محمود محمد طه في رؤى الأحلام .

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-07-2024, 01:19 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة عبدالله الشقليني(عبدالله الشقليني)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
06-16-2007, 05:52 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20489

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . (Re: Yasir Elsharif)


    مرحبا بعودة الصديق ياسر
    وحتى عودتي للحديث عن رسول الرسالتين كما ورد في خطاب الاستاذ،
    ابسط هنا مقدمة للفصل الاول من كتاب سيصدر ،حسب صفحة البروفسيور عبد الله احمد النعيم،
    سيصدر في عام 2008.
    والنعيم مؤلف الكتاب هو من الجمهوريين المعروفين بمحاولته الاسهام في دفع الخطاب الجمهوري .
    الفصل الأول
    توطئة البحث حول مستقبل الشريعة الإسلامية

    تقوم الأطروحة المقدمة في هذا الكتاب على اعتقادي بأن للشريعة الاسلامية مستقبلا عظيما في حياة جميع المسلمين في كل مكان، ومن هذا المنطلق يعالج هذا الكتاب مسألة دور الشريعة الإسلامية في حاضر ومستقبل المجتمعات الإسلامية، وليس في ماضيها، وإن كان النظر التاريخي ضروري لمنهج البحث وتدعيم الأطروحة التي أقدمها في هذا الكتاب. والبحث في مستقبل الشريعة الإسلامية يشمل مسائل المحتوى الموضوعي للأحكام الشرعية كما يشمل كذلك الاطار العام والمؤسسات أو الوسائل المتعلقة بالتطبيق العملي لتلك الأحكام. ويركز هذا الكتاب على الجانب الثاني من هذه المعادلة ولا يتعرض لمسائل المحتوى الموضوعي لأحكام الشريعة الإسلامية إلا بتأكيد ضرورة الإصلاح والتجديد في فهم المسلمين لتلك الأحكام وتأييد المنهج التنويري الذي قدمه الأستاذ محمود محمد طه. وليس عندى في هذا المجال أكثر من إحالة القارئ لمؤلفات الأستاذ محمود محمد طه وبخاصة كتابه "الرسالة الثانية من الإسلام" الذي صدرت طبعته الأولى في السودان عام 1967م. يمكن الإطلاع على هذا الكتاب وباقي مؤلفات الأستاذ محمود محمد طه من الموقع: www.alfikra.org وجوهر الأطروحة التي أقدمها في هذا الكتاب في أمر الاطار العام والممارسة العملية هو التأكيد على أن مستقبل الشريعة الإسلامية إنما يكون في إلتزام المسلمين بأحكامها بصورة طوعية بعيداً عن أجهزة ومؤسسات الدولة التي تفَسد وتُفسد إذا حاولت فرض أحكام الشريعة الإسلامية بالسلطة الجبرية. فبحكم طبيعة وأغراض الشريعة الإسلامية، فلا يصح العمل بأحكامها إلا في حرية كاملة وقصد خالص وهو "النيه" في كل عمل ديني، وينطبق هذا على ما يسمى بأحكام المعاملات مثل تحريم الربا وشروط البيع كما يقوم في أمر العبادات من صلاة وصوم وزكاة وحج، فكل أحكام الشريعة الإسلامية ملزمة للمسلم دينياً بمعزل عن سلطة الدولة الجبرية.
    ومن هذا المنظور الديني لا يجوز للدولة أن تدعي قداسة الإسلام وسلطته الروحية. فللدولة وظائفها وأغراضها المعلومة والهامة، كما سيكون البيان فيما بعد، إلا أن ذلك يتعلق بكونها مؤسسة سياسية مدنية ولا يصح أن ينسب لها الإعتقاد الديني أو النيه اللازمة لصحة العمل الديني. كذلك من المعلوم أن سلوك القائمين على مؤسسات وأجهزة الدولة تتأثر بمعتقداتهم الدينية الخاصة، إلا أن ذلك لا يجعل الدولة نفسها إسلامية، وإنما يؤكد ضرورة تمييزها عن الإسلام لأن سلوك الحاكم إنما يعبر عن فهمه هو للأحكام الشرعية وهو مجال أختلاف واسع ومتشعب بين المسلمين على مدى التاريخ. فالإسلام هو عقيدة المسلم التي يحاسب عليها حسب صحة علمه وعمله، بينما الدولة تقتضي استمرارية العمل المؤسسي في الحكم والإدارة والقضاء وما إلى ذلك من وظائف عامة.
    وغايتي من تقديم وتدعيم هذه الأطروحة هو تأكيد التميز بين الإسلام ومؤسسات الدولة حتى تخدم أحكام الشريعة الإسلامية أغراضها الأساسية في توعية وإصلاح المسلمين ومجتمعاتهم. ويمكن وصف هذه الأطروحة بعبارة "حياد الدولة تجاه الدين" بحيث لا تحابي ولا تعادي أجهزة الدولة أي مفهوم أو معتقد ديني وإنما تعتمد مرجعية مبادئ المواطنة والحكم الدستوري في السياسات والقوانين العامة. والغرض من هذا الحياد هو ضمان الحرية والمسئولية الفردية الدينية في إطار المجتمع، وليس الفصل بين الإسلام والسياسة. إلا أن هذا التمييز لا يتحقق في الممارسة العملية إلا بضبط وتنظيم العلاقة بين الإسلام والسياسة وفق مقتضيات الحكم الدستوري كما سيرد البيان فيما بعد. وهذه الموازنة بين التمييز والضبط تمكن من اعتبار أحكام الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع والسياسة العامة شريطة ألا يكون ذلك إلا وفقاً للضوابط الدستورية. إن هذا الإيجاز في وصف معالم الأطروحة لا يغفل صعوبة تحقيق جميع أركانها ومؤسساتها، وإنما يهدف إلى إقرار المبدأ العام ريثما يأتي المزيد من البيان لجوانب النظرية والتطبيق في هذه المقدمة بصورة عامة ثم باسهاب أكثر في باقي فصول هذا الكتاب.
    الدولةُ نسيجٌ متشابكٌ من السلطات، والمؤسسات، والعمليات، التي ينبغي قيامُها على تطبيق السياسات المتَّفقِ عليها من خلال الممارسة السياسية لكل مجتمع. لذلك ينبغي على الدولة أن تُمثِّل الجانبَ الأكثر استقراراً وتروياً في عملية الحكم، بينما تُشكِّل السياسةُ العمليةَ التفاعلية في إقرار السياسات العامة. ولتحقيق هذه المهمة، وغيرِها من الوظائف، يصبح لزاماً على الدولة احتكار استخدام العنف: أي القدرة على فرض إرادتها على غالب السكان، كما يمتنع حق استخدام العنف على أولئك الخاضعين لسلطانها. تلك القوةُ الجبرية للدولة، والتي بلغ مداها وتأثيرُها الآن مدى لم تصلْه أبداً طيلة التاريخ الانسانيِّ، سوف تأتي بنتائج عكسية إن استُخدِمَت بشكلٍ اعتباطيٍّ، أو لأهدافٍ فاسدةٍ أو غير مشروعة. لهذا من الضروري المحافظةُ على حيادِ الدولة، بقدر الامكان، وهو حيادٌ يستدعي اليقظةَ المستمرةَ والعمل من خلالِ عدد من الاستراتيجيات والآليات السياسية، والتشريعية، والتعليمية، وغيرها.
    كما يتطلب حياد الدولة التمييز بين الدولةِ والسياسة تفاعلاً مستمراً بين أدواتِ الدولة ومؤسساتها من ناحية، وبين القوى الاجتماعية والسياسية، من ناحيةٍ أخرى. يَنبَني هذا التمييز أيضاً على إدراكٍ دقيق لمخاطر سوءِ استخدامِ، أو فسادِ، تلك القوةِ الجبرية، والضرورية، للدولة. ومن المهم التأكيدُ على حقيقةِ أن الدولةَ ليست مجردَ انعكاسٍ مباشر للمواقف والتوازنات السياسية اليومية، إذ أنه من الضروريِّ أن تكونَ قادرةً على التوسُّطِ بين الرؤى والأطروحاتِ السياسية المتنافسة، وفض المنازعات بينها، وهو ما يؤكدُ ثانيةً على ضرورة احتفاظِها باستقلالٍ نسبيٍّ، عن قوى المجتمع المختلفة. وحيثُ أن الاستقلالَ التام ليس ممكناً هو الآخر، فالدولةُ لا يمكنُها أن تنفصِلَ عن القادة السياسيِّين الذين يهيمنون على أجهزتها، فإنه يصبح من المهمِّ أحياناً أن نتذكر طبيعتَها السياسية. إلا أن هذه الطبيعة السياسية للدولة هي مدعاة لمواصلة السعي والجهد لضمان فصلِ الدولة عن السياسة، حتى يغدوَ ممكناً لأولئك المبعدين عن السلطة في زمنٍ ما، أن يجدوا في أدوات الدولة ومؤسساتها، ملجئاً يحتمُون به، من سوء استخدام موظفيها لسلطاتهم.
    هذه الحاجةُ تتضحُ من تجارب هيمنةِ الحزب الواحد على الدولة، من ألمانيا النازيَّة والاتحاد السوفييتي إلى العديد من الدول الافريقيَّة والعربيَّة، طيلةَ العقودِ الأخيرة في القرنِ العشرين. وسواءً كانت القوميَّةَ العربيةَ بمصرَ، من خلال النظام الناصريِّ، أو كانت عقيدةَ البعثِ، تحت حُكم حافظ الأسد بسوريا، أو صدَّام حُسيْن بالعراق، فإن الدولة صارت وسيلةً مباشرةً للحزب الذي أصبح ذراعَها السياسي. في تلك الظروف أمسى المواطنون بين شقيّ رُحَى، إحداهُما الحزب وأُخراهما الدولة، دون أملٍ في خلاصٍ إداريٍّ أو تشريعيٍّ من قهرِ الدولة، أو إمكانيَّةٍ لمعارضةٍ سياسيةٍ خارجَ نطاقِ سلطانِها. وهكذا فإن الفشلُ في التمييز بين الدولة والسياسة يدعو إلى تقويض دعائم السَّلام، والاستقرار، والتنمية الصِّحيَّة، للمجتمع بأسرِه. ذلك لأن المواطنين الذين فقدوا معونةَ الدولةِ وحمايتَها، أو مُنِعُوا من المشاركةِ السِّياسيَّة الفعَّالة، أما لجأوا للانسحاب والتقَوْقُع، أو الرُكون إلى أساليب المقاومةِ العنيفة، لفُقدانِهم ما سواها.
    السؤالُ يجب أن يكونَ إذن عن كيفية المحافظةِ على الفصل بين الدولةِ والسياسة ، بدلاً من تجاهلِ التوترِ بينهما عسى أن تُحَلَّ المسألةُ من تلقاءِ نفسِها. هذا التمييزُ الضروريُّ، رغم صعوبته، يُمكن معالجته من خلال مباديء وآليات الحكم الدُستوري، وحِماية حُقوق الانسان بشكلٍ متساوٍ بين كلِّ المواطنين. لكنْ، كما سأبيِّنُ في الفصل الثالث، لا يُمكن لهذه المؤسسات والمباديء أن تنجحَ دون المشاركةِ الشاملة، والفعالة، لكلِّ المواطنِين، وهو ما لا يمكن أن يكون ما داموا يعتقدون بعدم توافُقِها مع المعتقدات الدينية، والمعايير الثقافية، التي تشكِّلُ سلوكَهم السياسيِّ. تفترضُ مباديءُ السيادةِ الشعبيَّةِ، والحكمِ الديمقراطيِّ، أن المواطنين متحفزون للمشاركة في كل جوانب الحكم والحياة العامة، بما فيها الفعالياتِ السياسيةِ المنظمة، لاخضاع الحكومة للمحاسبة، وبالتالي مستجيبةً لمطالب عموم المواطنين. وهذا التحفيز والعزم، المتأثران جزئياً بالمعتقدات الدينية، والظروف الثقافيَّة، للمواطنين والدولة، يجب أن يُؤسَّسَا على تقديرٍ والتزامٍ بالدستوريَّة وحقوقِ الانسان. وسأوضِّح لاحقاً في هذا الفصلِ هذا المنهج للتغيير الاجتماعيِّ.
    هذا الكتابُ هو محاولةٌ لدعمِ وتوضيح الاستيعاب الضروري، مع صعوبته، لتناقض الفصلِ المؤسسيِّ بين الاسلامِ والدولة، رغم الصلة اللاّزمة والدائمة بين الاسلام والسياسة، في المجتمعات الاسلامية الحاضِرة. وهذا التركيز على المجتمعات الاسلامية لا يعني أن القضايا التي أُناقشها هنا تَخُصُّ الاسلامَ والمسلمين وحدَهم. وعندي أن فكرة الدولة الإسلامية من حيث هي مرفوضة من مرجعية المنظور الديني الإسلامي، وليس فقط لفشل المحاولات المختلفة في إقامة هذه الدولة الوهمية عبر التاريخ كما سأفصل في الفصل الثاني. وخلاصة الحجة هنا أن هذا النموذج لا يستقيم عقلاً ولا يصح ديناً بحكم الخلل في جوهر الفكرة وليس فقط في عيوب الممارسة.
    أمَّا الوهمُ الخطير الآخر الذي أرفضه أيضاً، فهو فكرةُ إقصاءِ الاسلام بعيداً عن الحياةِ العامَّة، لمجتمعِ المسلمين. وبشرحٍ مختصرٍ، أُفصِّله لاحقاً، فإن الاختلاف الواسعَ بين آراءِ العلماء والمذاهب، يجعلُ لزاماً على الدولة عمليًّا أن تختار بين آراءٍ تتنافسُ في رؤاها، وتتساوى في شرعيتِها. فضلاً عن ذلك، لا تُوجد معاييرٌ أو آلياتٌ متَّفَقٌ عليها للتحكيم بين تلك الرؤى، المنتميةِ لمذاهبٍ شتَّى، لذلك فإن الدولة دائماً مؤسسة مدنية ولا يمكن أن تكون دينية وعليه فإنه لا يجوز للدولة أن تحرم المسلم من اتباع الرأي الشرعي الذي يراه، ولكن لها أن تسّن القانون والسياسة العامة على أساس مدني وسياسي وليس ديني. ثانياً، مهما كانت الآليات والمعايير التي تفرضُها أجهزةُ الدولة، لتحديد التشريع والسياسة الرسميَّيْن، فإنها ستستنِدُ حتماً إلى التقديرِ البشريِّ لمن يُهيمِنُ على تلك الأجهزة.
    بعبارةٍ أخرى، فإن أيًّا مما تفرِضُه الدولةُ باسم الشريعةِ هو بالضرورة مدنيٌّ، ونتاج للإرادة السياسية الجبريَّة، وليس المرجعية الاسلامية العليا، حتى وإن كان ممكناً الاتفاق عليها بين المسلمين. فالخلاص الكامل من وهمٍ إمكانية الدولة الإسلامية ضروري، كي يتمكن المسلمون، وسواهم من المواطنين، من الحياة وفقاً لمعتقداتهم، دينيةً كانت أو غير دينية. والحقيقةُ هي أن مسألة الدولة الاسلامية ما هي إلا فكرةٌ وافده مع الحكم الاستعماري الأوربي للبلاد الإسلامية ما بعد استعمارية، ترتكن إلى نموذجٍ أوروبيٍّ للدولة، ورؤيةٍ شموليَّةٍ للقانون والسياسة العامة، كأدواتٍ للتشكيل الاجتماعيِّ، في يدِ النخبة الحاكمة. ورغم أن الدولَ التي حكمت تاريخياً بلاد المسلمين كانت تلتمس دوماً شرعيةً إسلاميةً، إلا أنها لم تزعم أبداً كونَها "دولةً إسلاميةً". أما أنصار ما يُسمَّى بالدولة الاسلامية في العصر الحديث، فإنهم يبغون استغلال مؤسسات الدولة، وقوتِها، مما أسَّسَه الاستعمارُ الأوروبيُّ، واستمر بعد الاستقلال، لينظموا بالقوة الجبريةِ السلوكَ الفرديَّ، والعلاقات الاجتماعية، بالكيفية التي تنتقيَها الصفوةُ الحاكمة. وإنه لمن الخطورة بمكانٍ أن تتقدم هذه المبادرات الشمولية باسم الاسلام، لأنه يصبح من الأصعب مقاومتُها عما إذا كانت تمثل رؤيةً لدولةٍ مدنيةٍ، لا تدعي شرعيةً دينيةً لشموليتها. في نفس الوقت، نجد أن فصل أي دين عن الدولة هو أمرٌ عسيرٌ كذلك، لأنه على الدولة ذاتها أن تنظم دور الدين، كي تحافظ على حيادها الديني، مما هو ضروريٌّ للقيام بدورها كوسيطٍ محايد، بين قوىً سياسيةٍ واجتماعية متنافسة، كما بينا سابقاً.
    السببُ الآخر للإصرار على حِياد الدولة تجاه الدين هو أن ذلك شرطٌ ضروريٌّ للإذعان المسلمين لأحكام الشريعة الاسلامية، وتطبيقها كالتزامٍ دينيٍّ. مِثل هذا الإذعان يجب أن يكون إرادياً تماماً، فهو مبنيٌّ على نيَّةٍ، ينفِيها الارغامُ الجبريُّ للدولة فإذا أراد المسلمون اقتراحَ سياسةٍ أو تشريعٍ موافقٍ لعقيدتهم الدينية، كما هو حق لكل مواطن، عليهم أن يدعموا اقتراحَهم ذاك بما أسمِّيه "المنطقَ العام". وكلمة "عام" هنا ترجع إلى الحاجة إلى الإعلان عن منطق السياسة أو التشريع المقترح، وإلى الحاجة لأن تبقى عملية الحوار العام هذه علنية ومتاحةً لكل المواطنين. وليس على أساس فرض عقيدة البعض على الآخرين. بالمنطق العام أنا أعني إذن وجوبَ ارتكاز التشريع أو السياسة العامة إلى ذلك النوع من المنطق المشاع، الذي يُمْكِن لكل مواطن أن يقبلَه أو يرفضَه، أو بتقديم البديل من المقترحات، من خلال عملية الحوار العام، دون أن يُتَّهمَ في دينه أوتقواه. المنطقُ العامُ، لا المعتقدات أو الدوافع الشخصية، هو أساس التشريع والسياسات العامة، سواءً مثَّل المسلمون أغلبيةً أو أقليةً، في مجتمعهم الذي يعيشون فيه.
    ليس من المتوقع أن ينصَاعَ الناسُ جميعاً لمتطلباتِ المنطق العام، منذ الوهله الأولى لأن ذلك إنما يأتي عن قناعة على مدى الدوافع الداخليَّة والضمير. من الصعبِ أن نعلم لماذا يُصوِّتُ الناخبون بشكلٍ معينٍ، أو كيف يبررون اختياراتِهم السياسية لأنفسهم. لكنَّ الهدف يجبُ أن يبقى دفع المنطق والتفكيرِ العام، وتشجيعُهما، مع إضعاف النزعة إلى المعتقدات الدينية الشخصية كأساس للسياسة العامة والقانون افتراضَ أنَّ ولا يصح المهيمنين على الدولة محايدون في أداء أعمالهم الرسمية، فالأرجحُ أن الناسَ سيستمرون في العمل وفقاً لمعتقداتهم، ومبرراتِهم، الشخصية. والمطالبةُ بإظهار المبرِّرات، ومناقشتِها بشكلٍ عامٍ ومفتوحٍ، وفقاً لمنطقٍ يستطيع الجميع أن يقبلوه أو يرفضوه بحريةٍ، ستؤدي تدريجياً إلى تشجيعِ وتطويرِ إجماعٍ أوسعٍ، بين عامة المواطنين، يتجاوزُ المعتقداتِ المحدودة، دينيةً كانت أو غير دينيةٍ، للأفراد والجماعات المختلفة. والمقدرةُ على إظهار ألوانٍ من المنطق، ثم الجدالُ حولها بشكلٍ عامٍ، موجودةٌ فعلاً في العديد من المجتمعات. لذا، فإن ما أدعو إليه هو دفعُ هذه العملية بصورة متعمدة بعيدة المدى، لا افتراضُ غيابِها، أو المطالبةُ بغرضها كاملةً على نحوٍ فوري. وآملُ أن هذا الجهد لدفع ممارسةِ المنطق العام سيصبح أكثر وضوحاً، مع ما أبينهُ في هذا الفصلِ، وما يليه من فصولٍ.
    هناك مسألةٌ إصطلاحيةٌ يجب أن أوضحها هنا، وهي العلاقةُ بين أطروحتي الأساسيةِ في هذا الكتاب، ومصطلحِ ومفهوم "العلمانية". يتشابهُ النصفُ الأول من أطروحتي، بفصل الاسلام عن الدولة، مع العلمانية، كما يفهمها ويرفضها غالب المسلمين باعتبارها استبعاد كامل للإسلام عن الحياة العامة. أما النصفُ الآخرُ من الأطروحة، بتأكيد الصلةِ بين الاسلام والسياسة، فهو يراعي تلك المخاوفِ من العلمانية. والادراكُ السلبيُّ الشائعُ للعلمانية، في ربوع المسلمين، لا يميزُ بين فصلِ الاسلام عن الدولة، من ناحيةٍ، وصلته بالسياسة، من ناحيةٍ أخرى. وغيابُ التمييزِ هذا يؤدي إلى فهمٍ لفصل الاسلام عن الدولة باعتبارِه عزلاً للاسلام عن المجالِ العام، وحصرَه في المجال الخاص. وبما أن هذا ليس ما أدعو إليه، فقد يكون من الحكمة استعمالُ مصطلح الدولة المدنية، بدلاً من العلمانية، لكيلا أضعف موقفي بالرؤية السلبية الشائعةِ عن العلمانية بين المسلمين. فبدلاً من تبديد الجهد في تصحيح الفهم الشائع للعلمانية، فسوف استخدم مصطلح الدولة المدنية على أن يفهم بأنه فصل الإسلام عن الدولة مع ضبط وتنظيم علاقة الإسلام بالسياسة كما سبق القول.
    النقطةُ الاصطلاحيةُ الأخرى هي استخدامي لمصطلحِ "الدولة القطرية" بدلاً من "الدولة القومية"، فالمَعْلَمُ الحاسِمُ للنموذج الأوروبيِّ، كما تُطبقَه كلُّ المجتمعات الاسلامية، هو السُلطةُ الكاملة للدولة، على إقليمٍ معينٍ، والسكانِ الذين يعيشون به، بغضِّ النظر عما إذا كانوا يُشكِّلون معاً "قوميةً"، ترتكِنُ إلى وحدةٍ تاريخيةٍ إثنيةٍ، أو لغويةٍ، أو ثقافية. أجِدُ أيضاً أن "القومية" تؤدي إلى سياساتٍ فاشيةٍ، تنتهكُ حقَّ الأفراد والمجتمعات في تقرير مصيرهم، وهو الحقُّ الذي من أجله نشأت الدولةُ في المقام الأول. أملي إذن أن أساهم في تغيير توجهات المسلمين نحو الطبيعة المدنية الأصيلة للدولة، والدور الحاسم لمبادئ حقوق الانسان والمواطنة، في التوسط الدائم، والتفاوض، بين علاقات الاسلام والدولة والمجتمع. وسياقُ التفاوض المستمر لهذه العلاقات، في المجتمعات الاسلامية الحاضرة، يتشكَّلُ من خلال التحوُّلات العميقة، للمؤسسات والهياكل، السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والتي يحيا المسلمون، ويتواصلون بالمجتمعات الأخرى، في ظلالها. وهذه القدرة على إقامة تلك العلاقات هي نتيجةٌ للاستعمار الأوروبي، والعولمة الرأسمالية. يتشكل هذا السياقُ أيضاً بالظروف الاجتماعية والسياسية الداخلية لكل مجتمع، بما فيها من تغييراتٍ استلهمتها هذه المجتمعاتُ من خارجها، في مسيرةِ لحاقِها بالأشكال الغربية لتكوين الدولة؛ من تنظيماتٍ تعليميةٍ، واجتماعيةٍ، ونظمٍ إدارية، وقانونية، بعد تحقيقِها للإستقلال السياسيِّ. وكلُّ المجتمعات الاسلامية لا تحيا فقط في دولٍ قطرية، مندمجةً تماماً مع نُظُمٍ أمنيةٍ وسياسيةٍ واقتصاديةٍ عالمية، ذاتِ تأثيراتٍ ثقافيةٍ مُتَبَادَلَة، بل هي تُشارِكُ طواعيةً، وباستمرارٍ،في هذه العمليات.
    سأقدم الآن بعضَ التوضيح، للعلاقة بين الاسلام والشريعة والدولة، من وجهة نظرٍ تاريخية. لكني لن أورد المصادر العلمية، الداعمة لأطروحاتي المختلفة، في هذا الفصل، لأنها جميعاً ستُغَطَّى بتفصيلٍ أكثرٍ، وذكرٍ وافٍ للمصادرِ المرتبطةِ بها، في الفصول اللاحقة من هذا الكتاب، ولأن ذكرَها قد يصرف القارئ عن متابعةِ الرؤية العامة، للأفكار والموضوعات الرئيسية، والتي أتناولُها تفصيلاً، فيما بعد.
    أ- الاسلامُ، والشريعةُ، والدولة
    بما أن موضوعَ الكتابِ هو العلاقةُ بين الاسلام والدولة والمجتمع، فمن المهم أن نوضح باختصارٍ هذه المصطلحات. وقد تبدو التعريفاتُ التالية واضحةً لعديدٍ من القراء، لكنه من الأفضل تعريفَها، لتجنب أيَّ خلطٍ، أو سوءَ فهمٍ، لدى القارئ. ولهذا أهميةٌ خاصةٌ هنا، حيث أحاول تغييرَ توجهاتِ المسلمين كمسلمٍ، لا كباحثٍ مبتوتِ الصلة بموضوعِ بحثه.
    هناك بدايةً الفهمُ العامُ للاسلام باعتباره الديانةَ التوحيدية، التي أتى بها النبي محمدٌ صلى الله عليه وسلم، بين عامي 610 و632 ميلادية، حين تلى القرآن، ثم وضح معناه وأحكامَه فيما عُرِفَ باسم سُنَّةِ النبي صلى الله عليه وسلم. ولذا يُشكِّلُ هذان المصدران الأساس المرجعي لأيِّ فهمٍ لمصطلحِ الاسلامِ، أو ما اشتُقَّ عنه من مفاهيمٍ، أو صفات، بين المسلمين. إنهما مصدرَ العقيدةِ التي يتمسَّكُ بها كل مسلمٍ، وبيانَ عبادته التي يتبعها، وخُلُقَهُ الذي عليه أن يتخلَّقَ به. ومن القرآن والسنةِ يلتمسُ المسلمون الترشيد والتسديد، لتطوير علاقاتهم الاجتماعيةِ والسياسية، ومعاييرِهم القانونية، ومؤسساتِهم المختلفة. الاسلامُ بهذا المعنى التأسيسيِّ هو إطلاقٌ لقوةٍ تحررية، تنبع من إيمانٍ عميقٍ بإلهٍ واحدٍ، قاهرٍ، شهيد؛ إنه التوحيد. ذلك هو معنى الاسلامِ الذي تعرفه الغالبيةُ العظمى للمسلمين، في حياتِها اليومية، وهي تلتمس هدايتَه الروحية، في القيام بما أمرَ اللهُ به عبادَه في هذه الدنيا. وهذا هو أيضاً المنظور الذي أعتمده أنا في معالجة القضايا الخاصَّةَ بالدولةِ والمجتمع، كما سأبينه بالتفصيل لاحقاً.
    يُستخدَمُ مصطلحُ الشريعة، في الخطاب الاسلاميِّ المعاصر، كما لو كان مطابقاً للاسلام، بالمعنى الذي بيناه سابقاً، أي كمجموعِ واجبات المسلم، في كلٍّ من حياته الدينية الخاصة، ومؤسساته ومعاييره الاجتماعية والسياسية والقانونية. مع ذلك، فمبادئ الشريعة ما هي إلا حاصلُ التفسيرات الانسانية، للقرآن والسنة؛ إنها ما يمكن للانسان أن يفهمَه، ويَنْشُدَهُ، في سياقه التاريخي الخاص. الاسلام لهذا أوسع معنىً من الشريعة، رغم أن معرفةَ الأخيرة، والخضوعَ لها، هو سبيلُ إدراك الاسلام، وتحققُ التوحيد، في الحياة اليومية. الشريعة إذن هي البوابةُ والطريقُ، لكي يكون المرؤ مسلماً، لكنها لا تستنفد أبداً إمكانياتِ المعرفة الانسانية بالاسلام، ومحاولات الحياة من خلاله. المرجعية الاسلامية، سواءً عادت إلى الاسلام أو الشريعة، هي إذن ناتجٌ لما أسميه "التجربة الانسانية في اطار القرآن والسنة" ، هي منظومةٌ للمعنى تنشأ عن الممارسة البشرية، والتفكير المتعمق، بل وما يتطور باتساعٍ عن المنهجية المستقرة كذلك.
    فرضيةُ أي خطاب إسلامي هي أن كل مسلم أو مسلمة مسئولٌ مباشرةً عن معرفة ما هو مطالبٌ به، والانصياع له، كواجب ديني. والمبدأ الأصلي بالمسئولية الفردية، والذاتية، والتي لا يمكن إلغاؤها أو إسقاطها، هو أحد المبادئ الأساسية المتكررة بالقرآن. مع ذلك، فحينما يحاول المسلمٌ معرفة ما تتطلبه الشريعة منه، في موقفٍ معين، فإنه على الأرجح سيسأل أحد العلماء، أو شيوخ الصوفية، ممن يثق بهم، لا أن يرجع مباشرة إلى القرآن والسنة ذاتهما. على أية حال، فسواء رجع السائل بنفسه، أم سأل عالماً، فإن الجوابَ يأتي بالضرورة عن طريق الرجوع إلى القرآن والسنة، من خلال البنية والمنهج اللذين نشأ الفرد على قبولهما. تجري هذه العملية إذن وفقاً لمذهبٍ معين، بتعاليمه ومنهجيته، لا من خلال رؤيةٍ جديدة تماماً أو على نحو مبتكر. وبعبارة أخرى، فإن كل فهم أو رؤية ييقى مغروساً في تصورات سابقة، تبين كيفية تحديد النص القرآني أو النبوي المتعلق بالحادثة، وكيفية تفسيره.
    هنا لا يباشر المسلمون المَصدريْن الأوليين دونما مرور عبر مرشحات، من خبرات الأجيال السابقة، وتفسيراتها، وارتكان إلى منهجية تفصيلية، تحدد من خلالها موافقة النص للموقف الراهن، والكيفية التي يصّنف ويفهم بها. التجربة الانسانية لذلك هي جزءٌ أساسيٌّ لأية مقاربةٍ للقرآن أو السنة، وعلى مستويات متعددة، بدءاً من الخبرات والتأويلات المتراكمة عبر العصور، ووصولاً إلى السياق المعاصر الذي تُنْشَدُ فيه المرجعيةُ الاسلامية. السؤال التالي، من أجل توضيح مختصر في هذه المرحلة التمهيدية، هو: كيف نستحضر إطاراً مرجعياً إسلامياً، من وجهة نظرٍ مؤسسيةٍ، لسياسةِ الدولة وتشريعِها؟
    كمؤسسةٍ سياسية، لا تملك الدولةُ في حد ذاتها أن تشعرَ أو تعتقدَ أو تتصرفَ، وإنما هو الانسان الذي يتصرفُ باسم الدولة، أو يحركُ قواها، أو يُفَعِّلُ أجهزتَها. لذا، فحينما يتخذ إنسانٌ قراراً سياسياً ما، أو يقترحُ تشريعاً، مفترِضاً أن هذا أو ذاك مجسدٌ للمبادئ الاسلامية، فإنه بالضرورة يعكس وجهةَ نظره الشخصية في الموضوع، لا وجهةَ نظر الدولة ككيانٍ مستقل. فضلاً عن ذلك، يحدث الشيء نفسه، حين يتحدث زعيمٌ سياسيٌّ، باسم حزبه، ليقدم مقترحاً بسياسةٍ أو تشريع. صحيح أن المواقف الخاصة، والمتعلقة بالتشريع أو السياسات، يمكن التفاوض حولها، لكن المحصلة هي دوماً نتيجةٌ للتقديرات البشرية الفردية، والاختياراتِ الانسانية، لقبول وتفعيل وجهة النظر التي اتفق عليها الأشخاص المعنيون بالأمر.
    على سبيل المثال، معاقبة شرب الخمر، أو منع التعامل بالربا قانونا، هو بالضرورة رؤيةٌ بشرية في اطار سياسي وقانوني محدد تتخذ بعد النظر في كل الاعتبارات العملية، بحيث تعكس الصياغة المستخدمة في التشريع، والاجراءاتُ المتبعة في التطبيق، نفسَ التقديرات والخيارات البشرية. ما نقصده هنا، هو أن كافة خطواتِ عمليةِ وضعِ السياسات والتشريعات، وتطبيقهما، تخضع دوما للخطأ البشري، بما يجعلها أبداً عُرضةً للمسائلة والاختبار، دون أن ينعكس ذلك على الاعتقاد الديني في إلزامية الحكم الشرعي على المسلم. وهذا طرف من قولي بضرورة دعم شئون السياسة العامة، والتشريعات، بالمنطق العام، بين المسلمين الذين يكون بمقدورهم الخلاف حول تلك الأمور، بمعارضة التحريم العقابي أو المنع، أو تغيير القانون إذا تم تشريعه دون التعرض للنقد أو القدح في عقيدتهم الدينية.
    لقد أسس علماء المسلمين الأوائل الاطار العام والمنهج التفسيري المعروف باسم "أصول الفقه" من أجل أن يتفهموا، ويطبقوا، تعاليم دينهم، كما وردت بالقرآن والسنة. وما يتضح من صيغ هذا العلم الأساسي هو أن هؤلاء العلماء اجتهدوا لوضع قواعد، لتفسير نصوص القرآن والسنة، في ضوء خبراتهم التاريخية المبكرة. يُعرِّفُ هذا العلم وينظِّمُ أيضاً التقنياتِ التشريعية، كالاجماعِ والقياس والاجتهاد. وهذه التقنيات هي مناهج في الفهم واستخلاص الأحكام الشرعية من التجربة البشرية، وليست مصادر للتشريع من ناحية المحتوى الموضوعي. لكن للإجماع والإجتهاد أدواراً تأسيسيةً أبعد مدى من معناهما الفني. وإنه هذا المعنى البعيد نفسه الذي يمكن أن يكون الآن وغداً أساساً لعمليةٍ أكثر دينامية وإبداعاً لتطوير الشريعة على النحو التالي.
    الاسلام والشريعة
    لقد أجمعت أجيال المسلمين، من نشأة الاسلام وحتى الآن، على أن نص القرآن محفوظ بدقة، بين دفتي المصحف. هذا الاجماع المتواصل عبر الأجيال والقرون هو سبب قبول المسلمين في كل زمان ومكان أن هذا هو القرآن. كما تم إجماع متفاوت على السنة، والتي يقبلها عمومُ المسلمين، كتقريرٍ أصيل عن أقوال الرسول، صلى الله عليه وسلم، وأفعالِه، رغم أن الاجماعَ على السنة جاء متأخرا إذا قارناها بالقرآن، ولازال إلى اليوم موضعَ نقاشٍ بين العديد من المسلمين. وبعبارة أخرى، فإن معرفتَنا بالقرآن والسنة هي محصلةُ إجماعِ أجيالٍ متعاقبة، منذ القرن السابع الميلادي. لا نقصِد هنا، ولا نلمِّح إلى أن المسلمين قد اصطنعوا هذه المصادر عبر الإجماع، بل نشير ببساطة إلى أننا نَعْرف هذه النصوصَ ونقبلها لأن الأجيال المتعاقبة من المسلمين قد اعتقدوا ذلك. أكثر من ذلك، الإجماع هو أساس سلطة واستمرارية أصول الفقه، ومبادئه، وتقنياته، لأن هذه البنية المنهجية تعتمد دائما على قبولها من أجيال المسلمين المتلاحقة. بهذا الاعتبار، يصبح الاجماع أساس قبول القرآن والسنة، ومجموع وتفاصيل منهج فهم نصوصها كأحكام شرعية.
    ما يميز القرآن والسنة عند المسلمين عن تقنيات أصول الفقه هو استحالةُ الاضافة، إلى أيٍّ من هذين النصين الأصيلين، لأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء، والقرآن هو آخر الوحي. على النقيض، لا يوجد ما يمنع أو يبطل تكوين إجماعٍ جديد، حول تقنيات التفسير، أو حول تفسيرات جديدة، للقرآن والسنة، مما يصبح تلقائياً جزءاً من الشريعة، بنفس النهج الذي أصبحت به هذه التقنيات والتفسيرات جزءا منها في المقام الأول. ويوفر فصلُ الاسلام عن الدولة، وتنظيمُ الدور السياسي للاسلام من خلال الدستورية، واحترام حقوق الانسان، حمايةً ضرورية، لضمان حرية المسلمين في المشاركة في النظر والحوار حول فهم وتفسير نصوص القرآن والسنة لاستخلاص الأحكام الشرعية في كل زمان ومكان.
    إن أي فهمٍ للشريعة هو بالضرورة ناتجٌ للإجتهاد، ففهم معاني القرآن والسنة لا يتم إلا عبر التفكر الانساني. وخلال عملية تأسس مناهج وأحكام الشريعة، في القرنين الأول والثاني الهجريين، قام علماء المسلمين بتعريف، وتحديد، مصطلح الإجتهاد على وجهين. أولهما تقييده بالأمور التي لا تخضع للنصوص القاطعة للقرآن والسنة؛ ورغم منطقية هذا المقترح إلا أنه يفترض توافقا للمسلمين على تعيين الآيات لما يناسبها من الحوادث، وتوافقا على تأويل تلك الآيات، بل واتفاقهم على تأبيد إجماع من سبقهم من العلماء كذلك. وثانيهما التحديد المفصل لصفات المجتهد مؤهلاته، وكذلك طريقة أدائه لهذا الإجتهاد. والحق أن تعريف الإجتهاد، وتحديد شروط المجتهد، هما بالضرورة ناتج للفكر والتقدير الإنساني، وليس الوحي المنزل.
    وبما أن تعيين النصوص من القرآن والسنة التي تنطبق على مسائل أو حوادث محدده، أو الحكم بقطعية دلالتها، أو تحديد شروط المجتهد، هي كلها مما يقرره الفكر والتقدير البشريين، فإن فرض رقابة مسبقة على هذا الفكر يناقض طبيعة استقراء أحكام الشريعة من القرآن والسنة. إنه من غير المنطقي الحكم بتحريم الإجتهاد في قضية أو مسألة معينة، إذ أن هذا الحكم نفسه هو ناتج للفكر والتقدير البشريين. كما أنه لا ينبغي تقييد ممارسة الإجتهاد إلى طائفة محدودة من المسلمين، ممن يفترض إمتلاكهم لمؤهلات خاصة، لأن هذا التقييد في الممارسة سيعتمد على أولئك البشر الذين يضعون شروط الإجتهاد، وينتخبون من يرونه مؤهلا للقيام به. ومنح تلك السلطة لأية مؤسسة أو هيئة، رسمية كانت أو أهلية، هو أمر خطير، لأن تلك السلطة ستستغل غالبا لبعض المآرب السياسية أو غيرها. ومبدأ أن معرفة الشريعة هو مسئولية لازمة على كل مسلم يعني أنه لا يحق لأي إنسان أو مؤسسة أن تتحكم في تلك العلاقة بين المسلم والشريعة. ويلحق بهذا القول بأن تقرير شروط المجتهد، وقواعد الإجتهاد، هي أمور تتعلق بالعقيدة الدينية، وجزء من الإلتزام الديني لكل مسلم، لذلك من غير المقبول ديناً إقامة رقابة أو سلطة على تلك العملية. أي أن تقييد حرية الحوار بين المسلمين وإعطاء أي سلطة بشرية تقرير ما يجوز أو يجب ديناً، يناقض الطبيعة الدينية للشريعة ذاتها. وهذا المنطق هو أحد الأصول الإسلامية الرئيسة التي أقترحها لتأسيس الدولة المدنية وضمان حقوق الإنسان، والمواطنة، للجميع.
    سوف أشرح وأناقش الجوانب المختلفة لأطروحتي أثناء مسيرتي في هذا الكتاب، وما يلي هو عرض موجز لها. بدأ البناء المتكامل والمنتظم للشريعة أثناء حكم الدولة العباسية المبكرة (بعد 750م). وهذه الرؤية للتأسيس المتأخر تاريخيا للشريعة، كنظام شامل ومحكم، تبدو جليا إذا نظرنا إلى مرحلة تأسيس المذاهب الإسلامية الكبرى، والجمع المنظم للسنة، المصدر الثاني والأكثر تفصيلا للشريعة، وكذلك تأصيل المنهجية الفقهية من خلال علم أصول الفقه. كل هذه التطورات جرت في القرنين الهجريين الثاني والثالث. وشهدت الحقبة العباسية الأولى ظهور مدارس الفقه الكبرى، التي نعرفها الآن، والمنسوبة إلى جعفر الصادق، مؤسس المذهب الرئيسي للفقه الشيعي (ت 765م)، وأبي حنيفة (ت 767م)، ومالك (ت 795م)، والشافعي (ت 820م)، وابن حنبل (ت 855م).
    بعبارة أخرى، فإن الأجيال الأولى من المسلمين لم تعرف أو تطبق الشريعة، بالمعنى الذي أصبح به هذا المصطلح مفهوما ومقبولا عند غالب المسلمين اليوم. فضلا عن ذلك، فإن التطور اللاحق، للمذاهب، وانتشارها، قد خضع للعديد من العوامل السياسية، والإجتماعية، والديموغرافية. التي أدت إلى دفع نفوذ بعض تلك المدارس من منطقة إلى أخرى، أو تقييد إنتشارها في أجزاء معينة، كما هي الحال في المدارس الشيعية في وقتنا الراهن. وفي أحوال أخرى، أدت هذه العوامل إلى القضاء التام على مدارس بأسرها، كما هي الحال مع مدرستي الثوري والطبري في المذاهب السنية.
    المسألة الأخرى الواجب اعتبارها هي ميل حكام المسلمين لتفضيل إحدى المذاهب على سواها عبر التاريخ الإسلامي. على سبيل المثال، نشأت مدرسة الأحناف بالعراق، مركز قوة الخلافة العباسية، فتمتعت لذلك بالدعم الرسمي للدولة، ثم أنتقل لاحقاً إلى أفغانستان، ومنها إلى شبه الجزيرة الهندية، حيث حملها مهاجرو الهند إلى شرق أفريقيا. واتشر هذا المذهب عبر آسيا الوسطى، والامبراطورية العثمانية، حيث أصبحت قواعد الفقه الحنفي أساسا لأحكام الدولة والقضاء. لكن رعاية الدولة لمذاهب معينة لم تكن من خلال التشريع، أو التقنين، كما هي الحال الآن، بل من خلال تعيين القضاة المنتمين لمذهب بعينه، وتخصيص نطاق عملهم الجغرافي، وتحديد مجالات قضائهم.
    مع أن الإجماع بين المذاهب المختلفة كان له الأثر الإيجابي والظاهر أن مبدأ الإجماع كان عامل توحيد، جمع جوهر محتوى المدارس السنية معا، مما قلص في إستقرار أصول الفقه ومبادئ الشريعة، إلا أنه كذلك ضيّق مساحة الفكر الإبداعي للإجتهاد. والرؤية الشائعة هي أنه غدا هناك ضعف تدريجي للفكر التشريعي الإبداعي، مما يطلق عليه "غلق باب الإجتهاد"، بزعم أن الشريعة قد بلغت بالفعل مداها النهائي في ذلك الزمان. وسواء أغلق باب الإجتهاد أم لم يغلق، وهذا موضوع خلاف بين المؤرخين، فإن الواضح أنه لم يحدث تغيير حقيقي لبنية الشريعة ومنهاجها، منذ القرن العاشر الميلادي، رغم استمرار بعض التكييفات العملية، في مواقع ومجالات محدودة. والغالب أن هذا التجمد كان ضروريا للحفاظ على استقرار النظام أثناء فترات تدهور، بل أحيانا انهيار، المؤسسات السياسية والإجتماعية، للمجتمعات الإسلامية. لكن الاجتهاد، من وجهة نظر إسلامية، لا يملك أحد سلطة إيقافه، رغم ما ظهر من إجماع بين المسلمين على ذلك. لا يوجد ما يمنع إذن من ظهور إجماع جديد على ضرورة إطلاق حرية الإجتهاد، لمواجهة الطموحات والإحتياجات الجديدة للمجتمعات الاسلامية.
    الاسلام والدولة
    إن الطبيعة الدينية الأساسية للشريعة، وتركيزها على تنظيم العلاقة بين المؤمن وربه، تعنى أن تلك المسئولية لا يمكن التنازل عنها، أو تفويضها. ولا يمكن لمؤسسة بشرية، إدارية أو قضائية، أن تكون دينية بهذا المعنى، حتى حين تزعم تطبيقها أو فرضها لمبادئ الشريعة. وبعبارة أخرى، فإن الدولة بكافة مؤسساتها، هي ذات طبيعة مدنية لا دينية، مهما كانت المزاعم بالدولة الدينية. كذلك في مسألة الإفتاء التي تتعلق أيضاً بالطبيعة الدينية للشريعة، فقد قام العلماء المستقلون عن سلطة الدولة بإصدار فتاوى تقابل حاجات حكام الامارات، وقضاة الدولة، وعامة المسلمين. إلا أن هذه الممارسة، حتى عندما تأخذ شكل مؤسسة رسمية، لا تعفي المسلم طالب الفتوى من مسئوليته وجهة نظر دينية، عما يتخذه أو يدعه من تصرف بناء على الفتوى، كما يكون المفتي مسئولا كذلك عن فتواه. ستبقى بالطبع الحاجة العملية للإدارة والقضاء، كما ستبقى الحاجة لإلتماس الفائدة من معرفة العلماء وآرائهم. ما أعنيه ببساطة هو أن هذه الأعمال مدنية بطبيعتها، لأنها لا يمكن أن تحل محل المسئولية الدينية لكل مسلم. ويمكن التمثيل على هذه الأطروحة بالنظر لتجربة الإمبراطورية العثمانية.
    فقد اضطرت الضرورة العملية سلاطين الإمبراطورية الاختيار بين المذاهب الفقهية، فأخذو بالمذهب الحنفي، ثم قننوا مبادءه في منتصف القرن التاسع عشر. وأصبح ذلك أول مرة يتم فيها تحويل الشريعة إلى مواد مقننة ، تسن باعتبارها القانون الرسمي الموحد داخل أراضي الإمبراطورية. ومسألة اعتماد الدولة العثمانية على المذهب الحنفي ترجع لتفضيل تلك الدولة لذلك المذهب وليس لأنه يحتكر الرأي الصحيح في الشريعة دون غيره من المذاهب، لكن يبقى ضروريا على كل دولة أن تنتقي بين ومثل هذا الإنتقاء ضروري لكل دولة تحاول تقنين الشريعة، إذ أنه يستحيل عليها إعمال كافة آراء المذاهب والعلماء. وقد أدى هذا التقليد الذي ابتدعه العثمانيون لأول مرة إلى تأسيس انتقائية الدولة، لبعض الآراء دون بعضها، لكنه ظل محصورا في نطاق الأحوال الشخصية، إذ حلت القوانين الأوروبية محل الشريعة في كافة المجالات الأخرى. وقد حدث نفس هذا الإحلال لقوانين المستعمر الأوروبي محل الشريعة، والنظم العرفية المحلية، في باقي البلاد الإسلامية ما عدا الأحوال الشخصية، والتي سنت قوانينها وفقا لأحد المذاهب المعمول بها. على أية حال، أدى هذا الوضع المستحدث إلى مصادمة، بين حاجة الدولة لتبني مذهب أو رأي محدد بجعله القانون النافذ بإرادة الدولة وبين الحاجة لاستقلالية الشريعة عن السلطان، فالمفترض في الحاكم أن يحمي الشريعة، لا أن يصنعها أو يسيطر عليها. وهكذا، وحتى زماننا الحاضر، بقيت الشريعة حكماً دينيا على المسلمين، مستقلة عن سلطة الدولة، بينما لم تكف الدولة عن محاولة استخدام الشريعة لتدعيم شرعيتها السياسية.
    فضلا عن ذلك، أصبحت تنازلات العثمانيين للقوى الأوروبية نموذجاً لتبني النظم القانونية للدولة الغربية. وقد بررت المراسيم الإمبراطورية تلك التغييرات ليس فقط لأغراض تقوية الدولة، والحرص على مكانة الإسلام في المجتمع، بل كذلك بالحاجة لتأكيد المساواة بين المواطنين العثمانيين، مما مهد لقبول النموذج الأوروبي للدولة القومية، القائم على مبدأ مساواة مواطنيها أمام القانون.
    أدخلت الإصلاحات السالفة الذكر على النظام القانوني العثماني القانون التجاري في عام 1850، وقانون العقوبات عام 1858، وقانون الإجراءات التجارية عام 1879، وقانون الإجراءات المدنية عام 1880، وقانون التجارة البحرية، مقتفية في ذلك نموذج القانون المدني الأوروبي، الساعي لسن قوانين شاملة تغطي كل القواعد المناسبة. ورغم أن مبادئ الشريعة قد أقصيت بشكل كبير عن هذه القوانين، إلا أنه كانت هناك محاولة للإحتفاظ ببعض عناصرها. صدرت "المجلة"، والتي عرفت لاحقا بالقانون المدني لعام 1876، خلال فترة عشرة سنوات، من 1867: 1877. وتم فيها تقنين قواعد العقود، والضرر، وفقا للفقه الحنفي، جامعة في ذلك بين الشكل الأوروبي، والمحتوى الاسلامي. وقد قام هذا التقنين الواسع المدى لمبادئ الشريعة على تبسيط هائل للاحكام المتعلقة بهذه المواضيع، وجعلها أيسر منالا للمتخاصمين والقضاة أو المحامين.
    اكتسبت "المجلة" نفوذاً كبيراً عندما أصبحت قانوناً، وصارت نموذجا مبكرا، لنشر أجزاء كبيرة من الشريعة، بواسطة سلطة الدولة، محولة بذلك مبادئ الشريعة إلى قانون وضعي، بالمعنى الحديث للمصطلح. أكثر من ذلك أن هذا التشريع جرى تطبيقه على نطاق واسع للمجتمعات الاسلامية داخل الامبراطورية العثمانية، كما استمر تطبيقه في بعض البقاع، في النصف الثاني من القرن العشرين. ويعود نجاح "المجلة" أيضا إلى اشتمالها على بعض الفقرات المأخوذة من غير المذهب الحنفي، موسعة بذلك من إمكانية الانتقاء بين خيارات أوسع بين المذاهب والآراء الاسلامية المتعددة. وكان مبدأ التخير قد تم قبوله بالفعل نظريا، لكنه لم يستخدم عمليا على مثل هذا المستوى العام والرسمي. وبتطبيقها عبر مؤسسات الدولة فقد فتحت "المجلة" الباب لإصلاحات لاحقة، رغم محدودية غرضها في البداية. مع ذلك، فقد أعاقت في نفس الوقت إمكانية العمل بآراء المذاهب الأخرى بما قننته من أحكام المذهب الحنفي، رغم ما اشتملت عليه من تخير، واحتواء لآراء شتى. وما نريد تأكيده هنا، هو أن العملية بأسرها هي ناتج للسلطة السياسية المدنية للدولة، وليس السلطة الدينية للشريعة.
    تلك النزعة المتزايدة للإنتقائية، في تخير المصادر، وتركيب المفاهيم والمؤسسات القانونية الغربية والاسلامية معاً، ذهبت إلى مدى أبعد شوطا، عبر أعمال فقيه القانون المصري عبد الرازق السنهوري (ت 1971). والمحاولة الواقعية التي طبقها السنهوري قامت على التسليم بأنه لم يعد بالامكان إسترجاع الشريعة كاملة دون تغيير، وأنه لا يمكن تطبيقها دون أن تتكيف مع حاجات المجتمعات الاسلامية الحديثة. لقد استخدم السنهوري هذه المقاربة عند صياغته لمشروع القانون المدني المصري عام 1948، والقانون العراقي عام 1951، والقانون الليبي عام 1953، والقانون الكويتي والتجاري عام 1960/61. وفي جميع تلك الحالات كان السنهوري يستدعى بواسطة حاكم متفرد بالسلطة، لوضع مشروع قانون شامل، يسن لاحقا دون نقاش أو تداول ديمقراطي للتشريع. من الصعب إذن معرفة مدى قبول هذا النموذج لو كانت تلك البلاد ديمقراطية. لكن مهما كانت درجة استيعاب الشريعة داخل تلك القوانين، فمن الواضح أن العملية ذاتها كانت تشريعا مدنياً، لا إنفاذا مباشرا لمبادئ الشريعة، من منظور إسلامي واجب ديناً.
    يلاحظ هنا أن تلك التشريعات مكنت القضاة من الإطلاع على عموم الآراء والمذاهب الفقهية الإسلامية، وصناع السياسات، في عملية تخير بعض الجوانب، وتكييفها، لتدمج داخل التشريع الحديث. وأظهر تركيب التقاليد التشريعية الأوروبية والاسلامية استحالة التطبيق المباشر والمنظومي، لمبادئ الشريعة التقليدية في السياق الحديث. والسبب الرئيسي لذلك هو تعقيد الشريعة ذاتها، وتنوعها، خلال تطورها عبر القرون. فبالاضافة إلى الاختلافات الواسعة داخل المجتمعات السنية والشيعية، وبين بعضها البعض، والتي تتواجد أحيانا داخل البلد الواحد، كما هو الحال في العراق، ولبنان، والسعودية، وسوريا، وباكستان، فإن المجتمع المسلم قد يتبع مذاهب أو آراء شتى، رغم عدم تطبيقها رسميا في المحاكم. والممارسة القضائية في بلد ما قد لا توافق مذهب المتبع عند غالب سكانه، كما هو الحال في دول شمال أفريقيا، التي يتبع غالب سكانها المذهب المالكي، بينما تطبق دولها، تأثرا بماضيها العثماني، المذهب الحنفي. وحيث أن الدول الحديثة لا يمكنها العمل دون مبادئ قانونية، مستقرة رسميا، ومطبقة بشكل عام، فإن مبادئ الشريعة لا يمكن سنها قانونا، أو فرضها كقانون وضعي في أي دولة، دون أن تخضع لعملية تخير بين تأويلات مختلفة، تتساوى جميعا في اعتبار الشريعة لها. هذه المسألة لا يمكن ببساطة تجنبها، سواء من قبل الاسلاميين الذين ينشدون إقامة ما يسمونه بالدولة الاسلامية، عبر تطبيق كامل للشريعة، أو من قبل النظم المدنية التي تزعم فرض مبادئ الشريعة في مجال الأحوال الشخصية.
    كما تفاقمت الآثار السياسية والقانونية لهذه التطورات من خلال التغيرات الكبرى التي أدخلها الاستعمار وإستمرار علاقة التبعية حتى بعد الإستقلال، وذلك في مجال التعليم العام، والتدريب المهني لموظفي الدولة. حيث استبدلت الشريعة في مناهج المؤسسات التعليمية بالتركيز على العلوم الاجتماعية والطبيعية وفق المفاهيم الغربية. وفي مجال التعليم القانوني خاصة، فإن الجيل الأول بعد الإستقلال من المحامين والقضاة قد تلقى تدريبا متقدما في جامعات أوروبا وأمريكا الشمالية، وعاد ليدرس للأجيال اللاحقة، أو يتولى المناصب القانونية الرفيعة. هذا بالإضافة إلى إشاعة فرص التعليم على تفاوت بين مراحله المختلفة، وإنحسار الأمية التي كانت سائدة في المجتمعات الاسلامية. فهذا الإنتشار الديمقراطي للتعليم والمعرفة أفقد علماء الفقه الإسلامي امتيازهم وقيادتهم الفكرية التي كانت سائدة في الماضي.
    بالتالي فلم يفقد العلماء احتكارهم لمعرفة المصادر المقدسة للشريعة فحسب، بل أصبح بوسع عموم المسلمين تدريجيا مساءلة التأويلات التقليدية لتلك المصادر. وهذه الفرصة متاحة الآن لدعاة الدولة المدنية، وحماية حقوق الانسان، أن يزيدوا من معرفتهم بالمصادر الاسلامية للشريعة، وتاريخها، ومنهجيتها، كي يصبحوا أكثر مقدرة على مجابهة المذاهب والأفكار. وليس المقصود بذلك إنشاء عملية، أو مؤسسة، رسمية لاعتماد من يصلح للاجتهاد، بل على العكس، هناك واجب ديني على كل مسلم ومسلمة، أن يتفقهوا في دينهم، بما يمكنهم من النظر فيه، ليستخلصوا أحكامه في حياتهم الشخصية، ويعبروا عن رؤاهم في الشئون العامة. فمن الواضح عملياً أن هؤلاء الذين يدركون مصادر الشريعة ومنهاجها هم أكثر نفوذاً وإقناعا من أولئك الذين يفتقرون إلى تلك المعرفة.
    التحول الهام الآخر في حياة المجتمعات الاسلامية، والذي يعنينا هنا، يتعلق بطبيعة الدولة ذاتها في سياقها المحلي والعالمي. رغم الاعتراضات الواضحة على الطريقة التي استقرت بها الدولة، تحت الرعاية الاستعمارية، فإن رسوخ نموذج الدولة الأوروبي في المجتمعات الاسلامية، كجزء من نظام عالمي يرتكز على نفس النموذج، قد بدل جذريا العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في شتى البقاع. وباحتفاظها بهذا الشكل الخاص لتنظيم الدولة بعد الاستقلال، تكون المجتمعات الاسلامية قد اختارت أن تتقيد بالقدر المتعارف عليه من الالتزامات القومية والدولية، لعضويتها بالمجتمع العالمي للدول الاقليمية. ومع وجود فروق واضحة في مستوى نموها الاجتماعي، واستقرارها السياسي، عبر دولها، فإن المجتمعات الاسلامية اليوم تحيا تحت نظم دستورية قومية، ونظم قانونية، تتطلب المساواة وعدم التمييز بين مواطنيها. وحتى حين تقصر الدساتير القومية، والنظم القانونية الوطنية، عن التعبير عن هذه الالتزامات بوضوح، أو رعايتها بفعالية، فإن واقع العلاقات الدولية الحالي يضمن درجة دنيا من الانصياع العملي. وهذه التغيرات لا يمكن ببساطة الرجوع عنها، رغم أنه لا زالت هناك حاجة ملحة وماسة لتوافق أكبر وأشمل، مع متطلبات الحكم الديمقراطي، وحماية حقوق الانسان، في معظم هذه البلدان، وغيرها من مجتمعات العالم.
    وخلاصة هذا العرض المختصر أنه من الواضح وجود حاجة ملحة للمضي في عملية الاصلاح الاسلامي، حتى يتوافق الالتزام الديني للمسلمين مع المتطلبات العملية لمجتمعاتهم اليوم. والمنطلق الأساسي لعملية الاصلاح الحيوية هو أن المرجعية الاسلامية هي دائما قائمة على القرآن والسنة، لكن الفهم البشري لهذه المصادر الأصيلة لايكون إلا في الإطار التاريخي والتجربة العملية في حياة المسلمين. فلا يمكن أن تعرف الشريعة، أو تطبق، في هذه الحياة، إلا من خلال التجربة الإنسانية. وكل ما يدركه المسلمون اليوم من تصورات للشريعة، حتى تلك التي ينعقد حولها إجماعهم، ما هي إلا حاصل آراء بشرية عن معنى القرآن والسنة، قبلتها أجيال المسلمين السالفة، ومارستها مجتمعاتهم. وبعبارة أخرى، فإن الآراء المختلفة حول أحكام الشريعة قد أصبحت كذلك بحكم إجماع المسلمين عليها، عبر قرون عدة، وليس لفرضها قانوناً، بواسطة الدولة، أو من مجموعة متفردة من العلماء.
    ب-منهجية ومسار التحول الإجتماعي
    يقتضي فصل الإسلام عن الدولة ضبط، المساحة المتعلقة بتصرفات الدولة، عبر سياساتها الحكومية، وكذلك الاصلاحات الدستورية والقانونية. هناك أيضا مساحة المجتمع، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، حيث يكون السعي لتأكيد الحياد الديني للدولة، والدستورية، وحقوق الانسان، بشكل يتسق مع الاسلام، ويؤثر على الثقافة الشعبية والسلوك الاجتماعي وهذان المجالان للتغيير والإصلاح، عبر التغييرات الرسمية المؤسسية، والمدنية، هما في الواقع متكاملان متساندان. ومع أن كل منهما قد يستدعي أعمالا واستراتيجيات مختلفة، تتباين حسب السياق الاجتماعي والثقافي، فما يتم في أي من المجالين يؤثر على الآخر. فضمان حقوق الإنسان يوسع فرص الحوار والإصلاح الديني الذي ينعكس على سلوك المسلمين وقبولهم لمشروعية حقوق الإنسان التي تؤدي بدورها إلى المزيد من الحماية تلك الحقوق. وحتى تأتي هذه التحولات المتفاعلة ثمارها ينبغي علينا أن ننظم ونضبط العلاقة بين الإسلام والسياسة لكي نضمن إستمرارية فصل الإسلام عن الدولة.
    التحولات المقترحة، إذن، تعترف بالأدوار المتعددة للإسلام في مجتمعات المسلمين كدين، وبشكل أوسع، كثقافة وأساس للممارسة الإجتماعية. ويشير هذا إلى بعد ثالث في مقترحي، وهي مسألة غرس التغيير الإجتماعي في ثقافة المجتمع، أو منحه الشرعية الثقافية. وكما سأؤكد مرارا في هذا الكتاب، فإن فصل الاسلام عن الدولة لا يعني إقصاء الاسلام عن السياسة العامة، والتشريع، والحياة العامة بشكل كلي، شريطة أن يدعم ذلك بالمنطق العام، وأن يخضع لوقاية المبادئ لدستورية، وحقوق الانسان. للشريعة إذن أهم مستقبل في المجتمعات الاسلامية، لدورها التأسيسي في تطبيع الأطفال إجتماعيا، وإضفاء الطابع الديني على المؤسسات والعلاقات الإجتماعية. كما لها دور هام آخر في صياغة وتطوير تلك القيم الأصيلة، التي تترجم إلى تشريعات وسياسات عامة، عبر العملية السياسية الديمقراطية. لكنها مع ذلك لا تملك مستقبلا كنظام معياري، تفرضه الدولة وتشرعه، كقانون عام وسياسة عامة. يمكن بالطبع الزعم بأن قانونا ما أو سياسة معينة هما الشريعة، لكن هذا الزعم يبقى زائفا أبدا، لأنه لا يعدو كونه محاولة لإضفاء قداسة الاسلام على الإرادة السياسية للصفوة الحاكمة.
    لا يمكن تحقيق التحول الثقافي، أو التغيير الإجتماعي، كمبادرة خارجية تماما، لا تأبه بالتاريخ أو الثقافة أو الممارسة الإجتماعية. بل إن التحول الثقافي، والتغيير الإجتماعي، يجب أن يغرسا ويرسخا في ثقافة المجتمع نفسه، ليكون لهما الشرعية والتماسك والثبات. ويشير هذا بدوره إلى الدور الذي يجب أن تلعبه المجتمعات وأبناؤها، كمشاركين وفاعلين ونشطاء في التغير الإجتماعي، أو بعبارة أخرى الواسطة الإنسانية في العملية. سأناقش الآن الأبعاد المختلفة لإطار التحول الإجتماعي ذلك، من خلال ديناميات الثقافة والهوية، وحتمية الشرعية الثقافية للتغيير الإجتماعي، ودور الواسطة الإنسانية.
    الثقافة والهوية
    يقتضي الفهم الصحيح لمنهجية ومسار التغيير الاجتماعي معرفة وافية بمفهومي الثقافة والهوية، وهما الاطار الضروري لمعرفة الانسان لنفسه، وكذلك هما أساس التفاعل الاجتماعي. وأستخدم مصطلح الثقافة بأوسع معنى له، ككل يشتمل على القيم والمؤسسات وأشكال السلوك، التي تنتقل داخل المجتمع، والتي تتضمن السلع المادية، وكذلك العلاقات الإجتماعية والسياسية. لا ندعي هنا أن الثقافة هي كل شئ، لكننا نؤكد فقط وجود بعد ثقافي لكل جانب من جوانب الحياة والنشاط الإنسانيين، والتي ترتكز إلى المعايير والمؤسسات الثقافية.
    رغم أن الثقافات الإنسانية المختلفة يمكن تمييزها وتعيينها بشكل عام عن بعضها البعض، إلا أن كلا منها يتسم كذلك بتنوعه الذاتي الداخلي، ونزوعه للتغير، وتأثيره المتبادل في علاقته بغيره من الثقافات. من الخطأ إذن افتراض أن التاريخ والسياق الخاص لا معنى لهما؛ تماما كإنكار إمكانية وجود قيم ومؤسسات وملامح مشتركة. وواقع التنوع عبر الثقافي يجعل ممكنا الحديث عن ثقافات خاصة محلية، وقومية، وإقليمية، أو عن الثقافات المُعَرَّفة باللغة، والعرق، والدين، وغيرها. وتمنح المعايير والعادات والتاريخ المشترك داخل الجماعة تماسكا لفكرة الثقافة المشتركة، حتى مع وجود تداخلات مع الجماعات الأخرى. ولا يجب أن يكون ذلك على حساب الإعتراف بالتنوع والتناقض داخل كل ثقافة. وفي نفس الوقت لا ينبغي أن يقود الإعتراف بالفروق بين الثقافات إلى حسبان أن بعضها شديد الإستثناء والتفرد، لدرجة تنفي إمكانية التحليل المقارن مع غيرها من الثقافات. وكما سنناقش في الفصل الثالث، فإن واقع التنوع والتناقض الداخلي، وكذلك الحوار والتأثير العابر للثقافات، يمكن دفعه بشكل مدروس، لإيجاد إجماع مشترك، على قيم وممارسات معينة، كالدستورية وحقوق الإنسان، رغم الفروق الدائمة لأصول هذا الإتفاق ومنطقه، بين الثقافات المتعددة.
    تخضع المجتمعات الإسلامية لنفس مبادئ الحياة الإجتماعية والسياسية،التي تعيشها المجتمعات الإنسانية الأخرى، لأن المسلمين، شأنهم شأن غيرهم، يكافحون لتدبير الإحتياجات الأساسية، من مطعم ومأوى وأمن واستقرار سياسي وغيرها. وهم ينشدون كذلك مواجهة احتياجات التغير والتكيف للتطور، والتي تؤثر على حياتهم الفردية والجماعية، تحت ظروف مطابقة أو مقاربة لتلك السائدة بين كل الجماعات والمجتمعات الإنسانية. وحقيقة أن التغير الإجتماعي في المجتمعات الإسلامية، متأثر بالفهم السائد للإسلام ودوره، في الحياتين الخاصة والعامة للمؤمنين به، هي حقيقة مشابهة للواقع الإجتماعي للمؤمنين بغير الإسلام من الديانات. فالتغير الإجتماعي بين الهندوس أو المسيحيين، على سبيل المثال، يتشابه في تأثره بالفهم السائد لكل من الديانتين بين المؤمنين بهما. وبينما تؤثر المعالم المميزة للإسلام، على سبل فهم المسلمين وممارستهم له، في الأحوال المختلفة، فإن هذا الفهم ليس متفردا لدرجة أن يشذ عن مبادئ الحياة الإجتماعية، والسياسية، للمجتمعات الإنسانية بشكل عام. والدراسة المقارنة قد تظهر، على سبيل المثال، أن التاريخ المشترك، وخبرة زمن الإستعمار، والسياق الحاضر، يجعل ما بين بعض المجتمعات المسلمة، في شبه الجزيرة الهندية، وبين جيرانهم من مجتمعات هندوسية أو سيخية، أكبر حجما مما بينهم وبين مجتمعات المسلمين في صحراء أفريقيا، الذين يتشابهون بدورهم، مع جيرانهم من الجتمعات غير المسلمة.
    يستدعى مصطلح الهوية ليشير إلى شئ يتميز بالوضوح والثبات والإستقرار. لكنه من الواضح أيضا أن الناس ينظمون حياتهم لتكون أكثر انفتاحا ومرونة، مما يتيح لهم مدى أوسع من بدائل السلوك، والتي يمكنهم تبريرها، من خلال المعاني والمنظومات، الثقافية أو الدينية. وجميعنا ينتقي يوميا ما يود توكيده أو إهماله من جوانب هويته، استجابة لاعتبارات حركية أو استراتيجية، بحيث ندفع أو نحمي أهدافنا قصيرة أو طويلة المدى. وكمسلم يمكنني توكيد هوية إسلامية جامعة مانعة، أو قد أؤكد التسامح الاسلامي، وقبول الاختلافات الدينية، إذ يعتمد ذلك على وضعي الإجتماعي، كمنتم للأقلية أو الأغلبية الدينية، وعلى العلاقات السياسية السائدة بين المجتمعات الدينية في بلدي.
    بعبارة أخرى، فإن تكون الهوية وتحولها ليس أمرا ثابتا أو محتوما، بل هو عملية دينامية، تتطلب اختيارات متروية مدروسة؛ فالأفراد يكونون المعاني والقيم من خلال الرموز الثقافية، التي تتشاركها جماعات معينة؛ لكنه ليس نادرا أن يتنقل الفرد بين تلك الرموز، في مسيره بين الهويات الثقافية الإجتماعية المتنوعة. وتتضمن تلك الرموز "علائق بدائية"، كالإنتماءات اللغوية والدينية، والتي يتم تعلمها أو تكونها في مرحلة مبكرة من العمر، وكذلك رموزا حديثة، يتم تعلمها في مراحل لاحقة من العمر. وقد نتحول بين الرموز أحيانا على نحو "ذرائعي" أو محسوب، لا يتفق ضرورة مع الأهداف المعلنة أو المفترضة للرموز الأصلية. فضلا عن ذلك، فإن كل مجموعة من العمليات والتفاعلات تجمع سويا، عناصر هويات موجودة بالفعل، بعد تعديلها أو استرجاعها، مع هويات مستحدثة، أو خاصة بموقف بعينه. على سبيل المثال، يتضمن كوني مسلما في سياق معين، ما عناه كوني مسلما في الماضي، وهو ما تضمن ضرورة تفاوضات سابقة مع الآخرين حول معنى الهوية الاسلامية وغايتها، في الموقف المعين. وبعبارة أخرى، فإن تحديد الهوية عند أية مرحلة مفترضة، أو موقف خاص، هو حاصل للفاعلين، والسياق، والغاية، وكذلك لأي معنى أو محتوى، يربطه الفاعلون المختلفون بهوياتهم الشخصية، في علاقتها بهوية الشخص أو الجماعة الأخرى، التي يتعاملون معها.
    إن أحد جوانب عملية تكون الهوية وتحولها هو الحاجة إلى قبول تلك الهوية المفترضة أو الاعتراف بها. فمع أهمية التوحد الذاتي، إلا أن النجاح، حتى على هذا المستوى الشخصي والخاص، يعتمد على استجابة الآخر الخارجي، والذي تتأكد الهوية المستقلة في مواجهته. ولأنه ليس لدينا سلطان على إدراك الآخرين لنا، فإننا بحاجة لمفاوضتهم حول إدراكهم لهوياتنا، وارتباطهم بهذه الهوية من وجهة نظرهم. يصبح الحديث عن هويات منعزلة، أو مكتفية بذاتها، إذن، حديثا مضلِّلا، فطبيعة عملياتتحديد الهويات وتفاعلها مع بعضها البعض يقبل احتمالات مختلفة. على سبيل المثال، قد أخطو في موقف مفترضا أن الآخرين سيدركون هويتي الاسلامية بعداء، مما يدفعني إلى إخفاء، أو عدم تأكيد، هذا الجانب عن نفسي. لكني إن أدركت أن هويتي كمسلم لا تهم الآخرين، أو ربما قد تعمل لصالحي، فإني قد أكشفها، وهنا يصبح السؤال: أي مسلم يتوقعه أو يقبله الآخرون: ليبراليا، أم محافظا، أم تقيا. بل أكثر من ذلك، إن اندماجنا في مثل هذه التعبيرات الحركية أو الذرائعية، للهويات الثقافية أو الدينية، لهو من الشيوع والتلقائية بمكان، حتى أننا لا نكاد نعيه، أو نعترف به صراحة.
    وهكذا، فإن تعريف مفهوم الهوية يضيق أو يتسع اعتمادا على الفاعلين، والسياق، والغاية. هي عادة شفرة للخطاب الأخلاقي والسياسي، أو وكيلا لغايات متنوعة، مصرحا بها وغير مصرح. إنها تتضمن تعريفنا لأنفسنا –أين ومتى يتم هذا التعريف، ولأية غاية- وكذا كيف يدركنا الآخرون ويعاملوننا –وأخيرا كيف يتفاعلون مع أحد جوانب هويتنا أو أخراها. وجماعية كانت أو شخصية، فإن الهوية تضم مدى من الأفعال، والدوافع، والإلتزامات الجوهرية، والإنتماءات المساعدة. مثلا، هل يتطلب أو يفترض كون الإنسان هنديا مسلما عداء نحو الهندوسي، أو قبولا له كإنسان مساو، ومواطن هندي؟ على أي وجه يُفتَرَضُ أو يُتوقَّعُ أن يكون شعورُ باكستانيٍّ سني نحو شيعي أو أحمدي في كراتشي؛ أو شيعي إيراني نحو بهائي في طهران؛ أو تركي سني نحو عَلَوي في إستانبول؟ ليس أحد هذه العلاقات مطردا، أو محددا بحتمية، على وجه أو آخر، إذ يبدل أعضاء كل جماعة طريقة إدراكهم، أو تعلقهم، ببعضهم البعض.
    إن مفهومي الذات والآخر، وكذلك معاني القيم، وتكوينات الذاكرة، كلها عرضة لعمليتي النقض وإعادة التشكل، وهذا تحديدا ما يدعوني إلى توكيد أهمية تأمين فضاء لهاتين العمليتين، لتجريا تحت أفضل الظروف. وحقيقة أن أنصار التأويلات السائدة لجوانب الهوية الدينية أو الثقافية، المفترضة أو المدركة، يعرضونها عادة باعتبارها الموقف الشرعي أو الأصيل الوحيد للثقافة، من إحدى القضايا المثارة، تجعلنا نصر على إتاحة كل سبيل للمخالفة والحرية، لتأكيد الرؤى أو الممارسات البديلة. ووجود ثقافات متشابكة، وهويات مشتركة، بين الأفراد والجماعات، أي مسألة التشابه، لا تعني وجود ثقافات أو هويات متناغمة أو متسقة، أو أن تلك الرؤى يجب فرضها عبر الجماعات أو المجتمعات. والحقيقة الأخرى هي أن التنوع الداخلي لكل ثقافة، يشير أيضا إلى وجوب التسامح، وقبول الإختلافات، داخل كل ثقافة، وبين كل ثقافة وأخرى. هذه الرؤية لتكون الثقافة والهوية، وتحولهما، تؤكد الحاجة إلى حماية عمليتي النقض وإعادة التشكل، وفضائهما، لتوكيد هوية كل فرد، والسماح له مع ذلك بنقض معناها، أو لوازمها، بما يراه ضروريا. ففضاء كهذا ضروري للجدل الداخلي العام، وللحوار بين الثقافات، لتعبير الأفراد والجماعات عن ذواتهم.
    أدعو للعلمانية، والتعددية، والدستورية، وحقوق الإنسان، من وجهة نظر إسلامية، فأنا أعتقد أن هذا المنهج ضروري لحماية حرية كل إنسان، أن يؤكد هويته الثقافية أو الدينية، أو يعارضها، أو يحولها. حقي أن أَكُونَ نفسي يفترض، ويتطلب، قبولي واحترامي لحق الآخرين أن يكونوا ذواتهم أيضا، على النحو الذي يرغبون. ومبدأ المعاوضة أو المعاملة بالمثل هو الأساس الأصيل لعالمية حقوق الإنسان، كما سأبين في الفصل الثالث.
    الشرعية الثقافية للتغيير الإجتماعي
    نفس هذه الحقيقة للتنوع الثقافي داخل وبين الثقافات، والحاجة لتأمين إمكانيات الإجماع، وكذلك التعارض، بينها، تؤكد أهمية ضمان الشرعية الثقافية للتغيير الإجتماعي. ومفهوم الشرعية الثقافية يعني أنه بما أن السلوك الإجتماعي، وبالتالي إمكانية التغيير الإجتماعي، يحدث داخل منظومة معيارية لكل ثقافة، فإن تغيير بتلك المنظومة يجب أن يكون مفهوما، ومترابطا منطقيا داخل الإطار نفسه. ولا يصح ادعاء الحياد الثقافي للمنظومة المعيارية، فهي بالضرورة نبت أصيل، ودائم، لثقافتها. وكل ما يفعله الإنسان، من نشاط وتفاعل حياتي يومي، إلى تلك الأنشطة الدينية أو الرمزية العميقة، هو أيضا من غرس الثقافة. ونحن نميل لعدم إدراك ذلك، لأن ثقافتنا قد استبطنت بعمق باعتبارها "السبيل الطبيعي" لكل ما نفعله لوجودنا. وبمجرد إدراكنا أن سبل وجودنا، وأفعالنا المختلفة، ليست في الحقيقة معيارا عالميا لكافة الناس، بل أحيانا ولا حتى لبعض ممن يحيون بين ظهرانينا، سنقدر صعوبة الحديث عن قيم أو معايير عالمية، دون أن نجابه حقيقة التنوع الثقافي الدائم والأصيل.
    ومع ذلك، فإن إدراكنا لاستحالة الحياد الثقافي، لا يعني أنه يستحيل عقد إجماع، على معايير أو أطر عالمية الصالحية والتطبيق، كالدستورية وحقوق الإنسان، كما سيرد البيان في الفصل الثالث. وإنما يكون اعتبار الشرعية الثقافية هو خطوة أولى لتحقيق عالمية أصيلة، عبر إجماع حول تلك المفاهيم، سواء على المستوى الثقافي المحلي، أو القومي، أو الدولي. وبخصوص حقوق الإنسان، مثلا، فإن الفهم العالمي، والفهم المرتبط بثقافة أو سياق معين، يمكن أن يتساندا، إعتمادا على إدراك الفاعلين المختلفين للعناصر النسبية للعملية، وتفاعلهم مع مختلف الفاعلين والعوامل والسياقات. ومع إدراك أن كلا من النتائج الإيجابية والسلبية محتمل، فإنني معني بمعالجة هذا التوتر الدائم، بما يخدم دفع عالمية حقوق الإنسان، من وجهة نظر إسلامية.
    إن القول بتوتر دائم يحتاج إلى معالجة مستمرة لا يعني أن القيم والمعايير العالمية، وتلك المرتبطة بسياق أو ثقافة معينة، لا يلتقيان أبدا. إن الرؤية الثنائية تلك مضللة، لأنها إما تفترض أن حقوق الإنسان محايدة ثقافيا أو سياقيا، أو أن مفهوما لحقوق الإنسان قد نشأ داخل ثقافة معينة لا يمكن قبوله أو تطبيقه فيما سواها من الثقافات والسياقات. إن منظومة معيارية، مثل حقوق الإنسان، تسعى للتأثير على سلوك الأفراد، والمؤسسات الإجتماعية والسياسية التي تنظم حياتهم، لا يمكن أن تكون إلا ناتجا للثقافة، حتى نفهمها ونطبقها عمليا في سياق معين. مثل هذه المعايير لا يمكن تخيلها أو فهمها بمعزل عن الخبرات الواقعية لأولئك الذين يفترض بهم تطبيقها. لكن تشارك الخبرات الإنسانية، وتشابه سياقاتها، تعني أيضا إمكانية اختراع وتطبيق استراتيجيات تعزز قيما متشابهة في ثقافات أخرى، شريطة أن تولي تلك الجهود احتفاء بالإطار المرجعي الداخلي لهذه الثقافات. هنا يمكن لمعايير حقوق الإنسان العالمية أن تنشأ، والتي تتشارك، تعريفا، بين كل الناس في كل مكان. وكما سأؤكد في الفصل الثالث، فإن مقولة غربية حقوق الإنسان مقولة هشة؛ فكيف تكون حقوقا للإنسان إن كانت غربية فحسب؟ في نفس الوقت، على تلك الحقوق أن تكتسب شرعيتها داخل الخطاب الثقافي لكل مجتمع، غربيا كان أم غير غربي.
    وهكذا، يمكن تعريف الشرعية الثقافية كمقدرة على التواؤم والاتساق، مع المبادئ والمعايير المتفق عليها للثقافة المعنية، مستندين بذلك إلى القوة والمصداقية العائدة إلى صلاحيتها الداخلية. وتُحتَرَمُ القيمةُ أو المعيار، شرعيا الثقافة، من المنتمين لثقافة ما، لما يحدثانه من إشباع، لحاجات أو أهداف معينة، في حياة هؤلاء الأفراد ومجتمعاتهم؛ ومعرفة أن هذا حقيقي، للمعيار الوارد أو المعدل حديثا، ضرورية لنجاح هذه العملية. وليس هذا صعبا كما يبدو، فمثل هذه العملية تجري باستمرار داخل كل ثقافة، عبر النقض والتحول الداخليين. ولاحتمال وجود صراعات أو توترات بين المفاهيم المتنافسة، للحاجات أو الغايات، الفردية أو الجمعية، فهناك تغير وتوافق دائمين، لمعايير كل ثقافة أو قيمها، مما يُحترَمُ ويُتَّبَعُ. وليس كافيا لأنصار التغيير أن يتشبثوا بموقفهم الداخلي من الثقافة، بل عليهم أن يستخدموا من الحج ما يصح داخل ثقافتهم تلك، حتى يقنعوا المنتمين لها. بهذه الطريقة، فإن عرض وجهات النظر البديلة، وقبولها، يجري من خلال خطاب داخلي متماسك داخل الثقافة. ومعايير الصحة الداخلية لكل مبادرة، لضمان شرعيتها الثقافية للتغيير، تختلف من حالة إلى أخرى، داخل نفس الثقافة أو المجتمع، كما تختلف بين المجتمعات، لكن هذا أيضا مما يمكن معالجته وإعادة تشكيله.
    ورغم أن هذه المقاربة تزيد من إمكانية الاعتماد على تعارض الثقافة المحلية مع حقوق الإنسان، فإنني لا أجد بديلا لمنهجية أساسية من الشرعية الثقافية التي يمكن تحسينها باستمرار وعبر الزمن من خلال الممارسة. على سبيل المثال، قد تستخدم الثقافة لتبرير التمييز ضد المرأة، أو العقاب الجسدي للأطفال، باعتبار أن ذلك من مصلحتهم. ورفض الحجج الثقافية الداعمة لتلك الرؤى لا يجدي عادة نفعا في الواقع. بل إن النساء أنفسهن سيدعمن على الأغلب قمعهن إن اعتقدن أنها "إرادة الله" أو إحدى ثوابت ثقافة مجتمعاتهن. على النقيض، فإن مقاربة تعترف بقيمة احترام إرادة الله، أو الثقافة التقليدية، ثم تتساءل بعدها عن معنى هذه القيمة في الظروف الحالية، هي على الأرجح مقاربة أكثر حظا في الإقناع. وكمسلم، فلو خيرت بين الاسلام وحقوق الانسان لاخترت قطعا الاسلام. لكن إن بُيِّنَ لي أن كليهما متسقان، لرحبت بسعادة بحقوق الانسان، كتعبير عن قيمي الدينية، لا بديلا لها. وكمسلم مدافع عن حقوق الإنسان، أجد واجبا علي أن ألتمس السبل، لبيان ودعم مقولة الاتساق، بل الترابط، بين هذه الحقوق والاسلام، رغم أنها قد لا تتسق مع بعض تأويلات الشريعة.
    إن قوة أي تغيير يستند إلى مصداقيته الداخلية أمر حاسم لعدة أسباب ترتبط بديناميات العلاقات والتفاعلات الإجتماعية. فأولا، قد يدرك المجتمع، من خلال موقف استعادي، التغيير باعتباره موجبا ومفيدا، لكن الغالب أن هذه التغييرات سيقاومها حراس النظام السابق، باعتبارها سلبية ومؤذية. وتقدير هذه النقطة يسمح لكلي طرفي الجدل حول قضية ما من تفهم وجهة النظر الأخرى والتعامل معها. فليس أنصار التغيير، أو خصومه، ممن يتأصل شرهم، أو استبدادهم. في الواقع، إن أنصار التغيير قد يخدمون الأهداف المشروعة لمجتمعاتهم المتطورة، بينما يخدم خصومه حاجات نفس المجتمع بمقاومتهم للتغيير، حتى يتبدى لهم عكس ذلك. وفي النهاية، فإن الدفاع عن حقوق الإنسان يشمل بالطبع حقوق أولئك الذين يعارضوننا، أو الذين لا تعجبنا آراؤهم. بل أكثر من ذلك، علينا أن نولي عناية أكبر باحترام حقوق من يعارضنا، عن أولئك الذين يوافقوننا ونحبهم، لأن الغالب هو ميلنا إلى انتهاك حقوق أعدائنا لا أصدقائنا. واتساق كهذا هو من الأهمية بمكان لمصداقية مبدأ حقوق الإنسان ذاته.
    ثانيا، نظرا لاعتماد الفرد على مجتمعه، الذي يملك مقدرة عظمى لغرس أو فرض الامتثال على أفراده، فإن السياسة العامة، والفعل العام، يغلب عليهما التوافق مع مثاليات المعايير والأنساق الثقافية أكثر من الأفعال الشخصية. وتغيرات السلوك العام لذلك تأخذ عادة زمنا أطول، لميل الأفراد إلى الامتثال لحين أن يفشو قبول المعيار الجديد. وبعبارة أخرى، فإن المعارضة الواسعة والمفتوحة تهدد بقوة أصحاب السلطان في المجتمع، الصفوة التي تتلاقى مصالحها مع الوضع الراهن. وفي قمعها للمعارضة تشدد تلك الصفوة على حتمية الحفاظ على استقرار المجتمع، ومصالحه الحيوية، لا أن تقر بأنها في الحقيقة مصالحها الذاتية تلك التي تبتغي حمايتها. يصبح السؤال إذن: من يملك السلطة لتحديد ما يشمله الصالح العام؟ ومادة القضية المتنازع حولها تغدو وسيطا للكفاح الدائم. وتؤكد هذه العوامل على الحاجة إلى دعم المثاليات الثقافية، عند تقديم أي مقترح جديد للسياسة أو الفعل العام، لتفادي نجاح مقاومة أولئك الذين ينصبون أنفسهم حماة لاستقرار المجتمع ورفاهيته.
    إن تشديدي على دور الفاعلين الداخليين، والخطاب الداخلي، لتعزيز الشرعية الثقافية للتغيير الإجتماعي، لا يعوق الدور الذي يمكن أن يلعبه الفاعلون الخارجيون، في دعم قبول ذلك التغيير. لكن أولئك الفاعلين الخارجيين لا يمكنهم التأثير بفاعلية، على موقف داخلي، إلا من خلال اندماجهم في الخطابات الداخلية لنفس القيم، بمجتمعاتهم أنفسهم، مما يمكن المشاركون في ثقافة ما، من الإشارة إلى العمليات المشابهة، في الثقافات الأخرى. والأفضل أن يدعم هؤلاء الفاعلون الخارجيون حقوق الداخليين في مواجهة المدرَكات السائدة دون أن يكون ذلك بتدخل سافر، لكي لا يحطوا من مصداقية رفاقهم. وعلى المدافعين عن التغيير في المجتمعات المختلفة أن ينغمسوا في حوار بين الثقافات، لتبادل الرؤى واستراتيجيات الخطاب الداخلي، وليدعموا القبول العالمي لأهدافهم المشتركة. والحوار بين الثقافات يمكنه أيضا دعم القيم المشتركة، على مستوى نظري أو مفاهيمي، بإلقاء الضوء على المشترك خلقيا وفلسفيا، بين الثقافات والخبرات الإنسانية.
    دور الواسطة الإنسانية
    كما أكدنا سالفا، فإن أي مبادرة للتغيير الإجتماعي، لكي تصبح ممارسة إجتماعية راسخة، فلا بد لها من أن تغزل داخل نسيج الحياة اليومية، والممارسة الإجتماعية، للناس. والطبيعة المتسعة، بعيدة المدى، لهذه العملية، تشير بوضوح إلى ضرورة العمل على مستويي الدولة والمجتمع، وأن هذين البعدين من التغيير، يلزم تكاملهما وتعاضدهما. ومنهجية ضمان الشرعية الثقافية للتغيير الإجتماعي، تؤكد تلك الإستراتيجية المزدوجة للتغيير على مستوى القانون والسياسة، كما تعمل على جعل تغيرات السياسات تلك ذات معنى، في الحياة السياسية والإجتماعية للمجتمعات. على أية حال، تفترض هذه المقاربة لونا معينا من العلاقة بين الدولة ومواطنيها.
    النظر للدولة كوسيط لنوع التغيير المؤسسي المرغوب لا يعني تمام استقلالية الدولة، بحيث تتصرف مستقلة عن القوى الإجتماعية والسياسية داخل سكانها، أو بحرية عن محددات مصادرها أو غيرها من العوامل. في الواقع، إن بنية الدولة وطبيعتها، وإرادتها ومقدرتها على التصرف، هي نتاج عمليات داخلية أساسية، سياسية و اجتماعية واقتصادية، وكذلك مؤثرات خارجية ودولية. وككيان سياسي، لا فكاك لوجوده عن هؤلاء الذين يحكمون بسلطة الدولة، وأولئك الذين يقبلون سلطانهم، فإن مقدرة هؤلاء الموظفين على التصرف هي بداية سلطة سياسية. وبغض النظر عما يتاح لهم من موارد مادية، أو قوى جبرية، فإن الصفوة التي تتحكم في الدولة تعتمد على الإرادة العامة للشعب، لقبول تصرفات الدولة، أو على الأقل الإذعان لها. وذلك لأن المتحكمين في الدولة ما هم إلا قطاع ضئيل من أولئك الذين يقبلون سلطاتها، ومقدرتهم على فرض إرادتهم بالقوة المباشرة تنهار أمام المقاومة العريضة المستمرة. يحتاج المتحكمون في الدولة إذن إلى إقناع الأغلبية العظمى، أو حثها، للخضوع لقوتهم وسلطانهم، وهو يتوسلون لذلك بزعمهم العمل باسم إرادة الأغلبية، أو العمل وفقا لأفضل مصالحها. لا يعني ذلك أن تفقد سلطة الدولة نفاذها، بل فقط الإشارة إلى الحاجة إلى الإقناع، والتي تتيح بعض الإمكانية للتغيير.
    إنه لمن الغرور والغطرسة أن ندعي أن الناس يقبلون السياسات أو يذعنون لها لأنهم لا يعرفون مصلحتهم. مع ذلك، فهذا مايوحي به كل جهد خارجي لفرض حقوق الإنسان، أة غيرها من المعايير، على الناس. وسواء اعتمد ذلك على قوة التقاليد، أو الموقف الديني أو الأخلاقي للصفوة الحاكمة، فالناس لا يخضعون لسلطان يهدد، أو يحقر من، مصلحتهم الذاتية الأساسية في الوجود الإنساني. وما أعنيه بالوجود الإنساني هنا هو أكثر من النجاة الجسدية، إذ يشمل إحساسا بالعدالة الإجتماعية، والكرامة البشرية. تحدي المدافعين عن التغيير إذن هو تحريك حاجة الناس إلى العدالة والكرامة، لكي يتغلبوا على قوة السلطة المادية أو المعنوية المضادة، وكذا مخاطر القمع الوحشي. قد يكون صحيحا أن الناس ثقافيا مهيئون للخضوع لسلطة القادة الدينيين أو التقليديين، لكن هذا الميل سرعان ما يتضاءل، أمام الإدراك الواضح بأن التغيير الإجتماعي المقترح، مقنع بدرجة تتغلب على تلك التنشئة. وبعبارة أخرى، فإن ضعف تصميم الناس على مقاومة انتهاكات حقوق الإنسان يعكس ضعفا، أو نقصا، لاقتناعهم بضرورتها لوجودهم الإنساني. العلاج إذن لابد مشتمل على تعزيز قناعة الناس بأن حقوق الإنسان قيِّمَة وجوهرية لحياتهم ورفاه مجتمعاتهم.
    مفتاح ذلك كله، في النهاية، هو مقدرة الواسطة الإنسانية لأنصار التغيير الإجتماعي، على تحفيز الواسطة الإنسانية للناس على عمومهم، لصالح التغيير المقترح، سواء كان في حقوق الإنسان أو ما سواها. ومنهجية الشرعية الثقافية تؤكد الدور المركزي للواسطة الإنسانية، بالتمسك بالحياة الثقافية والإجتماعية للأفراد والمجتمعات، باعتبارها القوة الدافعة للتغير، لا أن تتخذ هؤلاء الأفراد والمجتمعات كيانات سلبية لاستقبال ذلك التغيير. في نفس الوقت، فإن الواسطة الإنسانية تعمل من خلال الشبكات الإجتماعية للحركة والتفاعل، مما يؤكد الحاجة إلى التعاون والتضامن. ومن الواضح أن شيئا لا يحدث في العلاقات الإنسانية، خيرا كان أم شرا، دون واسطة من بعض الأشخاص أو الجماعات، التي تنجح أو تفشل في القيام بعمل ما. لكنه من الواضح أيضا، أن مفهوم الواسطة الإنسانية ذاك يجب أن يضم كل الناس، خاصة في عالم اليوم المعولم، ولا يمكن قصره على المسلمين فحسب. بالتالي، فإن نتيجة الواسطة الإنسانية لأي مجتمع هي مشروطة بما يحدث في العالم حولنا، لا ما يجري في داخل مجتمعاتنا وحدها.
    لربط ذلك بمركز اهتمام هذا الكتاب من وجهة نظر إسلامية، لنا أن نستدعي حقيقة أن تاريخ الفكر الإسلامي يظهر دورا مركزيا للواسطة الإنسانية في تأسيس الشريعة كنظام متكامل وقادر على الاستجابة لاحتياجات المجتمعات الاسلامية على مدى التاريخ. وكما أكدنا سابقا، ونشرح تفصيلا لاحقا في الفصول التالية، فإن الطبيعة الأصيلة للشريعة هي كونها ضرورة ناتجا للتأويلات البشرية للقران وسنة النبي صلى الله عليه وسلم. تم هذا التطوير على أيدي علماء وفقهاء، طوروا وطبقوا منهجية أصول الفقه، باستقلال تام عن الدولة، وعناية كاملة بظروف وهموم مجتمعاتهم، ومؤسساتهم السياسية. قبل هؤلاء العلماء تنوع الآراء كظاهرة صحية وخلاقة لعملهم، أثناء سعيهم لإيجاد إجماع فيما بينهم وما بين مجتمعاتهم. وهكذا، استقر كل مبدأ للشريعة من خلال الإجماع والطاعة الطوعية للمسلمين بشكل عام، وليس أبدا من خلال السلطان المؤسسي، رسميا كان أم غير رسمي. وبعبارة أخرى، فإن صحة أي مبدأ للشريعة، وسلطانه على المسلمين، كانا دوما ناتجا للواسطة الإنسانية لعلماء المسلمين ومجتمعاتهم، عبر أجيال عدة.
    يفتح تقدير مركزية الواسطة الإنسانية، سواء في تأويل الشريعة، أو في التغيير الإجتماعي، الباب على مصراعيه لكل ألوان الإمكانيات المبدعة، للإصلاح والتحول. وهذا صحيح بشكل خاص في أزمنة الأزمات الصارخة، كالتي تعيشها المجتمعات الإسلامية اليوم، إذ تدفع تلك الأزمات المسلمين أن يسائلوا افتراضاتهم السائدة، ويتحَدُّوا مؤسساتهم القائمة، والتي فشلت في الوفاء بوعدها من التنمية والتحرر. تفتح تلك الأزمات فرصا جديدة للواسطة الإنسانية المبدعة، والتي هي قدرة الناس على الإمساك بزمام حياتهم، وإدراك غاياتهم الخاصة، لتصبح بذلك مصدرا وسببا للون التحول الذي أقترحه. لكنه ليس بوسعنا الجلوس جانبا وانتظار النتائج المرجوة أن تتحقق بنفسها، لأن المجتمعات ببساطة تمر بأزمات خانقة. علينا نحن أيضا أن نُعْمِلَ واسطتنا الإنسانية، من خلال الفكر النظري، والتطبيق العملي، لندفع بمبادراتنا إلى لون التغيير الإجتماعي الذي ننشده. من الضروري وجود نظرية جيدة تقود الفعل، لكنها يجب أن تكون عملية أيضا حتى تكون جيدة في المقام الأول. وإنه من وجهة النظر تلك أنطلق الآن لأبين مآمل أن يكون نظرية جيدة، بوسعها أن تحرك وتنهز المسلمين في كل مكان، للعمل على التحول الإجتماعي الإيجابي المنشود.
                  

العنوان الكاتب Date
محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني01-20-07, 09:52 AM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . أبو الحسين01-20-07, 10:19 AM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . Yasir Elsharif01-20-07, 12:32 PM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني01-20-07, 03:16 PM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني01-20-07, 03:19 PM
    Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . محمد عكاشة05-28-07, 08:57 AM
      Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني05-29-07, 03:45 AM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . Omer Abdalla01-20-07, 04:28 PM
    Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . Haydar Badawi Sadig01-20-07, 05:44 PM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني01-20-07, 06:14 PM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني01-20-07, 06:19 PM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . Khalid Kodi01-20-07, 07:31 PM
    Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . Moneim Elhoweris01-20-07, 11:42 PM
    Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني01-21-07, 06:23 AM
      Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . د.محمد حسن01-23-07, 04:55 PM
        Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني01-23-07, 05:37 PM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني01-21-07, 06:36 AM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . Mohamed Adam01-21-07, 07:06 AM
    Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . معتز القريش01-21-07, 07:25 AM
    Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني01-21-07, 08:37 AM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني01-21-07, 08:41 AM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . نادر01-21-07, 09:52 AM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني01-21-07, 10:18 AM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني01-21-07, 12:05 PM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني01-21-07, 12:12 PM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . مريم بنت الحسين01-21-07, 01:01 PM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني01-21-07, 04:44 PM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . Yasir Elsharif01-21-07, 05:44 PM
    Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . othman mohmmadien01-21-07, 06:35 PM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني01-22-07, 04:05 AM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني01-22-07, 04:21 AM
    Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . osama elkhawad01-22-07, 08:41 AM
      Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . osama elkhawad01-22-07, 08:59 AM
        Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالغني كرم الله بشير01-22-07, 11:38 AM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني01-22-07, 10:54 PM
    Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . Haydar Badawi Sadig01-22-07, 11:09 PM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني01-22-07, 11:01 PM
    Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . Abu Eltayeb01-22-07, 11:40 PM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني01-23-07, 04:25 AM
    Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . osama elkhawad01-23-07, 05:36 AM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . أبوبكر حسن خليفة حسن01-23-07, 08:04 AM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني01-23-07, 11:56 AM
    Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . محمد عكاشة04-18-07, 10:12 AM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني01-23-07, 12:17 PM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني01-23-07, 04:25 PM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني01-23-07, 04:50 PM
    Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني01-24-07, 04:20 AM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . Omer Abdalla01-24-07, 05:41 AM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني01-24-07, 05:13 PM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني01-25-07, 04:36 AM
    Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . osama elkhawad01-25-07, 05:29 AM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني01-25-07, 12:10 PM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . Yasir Elsharif01-26-07, 01:22 AM
    Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني01-27-07, 08:14 AM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني01-27-07, 07:37 AM
    Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . osama elkhawad01-27-07, 08:08 AM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني01-27-07, 03:37 PM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني01-27-07, 04:58 PM
    Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . Haydar Badawi Sadig01-27-07, 07:23 PM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني01-27-07, 10:09 PM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني01-28-07, 02:33 PM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني01-28-07, 05:54 PM
    Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . doma01-28-07, 07:28 PM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . Yasir Elsharif01-28-07, 11:15 PM
    Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني01-29-07, 10:56 PM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . osama elkhawad01-29-07, 06:12 AM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . osama elkhawad01-29-07, 08:47 AM
    Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . Haydar Badawi Sadig01-29-07, 08:36 PM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني01-29-07, 11:22 PM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني01-29-07, 11:32 PM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني01-29-07, 11:34 PM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني01-29-07, 11:39 PM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني01-30-07, 05:42 PM
    Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . osama elkhawad01-31-07, 07:07 AM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني01-31-07, 06:12 PM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني02-01-07, 04:28 AM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني02-01-07, 11:00 AM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . Yasir Elsharif02-01-07, 12:11 PM
    Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . osama elkhawad02-02-07, 01:58 AM
      طلبت مقاما بذل نفسك شرطه!!!! Yasir Elsharif02-02-07, 10:27 AM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني02-02-07, 07:39 AM
    Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . Yasir Elsharif02-02-07, 11:08 AM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني02-02-07, 11:32 PM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني02-02-07, 11:38 PM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني02-02-07, 11:41 PM
    Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . osama elkhawad02-03-07, 02:35 AM
      الواقع يتطور نحو الفكرة الجمهورية، ويطبق ما يحتاجه الناس.. Yasir Elsharif02-03-07, 09:47 AM
  المقاساة في المسيحية، والصبر في الإسلام.. Yasir Elsharif02-03-07, 11:59 AM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني02-03-07, 05:33 PM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . osama elkhawad02-04-07, 00:05 AM
    Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . Yasir Elsharif02-04-07, 03:40 AM
      Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . Haydar Badawi Sadig02-04-07, 06:23 AM
        Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . osama elkhawad02-06-07, 01:26 AM
          Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني02-07-07, 04:08 AM
            Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . Haydar Badawi Sadig02-08-07, 02:29 AM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني02-08-07, 04:39 AM
    Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . Haydar Badawi Sadig02-08-07, 05:08 AM
      بالصوت.. حديث الأستاذ محمود عن أن الأصيل الواحد هو الحقيقة المحمدية.. Yasir Elsharif02-08-07, 07:45 AM
  Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . عبدالله الشقليني02-08-07, 06:25 PM
    Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . osama elkhawad02-08-07, 11:25 PM
      Re: محمود محمد طه في رؤى الأحلام . osama elkhawad02-08-07, 11:33 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de