|
نص قصصي قديم: وداع في صباح باهت بعيد: الحياة اللندنية 11/6/2003
|
غادر الرصيف، ومشى ببطء بين الورش ومكاتب المفتشين ذات الطابع الاستعماري القديم، ثم انحدر شرق مساكن عمال السكة الحديد الحمراء الكابية، رويداً رويداً زاد من سرعته، واندفع بُعيد مطاحن الغلال، مخترقاً حقول الرز المغمورة بالمياه وجسر الحديد المقام على نهر صالحين، وما إن توغل داخل عشب السهل الاصفر الحائل ذي الفجوات الحجرية الواسعة، حتى اجهش بالبكاء بين وجوه المسافرين الساهمة وراء الاجمة المتناثرة من اشجار السنط، حيث تشرئب منذ قديم الازل سلسلة جبال العاديات، ملقية في نفس الرائي بذرة الشعور بالضآلة او الفناء، وقد بدا لصمتها الثقيل الموحش على رغم زلزلة القطار الهادر وكأنها لا تزال تصغي لاحلام المهدي بغزو العالم في زمان لن يعود.. البتة. كانت الشوارع الجانبية المُتربة خالية أو تكاد، كان يتقدمه شقيقه الذي يصغره بنحو عامين، دافعاً الدراجة عبر التراب الكثيف الموحل، "هذا ما يدعونه فراق الوطن"، قال في نفسه، ثم واصل السير، مختزناً في ذاكرته ما تبقى من الأماكن الاليفة الآخذة في التراجع عكس ايقاع خطواته، وبينما كان يتأمل اهتزاز شنطته "الهاند باك" المربوطة الى سرج الدراجة الخلفي بحب وعناية كبيرين، ادرك بكثير من الأسى ان سنواتهما القليلة التي عاشاها معاً كشقيقين قد ضاع معظمها في خضم النزاعات اليومية الصغيرة، آنئذ، هرع اليه، ود فقط ان يقول له بكل بساطة لا يمنحها للناس عادة سوى الرحيل او الاحساس الغريزي بدنو الخطر: "لو تدري يا أخي العزيز كم احبك" لكنه كان قد وضع الدراجة بعد مشقة على طرف الشارع الرئيسي المسفلت، واعتلى سرجها الامامي، مشيراً اليه وهو يأخذ وضع الانطلاق، بالركوب، يكاد الآن يحس بدفء انفاسه اللاهثة وراء اذنيه، وهو يردفه امامه صوب محطة القطار القريبة من دون كلمة واحدة. كانت تشير الساعة الى السادسة وخمس وعشرين دقيقة وثوان، عندما اطلق صافرته الحزينة الممطوطة، وغادر الرصيف، مُفتتحاً فصول رحلة لا يعلم إلا الله متى وكيف تنتهي؟!. في قادم الايام... الشهور... او السنوات، سيفكر في ذات الاماكن الاليفة، سيحكي عنها، وسيزورها اثناء النوم، يتردد اليها، يتلمسها بحنو يكلم في داخلها الوجوه التي احب، يستمع الى رنين ضحكته المفقودة، ثم يركض... ويركض... ويركض كعهد طفولته في الشارع ذي التراب الكثيف الموحل الذي يشهد خطواته الاخيرة الآن، قبل ان يصحو من نومه متوحداً أو فزعاً او ظامئاً او مجهداً بين جدران غرفة السطح المؤجرة في بناية قديمة تطل على احد شوارع القاهرة في كآبة، سيلازمه هذا الحلم كظله، وسيتكرر حتى خلال نومه النهاري القصير المتباعد الى أن يشرع أمام سيل الخيبات الذي لا يرحم في التأكد داخل الحلم نفسه ان ما يراه ليس حلماً، بل الحقيقة. هناك، أمام باب الحوش، قبل دقائق قليلة، ودع والده "وداع رجل لرجل". السائل المائي الحارق، أخذ يتصاعد الى عينيه فور ان انفلت من حضن امه، وكثيرة هي الدموع التي ذرفنها شقيقاته في اعقابه، كذلك بدأ السير، مقتفياً آثار شقيقه الى الشارع الرئىسي المُسفلت حيث انطلقا بالدراجة صوب محطة القطار القريبة من دون كلمة واحدة. لقد كن ذات الشقيقات، اللائي سيغرقنه في سنوات غربته الاولى بالرسائل، راسمات على حوافها الزهور الذابلة والقلوب التي حطمها البعد، ذاكرات من سطر لآخر ان بهن من الاشواق اليه ما يكفي لهدم جبال العاديات وتجفيف نهر صالحين وحرق غابات السنط النضيرة، وقتها كان ولا يزال منغمساً في سعيه الحثيث خلف طموح ظل مطموراً في اعماقه السحيقة، فكشف عنه الرحيل مثلما يكشف عن نفسه على حين غرة البركان الخامد أو الزلزال المدمر. يا إلهي... لماذا لماذا... لماذا تبقى اللحظات الاخيرة من علاقاتنا نحن البشر محفورة في تلافيف الذاكرة الى هذه الدرجة من العمق او الثبات"، تساءل ذات نهار قائظ بعيد اسفل تمثال رمسيس، وإذا احس في ما يشبه الكشف المتأخر بوجود اشياء في العالم مثل حضن الأم لا يعوض عن غيابها الزمن، ادرك للمرة الاولى حجم الفراغ الذي احدثه في نفسه رحيل والده قبل سنوات من غير أن يتاح له حتى عزاء ان يحمل النعش الى مثواه الاخير؟. عند منحنى الشارع ذي التراب الكثيف الموحل، توقف دفعة واحدة واستدار، بالكاد رفع يده اليمنى، لوح مودعاً، كان المشهد العائلي قد بدأ بالفعل في التشتت مرة وإلى الابد. آنذاك، رأى والده، ومسبحته الحجازية، ناظراً الى وجه الارض في شرود، والشقيقات الثلاث، اللائي سينقطعن تباعاً عن كتابة الرسائل من طرف واحد ظل يبث طويلاً لواعجه الاخوية بلا جدوى، مازلن ملتفات حول ابتسامة امه، يلوحن له بأيديهن الست، وقد بدون كأغصان شجرة.. هزتها رياح ذلك الصباح التي بدأت تنشط شيئاً فشيئاً... والتي ستمحو بعد قليل آثار اقدامه على ظهر الشارع المترب... لا محالة.
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: نص قصصي قديم: وداع في صباح باهت بعيد: الحياة اللندنية 11/6/2003 (Re: حيدر حسن ميرغني)
|
أستاذي البرنس ... سلام،
Quote: ود فقط ان يقول له بكل بساطة لا يمنحها للناس عادة سوى الرحيل او الاحساس الغريزي بدنو الخطر: "لو تدري يا أخي العزيز كم احبك" |
عندما فرغت من قراءة هذا النص (وداع في صباح باهت بعيد) .. شعرت بجفاف في حلقي .. وانتابتني حالة أشبه بالدوار .. وفقدت القدرة حتى على البكاء .. يا لفظاعة تلك الكلمة (الرحيل) .. أوله (شوق) وأوسطه (شوق) وآخره (شوق) ..
Quote: يا إلهي... لماذا لماذا... لماذا تبقى اللحظات الاخيرة من علاقاتنا نحن البشر محفورة في تلافيف الذاكرة الى هذه الدرجة من العمق او الثبات"، تساءل ذات نهار قائظ بعيد اسفل تمثال رمسيس، وإذا احس في ما يشبه الكشف المتأخر بوجود اشياء في العالم مثل حضن الأم لا يعوض عن غيابها الزمن، ادرك للمرة الاولى حجم الفراغ الذي احدثه في نفسه رحيل والده قبل سنوات من غير أن يتاح له حتى عزاء ان يحمل النعش الى مثواه الاخير؟. |
(لو أن كل إنسان عرف متى يمتنع عن اتخاذ الخطوة الأولى لتغيرت أشياء كثيرة) (مصطفى سعيد- موسم الهجرة إلى الشمال)
| |
|
|
|
|
|
|
Re: نص قصصي قديم: وداع في صباح باهت بعيد: الحياة اللندنية 11/6/2003 (Re: Osman Musa)
|
Quote: البرنس والعودة الى مناهله المحببة مراحب ياصديق واصل |
صديقي حيدر حنين:
تحية ثرية ثراء روحك وغنى عقليتك. هذا نص نشر بعد عامين تقريبا من صدور مجموعتي القصصية الأولى "تداعيات في بلاد بعيدة". موضوعة تقليدية كالوداع. ولكن كان رهاني وقتها على مستوى التشكيل، الكيفية التي تمت بواسطتها صياغة ذلك الوداع كتفتيت الوحدة الزمنية وخلط وحداتها الصغرى. الآن بعد نحو مرور أكثر من سبع سنوات على نشره أعيد قراءته بعد غياب فأشعر بشيء من الحياء. كان بوسعي (بقليل من الجهد) أن أكتب على نحو أفضل. محبتي.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: نص قصصي قديم: وداع في صباح باهت بعيد: الحياة اللندنية 11/6/2003 (Re: عبد الحميد البرنس)
|
الأستاذ الفاضل نصرالدين عثمان:
تحية طيبة. وبعد:
Quote: أستاذي البرنس ... سلام،
Quote: ود فقط ان يقول له بكل بساطة لا يمنحها للناس عادة سوى الرحيل او الاحساس الغريزي بدنو الخطر: "لو تدري يا أخي العزيز كم احبك"
عندما فرغت من قراءة هذا النص (وداع في صباح باهت بعيد) .. شعرت بجفاف في حلقي .. وانتابتني حالة أشبه بالدوار .. وفقدت القدرة حتى على البكاء .. يا لفظاعة تلك الكلمة (الرحيل) .. أوله (شوق) وأوسطه (شوق) وآخره (شوق) ..
Quote: يا إلهي... لماذا لماذا... لماذا تبقى اللحظات الاخيرة من علاقاتنا نحن البشر محفورة في تلافيف الذاكرة الى هذه الدرجة من العمق او الثبات"، تساءل ذات نهار قائظ بعيد اسفل تمثال رمسيس، وإذا احس في ما يشبه الكشف المتأخر بوجود اشياء في العالم مثل حضن الأم لا يعوض عن غيابها الزمن، ادرك للمرة الاولى حجم الفراغ الذي احدثه في نفسه رحيل والده قبل سنوات من غير أن يتاح له حتى عزاء ان يحمل النعش الى مثواه الاخير؟.
(لو أن كل إنسان عرف متى يمتنع عن اتخاذ الخطوة الأولى لتغيرت أشياء كثيرة) (مصطفى سعيد- موسم الهجرة إلى الشمال) |
هذه شهادة نادرة أعتز بها. دمت أخا كريما طيبا.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: نص قصصي قديم: وداع في صباح باهت بعيد: الحياة اللندنية 11/6/2003 (Re: زهير الزناتي)
|
Quote: هذه القصة أرخت عليّ سدول الحزن، خاصمتني مع نفسي قرأتُ النص مرتين، ولم أعثر على كلمات تصفه غير أنها قصة شديدة الإيحاء .. |
أخانا في أوجاع الكتابة...
هشام آدم:
حيًاك الله...
وتلك التراجيديا بعينها: أن تتحول رحلة الإنسان في هذا العالم إلى رحلة. نجيب محفوظ (وآخرون) يرى أن معنى الحياة كامن في الحركة. لكن الحركة داخل حركة يتطلب جهدا خارقا لإقامة توازن من نوع ما. هكذا رأيت (ع) أول عهدي بكندا. كل ما كان يسنده في هذا العالم مجرد خلفية زراعية وبعض فنون الرعاة. رأيته ذات مرة في حديقة عامة. يخاطب حسناء شديدة المراس: "مي.. أنا أنا.. ما في انجليزي.. نو انجليش.. يس (نعم) تمشي معاي.. قو قو البيت". ما أجمله!.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: نص قصصي قديم: وداع في صباح باهت بعيد: الحياة اللندنية 11/6/2003 (Re: ميسرة سيد أحمد)
|
Quote: هذا نص نشر بعد عامين تقريبا من صدور مجموعتي القصصية الأولى "تداعيات في بلاد بعيدة". موضوعة تقليدية كالوداع. ولكن كان رهاني وقتها على مستوى التشكيل، الكيفية التي تمت بواسطتها صياغة ذلك الوداع كتفتيت الوحدة الزمنية وخلط وحداتها الصغرى. الآن بعد نحو مرور أكثر من سبع سنوات على نشره أعيد قراءته بعد غياب فأشعر بشيء من الحياء. كان بوسعي (بقليل من الجهد) أن أكتب على نحو أفضل. محبتي. |
وهكذا احتفى استاذنا الاديب والشاعر الصادق الرضي و بعض من محبيك بـ " تداعيات في بلاد بعيدة" قبل اربعة اعوام ونيف
Quote: قالت دقات قلبي المتسارعة: "أنا... قادم... من مكان بعيد" وكي أحقق المفاجئة كاملة، وضعت الكف المرتعش أمام "العين السحرية" وقلت: "أخيراً" لكن إمرأة فوق الأربعين تفتح باب الشقة المقابل، وتقول لي: "لا أحد هناك". هذا النص بعنوان "عودة" من كتاب "الكاتب عبد الحميد البرنس" المعنون بـ "تداعيات في بلاد بعيدة"، عبارة عن نصوص قصصية كما أشار على غلاف الكتاب. والكاتب عبد الحميد البرنس الذي لا نعرف عن سيرته الذاتية شيئاً سوى أنّه يقيم ويعمل في القاهرة منذ عدة سنوات، يبدو عمله الإبداعي الماثل بين أيدينا وكأنه ثمرة من طليعة ثمار الهجرة الإبداعية والثقافية والفكرية الكبرى التي مُنيت بها بلادنا في الـ 15 عاماً الماضية، وقد ظللنا نرصد بعض ما تجود به هذه الهجرة من أسماء وعناوين هي حقاً مواهب وطاقات لم تَتَفجّر إنتاجاً وفعالية إلاّ بالخارج، وفي ظل أجواء ثقافية جد مختلفة عن أجوائنا الثقافية، ولا نود هنا إطلاق قيمة مفادها أنّ كل ما رصدنا من الجودة والعمق بما يفي شرط الإحتفاء، فالمستوى الإبداعي والعمق الثقافي يتفاوت من موهبة إلى أخرى. إذن فهناك شئ ما يتخلّق رغم كل شئ، رغم أنّ فرص متابعة ما يتخلّق هناك ضعيفة إلى حد كبير وليس من سبيلٍ يمكِّن من ذلك والشبكة العنكبوتية الإنترنت وما تضج به من منتديات ومواقع بالكاد تمكِّن من متابعة من هو لا يزال على قيد الإبداع ممن هاجر من الأسماء المعروفة.. أمّا الأجيال الجديدة من المبدعين الذين عرفت أعمالهم وأسماؤهم طريقها للنشر لأول مرّة هناك، فمن الصعوبة التوفر على أعمالها ومن ثم متابعة إبداعهم ناهيك عن تقييمه. بيد أنّ نصوص عبد الحميد البرنس قد وصلتنا ويبدو أنّه يعمل بمستوى من الدقة على مشروع إبداعي في الفضاء السردي وبإمكانات تشي بمبدع كبير قادم بعمق معرفي وحِنكة حرفية. بعض نصوص "تداعيات في بلاد بعيدة" وجدت حظاً من النشر في دوريات مصرية مثل "أدب ونقد" "ورؤي" كما هو مثبت في الكتاب أيضاً هناك تنويه نقدي حول إحدى قصص الكتاب كتبه د. صلاح سروري ونشر في مجلة الثقافة الجديدة جاء في بعضه:- "(........) بدهي أنّنا لا نلمح أثراً للرواي ، كما لا نلمح أثر الشخصية محددة الملامح من حيث الشكل الخارجي والصفات الأخلاقية وعالمها النفسي، حتى الإسم غير موجود، وإنّما نتعامل مع مشهد يمثله بشر مجهولون لا يحملون أية سمات، فقط يحملون سمات الإنسان الضعيف الأسيان، في شفافية، ورغم جهلنا بخلفيات الحياة الخاصة لهذه الشخصيات، إلاّ أنّ هذا الإبهام هو الذي يتيح كل التأويلات المُمكنة، مما ينتج لنا نصاً مفتوحاً في مقابل النص المغلق". تبقى أن نشير إلى أنّ الكتاب صدر عام 2002م.
www.newkhartoum.net[/QUOTE]
http://174.36.244.175/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=98&msg=1189199039
| |
|
|
|
|
|
|
Re: نص قصصي قديم: وداع في صباح باهت بعيد: الحياة اللندنية 11/6/2003 (Re: عبد الحميد البرنس)
|
Quote: هذا النص القصصي المعتق والمطعم بالحداثة يكشف لنا معدن كاتب متمرس
|
أخي ميسرة:
سعدت بمرورك من هنا. هي مسيرة بدأت منذ بواكر الصبا. لكن بدايتها الحقيقية كانت في الزقازيق. تحديدا حين زرت حيدر حنين في شقته صحبة النفراوي. لقد تعلمت وقتها من الطريقة التي كان يتحدث بها عن الطيب صالح أن الكتابة يمكن أن تلعب دورا خطيرا في حياة البشر على نحو يجعلها أكبر بكثير من الأجندة الذاتية للكاتب نفسه. تحياتي لك ولصديقي ياسر السراج إذا كان بصحبتكم وكل ما له صلة بتلك المدينة التي خدعتنا حين أغرقتنا بقيم عليا كالمحبة والصداقة والتضحية حتى خلنا أن العالم خارجها يمكن أن ينطوي على ذات الطيبة.
| |
|
|
|
|
|
|
| |