الأول''. اجاب الوزير: ''كان ممكن ان يقنع النائب الأول بذلك مع استثناء الجنوب''. ثم مضى الصحفي الذي لا يقتنع برد للحديث عن الرقابة على الصحف، و استنكار الحركة لها، و الاستدعاءات التي تقوم بها اجهزة الامن فكان الرد: ''لا تسألني عن أجهزة الأمن ''لماذا تنظرون الى الفيل وتطعنون في ضله. لماذا تتحاشون الذهاب اليهم؟''.

    السيد وزير العدل قانوني عريق، كما هو عضو بارز في المفوضية القومية التي صاغت الدستور. وبحكم موضعه اليوم هو الرجل الذي يأمل المواطنون ان تتم اعادة النظر في القوانين على يديه. ولو كان الذي رواه ضياء قد دار في جلسة مغلقة لما تناولناه بالتعليق على صفحات الصحف. ولو جاء التصريح من وزير غير وزير العدل، لما انشغلنا به. ولو كان الذي أفضى به وزير العدل رأياً قانونياً حول قرار أو قانون لاعتصمنا عنه بالصمت. أما وقد أعلن الرأي على الملأ، واثار ثائرة صحبه و صحبنا من أهل القانون، أصبح التعليق عليه واجب، خاصة أن كان في الرأي لَبسة. فالقول ان وثيقة الحقوق ارتضتها الحكومة وكان يمكن ان تعدلها بالاضافة أو الحذف قول غير صحيح من أصله، و مع ذلك يجعل من الدستور والاتفاقية أمراً شكوكاً لدى كل من يترجى حماية تلك الحقوق من مؤسساتنا العدلية. القول غير صحيح من اصله لأن وثيقة الحقوق أقرتها المفوضية القومية للدستور، لا الحكومة التي مضت اذ لم يكن لها شأن بها. فاقرار الاتفاقية التي تضمنت، فيما تضمنت، مبادئ وثيقة الحقوق كان بيد المجلس الوطني السابق ومجلس التحرير الوطني للحركة الشعبية. هذان المجلسان الزمتهما الاتفاقية بقبولها كما جاءت دون تعديل، وهذا ما فعلاه. اما الحكومة الراهنة فهى وليدة الدستور ومن اولى واجباتها في ذلك الدستور انفاذ اتفاقية السلام الشامل(المادة 72 (ب) . فهى لا و لن تستطيع الحذف أو الاضافة لوثيقة الحقوق باغلبية ميكانيكية أو غير ميكانيكية. اما الظن بأن اعلان حالة الطوارئ يمكن ان يتم بالبساطة التي يوحي بها حديث الوزير فأمر يزيد من ريبة المستريب، و يخالف مقتضيات الأخذ بمحاسن الأمور. ففي زمان الريب يحسن بالمرء ان يأخذ بالحديث الشريف : «دع ما يريبك الى ما لا يريبك ». فسلفاكير ليس رئيساً للجنوب فحسب، بل هو النائب الأول لرئيس الجمهورية ؛ وبهذا الوضع تتجاوز مسئوليته الجنوب الجغرافي. ومن الظلم للرجل الزعم بأنه غير مهموم بشئون البلاد كلها. أما حديث الفيلة، و هو بلا شك حديث رجل غاضب من صحفي ملحف كثير السؤال، كان افضل منه الصمت. فلم نكن نعرف من قبل ان في السودان أفيالاً تمرح في دور الأمن وترعب الناس. و لم نر تلك الفيلة عند ارتيادنا لتلك الدور. ولكن ان كانت هناك بحق افيال فمن واجبنا جميعاً ان نروضها حتى تُستألف و تؤلف. هذا هو دورنا ودور وزير العدل من قبلنا، حتى لا يصبح الالتزام بالدستور فضيلة مهجورة.

    في ظروف الاسترابة هذه، خاصة من جانب من قال رئيس لجنة التقدير والتقويم انهم يعيشون في حالة قنوط وخيبة أمل، يلزم على القانونيين الرسميين الابتعاد عما يثير الريب، دونما مبرر لاسترابة. مثال ذلك ما قاله مسجل الأحزاب، الاستاذ محمد أحمد سالم غداة منع التظاهرة التي انتوى المعارضون للنظام القيام بها ضد الاجراءات المالية في العام الماضي. قال مولانا المسجل، في رأي قانوني يمثل اجتهاداً منه، : '' القانون ينص على المصادقة على هذه الأعمال من قبل السلطة المحلية. وعلى الشرطة إذا رأت ان ليس هناك ما يمنع من التصديق للتظاهرات والمسيرات أن تصادق ''(الوطن 8/9/2006). فحوى هذا القول، بل تكملته، هو وأن رأت ان لا تصادق يكون منع. صحيح أن الدستور يكفل للسلطة الحق في تنظيم استخدام الحقوق الواردة في الدستور شريطة أن لا يكون ذلك التنظيم ذريعة لالغائها أو تضييقها. هذا، في تقديرنا، هو معنى ما نص عليه الدستور حين قال : «تنظم التشريعات الحقوق والحريات المضمنة في هذه الوثيقة ولا تصادرها أو تنتقص منها(المادة 27 (4). فمن حق الشرطة استخدام مواقع معينة تسير فيها التظاهرات أو تتم التجمعات لاسباب تتعلق بالصحة العامة، أو الأمن مثل احتمال اثارة جماعات أخرى مما يعتبر مدعاة للفتنة، ولكن يجب ان لا يرتقي '' تنظيم استخدام الحقوق '' الى حد المنع البات.

    الدستور والقوانين : أيهما الأعلى؟
    وعُدلت القوانين أو لم تعدل، على القضاء واجب هام في صيانة الدستور، رغم بقاء القوانين التي تتعارض معه. حقيقة ليس من واجب القضاء العادي تعديل القوانين التي تناقض الدستور، فذلك أمر متروك للسلطة التنفيذية التي تبادر بطرح القوانين، والسلطة التشريعية التي تجيزها على الوجه الذي تراه، ولا نحسبنها سترى رأياً يتعارض مع الدستور. السلطة الوحيدة المنوط بها الفصل في دستورية القوانين هى المحكمة الدستورية، ويحق لكل من يضار من أي قانون يتعارض مع الدستور اللجوء لتلك المحكمة للقضاء في أمر دستوريته. بيد أن الدستور نفسه قانون، بل هو أب القوانين، وهذا مبدأ متعارف، ولهذا نصت الاتفاقية على ان «الدستور القومي للسودان هو القانون الأعلى للبلاد ويجب ان تتوافق جميع القوانين مع الدستور »(الفقرة 3-1-1 من بروتوكول نايفاشا). اضافة الى ذلك، نص الدستور نفسه على ما يلي: ''تعتبر اتفاقية السلام الشامل قد ضُمنت كلها في الدستور، ومع ذلك فأن أي احكام وردت في اتفاقية السلام الشامل لم تضمن صراحة في هذا الدستور تعتبر جزءاً منه ''(المادة 225 من الدستور)، والاتفاقية حافلة بالنصوص التي تحث على سيادة حكم القانون.

    حول هذا الموضوع قرأنا مقالاً جيداً في صحيفة السوداني (28/3/2006) للاستاذ المحامي نبيل اديب، وهو واحد من بين مقالاته الجياد. كتب نبيل ''القاضي العادي، فى اي مستوى، لا يستطيع الغاء القانون المخالف للدستور وذلك لأنه غير مختص بذلك. ولكنه يستطيع دون شك الامتناع عن تطبيقه وهو اذ يفعل ذلك؛ يفعله باعتبار ان الدستور هو قانون ضمن القوانين التي يتوجب عليه تطبيقها ولكنه اعلى منها جميعاً. ولا يجوز للقاضي العادي ترك الأعلى ليطبق الاقل درجة والا كان في ذلك قلب للامور. لذلك نصت المادة 6 (2) من قانون تفسير القوانين والنصوص على انه ''اذا تعارض اي نص في قانون مع اي حكم من احكام الدستور تسود احكام الدستور بالقدر الذي يزيل ذلك التعارض''. ولهذا نرى في تهيب القضاة من تطبيق الدستور، في كل الحالات التي تتعارض فيها القوانين معه، أمراً لا يتسق مع المنطق

    (عدل بواسطة محمد يسن علي بدر on 02-19-2007, 12:52 PM)

                  

02-14-2007, 01:10 PM

محمد يسن علي بدر
<aمحمد يسن علي بدر
تاريخ التسجيل: 12-28-2005
مجموع المشاركات: 623

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. منصور خالد .. عامان من السلام : حساب الربح و الخسارة (Re: محمد يسن علي بدر)



    عامان من السلام : حساب الربح والخسارة.. (8)
    الدستور وأجهزة تنفيذ القانون

    د. منصور خالد
    من التفكيك الى الاصلاح

    طفا على السطح جدل واحتدم حول دور الشرطة. وكان الجدل من ناحية، بين الناطق الرسمي باسم الحركة في الشمال، ياسر عرمان ونفر من رجالات الشرطة المتقاعدين، ومن ناحية أخرى، بين المدير العام للشرطة ووالي الخرطوم. هذا موضوع ما كان المجادلون ليتعسفون الرأي حوله لو عادوا للاتفاقية والدستور وما فرضا من حقوق دستورية للمواطن وضوابط وكوابح لاداء أجهزة تنفيذ القانون، حماية لتلك الحقوق. موضوع اجهزة الأمن كان واحداً من الموضوعات الهامة التي تحاور حولها الطرفان في نايفاشا، بل كاد الحوار يعصف باقرار الدستور. فمن الضروري، اذن، وضع هذه الحقائق نصب الاعين عند المجادلة في هذا الموضوع. اهتمام الحركة، اثناء التفاوض، بموضوع الاجهزة الامنية يعود الى ان هذه الاجهزة كانت هي اليد الضاربة للنظام الشمولي، و اداة قمعه الأساس. وكان التجمع الوطني الديموقراطي لا يرى لهذه الاجهزة الا نهاية واحدة: التفكيك (dismantling). اختلف الوضع جداً عندما وقع رئيس التجمع اتفاقاً في مدينة جدة مع الاستاذ علي عثمان محمد طه في الرابع من ديسمبر 2004 تضمن في نقاطه التسع نصاً يؤكد ''قومية القوات المسلحة والقوات النظامية الاخرى بما فيها جهاز الأمن و بما لا يعني تصفيتها أو الغاءها'' (التوكيد من الكاتب)، وهذا هبوط سحيق من سقف مطالب التجمع لم يلق اعتراضاً في التجمع يومذاك الا من الحزب الشيوعي السوداني.

    بصرف النظر عما قال به اتفاق جدة، ظل الموضوع مكان جدل في مفاوضات السلام بين الحركة والحكومة الى أن اتفق الطرفان على أن يكون التعامل مع تلك الاجهزة وفق النظم المرعية في بلاد العالم حيث يعتبر الجيش وحده هو القوة الضاربة، وتعتبر اجهزة الامن والشرطة اجهزة خدمية. الخلط بين هذه الاجهزة: الجيش، الشرطة، الامن ليس من صنع الانقاذ، بل يعود تاريخه الى نظام مايو الذي وحدنا فيه كل هذه الاجهزة، ان لم يكن في الجوهر، فعلى الاقل في المظهر، تحت اسم القوات النظامية المادة (201) من دستور .1973 وتبع ذلك اضفاء رتب عسكرية على هذه القوات: البوليس، السجون، المطافئ، بصورة لم تكن معروفة من قبل. استمر الحال هكذا فيما بعد في عهدي الديموقراطية الثالثة والانقاذ، ووردت الاشارة الى القوات النظامية في العهد الأخير في المادة السابعة من دستور .1998 وعند وضع الدستور الانتقالي كان من رأي الحركة الشعبية ان تعبير ''قوة''، لما له من تداعيات، ينبغي ان يقصر على الجيش وحده. لهذا السبب توافق الطرفان على الفصل في الدستور بين هذه الاجهزة دون ان نطلق عليها اسم القوات النظامية لما له من ايحاءات. وبالفعل ورد النص حول هذه الاجهزة في الباب التاسع تحت عنوان: القوات المسلحة، اجهزة تنفيذ القانون، و الامن الوطني، مع الاشارة لكل واحد منها في فصل مستقل: الفصل الاول، القوات المسلحة القومية، الفصل الثاني اجهزة تنفيذ القانون، الفصل الثالث الامن الوطني.
    خلال مناقشة الدستور لم يجد الطرفان كبير عناء في اقرار النص حول القوات المسلحة الذي قُدم باتفاقهما لمفوضية الدستور، وكان احد صانعيه خلال التفاوض وزير الدفاع اللواء يومها بكري حسن صالح من جانب الحكومة. من جانب آخر، لم يكن الاتفاق عسيراً بين الطرفين حول طبيعة جهاز الامن كجهاز خدمي يركز في مهامه على جمع المعلومات وتحليلها وتقديم المشورة للسلطات المعنية، وحول تكوين ذلك الجهاز قال الدستور ''تكون خدمة الامن الوطني ممثلة لكل اهل السودان وبوجه خاص يمثل فيها جنوب السودان تمثيلاً عادلاً'' (المادة 151 «2»). وسيجئ تفصيل هذه المهام في قانون الامن الوطني الجديد الذي سيخضع لمشاورات واسعة مستهدية بأربعة موجهات: الحفاظ على الامن الوطني، حماية حقوق المواطن التي كفلها الدستور، الحيلولة دون تحويل جهاز الأمن والمخابرات لسلطة تنفيذ للقانون، الرقابة العمومية (public oversight) على الجهاز الأمني من جانب السلطة التشريعية، الاشراف السياسي على الجهاز من جانب مؤسسة الرئاسة.
    اما بالنسبة للشرطة فقد وقع جدل خلال مناقشات الدستور بين ممثلي الحركة الشعبية ووزارة الداخلية (اللواء يومها عبد الرحيم محمد حسين وبصحبته وزير الدولة في وزارته السيد احمد هارون). محور الجدل كان، من ناحية، توزيع السلطات بين المركز والولايات، ومن ناحية أخرى، توصيف البوليس: أهو ''قوة'' ام ''جهاز خدمي''. و لم يأت الوزيران، في تقديرنا، بغريب لأن النقلة الهائلة التي يقتضيها الدستور، كان ذلك في السلطات أو في طبيعة المهنة، ليست بالامر الهين. فالدستور يقول: ''تتكون الشرطة لا مركزياً وفقاً لاتفاقية السلام الشامل وذلك حسب المستويات التالية:
    (أ) المستوى القومي ويحدد القانون اختصاصاته ومهامه وفقاً لهذا الدستور.
    (ب) مستوى جنوب السودان، ويحدد الدستور الانتقالي لجنوب السودان والقانون اختصاصاته و مهامه.
    (ج) المستوى الولائي، وتحدد اختصاصاته ومهامه الدساتير الولائية والقانون.
    وفي الجداول الملحقة بالدستور عَيًن الدستور بوضوح اختصاصات كل مستوى من مستويات الحكم. فعلى المستوى القومي قُصرت اختصاصات الشرطة على الجنسية والتجنس، جوازات السفر والتأشيرات، الهجرة والاجانب، الشرطة القومية بما فيها ادارة التحقيقات الجنائية وتنسيق الشئون الجنائية الثنائية والاقليمية والدولية والمعايير والنظم بما فيها معايير تدريب الشرطة في العاصمة القومية، انشاء السجون القومية وصيانتها، الجمارك ورسوم الانتاج والصادر، اصدار البطاقة الشخصية القومية. ما عدا ذلك ترك للولايات. هذه النقلة الهائلة من الوضع الذي كان سائداً لا بد من أن تحدث ارتجاجاً وظيفياً، وغيرة مهنية، وامنيات بواطل. الامنيات البواطل، تظل بواطلاً، والغيرة المهنية أمر لا نستغرب في حالة اي جهاز تنتزع منه سلطات ألفها، كان ذلك في دار الشرطة أو دار المال أو دار القضاء. ولكن في النهاية يكون الاحتكام بشأنها، مهما كانت رؤى أو اماني من قُلصت سلطاته، للدستور.
    اما الارتجاج الوظيفي فعلاجه كامن في ما نص عليه الدستور في المادة 148 (3) التي تقول: ''تنسق الشرطة القومية وشرطة جنوب السودان والشرطة الولائية، وتتعاون فيما بينها، ويساعد بعضها بعضاً في اداء مهامها، ولتحقيق هذه الغاية توصى لرئاسة الجمهورية، عبر سلطاتهم المختصة، بانشاء الآليات المناسبة''.
    في اللقاء مع وزير الداخلية ووزير الدولة الذي تم، بطلب من وزير الداخلية، في منزل النبيل جمال الوالي أجتمع رأي ممثلي طرفي الاتفاقية على ان ما قالت به الاتفاقية وما نص عليه الدستور هو الذي يجب أن يسود من ناحية المهام والاختصاصات، وكان الكاتب مع الأخ نيهال دينق نيهال ممثلين للحركة والسيدان أمين حسن عمر (الذي تخلف عن الاجتماع لكنه افضى برأيه) والدرديري محمد احمد من المؤتمر الوطني. اتفق الطرفان مع الوزيرين على حل وسط في موضوع ان كانت الشرطة خدمة أو قوة نظامية جاء على الوجه التالي في الدستور: ''الشرطة قوة نظامية خدمية مهمتها تنفيذ القانون و حفظ النظام و الانتماء لها مكفول لكل السودانيين بما يعكس تنوع وتعدد المجتمع السوداني، وتؤدى واجباتها بكل حيدة ونزاهة وفقاً للقانون والمعايير القومية والدولية المقبولة''. ولعل ورود النص حول المعايير الدولية قد استوجبه ان الوضع الذي كان سائداً شابه تخليط في المهام، كان رجال الشرطة على رأس المدركين له. ففي حديث صحفي له، قال المدير العام للشرطة الفريق أول محجوب حسن سعد: ''الدور الذي تقوم به الشرطة وفقاً للدستور كانت في السابق تشاركها فيه القوات المسلحة و جهاز الامن والمخابرات وان هؤلاء ما عادوا يشاركون الشرطة في همها وتدخلهم وفق الدستور في مهام الشرطة سيقود الى اشكالية'' (الانتباهة 1/8/2006).
    ان كان هذا هو الحال، فمن الضروري التوجه الى ازالة كل ما يشي بأن الشرطة امتداد للقوات المسلحة، أو مرادف لجهاز الامن. ما يشي بهذا شيئان: التسليح وبعض الممارسات. تسليح الشرطة باسلحة وعتاد كالمصفحات والاسلحة الثقيلة التي لم يألفها الناس الا عند القوات المسلحة أمر يدعو للتوجس. ومهما كانت دواعيه في الماضي فإن النظام الدستوري الجديد يلزمنا باعادة تشكيل المؤسسات الامنية بالقدر الذي يميز بين القوات المسلحة والشرطة، وجهاز الامن والمخابرات. فلا بدع، إذن، في ان يثير ياسر عرمان هذا الموضوع، كمسئول سياسي، وكعضو فاعل في الجهاز التشريعي، و كناشط في منظمات المجتمع المدني. وان كانت في بعض التعبيرات التي وردت في مداخلاته ما استفز بعض الشرطيين، قدامى و محدثين، مثل الحديث عن ''الشرطة الاستعمارية'' و''امبراطورية الشرطة''، فإن هذا لا يبيح الاستخفاف بموضوع أخذ قسطاً كبيراً من الحوار في المفاوضات وفي مناقشة الدستور، أو التهوين بما اثاره حول طبيعة ونوع التسليح الذي يوفر للشرطة.
    لا يجوز الاستخفاف ايضاً بالجوانب المهنية والوظيفية في موضوع التسليح، فالتسليح للشرطة يكون دوماً بحجم الجرائم التي يتوقع منه درءها. وفي بيئة العنف والعنف المضاد التي ولدتها الحرب من جانب، كما ولدها، من جانب آخر، تحويل الشرطة في العهد الشمولي الى جهاز قمع، لا يمكن ان يُقصر سلاح الشرطة على هراوة وغدارة كما كان الحال في الماضي. واياً كانت درجة التسليح فلا بد ان يصحب ذلك تنوير واسع حول استخدام الاسلحة، ودور الشرطة الخدمي، والحقوق التي يوفرها الدستور، وبخاصة وثيقة الحقوق، للمواطن، أو يفرضها على اجهزة تنفيذ القانون. وقبل كل ذلك ينبغي ان يكون الهدف من توفير القوة المناسبة للشرطة أولاً هو الردع لا القمع، ولا يُردَع الا المجرم، وثانياً بث الطمأنينة في نفس المواطن لا ترهيبه.
    وحول استخدام الشرطة للقوة قد يكون من المفيد الاستهداء بتجاربنا السالفة حيث كان القضاة، عملاً باحكام قانون الاجراءات الجنائية الذي ظل سائداً منذ العام 1925، يصحبون البوليس في الحالات التي تستوجب استخدام القوة لاضفاء حماية قانونية على ذلك الاستخدام. ولعل المثال الباهر على هذا ما حدث في نظام عبود، وكان نظاماً عسكرياً شمولياً، ابان انتفاضة 21 أكتوبر. ففي اللحظة التي تدافعت فيها جموع الشعب للتظاهر ضد النظام، وحشد البوليس قواته لمجابهته بأمر من السلطة، خرج عليهم القاضي المسئول ليقول، موجهاً الحديث لقائد القوة البوليسية، المرحوم قرشي فارس: ''أنا عبد المجيد امام، قاضي المحكمة العليا آمرك بأن تسحب قواتك''، وما كان من الضابط الا الالتفات الى قواته قائلاً: ''للخلف دور''. هذا النوع من الاجراءات لا تعيننا عليه القوانين السائدة اليوم، فمنذ عام 1992 أعيد النظر في قانون الاجراءات الجنائية، بموجب ذلك التعديل احيلت كل السلطات التي كان يمارسها القضاء فيما يتعلق بالاجراءات الأمنية الوقائية لأجهزة النيابة، وهى أجهزة لا تتمتع بنفس القدر من الاستقلالية التي يوفرها الدستور (خاصة دستورنا الراهن) للقضاء.
    ومهما يكن من أمر، فان الدستور يحضنا على تقفي المعايير الدولية، خاصة في الدول ذات الحكم اللامركزي، عند اعادة تشكيل الشرطة، يليق بنا أن ننظر الى ما صنعته هذه الدول، فالتجارب الدولية التي يمكن استلهامها متعددة ومتنوعة. ففي الهند، مثلاً، لكل ولاية قوة بوليسية يرأسها مدير عام بوليس الولاية. وتلك القوة دوماً ذات تسليح عادي، والى جانبها قوة للطوارئ تتميز بتسليح خاص يتكافأ مع حجم التهديد المتوقع للامن. اما على المستوى القومي فهناك المكتب المركزي للتحقيقات(CID) وتستمد عناصره من اجود العناصر الشرطية في الولايات ويتولى التحقيقات في القضايا الجنائية الكبرى و في تلك التي تمس كبار موظفي الدولة كمتهمين أو ضحايا. في الهند ايضاً بوليس للسكك الحديدية (كما كان - و ربما لا يزال - الحال عندنا) وحرس وطني كقوة احتياطية (Auxiliary Force). وفي العام 1986 انشأت الحكومة الهندية، نتيجة لتزايد الاعمال الارهابية، قوة جديدة اطلق عليها اسم حرس الامن الوطني (National Security Guard) للتصدي للارهاب ويطلق عليهم عامة الناس اسم القطط السوداء (Black Cats) نسبة للزي الاسود الذي يتزيون به. هذا التمييز لم يرد منه الا فرز عمل البوليس العادي الذي يحفظ القانون على مستوى ممارسات المواطنين العاديين في حياتهم اليومية، وبين الجنايات الكبرى. وبالقطع ليس من الجنايات الكبرى اخلال الباعة المتجولين بقواعد النظام العام، كما ليس من الجنايات اصلاً، تجمهر الناس للافصاح عن رأي، أو الاحتجاج على قرار، لأنهم في ذلك لا يمارسون الا حقاً كفله لهم الدستور.
    وفي جنوب افريقيا التي عرفت اشد انظمة الحكم قسوة و انتهاكاً لحقوق الانسان، أُعيد في العام 1994 تشكيل وزارة الداخلية التي كانت تعرف باسم وزارة القانون والنظام (Law and Order) الى وزارة السلامة والامن (Safety and Security ) ويستشف المرء من الاسم الاول ان الغرض من انشاء تلك الوزارة هو حماية النظام ومؤسساته، في حين يبين الثاني تأكيد الدولة على سلامة المواطن. و في عهدها الجديد، تركت حكومة جنوب افريقيا للولايات أو المحافظات (Provinces) ، كما يسمونها، الاشراف على البوليس في داخل حدودها الجغرافية، في حين عهدت للبوليس القومي معالجة الامور الشرطية التي تتجاوز حدود الولاية. ويحدد القانون نوع التسليح اللازم للبوليس العادي مثل الهراواة وغدارة (9) مليمتر (Z 88)، والأخيرة من أجل الدفاع عن النفس، الى جانب بندقية ( RF) يتركها الشرطي دوماً في سيارته. كما تقضي القوانين، في حالات التجمهر المخل بالأمن، أن توفر للبوليس بنادق برصاص مطاطي، وغازات مسيلة للدموع، ومدافع مائية (water canons) لتفريق التجمعات متى خرجت على القانون.
    جميع هذه الامور تعرفها الشرطة السودانية ولها فيها باع وخبرة. الا ان التخليط الذي وقع اخيراً واشار اليه بحق المدير العام للشرطة يجعل التذكير بهذه الامور لازماً. من اللازم ايضاً ان نشير الى موضوع آخر يوليه البوليس في جنوب افريقيا اهتماماً كبيراً الا وهو موضوع العلاقات العامة والتبصير بالواجبات الدستورية لرجال البوليس ومعاني اتفاقيات المصالحة الوطنية. وفي هذا نعترف بتقصيرنا في الدولة تقصيراً كبيراً في تنوير المواطنين (وليس الشرطة وحدها) بالتبعات المترتبة على اتفاقية السلام والدستور. فالاتفاقية تنص على ان ''تعمل حكومة الوحدة الوطنية على تنفيذ حملات اعلامية في جميع انحاء القطر وبجميع اللغات الوطنية في السودان بهدف نشر اتفاقية السلام والنهوض بالوحدة الوطنية والمصالحة والتفاهم المتبادل'' (الفقرة 2-5-9 من بروتوكول اقتسام السلطة). هذا الواجب أوكل لطرفي الاتفاقية حسب ما ورد في مصفوفة تطبيق الاتفاقية، وحدد توقيته من بداية الفترة الانتقالية الى نهايتها. مع هذا التقصير، فالذي نتحدث عنه أمر يفترض المام المسئولين عن الشرطة القومية والولائية وفي جنوب السودان باهميته، ويملكون من الوسائل ما يعين على تحقيقه، خاصة فيما يتعلق باشاعة مفاهيم ثقافة السلام والتحول الديموقراطي بين الضباط والجنود.
    في منتصف العام الماضي عقدت لجنة الدفاع والأمن في المجلس الوطني بالتعاون مع برنامج الامم المتحدة ورشة عمل للتداول حول دور الشرطة في ظل اتفاقية السلام الدائم. في تلك الورشة تحدث السيد اليو ايانج اليو وزير الدولة بوزارة الداخلية حديثاً شد الآذان للانتباه. في ذلك الحديث أورد الوزير ان جهاز الشرطة اصبح مفتوحاً للمجاهدين وتساءل عما اذا كان من الممكن أن يصبح جهازٌ بهذا التكوين ما زالت تعتريه نفسية الحرب مؤتمناً على حماية كل الفئات. اشار الوزير أيضاً الى الزي الذي يتزيا به الشرطة وهو زي قتالي تتزيا به الجيوش، أو على الأصح المغاوير (commandos) في تلك الجيوش. وفي معرض تعليقه على الحديث ابدى رئيس المجلس الوطني تحفظه على ما أورده الوزير، حول الشرطة، في حين أكد على ان المجلس سيقوم بواجبه كاملاً في مراقبة الأجهزة الشرطية والأمنية.
    حديث الوزير تناولته الصحف باهتمام، وتساءلت بعضها عما قام به الوزير نفسه لمعالجة الأمر (السوداني والايام مثلاً)، على أنا نتناول هذا الموضوع من وجهتين، الأولى هي أن اتهاماً بهذه الخطورة صدر عن المسئول السياسي الثاني في وزارة الداخلية أمر لا يملك أحد التحفظ عليه بمن في ذلك رئيس المجلس الوطني، الرقيب الأول على أداء السلطة التنفيذية. الاجراء الطبيعي كان هو أخذ العلم بما قاله الوزير وتكليف اللجنة المختصة في المجلس بمتابعة الأمر. الوجهة الثانية هى أن المجاهدين مواطنون كغيرهم من المواطنين. وينص الدستور على أن الانتماء للشرطة ''مكفول لكل السودانيين بما يعكس تنوع و تعدد المجتمع السوداني، وتؤدي واجباتها بكل حيدة ونزاهة وفقاً للقانون والمعايير القومية والدولية المقبولة''.
    (المادة 148«1»). ففي جنوب السودان، مثلاً، تتكون الشرطة، الى جانب العناصر الشرطية القديمة، من مسرحين من الجيش الشعبي والذي كان، هو الآخر، جيشاً مسيساً، ومن أفراد المليشيات التي آثرت الانضمام للحركة. وهى أيضاً مجموعات قد سُيست. المطلوب، اذن، هو اعادة تأهيل هؤلاء في الجنوب والشمال، أولاً بتوعيتهم بالاتفاقية و الدستور وما أحدثناه من تغيير، ثانياً بالحقوق الدستورية التي وفرها الدستور للمواطن دون اعتبار لخلفيته السياسية، وثالثاً بالمعايير الدولية التي يجب ان يلتزم بها الشرطي، وأخيراً بانهم لم يعودوا مجاهدين أو مناضلين في معارك الحرب، بل جنوداً في معركة السلام. هذا هو الواجب الأهم الذي ينبغي أن يتجه اليه المسئولون، بعيداً عن تحميل المسئولية لهذا أو ذاك. ولا شك لدينا في أن وزير الداخلية، الخبير بعلم النفوس، لهو أدرى من غيره بطبائع النفوس، وأقدر على معالجتها في مراحل التغيير الجذري في المجتمعات الصغيرة والكبيرة.
    يرتبط بذلك ما يتردد عن بعض التقارير التي ترد لرئاسة الشرطة عن انشطة القوى السياسية، ومنها الحركة الشعبية (قطاع الشمال) بل إخصاصها بجزء كبير من تلك التقارير، الأمر الذي حمل المسئول عن ذلك القطاع، ياسر عرمان لاثارة الموضوع في الصحافة و المجلس الوطني. متابعة الانشطة السياسية والاقتصادية للتحسب ضد أي نشاط ضد الدستور (لا ضد اي شئ آخر) هو واجب جهاز الأمن الذي يملك من الدربة والوسائل ما يعينه على ذلك. وحتى لا تصبح تلك التقارير، إن صح وجودها وأياً كانت الجهة التي تتولاها، قائمة على الاصطفاء، أو الحدس، أو المواقف المسبقة، على الأجهزة المعنية وضع ضوابط واضحة لما ينبغي على أجهزة المتابعة للنشاط السياسي أن تفعل، وما يجب عليها أن تحذر منه، حتى في اللغة التي تستخدم. فعلى سبيل المثال، أصدر المكتب الصحفي للشرطة بياناً يحظر فيه المسيرة التي قررتها ''القوى الوطنية'' ـ الاسم الذي تطلقه المعارضة على نفسها ـ ضد الاجراءات المالية في العام الماضي. وجاء البيان على النحو التالي: ''ان ما يسمى بالقوى الوطنية تقدمت بطلبات لتسيير مسيرة اليوم وان هذه الطلبات رفعت الى والي الخرطوم الى آخر البيان''. الاستخفاف الذي تعبر عنه كلمة ''ما يسمى'' يقبل ان جاء من حزب أو صحيفة مناوئة، وليس من جهاز، من أولى واجباته، الاحتفاظ بمسافة متساوية من كل القوى السياسية.
    البوليس السياسي جهاز لا تعرفه المجتمعات الديموقراطية، بل هو دوماً أداة تصطنعها الانظمة الشمولية لتكون عيناً للحاكم تنقل له كل شاردة وواردة من سلوك الرعايا. وان صح ذلك في العهد المملوكي حيث كان يطلق على أمثال هؤلاء اسم ''البصاصين'' (جمع بصاص)، أو في الانظمة الشمولية المعاصرة، خاصة في عالمنا العربي، فانه لا يصح في دولة حكم القانون حيث الناس ـ جميع الناس ـ مواطنون لا رعايا. كما يفترض أن لا يكون له وجود في مؤسسات ذات تقاليد قديمة مثل بوليس السودان. نستذكر هنا، قصة رواها لنا المرحوم بابكر الديب، الشرطي المعتق. زارنا في وزارة الخارجية مع ابنه السفير الأريب عزت. وفي معرض الحديث معه عن ذكرياته سألناه لماذا لا يدون مذكراته؟ قال انه فعل وسلمها للمرحوم بابكر كرار لنشرها، و كان كرار من المهتمين كثيراً بجمع الآثار السياسية. سألناه أيضاً عن اهم درس تلقاه في مسيرته العملية الطويلة، قال الدروس عديدة وروى واحدة منها نستعيدها لصلتها بما نتحدث عنه. قال: ''لم يتعبني أحد طوال عملي البوليسي قدر ما اتعبني الشيوعيون، خاصة أولئك الذين كانوا يفدون من مصر في الاجازات الصيفية. فكلما عادوا من القاهرة اشتد نشاط توزيع المنشورات، وكنت أعرف جيداً من هم ''رؤوس الحية''، حسب تعبيره. ولكن رغم المداهمات العديدة لمساكنهم والاماكن التي يغشونها لم نتمكن من القبض عليهم متلبسين بالجرم. مضى المرحوم الديب يقول أنه، مع الشرطي الذي يلازمه (المرحوم التهامي مدني)، اتفقا على جمع كل المنشورات التي يوزعها الشيوعيون ثم القذف بها داخل المنازل المشتبه فيها ومداهمة المشبوهين للقبض عليهم متلبسين بالجرم. ثم أضاف أن اجراءً كهذا ما كان ليفعله دون ابلاغ رئيسه، وهو بريطاني يدعى المستر بكتون. وذهب الديب للقول: ذهبت الى الرجل فاصغى اليّ باهتمام و غليونه بين شفتيه، ولكن ما أن انتهيت من حديثي حتى قال لي في برود: ''بابكر افندي من فضلك لا تُدخِل على بوليس السودان عمليات البوليس السياسي المصري''.
    نروي هذه القصة لا لابراز وجه من وجوه المهنية في عهد ''الاستعمار البغيض'' الذي وصم به ياسر بوليس السودان، و انتفض غضباً على ذلك الوصف شُرطي متقاعد قرأنا له رداً على ياسر في احدى الصحف، و لكن لنبين مفارقة مذهلة، هى أن مستر بكتون ''النصراني الكافر'' الذي لا يعرف كتاب الله قد اكتنه في عمله ما تقضي به على المسلمين الآية الثانية عشرة من سورة الحجرات.
    * * *
    الخلاف بين المدير والوالي
    الخلاف حول سلطات الشرطة تحول لتناكف بين مدير عام الشرطة ووالي الخرطوم. في ذلك التناكف تحدث مدير عام الشرطة عن واجبات تتعلق بحماية العاصمة القومية ينبغي ان تقوم بها سلطة قومية، في حين استمسك الوالي بنصوص الدستور والاتفاقية، وكلاهما لازم التنفيذ ما لم يجد الله لمدير عام الشرطة مخرج صدق. القضية عويصة معقدة، فخلال التفاوض كانت الحركة حريصة كل الحرص، بعد ان عجزت عن اقناع الطرف الآخر بانشاء عاصمة قومية للسودان لا تخضع للقوانين السائدة في الشمال، على وضع حدود للعاصمة القومية بالصورة التي لا تُخضعها لسلطان والي الخرطوم. وفي كل البلاد الفيدرالية، تدار العاصمة القومية ادارة مستقلة عن الولايات، ففي الولايات المتحدة، مثلاً، تعتبر واشنطون مدينة مستقلة عن كل ولاية. و في التنظيم الجديد لأجهزة الامن وتنفيذ القانون في امريكا أُخضعت مهام محددة للوزارة المركزية الجديدة : وزارة أمن الوطن (Homeland Security) منها، الى جانب الاشراف على حرس الحدود، الجمارك، الهجرة، الامن الدبلوماسي، بوليس الكابيتول (الكونغرس). في ذات الوقت تشرف وزارة العدل (وهى التي تقوم، ضمن واجبات عدلية أخرى، بالاشراف على اجهزة تنفيذ القانون في الولايات المتحدة) على التحقيقات المركزية، مراقبة الكحول والتبغ (وتلك مهمة ذات تاريخ قديم يعود لعهد مكافحة تهريب الخمور من الولايات التي تبيحها الى تلك التي تحرمها)، ومكافحة المخدرات، كما تتولى الاشراف على قوة شبه عسكرية هي ''جنود الولايات المتحدة (US Marshalls) تقدم للولايات العون إن طلبته، لحفظ الأمن في حالات انفراط عقده، و في حالات الكوارث.
    يصدق نفس الأمر على العاصمة البريطانية لندن حيث يتولى البوليس العاصمي (Metropolitan Police) الاشراف على العمل الشرطي في المدينة. ويعود تاريخ انشاء ذلك البوليس الى العام 1829 على يد وزير الداخلية يومذاك السير روبرت بيل. و لا يستثنى من سلطة البوليس العاصمي الذي يبلغ عدد افراده وضباطه الواحد وثلاثين الفاً مما يجعل منه اكبر قوة بوليسية في المملكة المتحدة، إلا المدينة (The City ) وهى مركز المال والذي لا تزيد مساحته على الميل المربع (وذلك أيضاَ لاسباب تاريخية)، وبوليس النقل البريطاني، ولعله شبيه ببوليس السكك الحديدية في السودان.
    فما يريده مدير عام الشرطة بالسودان ليس أمراً بدعاً، ولكن الدستور لا يسعفه. فان افلح في حمل طرفي الاتفاقية على اعادة النظر فيما نصت عليه اتفاقيتهما كان له ما يريد. ولن يفلح الا إن استطاع ان يبين للناس حدود العاصمة القومية. ان فعل ذلك يكون قد ادرك ما عجزت عنه الاوائل.
                  

02-14-2007, 01:24 PM

محمد يسن علي بدر
<aمحمد يسن علي بدر
تاريخ التسجيل: 12-28-2005
مجموع المشاركات: 623

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. منصور خالد .. عامان من السلام : حساب الربح و الخسارة (Re: محمد يسن علي بدر)


    عامان من السلام : حساب الربح والخسارة (9)

    الصحافة السودانية بين حرية التعبير والاخلاقيات المهنية

    في المقالات السابقة تحدثنا عن ضرورة كفالة حرية التعبير ، خاصة بالنسبة للصحافة و وسائل الاعلام بحسبانها كتيبة الدفاع الاولى عن حقوق الناس ، لا عن السلطة الاميرية . تلك الحرية رهينة باحترام حريات الآخرين و حقوقهم ، و الالتزام باخلاقيات المهنة وبالمسئولية الاجتماعية . عهدنا بالصحافة قديم منذ الصبا الغابر : عملنا في جريدة '' النيل '' اليومية تحت ارشاد معلم عملاق هو عبد الرحيم الأمين ، فهدانا الى مجاني الأدب و رياض الشعر ، قبل فن المقال . و عملنا في اسبوعيات شهيرات : '' الحادي '' لمحمد أحمد عمر ، و '' المستقبل '' ليحى عبد القادر ومن خلفه الشريف الراحل حسين الهندي (و تلك لم يبق من آثارها الا ادريس حسن اطال الله عمره ورحم من سبق ) ، ثم جريدة '' الناس '' التي لن ننساها كما زعم كاتب ذو حظ كبير من الأدب و من قلته ، وعملنا في '' الشباب '' نراسلها منذ عهد الدراسة في ثانوية وادي سيدنا وكان لصاحبها البديع عثمان أحمد عمر عليه رضوان الله ، دور في تأديبنا و تأديب غيرنا ، بل امد صحيفتنا الحائطية '' هذيان '' باكثر من مقال كما كان يمدها زميل الدراسة ابراهيم الصلحي برسوماته الباهرة منذ ذلك الزمان . و كان بداية عملنا الصحفي الموثق في جريدة '' الايام '' التي صاحبنا فيها معلماً آخر هو الاستاذ النجيب بشير محمد سعيد رحمه الله و كما التقينا صاحبيه محجوب و محجوب ، و تلك صحبة وشجتها الايام و '' الأيام '' . من هؤلاء تعلمنا درساً اولياً في الصحافة : '' الرأي حر و الخبر مقدس '' . تلك الصحف التي خبرناها وتعلمنا منها تختلف ، بل تتعارض ، منابتها الفكرية و توجهاتها الحزبية .
    مع ذلك ، تعاملنا معها جميعاً ونحن على اقتناع تام ( و لا نقول قناعة ، فالقناعة هى الرضى بما يُقسم كقولهم القناعة كنز لا يفنى ) أن حزبنا الأول هو قلمنا . ثم تولينا في عهد مايو ادارة مؤسسة صحفية هامة هى الصحافة ورثناها عن صديق العمر الراحل جعفر بخيت بعد أن مات ميتة جاحظية ، في مكتبه و حوله كتبه . ورثنا عن ذلك المفكر العملاق داراً ضمت نفراً من ابرع صحفيينا انتقاهم انتقاءً . من هؤلاء نذكر : محمد الحسن أحمد ، شريف طمبل ، عمر العمــــر ، محمد علي محمد صالح ، فضل الله محمد ، محمود بابكر جعفر ، نورالدين مدني .
    ________________________________________
    تلك مقدمة ضرورية نبين فيها اننا لا نتولج في ميدان لا نعرفه . فبروح القارئ و الصحفي معاً نتناول موضوعنا لنقول إنه على مدى عام و نيف ما انفكت الصحافة السودانية تتناول في اخبارها وتعليقاتها قضايا تمس اتفاقية السلام الشامل ، بوجه عام ، و تمس حكومة الجنوب بوجه أخص . تناول الاتفاقية بالتحليل ، وحكومة الجنوب بالنقد ، حق مشروع ان لم تقم به الصحافة خانت رسالتها . وفي هذا ، ظلت اغلب الصحف تتناول تلك القضايا بقدر كبير من المسئولية و الحس الوطني : الخبر فيها موثق ، والتعليق موضوعي . فالصحافة المسئولة تُعَرِض ما يرد اليها من خبر لمُرشحات موضوعية كيما تستوثق من صحتها . كما أن الصحافة التي تحرص ، بحق ، على نيل كل الحقوق التي يوفرها الدستور لها ، عليها أيضاً أن لا تنسى أن نفس الدستور يلزمها بشئ آخر : التزام '' كافة وسائل الاعلام بأخلاق المهنة و بعدم إثارة الكراهية الدينية أو العرقية أو العنصرية أو الثقافية أو الدعوة للعنف أو الحرب '' ( المادة 39(3) ) . بعض الاخبار والمقالات التي سنتناول بالتحليل لو أخذناها بمقتضى ما يقول به الدستور و القانون لوجهنا من أصابهم ضرر من جراء نشرها باللجوء للقضاء . و لكنا نحلل تلك المقالات من منطلق الحرص على دور الصحافة بحسبانها ، كما قلنا ، كتيبة الدفاع الأولى عن مصالح الشعب . لهذا سعدنا كثيراً بما كتبه الصحفي المدقق ، نورالدين مدني ، و جاء فيه : '' اننا نعلم ان هناك مسئولية مهنية و اخلاقية ملقاة على عاتق الصحافيين و المؤسسات الصحفية ، خاصة في هذه المرحلة الانتقالية ، و على الأخص في ظل التوترات الأمنية '' ( السوداني 22/11/2006 ) .
    يختلف الأمر جداً ان كان الخبر خبراً لا يتصل اسناده الى مصدر موثوق به ، بل هو كاذب من أصله . و يختلف جداً إن كان التعليق قائماً في جوهره على التخرص . ويختلف كثيراً لو شابت الخبر أو التعليق ازدواجية جهيرة في الاحكام ، أو تجاهلاً تاماً ، لكيلا نقول جهلاً مستفدحاً ، بنقطتي الاستدلال الاساسيين في الامور التي تتعلق بالسياسة الداخلية الراهنة ، و هما اتفاقية السلام الشامل و دستور السودان الانتقالي ( 2005 ) . و يكون الامر اشد فداحة عندما يتضح ان الهدف ، طوعاً كان ام بدفع خارجي ، هو تبغيض الشماليين في الجنوب ، أو تخذيل حكومته ، أو ترهيب وزرائه في الحكومة القومية كما هو الحال بالنسبة لصحيفة سنسميها وأخريات يتبعنها بدفع خارجي . ولا نريد أن نصدق ما قاله صحافي لنا أن بالسودان نوعين من الصحف : صحفاً تسير بقوة الدفع ، وأخرى قد تتوقف لـ '' عدم '' الدفع . نفهم أيضاً نشر الأخبار المفبركة والتعليقات التي تثير الفتن ان جاءت من صحيفة يُمَنى صاحبها النفس بوقوع بينونة بين الشمال و الجنوب ، و لكن الذي يزعم أن غايته هى الوحدة لا يحمل نفسه على نشر الأكاذيب عن ، أو اذاعة السوء بلا سوء على ، اخوته في الوطن . فالصحافة سلطة تنوير لا تعتيم ، و تعليم لا تجهيل ، و اشهار لا تشهير ، و نقد لا تجريح . التي لا تفعل هذا صحافة لا تَعلم ، و لا تَتَعلم ، و لا تُعلِم . ذلك هو ديدن تلك الصحيفة التي نذرت نفسها لبث الفتن ، و الرهص في الأمور ، و تشويه الحقائق ، والذي هو تلويث للتاريخ . تلك الصحيفة نقرأها كما نقرأ غيرها ، رغم ان قراءتها تقارب المشي على الحسكنيت . و لا تُعَرض انفسنا لهذا العناء إلا لأنا لا نريد ان نصدر حكماً على أحد دون ان نتمعن فيما يقول مبالغة في الاستقصاء . أخطر ما في أمر هذه الصحيفة هو ما توحي به جرأتها و كأنها فوق القانون . فاغلب ما تنشر ، مما سنفصّل بعضاً منه ، يقع تحت طائلة المادة ( 39(3) ) من الدستور . و دون أن ننسب لنورالدين مدني مشاركته إيانا الرأي ، سعدنا أيضاً لما قال : '' نعترف بوجود بعض التناول الضار ، خاصة ذلك الذي يهدد النسيج الاجتماعي . هذا التناول الضار للأسف يجد الحماية القانونية و الأمنية ، و يُحتفى به بدلاً من تقويمه و تصحيح مساره من أجل استكمال عملية السلام و مد جسور الثقة بين أبناء الأمة وتعزيز الحريات والممارسة الديموقراطية المهمة للانتقال الى مرحلة التداول السلمي للسلطة '' ( نفس المصدر السابق ) .

    لأجل ذلك سنتناول عينات عشوائية من مقالات نشرتها تلك الصحيفة ، وأخرى خطتها اقلام كُتاب نعرف عنهم الاحترام لمهنيتهم . في تلك العينات ننتقي موضوعات محددة ، اما لأنها شغلت الناس ، أو لارتباطها بالحكم السليم المعافى ، أو لاجترائها على من يلزم توقيرهم . نشير أيضاً في هذا الاستعراض الى الاخبار التي تسللت الى بعض الصحف عبر وكالة أنباء درجت على دس السُم في الدسم . هذه الوكالة هى الاخ غير الشقيق للصحيفة الحسكنيتية ، و من حق القارئ علينا أن نكشف أمرها . الموضوعات التي سنتناولها هى : أحداث الخرطوم المؤسفة التي وقعت قبيل نهاية العام الماضي و تحميل بعض الصحف مسئوليتها للجيش الشعبي بالرغم من أن بيانات الشرطة الرسمية لم تفعل ذلك ، وبعض قرارات حكومة الجنوب التي تناولتها هذه الصحيفة أو تلك بالنقد القارص ، ثم حديث عن ما اسمى '' تفلت '' وزراء الحركة في الخرطوم ، و اتهامات طالت بعض الحاكمين في جنوب السودان ، و آخرها ما سمي فضائح الفساد . في كل هذه الحالات لا نسعى للدفاع عن موقف و سلوك ، فبعض ما ورد من نقد في بعض الحالات له من المبررات ما يكفي . كما أن من واجب كل مسئول لحق به اتهام تبرئة اسمه وشرفه . في ذات الوقت ، لن نتردد في فضح ما ورد في الاخبار و التعليقات من افتراضات لا يدعمها دليل ، و احكام لا يسندها واقع ، و ازدواجية غريبة في المعايير .العنف العشوائي في العاصمة وأسبابه
    العنف العشوائي سلوك غير سوي ، و لا يتولد العنف الا في بيئة خبيثة . فحروب السودان المتنوعة و المتعددة كانت ، و ما زالت ، مباءة يبيض فيها العنف و يُفرخ . كا أن القهر الذي سد على المواطن كل وسائل التعبير المشروعة قاد ايضاً الى عنف غير مشروع في عين القاهر ، و لكنه كامل المشروعية في عين المقهور . علينا إذاً ، و نحن نتحدث عن العنف ان لا ننسى ان الحرب التي كانت تدور في الجنوب و يقتل فيها الاخ اخاه لم تكن رحلة صيد ، و ان القاذفات الجوية ، كما قال نائب رئيس المجلس الوطني اتيم قرنق لاحدى الصحف ، لم تكن تمطر الناس وروداً . ذلك هو العنف الذي سعينا في مفاوضات السلام لمحاصرة آثاره ، و محو عقابيله ، والتجاوز السمح عن مسبباته .

    بسبب تلك الحرب ، و ظروف اقتصادية قاهرة ، اندفع أيضاً اهل الريف للنزوح للمدينة بحثاً عن مرعى ظنوه اخضر ، و بذلك ، تولد عنف آخر هو تعبير عن حقد اجتماعي . فالتكدس في حد ذاته يولد عند الفرد مشاعر عدوانية ، خاصة في ظل التناشز الاقتصادي الناجم عن وجود فقر مُدقع ( أي مُذِل ) الى جانب ثراء مستفز . و أية درجة من الثراء تستفز من أُدقع أي التصق بالدقعاء و هى التراب .
    كل هذه العوامل مجتمعة تخلق بيئة مواتية للعنف ، بيد أن العنف الذي شهدته العاصمة ، كما شهدته جوبا و ملكال ، هو واحد من الافرازات المباشرة للحرب و التي حددنا بتفصيل أكبر في اتفاقية السلام كيف نحول دونه . و لعل انحصار العنف في الشمال على الخرطوم وحدها ، بدلاً عن استشرائه الى مدن أخرى فيه يتساكن فيها الجنوبيون والشماليون بوئام تام ، يؤكد أن الظاهرة خرطومية . ففي الخرطوم الى جانب تكدس اللاجئين من كل حدب وصوب : الجنوب ، دارفور ، جبال النوبة ، وأولئك الذين حملهم انهيار المجتمع الريفي للنزوح الى عاصمة بلادهم ، قضت الاتفاقية بوجود فصائل مسلحة من الجيش الشعبي لأداء دور مرسوم ، كما بقيت من مخلفات الحرب فصائل أخرى اصطنعتها الحكومة الماضية كواحدة من أدوات الحرب ، ونعرف جيداً ما ينبغي أن يصنع بها بعد الحرب.
    الانفلاتات الامنية في العاصمة ، اذن ، تعالج بمعالجة جذورها لا بالتلبث عند ظواهرها . و كان أغلب رجال الشرطة و مسئوليها على قدر كبير من المهنية في تناولهم لهذه الاحداث عند وقوعها ، و بعد وقوعها . كما توخت اغلب الصحف الموضوعية في نشر الاخبار عنها، اما اعتماداً على بيانات الشرطة أو على الحقائق العيانية . طائفة اخرى من الصحف اجرت تحقيقات أو حوارات موضوعية سعت فيها لتلمس كل وجهات النظر ، مثال ذلك ، أخبار اليوم والصحافة ( 25/11 ) ، الخرطوم ( 8/11 ) . صحف أخرى تناولت موضوع العنف كظاهرة لها جذور و اسباب ( الايام 17/9 ) . و لو رجعت الصحف عن دواعي العنف الذي شهدته الخرطوم الى نقطة الاستدلال الاهم أي الاتفاقية ، بهدف الوصول الى الاسباب المباشرة لتفشي ظاهرة ذلك العنف لما ساورتها الشكوك ، أو حُملت على التساؤل . ابلغ تساؤل جاء على صفحات هذه الجريدة ، كتب الصديق رئيس التحرير في افتتاحيته ( 14/11) مستقصياً ان كانت اتفاقية نايفاشا قد نصت على وجود عدد من قوات الحركة الشعبية '' لحماية الاتفاقية '' ، ثم عن جدوى حماية '' قوات مدججة بالسلاح '' لاتفاقية وقعت عليها '' اطراف دولية و محمية بواسطتهم '' . و اضاف '' لست متأكداً ان وجود هذه الفصائل في الخرطوم قد نصت عليه اتفاقية نايفاشا ام لا ؟ و لا اعرف و لا يعرف كثيرون غيري اسباب وجودها و مهامها '' . استفسر الصديق كمال ايضاً عن '' بقاء بعض قوات فاولينو ماتيب في الخرطوم بعد انضمامه للحركة '' و هو سؤال صحيح الا انه ناقص ، ففي الخرطوم قوات اخرى ما كان لها ان تحمل السلاح بعد انتهاء الحرب ، وان استمرت في حمله فلا ينبغي أن يكون ذلك الا داخل قوة نظامية لها ضوابط وأحكام .
    نبدأ بما هو عرضي ، فالاستاذ المحرر محق في القول ان الاتفاقية وقعت عليها اطراف دولية والتزمت بحمايتها و على رأس الاطراف الدولية الامم المتحدة التي اصدر مجلسها الامني قراره رقم 1509 متضمناً انشاء بعثة الامم المتحدة بالسودان UNMISS) ) و انشأ لها قوة دعم تضم عشرة آلاف عنصر عسكري و 175 عنصراً شُرطياً . واجب هذه القوات ، فيما نحن بصدده ، كما جاء في الفقرة الرابعة من القرار هو المعاونة في انفاذ اتفاقية السلام على الوجه التالي :

    (1) المراقبة و التثبت من تنفيذ اتفاقية وقف اطلاق النار و التحقيق في الخروقات .
    (2) التنسيق مع المانحين حول تكوين القوات المدمجة .
    (3) مراقبة تحركات الجماعات المسلحة و اعادة تشكيل القوات حسب ما نصت عليه اتفاقية وقف اطلاق النار .
    (4) المساعدة في نزع السلاح و تسريح الجنود و اعادة دمجهم في الحياة المدنية .
    وللبعثة واجبات اخرى تتعلق بنشر الوعي بالاتفاقية بكل وسائل الاعلام الجماهيري المتاحة ، و تعميق مفاهيم سيادة حكم القانون ، استقلال القضاء ، صيانة حقوق الانسان . كما تنص الفقرة السادسة عشر من قرار مجلس الأمن على السماح لقوات الامم المتحدة ، بموجب الفصل السابع من الميثاق ، باتخاذ الاجراء اللازم ، في مناطق وجودها ، لحماية موظفي الامم المتحدة ، ومؤسساتها ، و معداتها ، و حرية حركة عناصرها و العاملين في مجال المعونة الانسانية و الآليات المسئولة عن التقدير و التقويم (Assessment and Evaluation) و تلك اشارة للمفوضية التس سلفت الاشارة اليها . كل هذا ، دون اخلال بمسئولية حكومة السودان في حماية المدنيين الذين يتعرضون لخطر ماثل بالعنف . و لو أخذنا بمنطق الاستاذ كمال لوجب علينا ، في الحالة الاخيرة ، التخلي عن مسئولية أوكلها الاتفاق و قرار مجلس الامن لسلطات حكومة السودان ، و هو نفس المجلس الذي لا نريد له ان يلعب دوراً في الحيلولة دون عنف اشد دموية من ذلك الذي شهدته اطراف العاصمة أو جوبا و ملكال ، بل نرى في أي اسهام منه للعب هذا الدور '' تدخلاً اجنبياً '' نعد لمجابهته ما استطعنا من رباط الخيل .

    هذه اشارة عابرة ننفذ منها الى الرد على التساؤلات استخلاصاً من نصوص الاتفاقية حول الاجراءات الامنية و نقول إن الاتفاقية كلها ستنهار أو تصمد بانفاذها أو العجز عن انفاذها للترتيبات الأمنية . أهمية انفاذ الترتيبات الامنية ، على الوجه الذي اتفق عليها الطرفان تعود الى ان ذلك وحده هو الذي يوطد اركان السلام على الأرض . و بلا سلام لن يكون هناك استقرار سياسي ، أو تحول ديموقرطي ، أو تنمية . ما الذي جاء حول هذه الترتيبات في الاتفاقية ؟ تقول الفقرة (1) من الفصل السادس من الاتفاقية ما يلي:

    أ- في اطار سودان موحد ، و في حالة ما أكدت نتيجة استفتاء تقرير المصير الوحدة يتفق الطرفان على تكوين الجيش السوداني في المستقبل والذي سوف يتشكل من القوات المسلحة و الجيش الشعبي لتحرير السودان.
    ب- كجزء من اتفاقية السلام و بهدف انهاء الحرب يتفق الطرفان على ان تظل القوتان منفصلتين خلال الفترة الانتقالية ، و يتفقان أيضاً على ان كلا القوتين يعتبران و يعاملان بالتساوي بحسبانهما القوات المسلحة الوطنية خلال الفترة الانتقالية .
    ج- يتفق الطرفان على مبادئ التخفيض النسبي لقوات كلا الجانبين في وقت مناسب بعد اتمام ترتيبات وقف اطلاق النار .
    هذا الجزء من الاتفاق أصبح جزءاً من الدستور ( المادة 144 ) . فالجيش الشعبي ، حسب الاتفاقية ، و بنص الدستور ، لم يعد جيش تمرد، و لا فصيلاً من الفصائل المسلحة '' الأخرى'' التي قضى الاتفاق بترتيب اوضاعها ، بل هو جزء من القوات المسلحة الوطنية ، رغم ان له قيادته و نظمه الخاصة . هذه حقيقة يجب أن يعيها الذين يتحدثون عن ذلك الجيش وعن المليشيات الجنوبية وكأنهما يتساويان .
    الوصول للصيغة القاضية بوجود جيشين مستقلين في بلد واحد لم يكن سهلاً ، فآخر ما كانت تتمنى سماعه قيادة الجيش الشعبي و جنده كلمة الانصهار . فتجربة صهر الجيشين ، كما حدث في اتفاق اديس ابابا 1972 ، لم تكن تجربة سعيدة بالنسبة للقوات الجنوبية يومذاك . فمع النجاح الباهر الذي تحقق في السنوات الاولى بفضل عسكريين ذوي حس مهني عالٍ مثل عبدالماجد حامد خليل ، الراحل يوسف أحمد يوسف و عبداللطيف دهب ، وهو نجاح حمل اخوتهم في الجنوب لعدم الاصرار على وجود المراقبين الدوليين الذين كانت الاتفاقية تقضي بوجودهم ، أخذت ذرائع السياسة تطيح بالاتفاق . من ذلك خرق ما قال به الاتفاق بأن تتكون القوات المرابطة في الجنوب مناصفة بين الجنود الشماليين و الجنوبيين . وفي اللحظة التي بدأت عمليات نقل بعض القوات الجنوبية للشمال و احلال جنود شماليين مكانهم بالقدر الذي اختلت معه النسب المتفق عليها ، بدأ التململ ، فالتوتر ، ثم العصيان الذي انتهى بقيادته الى بور . و كان اوائل اللاحقين بمن سبق اليها العقيد سلفاكير الذي آثر الهجرة الى بور بدلاً من تنفيذ أمر نقله من بانتيو الى دارفور .
    لم يجئ الاعتراض على وجود جيشين من الطرف الحكومي المفاوض فحسب ، بل جاء أولاً من الجنرال سيمبيو العسكري الذي تمهر في ساندهيرست و لم يجد في كل تجاربه العسكرية نظيراً لما كان يطالب به الجيش الشعبي . و كانت المفاجأة الثانية هى عدم تجاوب المبعوث الامريكي السيناتور دانفورث مع الفكرة ، بل اصطحابه لجنرال امريكي ليبين لمفاوضي الحركة ان ما يسعون اليه هو امر لا نظير له في التاريخ العسكري . كان رد الراحل قرنق ان السودان ايضاً بلد لا نظير له في التاريخ السياسي و قال لهم متسائلاً : '' كيف تفسرون اصطراع الاخوة / الاعداء على مدى نصف قرن حول امور حسمتها اغلب الدول التي مرت بظروف كهذه ؟ '' . بجانب هؤلاء حمل الفريق الباسل عبدالماجد حامد خليل نفسه الى نيروبي ناصحاً لمن التقاه بضرورة عدم الاصرار على قيام جيشين في بلد واحد ، و لم يوفق . و ما كان لهذه القضية ان تُحَل بعد تمترس الطرفين في خندقيهما الا بعد ان وفد الى نايفاشا ( اللواء يومها ) بكري حسن صالح يحمل قراراً سياسياً ذا شقين : الاول هو قبول مبدأ الجيشين و اعتبار كليهما ، رغم تباعد موقفيهما ، القوات المسلحة الوطنية ، و ذلك '' بهدف انهاء الحرب '' كما ورد في الفقرة ب أعلاه . و الثاني هو خلق نواة للجيش الموحد ، عند الوحدة إن شاء الله ، هى القوات المشتركة المدمجة ( joint / integrated forces ). و حتى ذلك القرار ما كان ليتم لولا مثابرة اللواء من جانب ، ومساعفة دينق الور له ، و كان دينق يلعب دوراً اقرب لدور الوسيط من دور المفاوض في تلك الجولات .
                  

02-14-2007, 01:43 PM

Moneim Elhoweris
<aMoneim Elhoweris
تاريخ التسجيل: 06-29-2006
مجموع المشاركات: 429

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. منصور خالد .. عامان من السلام : حساب الربح و الخسارة (Re: محمد يسن علي بدر)


    This excellent, I wish Bakri would put this post on top till Dr. Mansour
    finishes all articles
                  

02-14-2007, 01:43 PM

محمد يسن علي بدر
<aمحمد يسن علي بدر
تاريخ التسجيل: 12-28-2005
مجموع المشاركات: 623

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. منصور خالد .. عامان من السلام : حساب الربح و الخسارة (Re: محمد يسن علي بدر)


    عامان من السلام : حساب الربح والخسارة (10)
    الأوضاع العسكرية الجديدة وكيف تُقرأ ؟

    نصت الاتفاقية على أن تتكون الوحدات المشتركة / المدمجة من اعداد متساوية من القوات المسلحة السودانية و الجيش الشعبي لتكون رمزاً للوحدة الوطنية خلال الفترة الانتقالية و تشارك في الدفاع عن البلاد الى جانب القوتين ، كما تشارك في اعادة البناء ، على أن يكون لها طابع جديد يقوم على اساس مبدأ مشترك ، أو بلغة اخرى ، عقيدة عسكرية متفق عليها .
    ومن أهم ما اوردته الاتفاقية و نقل حرفياً للدستور ( المادة 144(1) ) النص على أن : '' تكون القوتان المسلحتان (القوات المسلحة والجيش الشعبي ) و الوحدات المشتركة / المدمجة قوات مسلحة نظامية مهنية وغير حزبية وعليها ان تحترم سيادة القانون و الحكم المدني و الديموقراطية وحقوق الانسان الاساسية وارادة الشعب '' . بهذا ودعنا بدعة دستورية ابتدعناها في عهد مايو الا و هى دور القوات المسلحة في حماية الدستور . فالمادة 199 من دستور 1973 تكلف '' قوات الشعب المسلحة '' ، الى جانب '' حراسة الوطن وتأمينه والحفاظ على سلامة أراضيه '' ، بمهمة أخرى هى '' الذود عن الدستور '' . ومنذ اللحظة التي يُنَص فيها على أن الجيش هو حامي الدستور ، يصبح مثل هذا النص مشروع انقلاب ، أو تمهيداً لانقلاب مشروع . فحماية الدستور ، كما هو الحال في الوضع الذي انجبته الاتفاقية ، هو مهمة أعلى سلطة قضائية في البلاد ، وعلى وجه التحديد المحكمة الدستورية . وما على القوات المسلحة ، كانت في الشمال أو الجنوب ، الا احترام الحكم الدستوري المدني وارادة الشعب ، أي ارادة الناخبين .
    ________________________________________

    يستشف المرء من هذا التنظيم للقوى العسكرية السودانية غياب تنظيم هام هو الدفاع الشعبي . وعند تداول الأمر بشأنه خلال المفاوضات ، قبلت الحركة ما قال به الطرف الآخر بأن معالجة أمر الدفاع الشعبي والجماعات النظيرة له سيتم في اطار تنظيم القوات المسلحة السودانية ، لا سيما والقوانين التي انشأت هذه التنظيمات تربطها بتلك القوات ، كما يربطها به الدستور الذي كان سائداً يومذاك ( دستور 1998) . فالمادة السابعة من ذلك الدستور تنص على أن '' الدفاع عن الوطن شرف ، والدفاع في سبيله واجب ، وترعى الدولة القوات النظامية والشعبية المدافعة عن أمن الوطن وحماه ، وترعى المقاتلين المصابين بسبب الحرب وأسر الشهداء '' . وعند اجازة دستور السودان المؤقت أُسقطت من النص الاشارة للقوات الشعبية وأصبح النص يقرأ على الوجه التالي : '' الدفاع عن الوطن شرف وواجب على كل مواطن ، وترعى الدولة المحاربين والمصابين في الحرب وأسر الشهداء '' ( المادة 18 ) .
    والى أن يتم ترتيب الأمور حسبما أتفق الطرفان يفترض أن تخضع كل القوات العسكرية الى الضوابط التي حددتها المادة 144 (1) من الدستور والقاضية بأن تكون تلك القوات قوات '' نظامية مهنية وغير حزبية '' وتحترم '' سيادة القانون والحكم المدني والديموقراطية وحقوق الانسان الأساسية وارادة الشعب '' . وليس لدينا ما يحمل على الظن بأنها لا تؤيد السلام ، خاصة ومنسقها العام ما أنفك يردد التزام تلك القوات بالسلام . أما انتفاء التحزب فموضوع آخر . وفي الشهر الماضي وقع حدث أثار هواجس عند البعض حول طبيعة الدفاع الشعبي عبرت عنها مقالات متفرقة في الصحف . أكثر هذه المقالات تعبيراً عن القلق ما أوردته (الأيام) في منبر الرأي ( الاربعاء 20/12/2006). الحدث هو ما ورد على لسان الدكتور نافع علي نافع أمام قوات الدفاع الشعبي بمناسبة الذكرى السابعة لتأسيسه والذي جاء فيه '' ان الانقاذ تعرف ما تريد ومن يحس ان التعددية تعني تغيير جلد الانقاذ فهو واهم '' . ذلك الحديث نشرته ''الانتباهة'' تحت عنوان لافت للنظر هو '' د. نافع يوجه مجاهدي الدفاع الشعبي بالاستمرار في مسيرتهم'' . لن نُحمِل الدكتور نافع المسئولية عن قراءة الانتباهة لما قال ، ولكن تثير الدهشة في حديثه أمور ثلاثة : الأول هو اشارته للانقاذ ، فالانقاذ ليس حزباً وانما مرحلة سياسية انقضت ببروز مرحلة أخرى هى المرحلة الانتقالية التي أفرزتها الاتفاقية ، وخلقت نظاماً جديداً أسمه حكومة الوحدة الوطنية وليس نظام الانقاذ . ولو قال ان المؤتمر الوطني لن يغير جلده لحق له ذلك ، فالحركة الشعبية أيضاً تقول انها ثابتة على مبادئها الأساس . الأمر الثاني أن مخاطبة الدكتور نافع كمساعد للرئيس لأي فصيل من القوات المسلحة السودانية أمر ينبغي ان لا يثير فزعاً إن فعل ذلك بتلك الصفة ، ولكن مخاطبة فصيل يعتبر جزءاً أو قوة ملحقة بالقوات المسلحة من منطلق حزبي أمر لا يجيزه الدستور والاتفاقية لما قرراه بشأن الجيش الوطني على أن يكون جيشاً مهنياً غير حزبي . فالذي نسعى اليه هو صهر هذه القوات بمصهر واحد حتى تصبح قوة متحدة لحماية السلام والنظام الدستوري . ولن يتأتى لنا ذلك ان لم ننأى بها عن التحزب لأن هذا هو ما نص عليه الدستور ، وإن لم نشيع بين أفرادها ثقافة نبذ التحزب لأن هذا هو ما تقضي به روح الاتفاقية .

    القوات والتمويل
    نعود الى القوات المشتركة / المدمجة لنقول ان القيادة والسيطرة command &Controlٌَُُْ على تلك القوات لم تُعهد لوزير الدفاع أو القائد العام للجيش السوداني (القوات المسلحة السودانية ) بل أوكلت لمجلس دفـاع مشترك كJoint Defence Board تتخذ فيه القرارات بتوافق الآراء و يرأسه بالتناوب رئيسا الاركان في الجيشين و يضم نواب رئيسي الاركان و أي عدد من الضباط يتفق عليه . و يعتبر مجلس الدفاع مسئولاً مسئولية مباشرة لدى رئاسة الجمهورية . ومن الجلي ان هذه القوات لا شأن لها بحماية الاتفاقية ، و لم تنشأ لغرض شبيه بهذا كما توحي بعض مقالات الصحف . من جانب آخر ، أبانت الاتفاقية في وضوح تام واجبات القوات المشتركة / المدمجة ، و ممن تتكون ، و المواقع التي تعسكر فيها ، و مصادر تمويلها ، و ضوابط السلوك التي تفرض على عناصرها .
    حول التمويل سال حبر كثيف على صفحات بعض الصحف عقب تمرد أفراد من تلك القوات ينتمون للحركة الشعبية بدعوى عدم استلامهم لبعض استحقاقاتهم . ذلك حدث ما كان للصحافة أن تغفل خبره ، أو تكف عن التعليق عليه . ولكن رغم البيان الرسمي الصادر من هيئة قيادة الجيش الشعبي أصرت احدى الصحف على تحميل المسئولية لذلك الجيش عن عدم صرف الاستحقاقات المتأخرة لتلك القوات ، وأضافت الى ذلك صوراً لمستندات تؤكد دعواها ( آخر لحظة 23/12/2006 ) . تلك المستندات نُسبت لمصدر عسكري لا هو بقيادة تلك القوات ، أي '' مجلس الدفاع المشترك '' ولا الجهة المكلفة بتمويلها ، ألا و هى رئاسة الجمهورية . ومن المؤسي وقوع هذا التلبيس الذي جاء تحت عنوان '' وثيقة خطيرة كشفت الارقام والتواريخ '' أربعة أيام بعد ، وليس قبل ، اجتماع مجلس الدفاع المشترك بالخرطوم ، وهو الجهة الوحيدة المسئولة عن تلك القوات . ذلك الاجتماع انعقد للتداول ، بين أمور أخرى ، في الظروف التي قادت للتمرد . عقب ذلك الاجتماع ( 1819 ديسمبر 2006) أصدر المجلس بياناً ختامياً حث فيه رئاسة الجمهورية على دفع المؤخرات المستحقة لجنود الجيش الشعبي الملحقين بالقوات المشتركة / المدمجة ، أي أنه اعترف بأن هنالك متأخرات واجبة السداد وخاطب بذلك الجهة المسئولة عنها . الخطورة في هذا النوع من التلبيس هو الافتراضات التي تتداعى مما قام به موزعو الوثائق من داخل القوات المسلحة ، ان صح فعلاً أنها صدرت منها : الافتراض الأول هو أن موزع الوثيقة أخفى سراً على رئيس أركان القوات المسلحة وهو الرئيس في تلك الدورة بالذات لمجلس الدفاع المشترك بالقدر الذي جعله يطالب رئاسة الجمهورية بسداد متأخرات مستحقة قامت وزارة الدفاع بسدادها كما جاء في الوثيقة . فلو كان يملك هذه المعلومة لما وافق على قرار مجلس الدفاع الذي كان يترأسه . الافتراض الثاني ، ان صح ان هذه المبالغ قد حولت فعلاً الى وزارة الدفاع لتتولى تحويلها الى الجهة المختصة ، هو ان وزارة المالية التي تعرف جيداً أن هذه القوات لا تخضع لوزارة الدفاع بل لرئاسة الجمهورية ، قد أمرت بتحويل المبلغ للجهة الخطأ وبهذا أوقعت الرئاسة في حرج امام مطالبة مجلس الدفاع لها بسداد مبالغ وجهتها المالية لوجهة أخرى . الافتراض الثالث ان خلطاً قد وقع في أمر التحويلات ، مثلاً ، بين ما هو مستحقات للقوات التابعة لمجلس الدفاع وأخرى تابعة لوزارة الدفاع ، وفي هذه الحالة كان الأجدر بموزع الوثائق أن يُبَصر رئيس مجلس الدفاع ، ألا وهو رئيس هيئة أركان القوات المسلحة نفسه ، بدلاً عن ارسالها للصحف . الافتراض الأخير هو أن جهة ما ذهبت الى التلبيس عامدة ، وهذا أمر خطير يستلزم الضبط في أجهزة ديدنها الضبط والربط ، ان جاء من الداخل ، كما يستلزم التقصي إن جاء من خارجها حتى نضع اصابعنا جميعاً على مصادر التلبيس المفضي للفتن .

    اتفاقية السلام الشامل ، على أية حال ، أبانت بوضوح تام كيف يتم تشكيل القوات المشتركة / المدمجة ، وطرائق تدريبها و تكليفها و نشر تشكيلاتها ، وحددت لذلك موعداً اقصاه اليوم المعين + 21 شهراً ( أي في 9 أغسطس 2006 ) ( الفقرة 20، 3 ) . و النص ، إن أردنا أن نكون أصوليين ، هو ما لا يحتمل معنى غيره . و تقول الفقرة 20 ، 5 في البداية يتعين على الوحدات المشتركة البقاء في شكلها المشترك ، الا ان عملية الاندماج الكامل تتم بحلول الموعد المحدد + 52 شهراً أي في السنة الخامسة من عمر الاتفاقية . وعلى الرغم من احكام الفقرة ( 20) المشار اليها آنفاً يشكل الطرفان عناصر الوحدات المشتركة / المدمجة خلال ثلاثة اشهر من الفترة قبل الانتقالية من مختلف مراكز تدريبهما وتقيم هذه العناصر معاً في موقع واحد للتدريب لمدة لا تقل عن ستة أشهر وبعدها يجري تكليفها .

    بموجب هذا النص قام الجيش الشعبي بانتقاء افضل الجنود من عناصره التي كانت ترابط في الشرق و التي خبرت الحياة و التعامل مع المجتمع الشمالي . تلك هى القوة التي تعسكر الآن في سوبا إنفاذاً لما جاء في الاتفاقية . و قد ابان اتفاق الترتيبات الامنية المواقع التي تحتلها القوات المشتركة / المدمجة على الوجه التالي : خمس فرق مشاة في الاستوائية ، اعالي النيل ، بحر الغزال ، جنوب النيل الازرق ، جبال النوبة و في مدن عينت بالاسم ، و لواء مستقل في الخرطوم '' يتم نشره مع الحرس الجمهوري في سوبا و مع قوة حماية كبار الشخصيات حيث تكون الوحدة الرئاسية و قوة تأمين العاصمة في جبل اولياء '' . هذا ما قاله الاتفاق حرفياً . في ذات الوقت '' اتفق الطرفان على ان الوحدات المشتركة / المدمجة تقوم بحماية حقول البترول، على ان تكون منطقة المنشآت البترولية منزوعة السلاح '' (الفقرة 20147 ) ، وهذا موضوع اتخذ فيه مجلس الدفاع المشترك قرارات في اجتماعه قبل الأخير .
    لو تم انفاذ هذه النصوص لوقانا الله من التلاتل ( الشدائد ) . فلو أصبحت القوات المرابطة في الخرطوم ، مثلاً ، قوات مشتركة لاكتمل ما قالت به الاتفاقية مثل '' وضع مدونة سلوك للجند ، التوعية بعناصر هذه المدونة ، رفض قبول استخدام القوات لترويع السكان المدنيين ، التفريق الواضح بين المهام العسكرية و المهام الشرطية ، عدم التورط في أنشطة غير قانونية أو قد تضر بالبيئة والموارد الطبيعية '' ( الفقرتان 166 و7 ) . ولتم أيضاً '' تبادل الزيارات و تنظيم فعاليات ثقافية و رياضية و عقد دورات تدريبية مشتركة ، و اية انشطة اخرى تساعد في بناء الثقة '' (الفقرة 177 ) . و للجيش السوداني الذي يضم في احشائه مواطنين من كل الملل و النحل تجارب لا تنكر في الضبط و الربط و ازالة الفوارق بين الجنود بحيث يمتثلون جميعاً لقانون واحد ، و يعملون جميعاً ، حتى الموت، من أجل غاية واحدة . الاتفاقية ، اذن ، واضحة وهى مبسوطة لمن يريد القراءة ، وكان على الراغب حقاً في معرفة الحقيقة ، أو طرحها على الناس ، أن يقرأ الاتفاقية ، ثم يتقصى عناصر البطء في انفاذها . و ليس هذا بعسير على من ينشد تعليم الناس لا تجهيلهم ، و لا هو بمستحيل على من يرغب في اشهار الحقيقة لا التشهير بالغير.
    هذا موقع نقف عنده قليلاً لامتحان بعض ما جاء في مقالين لكاتبين من رجال الصحافة المرموقين. كتب أولهما يقول '' على مدى يومين ظللت أقرأ خبراً نشرته معظم الصحف الصادرة يوم أمس الأحد ، و كلما قرأته ارتفعت وتيرة القلق و التوتر '' . ( طه النعمان آخر لحظة 16/8/2006 ) . الخبر الذي اشار اليه الكاتب و نفاه اللواء بيور اجانق نائب رئيس اركان الجيش الشعبي يقول ان شركة دان كورب المتعاقدة مع وزارة الدفاع الامريكية اعلنت اعتزامها الشروع في اعادة هيكلة مقاتلي الجيش الشعبي و تحويلهم لجيش محترف . الموضوع الأهم ، في نظرنا ، ليس هو الخبر و نفي الخبر ، فسنفترض جدلاً حدوثه ، وانما هو الاسئلة التي طرحها الكاتب : '' ما الذي يحمل الادارة الامريكية على التبرع ؟ هل قررت اتفاقية نايفاشا قيام وحدات مشتركة محددة العدد كنواة للجيش القومي بعد ان يتم تسريح القوات الاخرى و ادماجها في الحياة المدنية ؟ '' تلك التساؤلات تفترض ان الاتفاقية الغت من الوجود الجيش الشعبي و لم تبق الا القوات المشتركة / المدمجة ، و تستبدع العون الامريكي لذلك الجيش الذي يفترض ان لا يكون قائماً . لم يقف الكاتب الصحفي المتمرس عند تلك التساؤلات ، بل استنجد برأي من حسبهم راسخين في العلم لتحليل ذلك الخطب الجلل : دعم الادارة الامريكية للجيش الشعبي . في ذلك اورد الأستاذ النعمان ملاحظة منسوبة الى رئيس قسم الدراسات الاستراتيجية بجامعة الازهري تعليقاً على الخبر جاء فيها ان '' الادارة الامريكية تنطلق من استراتيجية محددة هى خلق واقع مختلف في ميزان القوى العسكرية في البلاد ، و ذلك أمر متوقع و لم يكن متوقعاً بهذه السرعة '' .

    يقيناً لو توافر الاكاديمي الاستراتيجي للاطلاع على تفاصيل التفاوض الذي دار قبل توقيع الاتفاقية لما اخترص القول حول نتائجها . مثال ذلك سعى دان فورث الامريكي و من صحبه من الجنرلات لحمل الحركة على عدم الاصرار على مبدأ جيشين في بلد واحد . ولو حرص صديقنا الصحفي الكاتب على الاطلاع على تفصيلات الاتفاق لوقى نفسه من ارتفاع '' الادرينالين '' ، هورمون التوتر . ففي بروتوكول الترتيبات الامنية نص افرد لتمويل القوات المسلحة الوطنية ( الفقرة 21 ) . يقول البروتوكول حول تمويل الجيش الشعبي : '' على حكومة جنوب السودان توفير موارد مالية من كل المصادر المحلية و الاجنبية و السعي الى الحصول على مساعدة دولية '' على أن '' تحول هذه الايرادات عبر بنك جنوب السودان '' . و حتى فيما يتعلق بالقوات المشتركة يقول البروتوكول '' على الطرفين مناشدة المجتمع الدولي لتقديم الدعم الفني و المادي و المالي الاضافي للمساعدة في تشكيل و تدريب الوحدات المشتركة / المدمجة '' ( الفقرة 20105 ) . عدم اعمال الجهد للوصول للحقائق ، خاصة عندما تكون متوفرة للباحث ، أمر ضار في العمل الصحفي ، و لكن الابلغ ضرراً من ذلك هو تحليل الوقائع ابتناءً على الحدس من جانب الأكاديميين ، على الأقل رأفة بالطلاب الذين يتلقون العلم منهم .
    على نفس القيد ، نتناول اشارة اخرى الى موضوع حديثنا وردت بقلم صحفي مخضرم . كتب الأستاذ محمود ابو العزائم ( آخر لحظة 3/9/2006 ) غداة أحداث الخرطوم المؤسية مقالاً غاضباً حَمّل فيه الجنوبيين ، و رئيس حكومتهم خاصة ، المسئولية عما حدث ، كما اتهمهم بالعمل الدؤوب تجاه انفصال الجنوب عن الشمال . قال : '' نذكر للدكتور قرنق عندما وصل الخرطوم وخاطب الجماهير في المركز العام للمؤتمر الوطني قولته الشهيرة ( لقد تعبنا من الحرب ) و كان الرجل مخلصاً و وفياً لما تم الاتفاق عليه . اما بعد رحيله فان الذين جاءوا بعد سلكوا طريقاً آخر يؤدي الى الانفصال '' . ما الذي أتى به من جاءوا بعد قرنق ؟ قال الكاتب '' زار سلفاكير امريكا بدعوة من الرئيس بوش دون علم الخارجية ، و طلب سلاحاً بنصف مليار دولار ، وهمش بعثتنا الدبلوماسية فلم يلتق بها ، أي قد أصبح له وزارة خارجية ووزارة دفاع و هما من الوزارات السيادية ، فهل في بقية الولايات وزارات للخارجية و الدفاع ؟ و هل وزارة الدفاع الاتحادية على علم بصفقة السلاح التي طلبها سلفاكير '' . ثم دعا من بعد لانفصال الجنوب و طرد جميع الجنوبيين من الشمال '' لأن أهل الشمال قاطبة لا يريدونهم '' . عنوان ذلك المقال '' رسالة لعلي عثمان محمد طه '' ، وختامه مناداة نائب رئيس الجمهورية بالاستقالة لأنه وراء كل '' المآسي '' التي تولدت عن نايفاشا .

    الدعوة الغاضبة لانفصال الجنوب عن الشمال لا تستدعي الوقوف الا بالقدر الذي ، أولاً ، نعيد فيه القارئ الى ما قلناه حول انهيار الدومنيو وتشظي السودان جُذاذات ان تم فصل الجنوب على الوجه الذي يريده الكاتب ، وثانياً بالقدر الذي ننبه فيه للخطأ في التعميم ، و المعمم هو التام والكامل من كل شئ . قال ابوالعزايم : '' اخرجوا من الشمال و ليخرج كل جنوبي من الشمال و ليعود الى بلده في الجنوب ، هذا رأي الشمال قاطبة . من هذه '' القاطبة '' المختلطة خرج من يقول للكاتب : '' متى أجريتم هذا الاستفتاء و أخذتم رأي الشمال قاطبة ؟ و هل سيادتكم تمثلون كل أهل الشمال ؟ و متى كانت مثل هذه الأحداث الفردية و غيرها من الأحداث الماضية تشير الى خلل في الاتفاقية ؟ من المسئول عن الأخطاء التي تجمعت وتفاقمت وساعدت على ارتكاب هذه الاحداث الفردية المؤسفة ؟ هل هي سياسة وتوجيهات الحركة أم من أفراد ينتمون لها أو مليشيات ينقصها التدريب والتأهيل المعنوي ؟ و هل علاج هذه الظاهرة يستدعي كل ما قلته في حق الاتفاقية ووحدة الوطن و تماسكه '' ( نقيب (م) احمد عبدالرحيم حسن ، أربجي ) . هذا واحد من قلب أهل الشمال لم نلتقه الا على صفحات الصحف يقول انه ليس من هذه '' القاطبة '' . فالتعميم ضار ، و من الخير لنا جميعاً انتظار ما سيقرره الشعب في انتخابات عامة و حرة حول من يريد ان يحكمه و ما يريد منه أن يفعل . فنحن لا نستنكر ، حتى على من يتمنى فصل الجنوب عن الشمال ، أن يتمنى ما يشاء ، ويدعو لما يريد ، بشرط واحد هو الاحتكام لمنبر شعبي معروف ( الانتخابات العامة ) حتى نعرف رأي الشعب '' قاطبة '' ، بدلاً عن انتحال اسمه و الاثارة بين طوائفه في '' منبر '' يخصه . لذلك لن نستنكر على الأستاذ أبي العزائم دعوته لخروج الجنوبيين من الشمال ، شريطة أن يتيح لأهل الشمال '' قاطبة '' أن يقرروا هذا بالاسلوب الذي تعبر به الشعوب عما تريد .

    ما يستلزم التأني هو التساؤلات التي طرحها الكاتب حول «جيش الحركة»، و تمويله ، و وزارة دفاعه . في ذلك نستعيد أولاً ما أوضحناه من قبل عن قيام قوات مسلحة وطنية ذات ثلاث شُعب لكل منها قيادته المستقلة ومصادر تمويله . كما ليس للجنوب وزارة دفاع و لكن له وزارة لشئون الجيش الشعبي ، حسب مصفوفة التطبيق !%!$Matrix التي تتحدث عن وزارة واحدة للدفاع . و لهذا قررت الحركة ان يكون اسم الوزارة التى ترعى الجيش الشعبي ادارياً في حكومة الجنوب '' وزارة شئون الجيش الشعبي '' . للجنوب أيضاً ، بتوافق الطرفين ، وزارة للتعاون من واجبها تنفيذ مهام تتطابق مع تلك التي تمارسها السلطة القومية. فالجدول دال (الفقرة 19 ) الملحق ببروتوكول اقتسام السلطة ينص على ما يلي : '' دون الاخلال بالنظم القومية ، و في حالة ولايات جنوب السودان ، ( الحق لحكومة الجنوب ) المبادرة باتفاقيات دولية و اقليمية و التفاوض بشأنها و اتمامها في مجالات الثقافة و الرياضة و الاستثمار و القروض و المنح والمساعدة الفنية مع الحكومات الاجنبية و المنظمات غير الحكومية الاجنبية '' ، وقد ضُمن هذا الحق في المادة 46 من دستور جنوب السودان ، ولتفعيل هذا التعاون قررت حكومة الجنوب انشاء مكاتب اتصال لها لمتابعة المبادرات التي اشارت اليها الاتفاقية والدستور دون تغول على الواجبات والمهام التي تقوم بها بعثات السودان الدبلوماسية في البلاد التي تنشأ فيها هذه المكاتب . ولعل الحكمة تقضي بأن تتشاور وزارة الخارجية مع حكومة الجنوب حول الضوابط التي تحول دون ذلك التغول ، أو تقود الى سوء الفهم للمهام والاختصاصات ، خاصة والاتفاقية تشير الى ممارسة حكومة الجنوب لهذه المهام '' دون اخلال بالنظم القومية '' . من جانب آخر ، فان الظن بأنا نبتدع جديداً بهذا النظام ظن غير سليم ، ولهذا فعلى الدبلوماسية السودانية أن تقترب من الموضوع على نحو غير تقليدي يأخذ في الاعتبار المفاهيم الجديدة التي طرأت على القانون الدولي والتجارب الدولية المعاصرة . فعلى سبيل المثال ، رغم عضويتها في منظمة التجارة العالمية فقد وافقت الصين على أن تكون لهونق كونق عضوية مستقلة في تلك المنظمة وفي صندوق النقد الدولي ، ولكويبك ، رغم أنها جزء من كندا ، مكتب اتصال تجاري في لندن ، كما لاقليمي كاتلونيا والباسك ، وهما جزء من اسبانيا ، مكتبان في بروكسل لمتابعة القضايا ذات الصلة بالاقليمين . كما درجت الدنمارك على ضم عضوين في وفدها للجمعية العامة للامم المتحدة يمثلان قرينلاند والتي هى ، الأخرى ، جزء من مملكة الدنمارك .

    لكل ذلك ينبغي أن نفهم الامتيازات والحقوق التي وفرتها الاتفاقية لجنوب السودان كضمانات تُطمئن الجنوب على أن الخروقات التي لحقت بالاتفاقيات أو الوعود السابقة للجنوبيين لن تتكرر . من ذلك اثبات حقه في ادارة شئونه دستورياً ، وتوفير ضمانات عضوية Organic Gurantee تحميه مثل بقاء الجيش الشعبي إن عَنّ لمغامر ان يعود بنا الى الحرب من جديد ، وتمكين أهله ، حسب وزنهم السكاني ، في الحكم القومي كتأكيد جهير بأنهم لم يعودوا مواطنين من الدرجة الثانية في وطنهم . تلك هي مقومات الوحدة الجاذبة التي جاء الراحل جون قرنق بطوعه الي الخرطوم لانفاذها ، و لم يجئ اليها من أجل الحكم بأي ثمن . فقبيل سفره الى الخرطوم قال له احد صحبه المقربين '' أو لا تخشى على نفسك من الذهاب للخرطوم ، و كأنه كان يقول له '' إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك '' . رد عليه قرنق '' لقد قدت شعبي في الحرب لعقدين من الزمان ، و لن اتخلى عن قيادته في السلام ، و الموت نهاية كل حي '' . يالتلك من نبوءة ، و يالقرنق من قائد حديد النفس يأبى إلا أن يمشي في الحرب أو السلام قُدماً لا يتوانى . فالذي يخرق الاتفاق ليس هو الذي ينبه الى ضرورة انفاذه ، و يلح في ذلك ، و من بين هؤلاء النائب الأول الذي أكد بعد أحداث جوبا وملكال أن لا بديل لانجاز الاتفاقية كيما لا تتكرر مثل تلك الأحداث ، والنائب علي عثمان الذي قال في حديثه للاذاعة البريطانية : '' وقع بعض التأخير في تنفيذ الاتفاقية و في تقديري أن الحل يكمن في نزع السلاح وتجريد هذه المجموعات تماماً حيثما كانت مع توفير بدائل لكسب العيش وللاستقرار في اطار الحياة المدنية '' ( ظهر الأحد 4/12/2006 ) . ثم أخيراً ، وليس آخراً ، الرئيس البشير الذي قال في خطابه في الذكرى الثانية للاتفاقية بجوبا : '' الاتفاقية زي ما هى معروفة ومكتوبة ومفصلة نحن نلتزم بها التزاماً قاطعاً لأنها حقيقة هى أهم انجاز في تاريخ السودان بعد الاستقلال '' . الذي يخرق الاتفاقية هو من يغفل أو يتغافل عن نصوصها ، أو يستهين بالاستحقاقات المترتبة عليها ، شريكاً كان ، أو معلقاً يساوره ظن بأن الجنوب نال أكثر مما يستحق . فالذي نحن مطالبون بانفاذه لاستدامة السلام وتحقيق الوحدة هو ما قالت به الاتفاقية وليس مُنى المتمنين .
                  

02-14-2007, 01:53 PM

محمد يسن علي بدر
<aمحمد يسن علي بدر
تاريخ التسجيل: 12-28-2005
مجموع المشاركات: 623

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. منصور خالد .. عامان من السلام : حساب الربح و الخسارة (Re: محمد يسن علي بدر)



    عامان من السلام : حساب الربح والخسارة (11)
    العنف المنفلت .. أم انفلات وسائط الاعلام

    السودان والاندلس

    أحداث الخرطوم وُجِد لها صديق آخر من أهل الصحافة وَجداً و موجِدة ، والوجَد حزن والموجِدة غضب . كتب الاستاذ حسين خوجلي غداة احداث جبل الاولياء ينوح : '' الوطن الذي يبكونه بدموع النساء ، وطن لم يحافظوا عليه بشرف الرجال ، اضاعوه مثلما فعلها بالأمس عبدالله الصغير وهو يغادر آخر قلاع قرطبة باكياً و يسلم الأندلس بقرآنه و ينابيعه و قصوره و مساجده وثروته الفكرية بلا توقيع مشهود للصليبيين '' ( ألوان 18/11/2006 ) . إن قرأنا ذلك المقال بعين الاديب فهو مقال بليغ ، بل علنا استذكرنا معه ، دون نواح ، قول المقري التلمساني في مقدمته لكتابه البديع حول الاندلس ( نفح الطيب) : '' محاسن الأندلس لا تستوفي بعبارة ، ومجاري فضلها لا يشق غباره . وأنى تُبارى وهى الحائزة قصب السبق ، في أقطار الغرب والشرق'' . ولكن ان قرأنا مقال حسين بعين السياسي وجدنا فيه خروقاً و فتوقاً وخروجاً عن الموضوع ، ثم رمياً بالبهائت . المقال بعيد كل البعد عن مواضيع مقالاتنا ، بُعد الاندلس عن السودان في الجغرافيا والتاريخ . مع ذلك فالاندلس نفسها ، رغم ثروتها الفكرية و ينابيعها و قرآنها ، لم تكن جنة وارفة الظلال من جهة الحكم والسياسة ، و هذا هو موضوعنا.

    أولاً، الذين ذهبوا الى الاندلس لم يذهبوا اليها الا غزاة بعد ان حُمل الامويون بعد هزيمة بني العباس لهم على '' طلب بطن الارض من بعد ظهرها''، كما يقول المؤرخون . وصفهم بالغزاة ، لا ناشري الدعوة ، قال به من هو أقرب اليهم منا . قال الامام ابن حزم : '' مع ما لم نزل نسمعه سماع استفاضة مُوجب للعلم الضروري أن الاندلس لم تُخمس وتُقسم كما فعل رسول الله فيما فتح ، ولا استطيبت أنفس المستفتحين وأقرت لجميع المسلمين كما فعل عمر رضي الله عنه فيما فتح ، بل نفذ الحكم بأن لكل يد ما أخذت ووقعت فيها غلبة بعد غلبة البربر والافارقة والمصريين فغلبوا على كثير من القرى دون قسمة ، ثم دخل الشاميون في طالعة بلج بن بشر بن عياض فأخرجوا أكثر العرب والبربر المعروفين عندهم بالبلديين عما كان في أيديهم '' ( رسالة التلخيص لوجوه التخليص في رسائل ابن حزم ) . لا غرو إذن ، ان كان الصراع فيها صراعاً على التملك بين القبائل الغازية : مُضَر ويَمَن ، وكان من أول ما فعل هؤلاء هو إتخاذ زوجات لهم من أهل البلاد ممن يسمون عجم الاندلس ، ويطلق على من اسلم منهم '' المسالمة '' . من بين هؤلاء كان عبد الرحمن الداخل نفسه الذي دعا ملك الافرنج للصلح والمصاهرة ، فكان الصلح ولم تتم المصاهرة . ومع اشتداد الصراع على الأكوار ( المناطق كما كانوا يسمونها ) ذهب الداخل وابناؤه واحفاده ( هشام والحكم ) الى الاستكثار من المماليك وجعلوا منهم جل فرسانهم واطلقوا عليهم اسم '' الخُرس'' لانهم لا يتحدثون العربية . فعلوا ذلك لاستوحاشهم أهلهم العرب واسترابتهم منهم حتى وصفهم واحد منهم ، ولعله الحكم بن هشام ، بأنهم أهل دَغَل وحَسَد . ومع التسامح الغريب مع أهل الملل الأخرى ( النصارى واليهود) كان حكام الاندلس ، مع كل ما عرفته بلادهم من تفتح فكري ، زُمتاء في الدين بصورة لم يعرفها أهلهم الامويون الذين خلفوا من ورائهم ، ولم يعرفها ، بالطبع ، العصر العباسي الأول ، عصر التوهج الفكري منذ عهد المأمون ، الملك الشمس . فقد حرق الاندلسيون كتب شيخهم ابوعبدالله بن مسرة الذي أسس ونشر الفقه المالكي في البلاد ورموه بالزندقة فهرب الى المشرق ، ورموا بالزندقة مؤرخ الاندلس العظيم ذا الوزارتين لسان الدين بن الخطيب صاحب '' الاحاطة في اخبار غرناطة '' فقتلوه . واتهموا الامام ابن حزم بالزندقة لاباحته دراسة المنطق والفلسفة وحرقوا كتبه ، و تآمروا على شيخ فلاسفتهم ، ابي الوليد بن رشد وحرقوا كتبه هو الآخر . ولم يكن ضياع الاندلس الا بسبب تحالفات تفتقر الى نبل الغرض وكان آخرها تحالف ابي عبدالله بن مزدنيش ، ملك بلنسية ، مع الفرنجة ، و الذي انتهى بالقاء الموحدين القبض عليه و ابادته . هذا تفصيل لم تدفعنا اليه غير الرومانسية المفرطة في المقال البليغ ، وما المقال ، في حقيقته ، الا هروب الى الامام من مشاكلنا الراهنة.

    على أن أهم ما في المقال ليس هو ما عبر عنه من وَجد ومَوجِدة، و انما أمران آخران . الأول هو نظرية الحق التاريخي في الاندلس لورثة بني عبد شمس في السودان ، لا في دمشق . أوليس هذا هو نفسه ما يطالب به أحفاد يعقوب بن ابراهيم والاسباط بنوه : رأوبين وزبولون وشمعون ، وبنيامين ، في أرض فلسطين . الأمر الثاني هو الذهنية التي تولد عنها المقال لأنها ذات صلة وثيقة بالقضايا التي يحتدم حولها النقاش في السودان منذ زمان طويل : قضايا الوطن وهُويته . لهذا ، نقبل على تلك المناحة عقب حدث دواعيه واضحة ، وسبل علاجه اكثر وضوحاً ، من عدة وجوه . أولاً، المقاربة بين شمال السودان والاندلس مقاربة غير موفقة ، فأهل الشمال لا يبتغون فتح الجنوب كما فتح العرب الأندلس ليتقاسموا أرضه فيما بينهم . كما لا يريدون ان يفرضوا على أهله دولة دينية ، و لو كان هذا هو ما يريدون لما أشرع الحزب الذي تبني المشروع الاسلامي في السودان أبوابه للنصارى ليحتلوا أعلى مراقبه ويرددون في جلساته ترنيمة الشكر '' هلالويا '' ، الى جانب من يهيللون ( لا اله الا الله ). و لما وَقّع الاب الروحي للحزب مذكرات التفاهم مع '' الكافرين '' . ثانياً لو ألح كل واحد من أهل السودان الشمالي علي اختزال التاريخ على هذا الوجه ، بل على إستيلاد تاريخ لنفسه يعود به الى جذوره القصية خارج النطاق الجغرافي للبلاد ، لحق لأهل السودان الاصليين من النوبة وغيرهم من نسل حام ، أن يقولوا ما بال هؤلاء '' الأعراب '' ينكرون تاريخاً لنا انجب الاقيال مثل بعنخي و تهراقا و ملكات ورد ذكرهن في الانجيل . استرجاع التاريخ على هذا النحو هو ضرب من التدليك الروحي ولا شأن له بالسياسة الواقعية العملية في بلاد فيها المسلم والنصراني و أهل الديانات التقليدية ، كما فيها العرب ، و غير العرب ، وعرب آخرون ما فتئوا يتحدثون عن جذورهم في الجزيرة العربية ، و لا يرضون بغير قريش فيها ، و لا يختارون من قريش إلا بني هاشم ، إذ لم نسمع واحداً من هؤلاء نسب نفسه الى عبد شمس ، وكليهما لمناف.

    ما أغنانا عن كل ذلك . فالسودان الذي نعرف ، و نتمنى ان نُبقي عليه ، هو الارض التي تساكنتها عبر قرون أقوام اصلية و اخرى وافدة . تلك الاقوام تمازجت و انصهرت حتى أصبحت لها لغة واحدة للتواصل ، ان لم تكن قد رضعتها من اثداء الامهات ، فقد تبنتها لكيما تصبح لغة للتواصل الحياتي بينهم . هذه اللغة يتحدث بها حتى الناطقين بغيرها من لُغى في الجنوب الاستوائي لكيما يتواصلوا مع اخوتهم الجنوبيين في الأمور الحياتية ويسمونها عربي جوبا ، وهي عربية رغم هجنتها. بكل هذه الخصائص اعترفت الاتفاقية التي وصفها صاحب '' ألوان '' بأنها اتفاقية صماء لا تفرق بين الفرض والمندوب ، و أوجدت الأطر التي تصهرها و تنميها و تعترف بمقوماتها من أجل خلق وجدان وطني مشترك ، لا افتئات فيه على دين أو لغة أو ثقافة . ثالثاً الشاعر يتمنى وفي التمني خيال وافتعال ، والمفكر يتأمل ويأمل وفي الأمل اختيار . و لا اختيار الا بين ما هو واقع عملي محسوس و ممكن ، خاصة في دنيا السياسة . فليس من الممكن ، مثلاً ، استدعاء الماضي للانكفاء عليه ، أو تشييد الحاضر على اختزالات تاريخية استرجاعية . كما ليس من المستطاع استيلاد تاريخ ضارب في القدم والزام الناس بِمُحاياته في هذا الزمان . أقرب الى مسلمي السودان من '' الاندلس بقرآنه ومساجده '' قباب شيوخ السمانية والقادرية والادارسة والشاذلية والختمية ، فالاسلام في السودان راسخ برسوخ قباب الاوتاد والاقطاب بين هؤلاء .

    خشيتنا من أن يكون الكاتب الأديب رهيف الأحاسيس من أصحاب النظرية القائلة بجواز فناء الثلث ليبقى الثلثان . أوليس هذا ما يوحي به قوله إن هناك من لم يحاربوا بشرف الرجال ؟ هل هذه دعوة لهم ليديموا الحرب حتى يتحقق لهم النصر كما تحقق ليوسف بن تاشفين ؟ ربما ، لو كان العالم كما تركه ابن تاشفين . ولكن عالم اليوم ، لسوء حظ الأستاذ حسين ، فيه مجلس أمن ، و فيه ميثاق لحقوق الانسان ، و فيه منظمات سلم و أمن اقليمية و شبه اقليمية ، و فيه صواريخ تعبر القارات ، ولا نحسبن أخانا صاحب '' ألوان '' يجهل الموقع الذي قادنا اليه تجاهل هذه الحقائق الناصعة ، مهما كانت درجة كرهنا لها . الذين تجاهلوا هذا الواقع كانوا على درجة كبيرة من التصالح مع النفس ، قسموا العالم الى فسطاطين ، ونجوا بدينهم الى فسطاطهم في مغارات باكستان وافغانستان ، لا الى وطن تحكمه مواثيق دولية واقليمية .
    وبعد ، نقول إن الذين وقعوا الاتفاق لم يكونوا رجالاً تنقصهم العزيمة ، بل كانوا سياسيين راشدين جديرين بقول الحق فيهم . فالاتفاقية ، كما قلنا ، لم تكن ضربة حظ بل نتاج معركة ثقف فيها كل طرف معارفه عن الآخر ، ثم تعاملوا بوعي مع الواقع الذي يحيط بهم ، وقدروا الممكن و غير الممكن فيه . هؤلاء أيضاً ، تلمسوا نبض الخارج بما فيه الاقليم الذي يحتوينا مع غيرنا ، وتحسسوا طاقة أهلهم لاحتمال المزيد من الدم والعرق والدموع ، ثم بنوا موقفهم على ضوء ذلك التقدير . فأصغر ضابط في أدنى معركة لا يُقدم على معركته تلك الا بعد '' تقدير الموقف '' . غير ذلك لا يفعله الا المغامرون . ولو ذهبوا بمنطق '' لو فنى الثلث '' لما بقي الثلثان أو نصفهما ، بل لعفَت الديارُ محلها ومقامها . رابعاً، ربما يتمنى الكاتب ، وهذا ما نتلمس في مطاوي مقاله ، أن يذهب الجنوب بعد تلك الاتفاقية التي منحته أكثر مما يستحق . الظن أن هناك من يمنح و يمنع الحقوق في الوطن الواحد ظن باطل ، فالله وحده هو المانح و المانع ، وليس لأحد منا حق أكثر من الآخر في هذا الوطن الكبير الذي يتمالكه على الشيوع ما يربو على الثلاثين مليوناً من البشر . وعلى كل ، ففي مثل ذلك التظني يأس غير مستحب من رجل طالما دعا لوحدة القطر . حقا لقد طاش سهمك ايها الكاتب الاديب عن هدفه .

    المجموعات المسلحة الأخرى
    منظومة الترتيبات الامنية تناولت أمراً آخر ذا صلة مباشرة باحداث الخرطوم و ملكال هو ما اسمته '' المجموعات المسلحة الأخرى '' . يقول الاتفاق : '' لا يسمح لأية مجموعات مسلحة متحالفة مع أي من الطرفين بالعمل خارج نطاق القوتين . أما المجموعات المسلحة الاخرى الراغبة والمؤهلة فلها ان تنضم أو تندمج في القوات النظامية التابعة لأي من الطرفين ( الجيش ، الشرطة ، السجون ، قوات الحياة البرية ) ، بينما تندمج البقية في الحياة المدنية ومؤسسات المجتمع المدني ( الفقرة 11-3 ) . إنفاذ تلك الاجراءات أوكل للجنة من الطرفين ( ثلاثة من كل طرف ) و مراقب مستقل من الامم المتحدة لضمان حرية الاختيار لهذه العناصر ، و الاشراف على عملية الدمج ، و توفير منبر للنقاش ، و مراقبة نزع السلاح و التسريح و الاندماج ( الفقرة 11-5 ) . فوجود أي عناصر من القوات التابعة لفاولينو ماتيب في الخرطوم بعد اندماج قواته في الجيش الشعبي و رحيله الى جوبا أمر غير مقبول و هذا هو النصف السليم من تساؤل الأخ رئيس تحرير هذه الصحيفة في مقاله الذي أشرنا اليه . النصف المكبوت في سؤاله هو : '' لماذا تبقى في ملكال أو واو أو الخرطوم أية قوات أخرى مدججة بالسلاح ممن حدد الاتفاق شهوراً معدودات لتسريحهم و نزع سلاحهم ثم اعادة دمجهم في قوة نظامية معروفة لها قوانينها و ضوابطها ، أو اعادة تأهيلهم من جانب من كان يرعاهم ، لاداء عمل نافع '' .
    بعيداً عن تبادل الاتهامات الذي لا يليق بالشريكين ولا يجدي نفعاً فان المشكل الذي امامنا مشكل صغير كبير . هو صغير لأن الحلول له راقدة امامنا لا تخفى عن فطنة اللبيب و غير اللبيب . و أحسن الاستاذان غازي صلاح الدين غداة الأحداث ، و علي عثمان في حديثه للبرنامج العربي للاذاعة البريطانية ، عندما أعلنا أن الحل كامن في تنفيذ منظومة الترتيبات الامنية كما أبانتها الاتفاقية . لهذا نعجب ، مثل استعجابنا من النقد أو التحليل المتعجل لظاهرة انتشار المجموعات المسلحة '' غير النظامية '' في الخرطوم ، لما يقوله بعض المعارضين كلما وقع حدث من تلك الاحداث المؤسية . قول هؤلاء هو أن الازمة تكمن في ثنائية الاتفاق ، أو أن العلاج لها لن يتم إلا في المؤتمر الجامع ، و كأن الأذى الذي يصيب المواطنين مدعاة للشماتة أو للخلط بين الأمور .
    موضوع العنف له جانبان ، الأول هو العنف كظاهرة تتعدى الاحداث العابرة في الخرطوم او ملكال أو جوبا . لدرء ما ينجم عن تلك الظاهرة من أذى و ضيق ، للقوى السياسية دور ، و للمجتمع المدني دور ، و للصحافة دور . تلك الأدوار تتفاوت بين الوصول الى مواقع الازمات لازالة الاحتقان ، والتشريح العلمي لاسباب الظاهرة و ابانة الحلول لها ، و تحديد مسئولية الدولة عنها فيما يليها ، ثم توعية الرأي العام بالحقائق لا بالاغماض عنها أو غمطها ، و غمط الحقيقة هو انكارها و انت تعلمها . التهاء المؤسسات السياسية بالصراع على السلطة أنساها واحداً من أهم واجباتها الا و هو صيانة النسيج الاجتماعي للبلاد . و لعلنا في هذا المقام نشير الى واحدة من منظمات المجتمع المدني عالجت الأمر بما ينبغي ان تعالجه مثيلاتها . نشير هنا الى مخاطبة المركز السوداني لدراسات حقوق الانسان لرئاسة الجمهورية منبهاً الى ضرورة احكام تطبيق الترتيبات الامنية على الوجه الذي جاءت به الاتفاقية درءاً للفتن ، فما كل تفجر في المجتمع يقع عَرَضاً يصلح لأن يكون قداحة لاشعال الثورة ضد النظام .

    الجانب الثاني هو المشاكل الراهنة التي تفجرت بسبب التلكؤ في انفاذ الترتيبات الامنية . تلك مشكلة لن يحلها نعي الثنائية بمعنى التشهير بها ، بل أن علاجها ، في واقع الأمر ، لن يكون إلا ثنائياً لأنه بيد من يمسكان بمفاتيح التحكم في هذه القوات : القوات المسلحة و الجيش الشعبي . وحين أوضح النائب الأول لرئيس الجمهورية في خطابه بجوبا في 9 يناير المنصرم المآسي التي وقعت ، والمخاطر التي قد تنجم عن استمرار بقاء هذه المليشيات ، أكد الرئيس البشير في ذات المنبر مسئولية القوات المسلحة السودانية عن الحل الجذري للمشكل موضحاً ما يكتنفه من عقبات . قال إن حل المليشيات من المشاكل المحتاجة لحلول عملية ... '' نحن في الخرطوم ممكن نعلن أننا حلينا كل المليشيات ونوقف الدعم لها .. لكن سوف يظل الناس ديل موجودين على الأرض مع قبائلهم ويكونوا مشكلة لحكومة الجنوب . نحن عايزين حل يرضي الناس كلهم ما عايزين حل يخلق مشكلة لا لينا ولا لأخوانا في الجنوب '' . وهذا هو ما ينتظره أهل الشمال والجنوب معاً .

    الوكالة وسايكولوجية الحرب
    قلنا ان المشكل صغير و كبير . هو كبير ان كان هناك من يتمنى لهذا الوضع المشتعل ان يستمر ، و لا تعنيه عقباه . في مطلع هذه المقالات تحدثنا عن وكالة انباء تدس السُم في الدسم ، و هى وكالة لها تاريخ . انشئت تلك الوكالة(s.m.c) في سنوات حرب السودان الساخنة ، و ما زالت تحسب ان السودان يعيش اجواء حرب باردة . كنا نقرأ ما تنشره تلك الوكالة من اكاذيب مسمومة ، و لا نبالي لان تلك الاكاذيب كانت جزءاً من المجهود الحربي . وذات مرة التقانا صحافي منها في نايفاشا ينشد رأينا فيما يدور . قلنا له ان الحديث مع وكالة انباء لا تحترم المهنية ، و لا تدرك متطلبات الظرف السياسي ، و لا تملك الذكاء ، لا يفيد و لا يجدي . سأل الصحافي ( و لعلهما كانا اثنين ) ما مدعاة الهجوم ؟ قلنا له لقد أوردتم خبراً ، و المفاوضات تسير على قدم وساق في كينيا ، زعمتم فيه أن سلطات مطار لندن اعترضت السيدة ربيكا قرنق و بحوزتها بضع ملايين من الدولارات و نسبتم الخبر الى اسبوعية لندنية . و عند تقصينا الخبر مع الصحيفة اللندنية أنكرت صحة نشرها لذلك الخبر أو لأي خبر عن السودان و السودانيين ، و ماكان لنا ان نتقصى لأنا نعرف جيداً أن تلك الصحيفة هى من أقل الصحف أحتفاء بالانباء الخارجية ، خاصة عن بلاد العالم الثالث . قلنا للصحافي : عدم المهنية يكمن في نسبة الخبر لصحيفة من الواضح انكم لا تعرفون منهجها ، و ربما تجهلون ان للصحف في بلاد العالم المتقدم ارشيفات تعود اليها بالضغط على زر في جهاز حاسوب ، لا بالبحث عن الرواجع في المخازن بعد نفض الغبار عنها ، هذا ان لم تكن قد قرضتها الفئران . و عدم الاحساس الوطني بخطورة الموقف جلي في نشر خبر عن زوجة اكبر رأس في الحركة ، في الوقت الذي كانت المفاوضات تدور فيه لاقناع تلك الحركة ، أو استمالتها ( سمه ما شئت ) من أجل الوصول معها الى اتفاق . أما عدم الذكاء فيكمن في اتهام سيدة تعيش في مدينة مثل نيروبي و تعرف الطريق الى مصارفها الانجليزية الاصل : باركليز ، ستاندارد ، بحمل هذه المبالغ الطائلة في جُعبتها .

    تلك أمور حسبنا أننا خلفناها وراء ظهورنا ، ولكن تلك الوكالة لا تريد لنا الا العيش في اجواء الحرب . ففي خلال الأشهر الفائتة دأبت تلك الوكالة على شيئين : الأول هو الاعلام المضاد ضد الحركة الشعبية بتلفيق الاخبار عن نشاط ذراعها الشمالي وبثها في بعض الصحف ، و الثاني هو تلقيح الفتن خاصة عقب احداث ملكال . ففي الثالث من أكتوبر الماضي أشاعت الوكالة خبراً زعمت فيه ان نفراً من الجنوبيين في مكتب الحركة بالشمال ( سمت منهم اقوك ماكير ، ملونق مجوك ، دينق كوج ) غاضب على رئيس القطاع وعبروا عن غضبهم ذلك برفع مذكرة لرئيس الحركة سلفاكير . هذا خبر أنكره من نسب اليهم الغضب ، كما أنكره واستنكره رئيس الحركة . و عقب أحداث ملكال و مطالبة النائب الاول بالقبض على اللواء جبرائيل تينق استنطقت الوكالة اللواء المتهم ليس فقط لينفي التهمة عن نفسه ، فهذا حق مكفول لكل متهم ، وانما ليتحدى النائب الاول للرئيس بقوله : '' كنت في الجنوب لعشرين عاماً فلماذا لم يقبض سلفا على ؟ '' ( الوطن ، 12/12/2006 ) . فاللواء جبرائيل إما ان يكون حقاً ضابطاً بالقوات المسلحة ، كما يدعي وتشير المعادن التي تُحلي كتفيه ، و في هذه الحالة لا يجوز له الحديث في أي أمر عام ، أو يجوز لاحد استنطاقه الا بإذن من رؤسائه . أو ان يكون مواطناً عادياً لبس السلاح خَلساً ، فيكون بذلك قد ارتكب جرمين . هذه بدهيات ينبغي أن تلم بها وكالة أنباء نعرف جيداً ، بحكم ماضيها ، لمن كانت تنتمي ، ولا نعرف ـ على وجه التدقيق ـ لمن تنتمي اليوم . و لو فعلت هذا صحيفة عادية لكانت قضية من بعينهم الأمر مع اللواء المتهم و ليس مع الصحيفة .

    أشاعت نفس الوكالة حديثاً للعميد فيليب مشار من غرب النوير يعلن فيه تخليه عن الجيش الشعبي و انضمامه لقوة دفاع جنوب السودان ( الانتباهة 6/12/2006 ) . و بموجب الاتفاقية لم يعد في السودان ، شماله و جنوبه ، قوات عسكرية مشروعة غير القوات المسلحة و الجيش الشعبي و القوات المشتركة / المدمجة . وجود أية قوات أخرى ، مثل تلك المسماة قوات دفاع جنوب السودان ، خرق للاتفاقية ، و الترويج له تواطؤ على الخرق . و بعد بضع أيام نقلت نفس الوكالة عن جيمس اندريا رئيس حزب العمل القومي تصريحاً يقول فيه انه سيسعى لتكثيف العمل بولايات الجنوب العشر ، مؤكداً على ولايتي بحر الغزال و أعالي النيل ( ولايتي المليشيات ) ( الحياة 18/12/2006 ) . هذا ليس بخبر حتى يُوزع على الصحف ، و لهذا لم يجد مكاناً للنشر في صحف كثيرة تُميز بين الأخبار . ففي الجنوب أكثر من حزب ، بعضها في الحكومة ومنه حزب المؤتمر الوطني ، و بعضها في المعارضة البرلمانية و من بين تلكم الاحزاب ، أحزاب الجنوب التاريخية مثل سانو ويوساب ، لا تورد صحف الخرطوم خبراً عنها ، الا ان كان المراد بالخبر التلويح ، أو الاعداد ، لانشاء غطاء سياسي للعمل العسكري المنفلت . وفي زعم مسئول في الحركة الشعبية هناك من يريد بقاء هذه المليشيات لتصبح رصيداً استراتيجياً لتمرد جديد.
    ما كنا لنعنى بهذه الاستنطاقات لو جاءت عبر أي منبر اعلامي آخر ، و لكن صدورها من منبر يشي ماضيه ، بأن له صفة حزبية معينة ، يجعل الأمر مثار أكثر من تساؤل : من الذي يقف وراء هذه الوكالة ؟ و ما هو الهدف من بقائها في زمن السلم و ان عرفنا دواعي وجودها في زمن الحرب ؟ و ما هى مصلحتها و مصلحة من يقف وراءها في بث الفتن أو تخذيل الشريك الوحيد في الاتفاقية ؟ و ان كانت الجهة المسئولة عنها جهة رسمية فلمن تتبع تلك الجهة ، خاصة عندما تعمد تلك الوكالة الى الزراية بما يوجه به النائب الأول لرئيس الجمهورية ؟ لا يغضبنا مطلقاً ان توجه الصحافة النقد للمسئولين ، وعلى أعلى المستويات ، فهذا واجبها ، حتى وان جاوزت حد اللياقة مثل وصف احدى الصحف للنائب الأول و كبير مساعدي الرئيس بـ '' المتفلتين '' في القصر . فأى حد من التحريم لما تنشره الصحف فيه اهدار لاستقلالها . المجالس النظامية للصحافة وحدها هى التي تضع الحدود لما هو لائق للنشر و ما هو غير لائق . و هى وحدها التي يحق لها تقويم المنتسبين لها . كما ان الدستور والقانون هما الفيصل ان ذهبت الصحف الى القذف و التشهير و الكذب الضار بالآخرين ، أو لاثارة الفتن . و بصورة عامة ، فان ديدن الصحافي الامين هو التمييز بين الحق و الباطل فيما يرد له من نبأ ، و أمر سئ ان لا يفعل ذلك : '' يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ان تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين '' . لكن السوء المحض هو ان تلحق شبهة الفسوق بمصدر المعلومات نفسه .
                  

02-14-2007, 02:19 PM

محمد يسن علي بدر
<aمحمد يسن علي بدر
تاريخ التسجيل: 12-28-2005
مجموع المشاركات: 623

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. منصور خالد .. عامان من السلام : حساب الربح و الخسارة (Re: محمد يسن علي بدر)


    عامان من السلام : حساب الربح والخسارة (12)
    تفلت وزراء أم قراءة خارج النص

    أولاً، الذين ذهبوا الى الاندلس لم يذهبوا اليها الا غزاة بعد ان حُمل
    نجئ من بعد الى الموضوعات الأُخرى التي اخترنا مما ورد في الصحف كعينات عشوائية ، و تحديداً ما أُسمى تفلت وزراء الحركة و القضايا التي نسب لهم «التفلت» بشأنها ، أو تصويب النقد لقرارات معينة اصدرتها حكومة الجنوب ، أو التشويه المتعمد لبعض القرارات ، الى جانب ملازمة الحاق السوء بالحركة الشعبية دون فتور من جانب الصحيفة الحسكنيتية وتابعات لها ، ثم أخيراً ، موضوع فساد الحكم في ذلك الجزء من القطر . و كما قلنا ، لا نبتغي من التحليل الدفاع عن موقف لأحد ، أو إبراء أحد من تهمة ، و انما أولاً نقد المنهج الذي تناولت به الصحافة هذه القضايا ، و ثانياً ابراز الأحكام غير السليمة التي انتهى اليها البعض بسبب توسلهم بمنهج غير سليم ، وأخيراً فضح البهائت والأكاذيب التي تُنشر وكأنها حقائق.

    نبدأ بحديث '' التفلت '' . و طالما نحن نتناول الأمر في هذه الجريدة الغراء نستهل الحديث ، مرة أخرى ، بمقال افتتاحي لرئيس التحرير عنونه '' برافو سلفاكير '' . ( الرأي العام 12/10/2006 ) . قال الاستاذ كمال : '' ان عدداً من وزراء الحركة في عدد من الولايات يعملون بتناغم كبير مع حكام الولايات لكن بعضهم يحاولون الرقص على حبال الحكومة و المعارضة '' . أي بمعنى أنه يريد ان تكون معارضته لكسب جماهيري رخيص ، و في نفس الوقت أن يكون وزيراً يتمتع بكل امتيازات وصلاحيات الوزير . فهو يرتدي قبعتين : قبعة المعارضة لكسب الجماهير و افساد الاتفاقية و عكننة الولاة ، و قبعة الحكومة بكل امتيازاتها '' . تلك الحالة ، أسماها الصديق رئيس التحرير '' الشيزوفرنيا السياسية '' .

    ثمة افتراضات في هذا المقال اجليت على القارئ وكأنها حقائق : الأول هو أن بعض وزراء الحركة في الولايات ( و البعض جزء من كل ، كثر أو قل ) يتراقصون بين الحكومة التي هم فيها ، و بين معارضيها . والثاني هو أن هؤلاء الوزراء لا يفعلون ذلك الا '' لكسب الجماهير أو لـ ''عكننة الولاة '' . والثالث هو ان الولاة الذين يسعون لعكننتهم أبرياء من كل ذنب ، و لا يخطئون . و الافتراض الأخير ان وزراء الحركة في الحكومة القومية الذين '' يتراقصون '' ، بين الحكومة ( حكومتهم ) ومعارضيها ، هم الآخرون ، يفعلون هذا أيضاً لكسب الجماهير و افساد الاتفاقية . بعض هذه التُهم غليظ ، ولو صحت التُهم و الافتراضات التي ابتنيت عليها ، لما حق لاولئك الوزراء البقاء في مناصبهم .

    مبلغ ظننا ان الذي دفع رئيس التحرير للحديث عن '' تمرد '' وزراء الحركة بالولايات هو النزاع الذي نشب بين والي سنار و وزيرة الصحة بتلك الولاية. مثل هذه الصراعات لا تقلق ، ففي الدولة مؤسسات تتقصى أسبابها و تفصل فيها، ولكن اقدام الوالي على اعفاء الوزيرة أعطى النزاع ابعاداً أكبر . فلو كان الوالي منتخباً وفق الدستور في الظروف العادية لجاز له فصل أي وزير . فالمادة 179 (1) من الدستور تنص على ان يرأس الجهاز التنفيذي للولاية والٍ ينتخبه مواطنو الولاية وفقاً لنصوص الدستور و وفقاً للاجراءات التي تقررها المفوضية القومية للانتخابات . و للوالي ، حسب الفقرة الفرعية (3) من تلك المادة ، ان يعين وزراء الولاية و يتم اعفاؤهم بواسطته أو بناءً على توصية من ثلثي اعضاء المجلس التشريعي للولاية . بيد ان الوضع الراهن وضع انتقالي الى حين اجراء الانتخابات، و حتى ذلك الحين يتم تعيين الولاة بواسطة رئيس الجمهورية بالتشاور مع النائب الأول للرئيس ( المادة 184 (1) ) ، كما تترك نفس المادة لحزبي المؤتمر الوطني والحركة الشعبية ترشيح الوزراء وفق نسب محددة .

    رغبة الوالي في اعفاء احد وزرائه قد تكون له دواعيه ، و لكن لا سبيل له لذلك الا بالرجوع الى الجهة التي رشحت الوزير ، لا سيما ان كان لتلك الجهة دور في تعيين الوالي نفسه . وفي اعتقادنا ان الوالي لو رغب في اعفاء احد وزرائه من منسوبي حزب المؤتمر الوطني لما اقدم على ذلك دون الرجوع للسلطة العليا في الحزب . لا بدع ، اذن ، في ان يثير هذا القرار ثائرة جماهير الحركة في الولاية ، ويصبح غريباً إن تصاممت قياداتهم عن تلك الثائرة ، فالوزراء سياسيون ولاؤهم الأول لقواعدهم ، قبل أن يكونوا اصحاب امتيازات . و لا نرى في التزامهم بهذا افساداً للاتفاقية ، بل اصلاحاً لها فالاتفاقية وضعت لتنفذ على الوجه الذي جاءت به ، كما أن الشراكة التي لا تستهدي بروح الاتفاقية توقع الناس في لولاء . و لا ندري لماذا يسترخص صديقنا كمال كسب الجماهير ( الكسب الجماهيري الرخيص ) لأن ذلك الكسب لا يسترخص الا ان كانت ادواته هى الكذب ، و بلبلة الخواطر، و استغلال العواطف الدنيا ، و الرشاء . مسئولو الحركة أيضاً من حقهم أن يروا في ذلك القرار استهانة برئيس حزبهم الذي سمى الوزيرة ، و بالنائب الأول الذي اعتمد الوالي . لو فعلوا لامتدت الاستهانة الى ما هو أخطر . هذه هو المنهج السليم لتحليل ما حدث في سنار و تقصي دواعيه . ولعل الأوجب ، في مثل هذه الحالات ، كان هو الارتحال الى سنار لاستقصاء شكاة الوالي ، ودعاوى الوزيرة ، وآراء من هم أقرب لموقع الحدث وأدرى بتفصيلاته ، ثم النظر الى الجوانب القانونية للقرار وسماع رأي القيادات في الحزبين اللذين ينتمي لهما طرفا النزاع ، قبل الافضاء بحكم .

    من بين الموضوعات التي كثُر فيها الحديث عن تفلت وزراء الحركة ، وبوجه خاص السيد دينق الور ، موضوع ابيي . و لم يقل دينق الور في تصريحاته عنها شيئاً يختلف عما قاله النائب الأول لرئيس الجمهورية أو ما قاله المكتب السياسي للحركة الشعبية. وقضية ابيي كادت تنحصر كلها خلال المفاوضات في النزاع حول حدود الاقليم وهو أمر كان من الممكن ان تنهار الاتفاقية قبل الوصول لحل له . لهذا ، يصبح التهوين من قضية الحدود أمراً ضاراً بالاتفاقية . الطرفان لم يستهينا بالأمر عند التطبيق ، رغم الضجيج الاعلامي ، بل أحالا الأمر الى أعلى مراقي السلطة ( مؤسسة الرئاسة ) لايجاد حل لها ، و ما زالت تسعى لفض الخلاف ، وأمامها أربعة بدائل مطروحة .
    بيد أنا تناول الموضوع من وجه آخر ، طالما كان حديثنا عن المنهج . فالجدل الذي يدور في الصحف حول تلك القضية يغفل تماماً ان وراء جانبي الحدود أقواماً تعايشوا و تصاهروا مع بعضهم البعض زماناً طويلاً . وان لهذه الاقوام مصالح حيوية مشتركة قضت بها الجغرافيا و البيئة الطبيعية . و ان لأهل ابيي أنفسهم مصلحة في ادارة شئونهم ، و ترتيب حياتهم ، و رعاية أهلهم . الذي يقرأ الصحف يحس أن موضوع الحدود هو نهاية المطاف بالنسبة لأهل تلك المنطقة . نعم هو موضوع هام وأساس ولكنه ليس نهاية المطاف . فبروتوكول ابيي بفقراته العشر الأولى لم يقف عند موضوع الحدود ، تحدث أيضاً عن ابيي كجسر بين الشمال والجنوب ، و عن الحقوق التقليدية للمسيرية و غيرهم من البدو الرحل في رعي ماشيتهم و التحرك عبر منطقة ابيي ، و عن تقسيم عائدات البترول خلال الفترة الانتقالية الى ستة اقسام ( الحكومة القومية ، حكومة جنوب السودان ، ولاية بحر الغزال ، ولاية غرب كردفان ، دينكا نقوك ، المسيرية ) ، وعن تقديم المساعدات من جانب الحكومة القومية للارتقاء بمستوى معيشة أهالي أبيي . ولكن عشاق الفرقعات الاعلامية والعناوين الزاعقة لم يجدوا في كل هذه الامور ما يثير .

    القضية ليست خياراً بين المهم وغير المهم . كان المرء يتمنى ، بدلاً من الانشغال بما يردده أهل العاصمة ، أو بالحري صحافتهم ، عن الوزير '' المتفلت '' و هو دوماً من وزراء الحركة الذين لم تردعهم '' الامتيازات '' عن التفلت ، و بين السياسي غير المتفلت و هو دوماً من الشق الآخر من المعادلة ، أن تبتعث الصحف التي يقلقها موضوع أبيي مندوبيها الى المنطقة للتعرف على مشاكل أهلها الحقيقية عن كثب ، و على كيف كانوا و ما زالوا يتعايشون و يتبادلون المنافع . و لا شك في ان القارئ يريد ان يُلم بالحقائق عن تلك المشكلة التي التبست عليه بسبب الاثارة الضارة ، و التجهيل ممن يُتوقع منهم وقايته من غوائل الجهل . و نحمد لجريدة الايام فتح صفحاتها على مدى أربعة ايام (20-22/22/2006م) لمناقشة قضية ابيي ، كما نحمد لصحيفة أخبار اليوم نفس الاهتمام في ندوتها السياسية الكبرى حول ابيي التي شارك فيها الدكتور فرانسيس دينق والامير محمود شميلة علي الجلة (2/12/2006 ) . فدور الصحافة أكبر من الفرقعات الاعلامية ، وأعظم من الصيد في الماء العكر.

    قرارات حكومة الجنوب
    تداولت بعض الصحف أيضاً قضايا تتعلق ببعض القرارات التي اصدرتها حكومة الجنوب و رأى فيها هؤلاء ، إما اجحافاً بحقوق المسلمين فيه ، أو تعدياً على حقوق الشماليين . و حول الاولى لخص ما تواتر من خبر في أكثر من صحيفة ، عبدالمنعم عبد المحمود الربيع حين قال : '' قامت حكومة الجنوب بالغاء ديوان الزكاة في الولايات الجنوبية و ايلولة ممتلكاته لصالح حكومة الجنوب . كما قامت من قبل بمصادرة جامعة القرآن الكريم في واو و ملكال و جوبا كما اصدر حاكم أعالي النيل قراراً بمنع الطالبات من ارتداء الحجاب '' . اضاف ان هذا يحدث في الوقت الذي تمارس فيه '' الاقليات غير المسلمة حقها في التعبد و الحياة في كل امتداد الشمال و في قلب الخرطوم و حيث تعلو الكنائس و الصلائب دون ان يعترض عليها أحد (رأي الشعب 20/11/2006 ) . «نجيبها من الآخر»، كما يقول المصريون ، فان اراد الكاتب أن يقول هذا هو حال المسيحيين اليوم ، فذلك فيض من فيوض الاتفاقية التي أقرت لهم حقوقاً لم يألفوها من قبل في الجنوب ، و وفرت لهم حماية دستورية لم يُحظوا بها من قبل في الشمال . ما قبل ذلك تشهد عليه كنيسة كل القديسين القديمة في شارع الجامعة و التي أقتلع رأسها و ازيلت صلبانها ، مما يقود للتساؤل: «كيف يستطيع من عجز عن التعايش مع الكنائس المهجورة ، أن يتحدث عن الصلائب في الكنائس المعمورة».

    مهما يكن من أمر ، يبعث على الرضى ان نفس الصحيفة افردت مكاناً لكاتب آخر تناول الأمر من وجهة أخرى ، كتب أحمد عبد الرازق حول موضوع الغاء دواوين الزكاة في الجنوب بعد رجوعه الى القائمين بأمر الديوان في الخرطوم وإبلاغهم إياه ان القرار منسجم تماماً مع الدستور و الاتفاقية و ان القضية يجب ان لا تمنح اكبر من حجمها . و ختم مقاله بنداء لمن يتحدث بغير هدى : '' ارجو تناول القضايا ، خاصة الاستراتيجية منها ، بالصورة الايجابية التي تطرح الحلول . ويجب التحقق من كل خبر مهما كانت ثقتكم في مصدره . و الى انفصاليّ الشمال أقول كفوا ايديكم عن قرع الطبول و اشعال الفتن و استغلال كل سانحة لصب الزيت على نيرانه '' (رأي الشعب 3/12/2006).

    في مطلع هذه المقالات قلنا ان الفصل بين الدين و الدولة في الجنوب الذي أقرته الاتفاقية ، و نص عليه دستور الجنوب ، له تبعات و تداعيات . فالزكاة فرضها الله على القادر من المسلمين اينما كان ، و لكن عندما ورد الحديث في مناقشات الدستور القومي حول دور الدولة في تنظيم ادارتها ، أصرت الحركة على ان الزكاة طوعية و لا ينبغي أن يكون للدولة دور في تحصيلها . هذا أمر اختلف عليه الفقهاء و لما يزالوا مختلفين . و على أي ، لسنا في مجال حوار فقهي ، ففي السودان أصبح للدولة دور في تنظيم الزكاة ، ولهذا كان لا بد من الاشارة اليه في المادة المتعلقة بالمفروضات المالية في الدستور . فضاً للنزاع توافق الطرفان عند إقرار الدستور على نص يقول : '' الزكاة فريضة على المسلمين ، و ينظم القانون في الولايات الشمالية كيفية جبايتها و صرفها و ادارتها '' ( المادة 20(2) ) . لهذا ، استهل وزير الشئون القانونية و الدستورية بحكومة جنوب السودان القرار الذي أصدره حول ايقاف العمل في دواوين الزكاة في الجنوب وتسليم ممتلكاتها لوزارة الرعاية الاجتماعية بجنوب السودان باشارة للمادة ( 8 ) من دستور الجنوب ( الفصل بين الدين و الدولة ) والمادة 20 (2) من الدستور القومي .

    نفس الشئ ينطبق على القرار حول كليات القرآن الكريم ، ولما للقرآن من قدسية عند المسلمين فإن في قرع الطبول حوله اشعال للفتن ، و لا يشعل الفتنة الا ملعون . هذه الكليات كانت منذ عهد ابل الير مدارس ثانوية ، و منها الكلية في جوبا التي كانت هى المدرسة الثانوية الوحيدة للبنات . و لسبب أو لآخر ، حولت تلك المدرسة الى كلية للقرآن الكريم . و لا يتوقعن أحد من حكومة تتبنى مبدأ الفصل بين الدين و الدولة ان تسمح باستخدام مبنى رسمي تمتلكه لأغراض ينهاها الدستور عنها . و لو اقدمت حكومة الجنوب لتحويل تلك المدارس الى معاهد لتعليم الدين المسيحي لكنا على رأس من يشجب ذلك ويستنكره لما فيه من خرق لدستور الجنوب نفسه و ازدواجية في المعايير . الحل في مثل هذه الحالات هو ان تنهض مؤسسات الدعوة الاسلامية لانشاء معاهدها لتعليم القرآن كما يفعل أهل النصرانية . فمسجد جوبا الكبير ما زال يكتظ بالمسلمين ، و ما زال صوت المؤذن و المقرئ و المادح فيه يدوي عبر مكبرات الصوت حتى في داخل مكاتب الحكومة . الصحف التي توالي نشر هذه الاكاذيب لم تذكر أبداً قرار حكومة الجنوب في شهر رمضان الماضي بتخصيص مبلغ عشرين مليوناً من الجنيهات لفقراء المسلمين في جوبا .

    نفس الأمر ينطبق على ما أسمى منع الحجاب في أعالي النيل . ذلك القرار أصدره وزير التربية بالولاية إبطالاً لأمر سابق يُلزم الطالبات بلبس الحجاب ، مبرراً ذلك ، بأن اللبس موضوع شخصي طالما كان متوافقاً مع الاعراف السائدة . على نفس القيد ، كثر الحديث عن مناهج التعليم في الجنوب وعدم تماشيها مع المناهج القومية السودانية . وعلنا نقول في البدء ، ان المسئولية عن التعليم الى المرحلة الثانوية شأن ولائي في الشمال والجنوب . رغم ذلك ، لو أدرك أصحاب تلك الدعوة حجم الجرعات الدينية في مناهج التعليم في الشمال ، بما في ذلك الجامعات ، لما تساءلوا عن عدم احتفال حكومة الجنوب بتلك المناهج . فمن بين المواد الرئيسة في التعليم الجامعي الرسمي مادة «الدراسات الاسلامية» التي أصبحت مادة ضرورية حتى لطلاب الهندسة والطب ان لم يفلح الطالب في اجتياز امتحانها يعتبر «ساقطاً» حتى وان نجح في كل علومه الهندسية أو الطبية . تلك الدراسات ، لمن لا يعلم ، تحتوي على مواد مثل فريضة الجهاد ، ونموذجه الذي يدرس هو حرب الجنوب ، كما تحوي دروساً حول العلمانية من وجهة نظر ايديولوجية حادة ؛ فبأي منطق نريد من مدارس الجنوب وجامعاته الالتزام بتلك المناهج مهما كانت دواعيها في مدارس وجامعات الشمال ؟ وان كان الذين يقلقهم أمر التعليم في الجنوب صادقين في ما يدعون اليه ، وبخاصة مناهج التعليم التي توحد الوجدان الوطني ، وتعمق من مفاهيم التعايش بين الملل والنحل في السودان ، كان الأجدر بهم التنبيه الى ضرورة مراجعة مناهج التعليم في الشمال ، قبل فرضها على الجنوب ، لتتوافق مع ثقافة السلام التي يفتقدها التعليم اليوم حتى في المظهر ، مثل اللباس العسكري للتلاميذ . يلوح لنا ، أنه في كل هذه الحالات ، يريد البعض من حكومة الجنوب أن تُبقى على كل النظم التي فرضت على أهل الجنوب من قبل، بصرف النظر عن نظام حكمهم الجديد ، و بدون اعتبار لما يقول به دستورهم .

    موضوع آخر تناولته بعض الصحف باستفاضة ألا وهو حرمان الشماليين من العمل بالجنوب . ذلك أمر يجب ان يتبعه سؤال عما يعني هؤلاء بالشماليين ؟ فحق كل مواطن في التنقل عبر القطر مكفول بنص المادة 42 (1) من الدستور الانتقالي ، و المادة 31 من دستور جنوب السودان . كما تكفل المادة 206 من الدستور الانتقالي حرية التجارة بين الولايات ، و لا يجوز سن أي تشريع يعيق التجارة أو انسياب السلع والخدمات و رأس المال و العمالة بين الولايات . أغلب الذين يثيرون دعاوى الحرمان من العمل في الجنوب هم اما قلة من اصحاب المتاجر الصغيرة في الماضي أو الراغبين في ولوج هذا الباب. ونعرف ان حكومة الجنوب التي تسعى لخلق مهارات محلية في هذه الحرف الصغيرة للعائدين من ابنائها وبناتها من الملاجئ ، وللمسرحين والارامل ، لا تشجع هذا النوع من النشاط من أي مكان جاء ، دون اخلال بحقوق أصحاب المتاجر القديمة من الشماليين . هذا أمر لا نستنتج بل أفضى به ولاة الجنوب في اللقاء الهام الذي عقده معهم اتحاد اصحاب العمل ، وتكرم بدعوتنا للمشاركة فيه السيد سعود البرير .
    مع ذلك هناك ظاهرة تثير الانتباه ، فأغلب ما تجئ الشكوى في هذا الموضوع من مدن مثل جوبا وملكال وواو ، في حين يعمل جميع أصحاب المتاجر من الشماليين في المدن التي كانت تحت سيطرة الحركة إبان الحرب : يي ، نمولي ، رمبيك ، دون مشاكل . المشكل مع تلك القلة ، في تقديرنا ، يعود الى نزاعات قديمة أو مخاوف أمنية ، وهذه حالات لا تعالج بتسييسها ، بل بتدارسها مع المسئولين . وللاستاذ عبد الرحمن ابراهيم ، أحد صناع اتفاقية السلام ، رأي حصيف حول هذا الأمر دعا فيه الى عدم تسييس هذه القضايا ومعالجتها عبر القنوات الرسمية في الشمال والجنوب ( أخبار اليوم 3/1/2007) .

    بنفس القدر ، نعرف أن الجنوب يفتح ابوابه اليوم للمستثمرين الشماليين في الانشطة الكبرى ، فلشركة السهم الذهبي مثلاً تواجد ، و لاعمال ابرسي في الترحيلات نشاط هام يكاد يكون هو المصدر الوحيد لتوريد الغاز الطبيعي للجنوب ولشركة حجار نشاط ملموس في الفندقة الى جانب مناشطها القديمة التي تسعى لاعادة تأسيسها ، و لابن الشمال و الجنوب امين عكاشة جهود مرموقة في مشروعات الاسكان والفندقة، ولاعمال النفيدي مناشط في النقل النهري تسعى لتوسيعها، ولشركة دال نشاط في مجال الآليات الكبرى ، كما يملك رجلا أعمال شماليان اثنين من الفنادق المشيدة الأربعة في جوبا. ولم تغب عن تلك المناشط بعض مؤسسات الدولة، فوالي الخرطوم يتفاوض مع حكومة الجنوب لانشاء الطريق الذي يربط بين جوبا وبور. فما هو هذا الشمال الذي يتحدثون عنه؟
    التشويه المتعمد نشير الى نموذج منه في خبر أوردته احدى الصحف في عناوينها الرئيسة على الصفحة الأولى، مما يوحي بصدقه وأهميته. نشرت جريدة الحياة في مطلع ديسمبر الماضي خبراً جاء فيه '' في خطوة مثيرة للجدل دعا بنك جنوب السودان أمس مواطني جنوب السودان لتداول الشلن اليوغندي في المعاملات اليومية لحين اكتمال اصدار العملة الجديدة '' . ونحسب أن الخبر قد نقل مترجماً عن البيان الذي أصدره بنك جنوب السودان ، أو عن جريدة جوبا بوست التي نشرت البيان ، خاصة وقد ورد في صدره '' ترجمة مزمل عابدين '' دون اشارة للمصدر الذي نقل عنه الخبر مترجماً . ما الذي جاء في بيان البنك ؟ قال البيان : '' ان الشلن اليوغندي لم يعد عملة صالحة للتداول في الجنوب وأن وفداً من البنك سيزور يوغندا في الايام القليلة المقبلة للتدارس مع بنك يوغندا المركزي حول استرداد قيمة الشلنات اليوغندية التي تجمعت لديه بالعملات الصعبة '' . ذلك الخبر نشرته في نفس اليوم صحيفة تصدر بالخرطوم باللغة الانجليزية هى '' سودان فيشن '' . ويرى القارئ التناقض الفاحش بين ما قاله البنك ونشرته صحيفتان سودانيتان تصدران باللغة الانجليزية (جوبا بوست وسودان فيشن ) وبين ما نشرته اليومية العربية . قد نفترض عدم وجود سوء قصد من الجريدة وننسب الخطأ للمترجم . ولكن الصحيفة التي تورد خبراً تُحلله مكاناً رفيعاً في عناوينها الرئيسة وتقول إنه «مثير للجدل» لا يمكن أن تكون بمنأى عن المساءلة عندما لا تستوثق من صحة ما تنشر أو يُترجم لها للنشر . وعلى أي ، فالخبر ليس خبراً . فمنذ المفاوضات تم الاتفاق بين الطرفين على أنه ، لحين اصدار العملة الجديدة يستمر التعامل في جنوب السودان بالعملات التي كان يجري بها التعامل في سني الحرب ألا وهى الجنيه السوداني القديم ( يسمى في الجنوب جنيه نميري ) ، الشلن اليوغندي ، الشلن الكيني . تلك حقيقة لا يكلف التعرف عليها غير قراءة النص حول العملة في الاتفاقية .
                  

02-14-2007, 02:24 PM

محمد يسن علي بدر
<aمحمد يسن علي بدر
تاريخ التسجيل: 12-28-2005
مجموع المشاركات: 623

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. منصور خالد .. عامان من السلام : حساب الربح و الخسارة (Re: محمد يسن علي بدر)



    عامان من السلام : حساب الربح والخسارة (13)

    تلقيح الفتن والرثاثة البُدائية

    اشاعة الاباطيل

    لم ندهش قليلاً أو كثيراً عندما نددت صحيفة «الانتباهة» بالدعوة التي أطلقها السيد مبارك المهدي للمستثمرين و رجال الأعمال الشماليين للتوجه للجنوب. لم ندهش لأن تلك الصحيفة لم تجد منذ نشأتها ما تتساند عليه لاقناع الناس بأهدافها الانفصالية غير اشاعة الاباطيل عن كل ما هو جنوبي، ثم عن كل ما يتصل باتفاقية السلام الشامل. ليس من حقنا في ظل نظام تعددي أن ننكر على أي مواطن أن يدعو لما يؤمن به، بما في ذلك الدعوة لانفصال الجنوب عن الشمال أو فصل الشمال عن الجنوب، شريطة أن يحترم الدعاة، وهم ينشرون دعوتهم، قيماً تواطأت عليها الانسانية، وقواعد ألزم بها دستورنا الحاكم والمواطن على السواء. من القيم الانسانية نبذ العنصرية، ومن قواعد الدستور احترام «التنوع الثقافي والاجتماعي للشعب السوداني هو أساس التماسك القومي، ولا يجوز استغلاله لاحداث الفرقة»

    (المادة 4 (ج)).

    نبدأ بما هو أدنى، ألا وهو الاباطيل،. قال صاحب «الانتباهة» وكأن لأهل السودان «قنابير»: لا أدري ما إذا كان الرجل (يعني مبارك) قد سمع بأخبار الأمبررو الشماليين الذين طردوا من قبل حكومة بحر الغزال و الرعاة الشماليين الذين طردوا من قبل حكومة أعالي النيل '' (الانتباهة 7/12/2006). وتَواتَر الحديثُ، بعد، عن قبائل الامبررو الشماليين وما تعانيه في الجنوب على يد حكومته، في أكثر من خمس مقالات في الصحيفة. ليس للموضوع أهمية حتى ننهك طاقتنا للرد عليه لولا ما فيه من افتراض لجهل القارئ، وكشف لتحامل الصحيفة على حكومة الجنوب وعلى الاتفاقية، حتى فيما لا يد لها فيه. أمبررو، أولاً، ليسوا بشماليين وانما هم قبيل من الفولاني ظل ينزح من غرب افريقيا الى السودان جرياً وراء المرعى، وزاد من حدة هجرته الجفاف والتصحر في السهل الافريقي في السبعينات حتى وصل بعضهم الى النيل الأزرق جنوباً والنيل الأبيض شرقاً. وفي نهاية السبعينات استقر بعضهم في منطقة الدمازين بعون من شيخها المك يوسف حسن عدلان الذي حدد لتحركهم مناطق معينة في مسارات الرعي. رغم ذلك، أخذت تلك الجماعة تنتدح بأبقارها الى الجنوب القصي حتى مناطق المورلي في الاستوائية مما قاد الى صراعات دامية بينها وبين ذلك القبيل. بيد أن المشكل الذي يعاني منه الجنوب اليوم، اضافة الى اندياح الامبررو القادمين من النيل الأزرق الى الجنوب الاستوائي، هو الأفواج الجديدة منهم التي دفعها عدم الاستقرار في شرق تشاد للهجرة الى مناطق لم يفدوا اليها ولم تألفهم من قبل مثل بحر الغزال ومناطق الزاندي في الاستوائية.

    لا شك في أن الذين يدركون أبعاد الصراع على الموارد في دارفور بين الرعاة والمزارعين المستقرين لا يتمنون خلق بؤرة جديدة للصراع حول الموارد في السودان، هذه المرة في جنوبه. كما ان الذي يتابع سيرة القبائل الرعوية في الشمال والجنوب لا يجهل المشاكل المتعددة التي تنجم بين هذه القبائل في الظروف السياسية العادية (أي ظروف السلام) حول مسارات الرعي : بين الدينكا والنوير في الجنوب أو بين الرزيقات والمعاليا في الشمال، على سبيل المثال. هذه الصراعات بين القبائل ذات الحقوق التاريخية المعروفة تُعالج عبر مجالس الصلح التي تقودها القيادات الطبيعية لهذه القبائل دون أي تدخل من السلطة أو تحريض من الصحف. وبدهي أن تزداد حدة هذه النزاعات في ظروف الحرب، أو تلك التي تعقب الحرب، خاصة عند عودة النازحين الى مواطنهم القديمة. هذه أمور لم تغفل عنها الاتفاقية إذ نصت على تكوين مفوضية قومية، ومفوضيات ولائية، للأراضي، على رأس واجباتها معالجة المشاكل الناجمة عن الصراع حول ملكية أو استخدام الأراضي وفقاً للأعراف السائدة.

    ليست هذه وحدها هي القضية، القضية، في حالة الداعية لفصل الجنوب عن الشمال، أو دفع الجنوب للانفصال عن الشمال انفصالاً غاضباً بلا وفاق أو هوادة، هى : ما الذي سيفعل مع كل قبائل السودان الرعوية التي تُحازي الجنوب ان قُدِر للجنوب الانفصال عن الشمال على الوجه الغاضب الذي يتمناه. نشير الى البقارة و المسيرية و الحوازمة في دارفور و كردفان الذين يتجهون بابقارهم الى بحر الغزال واعالي النيل الكبرى، أو الصبحه و اولاد حميد و عرب رفاعة الهوى الذين لا موطن لهم و لأبقارهم في فترات الجفاف غير أعالي النيل. الذين تعنيهم حياة هؤلاء، دون أن تتملكهم الأوهام الايديولوجية، يقبلون على هذه القضايا كما ينبغي أن يقبل عليها عقلاء القوم، ويسعون لخلق أرضية للتعايش السلمي من أجل حماية المصالح المشتركة. فمثلاً، في الرابع عشر من ديسمبر من العام الماضي، مثلاً، تداعى المهتمون بمشاكل القبائل الرعوية لاجتماع بقاعة اتحاد المصارف أسهم في الاعداد له وزارة الثروة الحيوانية، وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية، وخبراء سودانيون في مجال البيئة والمراعي. في ذلك الاجتماع شارك ثلاثة وزراء من الجنوب وعضو برلماني جنوبي وكان من بين مواضيع البحث : معوقات النظام الانتاجي للرحل، وضبط مسارات الرعي، وايجاد البدائل للرعاة. ولسوء الحظ كان النقاش مقصوراً على استقرار الرُحل في الشمال دون أن يتطرق الى مسارات الرعي جنوباً، وعل هذا الموضوع يلقي اهتماماً من الجهات التي رعت ذلك المؤتمر.

    الانفصال كعلاج !

    لصاحب الانتباهة رأي في الانفصال يقول فيه ان الحالة التي يعيشها السودان حالة مَرَضية، وان الاصرار على بقاء الجنوب كجزء من الوطن هو مصدر الداء، لذا سيعافى السودان ان بتر الجنوب : فـ '' المشكلات التي يتخوف الناس من حدوثها اذا تم الانفصال لا تختلف كثيراً عن الآثار الجانبية للدواء، فقد تضطر احياناً الى بتر الرجل المصابة «بالغرغرينا» (الانتباهة 22/11/2006). ذلك المقال كان رداً على رأي نقيض للاستاذ محجوب عروة. وكم استحسنا الرأي الرصين الذي ابداه كاتب تناول فيه تشريح صاحب '' الانتباهة '' للحالة السودانية، قال الكاتب : '' لا يظن البعض من اصحاب دعاوى الانفصال ان دعواهم لو تحققت سوف تحل الاشكال القائم ما لم يحدث توافق قومي يصنع الاستقرار. فمثلاً، لو افترضنا ان انفصالاً وشيكاً سوف يحدث للجنوب عن الشمال، فأن حرباً كالتي تدور في دارفور سوف تُنتج نفس الظاهرة. وبهذا المنهج سوف نتحول الى دولة قد اصابها مرض السكري يقتطع منها السياسيون من أمثال الطيب مصطفى كل حين قطعة، دون التفكير في حقنها بالانسولين '' (صهيب حامد، ألوان 6/12/2006). هذا ما أسميناه تداعي مكعبات الدومينو. ولا شك في أن الكاتب لم يكن يقرأ المستقبل في كرة بلورية كالعرافين، بل يترجم الواقع السياسي الذي امامه ترجمة دقيقة. ولعله، ولعل غيره، قرأ الحديث المطول لـ '' المجاهد الاسلامي '' ـ بحكم ما كان ـ الدكتور خليل ابراهيم (أخبار اليوم 22/11/ 2006) منذراً فيه بانفصال دارفور، وهو الذي حارب باستماتة من قبل للابقاء على الجنوب كجزء من الوطن. مثل هذا الحوار صار مشروعاً في الجو الديموقراطي الذي نعيش فيه، والذي اشاعته اتفاقية السلام. فلو رغب احد ان ينتقد موضوعياً اساسيات نظام الحكم السابق في أجهزة الاعلام لما استطاع. ولربما أصابه مكروه بسبب رغبته هذه على يد مجاهدي التلفزيون، قبل أن ينقض عليه جلاوزة الأمن. فلنحمد لنايفاشا هذا الجو المعافى على الأقل.

    تلقيح الفتن

    بيد أن صاحب الانتباهة يلح على الذهاب الى ما هو أبعد عن الحوار الموضوعي حول قضيته : أولاً باثارة الفتنة بين أهل السودان على أساس عرقي. ثانياً بالاساءة الى الجيش الشعبي الذي هو، بنص الدستور، جزء من القوات الوطنية المسلحة، وبلغة لو استخدم احد غيره ما هو ادنى منها بكثير عن القوات المسلحة السودانية لاودع غياهب السجون. ثالثاً بالحديث عن قيادات الحركة الشعبية بأسلوب لم يسبقه اليه الا النازيون واساطين الابارثايد عندما دعوا الى اقامة جيتوهات لليهود أو مناطق سكن محددة للافارقة السود. رابعاً الايماءات العنصرية، إذ ما ورد له حديث عن الحركة الشعبية أو الجيش الشعبي أو الجنوبيين الا وصحبته كلمة الغاب. هاكم النماذج : في مقال تحت عنوان '' لقد بلغ السيل الزبى ''، قال '' لطالما حذرنا من ترتيبات نايفاشا الأمنية التي ادخلت جيشاً حاقداً مليئاً بالمرارة ومتعطشاً ومتحرقاً للتشفي والانتقام الى قلب البلاد. جيشاً لا يعرف غير ثقافة البندقية وشريعة الغاب (الانتباهة 20/11/2006). وفي مقال آخر قال : '' ان اهم الاولويات ينبغي ان تتمحور في نزع السلاح غير المرخص به مع ابعاد الحركة الشعبية (يعني الجيش الشعبي) من جبل اولياء وسوبا وغير ذلك من المناطق بحيث تبعد معسكرات تلك القوات بما لا يقل عن سبعين كيلومتراً عن العاصمة، وكذلك ينبغي تنظيم حراسة الشخصيات القيادية في الحركة الشعبية، وأرى ان يرحل هؤلاء المسئولون جميعاً الى منطقة محددة ويستحسن ان تكون في اطراف العاصمة '' (الانتباهة 29/11/2006). وحتى فيما يتعلق بطلاب الجامعات من الجنوبيين، والذين نقطع بأنهم جميعاً نالوا تعليمهم الثانوي، ان لم يكن الابتدائي، في مدارس الشمال، الحقوا، هم الآخرون، بالغاب. ففي مقال له حول الأحداث المؤسفة في جامعة جوبا كتب صاحب «الانتباهة» عن تلك الجامعة التي أصبحت الحركة الشعبية، كما قال، على رأس الاتحاد فيها '' أنها الغابة، بل أن الحركة الشعبية تدخل حرم جامعة أكتسبت مكانة كبيرة وسمعة بين الجامعات الى حين هبت عليها رياح نايفاشا ''. ترى كم هو مغيظ هذا الرجل بسبب فلاح منسوبي الحركة الشعبية في قيادة اتحاد الطلاب. وعلى أي، جميل أن يهتم صاحب «الانتباهة» بموضوع العنف في جامعاتنا التي «أكتسبت مكانة كبيرة وسمعة بين الجامعات»، ولكن أجمل من ذلك أن لا يُغِيب عن ذاكرته أن للعنف في الجامعات السودانية تاريخاً قديماً سبق نايفاشا، وكان من أدواته السيخ والسلاح الأبيض.

    فوبيا الشيوعية و الرثاثة البُدائية

    توالت أيضاً مقالات صاحب '' الانتباهة '' عن اختراق الحزب الشيوعي للحركة الشعبية، والشيوعي، حسب دستورنا اليوم، حزب شرعي يعقد الندوات، ويلتقي المسئولين، ويشارك في الجهاز التشريعي للدولة. الاشارات لذلك الحزب تستدعى الى الذاكرة أمراً آخر هو أبلسة الخصوم بهدف القضاء عليهم، لا بالحجة والمنطق، وانما بوسائل يحرمها ذلك الدستور. من ذلك قوله في التعليق على ورقة الدكتور الواثق كمير التي طرحها على اتحاد الكتاب السودانيين حول السودان الجديد: '' لم ينس (أي الواثق) التطرق لعلاقة الدين بالدولة وفقاً لمفهوم الرجل المناهض للاسلام وشريعته ووفقاً لرؤية الحزب الشيوعي السوداني المتحالف مع الحركة الشعبية في حربها على الدين والهُوية العربية الاسلامية ''. (الانتباهة 30/10/2006 (.

    صاحب الانتباهة رجل اعيا رهطه، وكم ظلم الناشر الأريب محجوب عروة السناتور يوجين جوزيف مكارثي ظلماً عظيماً حينما أسمى صاحب '' الانتباهة '' مكارثي السودان. قال عروة : '' إن الحالة المكارثية شبيهة بحالة صاحب «الانتباهة»، وهى '' حالة نفسية و هوس فكري و سياسي '' (السوداني 13/12/2006). مكارثي كان بحق مهووساً سياسياً بلغت عنده الفوبيا أو الرُهاب (الهلع المرضي من شئ ما) حداً عظيماً. هذا الشئ، في حالة مكارثي، هو الشيوعية. وقد حمل الهلع منها السناتور لأن يتهم بالشيوعية رجالاً مثل الممثل العظيم شارلي شابلن والشاعر اودين. وعلى أي، فقد وجد مكارثي من يردعه عندما أصدر مجلس الشيوخ الأمريكي قراراً باغلبية ثلثي أعضائه يدين فيها هوس مكارثي وتحقيقاته التي اعتبرها المجلس وصمة في جبين الديموقراطية.

    صاحب الانتباهة، مع هوسه السياسي بالشيوعية، حتى بعد أن تخلى عنها الأمين العام لحزب الطبقة العاملة، ميخائيل قورباشوف، تملكه رُهاب آخر ضد الحركة الشعبية تشوبه عنصرية لا تخفى، والعنصرية رثاثة بدائية، بل هى، في بلد متنوع الاعراق مثل السودان، مدعاة للفتن. وفي ذات مرة ثارت ثائرة صاحب الانتباهة، كما تَلَوح لنا في احدى مقالاته، ضد الصحافي الجرئ الطاهر ساتي الذي طالب مجلس الصحافة بمساءلة الرجل عما لمس فيه خروجاً عن القيم والاعراف الصحفية. بيد أن الأمر أفدح، ففي ما يكتبه صاحب الانتباهة، اخلال فادح بالدستور، خاصة المادة 39 (3) التي تلزم '' كافة وسائل الاعلام بأخلاق المهنة وبعدم اثارة الكراهية الدينية أو العرقية أو العنصرية أو الدعوة للعنف أو الحرب ''. إزاء ذلك، نتساءل عن إن كنا نملك أي حق ادبي في الدعوة الى الزام أحزاب السودان باحترام الدستور، في الوقت الذي نسمح فيه لفرد واحد ان ينتهك الدستور كل يوم امام ناظر أجهزة تنفيذ القانون. كم من هذه الأجهزة التي تلاحق الأحزاب الشرعية بالتقارير، والصحف المسئولة بالاغلاق، والصحافيين الشرفاء بالتوقيف، قد توقفت، هى الأخرى، مرة واحدة لقراءة ما تنشره هذه الصحيفة، والتمعن في انعكاساته الأمنية المحتملة، وانتهاكه البين للقانون الأساس الذي يعلو على كل قانون؟

    هو إدمان الشمولية وحسب

    صاحب الانتباهة أيضاً كان داعية لشمولية، ألفها، و جلي أنه عاجز عن أية حياة سياسية غيرها، خاصة تلك التي توفر أرضاً منبسطة يعدو فيها الجميع على قدم المساواة. لهذا، ينتابنا شك بأن اكثر ما يؤذيه في الاتفاقية هو التحول الديموقراطي، وأن اكثر ما يقلقه في انفتاح الحركة الشعبية على الشمال هو تهديدها لمشروعه الانفصالي والشمولي في آن واحد. و ما الحديث عن التغلغل الشيوعي في الحركة، والذي تشاركه فيه الوكالة التي درجت على دس السم في الدسم، الأخت غير الشقيقة للانتباهة، الا غطاء لتلك النوايا غير المعافاة. ولعل الشيوعيين أنفسهم يتساءلون، كلما قرأوا تلك الصحيفة، ان كان هناك حزب شيوعي غير حزبهم الذي يعرفون أفلح في حشد الملايين لاستقبال الراحل قرنق في الساحة الخضراء، وفي استدعاء عشرات الآلاف لتأبينه في نادي المريخ، وفي اقناع شيوخ الطرق الصوفية وابناء زعماء العشائر المرموقين للانضمام اليه ؟

    أياً كان الحال، لو كان صاحب الانتباهة يملك الحد الأدنى من الاحترام لعقول قارئيه الشماليين لأتبع كل مقال من مقالاته عن الحركة الشعبية و التغلغل الشيوعي فيها بمقال آخر يبين فيه للقراء طبيعة السودان الشمالي الذي ينشد ؟ فالذي يؤسس منبراً للدعوة السياسية يترجى منه الناس أن يبين لهم مقومات تلك الدعوة، وكيف يريد أن يؤسس لها، والى أين سيقودهم بها. ففي الشمال، مثلاً، شيوعيون من '' أولاد البلد '' ، باللغة التي يصنف بها البعض في دواخله أهل السودان رغم الهمهمة بالاحاديث الشريفة الناهية عن تمييز الناس على أساس أعراقهم . من '' أولاد البلد '' الشيوعيين هؤلاء الشايقي و الجعلي و الدنقلاوي، فما الذي ينتوي أن يصنع بهم صاحب '' الانتباهة ''، رغم رأيه ورأينا في أفكارهم وتوجهاتهم، في دولة الشمال التي ينتوي أن يقيم ؟ أي مكان سيضعهم فيه، لاسيما ومن بينهم من اختار الشعب بمحض اختياره في دوائر الخرطوم، عاصمة بني شمال.

    الى جانب ذلك، ما الذي سيفعل بقبط السودان و هم أصحاب حق أصيل فيه ؟ و ما الذي سيصنع بالميرغني الذي لا يميز في تنظيمه السياسي بين المسلم والمسيحي ؟ ولعلنا نسترجع من الذاكرة قول والده العظيم للحاج عوض أبوزيد رحمه الله عندما جاءه مستفسراً عن رغبة قبط المسالمة في الانضمام لاتحادات الختمية : ''هم أخوان لكم، و عملكم الجماعي الخيري لن يمنعكم من الذهاب الى المساجد ولن يمنعهم من الذهاب الى الكنيسة''. أو ستبقى في دولة بني شمال التي يسعى لتأسيسها صاحب المنبر كنائس لهؤلاء يتعبدون فيها أم أنه سيلحق من تبقى منهم في السودان باخوتهم في استراليا وبرايتون؟ نسترجع من الذاكرة أيضاً ما قاله الميرغني للقاضي الراحل احمد الشيخ البشير عندما أنبأه عن حدث استغربه وهو يتدارس في أمر الترشيحات للمحاكم الأهلية. اندهش القاضي الراحل لوضع المرحوم مقار سيدهم، أحد المتقدمين للوظيفة، كلمتي '' قبطي ختمي '' في خانة الديانة في وثيقة الترشيح. قال السيد علي : '' أمثال هؤلاء هم الذين نريدهم في محاكمنا '' ، أو سيكون لهؤلاء القبط السودانيين مكان في محاكم دولته الجديدة ؟ ثم ما هو موقفه من القوى السياسية الأخرى ممن يطلق عليهم الأستاذ قطبي المهدي اسم الحركات العنصرية المسلحة : دارفور، جبال النوبة، شرق السودان ؟ وما الذي سيصنع بالفن الغنائي الشمالي، أسيتولى أمره بالتمزيق ليطهره من الرجس كما فعل من قبل إبان اشرافه على جهاز التلفزيون ؟ وما هو مكان النصارى من جماعة هليلويا في المؤتمر الوطني، أو سيأمرهم باللحاق بـ '' بني جنسهم '' ؟ ثم أخيراً ما هو موقفه من رجال الطرق الصوفية، أسيطلق على كل من انكر و استنكر مواقفه منهم نعت الشيوعي كما فعل مع ازرق طيبة، أو نعت الساذج كما اسمى الشيخ عبدالعال المكاشفي الذي أعلن انضمامه للحركة الشعبية ؟ أو لعله سيستتيبهم قبل السماح لهم بالبقاء في دولة بني شمال ؟ ثم ما هو رأيه في وثيقة حقوق الانسان دون تحايل عليها بالحديث عن صحيفة المدينة الغراء، أو بالتمتمة عن ما كان عليه الحال في فجر الاسلام وضحى الاسلام وظهر الاسلام، فهذه أمور نعرفها جيداً. الحقوق التي نتحدث عنها اليوم هى تلك التي ينص عليها دستورنا ذو الأصل النيفاشي.

    أهل الشمال الذين يدعوهم صاحب المنبر لموالاته يريدون اجابة منه على هذه الاسئلة، ثم فليسطر، من بعد، كل ما عَنَ بخاطره حول الحركة والجنوبيين ومن والاهم. حقاً، إن كان لاتفاقية السلام فضل واحد، فهو أنها وضعت الغلاة من أمثال صاحب '' الانتباهة '' في امتحان عسير، وذلك من حسابات الربح.
                  

02-15-2007, 08:45 AM

ahmed haneen
<aahmed haneen
تاريخ التسجيل: 11-20-2003
مجموع المشاركات: 7982

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. منصور خالد .. عامان من السلام : حساب الربح و الخسارة (Re: محمد يسن علي بدر)

    شكرا محمد يسن .. لهذا التوثيق
                  

02-15-2007, 10:04 AM

محمد يسن علي بدر
<aمحمد يسن علي بدر
تاريخ التسجيل: 12-28-2005
مجموع المشاركات: 623

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. منصور خالد .. عامان من السلام : حساب الربح و الخسارة (Re: محمد يسن علي بدر)


    الافاضل

    ياسر الشريف
    منعم
    والعزيز احمد حنين

    لكم التحية والتقدير وشكرا للمرور ... وانشاء الله نوفق في بقية المقالات الناقصة ...

    لكم كل الحب ...
                  

02-15-2007, 10:16 AM

محمد يسن علي بدر
<aمحمد يسن علي بدر
تاريخ التسجيل: 12-28-2005
مجموع المشاركات: 623

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. منصور خالد .. عامان من السلام : حساب الربح و الخسارة (Re: محمد يسن علي بدر)


    عامان من السلام : حساب الربح والخسارة (14)
    الفساد الكبير والابتزاز الزري

    الفساد و الجنوب

    العينة الأخيرة من العينات العشوائية التي اخترنا، هى تلك المتعلقة باستشراء الفساد في حكومة الجنوب، ومن وراء التهمة، الظن البائر ان الجنوبيين، هكذا بالجملة، فاسدون بطبعهم. الفساد ليس وصمة تلحق بجنس معين، ولا ينبغي أن يكون موضوعاً للابتزاز و المتاجرة السياسية أو الازراء بالآخر، ويقولون أزري بالشخص عندما يُدخل عليه أمراً يريد به التلبيس عليه. هل في الجنوب فساد؟ قل فيه فساد، و فساد كبير. وهل في الشمال فساد؟ قل فيه فساد أعمق توطد ثم تصلب. احتمال الفساد في الجنوب هو الذي دفع الراحل قرنق ليقول في خطابه بمناسبة الذكرى الثانية و العشرين للحركة (رمبيك، 16 مايو 2005) ان ''الحكم الصالح لا بد ان يكون شفافاً و خالياً تماماً من الفساد و المحاباة ''. و هو الذي دفع خليفته سلفاكير للقول في جوبا عند الوداع الأخير للراحل ''سأكون قاسياً و بلا هوادة ضد الفساد وسوء الادارة و الاستغلال غير المشروع للأصول المملوكة للشعب''. أو في حديثه لمؤتمر المانحين في باريس: ''مهما كان وضوح سياستنا، سنفشل تماماً في اكمال جهودنا التنموية ما لم نفلح في اجتثاث الفساد، فالفساد خطر على النمو الاقتصادي، وعلى التوزيع العادل للثروة. ويفرض علينا دستورنا خلق المؤسسات، و اصدار القوانين لاجتثاث الفساد و الحيلولة دون تبديد الممتلكات العامة'' (باريس 9 مارس 2006).
    _________________________________________________
    موضوع الفساد، اذن، نستقبله بتحليل لظاهرة الفساد وردها الى عناصرها الأولية، ثم بتلمس آثارها على الوطن كله. نتساءل من بعد، لِمَ تعجز الصحف التي تلبثت عند الفساد في حكومة الجنوب و جعلت منه قضية نابهة الذكر (cause celebre) عن الامعان في الصورة الكاملة للظاهرة؟ ولماذا يبصر بعض الناس القشة في عين أخيه و لا يرى الجذع في عينه؟
    الفساد يقود لخلل كبير في الحكم، و اضطراب في تدبير الأمور و لا يكون الا بما كسبت ايدي الناس في البر و البحر. وتتفشى ظاهرة الفساد، أكثر ما تتفشى، في الدول و الانظمة التي تختل فيها المؤسسية و تنعدم الشفافية في اتخاذ القرار. لهذا توافق الطرفان، من بين ما توافقا عليه عند توزيع السلطات و انشاء هياكل السلطة، على مبادئ هادية للحكم. من هذه المبادئ '' السعي لتحقيق الحكم الرشيد والخضوع للمساءلة والشفافية accountability and transparency والديمواقراطية وسيادة القانون على كافة أصعدة الحكم لتحقيق السلام الدائم ''. فالسلام لا يتحقق بنهاية العنف، بل ان تحقيقه أيضاً رهين بضمان مساءلة الحاكم ان اخطأ في حق المحكوم أو اضار بمصلحته. ولا يدوم ان لم يتم اتخاذ القرارات التي تمس مصالح المواطنين بأسلوب شفاف دون تمويه للحقائق أو تعتيم عليها. ولا يثبت ان لم تخضع مؤسسات الحكم على كل الصُعُد لسيادة حكم القانون. ولضمان تحقيق هذه الأهداف أوجب الدستور على الدولة، الى جانب أشياء أخرى، سن القوانين وانشاء المؤسسات التي تحد من الفساد وتحول دون اساءة استخدام السلطة و تضمن الطهارة في الحياة العامة (المادة 16 (2 أ)).

    وحين وقف دستور السودان الانتقالي عند هذا النص مضى دستور جنوب السودان الى انشاء مفوضية لمكافحة الفساد يرشح رئيسها وأعضاءها رئيسُ حكومة الجنوب ويقر الترشيح المجلس التشريعي لجنوب السودان ولا يُعفى اعضاؤها الا بموافقة ثلثي المجلس (المادة 147). هذه المفوضية تم تشكيلها بالفعل، وأوكل لها، حسب ما نص عليه دستور الجنوب، التحقيق في الاتهامات حول الفساد الذي يمس الممتلكات العامة والقطاع الخاص، وسوء الادارة في المؤسسات العامة خاصة فيما يتعلق بالمحسوبية، والانحياز القبلي، والتمييز بين العاملين على أساس النوع، والرشوة، والاختلاس، والتحرش الجنسي. غير ان الدستور يحظر على المفوضية تناول اية من هذه الموضوعات ان احيلت للقضاء في أية درجة من درجات التقاضي، و يعتبر حكم القضاء بشأنها نهائياً.

    عناصر الفساد وأسبابه
    كثيراً ما يصحب الحديث عن الفساد تخليط مقصود يراد به تمكين الجاني من الفرار بجرمه، أو يتضمن اتهامات باطلة لا يسندها دليل، وعلى وجه التحديد، لا يملك مطلقوها دليلاً ملموساً عليها يُعتَد به قانونياً. أغلب هذه التهم تتعلق بانتهاب المال العام وهو جرم كبير. على أن باب الفساد أوسع من هذا بكثير، فجرائمه تضم، ولا تنحصر على، سوء استغلال المال العام دون سند شرعي لاغراض غير تلك التي عُين لها، استغلال المنصب الرسمي لتحقيق مصلحة خاصة، التهرب من سداد الضرائب أو التهاون عمداً في جبايتها أو الاعفاء غير المشروع منها، اغراء الموظف العام بكسب مالي أو نوعي لاداء فعل أو الامتناع عن فعل رسمي، اصدار المسئول لمعلومات كاذبة يعلم انها كاذبة في وثيقة رسمية، عدم افصاح الموظف العام عن مصلحة له، مباشرة كانت أو غير مباشرة، في قرار اتخذه أو هو بصدد اتخاذه، تعيين شخص في موقع لا يستاهله مقابل اغراء أو جائزة أو بسبب الرهبة، استيلاء أي مسئول على الاملاك العامة وتحويلها لغير اغراض الدولة أو المؤسسة العامة، تسخير المال العام للافساد في الانتخابات (رشاء الناخبين) أو شراء الولاء السياسي للحزب الحاكم. ولنا في السودان تجارب في هذا لا تختلف عن تجارب كل الأنظمة الشمولية أو شبه الشمولية في الوطن العربي(الناصرية، البعثية، الاتحاد الاشتراكي السوداني، نظام الانقاذ). بل حتى في ظل الأنظمة التعددية يقع الفساد عندما تنعدم الرقابة الشعبية على العمل العام، أو لتواطؤ المجتمع المدني أو التقاليد الاجتماعية في حماية المفسدين.
    المسئولية عن محاربة الفساد تقع أولاً على الدولة وعلى ولاة الأمر، الا انها لا تقتصر عليهم. ففي حالة الدولة، يقع الفساد، لا محالة، عندما يصبح التعيين في الوظيفة العامة، مثلاً، رهيناً بالانتماء السياسي أو الحزبي أو العرقي أو الديني، لا بالأهلية للوظيفة. ويقع، لا محالة، عندما يصبح التدخل السياسي في الشئون الادارية، وبصورة مخالفة للوائح، أمراً هيناً لا يقلق المسئول ولا يثير ثائرة المجتمع. ويقع أيضاً عند استباحة المال العام، ففي الاباحة عند الأصوليين خيار بين الفعل والترك. وأقرب الطرق لذلك الغاء، أو تجاهل، منظومات السلوك المتعارفة في ادارة شئون الموظفين، أو في ضبط المشتروات والمبيعات، أو في طرح العطاءات، أو في مراقبة تشييد المنشآت العامة. كما يستباح المال العام عندما تصبح تقارير المراجع العام موضوعاً تتناوله الصحف والبرلمانيون لاسبوع وبعض اسبوع ثم تنتهي في الأضابير.

    من جانب آخر تفتح الشمولية السياسية الشهية للهيمنة شبه المطلقة على الاقتصاد وذلك باب كبيرللفساد واختلال الحكم. وفي قول ابن خلدون ''إذا اشتغل السلطان بالتجارة فسد السلطان وفسدت التجارة''. ويعرف القاصي والداني كيف انتهبت أموال البنوك عبر قروض لا يدعمها ضمان موازٍ. هذا النوع من الممارسات المالية يطلق عليه اهل الاقتصاد السياسي اسم القرصنة الاجتماعية لأنه، أولاً لا يخلق حركة تراكمية تدعم الاقتصاد الكلي، وثانياً يتعارض مع الآليات الاقتصادية المتعارفة لتسيير الاقتصاد وادارة المال، وثالثاً لا يطور الا الريوع غير المنتجة. ولقد أحسن بنك السودان صنعاً بالمراجعات التي قام بها لمعالجة الاختلالات التي مُني بها الجهاز المصرفي. هذه المعالجات لن تكون وافية ان لم يصحبها ضبط لإجراءات التحرر الاقتصادي. تحرير الاقتصاد أمر لا مهرب منه، ليس فقط لمقتضيات عولمة الاقتصاد والايفاء بشروط الالتحاق بمنظمة التجارة الدولية، وانما أيضاً كمنهج اقتصادي، أثبت جدواه. فتحرير الاقتصاد في الهند، مثلاً، أخرج مائتي مليون هندي، وفي الصين ثلاثمائة مليون صيني، من قائمة الفقر المدقع، أي أدنى مستويات الفقر (أدنى مستويات الفقر يحددها البنك الدولي وفق معايير معقدة بالدخل اليومي للفرد الذي لا يقل عن دولار أمريكي واحد). على أية حال، أصبح تحرير الاقتصاد، لزاماً علينا بنص دستور السودان المؤقت المادة (10/2).
    ويهدف تحرير الاقتصاد، من بين ما يهدف، الى ازالة التدخل الحكومي في الأسواق المالية والاستثمار الانتاجي والاستثمار الخدمي الاجتماعي باستثناء الخدمات الاجتماعية (التعليم والصحة) والى حد ما البنى التحتية الاستراتيجية (الطاقة، الطرق، النقل البري و النهري) التي يتطلبها بناء ''اقتصاد كفء معتمد على ذاته''. ومن عناصر الفساد في اجراءات تحرير الاقتصاد الخوصصة المنفلتة مثل بيع الأصول بأقل من قيمتها الحقيقية بكثير وفي صفقات تفتقد الشفافية. وحول هذا الموضوع استجدنا حديثاً للشريف صديق الهندي حول الاتجاه لخوصصة الخطوط البحرية السودانية (الصحافة 27/11/2006) أبان فيه المخاطر التي تترتب على عمليات بيع الأصول دون التزام بالمعايير المتعارفة التي ينبغي الالتزام بها. ومن الأبواب التي يلج منها الفساد أيضاً انعدام الرقابة المالية المركزية على الجبايات التي تتحصل عليها، والأموال التي تدرها، مؤسسات عامة (وزارات، مصالح أو شركات تملكها الدولة). وان جاز هذا الوضع في الماضي في ظل الشمولية التي كانت سائدة، الا أن الدستور اليوم يلزم الدولة بايداع كل هذه الأموال في صندوق قومي ترعاه وتديره وزارة المالية وفقاً للقواعد المحاسبية المعروفة، كان ذلك في التحصيل أو الانفاق. وقد أسعدنا كثيراً توجه وزير المالية والاقتصاد لإنهاء الأوضاع التي خلقت بؤراً حكومية للاحتكار مما أدى الى اهدار المال، وفتح المنافذ للفساد، واضعاف القطاع الخاص. ولعله يذهب بتوجهه هذا الى أمرين: الأول هو انهاء توغل الوزارات في مناشط اقتصادية ليست هي من صميم واجبها، بل ان الانغماس فيها قد ألهى تلك الوزارات عن واجباتها الرئيسة. الأمر الثاني هو الشركات الخاصة التي ثم تمويها من المال العام وسجلت باسم اشخاص ويهيمن بعضها هيمنة كاملة علي قطاعات معينة. فمن حق الشعب أن يعرف الى أين يذهب عائد هذه الاستثمارات ؟ وما هي الرقابة التي يمارسها عليها خازن امواله؟ وهل هي جزء من ''الاموال المستحقة للحكومة '' بموجب المادة 197 (1) من الدستور؟ أم هي مستحقة لجهة أخرى؟ وان كان الأمر كذلك، فما هي هذه الجهة؟
    وبعيداً عن الدولة، تكرس الفساد مفاهيم مترسبة في مجتمعاتنا التقليدية هى التي تقود الى ما أسميناه تواطؤ المجتمع مع المفسدين. الدولة في هذه المجتمعات شئ هيولي والهيولية وصف يطلق على الأشياء التي تلوح مع ضوء الشمس عندما ينفذ الى الدار، تراها ولا تلمسها. الأقرب لهذه المجتمعات هو الأسرة، والعشيرة، والقبيلة. وبسبب قلة التربية الوطنية، والتي كانت موضوعاً راتباً في مناهجنا التعليمية، كثيراً ما يُغَلِب المسئول التزامه نحو الأقربين على ولائه لذلك الجسم الهيولي الذي نطلق عليه اسم الحكومة. تلك مشكلة سيظل الجنوب، بوجه خاص، يعاني منها، رغم ما نص عليه دستوره.
    يزيد المشكل تعقيداً الضعف الكامن في منظمات المجتمع المدني القائمة، أو انعدام بعض منها. فالمنظمات المهنية الراهنة، مثلاً، لن تقوى على كشف الفساد و درئه ان لم تبادر هي نفسها باحترام منظومات الأخلاق المهنية في وسطها، بدلاً من التستر على أخطاء المخطئين، أو الترخص في أمرها، و بعضها جسيم. كما قد يفيد المجتمع كثيراً قيام منظمات طوعية لحماية المستهلك تؤدي دورها بعيداً عن ذرائع السياسة (Politics)، وتنصرف الى نقد السياسات (Politics) كما تفعل، بجدارة، منظمات حماية البيئة. ولعلنا في هذا المقام، نزجي تهنئة حارة للأستاذ عثمان ميرغني لمثابرته على نقد السياسات بصورة موضوعية وعلمية. على أن ما هو أشد سوءاً من الفساد، عدم الاستحياء من اجتراحه، أو التهوين من أمره. ذلك هو السوء الجامع لكل الآفات والذي لا تبلغه الأمم إلا عندما يصبح فيه حب المال سداً بين أهلها وبين المروءة ''ولو بسط الله الرزق لعباده لطغوا في الارض''.

    البعد الدولي للفساد
    موضوع الفساد اكتسب بعداً دولياً عندما أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة الاتفاقية الدولية لمحاربة الفساد وكان السودان من بين الموقعين عليها. هذه الاتفاقية دخلت حيز التنفيذ في نهاية العام الأسبق (14/12/2005)، ومن بين ما أشارت اليه في ديباجتها دور الفساد في تكريس الفقر واعاقة التنمية المستدامة. ومحاربة الفقر ليست فقط واجباً التزمنا به كدولة على الصعيدين الافريقي والأممي، بمقتضى برنامج اهداف ألفية التنمية(Millennium Development-Goals) ، بل أيضاً أقررناه بمحض اختيارنا كالتزام دستوري (المادة 10(1)). ولا خلاف في أن محاربة الفساد تخلق أرضية أفضل للنمو الاقتصادي، وتحقق كفاءة أعلى للعمل، وتعين على توزيع أشمل للثروة القومية، وتشجع الاستثمار الداخلي والخارجي، وتعيد الثقة المفقودة بيننا وبين المجتمع الدولي.
    وقبل شهرين (نوفمبر 2006) نشرت ''منظمة الشفافية الدولية''
    (Transparency International) تقريرها السنوي الذي ترصد فيه الفساد في دول العالم وفق المؤشرات المعروفة للحكم الرشيد. في ذلك التقرير صُنِف السودان ضمن الدول الست الأكثر فساداً في العالم (الدول الأخرى هي بنغلاديش، تشاد، جمهورية الكونغو الديمقراطية، غينيا والعراق). هذا التقرير تناولته بعض الصحف كخبر، واقدمت على تحليله بالقدر الذي يلقي ضوءاً كاشفاً على التقرير صحيفة واحدة هي السوداني (22/11/2006). و نقطع بأن بعضاً القى بالتقرير جانباً مكتفياً بالقول: ''السودان مستهدف ''. و لو اطلع هؤلاء على التقرير لوجدوا ان قائمة الدول الأكثر فساداً من مجموع دول الأمم المتحدة البالغ عددها (163) دولة، ضمت ثمان و عشرين دولة منها الآسيوي (اندونسيا، كمبوديا، باكستان، بنغلاديش)، ومنها الافريقي (توغو، الكمرون، النيجر، نيجيريا، كينيا، سيراليون، كوت ديفوار)، ومنها الأوروبي (بيلاروس، طاجكستان، و اوزبكستان، والأخيرتان أوروبيتان لا بحكم موقعهما الجغرافي و انما بحكم وضعهما السياسي كجزء من الاتحاد الروسي). فلماذا مثلاً لا يستهدف التقرير الهند أو ماليزيا أو الفيتنام في آسيا، أو غانا وجنوب أفريقيا وتونس في افريقيا، وكلها من الدول التي أفلحت في الحد من الفساد.

    في واقع الأمر، لم يقتصر التقرير في رصده للفساد في العالم على دول العالم الثالث بل شمل كل الدول الكبرى بما فيها الولايات المتحدة. وفي الحديث عنها أورد التقرير أنه في الفترة بين 1990- 2004 كانت هناك حوالى (10) آلاف حالة من حالات الفساد قدمت للمحاكم الفيدرالية تشمل التزوير، الرشوة، خرق القوانين المتعلقة بتمويل الحملات الانتخابية، وعرقلة الاجراءات الجنائية. وجاء ترتيب الدول الثماني عشر الأقل فساداً في العالم كالآتي : فنلندا، ايسلندا، نيوزيلندا، الدنمارك، سنغافورة، السويد، سويسرا، النرويج، استراليا، النمسا، لوكسمبورج، المملكة، كندا، هونج كونج، المانيا، اليابان، فرنسا، بلجيكا، تشيلي، والأخيرة من دول العالم الثالث. كما كانت الدول الأقل فساداً في افريقيا، حسب التقرير، هى بالترتيب: بوتسوانا، موريشس، جنوب أفريقيا، تونس، نامبيا، سيشل، مصر، غانا، السنغال، ليسوتو، بوركينافاسو، المغرب والجزائر.
    الحديث عن الاستهداف، إذن، ينبغي أن يسبقه النظر في المعايير والمؤشرات التي اهتدت بها المنظمة للقرار، وبعضها أشرنا له. هل التزمنا بها في السودان؟ هل نحن بصدد مراجعة لأوضاعنا من أجل تحقيق تلك الأهداف، لا سيما و اتفاقية السلام الشامل والدستور يحضاننا على ذلك؟ هذا، الى جانب الالتزامات الدولية والأقليمية الملقاة على عاتقنا لمحاربة الفساد بموجب الاتفاقية الدولية التي أشرنا اليها، وبرنامج الشراكة الجديد للتنمية في افريقيا (نيباد) وما ترتب عليه من خلق آلية لمراجعة أداء الدول الأفريقية في قضايا الحكم السليم الا وهى الآلية الأفريقية لمراجعة النظراء. وقد انضم السودان الى تلك الآلية قبل عام. وحسب تقديرات، برنامج النيباد، والذي هو رؤية واستراتيجية للتنمية والحكم الصالح، فإن الجزء الأكبر من الموارد التي تحتاجها افريقيا (بما في ذلك الغاء الديون) يجئ من الخارج ولا يتأتى الحصول عليه، حسب العهد الذي قطعته أفريقيا على نفسها و تواصت عليه مع شركاء التنمية، الا باحترام معايير معينة للحكم الصالح تتضمن مكافحة الفساد.

    هذا هو نوع الحوار الذي يجب أن تنشغل به الصحافة ان كان الهدف من الحديث عن الفساد هو توعية القارئ بظاهرة الفساد، و حث الدولة ومؤسسات المجتمع المدني على محاربته. ولكن يبدو، أن الهدف من أغلب ما ينشر عن الفساد هو لطخ البعض بسوء، ولهدف سياسي معين، والنماذج عديدة. وعلنا نختار من هذه النماذج ما أسمته ''الانتباهة'' الفضيحة الداوية وأسمته ''آخر لحظة'' القنبلة الداوية في عناوينهما الرئيسة في الصفحة الأولى، وباللون الأحمر الذي لا تخطئه عين. نشرت الصحيفتان في نفس اليوم (26/12/2006) الخبر منسوباً لمصدر خاص (في حالة آخر لحظة) و''خاص الانتباهة''، في الحالة الثانية. والخاص لا يعمم، الا إن كانت الصحيفتان تنتميان لدار نشر واحدة، وكان مصدرها في اشاعة الأخبار واحداً. الخبر الذي شاع بين الناس هو ما أسمى فضيحة الحسابات الخاصة لبعض قيادات الحركة الشعبية، وعلى وجه التحديد : نائب رئيس حكومة الجنوب رياك مشار، وزيرة الطرق والنقل ربيكا قرنق، رئيس أركان حرب الجيش الشعبي وياي دينق.

    في الوثائق التي نشرتها الصحيفتان أخطاء فادحة تنبي، ليس فقط عن عدم صحة الوثائق، بل أيضاً عن عدم مهارة صناعها في التزوير. مثال ذلك توريد مبلغ لحساب وياي دينق في يوم 31 نوفمبر وهو يوم لا وجود له في الروزنامة، أو ايداع مبالغ في ثلاث حالات هى أيام أحاد، والأحد يوم عطلة للبنوك في نيروبي، أو الاشارة لاسم مشار في الوثيقة بالملازم ثان (Lieutenant). دكتور رياك مشار، ولعل صانع الوثيقة لا يدرك الفرق في اللغة الانجليزية بين تعبير(Lieutenant) أي ملازم ثان و(Lieutenant General)، أي فريق وهى الرتبة العسكرية للرجل. رغم ذلك، حسناً فعل رئيس حكومة الجنوب عندما وجه الحديث داوياً وصريحاً، أو كما قال loud and clear، لكل من لحقت به التهمة لابراء ذمته امام المحاكم. وهذا هو ما ينبغي أن يكون. فالمسئولية الاخلاقية، قبل السياسية، تلزم كل مسئول في حكومة الجنوب بأن يكون مثل أمرأة قيصر، فوق مستوى الشبهات فيما يتعلق بالمال العام. هذا الواجب تفرضه عليهم أرواح الآلاف الذين ابادتهم الحروب وهم ينتعلون دماءهم من أجل ان يتحقق السلام الذي ينعم به الجنوب اليوم، ويتوافر العدل الذي طالما انتظره أهله. كما توجبه عليهم حال أهل الجنوب التي تغني عن السؤال، فمنهم من ضنكت الحرب عيشتهم وفرقتهم اباديد وهم اليوم في توق للعودة الى ربوع أهلهم، ومنهم من زهد في كل شئ وحمل السلاح ليفني زهرة عمره حتى يكون سلام نصيف.
    وعلى أي، ففي اعقاب نشر تلك الوثائق تناول الموضوع كثيرون بمهنية وموضوعية. من هؤلاء نشير الى د. الطيب زين العابدين الذي تناول موضوع الفساد في حلقتين في جريدة الصحافة في مطلع العام بصورة شاملة حتى لا يصبح الموضوع ذريعة للابتزاز. كما نشير الى مقال الأستاذ عثمان ميرغني الذي لا شك في أن الكاتب نفذ فيه الى ما وراء فرقعة القنابل الداوية، فتساءل: ''ولكن من يكشف أموال الخرطوم؟'' (السوداني 27/12/2006). صحيفة أخرى(الصحافة) تناولت موضوع الفساد بشكل جرئ في بعض افتتاحياتها، وعند تناولها لموضوع الوثائق، وصفت الصحيفة نشر تلك الوثائق بـ '' الضرب تحت الحزام ''. ففي لقاء صحفي مع الدكتور أمين حسن عمر (الصحافة 10/1/2007) قال أمين: ''قد تكون هذه الأمور كلها مصطنعة وليست حقيقية، لا أعتقد أن المؤتمر الوطني له مصلحة في هذا. فهناك مؤسسات تشريعية ورأي عام واعلام في الجنوب. وهناك أيضاً اعلام في الشمال ومؤسسات دولية للمراقبة. المؤتمر أكبر من أن يقوم بعمل كهذا، وان قام به أحد من المؤتمر، مثلاً، فهذا عمل شخصي لا يحسب على المؤتمر''.

    محمود يريد أن يعرف
    في حديثه حول تلك الاتهامات، قال رئيس حكومة الجنوب انه في ذات الوقت الذي يطالب فيه من طاله الاتهام من مرؤوسيه بابراء ذمته أمام القضاء، يدين أيضاً استخدام الفساد كأداة للابتزاز والقذف والتشهير. كما دعا الصحافة ومنظمات المجتمع المدني والحكومة الى ابتدار حملة وطنية لمكافحة الفساد. تلك دعوة لكل من يقلقه أمر الفساد في السودان، جنوبه وشماله، وشرقه وغربه. فهلا انبرى للاستجابة لتلك الدعوة، قبل غيرهم، اولئك الذين حملتهم غيرتهم الوطنية، وحرصهم على حقوق المواطن الجنوبي، على الدفاع عن حُرمة المال العام في الجنوب وحده. وفيما يتعلق بنا، فنحن عازمون على المضي في تلك الحملة الى آخر الشوط، بدءاً بالجنوب، ولن نقف عنده.

    من جهة أخرى، نشكر صاحب ''الانتباهة'' لإفراده صفحة كاملة أسماها ''نداء اليقظة'' ليتساءل فيها: ''أين ذهبت أموال الجنوب؟ ''، ويضيف لذلك السؤال غابة من التساؤلات: ''ما هى القطط السمان التي لغفت كل شئ؟ '' ما هى البالوعات التي ابتلعت أموال البترول وميزانية جنوب السودان؟'' الخ. هذه أسئلة مشروعة ومن مصلحة الجنوبيين أنفسهم الرد عليها. ونحمد لرئيس حكومة الجنوب أولاً انشاءه لمفوضية مكافحة الفساد، وثانياً قراره، بعد تحقيق دام شهرين، بفصل وكيل وزارة المالية ونائبه، ومدير الجمارك ونائبه بتهمة الفساد وتقديمهم للقضاء، وكان ذلك قبيل نشر الوثائق المزعومة، وثالثاً أمره لمفوضية مكافحة الفساد بالتحقيق بشأن خمسة عقود وقعها مسئولون جنوبيون في صفقات تثير الشبهات.

    في ذات الوقت، يجب أن لا نتجاهل موضوع الوثائق التي أخذت تترى حول الفساد في الجنوب وتوزع على صحف تنشر، ولا تبالي بما تنشر. أولى هذه الوثائق كانت واحدة سُربت من أحد المصارف، ليس فيها ما يشين أو يدين، وهدف ناشروها من اشاعتها إلحاق الأذى برجل أطهر من الطُهر هو نيهال دينق نيهال. من هو وراء هذه الوثائق؟ وما هو الهدف من نشرها؟ وان كان مصدرها جهة حزبية فما هى مصلحة تلك الجهة في ايغار صدور الجنوبيين؟ وان كانت جهة رسمية فلمن تتبع هذه الجهة؟ ومنذ متى أصبح دور الجهات الرسمية التي تملك معلومات تدين مسئولاً هو اشاعة ما تملك من معلومات في الصحف بدلاً عن احالته لمن يتبع له هذا المسئول، أو للمؤسسات العدلية؟ نحن لا نستغرب ضرب صاحب ''الانتباهة'' للطبول حول هذه الوثائق فقد فضح هدفه وجلاه حين كتب عقب نشرها: ''تُرى هل قرأ الشيخ الصابونابي وزعماء القبائل والطرق الصوفية الذين مناهم عرمان (ياسر عرمان) بالأماني العراض قبل أن يجندهم لصفوف الحركة الشعبية هذا الكلام'' (الانتباهة 28/12/2006). فالرجل مغيظ أيضاً من موالاة هؤلاء الرجال للحركة. ولكن نعجب أشد العجب أن كان مصدر هذه الوثائق ذا صلة بأية جهة رسمية أو حزبية، يعنيها أمر اتفاقية السلام. أمام هؤلاء، فيما تبقى من عمر الاتفاقية، محطتان: الانتخابات العامة وحق تقرير المصير، ومثل هذه الممارسات لا تعين فاعليها على هبوط آمن في أي من المحطتين. وبعيداً عن اتفاقية السلام التي تمزق أوصالها تلك الممارسات، نلمس في الأمر أيضاً اخلالاً كبيراً بابجديات العمل الحكومي، ان جاءت من جهة رسمية، لأن ما توجبه قواعد العمل، كما قلنا، هو ايداع الوثائق المزعومة أما لدى الرئيس المختص أو الأجهزة العدلية، لا الصحف. الاخلال بتلك القواعد موضوع نخطئ كثيراً في حق أنفسنا إن أغفينا عليه.

    وفي النهاية، كم نتمنى أن يمنح صاحب ''الانتباهة'' و''نداء اليقظة'' طرفاً من ''انتباهه'' وبعضاً من ''يقظته'' الى الموقع الجغرافي والموضع السياسي الأقرب اليه من جنوب السودان ومن الحركة الشعبية، طالما كان على هذا القدر من الحرص على مصالح أهل الجنوب. أوليس الأقمن بالداعية لذهاب الجنوب الى غير رجعة، من منطلق الحرص على الشمال، أن يبين لـ ''ناس الشمال'' الحقائق حول ما ورد في نقاش الاسلاميين الجرئ في الأشهر الماضية (عبد الوهاب الأفندي، المحبوب عبد السلام، التجاني عبد القادر) حول تحول البروليتاريا الاسلامية ممن ينبغي أن يكونوا أهل قشف وغلظ في المعاش الى رأسمالية وطنية (التجاني عبد القادر، الصحافة 10/12/2006)، أو عن كيف صار الفساد جزءاً أساساً من الهيكل السياسي (عبد الوهاب الأفندي، الصحافة 29/11/2006). الفساد فساد اينما كان، والأكالون للسحت يسحتهم الله بعذابه اينما وجدوا. ولا يصمت عن هذا أو ذاك الا شيطان أخرس ينتحل لنفسه فضائل هو قاصر عنها. فمحمود يريد أن يعرف. هذا درس تعلمناه في المدارس الأولية بشمال السودان.
                  

02-18-2007, 08:51 AM

محمد يسن علي بدر
<aمحمد يسن علي بدر
تاريخ التسجيل: 12-28-2005
مجموع المشاركات: 623

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. منصور خالد .. عامان من السلام : حساب الربح و الخسارة (Re: محمد يسن علي بدر)

    عامان من السلام : حساب الربح والخسارة (15)
    المصالحة الوطنية والمطالب التعجيزية

    تضمنت اتفاقية السلام الشامل نصاً حول الوحدة الوطنية وتضميد الجراح باعتبارهما عنصرين مهمين من عناصر شمولية الحل واستدامة السلام. جاء في النص: ''يتفق الطرفان على بدء مصالحة وطنية شاملة و تضميد الجراح في جميع انحاء القطر كجزء من عملية بناء السلام. و تقوم حكومة الوحدة الوطنية بصياغة آلياتها و اشكالها'' (الفقرة 17 من بروتوكول ماشاكوس). وابانت مصفوفة تطبيق الاتفاقية المعالم الرئيسة لهذه العملية، مثال ذلك حملات يشارك فيها الاعلام، المؤسسات التعليمية، حملات الاحزاب السياسية، منظمات المجتمع المدني، القادة الدينيون، قادة القبائل. وكجزء من عملية تضميد الجراح أيضاً أوردت المادة 226(7) من الدستور أن على رئاسة الجمهورية انشاء لجنة مؤقتة للنظر في تظلمات من احيلوا للتقاعد أو فصلوا لاسباب سياسية تقدم توصياتها لرئاسة الجمهورية''.
    كلا الواجبين لابراء لنا منهما حتى ينفذا، ولم ينفذا بعد، ولأسباب. لو أبطأ القارئ العجول الحكم على ما أوردناه عَرَضاً في المقالات السابقة حول الوحدة الوطنية لكان أجدى، فلننتظر. تلك الأسباب تتضح بجلاء عند النظر الى ما اعتبره المعارضون شروط لزوم للانخراط في مصالحة وطنية قوامها اتفاقية السلام الشامل.
    ___________________________________________________________________

    رؤية التجمع الوطني للاتفاقية
    عقب التوقيع على البروتوكولات الستة لاتفاقية السلام الشامل في 26/5/2004 تدارس التجمع الوطني الديموقراطي، كما أصدر حزب الأمة، وثيقتين أبديا فيهما رأيهما حول الاتفاقية من بعد أن رحبا بنهاية الحرب وحلول السلام. في ترحيبه بالبروتوكولات، انطلق التجمع مما أسماه ''حقائق أساسية'' تتلخص في الآتي :
    × إنهاء الحرب كمدخل رئيس '' لمواجهة الأزمة المزمنة والتي ازدادت استفحالاً في ظل نظام الانقاذ''.
    × ''خلخلة تركيبة النظام الشمولي بما يمهد لتفكيكه لصالح نظام ديموقراطي تعددي''.
    × ''خلق واقع جديد يوفر مناخاً للصراع السياسي السلمي''.
    × ''احتواء البروتوكولات على جوانب تلبي تطلعات الشعب'' مثل الالتزام بالتحول الديموقراطي، حق تقرير المصير للجنوب، جعل الوحدة خياراً جاذباً.
    في نفس الوقت نعى البيان على البروتوكولات إغفالها لموضوع تصفية الكوادر في الخدمتين العسكرية والمدنية، وتبنى بعض حقوق الانسان الواردة في العهود والمواثيق الدولية واسقاط بعض آخر، وسيطرة طرفي الاتفاق على الحكم بنسب حدداها لنفسيهما. دعا التجمع من بعد، للمصادقة على الاتفاقية عبر مؤتمر قومي تشارك فيه كل القوى السياسية، كما نادى بشيئين آخرين: الأول وضع مشروع قومي للاجماع الوطني تلتزم به كافة القوى الوطنية، ويحكم الفترة الانتقالية، ويُبنى على أساس التراضي. والثاني اجراء مصالحة وطنية ترتكز على المحاسبة والمساءلة في انتهاكات حقوق الانسان والفساد المالي والاداري خلال السنوات الماضية. وفي سبيل تحقيق ذلك دعا التجمع الى تعبئة الجماهير واستنهاضها من أجل '' فرض التحول الديموقراطي ''ومن أجل أن''تصبح الاتفاقية شاملة''. النصوص التي أبرزناها بالبنط العريض في ما لخصنا من وثيقة التجمع، وكما سنفعل مع وثيقة حزب الأمة، ذات أهمية قصوى في التحليل الذي نحن بصدده.

    رؤية حزب الأمة للاتفاقية
    وفي 17/6/2004 خرج حزب الأمة على الملأ بوثيقة ضافية لم تترك فقرة في البروتوكولات الستة الا وتناولتها بالتحليل، بل بالجرح والتعديل. ذلك التحليل أو الجرح ـ أسمه ما شئت ـ سبقته مقدمة عن جهود حزب الأمة، من وجهة نظره، لتحقيق السلام بدءاً بمؤتمر كوكادام ( مارس 1986)، ثم عبوراً بكل المبادرات السلمية التي شارك فيها مع الآخرين أو قام بها منفرداً. تلا ذلك تحليل، من وجهة نظر الحزب أيضاً، للظروف التي قادت الطرفين للاتفاق. وكحال التجمع أعلن حزب الأمة تأييده للبروتوكولات، كما أبان وجوه اعتراضه عليها، وفق ما أسماه ''معايير موضوعية لتقييم عملية السلام''. من دواعي التأييد: انهاء الحرب ومنع استخدام العنف كوسيلة لتحقيق أهداف سياسية، اقرار مبدأ الحلول الوسطى والتنازلات المتبادلة، التخلي عن الاستبداد الذي يقود لفساد الحكم، برنامج التحول الديموقراطي، الاعتراف بالتعدد الديني والثقافي والاثني.
    ذلك هو القليل الذي أصابت فيه الاتفاقية، في نظر حزب الأمة، وما تبقى منها استُجرح وصار أهلاً للتعديل، إن كان له أن يصيب قبولاً عند حزب الأمة. تنبأ حزب الأمة أيضاً في وثيقته بالفشل للاتفاق ''مثل اتفاقية اديس ابابا 1972 واتفاقيات السلام من الداخل'' بينما بقيت، كما جاء في الوثيقة، اتفاقية كل الأحزاب السودانية 1953 التي مهدت الطريق للاتفاقية الانجلومصرية .1954 وحول هذه النقطة بالذات، غاب عن ذهن من صاغ تلك الوثيقة أمران: الأول هو أن اتفاقية اديس ابابا ''الثنائية'' أصبحت هى برنامج حكومة انتفاضة أبريل 1985 (حكومة الأحزاب الديموقراطية والقوى الحديثة) لحل مشكلة الجنوب، ولحكومة الحزبين من بعدها، رغم شعار محو آثار مايو مما يعني أنه لم يكن لتلك القوى السياسية حل غيرها. الثاني هو أن اتفاقية الأحزاب السودانية ، هى أس المشكل. فالاتفاقية التي وصفتها وثيقة حزب الأمة باتفاقية كل الأحزاب السودانية كانت في الواقع ''اتفاقية'' كل الأحزاب الشمالية '' إذ لم يشارك فيها سياسي أو تنظيم جنوبي واحد، رغم تلاقيها في مصر للتقرير في أمور منها مصير الجنوب.
    في وثيقة حزب الأمة قضايا لن نقف عندها لأنها لم تعد ذات موضوع إذ عالج الدستور بعضها مثل اخضاع القوات المسلحة للقرار المدني الديموقراطي التعددي (المادة 144 (3))، أو لم تكن أصلاً ذات موضوع مثل ''أن يكون الدستور القومي مهيمناً على سواه من نظم قانونية''، فذلك أمر حُسم في ماشاكوس قبل التوقيع على البروتوكولات الستة (الفقرة 311)، بالرغم من أنه مبدأ قانوني لا يحتاج لتوكيد. ومثل ''ضرورة كسب تأييد الجيران وكذلك المجتمع الدولي العريض للاتفاقية، الا إذ احتسبنا أن مجلس الأمن والاتحاد الافريقي والجامعة العربية ودول الايقاد لا تمثل المجتمع الدولي العريض.
    وعلنا، ان أردنا رواية كل ما جاء من نقد للاتفاقية في وثيقة حزب الأمة لما استوفاه هذا المقال وذلك الذي يليه، لذلك نورد أهم العناصر في تلك الوثيقة:
    × ''قيام النظام المصرفي على أساس نظامين ''خطأ'' لأن الصيغ المسماة أسلامية اكثر ربوية من سعر الفائدة الذي يمكن اعتباره عائداً تعويضياً تجيزه الشريعة''.
    × تبني الاتفاقية لعدد من الحقوق واسقاط أخرى مثل '' حق كل فرد في ادارة بلاده وحقه مثل غيره في تقلد الوظائف العامة''.
    × عدم ''انشاء مفوضية مستقلة للحقيقة والمصالحة واقتراح اجراءات تصححية ''، إذ ''هناك مظالم تمثلت في صور التعدي على الدستور والقانون ونقض العهود والتفريط في السيادة الوطنية واستغلال النفوذ لتحقيق مصالح خاصة على حساب المصلحة العامة كما تمثلت في جرائم ضد الانسانية وحقوق الانسان ومخالفات جنائية ومدنية يتوجب مخاطبتها بالآليات المناسبة''.
    × ''انشاء مفوضية للمسلمين لمراجعة التشريعات الحالية '' التي ترى غالبية المسلمين انها معيبة وغير اسلامية''.
    × ''الموافقة على تطبيق الشريعة ولكن ليس على اجتهاد نظام الانقاذ (الزكاة والمصارف مثلاً). لذلك ينبغي النص على أن التشريعات في هذا المجال مفوضة لأغلبية المسلمين كما يقررها ممثلوها المنتخبون انتخاباً حراً''.
    × ''غياب المواثيق المؤسسة لبناء الوطن: ميثاق ديني، ميثاق ثقافي، نسوي، صحفي، نقابي''.
    تبع ذلك النقد الضافي اقتراح بخلق آليات لاستدامة الاتفاقية هي: أولاً، المجلس القومي السوداني الذي يتكون من الحكومة الحالية (حكومة الانقاذ)، الحركة الشعبية، القوى السياسية الممثلة في الجمعية التأسيسية 1986، القوى التي أفرزتها المقاومة المسلحة للانقاذ، الشخصيات الوطنية. ويتمتع هذا المجلس بالصلاحيات التالية: التصديق على ما اتفق عليه الطرفان، تصحيح البنود البين ضررها، التحكيم فيما اختلف فيه الطرفان. يكون لهذا المجلس مراقبون هم: دول الايقاد، شركاء الايقاد، مصر، ليبيا، نيجيريا، جنوب أفريقيا، الامم المتحدة، الاتحاد الافريقي، الجامعة العربية، منظمة الفاتيكان، اسقفية كانتربري.
    هذه الرؤى فيها ماهو مرغوب لاستدامة الاستقرار السياسي مثل التراضي على مشروع قومي يهدي العمل السياسي خلال الفترة الانتقالية، والعمل المشترك لانجاز التحول الديموقراطي، وفي الحالتين لن يتحقق التراضي أو العمل المشترك ان توسلنا لتحقيقهما بأدوات تجهض الاتفاقية مثل الدعوة للمصادقة على الاتفاقية بواسطة مؤتمر قومي (التجمع)، أو مجلس قومي (حزب الأمة). في تلك الرؤى أيضاً، لاسيما ما جاء في اطروحات حزب الأمة، ما لا محل له من الاعراب، إذ بينه وبين الذي تلاقي الطرفان في مفاوضات السلام لمعالجته بون شاسع. مثال ذلك، اعادة النظر في القوانين المنسوبة للشريعة، والتي لا تطبق الا في شمال السودان، أو في النظام المصرفي الاسلامي، والذي لا ينطبق بدوره الا على ولايات الشمال. فمع أهمية الموضوعين لأهل الشمال، إلا ان منطق الأشياء يقول إن الذي يجادل بشأنهما لن يكون بأية حال من الأحوال هو الحركة الشعبية الداعية لنظام يفصل الدين عن الدولة.
    نكرر ونعيد أن الاتفاقية وثيقة من غير مثال. فهي ليست كالمواثيق التي درجنا على اصدارها عقب كل انتفاضة، يصوغها فرد أو أفراد في الساعة الحادية عشرة، ليختلفوا حولها بعد الساعة الثانية عشرة، بقليل أو كثير، وبالجملة أو التفاريق (القطاعي). هي اتفاق لحل مشكل متجذر، ولهذا ذهب صانعاها الى معالجة جذور المشاكل، ولا يكون ذلك الا بعملية جراحية. تلك العملية شملت تغييراً جوهرياً في الجسم السياسي السوداني، وفي هياكله الدستورية، وفي منظومته الادارية، كما احدثت في الاقتصاد تحولاً في النموذج المثال (paradigm shift) الموروث منذ الاستعمار. ولضمان الالتزام بما تواصيا عليه، اتفق الطرفان على ضمانات لانفاذ الاتفاق، وجداول للتطبيق، ومرجعيات داخلية وخارجية يعود لها الطرفان، في حالات الاختلاف. اكمال تلك الاتفاقيات استغرق من الطرفين.... عاما (من بداية مفاوضات ماشاكوس الى نهاية مفاوضات نايفاشا)، وشارك في الحوار العشرات من السياسيين والعسكريين والاقتصاديين والقانونيين. ورعت التفاوض، بل لعبت فيه دور الوسيط بصورة مباشرة، اربع دول افريقية (كينيا، يوغندا، اريتريا، اثيوبيا)، وأربع دول غربية (الولايات المتحدة، بريطانيا، النرويج، ايطاليا)، وبصورة غير مباشرة دولتان افريقيتان (جنوب أفريقيا، نيجيريا). كما أسهم في التفاوض بابداء الرأي وتوفير المعلومات كبريات المؤسسات الدولية: الامم المتحدة فيما يتعلق بالترتيبات الأمنية، البنك الدولي حول قضايا التنمية واعادة التعمير والتأهيل، صندوق النقد الدولي بشأن كليات الاقتصاد والنقد والعملة الجديدة وتقدير حسابات النفط.

    وحال اكماله، تم اشهار الاتفاق بتوقيع أربع عشرة دولة ومنظمة (الرئيسان الكيني واليوغندي نيابة عن الايقاد، وزير خاجية مصر، نائب وزير خارجية ايطاليا، المبعوث الخاص لمملكة هولندا، وزيرة التعاون النرويجية، وزير التنمية الدولية البريطاني، وزير خارجية الولايات المتحدة، رئيس مفوضية الاتحاد الافريقي، الاتحاد الأوربي، منتدى شركاء الايقاد، امين عام الجامعة العربية، ممثل الامين العام لامم المتحدة). كما تمت خلال التفاوض مشاورات واسعة بين الحركة الشعبية والتجمع في مقر قيادة الراحل قرنق بجنوب السودان وفي نيروبي، ومع رئيس التجمع، مولانا الميرغني، في نايفاشا، دون أن نزعم أن هذه المشاورات ارتقت الى مستوى المشاركة في التفاوض. كما وقعت مشاورات مع قيادات حزبية مختلفة ارتحلت الى موقع التفاوض (الحزب الاتحادي الديموقراطي، حزب الأمة بشقيه، الحزب الشيوعي السوداني، يوساب). وعقب التوقيع على الاتفاق انتقل الراحل قرنق بفريقه المفاوض للقاهرة للالتقاء بالتجمع وقيادته والحوار معه على مدى اسبوع كامل مما مهد لاتفاق القاهرة في 16 يناير .2005
    لكل هذا، يصبح الظن بامكانية اعادة النظر في الاتفاق على الوجه الذي قال به التجمع أو حزب الأمة ظناً لا يتسق مع طبائع الأشياء في دنيا السياسة الواقعية. وفي حالة الجنوبيين، وهم القاعدة الراكزة للحركة الشعبية، تستدعي لذاكرتهم أية محاولة لاعادة النظر في الاتفاقية تجارب خرق العهود مع الجنوب، والتي تفوقت فيها احزاب الشمال على نفسها. ولعله من المدهش حقاً أن لا يجد حزب الأمة في كل نماذج الاتفاقيات ذات الطابع القومي التي يقنع الحركة بجدواها، ويقدمها كنموذج بديل لاتفاقها الثنائي مع حكومة الانقاذ، غير اتفاقية 1953 التي عزلت الجنوب عن المشاركة في تقرير مستقبله.

    اتفاقية السلام الشامل المصونة اقليمياً ودوليا أصبحت الاساس للعمل السياسي، بل أصبح العمل السياسي الحزبي، بنص الدستور، مرتهناً لقبولها. هذا هو الوقع والواقع لا يبدل الا بأدوات الواقع. بالطبع، هناك دوماً بديل آخر هو تغيير الواقع بالعنف، ولكن هذا لا يحدث الا عند انسداد الافق، وانعدام البدائل السلمية، وتوافر أدوات العنف لدى الراغب في اللجوء اليه، ومن أراد أمراً فليتدبر عواقبه. فالفعل السياسي لا يقوم على التمني، وانما على الاحتمالات القابلة للتحقيق، والفرص التي يمكن اهتبالها لتحقيق الغايات. وفي سنوات الاحتراب كثيراً ما كانت بعض الأحزاب الشمالية تتحدث عن الانتفاضة الوشيكة التي ستقتلع النظام من جذوره، ويتحدث فريق منها عن التأييد الكبير الذي يحظى به وسط القوات المسلحة، والذي سينتهي بانحياز الجيش الى جانب الشعب عندما تهب ثورته.
    كان للراحل قرنق رأي مغاير، لا كفراً بالعمل الجماهيري، ولكن لقراءته الموضوعية للمشهد السياسي السوداني. قال الراحل لرفاقه في التجمع: لا تظنوا أن السودان هو سودان أكتوبر 1965 وأبريل .1985 في هاتين المرحلتين كان الحكم بيد أنظمة تفتقد الأرضية الشعبية، وكان الجيش موحداً، وكانت التنظيمات الاجتماعية (النقابات) على قدر من الاستقلالية. أما في عهد الانقاذ فقد اختلف الوضع، فالجيش لم يعد واحداً، بل أُفرغ من أغلب كوادره المهنية غير الحزبية وانشئت بمحازاته جيوش دورها الأهم هو تحييده إن تحرك. والنقابات جميعها أصبحت جزءاً لا يتجزأ من التنظيم الحاكم. كما أن الحزب الحاكم ليس حزباً معزولاً بل هو حزب خاض معكم المعارك وشارك في الانتفاضات ولهذا يُدرك المقاتل، ويعرف كيف يتحسب للانتفاضات والانقلابات. ثم هو حزب مسلح. فان افترضنا ان ذلك الحزب لا يمثل الا خمسة بالمائة من أهل السودان، لكم ان تتصوروا ما الذي يستطيع أن يفعله خمس أفراد مسلحون بالكلاشينكوف في خمس وتسعين مواطناً أعزلاً؟ ابحثوا، اذن، عن صيغة أخرى لحماية جماهير الانتفاضة التي تنتوون اشعالها. تلك كانت هى بدايات العمل العسكري للتجمع، والذي كان الجيش الشعبي يمثل فيه غطاء الردع العسكري، في حين كان التجمع يمثل الغطاء السياسي للعمل الجماهيري، خاصة في الشمال. فما هو الحال الآن وقد انحسر غطاء الردع العسكري. بل ما هو الحال بعد أن صار النظام الذي كان معزولاً دولياً واقليمياً شريكاً في السلم تحت رعاية اقليمية ودولية. هذه ليست دعوة لبث اليأس، بل لحث الناس على التقويم الصحيح للمواقف، خاصة من يظن أن أي تجمع غاضب ضد قرار جائر هو قداحة لإشعال الانتفاضة الشعبية.
                  

02-19-2007, 10:16 AM

Nazar Yousif
<aNazar Yousif
تاريخ التسجيل: 05-07-2005
مجموع المشاركات: 12465

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. منصور خالد .. عامان من السلام : حساب الربح و الخسارة (Re: محمد يسن علي بدر)

    Quote: ] اتفاقية السلام الشامل المصونة اقليمياً ودوليا أصبحت الاساس للعمل السياسي، بل أصبح العمل السياسي الحزبي، بنص الدستور، مرتهناً لقبولها. هذا هو الوقع والواقع لا يبدل الا بأدوات الواقع. بالطبع، هناك دوماً بديل آخر هو تغيير الواقع بالعنف، ولكن هذا لا يحدث الا عند انسداد الافق، وانعدام البدائل السلمية، وتوافر أدوات العنف لدى الراغب في اللجوء اليه، ومن أراد أمراً فليتدبر عواقبه.
                  

02-20-2007, 07:56 AM

Adil Al Badawi

تاريخ التسجيل: 07-27-2005
مجموع المشاركات: 1143

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. منصور خالد .. عامان من السلام : حساب الربح و الخسارة (Re: Nazar Yousif)

    مشكور يا محمد يسن، يا بدر.

    أبشّرك المقالات رقم (3): "احترام التنوع: الوجه الثقافي للوحدة الجاذبة" و(5): "اتفاقية السلام...صناعة خارجية" و(7): "الدستور، من الذي يحميه ويرعاه؟" ياهِن ديل عندي (هارد كوبي) يسمعَن في كلامكُن.

    بَعايِن ليكم بالطوالة غايتو أكان اتوفّقتو لقيتو ليهِن سوفت كوبي وكبيتوهِن لينا هنا مع أخواتِن تكونو ريّحتوني جِنِس ريحة وأكان ما اتوفّقتو ياني المتحزّم وباقي ليكم الناسخ (ما الممسوخ) وناسِخا ليكم أكان بأعوج أكان بي عديل.

    أرموا بالكم بَسْ باقي المقالات ما تطِش مِنّكم. حقيقي، دروس عَصُر لِمن يعون دروس العَصِر التي جُلِّس (وقيل رُكّع) لها جلّ أهل السودان.

    لا قِدّام.
                  

02-20-2007, 11:49 AM

محمد يسن علي بدر
<aمحمد يسن علي بدر
تاريخ التسجيل: 12-28-2005
مجموع المشاركات: 623

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. منصور خالد .. عامان من السلام : حساب الربح و الخسارة (Re: محمد يسن علي بدر)


    عامان من السلام: حساب الربح والخسارة (16)
    سودان اليوم... ليس هو سودان الأمس
    هل الديموقراطية ناتج هامشي؟


    ادراكاً منها، وعلى وجه الخصوص من قائدها الراحل، لضرورة استصحاب كل القوى السياسية في عملية التحول، حرصت الحركة، الى جانب تحقيق مطالب الجنوب، على خلق بيئة جديدة للعمل السياسي تنتقل بالسودان من الشمولية الى التعددية عبر تحول ديموقراطي محسوب. لهذا، من الظلم البين أن يقال إن التحول الديموقراطي كان ناتجاً هامشياً للاتفاقية. لقد استغرقت مفاوضات ماشاكوس شهراً واحداً (18/6/2002 - 20/7/2002) حققت في نهايته للجنوب كل ما اراد : حق تقرير المصير، الحكم الذاتي الكامل، المشاركة في الحكم القومي حسب وزنه السكاني. ولئن كانت اتفاقية السلام الشامل اشهاراً للاستقلال الثاني للسودان كما قال الرئيس البشير، فان بروتوكول ماشاكوس كان بمثابة الاعلان الأول للاستقلال في الجنوب إذ لم يجعل الله لهم خيراً في ذلك الذي أعلن في 1/1/1956، الا قليلاً. لذلك، فإن المفاوضات التي تلت الاتفاق على بروتوكول ماشاكوس واستغرقت أكثر من عامين كانت تدور حول أمور لو تركتها الحركة وراء ظهرها لما أثر ذلك على ما حققته لأهل الجنوب. ولربما لو فعلت، لأسعد ذلك حكومة الانقاذ أيما سعادة، لانه كان سيخلي لها الفضاء السياسي في الشمال مما يمكنها من ادارته على الوجه الذي تريد. فقضايا مثل الحكم اللامركزي وحقوق الولايات غير الجنوبية، والتمكين الاقتصادي لتلك الولايات ووضع الضمانات الدستورية والمؤسسية لذلك التمكين، وتفاصيل وثيقة الحقوق، وحيدة الخدمة المدنية، واستقلال القضاء، وانشاء مجلس الولايات الذي يمنح الولايات (خمس عشرة ولاية شمالية الى جانب الولايات الجنوبية العشر)، حق الرقابة على السلطة المركزية للمرة الأولى في تاريخ السودان، وقضايا الأرض التي قلما كان يحفل بها الخطاب السياسي في الماضي بالرغم من الصراعات الدامية حول الموارد في الشمال والجنوب، كل هذه أمور تدخل في صميم عملية التحول الديموقراطي.

    فالديموقراطية لا تنحصر في الحقوق المدنية السياسية، التي تعنى، في المقام الأول، النخب المدينية ((metropolitan elites هذا قول لا نبغي منه التقليل من أهمية تلك الحقوق، وانما نجليه للتنبيه الى بدهية يدركها أي قانوني. ففي سلم أولويات حقوق الانسان تسبق الحقوق الطبيعية، وعلى رأسها حق الحياة والكرامة الانسانية والحرية، الحقوق المدنية. من أجل تلك الحقوق حارب الجنوب، وحارب الشرق، وتحارب دارفور.

    ولعلنا نذكر أن المرة الأولى التي وردت فيها الاشارة للحقوق الطبيعية كانت في القاهرة (مارس 1990) عندما ألح وفد الحركة على تضمينها مذكرة التفاهم التي اصبحت الحركة بمقتضاها عضوا في التجمع الوطني. كما ليس مصادفة أيضاً، اصطفاء أهل الشرق، عند الاشارة في اتفاقية الشرق الأخيرة الى التزام الطرفين بوثيقة الحقوق في الدستور، من بين كل الحقوق الواردة في الوثيقة، لتلك التي تتعلق بالتعليم والملكية والخدمات الصحية وحماية البيئة الطبيعية لما لذلك من أثر على الموارد الطبيعية المحدودة. ويبدو لنا أن الذين قالوا بهامشية الديموقراطية في مفاوضات السلام كانوا يتمنون أن تجلس الحركة مع الطرف الآخر المفاوض عاماً اضافياً حتى يعاد النظر في القوانين التي تتعارض مع الدستور، وحتى يتم اعلان حل كل المؤسسات التي يحتمل أن تعيق مسيرة التحول الديموقراطي، دون اعتبار للظروف التي تم فيها الاتفاق، بل دون اعتبار لما نص عليه الاتفاق ثم ترجم دستورياً حول الحقوق الديموقراطية، أو لما انشئت من مؤسسات لحمايتها، وما وفر من هامش كبير للعمل السياسي يتيح للقوى السياسية ان تناضل في اطاره لتفعيل هذه الحقوق. فالتحول الديموقراطي، كما ظل الراحل قرنق يقول، ليس حدثاً (event) بل عملية (process)، والعملية جملة أحداث تتواتر لتحقق نتيجة. الباعث المؤثر في هذه العملية هو القوى السياسية صاحبة المصلحة الأولى في التحول الديموقراطي.

    حول الديموقراطية أيضاً هناك قول ذائع عن دور الخارج في وضعها في المضمار الخلفي للموقد in the back - burner) ) التلخيص المكثف لذلك الرأي جاء في مقال للاستاذ عبد العزيز حسين الصاوي، وهو كاتب مدقق. قال : '' ان القوى الغربية حفظت للحاكم سلطته شمالاً مقابل كف يده جنوباً (الصحافة، 6/ 1/ 2007). في ذلك التلخيص شئ من الصحة، الا أن به نقصان، واتمامه ضروري حتى تتضح الصورة كاملة. ففي كل سني الحرب التي كان الجنوب يدفع فيها ثمناً أفدح بكثير مما يدفعه الشمال، وقفت نفس هذه القوى الخارجية أيضاً الى جانب التجمع الوطني تسانده في نشاطه الدبلوماسي والسياسي لمحاربة الانقاذ في المنابر الدولية مثل لجنة حقوق الانسان، وتؤمن التأييد لمواقفه في تلك المنابر من دول لا يعنيها أمر السودان كثيراً أو قليلاً مثل دول أمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا، وتوفر له السند اللوجستي من مكاتب ومؤتمرات واتصالات. ذلك الحال استمر منذ لقاء مادلين البرايت، وزيرة الخارجية الامريكية، مع التجمع في كمبالا في ديسمبر 1997 والى 11 سبتمبر 2001 التي فتحت أفقاً جديداً للتعاون بين حكومة الانقاذ والقوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية. بل ان ذلك الدعم استمر لأشهر بعد توقيع الاتفاقية.

    هذا جزء من الوقائع التي ينبغي أن يأخذها المحلل في الاعتبار حتى يصل الى حكم صائب حول من يحاسب من؟ فالقوى الغربية لم تتعامل مع التجمع ومعه الحركة لأنها مستهامة بهما، بل لأنهما كانا يمثلان، في تقديرها، القوة الوطنية المناظرة لنظام يهدد مصالحها. وتهديد المصالح أمر لم يترك النظام فيه فرصة للتخمين من جانب تلك القوى، أو لم يكن شعاره: ''امريكا التي دنا عذابها''. ثم، أولم يكن هو الملاذ الآمن للمتطرفين الذين كانوا يهددون مصالحها مباشرة (أحداث السفارة الامريكية في نيروبي ودار السلام)، وبصورة غير مباشرة (مصر والمملكة العربية السعودية). ولكن، في اللحظة التي استقر فيها رأي نظام الانقاذ، بعد 11 سبتمبر، على التعاون، بل التعاون الأمني الوثيق، مع تلك الدولة لمحاربة ما تعتبره إرهاباً يهدد مصالحها، تبدلت الموازين. فان كانت القوى الخارجية قد يئست من قدرة التجمع على احداث التغيير، أياً كانت الأسباب التي اقعدته عن تحقيق اجندته، وإن كان نظام الانقاذ قد أفلح في استغلال فرصة مواتية ( 11 سبتمبر ) لفك الحصار الذي كان يحدق به، يصبح من الظلم الفاحش اتهام القوى الخارجية بما اتهمت به.

    الهيمنة... والفرص المتاحة
    صحيح أن الاتفاقية فرضت هيمنة فريقين على الحكم، هم طرفاها، والى حين لأسباب أبناها في مقال سابق. ولكن من الصحيح أيضاً، أنها أوجدت أمرين: الأول هو التحول الديموقراطي الذي قالت مذكرة التجمع، بحق، ''أنه يوفر مناخاً للصراع السياسي السلمي''، والثاني هو الاحتكام للشعب في انتخابات حرة تحت رقابة دولية. وكان في تقديرنا ان جهود القوى السياسية ستنصرف بكليتها الى هذين الأمرين، حيث تتوافر أولاً على توطيد التحول الديموقراطي بآليات الواقع التي حققتها الاتفاقية مثل : وثيقة الحقوق، المؤسسات العدلية وبخاصة المحكمة الدستورية، تعميق ادراك قواعد الأحزاب للمفاهيم الجديدة. فمن حق المعارضين، بل من واجبهم، امتحان هذه المؤسسات واستخدام كل الأدوات التي يقدمها الدستور لتعينهم على ذلك بدلاً من التنطع بالقول إن هذه المؤسسات هي مؤسسات ''الانقاذ'' ولهذا لا يترجى الناس خيراً منها، كما ذهب الى ذلك كاتب سُببت في مقال له بسودانايل، ولا يلجأ الى السباب غير رهاف العقول. فالتحول الديموقراطي لا يحدث بالاستشعار من البعد أو بازرار تحكم من الخارج، وانما يصنعه اصحاب المصلحة الحقيقية فيه بأدوات الواقع المتاحة، خاصة بعد أن تركنا خيار العنف وراء ظهرنا. هذا هو واجب القوى السياسية، كما هى واجبات منظمات المجتمع المدني. ولعل الأخيرة هي صاحب الدور الاكبر في مراقبة تنفيذ الاتفاقية، كل فيما يليه: منظمات حقوق الانسان، حماية البيئة، الحوار بين الاديان، حماية المستهلك، حقوق المرأة والطفل، مكافحة الفساد. وعَلَ الأخيرة تذهب في هذا المجال الى انشاء فرع (chapter) لمنظمة الشفافية الدولية كما يحدث في كل البلاد. بيد أن هذه المنظمات نفسها في أزمة، إذ فقدت بعضها مشروعيتها الاجتماعية عندما ارتضت لنفسها هيمنة الأحزاب عليها، كما فقد بعض آخر فاعليته الشعبية عندما دجنته السلطة. فان كانت الاحزاب هي الحامل الوطني للعمل السياسي، فان منظمات المجتمع المدني تظل أبداً الرافعة للعمل الشعبي، والحاضن للوحدة الوطنية. وليس لها لذلك من سبيل ان فقدت استقلاليتها، ولهذا يجدد بنصرائها الحقيقيين ان يعملوا على استنقاذها من التدجين والاختراق الحزبي.
    الامر الثاني هو اعداد الأحزاب نفسها للانتخابات. وربما كان أول ما يجب ان تفعله الاحزاب هو اجراء حوار متعمق في داخلها عما وقع في الثامن من يوليو 2005 عندما حل الراحل جون قرنق في الساحة الخضراء وتدافع الملايين من كل فج للقائه. ذلك التدافع الجماهيري وقع رغم كل عمليات اغتيال الشخصية والتشويه المعنوي الذي تعرض له الرجل خلال عقدين من الزمان. الذين عَزَوا ذلك التدافع لغريزة حب الاستطلاع إنما يُعزون أنفسهم، فقرنق ليس هو الشيخ الشعراوي حتى يتحامل الشيوخ للقائه، ولا هو نانسي عجرم حتى يتدافع الشباب للاستمتاع بصوته وطلعته. هو قائد سياسي صاحب رؤية، ومناضل دفع ثمناً باهظاً لتحقيق رؤيته. ولما وضعت الحرب أوزارها حمل راية السلام عالية خفاقة الى قلب وطنه. لو كنت نصيراً لهذه القوى السياسية لساءلت نفسي كثيراً عن تلك الظاهرة، وسعيت لأن أجد لها جواباً. فالذين تجمعوا في الساحة الخضراء لم يكونوا جميعاً من انصار الحركة، بل ضموا مواطنين عاديين من الشيب والشباب، ومن الرجال والنساء. هل جاءت بهؤلاء سعادتهم بالسلام؟ بالقطع نعم. هل جاء بهم رفضهم لما عانوه؟ في تقديرنا، نعم. هل جاء بهم قنوطهم من البدائل؟ هذا جائز. هل جاءت بهم الرغبة في تجربة الجديد الذي لم يألفوه؟ هذا أيضاً جائز. تلك الاسئلة ضرورية، ليس فقط لتقويم الظاهرة، وانما أهم من ذلك، لتعين السياسي على تقدير أصوب للأمور.

    عقب توقيع اتفاقية السلام قال الرحل قرنق في خطابه عند التوقيع: ''السودان لن يصبح بعد اليوم على ما كان عليه'' (Sudan shall never be the same again)هذا تقدير صائب من ناحية التغييرات التي أحدثتها الاتفاقية في هياكل الحكم والدستور والقوانين وفي العلاقات العمودية والافقية بين الأجهزة، كما في المفاهيم التي اشتجر الخلاف حولها لنصف قرن مثل التنوع و التعدد والهُوية. لكن، ثمة تغييراً كبيراً طرأ على السودان قبل توقيع الاتفاقية، فالسودان الذي استقبلناه بعد قرابة العقدين من الزمان ليس هو السودان الذي عرفناه في منتصف الثمانينات من القرن الماضي. استبصار الواقع الجديد ضروري لأن الذي لا يتمعن فيما هو قائم، سيعجز تماماً عن استشراف ماهو قادم. ففي البدء هناك نشأة الاحزاب الاقليمية، المسلح منها وغير المسلح، وما كان لهذه الاحزاب أن تنشأ ابتداءً لو افلحت الطبقة الحاكمة، شمولية كانت أو ديموقراطية، في معالجة المشاكل التي دفعتها لحمل السلاح. ولا يفيد في شئ الجدل حول بروز الهُويات المحلية حتى وان وصفناها بالعصبيات، لأنها أولاً أضحت حقيقة، وثانياً لأن الحقوق التي ينشدون اليوم كانت معروفة منذ نشأة مؤتمر البجا بُعيد اعلان الاستقلال أو مؤتمر القوى الجديدة في الستينات وهو المؤتمر الذي تضامت فيه المعارضة الجنوبية مع مؤتمر البجا واتحاد جبال النوبة وتنظيم نهضة دارفور. ومن الآثار الجانبية لنشأة هذه الحركات، على الصعيد الاداري، اضعاف أجهزة الوساطة العشائرية التي كانت تلعب دوراً هاماً في استقرار المجتمعات الريفية وبسط الأمن فيها.

    في هذه الفترة أيضاً وقعت تحولات كبيرة في التركيبة الديموغرافية بسبب الحروب، لا حرباً واحدة: الجنوب، جبال النوبة، دارفور، وبسبب الانهيار البيئي الذي أصبحت فيه مناطق السافنا في الغرب والشرق أرضاً موظوبة لا كلأ فيها، بل كاد الزحف الصحراوي يتجاوز خط العرض الرابع عشر. التحول وقع أيضاً بسبب الحراك الاجتماعي الذي نجم عن مشروعات التنمية والتي حكمت الجيولوجيا (البترول مثلاً)، من ناحية، وتوافر البنى التحتية، من ناحية أخرى، بقيامها في مناطق دون أخرى. هذا الحراك أدى الى هجرات كثيفة من بعض مناطق السودان الشمالي نفسه بحيث صارت بعض مناطقه أطلالاً تبكي عليها البواكي. وفي هذا الشأن نذكر ما قلناه لصحافي مرافق ابان زيارتنا لسد مروي، وبعد جولة في قرى المنطقة الخاوية على عروشها: ''لا يمكن أن نصدق ان هذه هي المنطقة التي كان النِظيم المغرد اسماعيل حسن يتغنى بجنانها وحسانها''.

    دراسة هذا التحول موضوع ينبغي أن تستدركه القوى السياسية وهي تعد نفسها للانتخابات. ولكن للأسى، فان انهماك الاحزاب في النزاع حول استئثار طرفي الاتفاقية بالسلطة في ما تبقى من الجزء الأول من الفترة الانتقالية، ومنازعاتها حول اعادة صياغة الاتفاقية بلا طائل، الهياها عن ذلك الواجب الهام، مما يعبر عن اختلال كبير في الاولويات، وقصور عن ادراك الواقع، وعجز عن الامساك بأدوات التغيير التي تُمكنها من تبديل موازين القوى، والتي ليست الآن لصالحها.

    من هذه الأزمة المستحكمة لا بد من مخرج ولكن، قبل أن نجئ الى الحديث عن المخارج، تتناول بالتحليل أطروحات المعارضين حول الاتفاقية، لا لدحضها وانما لإبانة ما فيها من مخادعة للنفس وخداع للناس. فالقاضي الذي يجلس في منصته للحكومة بين المتقاضين يبادر في البدء بتحديد نقاط النزاع. والمساح الذي يبتغي قياس الخطوط والمسطحات يبدأ عمله بتحديد الصوى (benchmarks) التي تحدد أين يبدأ وأين ينتهي. القضايا المتنازع عليها حول ما جاءت به الاتفاقية تُطرح اليوم وكأنها قضايا تدور خارج اطار التاريخ. فلو افترضنا جدلاً أن اتفاقية السلام الشامل يمكن أن تُعَدل لتستوعب ما يتمناه التجمع، وما ينشده حزب الامة، وأن خلو الاتفاقية من هذه القضايا الهامة يُعزى إما لعدم إكتراث الحركة الشعبية بها في المفاوضات، أو رفض المؤتمر لمناقشتها، ينبغي أن يصحب هذين الافتراضين سؤال عن موقف القوى المعارضة من هذه ''القضايا الهامة'' عندما اتيحت لها الفرصة للتفاوض مع نفس الطرف الذي فاوضته الحركة، أو عن كيف عالجتها عندما كانت تمسك بزمام الحكم. هذا، ضروري لكيما نستكشف إن كانت هناك عوامل موضوعية تدفع المعارضة الى هذا الموقف المتصلب نحو الاتفاقية، أو أن الأمر لا يعدو التزيد أو الغيرة. وسَنطَرح جانباً قضية اسئثار الطرفين بالسلطة في المرحلة الانتقالية الأولى، أي مرحلة ما قبل الانتخابات، إذ تناولناها بما يكفي في مقال سابق وَصَفنا فيه تجاربنا السالفة، ومنها استئثار القوى الصانعة للتغيير بالسلطة في الفترات الانتقالية. كما لن نعود الى موضوع التصديق على الاتفاقية من بعد أن أوضحنا في ذات المقال منهجنا المتعارف، منذ الاستقلال، في اضفاء الشرعية الدستورية علي المواثيق و الاتفاقيات. ما هى، اذن، أمهات القضايا المثارة. من تلك نصطفي :

    * موضوع المحاسبة.
    * حقوق الانسان.
    * اعادة النظر في القوانين المنسوبة للشريعة.
    * الآلية ''القومية'' لمراقبة الاتفاقية.
    * المواثيق أو البروتوكولات القومية.
    هذه القضايا سنتناولها في المقالات الثلاث التالية.
                  

02-25-2007, 08:46 AM

محمد يسن علي بدر
<aمحمد يسن علي بدر
تاريخ التسجيل: 12-28-2005
مجموع المشاركات: 623

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. منصور خالد .. عامان من السلام : حساب الربح و الخسارة (Re: محمد يسن علي بدر)


    عامان من السلام : حساب الربح والخسارة (17(
    معارضو الاتفاقية والذاكرة الخؤون

    المحاسبة أم العدالة الانتقالية

    متطلبات التجمع تضمنت ، كشرط لزوم للمصالحة الوطنية، ضرورة ''المحاسبة والمساءلة عن انتهاكات حقوق الانسان '' خلال السنوات الماضية '' . وكمبدأ عام ، لاغضاضة ، بل لابد من المحاسبة علي انتهاكات حقوق الانسان ، ''والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أمر الله فأولئك هم الظالمون '' . لا يقول بغير هذا من المسلمين الا مسلم نمطي يرضي ضميره بأداء الشعائر حتى ان قتل وكذب وحنث بالعهود. نعي جيداً أيضاً خشية الكثيرين في جماعات حقوق الانسان الحقيقية ، لا تلك التي تتوسل بالدفاع عن تلك الحقوق لغير غاياته ، من أن يوفر اغفال المحاسبة حصانة ( impunity) للمسئ يفلت معها من العقاب ، وأخشى من ذلك ان يعبر الاغفال عن فجوة في الذاكرة (amnesia ) تُخفي الفجائع . ولكن مثل هذه المحاسبة لا يمكن استدراكها في اتفاق يقوم على تنازلات متبادلة ، بل أن الاصرار عليها في ذلك النوع من المفاوضات يوحي بعدم الجدية في التفاوض .
    بسبب ذلك اقبلت الحركة التي فقدت مئات الآلاف من ضحايا الحرب على الموضوع من منطلق آخر خلال التفاوض ، منطلقها كان هو الرغبة في تحقيق مصالحة وطنية يتخللها كشف عن الحقائق ، لا '' في السنوات الماضية '' كما قال التجمع ، بل في طوال مسيرتنا منذ الاستقلال ، على غرار ما حدث في جنوب أفريقيا عبر لجنة الحقيقة والمصالحة التي ترأسها الأب ديزموند توتو . الهدف من تلك العملية في جنوب أفريقيا لم يكن التجريم ، رغم فظاعة الجرائم التي ارتكبت في حق السود من جانب نظام الابارثايد ، وانما هو تطهير النفوس ، والتعافي المتبادل ، ورد الاعتبار أو التعويض لمن لحق بهم ضرر من جراء تلك الجرائم . وكان من رأي الحركة أنه من حق الاجيال التي عاشت أهوال الحرب دون أن يكون لها يد فيها، ومن حق الأجيال المقبلة التي سيؤرقها تاريخنا الملطخ بالدماء ، أن تُلم بجذور المشاكل التي ورثتها ، عظة وعبرة. هذا الرأي توافقت عليه الحركة أيضاً مع المؤتمر الشعبي في مذكرة التفاهم الشهيرة التي وقعت في فبراير 2001 ، ولكن المؤتمر الشعبي لم يفاوض الحركة كطرف حاكم ، حتى نمتحن صدق التزامه بذلك.
    __________________________________________________________________
    أياً كان الأمر ، قال من قال للحركة ، ابان مفاوضات ماشاكوس ، ان فتح هذا الباب سيوقع الحركة نفسها في مساءلات حول انتهاكات حقوق الانسان وجرائم الحرب خلال سنى الحرب الطويلة ، وكان الرد ( من جانب دينق الور فيما نذكر ) : '' ولم لا ؟ فنحن أيضاً نريد تطهير انفسنا '' . لم يكن الرد مقنعاً بما فيه الكفاية ، ولهذا توصلنا الى النص الذي تضمنته الفقرة 1-7 من بروتوكول ماشاكوس ، والذي سلفت الاشارة اليه في المقال الخامس عشر .
    من جانب آخر ، سعى الطرفان ، وهما يستشرفان المستقبل ، الى وضع جميع الضمانات التي تحول دون تكرار اخطاء الماضي ، كان ذلك بكبح جماح المؤسسات التي كانت تتهم في الماضي بانتهاك حقوق الانسان الاساسية ، أو في الضمانات الدستورية أو القانونية لهذه الحقوق . كل هذا يدخل في باب ما يسمى اليوم بالعدالة الانتقالية (Transitional Justice ) التي يراد بها ، اكثر من التجريم والمحاسبة على أفعال الماضي ، اصلاح المؤسسات التي لعبت دوراً في انتهاكات حقوق الانسان ، إعادة تأهيل شاغلي المناصب في هذه المؤسسات وتأهيل من سيلتحقون بها حتى يستبطنوا ثقافة السلام و مستحقاته ، أو التعويض المادي لمن لحق بهم ضرر من جراء الممارسات الماضية ، أو اتخاذ اجراءات رمزية لرد الاعتبار لمن لحق بسمعتهم أذى من تلك الممارسات . الغاية من هذه الاجراءات الاصلاحية هو أن لا تتكرر التجارب مرة أخرى ، ولهذا اطلق الارجنتينيون على تجربتهم في العدالة الانتقالية تعبير (Nunca Mas )، أي لا عودة لهذا البتة ، وبالانجليزية (.(Never Again
    الذين ما انفكوا يتحدثون عن أن في الاتفاقية فتقاً كبيراً لأن أحد طرفيها (الحركة الشعبية ) لم يأبه لجعل مبدأ المحاسبة شرط لزوم لقبولها ، يكادوا يقولون كان لزاماً على الحركة أن ترمي بالوليد والسلي في دورة المياه . والوليد هنا هو السلام بكل مستحقاته : الحقوق التي توافرت للجنوب ، الوحدة خلال الفترة الانتقالية ، نظام الحكم الجديد ، التحول الديمقراطي . سنفترض أن هذا هو ما كان من الواجب على الحركة أن تفعل ، ولكنها لم تفعل . هذا الافتراض يلزمنا أيضاً أن نستذكر ، حتى لا تضلنا ذاكرة خؤون ، الذي حدث في كل مفاوضات السلام التي دارت بين الحكومة التي كانت مهيمنة على كل شئ ، وبين المعارضة التي كانت لا ترضى ، في بداهة الأمر ، بالاقتلاع من الجذور بديلاً . دوننا ، مثلاً ، اتفاق نداء الوطن الذي وقعه السيد مبارك المهدي عن حزب الأمة ، ود. مصطفى عثمان عن حكومة الانقاذ وصحبته مذكرة تفاهم وقعها الرئيس البشير عن حكومة السودان والسيد الصادق المهدي رئيس حزب الأمة في 7/11/1999 ، ثم اتفاقية القاهرة التي وقعها رئيس التجمع مع الأستاذ علي عثمان محمد طه في 16 يناير 2005 ، وأخيراً النقاط التسع التي اعدها التجمع الوطني كأساس للتفاوض مع حكومة الانقاذ في اطار المبادرة المصرية/الليبية المشتركة . عن جميع هذه الوثائق غابت الاشارة الى المحاسبة كشرط وجوب للاتفاق مع حكومة الانقاذ . فنداء الوطن صمت صمتاً كاملاً عن المحاسبة ، بل تبعته تصريحات عن التعافي المتبادل . أما اتفاقية القاهرة التي مهرها د. نافع علي نافع باسم حكومة السودان والفريق عبد الرحمن سعيد عن التجمع فقد اكتفت في ( الفقرة 1-10 ) بالنص على '' تحقيق مصالحة وطنية تقوم على رفع المظالم ودفع الضرر '' . وفي الفقرة التاسعة من تلك الاتفاقية جاء : '' يؤكد الطرفان بأن رفع المظالم ودفع الضرر يمثل عنصراً هاماً للمصالحة الوطنية . واتفق الطرفان على تكوين لجنة قومية لرفع المظالم ودفع الضرر بالتراضي '' . أما نقاط التجمع التسع للتفاوض مع حكومة الانقاذ فقد خلت تماماً من أية اشارة للمحاسبة ، رغم ما قرره التجمع في اجتماع هيئة قيادته في كمبالا في ديسمبر 1999 حول الاجراءات الابتدائية التي ينبغي ان تقوم بها تلك الحكومة لكيما يكون تفاوض معها .
    ترى ما الذي كانت ستخسره هاتان القوتان إن أصرتا على المحاسبة كشرط وجوب لتحقيق السلم والمصالحة ، لا سيما وقد طمعا في أن يضحي رفيقهم المفاوض في ماشاكوس ونايفاشا بكل ما احرزه لأهله وبلاده طالما عجز عن اخضاع حكومة الانقاذ للمحاسبة ؟ نحسن الظن ونقول ، إن حزب الأمة والتجمع غَلَبا السلام والتحول الديموقراطي على ما عداه . يا لها من ذاكرة خؤون .

    حقوق الانسان بالكامل
    في مذكرته نعى حزب الأمة على الاتفاقية تبينها لعدد من حقوق الانسان الواردة في العهود الدولية واسقط أخرى مثل '' حق كل فرد في ادارة بلاده ، وحقه مثل غيره في تقلد الوظائف العامة '' . لا مراء في أن الاتفاقية لم تتضمن كل العهود والمواثيق الدولية لحقوق الانسان ولكن تضمنت أهمها : العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية ، والميثاق الافريقي لحقوق الانسان والشعوب '' . كما اصبحت كل الحقوق والحريات المضمنة في الاتفاقيات والعهود والمواثيق الدولية لحقوق الانسان والمصادق عليها من قبل جمهورية السودان جزءاً لا يتجزأ من وثيقة الحقوق'' (المادة 27-3 من الدستور) . وغريب أن تزعم مذكرة حزب الامة اسقاط الاتفاقية لحق كل فرد في ادارة بلاده ، وحقه مثل غيره في تقلد الوظائف ''العامة'' . مصدر الغرابة أولاً أن هذا الحق مضمن في '' العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية '' الذي تبنته الاتفاقية كما هو مضمن في الاعلان العالمي للحقوق ، والالتزام بذلك الاعلان واجب على كل دولة عضو في الامم المتحدة وشرط لزوم لنيل عضويتها، فهو والميثاق ( ميثاق الأمم المتحدة ) سواء . ثانياً أن هذا الحق ، بالرغم مما جاء في العهود التي أشرنا اليها ، أُبرز بوجه خاص دون غيره في الاتفاقية منذ بروتوكول ماشاكوس ، إذ ورد فيه ما يلي : '' الأهلية للمناصب العامة ، بما في ذلك رئاسة الجمهورية والخدمة العامة والتمتع بجميع الحقوق والواجبات ، تكون على أساس المواطنة وليس على أساس الدين أو المعتقدات أو العادات '' (الفقرة 6-3 ) .
    حقاً ، اسقطت الاتفاقية عهوداً دولية أخرى كان عليها خلاف بين الطرفين مثل اتفاقية سيداو حول المرأة والتي لم يوقع عليها السودان . تلك الاتفاقية تُنهي عن كل ما يعتبر حطاً من قدر المرأة وتكفل لها كل الحقوق التي يتمتع بها الرجل ، كما تدعو الى تعديل او الغاء كل التشريعات التي تكرس التمييز بين المرأة والرجل . وطالما كان حزب الأمة حريصاً كل الحرص على الالتزام بكل العهود الدولية المتعلقة بحقوق الانسان والاستمساك بجميع نصوصها ، كان حقيقاً به أن يشير لتلك الاتفاقية التي غابت فعلاً عن اتفاقية السلام الشامل ، رغم اصرارنا عليها . ربما لم يفعل خشية من حرج عظيم مثل ذلك الذي أشار اليه بعض المفاوضين في ماشاكوس مثل من عدم قدرتهم على انفاذ ما دعت له سيداو بمساواة المرأة السودانية بالرجل في كل الحقوق ، بما في ذلك حقها في الميراث . ومبلغ ظننا أن حزب الأمة ، الذي ينكر على الاتفاقية عدم احتوائها لكل العهود الدولية المتعلقة بحقوق الانسان ، كان سيُغلب على نصوص سيداو ما جاء في سورة النساء ( الآية 13 ) رغبة في فوز عظيم : «تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ». اضافة الى ذلك ، تتضمن الحقوق التي توفرها العهود الدولية ، بين ما تتضمن ، حقوقاً أخرى مثل حق الفرد في اختيار وتبديل دينه ولا نتوقع أبدأً أن يعمل الحزب الذي ينكر على اتفاقية السلام الشامل الاصطفاء في حقوق الانسان ، ناهيك عن أن يعمل على انفاذ ذلك الحق . وكيف لنا أن نتوقع ذلك من حزب اجاز برلمان يسيطر عليه ( القراءة الأولى والثانية ) في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي قانوناً يشرع حد الردة ، بل ضحى من أجل إجازة ذلك القانون باثنين من خيرة رجاله : الاستاذ محمد ابراهيم خليل والراحل صلاح عبدالرحمن علي طه . مثل هذه الدعاوى بنبذ الاتفاقية لأنها تجاهلت بعضاً من العهود الدولية المتعلقة بحقوق الانسان ، دعاوى تفتقد الصدقية ، ولهذا لا نجني على أحد ان نسبناها للتزيد .

    شرع الله الذي فيه يتشاكسون
    وثيقة حزب الأمة تناولت القوانين والمؤسسات المنسوبة للشريعة من النواحي الدستورية والقانونية والاقتصادية . فحول الدستور اعترضت الوثيقة على ما جاء به بروتوكول ماشاكوس حول ابتناء التشريع في شمال السودان على القوانين الاسلامية واعفاء الجنوب من هذا الشرط لأن تلك ، في تقديره ، صيغة '' تريط انقسام البلاد الجغرافي بانقسام ديني وتمهد لتقسيم البلاد '' . كصيغة أفضل اقترحت الوثيقة نصاً يقول : '' التشريعات المراد تطبيقها على كل البلاد يجب أن تكون محايدة بينما تنحصر التشريعات ذات المستوى الديني على المجتمع المعني '' . وفيما يتعلق بالقانون رحبت الوثيقة باتفاق الطرفين على كفالة '' حقوق المسلمين في تطبيق احكام الشريعة بالضوابط المنصوصة عليها '' ، ولكنها أضافت : '' لا نوافق على أن اجتهاد نظام الانقاذ يمثل '' اجتهاد أغلبية المسلمين '' ، لذلك دعت لأن تكون '' التشريعات في هذا المجال مفوضة لأغلبية الممثلين كما يحددها ممثلوهم المنتخبون انتخاباً حراً '' . أما حول النظم الاقتصادية فقد سلفت الاشارة الى رأي حزب الأمة القائل إن ''الصيغ المسماة اسلامية أكثر ربوية من سعر الفائدة ، وان الصحيح هو أن يسمح البنك المركزي بالتعامل بنافذتين في كل البلاد '' .
    قضية تحكيم الشريعة في شمال السودان التي لا اعتراض لحزب الأمة عليها ، فيما هو واضح من نقده للاتفاقية ، خلقت توتراً بين الحركة الشعبية والتجمع الوطني ، وقادت الى سجال بيننا وبين لجنته للشئون الدستورية والقانونية التي كان يقودها الأستاذ فاروق ابوعيسى على صفحات الشبكة الدولية الالكترونية . نشير الى تلك الواقعة لما لها صلة بموضوع مقالنا الراهن . وإذ نفعل ذلك ، ليس من خطتنا التوغل في جدل فقهي حول أطروحات حزب الأمة ، فلنا في القضايا التي طرحها في هذا المجال رأي جهرنا به في أكثر من كتاب ومقال . موضوعنا أولاً هو هل أُغفلت هذه القضايا في مفاوضات السلام ؟ وثانياً لماذا استقر الرأي على الصيغ التي جاءت بها اتفاقية السلام الشامل ؟ وثالثاً ما الذي استجد حتى تصبح هذه الموضوعات محوراً لنقد الاتفاقية ؟ وماذا كان موقف حزب الأمة منها في الوقت الذي كان يمسك فيه بزمام الأمور ؟ هذه الموضوعات جميعها كانت محل جدل بين الطرفين في مفاوضات ابوجا ، كما تم التداول بشأنها في مفاوضات ماشاكوس . ولو لم تكن هنالك رغبة في بقاء السودان موحداً لما شغلت الحركة نفسها بها، خاصة ، بعد الاتفاق أولاً ، على حق تقرير المصير للجنوب وتمكينه من حكم ذاته مائة في المائة ، وليس مائة وعشرين في المائة بحساب الدكتور أمين حسن عمر ( الصحافة ، 10/1/2007 ) ، وثانياً على حق الجنوب في الفصل بين الدين والدولة في نظام حكمه الجديد .
    في مذكرتها الأولى عند التفاوض في ماشاكوس تقدمت الحركة برأي حول القانون الأسمى أو الأعلى (Supreme Law )، ينص على ما يلي :
    1/حكومة اتحادية واسعة القاعدة في عاصمة يتفق عليها .
    2/يكون لكل من الجنوب والشمال حكومة انتقالية تمارس السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية في اراضيها وتُنظَم الحكومتان بطريقة ديموقراطية بموجب دستوريهما اللذين يجب أن يتوافقا مع اتفاق السلام .
    3/يكون نظام الحكم علمانياً ديموقراطياً خاضعاً للمحاسبة وشفافاً ومراعياً لفعالية التكلفة ( cost , effectiveness ) ولا يُحَدد مسبقاً أي مصدر للتشريع .

    ذلك هو السقف الذي انطلقت منه الحركة ، والذي لم تقبله حكومة الانقاذ لعدة أسباب أهمها هو انتهاكه لواحد من ثوابتها ، على الأقل في الشمال . ثانياً لما فيه من شبهة الكونفدرالية . وحول الموضوع الأخير رأت الحكومة أن لاشأن للحركة بالطريقة التي يدار بها الشمال ، ولهذا دعت لحصر الحوار على السلطات التي تمنح للجنوب وحقه في الفصل بين الدين والدولة . ذلك رأي صادف هوى عند الوسطاء والرقباء الذين ما فتئ بعض القادحين على الاتفاق من أهل المؤتمر يتهمونهم بالنوايا السيئة تجاه '' النظام الاسلامي '' في الشمال . وازاء اصرار الحركة على موضوع الفصل بين الدين والدولة في الشمال رماها الوسطاء بعدم المسئولية ، بل قال واحد منهم ( السفير الان قولتي ) : '' انتم تتحدثون عما يطالب به حلفاؤكم في الشمال ، في حين لم أشهد في الخرطوم تظاهرة واحدة في الطرقات تندد بقبول تطبيق الشريعة فيه '' . مالم يكن يعرفه ، أو يعرفه ، السفير البريطاني هو أن ما قال به الاتفاق لا يختلف ، في كثير أو قليل ، على النص حول مصادر التشريع في دستور 1986 الذي صنعته القوى السياسية الشمالية ( القديم والحديث منها ) ، وهى نفس القوى التي كادت تطالب الحركة الشعبية بالمضي في الحرب حتى آخر جندي فيها ، وأغلبهم جنوبي غير مسلم ، لالغائه . يقول ذلك الدستور في مادته الرابعة ( مصادر التشريع ) : '' الشريعة الاسلامية والعرف مصدران أساسيان للتشريع والأحوال الشخصية لغير المسلمين يحكمها القانون الخاص بهم '' . في حين يقول دستور السودان الانتقالي ( المادة 5 (1) ) '' تكون الشريعة الاسلامية والاجماع مصدراً ( وليس مصدراً أساسياً كما جاء في دستور 1986 ) للتشريعات التي تُسن على المستوى القومي وتطبق على ولايات الشمال ، وفي الفقرة الفرعية (2) '' جاء يكون التوافق الشعبي وقيم وأعراف الشعب السوداني وتقاليده ومعتقداته الدينية التي تأخذ في الاعتبار التنوع في السودان ، مصدراً للتشريعات التي تُسن على المستوى القومي وتطبق على جنوب السودان أو ولاياته '' .
    أياً كان الحال ، فان استثنينا جانباً من الجنايات ( الحدود ) ، والنظام المصرفي ، والأحوال الشخصية للمسلمين ، والزكاة في المفروضات ( بصرف النظر عن وجوه الاجتهاد فيها ) فان القوانين العامة السائدة في السودان اليوم مستمدة من أصول ومصادر غير الشريعة . هذه القوانين هى التي تحكم الولاية على التنفيذ والتشريع والقضاء ، وادارة وتنظيم الاقتصاد والصناعة والزراعة والري . ولئن يلقي الناس القول على عواهنه وكأنه لا يريبهم رائب ، فان ذلك يكشف عن سوء نظر وقلة احتراس ، في حين يلزم على العاقل أن يكون ذا أناة في القول .

    أما الحديث حول الشريعة ( الغلط ) في موضوع المصارف ففيه ، هو الآخر ، قولان. طرحت الحركة عند النقاش حول النظام المصرفي رأياً شبيهاً بما دعا له حزب الأمة ، دعت أولاً لنظام مصرفي تقليدي في كل القطر ، فقيل لها دون ذلك خرط القتاد . ثم دعت لنظامين مستقلين يتاح فيهما تبادل المنافع ، بأن تكون في نظام الشمال '' الاسلامي '' نوافذ '' تقليدية '' ، كما تكون في نظام الجنوب '' التقليدي '' نوافذ '' اسلامية '' ، فكان رفض ، وهو رفض منطقي لأنه سيخل بالنظام السائد في الشمال . ازاء ذلك ماكان للحركة الا الاصرار على أن يكون النظام المصرفي في الجنوب تقليدياً بحتاً . هذه هى الوقائع ، فان كان ذلك هو الحال ، يأتي حزب الأمة بالبعيد عن الفهم ان تظنى أن '' فقهاء '' الحركة الشعبية هم الذين سيتولون المجادلة مع '' فقهاء '' الانقاذ حول ما هو '' صحيح '' وما هو '' غلط '' بشأن النظم المالية الاسلامية . وعلى كل ، فالنظام المصرفي الاسلامي ظاهرة جديدة على العمل المصرفي في السودان جاءت في اعقاب أسلمة القوانين والمؤسسات في سبتمبر 1983 على يد الرئيس نميري . حتى ذلك الحين كان في السودان نظامان : مصارف السودان التقليدية ، ومصارف تعمل وفق النظم الاسلامية مثل بنك فيصل ، وبنك البركة ، وبنك التضامن . السؤال اذن ، ان كان النظام الذي ابتدعه النميري نظاماً غير اسلامي فلماذا بقى ذلك النظام منذ ابريل 1985 وحتى يونيو 1989 دون ان يمسسه فقيه من فقهاء الجرح والتعديل بالغاء بسبب فساده ، أو يمسسه بتعديل ''ممثلو الاغلبية المسلمة المنتخبة انتخاباً حراً '' ؟ ثم لماذا تعاقب اتفاقية السلام ، من جانب من كان في مقدورهم الغاء القانون ''الغلط'' ، ولم يلغوه ، على عجزها عن ازالة ذلك القانون ، أم أنهم يفضلون الالغاء على يد عمرو!

    وثيقة حزب الأمة أتت أيضاً برأي مستطرف ، هو الدعوة لانشاء مفوضية للمسلمين يوكل اليها أمر التشريعات الحالية '' التي ترى غالبية المسلمين انها معيبة وغير اسلامية '' . ولعل الذي أوحى بتلك الفكرة هو انشاء مفوضية لحماية حقوق غير المسلمين في العاصمة القومية . قلنا إن هذا رأي مستطرف ، ولكن ليس من المعقول في مفاوضات كتلك التي قادت الى اتفاقية السلام ، أن يرد على خاطر مفاوضي الحركة ، دعاة الفصل بين الدين والدولة ، أو أن يتطوع الطرف الآخر ، صاحب القوانين '' المعيبة '' ، لاثارة موضوع انشاء مفوضية تقرر في أمر الشريعة الصحيحة والشريعة المعيبة على غرار مفوضية حقوق غير المسلمين في العاصمة القومية . على أن المقايسة بين هذه المفوضية ، وتلك التي يدعو لها حزب الأمة، مقايسة غير صحيحة . فقيام مفوضية حقوق غير المسلمين مرتبط بالنزاع بين الطرفين حول طبيعة العاصمة القومية التي كان من رأي الحركة أن لا تخضع لقوانين ذات أصل ديني . وفي النهاية ، تم الاتفاق على نص دستوري يضمن حماية غير المسلمين ( وليس الجنوبيين ) الذين يعيشون في العاصمة القومية وليس في كل السودان ، من التطبيق الخاطئ للقوانين الاسلامية ، لا لضمان أي حقوق أخرى لهم . ولا شك ان أية قراءة دقيقة ، بل عابرة ، للنصوص تبين ما هدف اليه الشارع (الباب العاشر من الدستور) لهذا جانب الكاتب المحقق الطيب زين العابدين الصواب عندما تساءل في واحدة من مقالاته عن خلق مفوضية لحماية غير المسلمين في الشمال في الوقت الذي لم ''تعمل الاتفاقية شيئاً لحماية المسلمين في الجنوب'' ( الصحافة 13/1/2007 ) . ولكيما تكون المناظرة صحيحة لا بد من الحديث عن حماية المسلمين في جوبا عاصمة الجنوب وليس في الجنوب ، إن كانت هناك ثمة مناظرة . ثم يجئ السؤال : الحماية من ماذا في اقليم لا يُخِضِع ساكينه لقوانين ذات أصل ديني ، بل ان دستوره يفصل بين الدين والدولة وينص علي أن ''تعامل كل الديانات بالتساوي ولا تعلن أية ديانة كدين رسمي لجنوب السودان ، ولا تستخدم الاديان والمعتقدات الدينية للتفرقة ( الماده 8 من دستور جنوب السودان).

    النقطة الأخيرة في نقد حزب الأمة للاتفاقية هو اغفالها لمواثيق '' مؤسسة لبناء الوطن '' مثل الميثاق الديني ، الثقافي ، النسوي ، الصحافي ، النقابي . ولا شك في أن ادمان المواثيق ـ وآخرها ميثاق الدفاع عن الديموقراطية الذي أسقطه بيان من المذياع في الثلاثين من يونيو 1989 ـ داء لم تبرأ منه أحزابنا ، بل أعجزها عن أن ترى الفرق بين مفاوضات تدور بين طرفين بموجب اعلان مبادئ ضابط للنقاش ، وبين المؤتمرات السياسية التي تبتغي منها القوى السياسية التوافق على برنامج عمل وطني . ولو تطوع طرفا الاتفاقية ، وقررا البقاء في منتجع نايفاشا ، لصياغة هذه البروتوكولات ، لنجد من يقول لهما : '' من الذي فوضكم بهذا ؟ '' ، أو يقول آخر : '' لماذا لم تضعوا ميثاقاً للرياضة ، أو للبيئة ، أو لحقوق أهل المعتقدات التقليدية ، أو للرعاة ؟ .
                  

02-25-2007, 12:13 PM

adil amin
<aadil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 36923

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. منصور خالد .. عامان من السلام : حساب الربح و الخسارة (Re: محمد يسن علي بدر)

    يا اخوانا في الحركة عووووووووووووووك
    قلنا فضائية ما عندكم
    راديو ما عندكم
    خلاص اجمعو لينا كتابات منصور خالد دي في كتاب شهري(مكتبة السودان الجديد)

    وبعدين من الان شيلو كمرتكم وامشو قابلو منصور خالد ده في لبيت عبر سلسلة برنامجية ذى مع هيكل...عشان يثرى مكتبة السودان التلفزيونية...وثقو الزول ده ياخ
    ده من
    اميز الاسماء في حياتنا
    المغيبة عمدا ودون حياء من قوي السودان القديم المفلسة

    الله يطول عمرك يا منصور خالد ويحفظ عقلك الراجح وكتاباتك الثاقبة التي تحترموعي الناس ولا تصل لجل السواد الاعظم منهم..بسبب عدم دراية من حولك باهمية الاعلام المرئي والمسموع في هذه المرحلة
                  

02-25-2007, 12:43 PM

محمد يسن علي بدر
<aمحمد يسن علي بدر
تاريخ التسجيل: 12-28-2005
مجموع المشاركات: 623

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. منصور خالد .. عامان من السلام : حساب الربح و الخسارة (Re: محمد يسن علي بدر)


    عامان من السلام : حساب الربح والخسارة (18)
    إرباك ... ثم المزيد من الإرباك
    الدبلوماسية السودانية = حماس واسرائيل


    في المقال السابق وقفنا عند الحديث عن المواثيق والبروتوكولات التي افتقدها حزب الأمة في الاتفاقية ، وها نحن نعود اليها في موضوع ذي صلة بها . ولا يدفعنا الى الخوض في هذا الموضوع غير أنه ، أولاً صادر من الأمين العام لحزب الأمة ، الدكتور عبد النبي علي أحمد ، وثانياً لأنه يكشف عن رؤية غريبة لهذه البروتوكولات ، وثالثاً لما فيه من اجتراء لا يعين على حوار سياسي موضوعي ، رغم بعض التصريحات الرشيدة للدكتور مادبو حول التعاون بين الحركة الشعبية وحزب الامة من أجل توطيد دعائم السلام. ففي مداخلة له في ندوة أقامتها '' منظمة السلام والتسامح'' ، وهى منظمة طوعية تهدف للبحث عن قواسم مشتركة بين القوى السياسية ، قال د. عبد النبي : '' إن أهم انجازات الاتفاقية هو السلام ولكنها أغفلت قضايا كثيرة من أهمها بروتوكول العلاقات الخارجية ، فأحد طرفيها مع حماس والطرف الآخر مع اسرائيل '' . الجزء الأخير من الحديث تسطك منه المسامع ، والجزء الأول منه تعجز عن إدراكه عقول العباد .
    قرأنا الحديث مرتين لندرك ما عناه القائل . ثم استبطأنا التعليق ، فلربما أخطأ الناقل فيما نقل مما سيدفع المنقول عنه الى تصويب الخطأ . ولكن بعد مضي شهور على حديث الأمين العام لحزب الأمة لا نملك الا أن نقول : إن ذلك الحديث ، إن صح ، يكشف عورات العقول . ففي بلد كالسودان يقتل فيه الأخ أخاه ، ومازالا يفعلان حتى اليوم في قرى وكفور يعرف الدكتور شعابها أكثر مما نعرف ، يعكس ذلك الحديث عن بروتوكول للعلاقات الخارجية اختلالاً كبيراً في الاولويات . وبعيداً عن البروتوكولات ، فالبروتوكول في العرف الدبلوماسي هو الشكل الذي تُضَمن فيه الاتفاقيات ، خاصة تلك التي تقل درجة رسميتها عن المعاهدات بين الدول أو المواثيق الأممية ، نقول لئن تكون لأي بلد سياسة خارجية ناجعة لا بد لذلك البلد من توافق حول شئونه الداخلية لأن قوة السياسة الخارجية تُستمد من قوة مركز انطلاقها الداخلي . كما أن تلخيص السياسة الخارجية للسودان في قضية فلسطين - ولعل هذا ما عناه السيد الأمين العام لحزب الأمة بالمقاربة بين حماس واسرائيل - يكشف عن غبوة غير حميدة .
    _________________________________________________________________
    فأولويات السياسة الخارجية ، في تقديرنا ، هى أولاً تلك التي تحمي السودان من التمزق باحلال السلام في دارفور ، واكماله في الشرق ، وتوطيد دعائمه في الجنوب ومن ثَمَ تركيز الجهد الدبلوماسي للتواصل والتشاور والتحاور مع كل من يعين على ذلك ، دولاً كانت أو مؤسسات . ثانياً تلك التي تحمي شريان الحياة فيها : النيل وروافده ، وهذا يرمي بنا ، بالضرورة ، الى العلاقات بمصر ودول حوض النيل في شرق ووسط القارة. ثالثاً ، من الضروري ، إن كان مبتغانا هو انتشال بلادنا من وهدة التخلف وتعمير ما سببته ، أو اعادة تعمير ما خربته ، الحروب ، أن تتوجه السياسة الخارجية السودانية الى تمتين التعاون والتكافل والتكامل الاقتصادي العربي والافريقي في اطار المنظومات الجمعية القائمة وليس من خلال العلاقات المحورية المؤدلجة ، والعمل من خلالها مع المنظومات الدولية من أجل بناء نظام اقتصادي عالمي عادل . رابعاً: الدفاع عن حقوق الانسان اينما وحيثما كان ، وان ظلت قضية فلسطين قضية مركزية في سياستنا الخارجية فان مركزيتها لا تعنى مناصرة هذا الحزب أو ذاك ، وانما الدفاع عن حقوق شعب ننتمى اليه وينتمي لنا في استرداد أرضه المغتصبة ، وفي اطار واجبنا الاخلاقي ، قبل السياسي . أخيراً ، ما الذي يدفع أمين عام حزب الأمة لأن يرمي بالبهائت الحركة التي يسعى للحوار معها ، ان كان غرض المنتدى الذي افضى فيه بهذا الرأي هو جمع الصفوف ، أو كان الهدف من المؤتمر الجامع الذي يدعو له حزب الأمة هو التلاقي حول ما يحمي مصالح البلاد العليا.
    مهما يكن من أمر، أن يقول قائل إن السياسة الخارجية لم تغب عن اذهان الطرفين ، فذلك قول مائل . فرغم أن الطرفين لم يذهبا الى وضع بروتوكول للعلاقات الخارجية ، ذهب الطرفان الى الاتفاق على مؤشرات وموجهات لسياسة خارجية في الفترة الانتقالية ( الفقرة 2-9 من الاتفاق ) هدفها الأول والأساس هو تحقيق المصالح القومية للسودان . والتعبير بالضرورة ، يعني أن السياسة الخارجية لن تنطلق من مواقف ايديولوجية أو انحيازات سياسية أو تحالفات محورية ، وانما من كل ما من شأنه أن يخدم المصالح القومية السودانية . يقول الاتفاق : '' تُوظف سياسة السودان الخارجية لخدمة المصالح الوطنية وتُدار باستقلال وشفافية لخدمة الأهداف التالية : -
    (أ) - ترقية التعاون الدولي ، خاصة في اطار أسرة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والاقليمية الأُخرى ، وذلك من أجل تعزيز السلام العالمي واحترام القانون الدولي والالتزامات التعاهدية وتطوير نظام اقتصادي عالمي عادل.
    (ب) - تحقيق التكامل الاقتصادي الأفريقي والعربي ، كل في اطار الخطط والمنابر الاقليمية القائمة وتعزيز الوحدة الافريقية والعربية والتعاون الافريقي العربي كما هو مرسوم في تلك الخطط.
    (ج) - ترقية احترام حقوق الانسان وحرياته الأساسية في المنابر الاقليمية والدولية.
    (د) - تشجيع حوار الحضارات وبناء نظام عالمي قائم على العدل ووحدة المصير الانساني.
    (هـ) - ترقية التعاون الاقتصادي بين دول الجنوب ( والاشارة هنا للجنوب الكوني ) .
    (و) - عدم التدخل في شئون الدول الأُخرى ، وتعزيز حسن الجوار والتعاون المشترك مع جميع دول الجوار ، والحفاظ على علاقات متوازنة وودية مع الدول الأخرى .
    (ز) - مكافحة الارهاب والجريمة المنظمة ، الدولية منها وعبر الوطنية.
    تلك الفقرة من الاتفاق أصبحت جزءاً من الدستور ( المادة 17 ) . أوليس هذا النص أقرب الى الواقع العالمي المعاصر مما جاء به امين عام حزب الامة الذي تلخصت عنده سياسة السودان الخارجية في ''حماس و اسرائيل'' . ثم أولا يري القارئ ان ما جاءت به الاتفاقية و الدستور حول السياسة الخارجية افصح في التعبير عن التزاماتنا الاخلاقية و السياسية ، عما قرره دستور 1986 الذي كان في مقدور صانعيه أن يضمنوه ما ارادوا من بروتوكولات . ففي ذلك الدستور تقول المادة 14 ( السياسة الخارجية ) : «تقوم سياسة الدولة الخارجية على مبادئ عدم الانحياز وتوطيد السلام العالمي وفض المنازعات الدولية والاقليمية بالطرق السلمية وحسن الجوار وتوطيد العلاقات مع الشعوب كافة ، لا سيما الشعوب العربية والأفريقية والاسلامية» .
    هذه ، بتلخيص غير مخل ، هى المآخذ الرئيسة على الاتفاقية منذ بداهة الأمر ، وما زال حزب الأمة يؤكد وقوفه عند أغلبها ( مقال السيد الصادق المهدي في الشرق الأوسط في 2/1/2007 ، وخطبته في صلاة يوم الجمعة 24/11/2006 ، وخطبته في عيد الأضحى في 30/12/2006 ) . في مجملها تعبر الآراء التي جاءت في مذكرة حزب الأمة أو تلك التي جاءت على لسان ، أو بقلم ، رئيسه السيد الصادق المهدي ، عن دعوة لطرفي الاتفاقية لنقض ما غزلاه بايديهما ، ولا ينقض غزلهم الا من اتخذوا ايمانهم دَخَلاً بينهم . لا يغير من هذا ما أرصنه الدكتور الشفيع خضر من حديث دعا فيه الى '' ادخال الاتفاقيات في مظلة القومية لأن الأزمة السودانية قومية '' ثم أضاف: '' طرحنا المحدد هو عقد مؤتمر قومي لمناقشة الاتفاقيات ، وهذا لا يعني اعادة التفاوض فيما تم التوقيع عليه أو مراجعته وانما لتحسينها وتطمين من وقعوا عليها '' ( أخبار اليوم 30/10/ 2006 ) . والشفيع سياسي يحكم القول ولايجازف في التعبير . ولا يبدل منه أيضاً ما أفضى به السيد محمد ابراهيم نقد لأحدى الصحف : '' نحن الآن أحرص على الاتفاقية لأنها حققت قدراً لا يستهان به من الحريات ، والخطر عليها من علاقة الشريكين وعدم الثقة المتبادلة بينهما '' ( السوداني 20/ 1/ 2007 ) ، فنقد سياسي يعي الممكن وغير الممكن في عالم السياسة الواقعية . الذين يتهيب طرفا الاتفاقية دعوتهم للمؤتمر القومي هم الذين يثابرون على تهجينهم للاتفاق ، و ما زالوا عند موقفهم من اعادة النظر فيه . هذه هى العقبة الكؤود في طريق الحوار المجدي بين كل الأطراف السودانية ، بل هذا هو الذي جعل تعبيراً فياضاً بالمعاني مثل '' المؤتمر القومي الجامع '' يجري بين الناس مجرى الامثال المبتذلة . مثل هذه المواقف هى التي دفعت رئيس الحركة الشعبية ، سلفا كير ، ليقول لصحيفة الاتحاد الظبيانية : '' عقدنا مع المؤتمر الوطني اتفاقاً وليس هناك من حزب غيره سينفذها . اما أحزاب المعارضة اذا جاءت للحكم سترفض الاتفاق وتعيدنا للمربع الأول '' ( الاتحاد 26/12/2006 ) . ولا شك في ان النطاسي الذي يقول عن الاتفاقية إنها في حالة موت سريري ( السيد الصادق المهدي ، الشرق الأوسط 2/1/2007 ) سيسعى ،ان جاء للحكم ، الى منحها الراحة الأبدية بموت الرحمة .
    حزب المؤتمر أيضاً لن يكون أقل اكتراثاً للدعوة لمؤتمر قومي يضعه في قفص الاتهام ، ناهيك عن التهديد باقصائه عن ذلك المؤتمر. ففي إحدى ندواته الاربعائية ( الأربعاء ، 1/11/ 2006 ) قال السيد الصادق ان النظام سلم البلاد للاجانب ، وان السودان في حالة انهيار تام . تُرى كيف سينقذ السيد الصادق السودان من المؤتمر و '' اجانبه '' ؟ دعا لجمع الشمل ولحسم قضية الحكم في مؤتمر قومي تحت '' رعاية اجنبية متوازنة'' ، على أن يستثنى من هذا المؤتمر القومي حزب المؤتمر الوطني ، ولكن تشرك فيه القوات المسلحة ، أي ان يستثنى منه السيد عمر رئيس حزب المؤتمر ، ولكن يدعى اليه المشير عمر القائد الأعلى لتلك القوات ، إلا ان كان الحديث عن قوات مسلحة أخرى . تلك دعوة لا يأخذها أحد مأخذ جد إلا ان جاءت من شاعر حالم يتمنى ، فعند الشعراء '' الدنيا مُنى وأحلام '' .مزيد من الإرباك
    يزيد من ارتباك المسرح السياسي دور بعض منظمات المجتمع المدني التي نهدت لجمع الشمل وهذا عمل محمود . على رأس تلك المنظمات لجنة جمع الصف الوطني التي يقودها المشير عبد الرحمن سوار الذهب ومعه نفر كريم وكان لتلك اللجنة اسهام مقدر نتمنى له التوفيق ، خاصة وقد انطلقت اللجنة بمبادرتها دون طمس لحقائق الواقع . تصدت للوفاق وجمع الشمل أيضاً '' منظمة السلام والتسامح'' ، التي أشرنا اليها في بدايات هذا المقال . وفي ندوة عقدتها المنظمة للبحث عن قواسم مشتركة تجتمع عندها الأحزاب السياسية ، وتمهد لعقد مؤتمر قومي في التاسع عشر من ديسمبر ليتوافق مع عيد اعلان الاستقلال من داخل البرلمان ، استوقفتنا ثلاث مداخلات تحولت المنظمة بسببها الى جزء من المشكلة ، بدلاً من أن تكون جزءاً من الحل.
    المداخلة الأولى كانت تلك المنسوبة لأمين عام حزب الأمة حول افتقار اتفاقيات السلام الى بروتوكول دبلوماسي ، وقد تناولناها قبل هنيهة . الثانية كانت هى مداخلة الدكتور كدودة ، ممثل الحزب الشيوعي وعندها نلبث قليلاً . دعا د. كدودة ، في تشخيصه للوضع الراهن ، لمبادرة وطنية '' لاستعادة الشأن السوداني ، فالشعب صار وضعه ضعيفاً في الخارج '' . ثم اقترح ، لـ '' استعادة الشأن السوداني '' وضع بديل اذا رفض المؤتمر الحوار '' ، والبديل ، كما قال، هو '' الاتجاه للشعب '' . قال من بعد إن : « الأشياء التي تصورنا أنها لم تكن ممكنة تصبح ممكنة مثل الانتفاضة والثورة والانقلابات العسكرية '' . يصعب على المرء ادراك المراد من هذا القول المخربش ، أي الذي لم يتقن قوله . رغم ذلك نأخذ الحديث بجد لأنه جاء من سياسي ذي مراس ، ولأن الموضوع ذا أهمية عالية. القول ان وضع الشعب ، لا الدولة السودانية ، ضعيف في الخارج قول يقصر الفهم عن ادراكه ، ولهذا يمكننا تجاوز مالم ندرك كنهه أو معناه . ليس كذلك الحديث عن الاتجاه الى الشعب في حالة رفض المؤتمر للحوار ، وكأن هذا الشعب موضوع اليوم في ثلاجة . أولا يتناقض هذا مع دعوة التجمع ، منذ توقيع الاتفاقية ، لـ '' تعبئة الجماهير واستنهاضها من أجل فرض التحول الديموقراطي '' . مع ذلك ، فالمنكر العظيم هو الحديث عن الانقلابات العسكرية كوسيلة للتغيير ، رغم أن الذين يصنعون الانقلابات لا يتحدثون عنها في المنابر العامة . ونستعيد هنا ما أعلنه السيد محمد ابراهيم نقد عقب انتفاضة أبريل ، في اطار الجدل الذي كان يدور يومها حول الانقلابات العسكرية ، ان لا عودة للانقلابات '' لأننا '' ، كما قال '' ضُقناها في عضمنا '' ، ولا شك لدينا في صدق مقاله . فإن لم يكن الدكتور كدودة يستذكر ذلك كما نستذكره ، أفهل لم يسمع ، كما سمعنا ، وينتشي كما انتشى كثيرون ، بقول محجوب شريف : '' من المدفع طلع خازوق '' . نبسط الأمور ونقول إن الحديث لا يعدو أن يكون حديث '' خَراج روح '' . ولكن ، لغة '' خراج الروح '' لا تفيد في تعبئة الجماهير لفرض التحول الديموقراطي .
    هذا موقع نستذكر فيه أيضاً حديثاً لنا قرأه البعض كما يهوى ، ومن منطلق ذلك الهوى كانت لهم منه استخراجات . بسبب تلك الاستخراجات اعترانا وهم بأن كنا نقول ما لا يفهم ، أو ان المتلقين عنا لا يفهمون ما نقول . ففي معرض الحديث عن الذين يريدون ان يجعلوا من هامش الحرية الذي وفرته الاتفاقية مجالاً للعمل على اسقاط النظام واستدراج الحركة في هذا الطريق ، لا مجالاً للعمل معها على استغلال ذلك الهامش لتحقيق التحول الديموقراطي وفق ما حددته الاتفاقية ، قلنا إن تلك حروب آخرين ولن نكون طرفاً فيها . قلنا هذا في ندوة اقيمت بالنادي القبطي بالخرطوم حول حقوق غير المسلمين بالعاصمة القومية ، وقلناه على صفحات «الرأي العام» . ولم يحملنا على ذلك القول إلا أنا قوم متصالحون مع أنفسهم ، فإن جنحنا للسلم سنمضي في طريقه حتى نُحَمل على غيره . مع ذلك نحن مع التحول الديموقراطي ، لا لأنا ندعو له ، بل لأنا شاركنا في صوغه وتشكيله مبادئ ونصوصاً دستورية . ونحن مع انفاذ الاتفاقية برمتها ، لا لأنا نصرح بهذا في مقال ، بل لأن ذلك هو ما يعمل من أجله برلمانيونا في ساحات البرلمان ، وما يُعبر عنه مسئولونا على صفحات الصحف ، وما نسعى من أجل تحقيقه داخل دواوين الدولة ، وما تؤكد عليه قرارات القيادة العليا للحركة في اجتماعاتها وفي خطاباتها المعلنة ، وآخرها ما أعلنه رئيسها في مؤتمر قطاع الشمال وأكده مجلسها الوطني في اجتماعه الأخير بمدينة ياي. ونحن مع الوحدة الوطنية الشاملة ، لا استجابة لما يطالب به الغير ، وانما لأننا حرصنا على النص عليها في الاتفاقية ، ومازلنا عند ذلك الحرص كما جاء في قرارات اجتماع ياي الذي أشرنا اليه قبل هنيهة . من يجهل هذا نظهر له جلية الأمر حتى يستبين ما نعني بما قلناه ، ومن يعاند مُلَبساً الحق بالباطل نقرعه ، فالناس منذ عهد الجاحظ '' بين محاج يحتاج الى الارشاد ، ومعاند يحتاج الى التقريع '' .

    الرئاسة و اعادة صياغة الدستور
    نعود الى منبر البحث عن القواسم المشتركة لنتناول ما ورد فيه من مقترحات لا تعين المؤتمرين على تحقيق أهدافهم . من ذلك ، ما جاء عن تنازل المؤتمر الوطني عن جزء من نصيبه في السلطة لاستيعاب القوى الاخرى . هذا موضوع ندرك دواعيه ، وان وفق الداعون له فذلك خير . بيد أن اقترابنا من الموضوع غير ، فالتمحك في الحديث عن الانصبة في الجزء الأول من الفترة الانتقالية والتي لم يبق منها غير عام وبعض العام ، يعني ان اقتسام السلطة الموقوتة الذي ظل يهجس في بال بعض القوى السياسية المعارضة ، بل يخنس في عقول ذلك البعض ، أصبح أيضاً هماً لذوي النوايا الحسنة من الوسطاء . ومن المدهش أن السلطة التي يتحدثون عنها هى فقط تلك التي تمارس في الشمال ، ففي الجنوب ، ايضاً ، تستأثر الحركة الشعبية بأكثر مما يستأثر به المؤتمر الوطني في الشمال . الغالبية العظمى من ساسة الجنوب وأحزابه رضوا بذلك الوضع ، لا استكانة له ، وانما اولاً لادراكهم للظروف الموضوعية التي ادت اليه ، وثانياً لتوافرهم على الاستعداد للمرحلة القادمة ، مرحلة الانتخابات ، التي يُمتحنون فيها كما تُمتحن الحركة امام حَكَم فيصل هو الشعب . ولعل الذي لم يحمل ذوي النوايا الحسنة على تناول حالة الجنوب هذه ، رغم أن القضية قومية كما يقولون ، هو أن اللجاج حول قسمة السلطة ، فيما تبقى من زمن للانتخابات ، موضوع شمالي بحت ، أصبح شغلاً شاغلاً لبعض قادة المعارضة. وقد حمدنا للسيد الميرغني قوله إن حزبه لن يخلق ضجة حول موضوع الحكم في الفترة الأولى ، وسينتظر الانتخابات . كنا نأمل أن يستهم المجلس بالاعداد للمباراة القادمة ، بدلاً من الانشغال بهموم من يريد اللعب في الوقت الضائع في مباراة قاربت الانتهاء . وكان المجلس ليحسن فعلاً ، أيضاً ، لو صرف بعض جهده في توحيد الأحزاب نفسها بعد انشطاراتها الاميبية المتعددة ، واعانتها على بلورة رؤاها حول المستقبل الأقرب لا البعيد ، ألا وهو الانتخابات ، و على كيف تتفاعل مع طرفي الاتفاقية وفق هذه الرؤى كي تحفزهما على انفاذ ما اتفقا عليه ، خاصة فيما يتعلق بالتحول الديموقراطي والانتخابات .
    جاء في المنبر ايضاً رأي ، لو قدم في مؤتمر لوضع دستور جديد للسودان ، لتفهمنا دواعي طرحه . الرأي هو اعادة هيكلة مؤسسة الرئاسة لتضم خمسة نواب للرئيس ، كل واحد منهم يمثل اقليماً ، رغم ان خارطة السودان الادارية الحالية تختلف كثيراً عن الخارطة التي رسمها اصحاب هذه الفكرة البديعة في اذهانهم . وقد وردت نفس الفكرة في مذكرة المؤتمر الشعبي الى هيئة جمع الصف التي يترأسها المشير سوار الدهب حيث ورد فيها ما يلي: ''يحسن أن تتسع رئاسة الجمهورية-محور السلطات الاعظم اليوم- لتصبح مجلساً يحفظ للشريكين الحاضرين موقعيهما الاعليين ، ثم تضاف مواقع في العضوية لتمثيل دارفور و الشرق ولخامس يتم وترية العدد لعَلَم وطني مستقل أو ممثل للقوى المعارضة اليوم'' (رأي الشعب 10/2/2007). الفكرة ليست بالجديدة فهى تحوير لما ظل مطروحاً على الساحة السياسية منذ ستينات القرن الماضي في لجنة الدستور : ايكال رئاسة الدولة لمجلس يختاره البرلمان بدلاً عن رئيس ينتخب مباشرة من جانب الشعب . تلك الفكرة استهدى أصحابها بالتجربة الانتقالية التي ورثناها عن مجلس الحاكم العام ، ثم مجلس السيادة بعد الاستقلال . وكان ، وما زال ، اكبر الدعاة لها هو الحزب الشيوعي السوداني ، كما دعا لها التجمع الوطني الديموقراطي لقيادة الدولة السودانية التي كان ينتوي اقامتها بعد '' اقتلاع '' نظام الانقاذ .
    أصل الفكرة هو ان يكون رأس الدولة سلطة سيادية تسود ولا تحكم
    to reign and not rule) ) على ان يباشر الحكم رئيس الوزراء المنتخب من قبل البرلمان ووزراؤه ، والذين هم اقرب للمحاسبة من رئيس الجمهورية . وفي جميع الحالات المعروفة التي يتسيد فيها رئيس الدولة ولا يحكم لا يقع البتة تداخل في الاختصاصات أو المهام أو الواجبات : الملكة في بريطانيا أو هولندا ، رئيس الجمهورية في الهند ، الحاكم العام في كندا . التجربة السودانية وحدها هى التي كانت '' سودانية مية المية '' ، رغم كل الدعاوى حول نجاعتها . فعلى خلاف المجلسين الأولين اللذين ضما رجالاً على قدر كبير من الخبرة المهنية والاستقلالية في الرأي ، رغم حزبية بعضهم : ( الدرديري محمد عثمان ، احمد محمد يس ، عبد الفتاح المغربي ، احمد محمد صالح ، سرسيو ايرو ) في مجلس السيادة الأول ، و( التجاني الماحي ، عبد الحليم محمد ، مبارك شداد ، ابراهيم يوسف سليمان ، لويجي ادوك ) في ذلك الذي عقب انتفاضة اكتوبر ، شهدت المجالس التي تلت تجاوزات كثر للصلاحيات . مثال ذلك التدخل في شئون القضاء ( عقب القرار بحل الحزب الشيوعي ) ، التباري في العمل الدبلوماسي الذي هو واحد من اهم واجبات السلطة التنفيذية ، في الديموقراطية الثانية والثالثة ، والنزاع حول الاشراف على القوات المسلحة في المجلس الأخير . وفي كل حالات الخلاف بين رئيس الوزراء ومجلس السيادة أو مجلس رأس الدولة لم تكن الحلول أبداً عبر الاحتكام للدستور ، بل للجودية . ذلك نموذج للحكم لا تمثل العودة اليه الا تجربة للمُجَرب ، ومن يفعل ذلك تحوق به الندامة كما يقولون .
    ولكيلا ننسى ، هناك أيضاً الواقع الماثل . أولاً ، في السودان اليوم خمس وعشرون ولاية ، منها خمس عشرة ولاية في الشمال لن تتنازل واحدة منها عن حقها للاخرى ، فمالذي سنصنع لتقليصها الى خمسة اقاليم كما اقترح الباحثون عن القواسم المشتركة ؟ ثم ما هى الآلية التي يتم بها اختيار ممثليها في الفترة التي تسبق الانتخابات ؟ أو سيكون ذلك على أساس حزبي ؟ وان كان كذلك فما هى هذه الاحزاب ؟ وأي مدى زمني ستستغرق هذه العملية قبل الانتخابات ؟ ثم كيف نضمن الوفاق بين هذه القوى ، حزبية كانت ام غير حزبية ، على اختيار ممثليها الخمسة في الوقت الذي تعجز فيه قوى اقليمية خاضت حروباً للوصول الى ما وصلت اليه من نتائج عن التوافق على مرشحيها لمراقي الدولية العليا دون الرئاسة ؟ ثم ما الذي سنصنع بالجنوب الذي ظل يحارب على مدى خمسين عاماً ليحصل على وضع مميز في سدة الحكم ؟ هل سنبقى على السلطات التي منحتها الاتفاقية لرئيسه مميزة له عن غيره من نواب الرئيس ، أم سنلغي هذه السلطات ؟ ثانياً ما الذي سنصنع بالدستور الذي ينص على انتخابات الرئاسة ( الرئيس والنائب الأول ) على أساس التباري الحزبي ؟ ذلك الدستور يقول إن جاء الرئيس المنتخب من الشمال يكون الرئيس المنتخب لحكومة الجنوب نائباً أولاً له ، وان كان الرئيس المنتخب جنوبياً يصبح رئيس الحزب الفائز بالاغلبية في الشمال نائباً له ( المادة 62 (1) ) . أو سنعدل الدستور ، مثلاً ، لنلزم كل مرشح للرئاسة أن يختار بجانبه خمسة نواب للرئيس يمثلون اقاليم السودان الخمسة بعد الاتفاق على هذه الاقاليم ، أو يمثلون دارفور و الشرق وعلم وطني كما ورد في مذكرة الشعبي ؟ وان لم يكن لذلك الرئيس المرشح شخصاً من حزبه ليرشحه في اقليم معين ، أو سنفرض عليه شخصاً من حزب آخر في انتخابات تخوضها أحزاب ؟ كل هذه اسئلة تتعلق بالشكول والآليات .
    نجئ من بعد الى من هو الذي سيقنع الرئيس البشير بالتنازل عن سلطاته الدستورية ، أو يقنع نائبه سلفاكير بالتنازل عن منصبه وسلطاته من اجل المصلحة الوطنية كما تراها منظمة السلام و التسامح ؟ هذه كلها امور توحي بعدم التريث وحسن الاستقصاء في امور تستلزم الجد . وجد أو لا جد ، يتبدى لنا أن البعض منا عازم على ان يطبق حرفياً في السياسة حكمتنا الذائعة : '' كبير الجمل '' . ففي كل العالم ، وعبر كل التاريخ ، هناك الرجل الأول ، والرجل الثاني ، والرجل الثالث ، الا في السودان . ففي وطننا الغالي يطمع الكثيرون ان يكون هناك الرجل الاول ، والرجل الاول مكرر (1) ، والرجل الأول مكرر (2) وهلمجرا . هذا أمر مقبول في لافتات ترقيم المنازل في المدن الكبرى ، ولكن ليس في دنيا السياسة والادارة .

    اتفاقية السلام وترهل الحكم
    في المقال الخامس عبرنا عن امل في ان تفلح القوى السياسية في انهاء الترهل الذي فرضته اعتبارات توسيع قاعدة الحكم في الفترة قبل الانتخابية . ذلك الترهل لم يكن ابداً من خطتنا ، إذ كان مبتغانا منذ ماشاكوس هو قيام حكم مركزي تراعى فيه كفاءة الانفاق (cost -effectiveness )، لا سيما بعد تحويل جزء كبير من سلطات المركز الى الولايات . وقد صار ذلك الترهل في اجهزة الحكم الانتقالية التشريعية ( 450 عضواً في المجلس الوطني ) ، أو التنفيذية ( 30 وزيراً و33 وزير دولة ) محل نقد ، بل تندر في الصحف . الدستور يلزمنا بمراجعة هذا الوضع الانتقالي إذ اوكل للجنة الانتخابات القومية تحديد عدد أعضاء المجلس الوطني ، في حين ابقى على تكوين مجلس الولايات على ما هو عليه الحال الآن ( ممثلان لكل ولاية ) . أوليس غريباً ، اذن ، ان تخرج علينا مجموعة من الاكاديميين الذين عهد لهم أمر التدارس حول قانون الانتخابات الجديد كجزء من حملة متكاملة لبلورة رأي حوله ، باقتراح يدعو لأن يضم المجلس الوطني المنتخب خمسمائة عضو. يحدث هذا في الوقت الذي سيكون فيه لكل ولاية من ولايات السودان الخمس والعشرين مجلسها التشريعي . أي معيار ذلك الذي قاد الى هذه النتيجة ؟ وأية تجربة استلهمت من اجل الوصول للرقم السحري : خمسمائة . دعنا ، مثلاً ، ننظر للعالم من حولنا : مجلس النواب في نيجيريا بسكانها المائة واربعين مليوناً ، أي أربعة اضعاف سكان السودان ، به «360 » عضواً . والهند التي يفوق عدد سكانها البليون واثني عشر مليوناً من البشر يضم مجلس نوابها (LOK SABHA)545 عضواً.
    والولايات المتحدة التي يقارب عدد سكانها الثلاثمائة مليون ( أي ما يقارب عشر اضعاف سكان السودان ) يتكون مجلس النواب فيها من «435» عضواً يمثلون «50» ولاية . ومصر التي بلغ عدد سكانها الثمانين مليوناً ، لا يزيد عدد اعضاء مجلس نوابها ( مجلس الشعب ) عن «454» عضواً . أما جنوب افريقيا التي يبلغ عدد سكانها سبعاً واربعين مليوناً من البشر فتنص المادة 46 (1) من دستورها على ان يتكون المجلس الوطني مما لا يقل عن «350 » ولا يزيد عن «400 » عضو من الرجال والنساء .
    لقد بُرر الترهل في الجسم السياسي خلال فترة ما قبل الانتخابات بضرورات توسيع قاعدة الحكم ، فما هو المبرر فيما بعد الانتخابات لبرلمان مترهل أو حكومة مترهلة من القمة الى القاعدة ؟ فلئن كنا جادين حقاً في انفاذ لامركزية الحكم بحيث يقتصر واجب السلطة القومية على المهام الحصرية لتلك السلطة ، الى جانب تلك التي تتشاركها مع الولايات وهي بطبيعة اللا مركزية مهام اشرافية أو ذات صلة بالتخطيط و المتابعة ، ولئن كنا صادقين في الحرص على الاستخدام الأمثل للموارد وتوجيه جلها للقضاء على الفقر ، فلا معدي لنا عن تقليص الانفاق الاداري ، خاصة ذلك الذي تستوجبه الترضيات السياسية . الثمن لذلك الاسترضاء ، قامت به حكومة ، أو طالب به حزب ، يقتطع من حساب الفقراء ، وهذا عمل غير صالح ، بل مناقض للدستور الذي يقول ''الاهداف الأشمل للتنمية الاقتصادية هي القضاء على الفقر و تحقيق اهداف ألفية التنمية وضمان التوزيع العادل للثروة وتقليص التعاون في الدخول و تحقيق مستوى كريم من الحياة لكل المواطنين'' (المادة 10 (1)).
                  

02-26-2007, 10:53 AM

Nazar Yousif
<aNazar Yousif
تاريخ التسجيل: 05-07-2005
مجموع المشاركات: 12465

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. منصور خالد .. عامان من السلام : حساب الربح و الخسارة (Re: محمد يسن علي بدر)

    اتفاقية السلام وترهل الحكم
    في المقال الخامس عبرنا عن امل في ان تفلح القوى السياسية في انهاء الترهل الذي فرضته اعتبارات توسيع قاعدة الحكم في الفترة قبل الانتخابية . ذلك الترهل لم يكن ابداً من خطتنا ، إذ كان مبتغانا منذ ماشاكوس هو قيام حكم مركزي تراعى فيه كفاءة الانفاق (cost -effectiveness )، لا سيما بعد تحويل جزء كبير من سلطات المركز الى الولايات . وقد صار ذلك الترهل في اجهزة الحكم الانتقالية التشريعية ( 450 عضواً في المجلس الوطني ) ، أو التنفيذية ( 30 وزيراً و33 وزير دولة ) محل نقد ، بل تندر في الصحف . الدستور يلزمنا بمراجعة هذا الوضع الانتقالي إذ اوكل للجنة الانتخابات القومية تحديد عدد أعضاء المجلس الوطني ، في حين ابقى على تكوين مجلس الولايات على ما هو عليه الحال الآن ( ممثلان لكل ولاية ) . أوليس غريباً ، اذن ، ان تخرج علينا مجموعة من الاكاديميين الذين عهد لهم أمر التدارس حول قانون الانتخابات الجديد كجزء من حملة متكاملة لبلورة رأي حوله ، باقتراح يدعو لأن يضم المجلس الوطني المنتخب خمسمائة عضو. يحدث هذا في الوقت الذي سيكون فيه لكل ولاية من ولايات السودان الخمس والعشرين مجلسها التشريعي . أي معيار ذلك الذي قاد الى هذه النتيجة ؟ وأية تجربة استلهمت من اجل الوصول للرقم السحري : خمسمائة . دعنا ، مثلاً ، ننظر للعالم من حولنا : مجلس النواب في نيجيريا بسكانها المائة واربعين مليوناً ، أي أربعة اضعاف سكان السودان ، به «360 » عضواً . والهند التي يفوق عدد سكانها البليون واثني عشر مليوناً من البشر يضم مجلس نوابها (LOK SABHA)545 عضواً.
    http://www.rayaam.net/articles/article26.htm
                  

03-08-2007, 03:10 PM

Moneim Elhoweris
<aMoneim Elhoweris
تاريخ التسجيل: 06-29-2006
مجموع المشاركات: 429

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. منصور خالد .. عامان من السلام : حساب الربح و الخسارة (Re: Nazar Yousif)

    up
                  

03-08-2007, 03:14 PM

Moneim Elhoweris
<aMoneim Elhoweris
تاريخ التسجيل: 06-29-2006
مجموع المشاركات: 429

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. منصور خالد .. عامان من السلام : حساب الربح و الخسارة (Re: Moneim Elhoweris)


    Plese fill-in gaps and update with latest
    Thanks in advance
                  

03-09-2007, 09:44 PM

Moneim Elhoweris
<aMoneim Elhoweris
تاريخ التسجيل: 06-29-2006
مجموع المشاركات: 429

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. منصور خالد .. عامان من السلام : حساب الربح و الخسارة (Re: Moneim Elhoweris)


    Plese fill-in gaps and update with latest
    Thanks in advance
                  

03-10-2007, 06:07 PM

محمد يسن علي بدر
<aمحمد يسن علي بدر
تاريخ التسجيل: 12-28-2005
مجموع المشاركات: 623

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. منصور خالد .. عامان من السلام : حساب الربح و الخسارة (Re: محمد يسن علي بدر)



    عامان من السلام : حساب الربح والخسارة.. (19)

    ___________________________

    .......
                  

03-10-2007, 06:15 PM

محمد يسن علي بدر
<aمحمد يسن علي بدر
تاريخ التسجيل: 12-28-2005
مجموع المشاركات: 623

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. منصور خالد .. عامان من السلام : حساب الربح و الخسارة (Re: محمد يسن علي بدر)



    عامان من السلام : حساب الربح والخسارة.. (20)

    _____________

    ..........
                  

03-10-2007, 06:19 PM

محمد يسن علي بدر
<aمحمد يسن علي بدر
تاريخ التسجيل: 12-28-2005
مجموع المشاركات: 623

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. منصور خالد .. عامان من السلام : حساب الربح و الخسارة (Re: محمد يسن علي بدر)


    عامان من السلام : حساب الربح والخسارة (21)
    النقيض والبغيض والعريض
    المحسنات اللفظية والسياسة
    _____________________________________
    نأتي في هذا المقال على حديث السيد الصادق عن '' النقيض '' وهو مشروع الحركة ، و'' البغيض '' وهو مشروع الانقاذ ، ثم '' العريض '' وهو مشروع سيادته . وبعيداً عن المحسنات اللفظية التي قد تفيد في الادب الانشائي إلا أنها لا تقوى على الوقوف على ساق عند التحليل السياسي مالم تثبت ببرهان ، نتساءل عما هى النقائض فيما دعت له الحركة ؟ لقد ظل الراحل قرنق ، منذ النشأة الاولى للحركة التي قادها ، يتحدث عن ضرورة التغيير التحولي mutation)) في مجتمع متنوع مثل المجتمع السوداني بحيث تتوالف النقائض الكامنة في تنوعه عبر الامتصاص التلقائي ، أوالتكافل الحيوي بين الأجزاء المتعضية ، أي المختلفة (symbiosis )وإن كان هذا هو حال التكافل في علم الأحياء بين الاجزاء الحيوية إلا أن التوالف بين المتفرقات ، في حالة المجتمعات البشرية ، لا يتحقق الا باطراح الفوارق والاستمساك بالجوامع ، أو كما قال الامام الشاطبي في مجال آخر ، بـ '' تكثيف الجوامع وتقليل الفروق '' . فالذي يجمع بين أهل السودان على اختلاف مللهم وأعراقهم هو الوطن ، دون أن يغمط هذا حق أي جماعة في ذلك الوطن في ان تستدعي ماضيها ، وتبجل مواريثها ، وتتمسك بقيمها . في ذات الوقت ، تبقي الرابطة التي توحد هذه الجماعات في الاطار الأوسع هى الوطن والانتماء لذلك الوطن (المواطنة ) . فما هى النقائض في هذا ؟ أوليس أقرب للعقل والمنطق والذائقة ان تقول ، كما جاء في الاتفاقية والدستور ، '' جمهورية السودان دولة مستقلة ذات سيادة ، وهى دولة ديموقراطية لا مركزية تتعدد فيها الثقافات واللغات وتتعايش فيها العناصر والاعراق والاديان '' ( المادة 1 (1) ) ، أو تقول '' التنوع الثقافي والاجتماعي للشعب السوداني هو أساس التماسك القومي ، ولا يجوز استغلاله لاحداث التفرقة '' ( المادة الفرعية (ج) من المادة الرابعة ) ، من ان تقول '' السودان مسلم عربي زنجي افريقاني بجاوي نوبي مختلف الاديان والاعراق '' ، كما اراد السيد . تُرى أولم نكن لنصبح هزأة في العالمين ان اوردنا نصاً كهذا في دساتيرنا ؟ فالسودان مسلم حقيقة ، ولكن في السودان أيضاً أهل دين وكتاب آخر وأهل ديانات تقليدية . في السودان أيضاً أقوام آخرون غير اولئك الذين عددهم السيد ، ولا نحسبنه اراد لهم جميعاً ان يُدرجوا تحت من اسماهم بالزنج وهو تعبير انثروبولوجي يتحرج علماء السياسة من استعماله خارج اطاره التاريخي . والسودان افريقي بحكم الجغرافية ، والتكوين السلالي لأغلب أهله ، وتداخل القوميات في ذلك التكوين ، ولكنه بالقطع ليس افريقانياً لأن الافريقانية (africanism ) توجه وخيار سياسي . تأمل ، السيد رئيس حزب الأمة الذي يتهم الكاتب ورئيس الحركة بالافريقانية دون أن يملك دليلاً واحداً على ذلك ، يطلق نفس الصفة على سودانه الذي يتمناه .
    ________________________________________

    ذلك الخيار (الافريقانية) تمناه الامام على رجل مزهو بثقافته العربية ، وما ذلك الا للالقاء به في موضع يسهل انتياشه منه . هذه اونطجية سياسية ، وليست محاورة مفكرين . فآراء هذا الكاتب حول الثقافات السودانية ورد في اكثر من كتاب: ''النخبة السودانية'' ، ''جنوب السودان في المخيلة العربية'' ، ''السودان: أهوال الحرب وطموحات السلام'' . وفي الكتاب الأخير ، تناولنا الموضوع في قرابة المائة صفحة في الباب الثاني : ''السودانيون: من هم والى أين ؟ ''. وكان رأينا ، ومازال ، إن اللغة و الثقافة العربية اصبحتا ضحيتين لذرائع السياسة منذ أن أخذ بعض مثقفينا يستذرعون بهما كوسيلة للتمييز بين ، أو الاستعلاء على ، أبناء وبنات الوطن الواحد . ولعلنا ننقل هنا اشارتين في ذلك الكتاب . الاولى هي قولنا إن ''اللغة العربية تستطيع ان تقوم بدور محوري في تحقيق التجانس الثقافي داخل السودان شريطة ان لا يُقسر عليها الآخرون، فالوحدة الثقافية لن تتحقق أبداً عبر فرض التماثل ، ولكن باتاحة الفرصة لكل الثقافات كيما تتفتح ، وتنفتح على بعضها ، وتتلاقح. فالتجانس (homogenization ) ليس رديفاً للدمج القسري و الهمينة (hegemonization ) ولو اعاد الشماليون قراءة تاريخهم جيداً لأدركوا بان الامتصاص التلقائي كان هو السبيل الذي طرقته العربية عند دخولها للسودان ، واعطت ثقافة الشمال نفسها الصفة السودانية التي ميزتها'' (صفحة 669) . وهذا حقاً هو ما ذهبت اليه الاتفاقية عندما اعترفت دستورياً بلغات السودان المحلية ، الى جانب العربية السائدة ، كلغات قومية وانشأت مجلساً لتطوير هذه اللغات و الثقافات يُعين على التلاقح بينها حتى يتوحد الوجدان الوطني . وبذلك القرار لم نجئ داهياً مُنكراً فقد سبقنا إليه أحفاد عقبة بن نافع وسحنون صاحب المدونة (الجزائريون) عندما اعترفوا بلغة الأمازيغ كلغة قومية ، أو اعتراف أحفاد العباسيين منذ عهد صدام باللغة الكردية كلغة قومية ، دون أن ينبري لهم من يتنطع بالحديث عن محو الثقافة العربية في الجزائر أو اللغة العربية في العراق .

    الاشارة الثانية هي تعقيبنا على رأي لجون فول (John Vol )، وهو واحد من اساتيذ الدراسات السودانية الذين نبغوا فيها . قال فول: ''ان مستقبل السودان على المدى الطويل يتوقف على قدرة السودانيين على تطوير التوازنات المهزوزة الى توليفة وطنية . و الشعراء و الموسيقيون هم رواد وحُدَاة هذا الطريق . بقي أن ننتظر لنر إن كانت القيادة السياسية للحكومة و المعارضة قادرة على اتباع اولئك الفنانين '' (نفس المصدر). تعقيباً على ذلك قلنا إن ''الثقافة العربية ستكون في وضع أفضل ان ترك امر نموها للسيرورة الطبيعية ، ولإبداعات اهل الفن الذين يخاطبون الوجدان، بدلاً من ايكال أمرها الي الساسة الانغلاقيين ، و المهووسين الدينيين ، و العنصريين ذوي الخيلاء التلقائية . فالفنون تلعب بالصوت والكلمة والحرف على أوتار القلوب ، وحنايا الوجدان ، ولا تعبر إلا عن اسمى العواطف في البشر'' . وعلى سبيل المثال ، كان الفنان العظيم ، الاستاذ محمد وردي أقرب الى أوتار قلوب الجنوبيين ، بوجه عام، و مناضلي الحركة ، بوجه خاص و الحرب في أوجها ، من الكثير من السياسيين الانغلاقيين. ارتحل اليهم ذلك الفنان النوبي حيث كانوا ليتغنى بلسان عربي غير ذي عوج ، فحفظوا اغنياته ، ومازالوا يرددونها .
    ولعل من أروع مظاهر التعبير عن الوجه الثقافي السوداني بملامحه المختلفة الفن التشكيلي . فالتشكيل تصوير ابداعي للواقع ، وفي بعض الاحيان احتجاج على ذلك الواقع . ورغم أن الفنان يعطي اشكالاً لما لا شكل له ، الا أن الرائي المتبصر يقرأ في تلك الاشكال وجهاً للسودان لا يتفق مطلقاً مع الرؤية السطحية له من جانب الذين لا ينفذون الى الأعماق ، أو تلك المفتعلة من جانب مزيفي الوعي . في ذهننا فنانون أفذاذ مثل الراحل صاحب الأفانين عثمان عبدالله وقيع الله ، عطر الله ثراه ، و ابراهيم الصلحي الذي ينبغي أن نعترف له بالفضل في ابتداع بيداغوجيا تشكيلية ذات مفردات بصرية رائعة مازجت بين الخط العربي و النمانم الاسلامية و الزخرفة الافريقية . وعلى نهج الصلحي سار صحبه المبدعون حسين جمعان ، وشبرين ، ورباح ، واحمد عبدالعال ، وراشد دياب . ثم من بعد تلاميذهم الكُثر الذين ازدانت صالات الفنون عبر العالم بآثارهم.

    الى جانب اولئك برزت طائفة أخرى من التشكيليين كان لها ، هي الأخرى، قصب السبق في اضفاء طابع سوداني معاصر على التراث النوبي الذي يتمنى البعض محوه من الذاكرة مثل الدبلوماسي الراحل صالح مشمون وحسان علي أحمد الذي ازدهت صالات العرض في القاهرة ودول الخليج برسومه الباهرات . فالوطن ليس ظاهرة جغرافية فحسب ، بل هو أيضاً ظاهرة ثقافية متعددة الصفات والألوان . ولا يمكن التعبير عن تلك الظاهرة في الاوطان ذات التنوع الثقافي الكثيف مثل السودان ، في ظل احادية ثقافية تسحق الخصائص الثقافية للآخر .
    بدا لنا ، في معرض تعقيب السيد الصادق على ورقة الدكتور الواثق ، أن ذلك السحق امتد حتى لحضارات السودان القديمة . فمن بين ما أخذه السيد الصادق على دعوة قرنق للسودان الجديد اشاراته للحضارة الكوشية ، وتصوير تلك الاشارات بانها محاولة لطمس الاسلام . هذا حديث يأسى له المرء عندما يجئ من زعيم لوطن فيه العرب والنوب والنيليون . أو عندما يصدر من مفكر كبير يعرف أن ذلك الوطن هو مسقط رأس أولى حضارات الانسان: الحضارة النوبية. وعلى أي ، لاندري كيف يطمس الاسلام تاريخاً غابراً لم تبق منه الا الرسوم ، إلا أن كان المراد هو افراغ الذاكره الوطنية من ماضيها. ومن الغريب أن يدرك قرنق الجنوبي ، لا الصادق الشمالي ، بحسه أهمية تلك الحضارة مما حمله على أن يطلق على عاصمة المناطق التي كانت تسيطر عليها الحركة في الجنوب القصي اسم كوش الجديدة (New Kush) ولعل وراء اختياره للأسم أيضاً رسالة للانغلاقيين الجنوبيين فحواها أن السودان الكبير الذي ينشد توحيده على أسس جديدة هو وطن ذو تاريخ مجيد. ولعلنا نسأل هنا كم لأحزابنا السياسية أو قادتنا السياسيين في الشمال ، باستثناء الجهد المقدر الذي قام به الراحل عبد الخالق محجوب ، أو في الجنوب ، قبل أطروحات قرنق ، من رؤى عن التمازج بين حضارات السودان القديمة والمعاصرة؟ وما هو مدى الأهتمام الذي أولوه لموضوع التلاقح والتمازج الثقافي كعنصر أساس من عناصر تكوين الأمة في أبحاثهم وبرامجهم ؟ هذه القضايا لا ترد ـ إن وردت ابداً ـ الا في باب الشعارات مثل '' الاعتراف بتعدد الثقافات واللغات والأديان '' ، دون أن يلحق بالشعار تبيان لوسائل تشكيله دستورياً وقانونياً ، أو تفعيله برمجياً . لهذا ، نزعم أن كل ما يردد اليوم حول التلاقح بين ثقافات السودان ولغاه المختلفة ، بعد سنوات من العمل الاقصائي للثقافات السودانية غير العربية ، هو ارتداء لقمصان الغير : القمصان النظرية التي حاكها ترزي ماهر يدعى جون قرنق.

    الخلاف مع الحركة
    ندلف من بعد ، على حديث السيد الصادق حول بدايات خلافه مع قائد الحركة والتي عزاها لاختلاف الرأي حول المفاوضات ، والحقيقة غير . فمفاوضات الحركة مع الايقاد سبقت مؤتمر اسمرا للقضايا المصيرية ولهذا كان من قرارات التجمع الموافقة على استمرار الحركة في تلك المفاوضات . وفي اكثر من محاولة سعت الحركة ، من جانبها ، لاشراك التجمع في تلك المفاوضات وانتقت لتلك المهمة واحداً من انجب ابنائها ، بل كبير مفاوضيها في جولات الايقاد ، (نيهال دينق نيهال) ، للعمل كمنسق للوفد الذي اختاره التجمع للقاء وسيط الايقاد . وكان ذلك الوفد بقيادة الفريق عبد الرحمن سعيد الذي خلف الراحل فتحي أحمد علي كنائب لرئيس التجمع و أبلى بلاءً حسناً في الدفاع عن الحرية طوال قيادته للتجمع . تلك المهمة فشلت قبل ان تبدأ كما اوضحنا في المقال السابع. لهذا لم تكن هناك مدعاة لأي توافق جانبي بين حزب الأمة ، العضو في التجمع ، وبين الحركة حول مسار التفاوض ومآلاته .
    الخلاف ، في حقيقته ، بدأ عندما قرر حزب الأمة ، لاسباب أبداها ، ان يسلك التجمع طريق التفاوض مع نظام الانقاذ دون أي شروط مسبقة . هذا أمر رفضه التجمع ولم يقبله رئيس حزب الأمة ، بل ذهب بعده لوصف التجمع بـ '' القط الذي لا يحسن اصطياد الفيران '' . تبعاً لذلك ، قرر حزب الأمة ان يتجه منفرداً للتفاوض مع نظام الانقاذ في جيبوتي ، ومن ثَمَ كان الاتفاق على '' نداء الوطن '' . وتعبير النداء أُريد به ان يكون الاتفاق دعوة للتجمع ، بما فيه الحركة ، للانضمام الى ركب السلام . وقد بلغت ثقة السيد فيما أنجز خلال يوم واحد في جيبوتي حداً كبيراً دفعه للقول ، قبل عودته الى الخرطوم ، إنه حقق باتفاقه ذلك تسعين بالمائة من مطالب التجمع ، ثم أضاف: '' ذهبنا لنصطاد أرنباً فاصطدنا فيلاً '' .
    تلك كانت هى بداية النزاع ، خاصة من بعد ان أخذ رئيس حزب الأمة يصف الحركة ورئيسها بـ '' اصحاب الاجندات الحربية '' ، وكأن تلك '' الاجندة الحربية '' لم تكن مطروحة عندما كان حزب الأمة هو المعاضد الاول للحركة الشعبية في الجبهة الشرقية . لم تسأل الحركة السيد الصادق : اين الفيل يا خليل ؟ قبل انتهائه لوصف ما قنصه في جيبوتي بـ '' الفطيسة '' ، والفطيس من الحيوان هو ما يموت منها دون علة ظاهرة . صحابه في التجمع ، ومنهم الحركة ، كانوا يدركون مواطن العلل في الفيل الموهوم.


    الفيل والبازي الأشهب
    بموقفه ذلك ، وبصرف النظر عن دور حزب الأمة العسكري في المعارضة ، فقد السيد الصادق مكسباً كبيراً احرزه لنفسه ولحزبه عندما كان يقود المعارضة في الداخل تحت راية الجهاد المدني وفق النهج الغاندوي ، وبوصفه الحاكم الشرعي الذي انتزع منه الحكم اقتساراً . وكان الراحل وحزبه على رأس الذين اندفعوا للاشادة بمواقفه ودعمها في المحافل الاقليمية و الدولية . على أن كثيرين يخطئون فهم المدلول الحقيقي للمعارضة التي كان المهاتما غاندي يقودها في الهند ضد الامبراطورية ، إذ يصفونها مرة بالمعارضة السلبية ، وأخرى بالعصيان أو الجهاد المدني . بيد أن الـ ''اساتيا قراها'' ( الاسم الذي كان يطلق على الجهاد الغاندوي ) لا تعني هذا ولا ذاك ، وانما تعني المغالبة الروحية ، أي هزيمة الخصم أخلاقياً . ومنذ اللحظة التي يضفي فيها السياسي شرعية على المُتَغلب الذي يحاربه تنتفي المغالبة الروحية ، خاصة عندما يكون الثمن الذي تقاضاه لشرعنة حكم الغَلبَة ثمناً بخساً . وهل هناك ما هو أبخس من الفطيسة؟ السيد الصادق ، فيما نرجح ، يريد من الناس ان يقولوا سمعاً وطاعةً ان افضى برأي مثل قوله '' جئتكم بالفيل ''. كما يريد منهم ان افضى برأي نقيض بعد أشهر معدودات كقوله : '' الفيل فطيس '' ان يقولوا ايضاً ، سمعاً وطاعة ، وبامتنان فائق . الحركة والتجمع لم يكونا ممتنين البتة بذلك الكسب ، فكان الخلاف .

    رغم ما قاله السيد الصادق المهدي بأن لا خلاف مبدئي بينه وبين الراحل إلا أن بعضاً من اشاراته في التعليق على ورقة د. الواثق تكشف عن خلاف ، وهو خلاف مفتعل . في ذلك التعليق ثابر السيد الصادق على نسبة الراحل وحركته للماركسية ، وعمدة دعوته تلك هو الاشارات في مانفستو الحركة في عام 1983 للتحول الاشتراكي، أو الامبريالية . كما طفق آخرون ينبشون الوثائق ليستكشفوا كل اشارة وردت للاشتراكية في خطابات قرنق حتى يلقموا الواثق حجراً لأنه أدعى أن ليس للحركة ايديولوجية ، بل رؤية عملية لحل أزمة السودان . هؤلاء لا مُعتَبَر بهم عندنا ، ولهذا نتجه بالحديث للسيد المفكر ونقول إن الماركسية والاشتراكية ليستا تهمة يتبرأ منها الانسان ، كما ليستا وصَماً يعاب به. فالأولى منهج للتحليل ، والثانية مذهب في الاقتصاد ، وكلتاهما ليستا وظيفتين بيولوجيتين ، أو صفتين موروثتين . هما خيار سياسي . وأي متابع أمين لمسيرة الحركة يدرك جيداً أن البراجماتية هى الصفة الغالبة على تحليل قرنق للواقع لأنه ظل دوماً يتجاوب مع الواقع الذي يعيش فيه ، وذلك الذي يحيط به. فالايديولوجية عندما تستحوذ على الفكر تخدره وتحول بينه وبين النظر الى البدائل لأن أهل الايديولوجيات يفترضون دوماً أن لكل مشكلة حلاً في النظرية . وعلي أي ، فلو قال قائل اليوم ان بوريس يلستين ليس ديموقراطياً لأنه كان في عام 1990 أميناً للحزب الشيوعي في مدينة موسكو لرماه الناس بالهَبَل ، أي فقد القدرة على التمييز . أما الاشتراكية فأمرها أمر . كانت '' سعر سوق '' في دنيا السياسة ، بدءاً من الحزب الشيوعي السوفيتي ، وانتهاءً بالاتحاد الاشتراكي السوداني و الذي استمر ''إتحاداً اشتراكياً عظيماً'' حتى بعد الأسلمة . ولعلنا نحن ، ولا أحد غيرنا ، كان سيرمي الحركة بالغباوة ، لو تبنت تلك النظرية بعد سقوط آخر حصن فكري لها بسقوط الاتحاد السوفيتي . هذا لا يعني ، بالطبع ، الرضوخ لسياسات التحرير الاقتصادي الجائرة العمياء . ولعل نجاح نظام السوق الحر في الدول الغربية يعود الى قدرتها على تلطيف حدة الرأسمالية المتوحشة بتوفير الرفاه للطبقات الأدنى و الضمان الاجتماعي للجماعات المستضعفة مما قاد الى شيوع اسم الرأسمالية الاجتماعية في أدبيات السياسة والاقتصاد علي هذا المنهج الاقتصادي. كل ذلك ، في الأصل ، عراك في غير معترك ، بل هو محاولة لوضع الخصم في موقع الاصطياد ، ولكن هيهات . وقد كان من الممكن ان يصبح الحوار حول الأفكار مجدياً لو ابدى كل صاحب فكر رأيه كرأي لا كحكم قاطع لا يأتيه الباطل بين يديه ولا من خلفه ، فالآراء تقبل الدحض والتفنيد ، ولا تثبت الا بدلائل موضوعية ، أياً كان مقام الكاتب أو المحدث . ونذكر أنه عندما أصبح الملك تشارلس رئيساً للجمعية الملكية ( البريطانية ) والتي تضم النوابغ من علماء بريطانيا ، نهد واحد منهم يقول : '' كيف يمكن لنا ان نعترض على رأي الرئيس الحجة ، أي الملك . وعندما نقول الرجل حجة (authority) في العلم ، فكأننا نقول إن رأيه لا يُعلى عليه . من ذلك اليوم قررت الجمعية الملكية ان تتخذ شعاراً لها (nullius inverba) ، أي '' لا حكم بناءً على كلام رجل '' ، فالأحكام العلمية تُبنى فقط على الحقائق.

    يبقى سؤال ثم تعقيب . السؤال هو: ان كان فيما تقنصه السيد الصادق في جيبوتي خلال يوم واحد '' فيلاً '' جسيماً ، فلماذا لا يرى فيما اصطاده غيره من الصيادين في نايفاشا بعد عامين من الحوار بازياً أشهب لا يتساوى البتة مع الرخم ؟ وأما التعقيب فهو ان هذا البازي الأشهب يمثل فرصة أخيرة لبقاء السودان موحداً ، و الفرص بروق . الذي يغفل تلك الفرصة لن نرميه بادمان الفشل فحسب ، بل ايضاً بالحساسية تجاه النجاح (.(Addiction to Failure and Allergy to Success
                  

03-10-2007, 06:33 PM

محمد يسن علي بدر
<aمحمد يسن علي بدر
تاريخ التسجيل: 12-28-2005
مجموع المشاركات: 623

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. منصور خالد .. عامان من السلام : حساب الربح و الخسارة (Re: محمد يسن علي بدر)


    عامان من السلام : حساب الربح والخسارة (22)
    الوحدة الجاذبة: مسئولية من ؟ (أ)

    حوار الطرشان وتعسير الوفاق
    مغالطات وتخليط وتزيد أسهمت كلها بدرجة كبيرة، ليس فقط في جعل الحوار بين طرفي الاتفاقية ومعارضيها حوار طرشان ، بل عَسرت عملية تحقيق الوحدة الوطنية التي دعت لها الاتفاقية ، وقللت من حيز السماحة اللازمة للاصطلاح على ميثاق عمل وطني خلال الفترة الانتقالية عبر لقاء جامع . ولوكان هناك ما يشي بأن الحوار في ذلك اللقاء سيكون حواراً هادفاً لكنا اليوم في وضع أفضل . فاتفاقية السلام الشامل جهد بشري ، وككل جهد بشري هى قابلة للنقد والتقويم . تلك الاتفاقية ، كما قلنا ولانني أكرر ، تناولت الدستور والقوانين ، ونظام الحكم بتقاطعاته الافقية والعمودية ، والتمكين الاقتصادي للولايات وأدوات مراقبته وضبطه ، والتشكيل الدستوري للتنوع الثقافي بما في ذلك حقوق الجماعات الدينية المتنوعة . هذه القضايا ظلت تؤرق الحكم منذ الاستقلال ، وتعددت المحاولات لمعالجتها دون نجاح . وما كنا لنسأل عن اسباب الفشل بالأمس ، أو دواعي النجاح اليوم ، لولا التزيد من جانب بعض السياسيين ، أو الجهل من جانب بعض المعلقين.وعاب علينا نفر من كُتاب الانترنت وغيرهم رمينا للبعض بالجهل بالاتفاقية ، رغم انا لم نكن نقف في منبر وعظ ، أو نصدر أحكاماً معممة على البشر ، أو نسجل خطرات وقعت على البال . ما سجلناه من حقائق هو نتاج للقراءة المتمعنة للوثائق ، والفحص الدقيق لما أورده الناقدون حولها ، ثم إبانة فساد منطقه . وما أبديناه من رأي مهدنا له بكلمات مثل نزعم ، نحتسب ، نظن ، في تقديرنا ، وكلها كلمات تعبر عن وجهة نظر . فمن أراد أن يجادل حولها عليه أن يأتي بما يفندها بدليل أقوى وبرهان أنصع . كما أنا ، في اطار النقد والتحليل ، أشدنا في اكثر من مقال بصحف تناولت الاتفاقية بدراية ومسئولية ، وبسياسيين نقدوها نقداً موضوعياً رشيداً ، في ذات الوقت الذي اعترفوا فيه بما حققت من انجاز . الى جانب ذلك ، تناولنا بالتحليل تعليقات محددة على الاتفاقية جاءت من أناس في مواقع مختلفة سميناها وسميناهم باسمائهم ، ثم أبنا التناقض بين ما جاءوا به من رأي وبين نصوص الاتفاقية التي لاخفاء فيها . وبما ان الاتفاقية تمثل اعادة لصياغة للدولة السودانية ، فان الجهل البسيط ، أي عدم العلم بمفرداتها ، يصبح خطباً جللاً ، ناهيك عن الجهل المركب ، أي الاعتقاد حولها بما لا يطابق الواقع . ومن يتطاول على ذلك ، قمين بأن يُضرب بالمِقرَعة، أي العصا التي يجلد بها صبيان الكتاتيب ، وليس فقط بأن ينقذ . فهموم الوطن الكبري أخطر من أن تترك للكتاب العشوائيين . أما التزيد فهوفي حقيقته تجاوز لما يقبله الواقع ، وجفول عن مجابهة النفس بالحقيقة . ولعل اخطاءنا منذ الاستقلال تعود الى نفورنا عن القراءة الناقدة لواقعنا ، وعدولنا عن السمت الواضح في مسلكنا ، وشرودنا من الاعتراف بالخطأ أو القصور في تجاربنا. وفي قول للفيلسوف الالماني نيتشه : ''الاخطاء التاريخية تنجم دوماً عن العجز عن مجابهة النفس بالحقائق '' .
    ________________________________________
    نري أيضاً ، في تعقب بعض المعلقين المتعجلين لما كتبنا من مقال حتي هذه اللحظة ، تبرماً بالتفصيل الذي ذهبنا اليه حول الاتفاق ، أوالتدقيق في مواقف ناقديه وقادحيه . ولعلهم كانوا يتمنون علينا أن نسلك معاجيل الطرق ، أي اقصرها ، حتى نصل الى نتيجة تتوافق مع ما يرتأون . هؤلاء ، في تقديرنا ، يبحثون عن عُجالة يتزودون بها ، وليس ذلك من خطتنا . آخرون همهم ، فيما يلوح لنا ، هو استعجال رأي الكاتب في مخرج صدق لبلادنا من مأزقها الراهن . البحث عن ذلك المخرج هو غايتنا ، إلا أن العَجَلة في عظائم الأمور هي فُرصة العجزة . فعنوان هذه المقالات هو ''حساب الربح والخسارة'' في اتفاقية السلام الشامل، وذلك الحساب لا يتم الا بجرد لما أنجزنا ومالم ننجز . والجرد إحصاء دقيق ومراجعة متريثة . فالذين يتمنون ان نعجل الى رؤاهم ليرضوا يفرضون علينا غير ما عزمنا عليه .

    أما لبثنا عندما يحسبه البعض تاريخاً مثل مواقف القوى السياسية ، بله ، بعض القادة السياسيين والمؤثرين على الرأي العام ، من الاتفاقية ، فامر ذو ضرورة قصوى . ولعل من أكثر ما أمرض السياسة السودانية الفتور عن تقبل الحقيقة ، والازورار عن امتحان الآراء والمقالات . شعار الكثير من هؤلاء هو: ''قل كلمتك وأمشِ''. ونقول: ''يمشي وين ؟'' طق الحنك ، وبفصاحة مدهشة ، داء عضال ابتلينا به . ولن نحسن القيام على علاج ذلك الداء الا بامعان النظر في المقالات ، وامتحان الافكار والآراء. ان لم نفعل فستطل الروطروطيقا الفارغة تطغى على الخطاب السياسي ، وتتسيد المنابر.

    وعلى أي ، فمن من بين ما اطلعنا عليه ، ونحن نعكف على تسطير هذه المقالات ، مقالين لصحافيين ذوي فطانة . تجودنا في مقال لياسين حسن بشير قوله : '' اتفاقية السلام الشامل ، مهما سجلنا على هوامشها من ملاحظات ، ستظل هى من أهم انجازات الحركة الوطنية السياسية في تاريخ السودان الحديث . فبالاضافة الى انها اوقفت الحرب ، فقد تناولت بالتفصيل أهم قضايا السودان المؤجلة منذ فترة ما قبل الاستقلال . لذلك يعتبر الحرص على تطبيق نصوصها بالشكل الصحيح والسليم وفي الوقت المحدد هو أمر وطني له الاولوية القصوى . وتوقيع الاتفاقية بواسطة طرفين لا يقلل من اهميتها لأننا نعلم جيداً ان روح ونصوص الاتفاقية قد جسدت الرؤى والافكار والتطلعات التي سعت القوى الوطنية لتحقيقها منذ فجر الاستقلال '' ( السوداني 17 / 1/ 2007 ) . المقال الثاني للصحافي البريع فضل الله محمد ، الذي عننه '' حزب المتربصين بالسلام '' . قال فيه '' لماذا هذا التربص المتشائم بمسيرة تطبيق اتفاقية السلام الشامل؟ لماذا يتزايد يوماً بعد يوم ، عدد المتخصصين في اصطياد ثغرات التطبيق والذين يستغلون اختلافات التفسير لكهربة الساحة الوطنية وجر الموقعين على الاتفاقية لنقض غزلهم بيدهم '' ( الخرطوم 18/يناير 2007 ) . من قائمة هؤلاء المتربصين لم ينج من نقد فضل الله حتى بعض طرفي الاتفاق ممن لم يدركوا بعد أن بقاء السودان واستقراره أهم من المؤتمر الوطني والحركة الشعبية ( الخرطوم 24/1/2007 ) . وفي الحالتين كان فضل الله صادقاً.

    الحقيقة الناصعة والخبط في الظلام
    بعد كل ما سبق من تفصيل وتحليل للاتفاقية ، ثم كشف عن تهافت الدعاوى حولها ، أنجافي الصواب ، أو نرمي أحداً بالبهتان، إن قلنا إن الغيرة وحدها قد تكون هي الحائل بين بعض من أسماهم فضل الله بالمتربصين ، وبين ادراك الحقيقة الناصعة ، كان هؤلاء من معارضي الاتفاقية من خارج الحكم ، أو من داخله ؟ في حالات أخرى ، عجز عن إدراك الحقيقة الناصعة أناس لا يريدون سلاماً الا على أنقاض الانقاذ . ولوكنا من الحكائين لكتبنا لارضاء احلام هؤلاء أقصوصة عنوانها '' يوم سقوط الانقاذ '' . ولكنا ، لسوء حظهم ، لسنا من الحكائين ، وانما نحن باحثون نستقصي في أمر اتفاق هو، في جوهره ، الأجندة العملية الوحيدة لانهاء الشمولية ، وتحقيق التحول الديموقراطي ، وأهم من ذلك ، معالجة مشاكل السودان المو منذ الاستقلال . تلك المشاكل ، فيما نرى ، لا تحتل أي موقع في هموم اولئك الذين أوقعتهم القراءة الخاطئة للواقع في وهوم بواطل ، والا فليتناولوا في نقدهم للمقالات ، ولوفي جمل اعتراضية ، ما حققته الاتفاقية بالنسبة للامركزية الحكم ، وتمكين الولايات ادارياً ومالياً بعد محاولات عديدة بدأت بمقترحات المائدة المستديرة المجهضة (1965) وانتهت بالنظام الولائي الذي اوجدته الانقاذ وظل جهاز التحكم فيه في الخرطوم . هذا الي جانب الاعتراف بالتنوع الثقافي وتشكيله دستورياً ، ووضع اطار نموذجي لحل المشاكل الملتهبة في السودان : دارفور وشرق السودان نموذجاً . هذه الاتفاقية أيضاً هى قمة منظومة متكاملة من الاتفاقيات مع نظام الانقاذ وليس مع أي نظام غيره : حزب الأمة في جيبوتي ، التجمع الوطني في القاهرة ، حركة الشرق المسلحة في اسمرا ، وحركات دارفور المسلحة في ابوجا وطرابلس . فبأية قوة يريد أصحاب هذه الرؤى الكاذبة أن يدمروا نظام الانقاذ .

    حقاً ، عند قراءتنا لأسماء اولئك الواهمين لم نجد من بينهم واحداً تطوع للعمل في صفوف القوى التي كانت ، وما انفك بعضها، يحارب نظام الانقاذ ، كان ذلك في الشمال أوالجنوب أوالشرق أوالغرب ، ليسهم معها في اقتلاع ذلك النظام الذي ما انفكوا يذكرون الناس بجوره وطغيانه . أغلب هؤلاء المناضلين الارائكيين آثر في سنوات المغالبة الانكفاء ليعوس على نفسه أو عياله من مهنة امتهنها في عواصم العالم ، ولا ضير في ذلك . الضير يقع عندما يجعل هؤلاء من أنفسهم أبطالاً من منازلهم ، ويتزيدون بتلك البطولة الزائفة على من وهبوا عمرهم في المشرق والمغرب لتحقيق سلام عادل في بلادهم.

    كم كنا نتمنى لو أن أي واحد من هؤلاء أجلى على الناس مشروعه العملي لازالة '' النظام الجائر ''. بدلاً من القول : ''هذا النظام يجب أن يذهب قبل كل شئ'' . حقيقة الأمر ، أن اكثر ما يضطغن هؤلاء على الحركة هى أنها لم تقرر المضي في الحرب حتى آخر جندي من جنودها بالرغم من أنها لم تعرف لواحد من هؤلاء الابطال بزعمهم ، طوال سني الحرب ، اسهاماً في دعم جهودها . وقد آن الاوان لنقول لهؤلاء إن الاوطان لا تحرر بدم مستعار ، كما أن الرأي النصيح الذي نبديه لا يفنده سقط القول والتهتار ، والهتر ثروة سفهاء لم يحسن آباؤهم تأديبهم ، وهؤلاء لن يفتح الله صدورهم أبداً لدرك الحقيقة أو التسليم للحق.

    قلنا إن هؤلاء وغيرهم اعشت الأوهام ابصارهم عن رؤية الحقيقة الناصعة ، والحقيقة الناصعة هى ان اتفاقية السلام الشامل ، بصرف النظر عمن صاغها ، هى الجهد الوحيد المتكامل منذ الاستقلال لمعالجة كل القضايا التي أججت الحروب ، وقادت الى الانفجارات الاقليمية المتوالية ، ورمت بالسودانيين في مهامة سحيقة . وكأن الذين يتمنون لذلك الجهد أن ينهار لا يعنيهم في كثير أو قليل ما سيلحق ببلادهم من جراء ذلك الانهيار . أهي الغيرة ؟ ربما ، فالغيرة غَم'' يلحق بالانسان بسبب خير أو نجاح حُظي به غيره أو حرم منه ، وهي داء قديم . ومن الناس من حسد حتى الذين قذف الله بنور في قلوبهم وفضلهم على العالمين . ذلك كان هوحال بني هاشم في ظن سهيل بن عمرو. فعندما لزم رسول الله (صلعم) الفراش استبشر بذلك ابوسفيان بن حرب . قال له سهيل : '' والله اني لأعلم ان هذا الدين سيمتد امتداداً كالشمس من طلوعها الى غروبها ، وانت تعلم ما أعلم ، ولكنه حسد بني هاشم الجاثم على صدرك'' . الندم في هذه الحالات أجدى كثيراً من الغيرة والحسد
    اذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصداً
    ندمت على التقصير في زمن البذر
    ففي الندم تلهف لاستدراك ما فات.

    الوحدة القسرية
    في البدء نقول لئن ارتحلنا الى قرنق ، كما قال السيد الصادق ، فانا لم نفعل هذا لكيما ينفصل الجنوب عن الشمال ، وانما لنرسي دعائم الوحدة الصحيحة بين أجزاء القطر كلها، وليس فقط بين الجنوب والشمال ، وعلى أسس جديدة . ما نتغيأه ، اذن ، هو وحدة بين الشمال والجنوب ، وفي داخل الشمال نفسه ، بين الوسط والشرق والغرب حتى يصبح السودان وطناً يتسع للجميع ، ويرى كل سوداني وجهه فيه . وموضوع الوحدة بين الشمال والجنوب ، واستدامتها في بقية انحاء القطر ، ما كان ليصبح أمراً مستعصياً ، كما أن موضوع الانفصال ما كان ليصير مشكلة لولا سياساتنا المتخبطة وأحكامنا الجوائر . فالحروب التي كانت تدور رحاها على مدى نصف قرن ، حتى بعد خمسين عاماً من رحيل الاستعمار ، كانت تدور في أرض الجنوب ، إذ استقر في ذهننا السياسي منذ مذكرة مؤتمر الخريجين ان الجنوب ''العزيز'' جزء لا يتجزأ من السودان . لو قلنا يومذاك أن من حق الجنوب أن يذهب ، إن كانت تلك هي رغبة اهله ، فلانفصل عن الشمال كما انفصلت الباكستان عن الهند ، وسنغافورة عن ماليزيا ، ومالي عن الاتحاد المالي الذي كان يجمع بينها وبين السنغال . الثبات عند الوحدة بأي ثمن هو قرار شمالي ، كان له مؤازرون في الجنوب قليل عديدهم كما اثبتت الانتخابات النيابية عبر السنين.
    السياسة المتخبطة والأحكام الجوائر تبدت ، أكثر ما تبدت ، في الوعود التي ما وضعت الا لتنقض ، وفي العهود التي ما مهرت إلا لتمحى. ذلك تاريخ قلنا ، وقال عنه آخرون ، الكثير. ولو أوفينا بأي واحد من تلك الوعود ، اوالتزمنا بأي عهد من العهود ، لما كنا في الوضع الذي نحن عليه اليوم . ومنذ السبعينات ظللنا ندعولاقتراب جديد من قضية الوحدة عماده الاعتراف بخطأ السياسات التي كنا ننتهج تجاه الجنوب ، والاقرار بحقوق أهله المشروعة حتى انتهينا الى اتفاق اديس ابابا (1972) ، وهو واحد من آثار مايوالتي لم يجرؤ أحد على محوها حتى قيام نظام الانقاذ . وعلنا نضيف هنا ، أنه عند توقيع اتفاقية اديس ابابا (1972) ، والتي لم تحقق للجنوب عُشر ما حققته اتفاقية السلام الشامل ، كان هناك من المايويين من لم ترضه الاتفاقية فسعى للالتفاف على بنودها ، وتجفيف موارد التمويل اللازمة لإنفاذها . الا ان الرئيس نميري وضع كل ثقله خلفها وألح على تنفيذها بحذفارها. ولهذا حققت تلك الاتفاقية سلاماً دام عشر سنوات ، وما اندلعت الحرب من جديد إلا بسبب الإخلال بما نصت عليه الاتفاقية . وعلى كل ، فبمجئ نظام الانقاذ بلغ الاستقطاب الشمالي/الجنوبي أقصى مراحله بسبب تديين الحرب ، فتفجرت ضَروساً مُهلكة .

    وبصرف النظر عن الوعود والعهود لم يكن دأبنا في حروب الجنوب هوالعنف فقط ، بل ايضاً تأليب القبائل ضد بعضها ، كل إلبٍ منها ضد الآخر يُقَتل بعضهم بعضاً . ذلك كان هوالدرس الأول الذي حفظناه عن ونجت باشا ، مبتدع سياسة فرق تسد في السودان . بيد أن ونجت لم يكن ينتمي الى اي قبيل سوداني ، فقبيله ، في ظنه ، أمة تعلو على الأمم.

    كان ونجت ، في مراسه السياسي ، يلعب بالقوى الواحدة ضد الأخرى: المسيحيون في الجنوب ضد المسلمين في الشمال ، وزعماء الطوائف الدينية ضد الافندية ، والزعامات القبلية ضد الحركة الوطنية التي بزغت بعد ثورة 1924 ، وقيادات الطوائف الدينية ضد بعضها البعض ، حتى أصبحت سياسته هي حرب الجميع ضد الجميع . اما الونجتيون الجدد فقد حولوها الى تقتيل الجميع للجميع وعلى امتداد اغلب العهود: القبائل الاستوائية ضد القبائل النيلوية ، النيلويون ضد بعضهم البعض: النوير ضد الدينكا ، القبائل الرعوية الشمالية ضد رصفائهم في الجنوب . وبتلك العبقرية الشيطانية انتقلنا الى دارفور فحملنا الرُحل منهم على حرب اخوتهم المقيمين الذين تعايشوا معهم في أمن وأمان طوال القرون . هذا التاريخ الدموي الذي لم نتفوق فيه على ونجت باشا فحسب ، بل تفوقنا فيه على أنفسنا ، ينبغي أن لا يتيح لأي مسئول عنه أن ينام نومة هانئة في مخدعه ، كما ينبغي أن لا يغيب عن ذاكرة من يدعو لوحدة القطر ، ويصر عليها.

    نوازع الانفصال
    والآن ، وقد مَنَ الله علينا بوعي متأخر توصلنا عبره الى اتفاق استهللنا كتابه بالاعتراف بأخطاء الماضي ، وحققنا بذلك ما عجزنا عن تحقيقه بالعنافة ، فمن الحكمة أن نعض على ثمرة ذلك الوعي بالنواجذ ، وأن لا ننظر لحق تقرير المصير للجنوب وكأنه شَجَاً في الخلق ''عَسِراً مخرجه ما ينتزع'' . فتقرير المصير وليد طبيعي لخرق العهود والامعان في العنف طيلة نصف قرن من الزمان . ذلك تاريخ خلفناه وراء ظهورنا واتفقنا ، شمالاً وجنوباً ، على اعطاء الوحدة فرصة أخيرة ، نعم فرصة أخيرة . هل هناك ماسيدفع الجنوبيون للإنفصال ، رغم الأرضية المتينة التي أرسينا في اتفاقية السلام لكيما تكون الوحدة خياراً جاذباً ؟ إن كان الجواب نعم فمن حق الناس أن يعرفوا من أين تجئ المخاطر اليوم . لقد تواترت التخمينات حول نتائج تقرير المصير في الجنوب ، ولَما تنقضِ بعد نصف الفترة الانتقالية . وذهب أغلبها حتى من جانب بعض المشاركين في صنع الاتفاقية ، الى أن خيار الانفصال هوالأرجح . من ذلك قول الدكتور أمين حسن عمر لإحدى الصحف : '' إن الانفصال هو الخيار الأقرب بالنسبة للجنوب '' ( الصحافة 10/1/2007 ) . ونسأل ، ان كان الخَمن صحيحاً ، لماذا هو الأقرب ؟ في بدايات هذه المقالات تحدثنا ، ليس فقط عن مقومات الوحدة الجاذبة ، بل أيضاً عن ضرورة استبطان روح الاتفاقية . رغم ذلك مازال بعض من المعلقين يتحدث عمن هوالمسئول عن جعل الوحدة جاذبة أهوالشمال ؟ أم الجنوب ؟ أو كلاهما ؟ في الحالتين، ما الذي نعني بالشمال ؟ وما الذي نعني بالجنوب ؟ بلغة كتب المطالعة التي تعلمنا منها الكثير في مناهج الدراسة الابتدائية ، رد الله غربتها ، لا يمكن أن يكون المسئول في الجنوب هو منقو زمبيري في يامبيو بجنوب السودان ، أو طه القرشي في الجزيرة بشمال السودان . المسئول الأول هما طرفا الاتفاقية ، تليهما القوى السياسية الأخرى ، ثم مكيفو الرأي العام .

    لقد منحت الاتفاقية جنوب السودان ، كما أبنا ، سلطات لم تمنح له في أي زمان مضى ، ومكنته مالياً من أن يمارس تلك السلطات دون حاجة لدعم من المركز ، ووفرت له ضمانات عضوية مثل الجيش المستقل والحرية في التعاون الخارجي دون إخلال بالنظم القومية ، كما مكنته دستورياً من أن يلعب دوراً على الصعيد القومي بقدر لم يتح له من قبل . الى جانب ذلك وفرت الاتفاقية، مناخاً ديموقراطياً تتساوى فيه الحقوق لكل قوى السودان السياسية ، بما فيها القوى الجنوبية ، بصرف النظر عن فوارق العرق والدين والثقافة والاقليم ، وبالقدر الذي يمكنها من التباري لكسب ثقة الشعب عبر انتخابات حره. هذا الأخير ، يرمي بنا للحديث عن حقوق المواطنة التي فصلتها الاتفاقية وتبناها الدستور في وثيقة الحقوق . فما الذي يدعوالجنوبي للبقاء في وطن لا يوفر له حقوق المواطنة الكاملة على الوجه الذي جاءت به في الدستور الذي شارك في صوغه . عناصر الوحدة هذه لا تقبل الاصطفاء والانتقاء ، فبينها جميعاً رابطة عضوية .تتيح الاتفاقية أيضاً لأهل الجنوب، عند نهاية الفترة الانتقالية ، ممارسة حق تقرير المصير ليقرر اهله بمحض ارادتهم إما البقاء في الدولة السودانية التي حددت اتفاقية السلام معالمها ، أوالانسلاخ عنها إن عجزنا عن تحقيق جاذبية الوحدة وفق ما نص عليه الاتفاق . ولا نحسبن ان أي جنوبي رشيد سيختار الانفصال ان تحققت هذه العناصر . ذلك هوالفهم الذي انطلقت منه الحركة ، منذ التوقيع على بروتوكول ماشاكوس ، مؤكدة التزامها بالعمل من أجل الوحدة وفق تلك الأسس . وما فتئت تؤكد ذلك الموقف . آخر التأكيدات هو ما جاء في حديث رئيسها ، سلفا كير ميارديت ، في المؤتمر التنظيمي الاول لقطاع الشمال بالحركة . ففي ذلك الملتقى قال قائد الحركة : ''لقد حاربنا الانفصاليين في الجنوب ولما هزمناهم جاءوا الى الخرطوم فمدتهم بالسلاح والمال لمحاربتنا''. كما أشار الى الحملات المتتالية لتبغيض الجنوبيين لدى المواطن الشمالي والدعوة لطردهم من الخرطوم ، العاصمة القومية لبلادهم . لهذا يصبح أي تساؤل عن ما الذي تعنيه الحركة بالوحدة تسأولاً مشتبهاً أمره .

    الأضلاع الثلاثة للبرتوكول
    بروتوكول ماشاكوس مثلث ذو ثلاثة أضلاع : الضلع الأول هو اقرار حق الجنوب في حكم ذاته بسلطات واسعة ، وفي ظل دستور يفصل الدين عن الدولة وفق رغبة أهله . لذلك ، فان أية محاولة للانتقاص من الحقوق التي كفلتها الاتفاقية للجنوب ، أو تخذيل حكومته في محاولتها لممارسة السلطات التي منحتها له تلك الاتفاقية ، أوتوصيف ممارسة تلك السلطات التي أقرت دستورياً بأنه طلقة البداية في الانفصال ، مؤشرات توحي بالتملص من الاتفاق ، وتلبيس يعمق من عدم الثقة .

    الضلع الثاني هوجعل الوحدة خياراً جاذباً ، وبصفة خاصة لشعب جنوب السودان (الفقرة 551 من البروتوكول) . هذا أمر أوفيناه حقه من الشرح ، وان كان لنا ان نضيف شيئاً من أجل التوكيد ، فذلك هو إكمال مقتضيات التحول الديموقراطي ولما ستوفره من ضمانات لحقوق المواطنة على امتداد القطر . لا يدفعنا الى ذلك التوكيد الا الترخص الذي لمسناه في مقولات بعض المسئولين حول هذا الموضوع ، وكأن المراد من الاتفاقية هوايقاف الحرب في الجنوب حتى يستقل من يريد أن يستقل بالشمال ليمارس فيه ضلالاً قديماً.

    الضلع الثالث هو حق تقرير المصير ، وتقرير المصير آلية يختار بها مواطنو الجنوب إما الانفصال عن الشمال أوالبقاء فيه وفق نظام الحكم الذي أرسته الاتفاقية ، وليس خياراً . بيد أن هناك كثيراً من الجنوبيين ، بمن فيهم قلة من منسوبي الحركة ، تتحدث عن تقرير المصير وكأنه مرادف للإنفصال . وان كان من حق انفصاليي الجنوب الدعوة للانفصال كخيار أول باعتبار أن هذا هو خيارهم ومذهبهم ، الا ان التلويح بالانفصال من جانب أي منسوب للحركة ، ناهيك عن مسئول فيها ، فيه شية من خرق للاتفاق . لابد من الاعتراف أيضاً أن بين مسئولي الجنوب المنتمين للقوى السياسية الأخرى فئة لم تأبه يوماً بوحدة القطر ، وهؤلاء يتصرفون اليوم من موقع المسئولية وكأن السودان أصبح قطرين مستقلين ، بالرغم من التحذيرات المتتالية لهم من رئيس حكومته بأن السودان مازال دولة واحدة . ولعل الذين شهدوا الرجل عن مقربة يدركون حساسيته نحو هذا الأمر ، حتى فيما يتعلق بالرموز مثل حرصه على رفع العلم الوطني الي جانب علم الجنوب في المناسبات التي يشارك فيها . من فضول القول أيضاً توغل نفر من الجنوبيين في صحافة الخرطوم التي تصدر باللغة الانجليزية ممن لم يكونوا أبداً جزءاً من الحركة طوال سني نضالها في اصدار الاحكام السالبة على تأكيدها لخطها الوحدوي ، ليس فقط وفق ما قالت به الاتفاقية ، بل أيضاً ما تضمنته مواثيقها منذ نشأتها ، أو حول نشاط الحركة في الشمال بدعوى أن هذه المواقف تتعارض مع أشواق أهل الجنوب للانفصال . ورغم أنه لا تثريب على أي جنوبي انفصالي أن يدعولما يريد ، الا أن التوغل في شئون تنظيم سياسي ظلوا عنه بمبعدة في وقت كان فيه للكلام ثمن فضول غير مستحب.

    ا.... وللاتفاقية روح
    العوامل التي تقود الى تنامي النعرة الانفصالية في الجنوب ليست هي الخلافات بين طرفي الاتفاقية في تفسير نصوصها ، أو في الاسلوب الذي تم به تطبيق هذه النصوص ، فللاتفاقية آليات تعالج عبرها هذه الخلافات . الذي يقود الى ذلك امور لا تدخل في صميم الاتفاقية وأشراطها ، وانما تمس روحها وتقلل بذلك من عوامل الثقة بين مواطنى شقي القطر . مثال ذلك الممارسات التي يرى فيها الجنوبيون ، بوجه عام ، استصغاراً لهم ، بل اساءة اليهم ، في عاصمة السودان القومية . ولولم يكن الأمر يمس وتراً حساساً في قلوب ابناء وبنات الجنوب لما تحدث عنه سلفاكير في مؤتمر قطاع الشمال .

    وفي المقالات السابقة أوضحنا نماذج لذلك الاستصغار وتلك الاساءة . لهذا يصبح السؤال عَما يفعل الجنوبيون لجعل الوحدة جاذبة سؤالا مشتبهاً فيه عندما يجئ من جانب اولئك الذين ما فتئوا يلحقون الاذى بالاساءة بالجنوبيين القاطنين بالعاصمة ، أوالذين يغضون الطرف عنها وكأن أمرها لا يعنيهم في قليل أو كثير. على أن الغلواء العنصرية التي تصعدها بعض الصحف ضد الجنوبيين ، قادت الى ردود فعل جنوبية لا تقل عنها قبحاً . فلئن استهجنا ما تردده ''الانتباهة'' حول الجنوبيين ، فان استهجاننا لردود فعل بعض الجنوبيين علي تلك المقالات لن يكون اقل قساوة . مثال ذلك ما كتبه رئيس تحرير الستزن بانه '' لن يشجع حكومة الجنوب لان تعطي متراً واحداً من أرض الجنوب للمسلمين وأنه يتفق مع كل من يكره العرب'' (الوان 23/12/2006). هذا قول غليظ تكشر معه الفتنة بأنيابها . بيد أنا نعيد القول بأن الذي نتحدث عنه هو ظاهرة خرطومية ، كان ذلك في انماط الاذى أو في الاثارات الصحفية التي تلقح الفتنة. فلم نسمع البتة شيئاً عن توجس أو خيفة من جانب الشماليين تجاه أهل الجنوب الذين يقيمون بين ظهرانيهم في كردفان أوالجزيرة أوالبحر الأحمر أوالشمال القصي .

    من نماذج الاستصغار ايضاً الفقدان الكامل للحساسية السياسية تجاه الرموز الهامة التي يعظمها الجنوبيون ويوقرون ، ومن تلك الرموز ما ينبغي أن يكون محل تقدير وتوقير عند الشماليين أنفسهم ، خاصة في العاصمة القومية للبلاد . من ذلك ما أشار اليه السيد دينق ألور في ندوة «الرأي العام » بمناسبة مضي عامين على الاتفاقية (يناير / 2007) عن تقصير ولاية الخرطوم في تكريم الراحل قرنق ، بطل السلام ، والنائب الأول لرئيس الجمهورية . ولعله من المدهش أن تسعى ولاية الخرطوم لتشييد الطريق بين بور ، مسقط رأس قرنق ، وجوبا حيث مرقده الأبدي ، دون أن تفكر في اطلاق اسم الرجل الذي خرج الملايين من مواطنيها لاستقباله في الساحة الخضراء على واحد من شوارعها أو ميادينها.
                  

03-12-2007, 11:01 PM

Moneim Elhoweris
<aMoneim Elhoweris
تاريخ التسجيل: 06-29-2006
مجموع المشاركات: 429

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. منصور خالد .. عامان من السلام : حساب الربح و الخسارة (Re: محمد يسن علي بدر)


    Many thanks Mohammd Yassin. Really you made my day
                  

03-13-2007, 01:53 AM

Moneim Elhoweris
<aMoneim Elhoweris
تاريخ التسجيل: 06-29-2006
مجموع المشاركات: 429

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. منصور خالد .. عامان من السلام : حساب الربح و الخسارة (Re: Moneim Elhoweris)


    We miss articles 3,5,19 and 20
    who ever have them please paste
    thanks in advance
                  

03-18-2007, 12:32 PM

AnwarKing
<aAnwarKing
تاريخ التسجيل: 02-05-2003
مجموع المشاركات: 11481

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. منصور خالد .. عامان من السلام : حساب الربح و الخسارة (Re: محمد يسن علي بدر)

    Quote:
    We miss articles 3,5,19 and 20
    who ever have them please paste
    thanks in advance
                  

03-19-2007, 08:05 PM

Asma Abdel Halim
<aAsma Abdel Halim
تاريخ التسجيل: 05-01-2006
مجموع المشاركات: 1028

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. منصور خالد .. عامان من السلام : حساب الربح و الخسارة (Re: AnwarKing)

    This is No. 5 hope to see the rest
    asma

    عامان من السلام : حساب الربح والخسارة (5)
    اتفاقية السلام... صناعة خارجية
    بين من يُفترض، بل يلزم، تأييدهم للاتفاق، كما بين بعض من معارضيه، من يصرح حيناً، و يلمح احياناً، الى ان اتفاقية السلام الشامل صناعة خارجية. مثال ذلك قول الاستاذ قطبي المهدي وهو أسطون من أساطين حزب المؤتمر الوطني، أحد صانعي الاتفاقية، أن ''السلام لا تأتي به ورقة مساومات، واذا لم توجد قناعات حقيقة لا يتوفر السلام. الذين وقعوا هذه الاتفاقية هل كان قصدهم السلام، أم قصدهم مكاسب سياسية من قبل الضغوط الدولية على السودان ثم استخدام هذه المكاسب لمواصلة الحرب السياسية مع النظام. ومنذ البداية كانت تحفظاتنا هي هذه. نعرف نوايا الحكومة جيداً ونعرف نوايا الامريكان الذين كتبوا هذه الاتفاقية'' (الخرطوم 14/10/2006). فالاتفاقية عند القطب المؤتمري، اذن، صناعة امريكية، رؤى وصياغة. ما أظلم الرجل ! لا نقول هذا لأن الخارج لم يكن له دور، فللخارج دور كبير نقدره، بل نحرص على استمراره. فدوره هام لضمان الالتزام بنص الاتفاق حتى لا تلحق به خروقات كبيرة أو يستبيحه احد الطرفين. ودوره ضروري لاكمال بعض الاجراءات المترتبة على انفاذ الاتفاقية مثل نزع السلاح، وإزاحة الالغام، ودعم مشروعات الاغاثة خاصة للنازحين و اللاجئين، وتمويل اعادة البناء وفق مشروعات محددة اتفقت عليها اللجنة المشتركة للتقديرات، ثم تمويل مشروعات التنمية. و ما أكثر من يستنكفون، في أنفة زائفة وإباء مصطنع هذا ''التدخل الخارجي'' دون أن يقولوا للناس ما هي بدائلهم. ونتمنى ان لا تكون تلك البدائل مثل الوعود التي قطعت لتمويل القوات الافريقية في دارفور.

    فأكذوبة تلك التي توحي ان الخارج كان بعيداً عن صناعة السلام في السودان، وهى صناعة تعود الى الستينيات. ففي مؤتمر المائدة المستديرة، التي هى جهد سوداني خالص، لم نبطئ أو نخطئ في الاستعانة بمصر وغانا والجزائر ويوغندا، وكان للأخيرة دور ملحوظ، خاصة ماقام به يومذاك وزيرها فيليكس اوناما. وفي اتفاق اديس ابابا (1972) استعان النظام المايوي بامبراطور اثيوبيا الذي رعى الاتفاق، و بمجلس الكنائس العالمي ومجلس الكنائس الأفريقي اللذين لعبا دور الوسيط، وبمنظمة الوحدة الافريقية (مثلها مساعد الامين العام آنذاك، محمد سحنون) التي قامت بدور المراقب. وفي عهد حكومة الصادق الثانية توالى ''التدخل الاجنبي'' مرة للتوسط مع الحركة (اثيوبيا 1986 لترتيب لقاء قرنق، الصادق) واخرى للتمهيد وتسهيل اتفاق سلام (الميرغني، قرنق) في نوفمبر 1988، كما كان للجنرال اوباسانجو (وذلك قبل أن يصبح رئيساً للمرة الثانية) والولايات المتحدة عبر سفرائها المتعددين دور ملحوظ في صنع السلام، وقد أصدر اثنان منهما (دونالد بيترسون ونورمان اندرسون) كتابين رويا فيهما قصة تلك اللقاءات. ذلك، الى جانب الدور الذي لعبته الامم المتحدة في توفير وتسهيل الاشراف على المعونات الانسانية (برنامج شريان الحياة) طيلة سنى الحرب. وفي عهد الانقاذ توالى الوسطاء من دول الجوار مثل الرئيس موي منذ عام 1989، ومن الدول الافريقية الاخرى (مانديلا، اوباسانجو)، ومن الولايات المتحدة (الرئيس كارتر وهيرمان كوهين مساعد وزير الخارجية) وجاء من بعد دور الدول العربية وكان لبعضها مبادرات (مبادرة الشيخ زايد رحمة الله والمبادرة المصرية /الليبية والمبادرة الاريترية).

    الحديث عن التدخل الخارجي بلغ حد التسطيح حينما افضى سياسي معارض بالقول لأحد الصحف ''ان كل الاتفاقيات صناعة اجنبية والشاهد على ذلك الجنرال سيمبويا'' (الدكتور كدودة، الحياة 10/11/2006)، هكذا ببساطة، وكأن المتحدث يلقم المتسائلين حجراً. ثم ماله سيمبويا؟ أوليس هو الرجل الذي ابتعث التجمع الوطني المعارض وفداً ليلتقي نائبه السفير امبويا في نيروبي بقيادة نائب رئيس التجمع عبدالرحمن سعيد حتى يتمكن التجمع من المشاركة في مفاوضات الايقاد؟ تلك رغبة حال دونها ابتعاث نظام الانقاذ لواحد من رجالاته (قطبي المهدي) ليقول لامبويا ''ان دخل التجمع من الباب خرجنا من النافذة''. ثم أو لم نرتحل جميعاً لنناهض النظام من اسمرا وهى ليست، كما تشير خرائط الجغرافيا، واحدة من مدن السودان، ونعقد الاجتماعات في كمبالا واديس ابابا، ونيروبي والمدائن الاربع التي سميناها هى حواضر ''الدول الاجنبية'' التي لعبت دوراً في تحقيق اتفاق نايفاشا. ثم أولم نكن ننتظر بتلهف في القاهرة لقاء ''الخواجة'' جاك دانفورث الامريكي و''الخواجة'' آلان قولتي البريطاني، والسيدة هيلدا جونسون النرويجية، والايطالي الراحل السناتور سيري، واربعتهم هم الرقباء في مفاوضات ماشاكوس ونايفاشا. ثم أولم يكن شيخ المعارضين، كما هو شيخ المحدثين، عن التدخل الأجنبي يهرع بعد كل لقاء بأي من هؤلاء، لعقد ندوة يفضي فيها الى الناس باسرار لقائه، وهو بذلك غابط اشد الغبطة. الحديث عن الحل الأجنبي كِبر لا معنى له، فالسودان لم يعد هذا الوطن البكر والدرة العذراء. تلك الدرة ثقبت منذ زمان. ولا يعبر هذا الكبر، بل الاستكبار، الا عن عياء في الحجة. فان كان للناس ما يقولون حول الاتفاق، وهناك الكثير الذي ينبغي ان يقال عن انفاذه وتجويده خلال الأطر القائمة، فليقولوه. فعلى مدى عقود من الزمان ظللنا نقتل بعضنا البعض ولم ينبغ من بيننا حجاز، اي الشخص الذي يفصل بين المتخاصمين بالحق، و قول له ''حَجّاز''. فان انبرى حاجز لفك الاشتباك فيما بيننا فهذا كرم منه. وان اقبل علينا آخر دعوناه لعوننا على انهاء النزاع، فهذا جهد يستوجب الشكر. ولئن يذهب بعض المعارضين الذين ما تركوا باباً في الخارج الا وطرقوه، ولا زعيماً أجنبياً الا واستعصموا به، ولا وكالة دولية أو اقليمية الا واستنجدوا بها، أويذهب ممن ينبغي تأييدهم للاتفاق، الرجل الذي حمل نفسه، دون غيره، الى ''التدخل الاجنبي'' في عقر داره ليصد ابواب تلك الدار على غيره حتى يستأثر وحده بما فيه، لئن يذهب كل هؤلاء الى تهجين السلام بدعوى انه صناعة خارجية، فهذا تصاغر لا يليق.

    * * * *

    نقعد، نقوم على كيفنا

    ومن العجب العجاب زعم كثير منا بغير يقين ان السودان نسيج وحده. لسنا أقل من هؤلاء حباً لبلادنا واعجاباً بحسن شمائل اهله. ولكن ينبغي أيضاً ان نعرف قدر نفسنا، فالله لا يرحم من لا يعرف قدر نفسه. فنحن لسنا افضل حالاً من جنوب افريقيا التي ما كان لها ان تخرج من مأزقها دون عون ووساطات خارجية. ولسنا افضل حالاً من بريطانيا العظمى التي استنجدت بالرئيس كلينتون والسيناتور ميتشل لوضع اطار لحل المشكل الايرلندي. ولسنا افضل من اهل لبنان الذين استنجدوا بآل سعود ليخرجوهم من دوامة الحرب، فكان اتفاق الطائف. ولسنا أفضل من الفلسطينيين أصحاب ''القضية'' الذين هرعوا الى مدريد تحت رعاية الرئيس بوش الأب، والى واشنطن تحت رعاية الرئيس كلينتون ليبحثوا عن الحلول لقضاياهم. فلماذا نظن اننا نسيج وحدنا؟ ومما يزيد في العجب ان لبعض قيادات السودان وبعض صحافييه الذين يستكبرون التدخل الاجنبي المزعوم في شئون السودان، براعة لا حد لها في التوغل في شئون الآخرين، والمباهاة بانجازاتهم فيه. فما زلنا نباهي حتى اليوم في افلاحنا في التوفيق بين الراحلين عبد الناصر والفيصل (مؤتمر اللاءات الثلاثة العام 1967)، ونوالي الحديث في تفاخر عن دورنا في دعم الحركات الاريترية. ويستذكر آخرون سعى السيد الصادق المهدي ابان حكومته الأخيرة للتوفيق بين الاتراك واليونانيين القبارصة، وبين العرب وايران الخميني. وما فتئنا نتوسط بين سوريا ولبنان، وبين الطوائف المتحاربة في العراق ولبنان وتشيد بذلك نفس الأصوات والأقلام التي تلهج بالنقد ضد ''التدخل الاجنبي''.

    مبلغ الظن أننا تماماً كما وصفنا به الشاعر الشعبي، و لعله عكير الدامر : ''نحن اولاد بلد نقعد نقوم على كيفنا. لا يا سادة، بالقطع، العالم ليس على كيفنا. هذه لغة تصلح للذين تبدأ الرجولية عندهم وتنتهي بالبطان، ولعلها تعود الى قولهم بَطَنَ الرجل أي ضرب بطنه، ولا تكون البطانة عندنا الا في الظهر. نعم، ان جاز لهؤلاء ان '' يقوموا ويقعدوا على كيفهم ''، فمن عمه البصيرة ان يتظنى بذلك من ينبغي عليه ان يعرف ان القوة اليوم هى الوزن الاقتصادي الثقيل، وهى الموارد الطبيعية الضخمة المستغلة لا الكامنة، وهى الترجيح في موازين التجارة واسواق الاموال، وهى المناعة العسكرية، وهى التحكم في مؤسسات صنع القرار الدولية، السياسي منها والاقتصادي، هي السيطرة على السموات التي نعيش تحتها حتى كوكب المشترى، ويطلون علينا منها، إنساً كانوا أو شواطين مَرَدة، مرتين كل ساعة: ''انه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم''. من حقنا ان نستنكر استغلال بعض الدول، بل واحدة منها، لهذه المُكنات لتعيث فساداً في الارض وننسبها للشياطين. ولكن من واجبنا ان لا نتجاهلها عند صنع القرار في بلادنا. من يفعل ذلك يهلك، او ينتهى بنفسه الى حرج وضيق، أو يهلك عارياً جوعاناً في الصقيع كما هلك الاعرابي. قيل لاعرابي يمشي في شمل مرقع في يوم شاتٍ، أما تجد البرد يا أخ العرب؟ قال : ''امشي الخيزلى ويكفيني حسبي''، و الخيزلى مشية فيها تثاقل.

    أشد ما يحزن المرء في الحديث التالف عن الحل الاجنبي، أو كتابة الأمريكان للاتفاقية، الانكار الظالم للدور السوداني في صنع الاتفاق، والاجحاف بدور رجال اسهموا اسهاماً كبيراً في صوغه. الاتفاق صنعه جنود مجهولون وجنود ليسوا بالمجهولين من الطرفين، من بينهم ذوو القدرات الضخمة في التفاوض والحوار، وفي الانشاء والصياغة، و في القانون والسياسة والاقتصاد. أغلب هؤلاء استأنوا عند الزحام فلم يعد الناس يرونهم الا لماماً. ومنهم من هاجر في طلب العلم استدراكاً لما فاته بسبب الحرب، واخذ البعض ينسج حول هجرته الاقاويل، ومنهم من استعصم بمكتبه الخاص. ولكني لن اضيع هذه الفرصة لاجلي على الناس اسماء الجنود المجهولين الذين أثروا الاتفاق، في جوانبه الاقتصادية، بالكثير المفيد، لا لسبب الا لأن السيد الصادق المهدي، في نقده للاتفاقية، نعى على بروتوكول اقتسام الثروة ''قلة الدراسة والتحضير''. نشير الى دور الدكتور علي عبدالقادر علي والدكتور ابراهيم البدوي، و هما من انجب اقتصاديي السودان، جئ بهم لتقويم دراسات عديدة قام بها البنك الدولي وصندوق النقد وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية. كما نشير أيضاً لما أسهم به لاثراء دراسات الحركة الشعبية حول ادارة الموارد واعادة تأهيل الكوادر مثل الدكتور عبد الله حمدوك والدكتور راشد حسن اللذين وفدا علينا مع فريق مقتدر من جنوب أفريقيا. الى جانب هذين الاقتصاديين هؤلاء كان هناك جنود مجهولون حقاً لا يذكرهم الذاكرون: الدكتور لوكا بيونق، الدكتور لوال اشويك، والاستاذ الفاتح علي صديق. هذا هو مدى ''قلة الدراسة والتحضير''.

    * * * *

    الاستئثار بالحكم

    الى جانب الثنائية والتدخل الخارجي عاب الناقدون على طرفي الاتفاقية، استئثارهما بالحكم وفق نسب قرراها لنفسيهما في الشمال والجنوب، و شَهَروا بذلك في نقدهم. في هذا النقد، ان جاء من الجاهلين بأمر الاتفاقية والدستور، اشتباه وتخليط، علماً بأن الاتفاقية والدستور قد نُشرا على الملأ، وان جاء ممن قرأها ووعيها فهو تدليس. فالاتفاق يتحدث عن مرحلتين من تاريخ بدء انفاذه، المرحلة الاولى هي فترة السنوات الثلاث الاولى التي تقتضي طبيعة المهام والتدابير المنبثقة عنها امساك الطرفين بزمام الأمر، والمرحلة الثانية هى التي تعقب الانتخابات العامة ويقرر فيها الشعب بِحُرِ ارادته من يحكمه. لكل واحدة من الفترتين ترتيبات تتعلق بهيكل الحكم، و لهذا اورد الدستور في كل باب من ابوابه الرئيسة فصلين يتناولان وضعين مختلفين، فصل منها يتعلق بالاوضاع الطبيعية بالنسبة للسلطة التنفيذية، والسلطة التشريعية، وهى الاوضاع التي ستنجم عن الانتخابات العامة. وفصل آخر يتضمن احكاماً انتقالية تعالج الاوضاع الراهنة. فالوضع الطبيعي حول الرئاسة، مثلاً، يحدده الفصل الثاني من الباب الثالث من الدستور (المواد 51 - 64): تكوين مؤسسة الرئاسة من رئيس ونائبين، انتخاب الرئيس انتخاباً مباشراً، اجل الولاية، اسس تعيين نائبي الرئيس. في حين ينص الفصل الثالث في مواده 65 - 69 على الاحكام الانتقالية التي تتناول الاوضاع غير الطبيعية التي افرزتها اتفاقية السلام الشامل: شرعنة وضع الرئيس الحالي بموجب الدستور الجديد (دستور جمهورية السودان الانتقالي لسنة 2005)، اعتماد رئيس الحركة الشعبية أو من يخلفه كنائب اول للرئيس، اتخاذ المجلس الرئاسي لقراراته بتوافق الآراء.كما افرد الدستور فصلاً خاصاً للجهاز التنفيذي (الحكومة) لا ينطبق بطبيعته الا على الفترة ''غير الطبيعية'' هو الفصل الخامس. ذلك الفصل ينص على قيام حكومة وحدة وطنية قبل الانتخابات ويحدد واجباتها، كما يسمي ويحدد الحقائب الوزارية في تلك الحكومة في جدول ملحق باتفاقية السلام الشامل وكيفية توزيع الحقائب. يصدق هذا ايضاً على السلطة التشريعية اذ ابان الدستور في الفصل الاول من الباب الرابع اسس تكوين وانتخاب اعضائها انتخاباً حراً مباشراً (في حالة المجلس الوطني)، وانتخاباً حراً غير مباشر (في حالة مجلس الولايات الذي تنتخب الممثلين فيه المجالس التشريعية للولايات). ولا يحدد الدستور عدداً لاعضاء المجلس الوطني بل يترك ذلك للهيئة القومية للانتخابات لتقرره وفق المعايير المتعارفة مثل عدد السكان. بيد ان الباب الرابع يتناول في فصله الثاني الاحكام الانتقالية المتعلقة بالمجلس الراهن، فالى حين اجراء الانتخابات قضى الدستور في ذلك الفصل بتكوين مجلس يضم (450) عضواً معيناً من قبل الرئاسة ووزعت مقاعده وفق النسب المتفق عليها في الاتفاقية. ويعني هذا أن الترهل الذي يشهده المجلس الوطني الحالي وحكومة الوحدة الوطنية هو أمر اقتضته ضرورات الحكم الانتقالي ذي القاعدة الواسعة، ونتمنى أن لا يجد فيه الذين سيضعون قانون الانتخاب مندوحة للابقاء عليه (من ناحية الكم)، أو الابقاء على الشكل الحالي المترهل لمجلس الوزراء، خاصة في ظل اللامركزية التي نقلت أغلب سلطات المركز الى الولايات. وعلى كل، لا ينبغي ان تفاجئ النصوص الانتقالية احداً. هل ضار الطرفان القوى السياسة الاخرى بتلك القسمة؟ الجواب نعم، و''تلك اذاً قسمة ضيزى''. و هل هناك مبرر؟ الجواب نعم، وعلنا نعيد القارئ للاسباب التي أوردناها حول الظروف التي تم فيها الاتفاق، ونضيف الى ذلك الشرائط المطلوب توافرها لتنفيذه.

    الطرفان لم يستأثرا بالحكم في الفترة الاولى لأنهما خيار من خيار، وليس فقط لأن موازين القوة في اللحظة الراهنة ترجح بهما، و انما ايضاً لان القوة التي تحدث التغيير تحرص دوماً على الامساك بمفاتيح التغيير ريثما تُرسي قواعده. ان اكبر المهام التي يجابهها النظام الذي تولد عن الاتفاقية هى تنفيذ الاجراءات الامنية وسنتحدث عن امرها في مقال لاحق نتناول فيه العثرات التي مرت و تمر بها، والتهويش الذي طغى على تناول البعض لها في الصحافة. اياً كان الامر، فلا سبيل لارساء قواعد النظام الذي انشأته اتفاقية السلام الشامل الا بتنفيذ تلك الاجراءات من جانب الطرفين. فالحركة الشعبية، مثلاً، هى التي تسيطر على الجيش الشعبي في الجنوب وامتدادته في شرق السودان وجبال النوبة والنيل الازرق. والحكومة القائمة هى التي تسيطر على الجيش واجهزة الامن والشرطة والدفاع الشعبي وما يسمى بالقوات الصديقة عبر السودان، بما في ذلك جنوبه. قدرة المسيطرين على هذه القوات التي ظلت تخوض حرباً ضروساً ضد بعضها البعض هو وحده الكفيل بانهاء الحرب وازالة عقابيلها، أي دواهيها. وان لم يكن هناك سلام، فلن يكون استقرار أو ديموقراطية أو تنمية.

    * * * *

    سيطرة قوى التغيير، أو القوى التي حسبت انها صانعة التغيير، ظلت هى دأب تلك القوى في كل الفترات الانتقالية التي مر بها السودان. فعقب انتفاضة اكتوبر 1964 آلت مقاليد الامور لجبهة الهيئات ممثلة في النقابات العمالية والمهنية مع وجود رمزي للاحزاب (محمد احمد المحجوب عن حزب الامة، مبارك زروق عن الحزب الوطني الاتحادي، احمد سليمان عن الحزب الشيوعي، محمد صالح عمر عن الاخوان المسلمين). عن تلك الحكومة. أُقصِى، لا بارادة الشعب، بل ارادة القوى المهيمنة على الامور يومذاك، حزب الشعب الديموقراطي لموالاة كباره لنظام عبود. و عقب انتفاضة ابريل 1986 انتهى الحكم الى الجيش والتجمع النقابي، دون وجود رمزي او غير رمزي للاحزاب التي عكفت على اعادة تنظيم صفوفها تمهيداً للانتخابات العامة التي حُرِمت منها منذ 25 مايو .1969 وعندما وضع التجمع الوطني الديموقراطي برامجه المرحلية للحكم استقر رأيه على اقتسام السلطة في الفترة الانتقالية التي تسبق الانتخابات بين القوى السياسية والاجتماعية (النقابات) المكونة له والعزل الكامل للقوى الممثلة في حكم الانقاذ، لا سيما وقيام نظام التجمع نفسه كان رهيناً بـ ''اقتلاع'' ذلك الحكم من الجذور. ونقطع بأن نزاعاً كبيراً كان سيقع ان تم التحول على الوجه الذي كان التجمع ينشده. فموضوع الاتفاق على الانصبة بعد ''اقتلاع'' نظام الانقاذ أثاره قبل ''الاقتلاع'' السيد مبارك المهدي في اجتماع للتجمع باديس ابابا ابتناءً على نظرية ''الاوزان''. انبرى له في ذلك الاجتماع رئيس وفد الحركة الشعبية القائد سلفاكير يقول: ''عندنا مثل يقول قُبال الشكلة في قسمة لحم القرنتية نقتل القرنتية الأول''. و لم يترك ايليجا ماجوك، نائب محافظ بنك السودان حالياً، سلفا يكمل حديثه، بل اندفع هو الآخر يقول: ''نحن لم نشارك في البرلمانات السابقة ولهذا فالميزان الوحيد الذي نقيس به احجامنا السياسية هو الجهد الذي يجمعنا الآن، العمل لاقتلاع النظام. لذلك نطالب بنصف لحم القرنتية''. ذلك الجدل قاد الى انفضاض الاجتماع، ولم يعد للانعقاد الا بعد رسالة برقية بعث بها الراحل جون قرنق من جنوب السودان يقول فيها ''دعوا الحديث عن الاوزان والنسب وانصرفوا الى المهام العاجلة التي امامكم. ما امامكم هو استرداد الفضاء السياسي الذي ستقيمون فيه الحكم الذي ستوزعونه بينكم. تذكروا أن ذلك الفضاء يسيطر عليه اليوم نظام الجبهة القومية الاسلامية''. اروي هذه الوقائع لابين كيف كان بعض المعارضين في ظل الحرب، وما زال بعضهم في ظل السلام، مهموماً بأمر واحد، الصراع على السلطة، أو بالأحرى على مقاعد الحكم، حتى وان كان الحكم لعامين أو ثلاثة، كما هو الآن.

    من بين السوء الذي اخذه على الاتفاق نفر من المعارضين ان اتفاقاً كهذا كان لا بد من عرضه على استفتاء شعبي. وفي ظروف طبيعية فان الاقرار الشعبي لأي اتفاق يلحق تعديلاً جذرياً بكيان الدولة، واي قانون اساس يتبعه، امر واجب، وليس فقط مستحباً. لو كان السودان هو سويسرا لما احتاج احد للتساؤل، ولا كانت لنا مندوحة للرد. فاهل سويسرا يجرون الاستفتاء بصورة دورية على أي أمر ذي شأن. السؤال الذي يَرِدُ بداهة على الخاطر هو من الذي سيجري الاستفتاء؟ أهو الحكومة القائمة التي يرفضها الطرف الآخر المفاوض؟ ام سلطة اجنبية دون ان يثير احد، مرة اخرى، موضوع ''التدخل الاجنبي'' في شئون بلادنا؟ ومن الذي يستفتى في وطن مزقت الحروب اوصاله رأسياً وعمودياً: في الغابات، والمنافي، والملاجئ؟ هذا من الناحية العملية، أما من الناحية الموضوعية نقول إن الدعوة محاولة لاستيلاد تجربة لم يعرفها السودان من قبل، وعلى مر العهود الديموقراطية فيه. فان كانت الاتفاقيات لا تكسب مشروعيتها الا بالاستفتاء الشعبي فان اول القصيدة في تاريخنا كفر. فالاتفاق الانجليزي المصري الذي وضع السودان على عتبات الحكم الذاتي نص على منح السودان حق تقرير المصير: الخيار بين الوحدة مع مصر و الاستقلال. ذلك النص أُلغى بقرار البرلمان الذي لم يُنتخب الا للتمهيد لاجراء تقرير المصير. ففي اللحظة التي اعلن فيها البرلمان الاستقلال، حُرم الشعب من تقرير مصيره، رغم ايماننا بصحة القرار من الناحية السياسية. ودون ان نعود الى الختل الذي صحب ذلك القرار الجماعي بشأن وعد الجنوبيين بالنظر في أمر الفيدرالية، فذلك امر اوفيناه حقه فيما كتبنا، نقول إن القضية التي امامنا هى الزعم ان آلية الاستفتاء هى الوسيلة الوحيدة لاضفاء الشرعية على الدساتير والانظمة. نضيف ان دستور اكتوبر 1965 (تعديل دستور 1956) لم يقر باستفتاء، وان دستور 1985 لم يقر باستفتاء. المفارقة الكبرى، هى ان الدستورين الوحيدين اللذين اقرا باستفتاء هما دستور 1973 (في عهد مايو) ودستور 1998 (في عهد الانقاذ)، أي في ظل نظامين شموليين، مهما كان الرأي حول طبيعة النظامين وشرعيتهما عند معارضيهما، وبالتالي شرعية ما صدر عنهما من قرارات، فنحن هنا لسنا بصدد الحديث عن شرعية الانظمة وانما عن الآلية التي يلهج البعض بالحديث عنها، دون ان يمارسها عندما كان في الموقع الذي كان في مقدوره تطبيق ما يدعو اليه اليوم. هذا هو ما يسميه اخوتنا العسكر '' البيان بالعمل
                  

03-20-2007, 03:35 PM

AnwarKing
<aAnwarKing
تاريخ التسجيل: 02-05-2003
مجموع المشاركات: 11481

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. منصور خالد .. عامان من السلام : حساب الربح و الخسارة (Re: Asma Abdel Halim)

    Thanks dear Asma for your efforts...

    Quote:
    We miss articles 3,19 and 20
    who ever have them please paste
    thanks in advance


    Anwar
                  

03-27-2007, 10:14 AM

محمد يسن علي بدر
<aمحمد يسن علي بدر
تاريخ التسجيل: 12-28-2005
مجموع المشاركات: 623

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. منصور خالد .. عامان من السلام : حساب الربح و الخسارة (Re: محمد يسن علي بدر)


    عامان من السلام : حساب الربح و الخسارة(22)
    الوحدة الجاذبة: مسئولية من ؟ (ب)
    ________________________________________


    خلال عكوفنا على كتابة هذه المقالات ، تابعنا حواراً طويلاً موضوعه ''اتفاقية السلام بعد عامين'' في ندوة رعتها هذه الصحيفة . الحوار كان ثراً مفيداً ، كما كان ساخناً بسبب مداخلات الاساتذة الدرديري محمد أحمد ، ياسر عرمان ، دينق ألور . ومن بين ما شَدَنا الى ذلك الحوار حديث عن دور النائب الأول لرئيس الجمهورية في إنفاذ اتفاقية السلام . فهناك من كان يقول إن التعطيل في انفاذ الاتفاقية يُعزى ، في جانب منه ، الى غيابه المتكرر عن الخرطوم (الدرديري محمد أحمد) ، وهو زعم ثابر عليه قائله في بعض تصريحاته الصحفية (الأيام 21-22/1/2007 ) . وآخر يقول إن النائب الأول لا يجيء الى الخرطوم للتسكع وانما لأداء مهام محددة لا تتوافر مقومات أدائها أو الجدية في التعاطي معها (دينق ألور في ندوة الرأي العام) . تحركات النائب الأول لا ينبغي أن تكون موضوع جدل في الصحف ، فالرجل سيد قراره . لذلك ، فان إثارة الموضوع من جانب من أثاره في البدء أمر غير لائق. مع ذلك ، يلزم أن يكون لنا قول بعد طرح الأمر على الكافة وكأنه السبب الرئيس لكل الأدواء التي لحقت بتنفيذ الاتفاقية . نفعل هذا رغم أن الحدث قد مضى عليه زمان إذ ثمة ترابط عضوي بين ما صوره البعض كموقف للنائب الأول تجاه الخرطوم ، قصبة البلاد ، وبين الممارسات غير الصائبة تجاه الاتفاقية التي ما انفك بعضها يتكرر . ولربما تكون قد تولدت عن توالي هذه الممارسات حالة ذهنية عند النائب الأول لا يستهين بها إلا الهازلون يستلزم الجد .
    أول قولنا هو أن النائب الأول هو صاحب ضربة البداية في تنفيذ
    الاتفاقية غداة إقرار الدستور و اقامة الهياكل الدستورية العليا . وكان ذلك بتكوين حكومة الوحدة الوطنية التي عهد لها الدستور مهمة انفاذ الاتفاقية . في سبيل التعجيل بقيام تلك الحكومة كان من رأي النائب الاول انهاء الخلاف حول الحقائب الوزارية . وعلي خلاف ما كانت تراه الاغلبية داخل الحركة ، حمل رئيس الحركة حزبه معه للتنازل عن وزارة الطاقة حتى تقوم الحكومة التي ستتولى تنفيذ الاتفاقية. فحرص الرجل ، إذن ، على التطبيق العاجل والسليم للاتفاقية ، وعزمه عليه ، أمر لا يتشكك فيه أي مراقب أمين للاحداث . على أن حسن النوايا الذي أبداه النائب الأول لم يقابل ، في ظن الحركة ، بمثله . تولد انطباع ايضاً عند البعض أن في السماحة التي أبداها ضعفاً يمكن من استغلال لاستلاب المزيد من المكاسب . لذلك ، يفيد كثيراً لو تمعن الناس في البيئة الخرطومية التي يُراد للنائب الأول أن يعيش فيها حتى يجدوا جواباً على سؤال لا يفيد معه التراشق .
    ________________________________________

    في تلك البيئة جهود لا تكف لتمزيق حزبه ، واستهانة لا تخفى على اللبيب بتوجيهاته لأجهزة يرأسها ، وتراخ من جانب الحكومة التي هو رئيسها الثاني عن اداء أول واجباتها الدستورية ألا وهو انفاذ الاتفاقية ( المادة 72 (ب) ) ولا يكون ذلك الا بمراجعة كاملة للمنظومة القانونية والمؤسساتية التي تتعارض مع الدستور والاتفاقية . هذا ، الى جانب حملات في الصحف ترقى ، بسبب من تهييجها للنزعات الدينية و العرقية ، الى تجاوز للدستور. ذلك التجاوز يقع أمام ناظر اجهزة أمنية جازفت من قبل ، وفعلتها مرة أخرى ، بخرق وثيقة الحقوق تجاه الصحافة من أجل صيانة اجراءات قانونية ، وكأن تلك الاجراءات تحتل مكاناً أرفع من الدستور وهو القانون الضابط للحقوق والواجبات ولأداء المؤسسات . هناك أيضاً الحملات المتوالية للتشكيك في نزاهة وزرائه من صحف معينة لم تأبه أبداً لروث الفساد الذي يحيط بها ، بل أن بعض الواغلين فيه هم أقرب أهل الشمال لعتاة المفسدين في الجنوب . فان لم يكن في كل هذه الأسباب ما يجعل النائب الأول ينتبذ لنفسه مكاناً قصياً في جنوب السودان ، فلا ندري ما الذي يمكن أن يحمله على فعل ذلك .
    اضافة الى ذلك هناك المبادرات الخارجية التي حملت الحركة في أكثر من واقعة على الاعلان عن رفضها لها . فمن حق أي فريق في الحكم أن يكون له موقف سياسي أو ايديولوجي نحو العلاقات الخارجية ، ولكن الذي يجمع الشريكين ويلزم حكومة الوحدة الوطنية هو توجهات السياسة الخارجية كما نصت عليها الاتفاقية والدستور (الفقرة 92 من بروتوكول اقتسام السلطة والماده 17 من الدستور).

    وبطبيعة الشراكة هناك أمور لا تستطيع حكومة الوحدة الوطنية أن تقرر فيها بأغلبية آلية ، خاصة إن كانت ذات مساس بالاتفاقية . لهذا نصت الاتفاقية على موافقة النائب الأول على قرارات رصدتها في قرابة الأربعين موضوعاً. وما أكثر المحاولات التي تمت للالتفاف على ذلك الحق الدستوري للنائب الأول وتحويله الي ''سلطان'' جنوبي لا يعنيه في تلك القرارات إلا ما يلي الجنوب . علماً ، أن وراء اختصاص النائب الأول بالموافقة على مثل القرارات ما يعرف بمبدأ التكافؤ parity) ) في اتخاذ القرار بين طرفي الاتفاقية . لهذا عندما ذهب الاستاذ الدرديري محمد أحمد في حواره المشار اليه آنفاً مع جريدة الايام للقول بأن التشاور بين الطرفين حول طرد ممثل الأمين العام جان برونك لم يكن ضرورياً لأن السياسة الخارجية هي مسئولية الرئيس ، أصاب وأخطأ في آن .
    فبوجه عام توكل الماده (58) من الدستور لرئيس الجمهورية توجيه السياسة الخارجية للدولة وما كانت الحركة لتبدي رأياً نقيضاً لما قرره الرئيس لو كان القرار يتعلق باعلان أي دبلوماسي آخر شخصاً غير مرغوب فيه ، ولكن مندوب الأمين العام للأمم المتحدة أمره مختلف . فتعيينه ، مثلاً ، تم بناء على قرار من مجلس الأمن (1590 / 2005) يتعلق بانفاذ اتفاقية السلام الشامل ، كما أن إختياره كان بموافقة الطرفين . جان برونك لم يكن هو مرشح الحركة للمنصب ، بل جاءت الموافقة الاولية عليه من الحكومة القائمة آنذاك . وعند ترشيح برونك للمنصب ، جادل الراحل قرنق كثيراً في امر اختياره لعدم ثقته في حيدته رغم أنه هو الأب المؤسس لمجموعة اصدقاء الايقاد. صلات برونك بالسودان قديمة ، وكان لنا مع الراحل حوار طويل حول مآثره على السودان إذ ظللنا نذكر الدور المهم الذي قام به في اعادة تعمير الجنوب بعد اتفاقية اديس ابابا و بعون سفير نشط هو عزالدين حامد . مصدر عدم ثقة الراحل في جان برونك هو أن وزير التعاون الهولندي كان من أكثر وزراء الاتحاد الأوروبي حرصاً على تمتين العلاقة مع حكومة السودان في زمان اغلق فيه الاتحاد الاوروبي كل قنوات التعاون مع بلادنا باستثناء العون الانساني . في ذات الوقت ، كان بين برونك و قيادة الحركة خلاف حاد حول توجهات السلام. كل هذا يعني أن القضية بالنسبة للحركة لم تكن تتعلق بالشخص بقدر ما كانت تتعلق بمبدأ.

    بسب ذلك ، وقضايا أخرى ، كان موضوع السياسة الخارجية من الموضوعات التي اخذت حظاً كبيراً من النقاش في الاجتماع الأخير للمجلس الوطني للحركة الشعبية ، خاصة في ما يمس العلاقات مع المنظمات الدولية . فثمة فرق كبير بين أن يكون للدولة مواقف تجاه هذه المنظمات يتم التوافق عليها ، وبين تعبئة المشاعر ضدها بدوافع حزبية ، بله ايديولوجية ، يقودها حزب واحد باسم حكومة الوحدة الوطنية. لهذا دعت الحركة الى نقاش صريح مع المؤتمر الوطني حول سياسة السودان الخارجية التي ينص الدستور على أن تكون شفافة ومستقلة. وبآخره ، افتطن الشريكان لهذا الأمر عند نشوب أزمة المحكمة الجنائية الدولية وآثرا العمل سوياً للاتفاق
    على موقف مشترك ذي محاور أربعة : الأول هو تركيز الجهود على معالجة المشكل الأم ، مشكلة دارفور بأعجل ما يكون . الثاني هو تفادي الارتطام مع المجتمع الدولى . الثالث هو الحفاظ على هيبة الدولة عبر حوار هادف مع الأطراف المعنية في المجتمع الدولي . الرابع هو انفاذ القانون على كل من لحقت به شبهة ارتكاب جرم من الجرائم الغليظة التي اتهم بها بعض مواطنينا ، طالما توافرت لدينا تحقيقات قامت بها لجنة قانونية اختارتها الدولة ، وطالما ظللنا نؤكد حيدة ومقدرة اجهزتنا العدلية . وتحقيقاً للهدف الأول آثر النائب الأول الامساك بملف دارفور بوجه مباشر ، كان ذلك فيما يتعلق بالاتصال بالفصائل المحاربة في دارفور ، أو بالدول الاقليمية المؤثرة .

    من قبل ، هناك المواطن!
    بعيداً عن المتصارعين على السلطة أو الممسكين بمقاليد الأمور ، هناك العامل الأهم ، ألا وهو المواطن العادي . ذلك المواطن ، لاسيما في الجنوب ، ينتظر ، أول ما ينتظر ، عائدات السلام ، وعلى رأسها الأمن والتنمية . فان لم يتحقق الأمن وتبدأ التنمية بشكل ملحوظ ، فلن يرى المواطن الجنوبي معنى للسلام ، ناهيك أن يُعنى بأمر الوحدة. المسئولية عن تحقيق هذين الهدفين تقع ، بالمقام الأول ، على عائق حكومة الجنوب ، ثم من بعد على الحكومة القومية التي تلزمها الاتفاقية بالاسهام في تلك التنمية بالقدر الذي يضاعف من جاذبية الوحدة . وبالنسبة لحكومة الجنوب توافرت لتلك الحكومة ، الى جانب الاستقلال بالحكم ، موارد مالية لم تُحظَ بها أية
    حكومة جنوبية من قبل ، ودعم خارجي للتنمية من مال وخبرات ، وخطة متكاملة لاعادة التعمير أرستها البعثة المشتركة للتقدير (JAM) بمشاركة فاعلة من الحركة الشعبية .
    تضافر كل هذه العوامل كان ينبغي أن يصحبه إنجاز ملحوظ في فترة العام ونصف العام التي مضت ، وهذا مالم يتم لتضافر اسباب عديدة منها إنهماك الحركة الشعبية في اعادة تأهيل نفسها كحزب سياسي ، وانشغال حكومة الجنوب و الجيش الشعبي بمعالجة الانقلابات الامنية لاسباب داخلية (المليشيات) وخارجية (جيش الرب). الأخيرة هي التي اقتضت توجيه جزء كبير من الموارد للنشاط الأمني بدلاً عن المجال التنموي . من الأسباب أيضاً ضعف الهياكل الادارية ، في المركز و الولايات ، ثم ايكال الاعمال الاسعافية ، بسبب فساد بعض المسؤولين ، لشركات غير مؤهلة لاداء الأعمال التي عهدت لها .
    بيد أن التقويم لأي قصور عن الانجاز لا يكون سليماً ان أغفلنا حجم الخراب الذي خلفته الحرب ، وبخاصة في العاصمة جوبا التي أصبحت اعادة تأهيلها عند الكثيرين هي المعيار الذي يقاس به الانجاز . فمثلاً ، جميع الطرق الداخلية بتلك المدينة و التي أنشأتها حكومة المجلس العالي الانتقالي في عهد نميري . قد اندثرت تماماً . وجميع المساكن و المدارس و مباني الجامعة حولت الى ثكنات عسكرية مما جعلها غير صالحة لاداء المهام التي انشئت من أجلها . كما تعطلت اغلب المرافق العامة ، خاصة الماء و الكهرباء في تلك المدينة . و على وجه التحديد ، نشير الى المناطق التي كانت تسيطر عليها الحكومة ومجلس تنسيق الجنوب ولم تكن مسرحاً للعمليات العسكرية.

    ولئن حدث ذلك ، رغم الاموال الضخمة التي كانت تتضمنها الميزانيات العامة للجنوب خلال سني حكم مجلس التنسيق فان الأمر يدعو للحيرة : أنصدق ارقام الميزانيات أم الواقع المرئي. لهذا كانت البداية في كل هذه المجالات من الصفر . مع ذلك فأن ما ذهب اليه رئيس حكومة الجنوب في خطابه عند افتتاح المجلس التشريعي لجنوب السودان بشأن اجتثاث الفساد ، وتقديم خطة تنموية تنفذ في فترة زمنية محددة (200 يوم) تُعطَي الأولويةُ فيها للانفاق على للصحة و التعليم والمرافق العامة و البنية الاساسية هو عين الصواب ، لاسيما وقد أُلزم المسئولون عن تنفيذها بقيد زمني محدد .

    هذا الحديث ينفذ بنا الى موضوعين مهمين أخذا حيزاً من التعليق على ما كتبنا من جانب بعض المعلقين و النقاد . الموضوع الأول هو ''استشراء'' الفساد المالي في الجنوب ، واغفال التنمية فيه ، أو ما أوصفه كاتب ناقد بـ''إغفال التنمية و غياب الرؤية المنهجية و التخطيط الاستراتيجي'' (صهيب حامد، الوان 17/2/2007). موضوع الفساد المالي تناولناه بوجه خاص في مقالنا عن الفساد وقلنا فيه لمن يتساءل عن الفساد في حكومة الجنوب : '' نعم فيها فساد وفساد كبير '' . ولكن من الظلم الفادح لتلك الحكومة طرية العود أن تغيب عن نظر الناقدين لها ، ناهيك عن القادحين فيها كما يقدح السوس في الأسنان ، المؤسسات التي انشأتها تلك الحكومة للحد من الفساد ، و العقوبات التي اوقعتها علي
    بعض كبار المسئولين في تلك الحكومة (وكيل وزارة المالية ونائبه ومدير الجمارك ونائبه) ، و التحقيقات التي تجريها الآن لجنة برئاسة د.لوال اشويك ، وزير الدولة بوزارة المالية القومية حول الابداعات المالية في الفترة قبل الانتقالية ، وتكليف رئيسها للبنك الدولي بوضع ضوابط للمشتريات والعقود ، و الاجراءات الجنائية التي اتخذت ضد بعض الكبار ، والنقاش الشفاف الذي دار بشأن الفساد في أعلى جهاز سياسي في الحركة : المجلس الوطني ، ثم أخيراً ايقاف وزير المالية فيها تمهيداً للتحقيق معه . تلك أمور لَما تُقدم عليها ، أو على ماهو أدني منها ، حكومات اشتد عودها .

    لم يحالف الكاتب الناقد التوفيق أيضاً حين نسب اغفال التنمية ، أو ما نسميه القصور في التنمية ، خاصة الاسعافي منه الى '' غياب المنهجية والتخطيط الاستراتيجي''. هذا زعم لا يقدم عليه من اطلع على مشروعات بعثة التقدير المشتركة JAM) ) ، والتي هي الأساس لمشروعات اعادة التعمير في الجنوب و المناطق المتأثرة بالحرب ، بل في كل السودان . ولا نعرف بين كل تجاربنا الماضية في الفترات الانتقالية تجربة واحدة عولج فيها موضوع التنمية بمثل الدقة و التفصيل الذي تم في مشروعات بعثة التقدير.
    مهما يكن من شئ ، فان استشراء الفساد و القصور في التنمية من جانب حكومة الجنوب أمر خطير ينبغي أن لا نهون منه . بيد أنه أمر غير ذي موضوع عند الحديث عن جاذبية الوحدة . فشروط جاذبية الوحدة هي ما نصت عليه الاتفاقية و أومأنا اليه في مقالاتنا الأولى وفي هذا المقال . وان كان هناك من نتائج ضارة لذلك الاغفال فأن ذلك الضرر سيلحق بالحزب الحاكم في الجنوب عند الامتحان الشعبي ، أي الانتخابات . وتؤكد تجارب الأمم أن الحكومات لا تسقط فقط بسبب تسلطها وانتهاكها لحقوق الانسان ، بل تنهار دوماً نتيجة لسوء ادارة الاقتصاد ولتأثير ذلك على حياة الناس . فالآثار الضارة بالمواطن و الناجمة عن سوء ادراة الاقتصاد هي التي تؤدي الى العصيان المدني و الانتفاضات ، وتقود الى الثورات والانقلابات العسكرية ، كما تنتهي الى اسقاط الحكومات عند الامتحان الشعبي .
    من جانب آخر ، فان نجاح الحكومة القومية في انشاء معالم تنموية في الجنوب ، الى جانب انفاذ ما نصت عليه الاتفاقية لكيما تكون الوحدة جاذبة ، سيضيف الى الزخم الوحدوي. مثال ذلك اكمال طريق الرنك-ملكال ـ بور ـ جوبا ، أو مد الخط الحديدي من واو
    الى جوبا عبر غرب الاستوائية ، أو اقامة مؤسسات خدمية باسم مدارس ومستشفيات الوحدة في الولايات. وحول هذا الأمر نشير الى ما قرره أخيراً رئيس الجمهورية بتخصيص مبلغ (50) مليوناً من الدولارات لمثل هذه المشروعات . ونتمنى من الله أن لا تُجهض هذه المشروعات حِوَل البروقراطية التي لم تستوفِ ، بعد ، أوعيتها العقلية ، ناهيك عن الوجدانية ، جسامة التغيير الذي تستوجبه الاتفاقية ، أو تدرك ضيق الحيز الزمني المتاح لذلك التغيير .

    الموضوع الثاني الذي تساءل عنه بعض الناقدين بحسبانه أمراً ذا خطر على السلام و الوحدة هو التعهدات الدولية في اوسلو لدعم مشروعات اعادة التعمير على المستوي القومى ، ومستوى جنوب السودان . ورأى كاتب أننا ، في معرض ما أسماه ''تبرئة الحركة من كل قصور'' لم نُشِر ، مثلا، الى عجزها عن حمل المجتمع الدولي للوفاء بالتزاماته في اوسلو (يوسف عبدالمنان ، آخرلحظة 17/2/2007م ).
    ذلك الموضوع قد يكون ذا أهمية بالنسبة لتوطيد السلام ، ولكن اقحامه في قضية الوحدة الجاذبة أمر لا يلتئم . وعلنا نشير ، في البدء ، الى توجه القائد قرنق قبل رحيله لايداع اربعين بالمائة من عائدات النفط في حساب خاص يستفاد منه في سد الفجوات المرتقبة في المعونات الخارجية ، وكان الراحل يؤمن إيماناً قاطعاً بان التنمية الحقيقية هي تلك التي تعتمد ، في المقام الأول ، على الذات . مع ذلك ، صحيح أن أغلب الدول التي تعهدت بما تعهدت به في اوسلو لم تفِ بالتزامتها . فالمبالغ التي حصل عليها فعلاً صندوق المانحين متعددي الجنسية ، وهو الصندوق الذي تودع فيه تلك المنح ويتولى ادارته البنك الدولى، لم تتجاوز مبلغ (5085) مليون دولار عن الفترة 2005-.2006 وكان أكبر المساهمين في هذه المنح هم : هولندا ، النرويج ، بريطانيا ، السويد. الدول الأخرى استذرعت بالضغوط المحلية عليها حول دارفور مما جعلها تحجم عن مد العون للسودان . بدلاً عن ذلك ، توجهت تلك الدول بأغلب عونها لاغاثة لاجئي دارفور . مع ذلك ، ما انفك رئيس الحركة ينبه في كل لقاءاته الخارجية : واشنطون ، لندن ، باريس ، الى مخاطر التلكؤ في انجاز المهام التنموية و الاسعافية التي فرضتها اتفاقية السلام على حكومتي الوحدة الوطنية و الجنوب ، على الاتفاقية نفسها . و في الشهر الماضي (27/2/2007) أثار نائب الرئيس ، الاستاذ علي عثمان محمد طه ، نفس الموضوع مع كبير مستشاري صندوق النقد الدولي في لقاء تم بينهما في الخرطوم بمشاركة السيدين محافظ بنك السودان ووزير المالية . ولا شك في ان منتدي المانحين الذي انعقد بالخرطوم قبل بضعة أيام للتداول مع الحكومة القومية وحكومة الجنوب حول تعهدات اوسلو مجالاً للمزيد من التشاور بين السودان ورفقاء التنمية.

    نضيف أمرين ، الأول هو أن الطريق لعودة العلاقات الطبيعية مع الدول المانحة يمر عبر الحل الجذري لمشكلة دارفور و التعاون الايجابي مع الدول المانحة . فمهما كان من أمر الالتزام الاخلاقي لهذه الدول تجاه طرفي اتفاقية السلام الشامل ، الا أن هذه الدول تولى اهتماماً أكبر للرأي العام فيها . ولرأيها العام قراءة حول دارفور تختلف كثيراً عن قراءتنا . الأمر الثاني هو أن الدعم الخارجي ، حتى وان جاء كاملاً غير منقوص حسبما تقرر في أوسلو ، لن يؤثر على نتائج تقرير المصير لو اخفقنا في تحقيق ما قالت به الاتفاقية ونص عليه الدستور حول الوحدة الجاذبة . كلا الأمرين في مقدورنا فعلهما لو توافرت الارادة السياسية ، وصدقت النوايا ، واقبلنا على التعاون مع العالم اقبال من يعرف الممكن وغير الممكن في العالم الذي نعيش فيه.
                  

04-02-2007, 12:58 PM

محمد يسن علي بدر
<aمحمد يسن علي بدر
تاريخ التسجيل: 12-28-2005
مجموع المشاركات: 623

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د. منصور خالد .. عامان من السلام : حساب الربح و الخسارة (Re: محمد يسن علي بدر)

    عامان من السلام : حساب الربح و الخسارة(23)
    انفصاليوالشمال، وانفصاليوالجنوب
    ________________________________________

    قــــــراءة خـــــارج النص

    إذ نأتي بهذه المقالات الى نهاياتها تستدعي الاهتمام آراء بدرت من بعض الصحاب والمعلقين، شفاهة أوكتابة، وحَري بنا تعقب تلك الآراء ببيان أو تعليق. من هؤلاء من رمانا بالامعان في نقد الشمال، وكأن الجنوبيين لا يخطئون، وقدروا، فيما استقر في مرآة عقلهم من ظن، اننا نجنح نحواللاموضوعية. حقاً، لم يكن لنا، طوال هذه المقالات، مأرب أو همة في نقد الشمال أو تبرئة الجنوب، كما
    ليس بِنا كَلَف لانشاء كتاب عن مزايا الجنوب ونواقص أهل الشمال، كما فعل الجاحظ في ''فخر السودان على البيضان ''. لو كان ذلك هو الحال، لجاز النقد. ولكن، مرة أخرى نقول إن موضوع هذه المقالات هو اتفاقية السلام الشامل. هذه الاتفاقية تناولت اموراً مختلفات بعضها يعني السودان كله، وبعض آخر يتعلق بالجنوب وحده.
    من الأولى، التحول الديموقراطي من نظام شمولي كان مسعى معارضيه، بمن فيهم الحركة الشعبية، هو اقتلاعه من الجذور. وحين لم يتأت لهم ذلك، أياً كانت الأسباب، آثروا ان يتم التحول عبر حل متفاوض عليه. بسبب من ذلك، كان التمهيد للتحول الديموقراطي عبر دستور وُطِدت فيه حقوق المواطن (وثيقة الحقوق)، وكان نظام الحكم اللامركزي الذي أنهى المركزية القابضة التي ورثناها من عهد ونجت باشا، الحاكم العام الثاني في العهد الاستعماري، وكان الاقتسام الاكثر عدالة للثروة بحيث تلقى التخوم المهمشة نصيبها من الثروة القومية بمقادير معلومة وضمانات دستورية وثيقة. كل هذه أمور لا يخطئ خيرها أهل السودان جميعاً، ولكنه يصيب بقدر اكبر أهل الشمال بعد أن ضمنت الاتفاقية لأهل الجنوب حكماً ذاتياً كاملاً، ونظاماً ديموقراطياً للحكم أكثر إتساعاً في توطيد الحقوق، واستقلالاً مالياً غير مسبوق. فالحركة لم تحارب في نايفاشا من أجل حقوق الجنوب وحده كما قال حاطب الليل الذي نستطرف ما يكتب في
    هذه الصحيفة (الرأي العام 19/3/2007)

    في الاتفاق أيضاً ما يمس الجنوب مساَ مباشراً مثل الضمانات التي وفرها له حتى لا يلحق أى انتقاص بالحقوق التي ضمنتها له الاتفاقية، ومشاركته الفاعلة في الحكم على الصعيد القومي، وضمان حقوق المواطنة له عبر القطر كله، ثم حقه في تقرير المصير الذي سيختار عند ممارسته إما الانفصال أوالوحدة وفق نظام الحكم الذي ارسته الاتفاقية. وفي تناول الباحث لهذه القضايا ليس في البحث مجال لتقصي معايب هذا أو مزايا ذاك. مجال البحث هو ما الذي افترضته الاتفاقية أولاً، لضمان عدم الإخلال بالوضع الدستوري الذي انجبته الاتفاقية. وثانياً ما الذي تستلزمه لجعل الوحدة خياراً جاذباً. أي قراءة أخرى لما كتبنا تصبح، اذن، قراءة خارج النص.

    ونعود على بدء مرة أخرى، لنقول إن الاتفاقية تدعو لـ ''تخطيط وتنفيذ اتفاقية السلام بغية جعل الوحدة خياراً جاذباً وبصفه خاصة لشعب جنوب السودان''. شعب جنوب السودان، في هذا النص، هو في موقع المتلقي، وليس لديه ما يؤديه ليجعل الوحدة جاذبة. من هو المسئول، اذن، عن تحقيـق هـذه المـهمة ؟ أوكـما يـقول أهـل القانـون علـى مـن يـقع عـبءُ الاثبات ( (proof onus of، أى عبء اثبات تحقيق مستلزمات الوحدة الجاذبة. حول هذا الأمر، ينص الدستور على أن الواجب الأول لحكومة الوحدة الوطنية، الى جانب تخطيط سياسات الدولة العامة، هو انفاذ اتفاقية السلام الشامل (المادة 72 (ب)). لهذا لا سبيل لنا لتحميل شعب الجنوب، أو الشمال ككيان جغرافي، المسئولية عن جعل الوحدة خياراً جاذباً. هذا مالم نفعله، بل قلنا حرفياً ان عبء اثبات جاذبية الوحدة لا يقع على ''طه القرشى'' في الشمال أو منقو زمبيزى في الجنوب. المسئولية الكاملة، اذن، هي مسئولية حكومة الوحدة الوطنية، وخاصة المؤتمر الوطني بحسبانه حزب الاغلبية في تلك الحكومة والطرف الآخر الموقع على الاتفاقية، وباعتباره أيضاً الحزب الذي أقام المؤسسات وشَرَع القوانين التي تتعارض مع الدستور الجديد. والانفاذ الذي نتحدث عنه ليس أمراً هلامياً بل هو تطبيق الاتفاقية على الوجه الذي جاءت به، دون زيادة أونقصان ودون ابطاء، لاسيما وقد حدد الاتفاق جدولاً ضابطاً لأداء تلك المهمة.

    من الجانب الآخر، تُلقى الاتفاقية على الحركة الشعبية واجبين، الأول هو العمل على انفاذ الاتفاقية بحكم عضويتها في حكومة الوحدة الوطنية، والثاني هو الزامها والتزامها، لا إلزام الجنوبيين، بالدفع باتجاه خيار الوحدة عند تقرير المصير طالما توافرت مقومات الوحدة الجاذبة على الوجه الذي تقضي به الاتفاقية والدستور. ونقدر أن الوجب الأول هو ما تسعى الحركة لفعله وعندما تعييها الحيل، أو ترى تراخياً في التنفيذ، يُعبر بعض مسئوليها عن إحباطهم من أعلى المنابر. وما أن يفعلوا، حتى تتلقف تعبيرهم صحف ''شمالية'' معينة واصمة مافعلوه بالخروج عن المسئولية الجماعية في الحكومة، بدلاً من التحري عن إن كان هناك خروج عن الاتفاقية، كما يزعم مسئولو الحركة، أو أن مزاعمهم تلك حديث خرافة. ذلك ماتقتضيه الحكمة والنظر في العواقب. لوحدث ذلك، لما وجد الناقد الأمين مناصاً من أن يقول للطرف الذي خرج عن أحكام اللعبة foul ''، أياً كان ذلك الطرف.

    لهذا فان كنا تناولنا مواقف تتسم بالسلبية نحو الاتفاقية من جانب آخرين (من غير طرفي الاتفاق)، فانما كان ذلك لإبانة أثر تلك المواقف على الوحدة، خاصة إزاء إصرار أصحاب هذه المواقف على القفز فوق شرائط الاتفاق ومستلزماته وِتراً وِتراً بلا انقطاع. تواتر الخطأ إما أن يكون بسبب الجهل بتلك الشرائط مما يستلزم التنبيه، أوتجاهلها، وللتجاهل، كما قلنا، ثمن باهظ. التبصير بذلك الثمن الباهظ واجب، لأن تلك الشرائط هي الأساس المكين للوحدة. وقد أوردنا نماذج عديدة لذلك التجاهل قارب بعضها
    الزراية مثل إنكار حق الجنوب في الغاء مؤسسات يتعارض وجودها مع نظام حكمه الذي يفصل بين الدين والدولة، وحقه في اقامة نظام مصرفي يختلف عن النظام السائد في الشمال، وحقه في اقامة جيش مستقل يعتبر أحد الاضلاع الثلاثة للجيش الوطني : القوات المسلحة، الجيش الشعبي، القوات المشتركة / المدمجة. انكار هذه الاوضاع، أوا ستنكارها، لا يبدَل من الحقوق التي أقرتها الاتفاقية شيئاً، ولكنه يعمق من عدم الثقة التي نسعى لازالتها حتى يبقى السودان موحداً.

    دعاوى الانفصالية، شمالاً

    ثمة تسأولٌ آخر نُسب الينا فيه اختزال مهددات السلام في دعاوى الانفصالية الشمالية إذ ثمة انفصاليون جنوبيون يجدر بنا، كما
    قال كاتب معلق، أن '' نقعنهم بالتخلي عن دعاواهم الانفصالية '' لأنها دعاوى ''تبدأ بالمناداة بانفصال الجنوب وتنتهي بفصل شماليي الحركة عنها'' (صهيب حامد، الوان 17/2/2007 م). هذا سؤال يثيره الكاتب بموضوعية يُنبئ عنها حرصه الواضح على وحدة السودان، في حين يثيره آخرون وكأنهم يتمنون انفصال الجنوب حتى يصبح ما يسمى بشماليي الحركة طوع الشوامت. بيد أن الذي سيعود خائباً بلا غنيمة من انفصال الجنوب هوالشمال، وليس فقط شماليوالحركة، وتلك بلية لن يفرح الا جاهل بمغبتها.
    ولكن، تماماً كما استقر الرأي على منح الجنوب الحق في الانفصال، فليس هناك ما يحول دون دعوة أي شمالي لانفصال الشمال عن الجنوب، لاسيما ودعاوى الانفصالية الشمالية ليست جديدة. فمع اصرار الحركة الوطنية في الشمال، منذ مؤتمر الخريجين، على وحدة شقي القطر ارتفعت أصوات في ذلك الزمان تنادي بفصل الجنوب، أو بالأحرى تركه لحاله. من أولئك رجال لا يقدح المرء في وطنيتهم مثل يوسف مصطفي التني وحسن محجوب وحسن أحمد الكد. على أن تلك الاصوات بقيت صيحة في البيداء، والا فلماذا خاض الشمال كل الحروب التي خاضها من أجل الحفاظ على وحدة السودان. نقول هذا، بصرف النظر عن رأينا في تلك الحروب، أو رأينا في تواطؤ الكثيرين بالصمت عنها وعن ادراك ماتقود اليه شحنات الكراهية التي ولدتها. تلك حقيقة، لا نعدوالصواب إن قلنا، إن بصيراً واحداً فطن لها يومذاك وجاهر برأيه فيها، ألا وهوشهيد الفكر محمود محمد طه.

    كان الاستاذ يقول، كلما تكاثر الحديث حول مشكلة الجنوب : ''وللشمال مشكلة أيضاً''. وكان، كلما تسمع بياناً من القيادة العامة للجيش يعلن عبر المذياع خبراً مفاده :''لقد فقدنا عشرة شهداء في المعركة ومات الف من الخوارج''، ردد :''الاجدر أن نقول فقد السودان مائة والفاً من ابنائه''. هذا قول رجل يدرك البدهيات، ومن البدهي أن القلوب جُبلت على حب من يحسن اليها، وبُغض من يسئ اليها، ناهيك عن الغضب الذي اورثته لأهل الجنوب مظالم متجذرة. لذلك، ظللنا ندعو، مع قلة ذات حس بالآخر نذكر منها الراحل العظيم محمد عمر بشير، للاعتراف بجذور المشكل بدلاً من الهروب منها الى الأمام بسياسات لا تقود الا لتعميق البغضاء بين ابناء الوطن الواحد. لم نذهب لذلك إلا بدافع الحرص على انقاذ أهلنا في الشمال من أنفسهم، وكان المسار عسيراً. وحمداً لله ان انتهى أهل السودان جميعاً لهذا الرأي. انتهى اليه التجمع المعارض في مقررات اسمرا، وانتهت اليه حكومة الانقاذ في ماشاكوس.

    بيد أن الانفصالية الشمالية الجديدة التي ننكر ليست هي، فحسب، دعوة سياسية كدعوات الأقدمين، بل انفصالية تتوسل لتحقيق أهدافها ببث البغضاء، وافتعال الاكاذيب على الخصوم، واستجاشة العواطف الدنيا في الانسان، بل تكاد تجعل من إهاجة الانفعالات العاطفية رسالة مركزية. الانفصالية الشمالية الجديدة، ذهبت من بعد، لاستيلاد هوية يتماهى فيها الاسلام مع العروبة العرقية ابتناءً على مرجعية ذاتية دأبها العود بأهل الشمال كلهم الى قريش في المشرق، والى آل عبد شمس في المغرب. تلك المرجعية تستأصل، بطبيعتها، الآخر المنافي لها، خاصة عندما يصبح الاسلام عندها هو ما ترى أنه الاسلام، والعروبة هي ما ترى أنها العروبة. وقد اثبتت التجارب الراهنة والسالفة أن توظيف الدين لغايات السياسة، لا الاستهداء بقيمه، يفسد الدين والدنيا معاً، بل يحول الدين الى دوغماطية وثنية. وهي وثنية لأنها تُعمي أصحابها عن البُعد الاخلاقي في الاديان. الدوغماطية، دينية كانت أم وثنية، تفترض دوماً أن هناك وجهاً واحداً للحقيقة. كما أن توظيف العرق لاهداف السياسة في بلد متعدد الأعراق يقود الى فاشية تسحق الخصوصية الثقافية لكل مغاير لها.
    هذا التماهي المفتعل بين العروبة والاسلام، وما يلحق به من تفاخر بالأصل العرقي، ليس من الاسلام في شئ، وليس لوجه الله منه نصيب. ففي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أورده ابن عساكر: ''أيها الناس ان الرب واحد، والاب واحد. ليست العربية بأحدكم
    من أب وأم وانما هي اللسان، فمن تكلم العربية فهو عربي''. هذا ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم عندما انكر العرب المتعنصرون على صهيب الرومي، وسلمان الفارسي، وبلال الحبشي عروبتهم. ومهما تنطع البعض بحديث الرسول الكريم عن العصبيات ''المنتنة''، فان اعادتهم القول مرة تلوأخرى عن أصولهم العربية العرقية يتباهون بها على من لا يمت لهذه الأصول بسبب من أبناء وطنهم، هي فلتات لسان تنبئ بما تخفيه القلوب. ونوقن، ولا نتوهم، أن الذين يستنكرون تباهي البعض بأصولهم العربية العرقية هم قوم اختلطت العروبة الثقافية بدمهم ولحمهم، هي لباس لهم وهم لباس لها، وبها يفاخرون.
    توحي تلك الفلتات أيضاً بشئ آخر : الهرب مما تواطأ عليه العالم، وقبلته الانقاذ منذ دستور 1998، باعلاء رابطة المواطنة بين كل أهل السودان بمسلمهم وغير مسلمهم، وبعربهم ونوبهم وبُجتهم وزغاوتهم. ويلوح لنا أنه مازال بيننا حتى اليوم بُقعاً لا يرون في زغاوة هذه غير لونهم الساحم وتجاسرهم على مناجاة البُقْع، أي خليطي اللون، تماماً كما رآهم شيخ المعرة، وهوالأعمى، في شريدته الرائعة التي ودع فيها بغداد: أودعكم ياأهل بغداد والحشا..،
    وما قام في عُليا زُغاوة منذر
    فما بالُ سُحمٍ ينتجين الى بُقع
    الثعلب والعنب
    قصة الانفصاليين الجدد لا تختلف كثيراً عن قصة الثعلب والعنب، إذ ظلوا يَكِدون ويستكدون غيرهم كداً مرهقاً لفرض اجندتهم على الوطن كله، بما في ذلك الجنوب ''غير المتجانس''. لم يُجهِضهم عن رغائبهم تلك ويُنحَيهم عنها إلا إجماع أهل السودان على رأيٍ حكيمٍ مفاده : كفي حرباً، وان كان لابد للوطن من التوحد فليكن ذلك برضى أهله. أهل السودان الذين نعني هم الجنوبيون قاطبة والقوى الفاعلة في الشمال التي مثلها التجمع الوطني الديموقراطي (قرارات أسمرا 1995) وحكومة الانقاذ والتيار الاسلامي الذي يتضام في حشاها (اتفاق لام اكول وعلى الحاج في فرانكفورت ثم بروتوكول ماشاكوس). فتاريخ تقرير المصير يعود الى ما قبل نايفاشا بعقد من الزمان وفي وقت كان فيه للناقمين عليه اليوم حضور كثيف في مجالس صنع القرار وفي منابر الدفاع عنه. لهذا لا نظلم هؤلاء ان قلنا انهم، بعد أن اعيتهم الحيـل في خلـق سـودان على عيونهم، اخـذوا يقولون: ما أمـره هذا العنب ( the grapes are sour ) لولم يكن هذا حالهم، فما الذي يضيرهم اليوم في تحقيق وحدة بين شقي القطر تضمن لكل شق أن يُرضي مطامحه السياسية، ويحقق أشواقه المعنوية، كما جاء في الاتفاق الذي أرسي أساسه في نايفاشا رجال لايشك أحد في حزم رأيهم، وصدق وطنيتهم وأن اختلفت الرؤى والأفكار. حقيقة الأمر أن الانفصاليين الجدد يعيشون في بهو كله مرايا، لا يرون فيها غير وجوههم.

    المصالح والجغرافيا

    الامر الثاني هو ما ظللنا نكرره حول تداعي مكعبات الدومينو. فالى جانب نوازع الهروب من دولة تشي كل مقولات دعاتها بأنها ستكون دولة نافية للآخر المخالف، هناك المصلحة، والمصالح تحكمها الجغرافيا لا الاوهام الايدولوجية. ففي صيرورة الأمم، الجغرافيا هي التاريخ. تُرى ما الذي سيحمل المواطن الذي يحاد موطنه الجنوب، ويرى ذلك الجنوب يرتحل جنوباً بكل ثرواته النفطية، وعيونه المدرارة، وارضه الخوارة، ومراعيه الخضلاء أن لا يذهب الى حيث الثروة الوفيرة، وحيث المرعى الأكثر اخضراراً. ذلك هو المرعى الذي يعرفون منذ زمان سحيق أنه المأوى والملاذ لهم ولدوابهم في سني الجفاف أوالقحط.
    هذا هوالواقع الذي لا يعني شيئاً لمن تكبل عقولهم الأوهام الايديلوجية إن أحسنا بهم الظن، أو الرغائب الجامحة في تسخير الدين لمطامع الدنيا ان كانت الاخرى. الذي يعنيه أمر أهل السودان، خاصة في قضاياهم الحياتية، سيسعى مع غيره لجعل الوحدة خياراً جاذباً، وإن تعذرت، فسيَجدُ لأن تقوم علاقة بين دولتين تقضي المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة أن يتعايشا مع بعضهما البعض في إلفة. ولا سبيل لمثل هذه الألفة في ظل المشاحنة والتباغض والمعاداة التي يبثها اصحاب رغائب يولون اليها وهم يجمحون. مبلغ هَمِ هؤلاء بعيد كل البعد عن إدراك مطالب أهل الشمال الحياتية التي لا حياة لهم بدونها.

    ت.... وانفصاليو الجنوب

    على الجانب الآخر، للتوجه الانفصالي تاريخ عريق في الجنوب يعود الى عهد أقري جادين، مساعد مفتش مركز الفاشر الذي رفع علم الاستقلال على ساريته في تلك المدينة في غرة يناير .1956 أقري، رافع علم الاستقلال، استقر رأيه مع صحب له على أن الشمال شمال والجنوب جنوب، ولن يلتقيا. وكان التعبير الأكثر تطرفاً في موقفه
    هو الاطروحة التي واظب عليها خلال مؤتمر المائدة المستديرة (1965). تلك الاطروحة، لا تختلف في كثير عن اطروحة غلاة العنصريين في الشمال بثنائياتها (dichotomies) المفتعلة : العرب ضد الافارقة، المسلمون ضد المسيحيين، المسترقون ضد الارقاء، دون أدني اعتبار للتقاطعات المتعددة بين هذه الثنائيات الحادة. وأحسن الكاتب المعلق عندما وصف الحالتين، مستشهداً بقول استاذي الأثير جمال محمد أحمد، بـ ''حمق أدى الى حمق''. ولعل الذين ذهبوا إلى اطلاق صفة الافريقانية على تلك الجماعات الانفصالية الاولى، وتابعيهم حتى اليوم، ظلموا الافريقانية كثيراً. فالافريقانية فكرة سياسية لا تقوم على الولاءات البُدائية التقليدية، كما ليست هي مرادفاً للزنوجة(negritnde) التي كان يدعو لها ليوبولد سنغور والشاعر المارتينيكي ايمي سيزار، وتخلى عنها الأول. فدعاة الافريقانية يستدعون امجاد قارة تمتد من القاهرة الى رأس الرجاء الصالح ويفاخرون بأن أولى حضارات الانسان : الحضارة الفرعونية والنوبية (اكسوم، نبتة، كرمة، مروى) نشأت في افريقيا.ولم يكن غريباً أن تلقى التوجهات الاثنية التي حكمت عقل سياسيي ذلك الزمان قبولاً في الجنوب لأن الجنوب، على خلاف الشمال، لم يتعرض للمؤثرات التي خفقت من حدة الاثنية والقبلية فيه، بل كادت تقضي عليها. من تلك المؤثرات الطائفية والطرق الصوفية التي وحدت بين أهل الشمال عبر الولاءات العشائرية
    والقبلية، والاحزاب القومية، بمفهوم القومية الأدني(Sub-nationalism) أي القومية الشمالية، والمنظمات الاجتماعية كالنقابات مثلاً، الى جانب انماط التنمية الاقتصادية والاجتماعية الحديثة.

    ولعل أولى المحاولات للقفز فوق الفوارق الاصلية(primordial) في الجنوب هي مشروع السودان الجديد الذي ابتدره الراحل قرنق بمافيه من آليات تهدف لازالة الفوارق وتكثيف الجوامع. وكما أسلف الذكر،لا يقصد ذلك المشروع الي ازالة الظلامات المو فحسب، وإنما أيضاً لخلق قوة دافعة نحوالمركز(certrupetal) ، لا طاردة منه .(centrifugal) ولعل نجاح الرجل الاكبر كان في قدرته على تهذيب الولاءات الاصلية المتفارقة، بل المتهاجرة، في الجنوب وادماجها في كيان واحد تجمعه رؤية موحدة. وكان الراحل، كما أوردنا في مقال سابق،، يستشرف بتوحيد هؤلاء آفاقاً أبعد من السودان، أو بعبارة أخرى تتجاوز حدوده. ففي ظل التوجه الاقليمي نحوالتوحد، والتوجه العالمي نحو تقوية أواصر التعاون بين ''فقراء'' العالم لمواجهة افرازات العولمة، لا يملك أى سياسي ذي بصيره ان يغمض عينه عن تلك الحقيقة، أو أن لايدرك مافي التشرذم من مخاطر. تلك هي أفكار رجل كان بين سمع الأرض وبصرها، ثم ذهب وبقيت رؤاه. رغم ذلك، ما زال بين سياسِيي الجنوب نفر ما انفكت النظرة الاثنية الانغلاقية تمتلك عقله وتعتمل في مصارينه. هؤلاء، في حقيقة الامر، هم ابناء أقري، لا ''اولاد قرنق''، الذين تتملكهم عقدة النقص من ''الجلابي المكار'' الذي لا يرون فيما يقول أو يفعل الا تدبيراً وحيلة. وكثير مما يفعل البعض اليوم، بوعي في بعض الاحيان، وبغير وعي في أغلبها، يُعمق من تلك المخاوف. وعلى أي، فعلاج هؤلاء لما يحسبونه مكراً جسيما كُباراً هو قطع الصلة بالشمال. عقدة النقص عند هؤلاء، تماماً مثل عقدة الاستعلاء عند رصفائهم في الشمال، لا يمكن ان تكون اساساً لاستراتيجية رشيدة.

    ... ثم شماليو الحركة

    في نهاية الأمر، لا يملك أحد، بما في ذلك الحركة الشعبية، عصا سحرية يدفع بها الجنوبيين الى حيث يريد، ان لم تتوافر مقومات الوحدة الجاذبة التي قلنا ونقول وسنقول إنها مضمنة بين دفتي كتاب اسمه اتفاقية السلام الشامل. ذلك الكتاب لن يهجره الا من على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة. ولئن يحدث مالا نتمناه، ولا يتمناه أي حادب على وحدة السودان، فلن يكون السؤال : ما الذي سيفعل شماليوالحركة ؟ بل السؤال : الى أي مَهمَةٍ سينتهي شمال السودان ؟ فشماليوالحركة لم يذهبوا اليها لكسب مادي وانما لتحقيق حلم كبير. وقد شهد القاصي والداني استئناء هؤلاء عند الزحام على الحوض الروي. عن ذلك الحوض تأنى حتى الذين جاءوا الى الحركة في مقتبل العمر وثابروا على البقاء فيها حتى يبس جِريال الشباب في وجوههم، ثم عفوا عند المغنم. فمنذا الذي لا يذكر عبد العزيز آدم الحلوالذي رفض ان يكون حاكماً للاقليم الذي ظل يحارب من أجله على مدي عشرين عاماً ؟ ومن ذا الذي لا يذكر عرمان الذي رفض مواقع عرضها عليه الرئيسان الراحل والحالي تتحلب لها شفاه الآملين الطامعين ؟ مثل تلك المواقع عند هؤلاء وغيرهم حُساف لأنهم يتطلعون الى غاية تمتد امتداد السودان كله، والى ظل يورف ويستطيل حتى يسِعَ الشمال والجنوب. ذلكم هوالسودان الذي يرى فيه كل مواطن وجهه. ولن يكون هذا الظل أبداً هو''ضُل الضُحى'' الذي لا يزدحم عنده إلا المَلْصُ من أية قدرة، والَلَهوُ عن أي مبدأ.
    اتفاقية السلام الدائم ابانت معالم هذا السودان حتى لا يتمزق الشمال بالتداعي إن عجز عن توفير شرائط الوحدة الجاذبة لأهل الجنوب، ولا يتشظى الجنوب بسبب النوازع البدائية فيه ان اختار الانفصال، رغم توافر شرائط الوحدة. ولئن حدث هذا سنثبت للعالم أنا قوم يستمرئون جدلية تدمير الذات، ويكرهون الحب، وينفون العشق والعاشقين. شماليوالحركة، أيضاً، لن يَشجوا بِالهَمِ أن قرر
    شعب الجنوب الانفصال لعدم توافر مقومات الوحدة الجاذبة التي تعاهد طرفا الاتفاقية عليها، لأن أكبر ما يميز هؤلاء عن غيرهم هو تصالحهم مع أنفسهم وتوحدهم مع ذواتهم وقبولهم للنتائج المنطقية للمواقف التي يتخذون.
    المَهَمَةُ الذي سينتهي اليه السودان هو الهَمُ الذي سيُشجِنُنا بعدما تكبدنا من مشاق بعزم حديد وعين ساهرة لنقي اهلنا غوائله
    ومَهَمة طامسٍ تُخشي غوائله
    قطعتُه بكلوء العين مِسهار
    رغم ذلك، فنحن لا نرى السودان ابداً قفراً مُهلِكاً أو أرضاً تيهاً لا يجدي فيها العناء، كما ارتأى ذلك الدكتور طه حسين. ففي كتيبه الممتع ''شوقي وحافظ'' نسب العميد الرقة والجزالة في شعر شوقي الى أثر الاندلس عليه حيث قضى فيه زماناً طويلاً. اما حافظ
    ابراهيم، الذي نُفي الى السودان، فقد كان لغلاظة البيئة السودانية أثر في قصيده، في زعم العميد. قال الاستاذ العميد : ''اما حافظ فقد ذهب الى السودان حيث الشمس مشرقة أبداً، محرقة ابداً، وحيث الكد المضني، والتعب الذي لا يفيد''.
    شماليو الحركة لن يُضنيهم الكد، ولن تصيبهم مشقة في التعب من أجل سودانهم. هم مواطنون بلا حدود لأن الوطن الذي يتمنونه حلم. وقد نصبوا، وسينصبون خيامهم في كل بقعة من ذلك الوطن / الحلم، المشرقة والمحرقة شمسه. لا يفرون، باذن الله، من خيامهم تلك، حتى وان فرت الخيام. ونحن معهم باقون في هذا الوطن / الحلم الذي لن يتساءل فيه سائل من أين جئنا. فقد انحدرنا اليه من عصبة أولي قوة استنفدوا حياتهم كلها في سبيل مرضاة الله، لا يبتغون منها غير السلامة في الدنيا، والكرامة في الآخرة فأطبق عليهم اهل الشمال جميعا لعلمهم وسماحهم، لا لحسبهم ونسبهم.

    بفضل ما أورثنا هؤلاء، وما خبرناه من تجارب عشناها، ومعارف كسبناها في اصقاع العالم، نعمل اليوم لنسمو بالانسانية، لا لنتعزى بالانساب. فالسموالانساني وحده هوالذي يهدي الانسان الى أن لغيره حقوقاً كما له حق. ومتى أحس الانسان احساساً صادقاً بحقوق الآخرين، ازدهرت في نفسه معاني الانسانية.

    هذا هو وحده الطريق الذي يؤدي الى وحدة السودان، وحدة قائمة على الرضا والتسامح. وان اراد الله الاخرى، سنعمل على أن تقوم في السودان دولتان جارتان متآلفتان. فالجنوب لن يرحل بالنيل، شريان الحياة في البلدين وفي جارة عزيزة. ومُنتجُه لن يجدَ أسواقاً لسلعه المدارية (tropical) اسواق شرق افريقيا التي تشاركه انتاج تلك السلع، فاسواقه هنا في الشمال وما تِجاوره من دول في شماله وعبر البحر. ومئات الآلاف الذين بنوا وأسسوا في الشمال من ابناء الجنوب لن يرحلوا عن منازلهم ومواطن عملهم. ورجل الاعمال الشمالي الذي بنى وأقام في الجنوب لن يهجر ما بناه. وتداعيات التكامل الاقتصادي التي جعلت من دول الكوميسا من لوساكا الى القاهرة سوقاً واحدة لن تدع مهرباً للشمال من الجنوب أوللجنوب من الشمال. وسوق العمل الذي انفتح في الشمال للعمالة الفليبينية والاندونيسية والصينية لن يغلق امام الجنوبي، كما لن ينغلق امام الشمالى سوق العمل الجنوبي الذي يرتاده اليوم الكيني واليوغندي والاثيوبي. ذلك هوالوطن/الحلم، ضَيقٌ ضيقَ حُلومنا، وواسعٌ سعةَ انسانيتنا.
    ثم نحدث، أيها القارئ والحديث ذو شجون، أن ليس لنا، على المستوى الشخصي، فيما نستقبل من الحياة، ان أمد الله في العمر، اكثر مما استدبرنا. كما ليس في هذا الوطن الضيق الواسع من موقع أوموضع يفتننا، فقد أغنانا الله به عن غيره. وإن كان صواب الناس وخطؤهم على قدر الرغبة أوالرهبة، فليس لنا مانرغب فيه أونرهبه. وحمداً لله، فان امانينا لم تنكمش في أماني بعض أهل السياسة في الحياة، لا حياة لهم وراءها. عن اولئك قال السياسي البريطاني اللوذعي دينيس هـيلـي : '' هـؤلاء لا يملـكون
    تـخـومـاً خلـفيـة فـكـرية يـأوون الـيـهـا .(they have no intellectual hinterland to retire to)

    الرأي والهوى
    هذه هي الآراء التي ارتأينا جدوى التعليق عليها لثقتنا في أن أصحابها لم يرموا من ورائها الا للحوار. ولو كان في ماجاء به العيابون اللُمَزَة على صفحات الانترنت شية من فكر لأولينا ما يقولون اهتماماً كذلك الذي أولينا لتساؤلات غيرهم. ما جاء به هؤلاء هوالفحش المحض، وتلك تجارة حمقاء. لهذا، ندخر صرير القلم لمن هم أقمن بالرد، فالعقل يضل عند محاورة الحمقى.
    وعلى أي، فان كانت هناك فكرة واحدة نستشفها مما جاء في تُرهٍ لم نفهم محصولَ أغلبه، فهي القدح في الاتفاقية لانها لم تقتلع نظام
    الانقاذ من جذوره. ذلك أمر أفضنا في الحديث عنه في المقال الثاني والمقال العشرين، وفي مقالاتنا الأولى عن الظروف التي افضت لاتفاقية السلام الشامل وما تبعتها من اتفاقيات في القاهرة واسمرا وابوجا. ليس لنا ما نقول لاولئك المستبسلين الذين يتصدون من أرصفة الانترنت لما لقدرة لهم على الوفاء به، أوالتمكن منه، غير : افعلوا ما فعله الذين ظلوا يحاربون الانقاذ على مدى عقدين من الزمان إن كانت لكم قدارة على ذلك. أوالحقوا بمن مابرحوا يحملون السلاح ضده في الغرب القصي مثل جبهة الخلاص التي ما زالت تقول أنها لا تدعولاصلاح، بل تطالب بتغيير النظام. نعم، من حق كل مواطن نقد الاتفاقية، ففي الاتفاقية فُجَاً نعرفها، ولكن الانتقاص من تضحيات وانجازات الآخرين سفاهة سُفالٍ جردهم الله من كل فضيلة.
    آخر القول ذخرناه للبَردَخت، متشايخ ما سئل عن شئ الا اجاب جواباً بعيداً، ثم طفق يوسعنا فيما، تظني، سباً في مقالات تفتقد الحد الأدنى من الحياء، والحياء شعبة من الايمان. جئنا بالرأي وجاء بالهوى، ثم أخذ يتقلب في هواه قفاً لوجه، ووجهاً لقفا. بيد أن الرأي باق والهوى بائد. وما كان كل ذلك الهوى البَرَدختي إلا لاستدراجنا للمهاجاة: ولئن سألت عن البَردَخت أجبنا أنه شويعر من طئ جاء الي جرير وقال له ''هاجني''. قال جري : ''من أنت ؟ قال: ''أنا البَردَخت''. قال: '' وما البردخت؟ '' قال :''الفارغ بالفارسية''. قال جرير: ''ما كنت لأشغل نفسي بفراغك''.
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de