الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-25-2024, 08:45 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الرابع للعام 2009م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
05-07-2009, 05:53 PM

محمد عثمان الحاج

تاريخ التسجيل: 02-01-2005
مجموع المشاركات: 3514

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين

    طريق الهنود الحمر المكسيكيين الصوفي الذي اشتهر باسم طريق التولتيك Way Of The Toltecs نسبة إلى شعب التولتيك الذي عاش في المكسيك القديمة أصبح متاحا للبشرية بأجمعها منذ السبعينات في القرن الماضي عبر كتابات عالم الأنثروبولجي الأمريكي الذي يعود أصله لدولة بيرو في أمريكا الجنوبية كارولوس كاستانيدا، والذي اختط طريقا في البحث الأنثروبولوجي بأن أصبح تلميذا لشخص ظن أنه أحد سحرة الهنود الحمر ليتمكن من دراسة ذلك النوع من المعرفة، فكان ذلك مفتاح دخوله في عالم هذا الطريق الصوفي المذهل والذي قام هو بتقديمه للناس عبر عدد من الكتب فاقت العشرة ضمت جميع أسرار السلوك والوصول لدرجات الكشف والمشاهدة ودخول العوالم الأخرى ومن ثم الإجابة عن الأسئلة الفلسفية الضخمة التي ظلت تشغل البشرية منذ فجر التاريخ: من نحن؟ من أين أتينا؟ وإلى أين نسير؟

    حيث أن قراء العربية حرموا من هذا التراث الذي يتشابه تشابها مذهلا مع التصوف الإسلامي فسأقوم عبر هذا البوست وربما بوستات لاحقة بترجمة مقاطع من رحلة كاستانيدا مع شيخه العجوز الهندي الأحمر من قبيلة الياكي المكسيكية دون خوان ماتوس والذي كان آخر ناخوال (شيخ مشايخ) في سلسلة من العارفين تعود لآلاف السنين والذي كلف كارلوس كاستانيدا بنقل هذا التراث للبشرية جمعاء. الكتاب الأول الذي أبدا به قد يعطي اطباعا خاطئا بأن هذه المعرفة مرتبطة بالسحر وفي الواقع فذلك لم يكن سوى المدخل الذي أتى به كاستانيدا وقاده منه أستاذه إلى الجزء الحقيقي العالي من تلك المعرفة وهو ما سأتطرق إليه لاحقا في بوستات أخرى إنشاء الله.

    أ هذه الرحلة مع الكتاب الأول الذي هز العالم حين صدر أول مرة وبقي لزمن طويل في قوائم الكتب الأكثر مبيعا واستمر يعاد طبعه إلى يومنا هذا، وهو "تعاليم دون خوان" والذي كان رسالة الدكتوراة التي تقدم بها لجامعة كاليفورنيا لوس أنجيليس. في هذ الجزء من رحلته كان كاستانيدا يعتقد أن دون خوان هو ساحر من سحرة القبائل البدائية ومعالج بالأعشاب وهو مفهوم قام بتصحيحه دون خوان لاحقا وأوضح له أن السالك في طريقهم يسمى بالمحارب السالك warrior traveler الذي يرتقي ليصبح عارفا man of knowledge والذي هو أيضا من أهل الكشف seer .

    ونبدأ هذه الرحلة مع كاستانيدا على أن تتواصل عبر كتاب "تعاليم دون خوان" حسبما يسمح به الوقت وظروف العمل.
                  

05-07-2009, 05:54 PM

محمد عثمان الحاج

تاريخ التسجيل: 02-01-2005
مجموع المشاركات: 3514

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: محمد عثمان الحاج)

    مقدمة
    في صيف سنة 1960 حين كنت طالب أنثروبولوجي بجامعة كاليفورنيا لوس أنجيلوس قمت بعدة رحلات إلى الجنوب الغربي من الولايات المتحدة لجمع معلومات عن النباتات الطبية لتي يستعملها الهنود الحمر في المنطقة. الأحداث التي أقوم بوصفها هنا حدثت خلال إحدى رحلاتي تلك. كنت أنتظر حافلة من حافلات شركة جريهاوند لنقل الركاب في إحدى المدن الحدودية أتحدث مع صديق كان دليلي ومساعدي في المسح الميداني. فجأة مال بجسمه إلي وهمس بأن الرجل الهندي الأحمر الأشيب العجوز الجالس جوار النافذة ذو معرفة عميقة جدا بالنباتات خاصة فطر البيوتي peyote (الذي اشتهر بأنه يسبب الهلوسة). طلبت من صديقي أن يقدمني لذلك الرجل.

    حيا صديقي الرجل من على البعد ثم ذهب وصافحه. وبعد أن تحدثا لبرهة أشار لي صديقي بأن أنضم إليهما لكنه انسحب فورا تاركا لي وحدي مع الرجل العجوز دون أن يقوم حتى بتقديم أحدنا للآخر. ولم يبد على العجوز أي إحراج. أخبرته بإسمي وقال لي أن إسمه خوان وأنه في خدمتي. استخدم كلمت إسبانيه تعبر عن الاحترام في مخاطبته لي. مددت له يدي وتصافحنا ثم بقينا صامتين لمدة من الوقت. لم يكن صمتا متوترا بل هدوءا طبيعيا ومسترخيا من جانبه ومن جانبي. رغم التجاعيد في وجهه القاتم اللون ورقبته والتي أظهرت تقدمه في السن فقد أدهشني أن جسمه كان قوي العضلات رشيق الحركة.

    عندها أخبرته أنني مهتم بالحصول على معلومات عن النباتات الطبية. ورغم أنني في حقيقة الأمر كنت جاهلا تماما فيما يخص فطر البيوتي وجدت نفسي أتظاهر بأنني أعرف الكثير عنه، بل وأوحيت له أنني أملك معلومات عن الموضوع سيكون مفيدا له معرفتها. وبينما واصلت في لغوي أومأ هو برأسه ببطء ونظر لي ولم يقل شيئا. امتنعت عن النظر إلى عينيه وانتهى الأمر بأن وقفنا كلانا في صمت تام. وأخيرا بعد ما بدا أنه وقت طويل جدا نهض دون خوان (دون كلمة اسبانية تعني السيد) ونظر عبر النافذة. كانت حافلته قد أتت. ودعني وخرج من المحطة.

    شعرت بالحرج لأنني تكلمت لغوا معه، و بأن عينيه العجيبتين كانتا ترمقاني. حين رجع صديقي حاول أن يعزيني في فشلي في الحصول على معلومات من دون خوان. وشرح لي بأن العجوز كثيرا مايكون صموتا وغير متحمس. لكن التأثير المزعج لهذا اللقاء لم ينزاح عن صدري عند سماع ذلك.

    سعيت لمعرفة المكان الذي يعيش فيه دون خوان وقمت بزيارته لاحقا عدة مرات. في كل زيارة كنت أحاول أن أستدرجه للحديث عن البيوتي لكن دون جدوى. رغم ذلك أصبحنا أصدقاء حميمين، وتم تناسي بحثي العلمي أو على الأقل توجيهه لقنوات جديدة كانت بعيدة جدا عما كنت أنتويه في البداية.

    وشرح لي صديقي لاحقا أن العجوز لم يكن من مواطني ولاية أريزونا الأمريكية التي قابلناه فيها بل كان من قبيلة الياكي الهندية الحمراء من صحراء سونورا في المكسيك.

    في البداية كنت أرى دون خوان على أنه رجل، ببساطة مجرد رجل عجيب يعرف الكثير عن نبات البيوتي ويتحدث الإسبانيه بطلاقة مدهشة. لكن الناس الذين كانوا في محيطه كانوا يعتقدون أن لديه نوعا من المعرفة السرية وأنه مايسمي بالإسبانية بروجو buju. كلمة بروجو الإسبانية تعني بالإنجليزية معالج شعبي، شافي، ساحر. هي كلمة توحي أساسا بشخص لديه قدرات خارقة هي في العادة شريرة.

    عاشرت دون خوان لمدة سنة كاملة قبل أن يثق في. ذات يوم قال لي أنه يملك معرفة معينة قد تعلمها من معلم أو صليح benefactor كما وصفه هو ، قام بتدريبه عبر مدة زمنية، وأنه هو بدوره اختارني لكي أكون تلميذا له، لكنه حذرني أنني يجب أن التزم التزاما شديدا وأن التدريب طويل ومنهك.
                  

05-07-2009, 05:56 PM

محمد عثمان الحاج

تاريخ التسجيل: 02-01-2005
مجموع المشاركات: 3514

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: محمد عثمان الحاج)

    عند وصفه لأستاذه استعمل دون خوان كلمة ديابليرو. لاحقا علمت أن تلك الكلمة تستعمل فقط من جانب الهنود الحمر في صحراء سونورا وتشير لشخص شرير يمارس السحر الأسود وقادر على تحويل نفسه إلى حيوان: طائر، كلب أو ثعلب صحراء (كويوتي) أو أي مخلوق آخر. في إحدى رحلاتي لسونورا مررت بتجربة عجيبة توضح شعور الهنود الحمر تجاه الأشخاص الموصوفن بأنهم ديابليرو. كنت أقود سيارتي ليلا بصحبة صديقين من الهنود الحمر عندما رأيت حيوانا بدا أنه ثعلب (كويوتي) يعبر الطريق السريع. أحد رفيقي قال أن ذلك لم يكن كلبا بل ثعلب ضخم. وأبطأت السيارة وتوقفت على جانب الطريق لأتمكن من رؤية الحيوان بوضوح. بقي الحيوان في مدى المصابيح الكاشفة لثواني قليلة ثم جرى واختفى في الشجيرات. كان من الواضح أنه كويوتي لكن حجمه كان ضعفي الحجم المعتاد لذلك الحيوان. وأقر رفيقي اللذن كانا يتحدثان باهتياج بأن ذلك كان حيوانا غير عادي أبدا، واقترح أحدهما أنه ربما كان ديابليرو. وقررت انتهاز تلك لافرصة لسؤال هنود المنطقة عن اعتقاداتهم بخصوص الأشخاص الموصوفين بأنهم ديابليرو. تحدثت مع عدد من الأشخاص، حكيت لهم القصة وسألتهم. والمحادثات الثلاثة التالية تبين وجهات نظرهم عن الموضوع:

    " تشوي، هل تظن انه كان كويوتي؟" سألت شابا بعد أن حكيت له القصة.

    "من يدري؟ ربما كلب. إنه أكبر من أن يكون كويوتي".
    " هل تظن أنه ربما كان ديابليرو؟"
    " ذاك هراء. لا يوجد شئ كهذا"
    لماذا تقول ذلك يا تشوي؟"
    " الناس يتوهمون أشياء. أراهن أنك إذا قبضت ذلك الحيوان لوجدته كلبا. ذات مرة كان لدي عمل في مدينة أخرى ونهضت قبل الفجر وأسرجت جوادا. وحينما شرعنا في مغادرة المكان مررت على ظل قاتم عبر الطريق بدا مثل حيوان ضخم. وجفل فرسي وقذف بي من سرجي. أصبت أنا نفسي بفزع شديد لكن اتضح أن الظل لم يكن سوى إمرأة متوجهة للمدينة".
    " هل تعني يا تشوي أنك لا تصدق بوجود الديابليرو؟"
    "دياليروو؟ ما هو الديابليرو؟ أخبرني ما هو الديابليرو؟"
    " الديابليرو كما يقولون هو بروجو يمكنه أن يغير نفسه ويتخذ أي شكل. لكن كل إنسان يعرف أن ذلك مجرد هراء. العجائز هنا ممتلئون بالقصص عن الديابليرو. لن تجد مثل ذلك لدى الشباب".

    " أي نوع من الحيوانات تظنين أنه كان يا دونا لوث؟" سألت إمرأة في منتصف العمر.

    "الله وحده يعلم الحقيقة، لكن لا أظن أنه كان كويوتي. هناك أشياء تبدو وكأنها كويوتي ولكنها ليست كذلك. هل كان الكويوتي يجري أم يأكل؟"
    "كان متوقفا معظم الوقت ولكن عندما رأيته أظن أنه كان يأكل شيئا".
    "هل أنت متأكد من أنه لم يكن يحمل شيئا في فمه؟"

    "ربما كان يحمل شيئا. لكن أخبريني هل هناك فرق إذا كان كذلك؟"
    "نعم. لو كان يحمل شيئا في فمه فهو ليس كويوتي".
    "ماذا كان إذن؟"
    "رجل أو إمرأة".
    "ماذا تسمين مثال هؤلاء الناس يا دونا لوث؟"

    لم تجبني. واصلت سؤالها لفترة وجيزة لكن بلا جدوى. في النهاية قالت لي أنها لا تعلم. سألتها عما إذا كان أمثال هؤلاء الناس يطلق عليهم كلمة ديابليرو فأجابتني بأن كلمة ديابليرو هي واحدة من الأسماء التي تطلق عليهم.
    "هل تعرفين أي ديابليرو؟"
    "عرفت إمرأة واحدة. أجابتني. لقد تم قتلها. حدث ذلك عندما كنت طفلة صغيرة. قيل أن تلك المرأة كانت تتحول إلى كلبة. وذات مساء دخلت كلبة إلى منزل الرجل الأبيض لتسرق جبنا. وقام الرجل الأبيض بقتل الكلبة ببندقية خرطوش. وفي نفس اللحظة التي ماتت فيها الكلبة في منزل الرجل الأبيض ماتت المرأة في في كوخها. وتجمع أقاربها وذهبوا لمنزل الرجل الأبيض وطالبوا بالدية. وقام الرجل الأبيض بدفع مال كثير لكونه قتلها".
    "كيف طالبوا بالمال في حين أن الرجل لم يقتل سوى كلبة؟"
    "قالوا أن الرجل الأبيض كان يعرف أنها لم تكن كلبة لأنه كان معه أشخاص آخرون وجميعهم رأوا الكلب يقف على ساقيه مثل الإنسان ويحاول الوصول للجبن والذي كان في صحن معلق من السقف. كان الرجال ينتظرون وصول اللص لأن الجبن الخاص بالرجل الأبيض كانت تتم سرقته كل ليلة. لذلك قام الرجل بقتل السارق وهو يعرف أنها ليست مجرد كلبة".
    "هل هناك أي ديابليروا في زمننا هذا يادونا لوث؟"
    "هذه الأمور سرية جدا. يقولون أنه لم يعد هناك أي ديابليرو، لكنني أشك في ذلك لأنه يجب أن تنتقل المعرفة من الديابليرو لأحد أفراد أسرته. الديابليرو لديهم قوانينهم الخاصة بهم وأحدها هو أن كل واحد منهم يجب أن يقوم بتدريس معارفه لواحد من أقاربه."

    "ماذا تظن أن ذلك الحيوان كان ياجينارو؟" سألت رجلا عجوزا جدا.
    "كلب من أحد مزارع الماشية في تلك المنطقة. ماذ يمكن أن يكون غير ذلك؟"
    "ربما كان ديابليرو! ".
    "ديابليرو؟ أنت مجنون. لا يوجد ديابليرو"
    "هل تعني أنه أنه لم يعد هناك ديابليرو في يومنا هذا أم تعني أنه لم يكن هناك أبدا ديابليرو على الإطلاق؟"
    "نعم، في زمن مضى كان هناك ديابليرو، الكل يعرف ذلك. لكن الناس كانوا يخافون منهم خوفا شديدا وقاموا بقتلهم جميعا".
    "من قتلهم يا جينارو؟"
    "جميع أفراد القبيلة. آخر ديابليرو عرفته هو فلان (وذكر اسم شخص). لقد قام بقتل العشرات وربما المئات من الناس بسحره. ولم نستطع تحمل ذلك فتجمع الناس وفاجئوه ذات يوم وقاموا بإحراقه حيا."
    "منذ متى حدث ذلك؟"
    "حدث سنة 1942 ".
    "هل رأيت ذلك بنفسك؟"
    " كلا لكن لا يزال الناس يتحدثون عن ذلك حتى يومنا هذا. يقولون أنه لم يبق أي رماد رغم أن العود الذي تم ربطه فيه كأن لا يزال مخضرا. كل ما بقي منه في النهاية هو بقعة ضخمة من الشحم المنصهر على الأرض".
                  

05-07-2009, 05:57 PM

محمد عثمان الحاج

تاريخ التسجيل: 02-01-2005
مجموع المشاركات: 3514

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: محمد عثمان الحاج)

    رغم أن دون خوان صنف أستاذه على أنه ديابليرو فإنه لم يذكر المكان الذي تلقى فيه معرفته ولم يقم بتعريف أستاذه. في الواقع دون خوان لم يفش (في تلك المرحلة)سوى القليل جدا عن حياته الخاصة. كل ما قاله لي هو أنه ولد في جهة الجنوب الغربي سنة 1891 وأنه قضى معظم حياته في المكسيك، وأنه في سنة 1900 تم نفي أسرته إلى وسط المكسيك برفقة آلاف أخرى من هنود سونورا وأنه عاش في وسط وجنوب المكسيك حتى سنة 1940، وهكذا وبالنظر إلى أنه كان كثير الترحال فربما كانت معرفته ناجمة من عدة تأثيرات. ورغم أنه كان ينظر إلى نفسه كهندي أحمر من سونورا فأنا لم أكن متأكدا أين أضع محتوى معرفته في ثقافة هنود سونورا. لكن ليس في نيتي هنا أن أحدد نمطه الثقافي على وجه الدقة.
    .........
    .......
    بدأت تلمتذتي على دون خوان في ولاية أريزونا ثم انتقلت إلى سونورا لأن دون خوان انتقل إلى المكسيك أثناء فترة تدريبي على يديه. الطريقة التي اتبعتها كانت الإجتماع به لعدة أيام في كل مرة. وازدادت زياراتي له عددا وطولا في صيف 1961، 1962، 1963 و 1964. عندما أراجع ذلك يبدو لي أن تلك الطريقة منعت التدريب من أن يكون ناجحا لأنها أخرت الإلتزام الكامل الذي كان مطلوبا مني لكي أكون ساحرا. لكن من وجهة نظري الشخصية فالطريقة كانت مريحة لأنها أعطتني فرصة الانفصال والذي بدوره أعطاني فرصة الفحص الناقد الذي كان سيكون مستحيل الحصول عليه لو كنت استمررت في مشاركتي بلا انقطاع. وفي سبمتبمر 1965 انقطعت (مؤقتا) بقرار مني عن التدريب.

    ........
    ........
                  

05-07-2009, 06:00 PM

محمد عثمان الحاج

تاريخ التسجيل: 02-01-2005
مجموع المشاركات: 3514

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: محمد عثمان الحاج)

    استعمل دون خوان، بصورة منفصلة وفي أحيان متفرقة، ثلاثة أنواع من النباتات التي تسبب الهلوسة: البيوتي واسمها العلمي لوفوفورا ويليامسي Lophophora Williamsii وعشبة جيمسون واسمها العلمي داتورا انوكسيا Datura inoxia syn. D. meteloids وفطر ربما كان سيلوسايبي مكسيكانا Psylocybe Mexicana . منذ عهد ما قبل اتصالهم بالأوربيين عرف الهنود الحمر الخواص الهلوسية لهذه النباتات واستعملوها بصورة واسعة في المتعة والعلاج وفي السحر والوصول لحالة النشوة. أما في ما قام دون خوان بتعليمه لي فإنه ربط بين استخدام الداتورا انوكسيا و السايلوسايبي مكسيكانا وبين الحصول على القوة الروحانية، قوة قام بتسميتها "الحليف". (وهو يقابل عند الصوفية الخدام الروحانيين). وربط بين استعمال اللفوفورا ويليامسي وبين الحصول على الحكمة أو معرفة الطريقة الصحيحة للحياة.

    أهمية النباتات بالنسبة لدون خوان كانت قدرتها على توليد مراحل من الإدراك الغريب في الإنسان. لذلك قام بإرشادي لكي أختبر مجموعة متعاقبة من هذه المراحل لغرض كشف طوايا معرفته والتحقق منها. قمت بتسمية هذه الحالات "حالات واقع غير عادي". وأعني بذلك واقع غير معتاد في مقابل الواقع المعتاد. من وجهة نظر معرفة دون خوان فإن تلك الحالات هي واقع حقيقي ولكن واقعيتها مختلفة عن الواقع العادي.
    ......
    في حديث لي معه أوحى لي بأن هنك أشياء معينه لديها قدر معين من القوة الروحانية. رغم أنه هو شخصيا لم يكن يحترم مثل هذه الأشياء كثيرا، فإنه قال أن بعض السحرة الأضعف يستعملونها. كثيرا ما سألته عن مثل هذه الأشياء لكنه كان غير مهتم بالحديث عنها. ولكن عندما أثير الموضوع مرة أخرى فإنه وافق على مضض على الحديث عنها.

    "هناك أشياء مشربة بالقوة الروحانية" قال لي. " هناك عدد كبير منها تبناه رجال ذوي قدرات روحانية بمساعدة أرواح صديقة. هذه الأشياء هي أدوات ليست ادوات عادية، بل أدوات موت. لكنها ليست سوى أدوات وليست لها القدرة على التعليم. الوصف الصحيح لها هي أنها تقع في نطاق أدوات الحرب المصممة للمكافحة، إنها صنعت لكي تميت ولكي ترمى على الأعداء".
    " أي نوع من الأشياء هي يا دون خوان؟"
    " هي في الحقيقة ليست أشياء بل أنواع من القدرات"
    "كيف يمكن للمرء الحصول على هذا النوع من القدرات؟"
    " ذلك يعتمد على نوع الشئ الذي تريده".
    "كم نوع من الأنواع يوجد منها؟"
    " كما قلت لك يوجد عدد كبير منها. أي شئ يمكن أن يتم تحويله لشئ ملئ بالقوة الروحانية".
    "إذن ما هو أشدها قوة؟"
    " قوة الشئ تعتمد على قوة مالكه، أي نوع من الرجال هو. الشئ المشرب بالقوة الذي لدى ساحر من درجة دنيا يكاد يكون نكتة. من ناحية أخرى فالبروجو القوي يمكنه أن يعطي من قوته للأدوات".
    " ما هي أشياء القوة التي تستعمل أكثر من غيرها؟"
    "لايوجد تفضيلات. كلها أشياء ذات قوة كلها متماثلة".
    "هل لديك أيا منها يادون خوان؟"
    لم يجبني. فقط نظر لي وضحك. بقي صامتا زمنا وظننت أن أسئلتي ضايقته.
    " هناك تحديدات بخصوص هذا النوع من القوة. لكنني واثق من أن نقطة كهذه سوف لن تكون مفهومة بلنسبة لك. لقد اقتضى الأمر مني عمرا لكي أعرف أن الحليف يمكنه أن يكشف جميع أسرار هذه الأنواع الدنيا من القوة مما يجعلها طفولية. كان لدي أدوات كهذه ذات مرة عندما كنت شابا يافعا".
    "أي نوع من أشياء القوة كان لديك؟"
    " الميزبينتو والبللورات والريش".
    "ماهو الميزبينتو يادون خوان؟"
    "هو لب ذرة شامية صغير به خط احمر في وسطه"
    "هل هو لب واحد"
    "كلا. البروجو يمتلك ثمانية وأربعين لبا.
    "ماذا يفعل اللب يا دون خوان؟"
    "كل واحد منها يمكنه أن يقتل رجلا عن طريق الدخول في جسمه"
    "كيف يمكن للب أن يدخل داخل جسم الإنسان؟"
    "أنه أداة قوة وقوته تكمن ضمن أشياء أخرى في دخول الجسم".
    "ماذا يفعل عندما يدخل الجسم؟"
    "انه يغمر نفسه داخل الجسم ويستقر في الصدر أو الإمعاء ويمرض الإنسن وما لم يكن البروجو الذي يعالجه أقوى من من سحره فإنه سيموت خلال ثلاثة أشهر من اللحظة التي دخل فيها اللب إلى جسمه.
    " هل هناك طريقة لشفائه؟"
    " الطريقة الوحيدة هي شفط اللب خارج الجسم، لكن القليل جدا من البروجو هم من يجرؤ على ذلك. ربما ينجح البروجو في شفط اللب وإخراجه ولكن مالم يكن هو قويا فإن اللب سيدخل فيه هو ويقتله بدلا عن المريض".
    "ولكن كيف يمكن للب الدخول في جسم إنسان"
    "لكي أشرح لك ذلك سيتوجب علي أن أشرح سحر الذرة الشامية والذي هو واحد من أقوى أنواع السحر التي أعرفها.السحر يتم بواسطة لبين أحدهما يتم وضعه في برعم زهرة صفراء جديد ومن ثم يتم وضع الزهرة بحيث تمس الضحية: الطريق الذي يسير فيه كل يوم، أو أي مكان يعيش فيه. حالما يخطو الضحية فوق اللب أو يمسه بأي وسيلة فإنه قد انتهى. اللب يدخل جسمه.
    "ماذا يحدث للب بعد أن يمسه الأنسان؟"
    كل قوته تدخل الإنسان ويصبح اللب حرا. يصبح مجرد لب مثله مثل أي لب عادي. ربما يظل في المكان الذي تم وضع السحر فيه أو ربما ينجرف بعيدا لا يهم. من الأفضل كنسه بعيدا ليقع بين الحشائش حيث يأكله طائر".
    "هل يمكن أن يأكله طائر قبل أن يلمسه المسحور؟"
    "كلا، لايوجد طائر بذلك الغباء. الطيور تبقى بعيدا عنه".

    ثم شرح دون خوان طريقة معقدة للحصول على لب القوة هذا.

    "يجب أن تعرف أن الميزبينتو هو مجرد أداة وليس حليف. حالما تعرف الفرق فلن تكون لديك مشكلة. ولكن إذا اعتبرت مثل هذه الأدوات ذات مكانة عالية فأنت أحمق."
    "هل أشياء القوة قوية مثل الحليف؟"
    ضحك دون خوان باستهزاء قبل أن يجيب. بدا أنه يبذل جهدا كبيرا لكي يكون صابرا معي.
    " الميز بينتو و البللورات والريش تعتبر مجرد لعب بالمقارنة بالحليف. أشياء القوة هذه تكون ضرورية فقط عندما لا يكون للأنسان حليف، البحث عنها يعتبر مضيعة وقت خاصة بالنسبة لك. يجب عليك أن تحاول الحصول على حليف عندما تنجح حينها ستفهم ما أقوله لك الآن. أشياء القوة هي كمثل لعب الأطفال".
    "لاتسئ فهمي يادون خوان، أنا أريد أن أحصل على حليف ولكنني أريد أيضا أن أعرف كل ما يمكنني معرفته. انت نفسك قلت أن المعرفة هي القوة".
    "كلا!: قالها بطريقة مشددة. القوة تعتمد على نوع المعرفة التي تملكها. ما جدوى معرفة أشياء لا تفيد؟".



    يتبـــــــــــــــع ......
                  

05-08-2009, 06:47 AM

HAIDER ALZAIN
<aHAIDER ALZAIN
تاريخ التسجيل: 12-27-2007
مجموع المشاركات: 22434

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: محمد عثمان الحاج)

    ++
                  

05-08-2009, 07:15 AM

عماد موسى محمد

تاريخ التسجيل: 03-17-2008
مجموع المشاركات: 15955

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: HAIDER ALZAIN)

    Quote: عبر كتابات عالم الأنثروبولجي الأمريكي الذي يعود أصله لدولة بيرو في أمريكا الجنوبية كارولوس كاستانيدا، والذي اختط طريقا في البحث الأنثروبولوجي بأن أصبح تلميذا لشخص ظن أنه أحد سحرة الهنود الحمر ليتمكن من دراسة ذلك النوع من المعرفة، فكان ذلك مفتاح دخوله في عالم هذا الطريق الصوفي المذهل والذي قام هو بتقديمه للناس عبر عدد من الكتب فاقت العشرة ضمت جميع أسرار السلوك والوصول لدرجات الكشف والمشاهدة ودخول العوالم الأخرى ومن ثم الإجابة عن الأسئلة الفلسفية الضخمة التي ظلت تشغل البشرية منذ فجر التاريخ: من نحن؟ من أين أتينا؟ وإلى أين نسير؟

    حيث أن قراء العربية حرموا من هذا التراث الذي يتشابه تشابها مذهلا مع التصوف الإسلامي فسأقوم عبر هذا البوست وربما بوستات لاحقة بترجمة مقاطع من رحلة كاستانيدا مع شيخه العجوز الهندي الأحمر من قبيلة الياكي المكسيكية دون خوان ماتوس والذي كان آخر ناخوال (شيخ مشايخ) في سلسلة من العارفين تعود لآلاف السنين والذي كلف كارلوس كاستانيدا بنقل هذا التراث للبشرية جمعاء. الكتاب الأول الذي أبدا به قد يعطي اطباعا خاطئا بأن هذه المعرفة مرتبطة بالسحر وفي الواقع فذلك لم يكن سوى المدخل الذي أتى به كاستانيدا وقاده منه أستاذه إلى الجزء الحقيقي العالي من تلك المعرفة وهو ما سأتطرق إليه لاحقا في بوستات أخرى إنشاء الله.


    زميلي محمد عثمان:
    "عارفين" دي ما كتيرة على الجماعة ديل؟!!!

    بعدين الأسئلة الفلسفية(الثلاثة)الأرّقت البشرية

    دي أجاب عليها الوحي السماوي بكلام عربي مبين

    في آية واحدة-وأنت الخبير بهذا-:(أيحسب الإنسان

    أن يُترَك سُدى؟ألم يكٌ نُطفَة مِن منِيٍّ يٌمنَى؟ثم كان علقةً

    فخلق فسوّى؟فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى.أليس

    ذلك بقادرٍ على أن يُحيِي الموتى)؟

    بلى -والله-هو قادر-وهو على كل شيئ قدير.

    ومن الإجابات كذلك:(وما خلقتُ الجن والإنسَ

    إلا ليعبدون.ما أُريد منهم مِن رزقٍ وما أريد

    يُطعِمون.إنّ الله هو الرّزّاق ذو القوة المتين)


    وبمناسبة قولك إنه يتشابه مع التصوّف حقنا...

    لم استغرب...لأن التصوف الباطني-بالذات-

    تأثّر كثيرا بتصوف الهنادكة-الهندوس-في الهند

    وفي بلاد فارس وغيرها-يعني الشيطان العمل الكلام

    دا واحد هو... هو.ولأحد علماء باكستان السلفيين

    -قتله الشيعة بقنبلة- كتاب في العلاقة بين التصوف

    والفلسفات الباطنية الهندية.وإسم الشيخ/إحسان إلهي ظهير

    رحمه الله-

    مع الشكر

    */أظهر علينا كتير في أشرطتنا ...ومرحبا بحوارك الجميل.
                  

05-08-2009, 01:44 PM

محمد عثمان الحاج

تاريخ التسجيل: 02-01-2005
مجموع المشاركات: 3514

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: عماد موسى محمد)

    التحية للأخ حيدر الزين وآمل أن يكون هذا البوست مكملا لبوستك عن التصوف والباراسيكولوجي.

    أخي عماد، هناك جوانب من المعرفة الروحية لم تفصلها الديانات السماوية بل أعطت الخطوط العريضة لها وتركت لنا التفاصيل لكي نبحث عنها.

    لعلك تكون سمعت بطائفة اسمها الكاثار في القرون الوسطى، هم امتداد للغنوصيين. هؤلاء الناس اعتبروا أن عملية الخلق نفسها هي نقص كبير لا يليق بالذات الإلهية وأن الخالق لو كان كاملا حقا لما قام بخلق شئ، لذلك انتهوا للإعتقاد بأن خالق هذا العالم كائن شيطاني سموه بالأركون وتقوم ديانتهم علي كيفية الخلاص من هذا الأركون والوصول للإله الحقيقي الذي هو متسامي ومنزه عن أن يخلق شيئا!

    ونجد عندنا نصا يقول أن الله خلق الخلق وقسمهم نصفين وقال هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي وهؤلاء إلى النار ولا أبالي. أي صورة للإله يرسممها هذا النص؟ كائن لا تهمه ألام من خلقهم ويكتب العذاب الأبدي على البعض بدون اي مبرر. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

    قال أحدهم "كفرت بالله لأنه يعذب الأطفال". هل مررت ذات يوم على مستشفى الأطفال ورأيت طفلا يعاني من المراحل الأخيرة من مرض السرطان والتي تسبب آلاما لا تطفئها أقوى مسكنات الألم؟ لماذا يتعذب هذا الطفل ثم يموت؟

    أخي عماد ليس كل البشر مهتما بالإجابة على أسئلة كهذه ولكن هناك من يريد أن يعرف الصورة الكاملة وكل التفاصيل، وللوصول لتلك المعرفة إن وجدت فالبداية هي الإطلاع على كل التراث الروحي البشري، وحكماء الهنود الحمر المكسيكيين ربما كانوا هم أول من ابتدع المنهج العلمي قبل آلاف السنين واستعملوه في استكشاف الجوانب الخفية من الكون. في كل مرة أجد فيها تطبابقا بين ما وصلوا إليه وبين الديانات السماوية وتراثها الروحي أقول لنفسي أن هؤلاء بشر لم يرسل الله لهم رسولاربما لأنهم لم يحتاجوا لذلك!
                  

05-08-2009, 01:48 PM

محمد عثمان الحاج

تاريخ التسجيل: 02-01-2005
مجموع المشاركات: 3514

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: محمد عثمان الحاج)

    وأواصل الرحلة مع دون خوان:

    القسم الأول
    التعاليم
    جلستي الأولى مع دون خوان حسبما دونت تفاصيلها في كراستي مؤرخة بتاريخ 23 يونيو 1961. تلك كانت هي المناسبة التي بدأ فيها تعليمي. كنت قد قابلته عدة مرات من قبل ولكن بصفة مراقب فقط. في كل فرصة سنحت لي طلبت منه أن يعلمني شيئا عن فطر البيوتي إلا أنه تجاهل طلبي في كل مرة لكنه لم يرفض رفضا قاطعا، وفسرت تردده على أنه احتمالية لأن يكون ميالا للحديث عن معرفته إذا أغريته بدرجة أكبر.

    في هذه الجلسة بالذات أوضح لي أنه ربما يقبل طلبي إذا كنت أمتلك صفاء الذهن والهدف فيما يخص ما سألت عنه. كان من المستحيل بالنسبة لي الإيفاء بهذا الشرط لأنني طلبت منه أن يعلمني عن البيوتي فقط كوسيلة لإقامة رابط اتصال فيما بينا. ظننت أن كون الموضوع مألوف له ربما يدفعه لأن يكون أكثر انفتاحا ورغبة في الحديث بحيث يتيح لي مدخلا إلى المعرفة التي يملكها عن خواص النباتات عموما. إلا أنه فسر طلبي بصورة حرفية وأصبح مهموما فيما يخص الهدف من رغبتي في معرفة البيوتي.

    الجمعة 23 يونيو 1961

    "هل ستعلمني عن البيوتي يادون خوان؟"
    " لماذا تحب معرفة شئ كهذا؟"
    " أنا حقيقة أود معرفة شئ عنه. أليس حب المعرفة سبب جيد؟"
    "كلا! يجب أن تبحث في قلبك وتجد لماذا يريد شاب مثلك الدخول في مهمة تعلم كهذه"
    "لماذا تعلمت أنت عنها يا دون خوان؟"
    "لماذا تسأل هذا السؤال؟"
    "ربما لدينا نحن الإثنين نفس الأسباب"
    "أشك في ذلك. أنا هندي أحمر. ليس لدينا نفس المسارات"
    "السبب الوحيد الذي عندي هو أنني أرغب في التعلم عنه، فقط الرغبة في المعرفة. لكنني أؤكد لك يا دون خوان أن نيتي ليست سيئة"
    " أنا أصدقك فأنا قد دخنتك"
    " عفوا ماذا تعني؟"
    لا يهم ذلك الآن. أنا أعرف نواياك"
    "هل تعني أنك رأيت ما في داخلي عن طريق الكشف؟"
    "يمكن لك أن تقول ذلك"
    "هل ستعلمني إذن؟"
    "لا"
    "هل ذلك بسبب أنني لست هندي أحمر؟"
    "لا بل لأنك لا تعرف ما في قلبك. المهم هو أن تعرف بالضبط السبب الذي يدعوك لإقحام نفسك في أمر كهذا. إن التعلم عن" مسكاليتو" هو عمل في غاية الجدية. لو كنت هندي أحمر لكانت رغبتك وحدها كافية، لايوجد سوى القليل جدا من الهنود الحمر الذين لديهم رغبة كهذه".

    الأحد 25 يونيو 1961

    بقيت مع دون خوان طيلة عصر الجمعة. كنت سأغادر في حوالي السابعة والنصف مساء. كنا نجلس في البرندة التي أمام منزله وقررت أن أسأله مرة أخرى عن التعليم. كان السؤال قد أصبح روتيني تقريبا وتوقعت منه أن يرفض مرة أخرى. سألته إن كانت هناك وسيلة لأن يقبل فقط رغبتي في التعلم وكأنني هندي أحمر. وصمت زمنا طويلا قبل أن يجيب. واضطررت للأنتظار لأنه بدا أنه يحاول أن يتخذ قرارا ما.

    في النهاية قال لي أنه توجد طريقة، وبدأ في شرح مسألة. أشار إلى أنني تعبت جدا من الجلوس على الأرض وأن الشئ الصحيح عمله هو العثور على بقعة في الأرضية يمكن لي فيها الجلوس بدون أن أتعب. كنت أجلس على الأرض وركبي مستندة إلى صدري وذراعي تحيطان بساقي، عندما قال أنني متعب لاحظت أن ظهري يؤلمني وأنني مرهق جدا.

    انتظرت منه أن يشرح لي ماذا يعني ببقعة لكنه لم يبد أي ميل لشرح تلك النقطة. ظننت أنه عنى أن أغير موقعي فقمت وجلست قربه، فاحتج على تحركي وشدد على ان البقعة هي المكان الذي يحس فيه الإنسان بأنه سعيد بصورة طبيعية وقوي. وربت على الأرض في موضع جلوسه قائلا بن تلك هي بقعته وأضاف أنه قدم لي معضلة لكي أحلها بنفسي دون أي مناقشات أخرى.

    (عدل بواسطة محمد عثمان الحاج on 05-08-2009, 01:53 PM)

                  

05-08-2009, 02:17 PM

Elkhawad

تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 2843

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: محمد عثمان الحاج)

    .
                  

05-09-2009, 05:09 PM

محمد عثمان الحاج

تاريخ التسجيل: 02-01-2005
مجموع المشاركات: 3514

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: Elkhawad)

    الأخ الخواض شرفني حضورك، وأواصل مع دون خوان:

    الموضوع الذي طرحه كمسألة يتوجب علي حلها كان بالتأكيد لغزا. لم تكن لدي أي فكرة عن كيفية الشروع في الحل أو ماذا كان في ذهنه بالضبط. سألته عدة مرات أن يعطيني دليلا أو حتى إشارة عن كيفية البدء في تحديد موقع البقعة التي تجعلني أشعر بالفرح والإرتياح. وأكدت له وألححت أنني ليس لي أي فكرة عما يعنيه لأنني لم أستطع تصور المسألة. واقترح هو أن أسير في المكان إلى أن أجد البقعة.

    نهضت وبدأت أسير جيئة وذهابا على الأرضية. شعرت بالغباء وجلست أمامه.

    بدا عليه الضيق الشديد مني، واتهمني بعدم الإنصات له، وقال أنني ربما لا أريد أن أتعلم. ثم بعد لحظات هدأ وشرح لي أنه ليس أي مكان صالح لأن يجلس الإنسان فيه، وأنه داخل حدود البرندة هناك بقعة مميزة واحدة، بقعة عندما أجلس فيها أكون في أحسن حالاتي، وأن عملي هو التمييز بينها وبين بقية المكان. النسق العام كان هو أنني يتوجب علي تحسس جميع البقع الممكنة إلى أن أستطيع أن أحدد بدون شك ما هي البقعة المقصودة.

    جادلته بأنه رغم أن البرندة لم تكن كبيرة (12 قدما في 8 أقدام) فإن عدد البقع الممكنة كبير جدا وسيتطلب الأمر مني وقتا طويلا لتفحصها جميعا، وأنه حيث لم يقم هو بتحديد حجم البقعة فإن الإحتمالات هي لا نهائية. لكن حججي لم تجد. نهض وحذرني بجدية من أنه ربما يقتضي الأمر مني عدة أيام للعثور على الحل، وأنني إذا فشلت في الحل فإن علي أن أرحل لأنه لن يكون لديه أي شئ آخر ليقوله لي. وأكد لي أنه يعلم أين هي تلك البقعة، وأنه لذلك لن يمكنني أن أكذب عليه، وقال أن هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكنه بها قبول رغبتي في التعلم عن مسكاليتو كسبب مقبول. ثم أضاف أنه لاتوجد هبات في هذا العالم، وأنه طالما هناك شئ يجب تعلمه فيجب بذل الجهد لتعلمه.

    وخرج للخلاء ليقضي حاجته، ورجع مباشرة لبيته ودخل من المدخل الخلفي.

    ظننت أن إعطائي هذا الواجب الصعب هو طريقته للتخلص مني، مع ذلك نهضت وبدأت أسير جيئة وذهابا. كانت السماء صافية. كان بإمكاني رؤية كل شي داخل البرندة وقربها، لابد أنني واصلت السير لأكثر من ساعة لكن لم يحدث شئ يبين لي موضع البقعة. تعبت من السير وجلست، وبعد دقائق غيرت موضع جلوسي وكررت ذلك حتى غطيت جميع البرندة بطريقة منظمة محاولا تحسس الفرق بين المواضع لكن لم يتكن لدي أسس للتمييز، وشعرت أنني أضيع الوقت. لكنني بقيت. كان تبريري هو أنني أتيت من مكان بعيد لرؤية دون خوان ولم يكن لدي شئ آخر لأفعله.

    استلقيت على ظهري ووضعت يدي تحت رأسي مثل الوسادة. ثم تقلبت ورقدت على بطني لمدة. وكررت هذا التقلب فوق جميع الأرضية. المرة الأولى التي ظننت فيها أنني عثرت على أداة تمييز كانت عندما شعرت بدفء أكبر عندما رقدت على ظهري.

    تقلبت ثانية، هذه المرة باتجاه معاكس للأول، ومرة أخرى قمت بتغطية جميع طول الأرضية، التي تقلبت فيها في المرة الأولى ووجهي متجه للأعلى ومرة أخرى شعرت بفرق في الإحساس بالحرارة والبرودة تبعا لطريقة رقادي ولكن لم يكن هناك اختلاف بين المواضع.

    ثم أتتني فكرة ظننت أنها رائعة: بقعة دون خوان! جلست هناك و رقدت ووجهي متجه للأسفل ثم رقدت على ظهري، لكن المكان كان مثله مثل البقية. ووقفت. شعرت أنني نلت ما فيه الكفاية من التعب. أردت أن أودع دون خوان، لكني شعرت بالحرج من أن أوقظه. نظرت لساعتي. كانت الثانية صباحا! ذلك يعني أنني ظللت أتقلب على الأرضية لمدة ستة ساعات.

    في تلك اللحظة خرج دون خوان، ودار حول البيت متجها للخلاء. ورجع ووقف عند الباب. شعرت بإحباط شديد وأردت أن أشتمه وأغادر. لكنني أدركت أن الخطأ لم يكن خطأه، وأنني اخترت بإرادتي أن أمر عبر كل ذلك الهراء. أخبرته أنني فشلت وأنني ظللت أتقلب عبر الأرضية كمغفل طيلة الليل ولم أستطع أن أجد أي منطق في لغزه.

    ضحك وقال أنه غير مندهش من ذلك لأنني لم أبدأ بصورة صحيحة لأنني لم أستعمل عيوني. كان ذلك صحيحا لكنني كنت متأكدا أنه قال لي أنه يجب أن "أشعر" بالفرق. وقلت له ذلك فرد بأن الإنسان يمكنه أن يحس باستخدام أعينه وذك عندما لا تنظر العين للشئ المراد تحسسه مباشرة. وقال أنه مادام الأمر متعلق بي فليس لي أي وسيلة أخرى للحل غير أن أستعمل كل ما أملكه وهو في هذه الحالة عيوني.

    ودخل المنزل. كنت واثقا أنه كان يراقبني فيما مضى من الوقت. فكرت أنه لا توجد طريقة أخرى له لكي يعرف كيف أنني لم أكن أستعمل عيوني في البحث.

    بدأت التقلب مرة أخرى لأن تلك كانت هي الطريقة التي ارتحت إليها. لكن هذه المرة أرحت ذقني على يدي ونظرت لكل التفاصيل.

    بعد فترة من تركيز النظر لاحظت أن الظلام حولي بدأ يتغير. عندما ركزت نظري على النقطة التي تقع أمام عيني مباشرة فإن المنطقة الطرفية في مجال بصري أصبحت ملونة لونا باهرا بلون أصفر مخضر متجانس. كان ذلك أمرا مدهشا. أبقيت عيني مركزتان على النقطة التي أمامي وبدأت أزحف جانبيا على بطني لمسافة قدم في كل مرة.

    فجأة عند نقطة في منتصف الأرضية لاحظت تغيرا أخر في اللون. في مكان على يميني في حافة مجال بصري أصبح اللون الأصفر المخضر أرجواني قوي. وركزت انتباهي عليه. بهت اللون الأرجواني وتحول للون شاحب ولكنه لا زال لامعا بقي ثابتا طيلة الوقت الذي ركزت انتباهي فيه عليه.

    وضعت بدلتي على ذلك المكان كعلامة، وناديت دون خوان وخرج من حجرته ودخل البرندة. كنت حقيقة في حالة إثارة، فقد رأيت بالفعل تغيرا في الألوان. لم يهلل لما فعلته وبدلا من ذلك طلب مني أن أجلس في تلك البقعة وأن أصف له الشعور الذي أشعر به عند الجلوس فيها.

    جلست ثم رقدت على ظهري. وجلس جواري وسألني عدة مرات عما أشعر به. لكنني لم أشعر بأي شعور مختلف. لمدة ربع ساعة ظللت أحاول أن أحس أو أرى الفرق، في حين وقف دون خوان إلى جانبي بصبر. شعرت بالغثيان. كان هناك طعم معدني في فمي. فجأة أصابني صداع. شعرت أنني على وشك التقيؤ. التفكير في محاولاتي الفاشلة جعلني أشعر بالغيظ لدرجة الغضب. ونهضت.

    لابد أن دون خوان لاحظ إحباطي الشديد. لم يضحك ولكنه قال بجدية شديدة أن علي أن أضغط نفسي إذا كنت أريد التعلم. قال لي أن هناك خياران فقط بالنسبة لي: إما ترك الموضوع برمته والعودة من حيث أتيت، وفي تلك الحالة لن أتعلم أبدا، أو أن أحل المسألة.

    ودخل حجرته مرة أخرى. أردت أن أغادر فورا. لكنني كنت مرهقا لدرجة لا أستطيع معها قيادة السيارة، ثم أن اكتشاف تلك الألوان كان مدهشا بحيث أنني شعرت أن له دلالة من نوع ما، وربما كانت هناك تغيرات أخرى فيها يتوجب العثور عليها. في كل الأحوال كان الوقت قد تأخر على المغادرة. لذلك جلست ومددت رجلي وبدأت مرة أخرى.

    خلال هذه الدورة تحركت بسرعة عبر كل موضع، ومررت ببقعة جلوس دون خوان المفضلة. حتى نهاية الأرضية، ثم أستدرت عائدا لأغطي الحافة الخارجية. عندما وصلت لمنتصف الغرفة لاحظت تغيرا آخر يحدث في الألوان مرة أخرى عند حافة مجال بصري. اللون المتغير الأصفر المخضر الذي كنت أراه في كل المساحة عند نقطة في يميني تحو إلى لون آخر ثابت ومختلف عن اللون الذي سبق لي اكتشافه في البقعة الأولى. خلعت حذائي ووضعته في تلك النقطة كعلامة. واستمررت في الزحف إلى أن غطيت كل الأرضية في جميع الاتجاهات الممكنة. لم ألاحظ أي تغيير آخر في اللون.

    وعدت للنقطة التي فوقها حذائي وتفحصتها. كانت تقع على مسافة خمسة أو ستة أقدام من النقطة الأولى التي وضعت عليها بدلتي، في اتجاه جنوبي. كان هناك حجر كبير بجانبها، ورقدت هناك لفترة محاولا إيجاد دليل، متفحصا كل التفاصيل لكنني لم ألحظ أي اختلاف. وقررت تجربة البقعة الأخرى. جثوت على ركبتي فوقها وكنت على وشك الجلوس عليها عندما شعرت بضيق غير معتاد. كان الأمر مثل الشعور بشئ مادي ملموس يضغط على معدتي. وقفزت متراجعا بحركة واحدة. كان شعر رقبتي مقشعرا وتقوست رجلاي بدرجة خفيفة ومال جسمي للإمام فيما اندفع ذارعي للأمام بتصلب في حين انكمشت أصابعي لتصبح مثل مخالب. لاحظت وضعية جسمي الغريبة وازداد رعبي.

    عدت رغما عني وجلست على الحجر الملاصق لحذائي. وانحدرت من الحجر للأرضية. حاولت أن أعرف ما الذي سبب لي ذلك الخوف. ظننت ان الأمر راجع للتعب الذي كنت أشعر به. كان الوقت يكاد يكون فجرا، شعرت بالغباء والحرج. لكن لم أستطع العثور على السبب الذي جعلني أشعر بالخوف ولم أستطع إيجاد الحل الذي طلبه دون خوان.

    قررت أن أجرب مرة أخرى أخيرة. نهضت وتوجهت ببطء للمكان الذي فوقه بدلتي ومرة أخرى شعرت بنفس الضيق. هذه المرة بذلت جهدا للتحكم في نفسي. جلست ثم جثوت لكي أرقد على بطني لكنني عجزت عن الرقاد رغما عني. تسارعت أنفاسي و تقلبت معدتي. شعرت بإحساس واضح بالفزع، وقاومت الرغبة في الهروب. فكرت أن دون خوان ربما كان يراقبني. وزحفت مرة أخرى عائدا للنقطة الأخرى وأسندت ظهري للحجر. أردت أن استريح لبرهة لكي أرتب أفكاري لكنني استغرقت في النوم.

    سمعت دون خوان يتكلم ضاحكا فوق رأسي. استيقظت.
    قال لي: "لقد وجدت البقعة" .

    لم أفهمه في البداية، لكنه أكد لي أن المكان الذي داهمني فيه النوم هو البقعة المقصودة. مرة أخرى سألني ما الذي أحسه أثناء رقادي عليها. قلت له أنني في الحقيقة لا ألاحظ فرقا.

    طلب مني أن أقارن شعوري ذاك بشعوري عندما رقدت فوق البقعة الأخرى. للمرة الأولى خطر ببالي أنه لا يوجد تفسير لما شعرت به من ضيق فيما مضى من الليل. وحثني بطريقة متحدية على أن أجلس فوق تلك البقعة الأخرى. لسبب لم أعرفه كنت بالفعل خائفا من البقعة الأخرى، ولم أجلس فوقها. وأكد لي أن الأحمق وحده هو من يفشل في ملاحظة الفرق.

    سألته عما إذا كانت لكل واحدة من البقعتين اسم. قال لي أن البقعة الجيدة تسمى سييتو والرديئة تسمى العدو. قال أن هذين المكانين هما المفتاح لأن يكون الإنسان بخير، خاصة الإنسان الذي يسعى للمعرفة. الجلوس وحسب فوق البقعة المناسبة للإنسان يخلق فيه قوة متفوقة في حين أن النقطة العدو تضعف الإنسان وربما تتسبب حتى في موته. قال أنني عندما نمت فوق بقعتي فقد استرجعت طاقتي التي كنت قد بددتها في الليلة السابقة . وقال أن الألوان التي لاحظتها فيما يتعلق بكل واحدة من النقطتين لها نفس التأثير العام وهو إعطاء الإنسان طاقة أو سلبها منه. سالته عما إذا كانت هناك بقع أخرى مماثلة للإثنتين اللتين وجدتهما، وكيفية العثور عليها، وقال أن العالم ملئ بمثل تلك البقع وأن أفضل طريقة للعثور عليها هي مقارنة الألوان.

    لم يكن من الواضح بالنسبة لي ما إذا كنت قد وجدت حل المسألة أم لا، وفي الواقع لم أكن حتى متأكدا من أنه كانت هناك مسألة على الإطلاق، لم أستطع تجنب الإحساس بأن كل تلك التجربة كانت قسرية وعشوائية. كنت متأكدا من أن دون خوان راقبني طيلة الليل ومن ثم شرع في الترفيه عني بأن قال بأن المكان الذي نمت فيه هو المكان المقصود. لكنني لم أجد سببا مقنعا يجعله يفعل شيئا كهذا ثم أنه عندما تحداني أن أجلس فوق البقعة الأخرى عجزت عن ذلك. كان هناك فرقا واضحا بين تجربتي العملية المتعلقة بالخوف من البقعة الأخرى وجدلي العقلاني مع نفسي عن الحدث بأكمله.

    من الناحية الأخرى كان دون خوان متأكدا تماما أنني نجحت وبناء على ذلك فإنه قرر أن يعلمني ما يعرفه عن البيوتي.

    قال لي" لقد طلبت مني أن أقوم بتعليمك عن مسكاليتو وأردت أنا التحقق من أن لديك القوة الكافية لمقابلته وجها لوجه. مسكاليتو ليس شيئا يتم اللهو به. يجب عليك أن تكون مسيطرا على إمكانياتك، الآن أنا تحققت من أنني يمكن أن أقبل رغبتك في التعلم وحدها لتكون سببا كافيا لأن أقوم بتعليمك".
    "هل حقا ستقوم بتعليمي عن البيوتي؟"
    " أنا أفضل أن أسميه مسكاليتو. إفعل مثلما أفعل".
    " متى ستبدأ؟"
    "ليس الأمر بهذه البساطة. أولا يجب أن تستعد".
    " أعتقد أنني مستعد".
    "هذا ليس لهوا. يجب أن تنتظر حتى ينزاح الشك وعندها سوف تقابله".
    "هل يتوجب علي تجهيز نفسي؟"
    "كلا. يتوجب عليك فقط الانتظار. ربما تتخلى عن الفكرة بأكملها بعد فترة. أنت تتعب سريعا. الليلة الماضية كنت على وشك ترك الأمرة برمته والمغادرة حالما أصبحت هناك صعوبة. مسكاليتو يتطلب نية جادة جدا".
                  

05-23-2009, 05:14 PM

محمد عثمان الحاج

تاريخ التسجيل: 02-01-2005
مجموع المشاركات: 3514

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: محمد عثمان الحاج)

    معذرة لاتقطاعي الطويل عن مواصلة هذا البوست بسبب انشغالي ببعض الامتحانات وأواصل مع تعاليم دون خوان:


    الإثنين 7 أغسطس 1961

    وصلت إلى منزل دون خوان بولاية أريزونا في حوالي السابعة مساء يوم الجمعة. كان هناك خمسة هنود حمر آخرين يجلسون معه في برندة منزله. حييته وجلست منتظرا أن يقولوا شيئا. بعد فترة من الصمت نهض أحد الرجال ومشى نحوي وقال:" بويناس نوشز " وبعدها نهض كل الرجال وتقدموا نحوي مكررين نفس التحية ومصافحين لي عن طريق ملامسة سريعة بين أطراف أصابع أيدي كل واحد منا أو عن طريق مسك اليد للحظة خاطفها وتركها تسقط فجأة.

    وجلسنا جميع مرة أخرى. بدأ أنهم خجولون لا يجدون الكلمات للتعبير عما في أنفسهم رغم أنهم جميعا كانوا يتحدثون الإسبانية.

    كانت الساعة حوالي السابعة والنصف مساء حينما نهضوا فجأة جميعا ومشوا نحو مؤخرة المنزل. ولم ينبس أحد بكلمة لمدة طويلة. وأشار لي دون خوان أن أتبعهم وركبنا جميعا في سيارة بيك أب قديمة كانت واقفة هناك. جلست في مؤخرة السيارة مع دون خوان ورجلين أصغر سنا. لم تكن هناك وسائد أو مقاعد وكانت أرضية السيارة المعدنية مؤلمة عند الجلوس عليها خاصة عندما تركنا الطريق المعبد و سرنا في طريق ترابي. وهمس لي دون خوان أننا في الطريق لبيت أحد أصدقائه الذي لديه سبعة قطع مسكاليتو لي.

    قلت له: " هل لديك أي قطع مسكاليتو يا دون خوان؟"
    "نعم عندي ولكن لا أستطيع أن أقدمها لك فكما ترى يجب أن يفعل ذلك شخص آخر"
    "هل يمكن أن تخبرني لماذا يجب أن يقدمها لي شخص آخر؟"
    "ربما تكون أنت غير مقبول بالنسبة لمسكاليتو وأنه لن يحبك وعندها سوف لن تكون أبدا قادرا على التعرف عليه بعاطفة مثلما يتوجب أن يكون، وعندها سوف تتأثر صداقتنا إذا كنت أنا من قدم إليك القطع"
    "ما السبب الذي قد يجعله لا يحبني فأنا لم أفعل أي شئ له؟"
    " كون أن يحبك أو لا يحبك غير مرتبط بفعل معين من جانبك. هو إما أن يأخذك أو يلفظك بعيدا"
    "إذا لم يحبني هل هناك أي شئ يمكن أن أفعله لأجعله يحبني؟"
    بدا أن الرجلين الآخرين سمعا سؤالي وضحكا.
    "لا. لا أستطيع أن أجد أي شئ يمكن أن يفعله الإنسان لكي يجعل مسكاليتو يحبه"

    وأشاح بوجهه عني ولم أعد أستطع مواصلة الحديث معه.

    لابد أن السيارة سارت بنا لما لا يقل عن ساعة قبل أن نتوقف أمام بيت صغير. كانت الظلمة حالكة وبعد أن أطفأ السائق أنوار العربة لم يعد بإمكاني رؤية شئ سوى الشكل العام للمنزل.

    سمعت صوت إمرأة شابة كان واضحا من لهجتها أنها مكسيكية تأمر كلبا بأن يكف عن النباح. خرجنا من السيارة ودخلنا المنزل. وحياها الرجال أثناء مرورهم بها قائلين "بويناس نوشز" وردت عليهم التحية ثم واصلت صياحها للكلب لكي يكف عن النباح.

    كانت الغرفة كبيرة تكدست فيها كمية كبيرة من الأشياء. وألقى ضوء شاحب من مصباح كهربائي صغير ظلالا كئيبة على المكان. كان هناك عدد قليل من الكراسي المكسرة الأرجل ذات المقاعد المتهالكة مسندة للجدران. وجلس ثلاثة رجال على مرتبة موضوعة على الأرضية والتي كانت أكبر قطعة أثاث في الغرفة. كانت قديمة جدا انطرحت حتى وصلت الأرضية وفي الضوء الشاحب بدا لونها أحمر وبدت متسخة. وجلس بقيتنا على الكراسي. جلسنا صامتين لمدة طويلة. فجأة نهض أحد الرجال وذهب لغرفة أخرى. كان يبدو في حوالي الخمسينات من عمره داكن البشرة طويل القامة و خشن المظهر. وعاد بعد لحظة يحمل برطمان من النوع المستعمل لحفظ البن. فتح الغطاء ومد لي البرطمان وبداخله كانت هناك سبعة قطع ذات أشكال غريبة. كانت مختلفة الحجم والشكل، بعضها كان مستدير وبعضها مستطيل. بدا أن ملمسها مثل لب الجوز أو سطح الفلين. وجعلها لونها المائل للبني تبدو مثل قشور جوز صلبة جافة. وأمسكت بهذه القطع وتلمستها لمدة.
    "يتوجب مضغ هذه القطع" قال لي ذلك دون خوان هامسا.

    لم أكن لاحظت أنه جلس بجانبي إلى أن تحدث معي. نظرت للرجال الآخرين ولكن لم يكن أحد منهم ينظر لي، كانوا يتحدثون مع بعضهم البعض بأصوات منخفضة جدا. كانت تلك لحظة تردد شديد وخوف. شعرت أنني أكاد أكون فاقدا للتحكم في نفسي.

    "يتوجب علي الذهاب للحمام" قلت له ذلك. "سوف أذهب خارجا وأتمشى".

    مد لي برطمان القهوة ووضعت قطع البيوتي فيه. كنت على وشك مغادرة الغرفة عندما نهض الرجل الذي كان قد أعطاني البرطمان واتجه نحوي وأخبرني أن مقعد المرحاض في الغرفة الأخرى.

    كان مقعد المرحاض يكاد يكون ملاصقا للباب وبجانبه سرير يكاد يلاصق مقعد المرحاض ويحتل أكثر من نصف الغرفة. كانت المرأة نائمة عليه. وقفت بلا حراك عند الباب لبرهة ثم عدت للغرفة التي يجلس فيها الرجال.

    وتحدث معي صاحب المنزل بالانجليزية "يقول دون خوان أنك من أمريكا الجنوبية. هل هناك نبات مسكال فيها؟
    بدا أنهم مهتمون بأمريكا الجنوبية وتحدثنا عن الهنود الحمر فيها لمدة. ثم سألني أحد الرجال عن السبب الذي يجعلني راغب في تناول البيوتي. أخبرته أنني أريد أن أعرف كيف يحس الإنسان عندما يتناوله. وضحكوا جميعا في حياء.

    وحثني دون خوان قائلا:" امضغها امضغها" بالاسبانية :"ماسكا ماسكا".

    كانت يداي مبللتين بالعرق ومعدتي تتقلص. كان البرطمان الحاوي لقطع البيوتي على الأرض بجانب الكرسي. وانحنيت وأخذت واحدة عشوائيا ووضعتها في فمي. كان طعمها غير طازج . وقسمتها نصفين وبدأت في مضغ إحدى القطع وشعرت بمرارة شديدة ذات رائحة نفاذة وفي لحظة كان فمي كله مخدرا. وازدادت المرارة عندما واصلت المضغ مما جعل لعابي يسيل بكميات لا تصدق. كانت لثتي و الجزء الداخلي من فمي به إحساس كأنني أكلت سمك أو لحم مجفف ومملح يجعل الإنسان يمضغ المزيد. بعد برهة مضغت القطعة الأخرى وتخدر فمي بحيث لم أعد أشعر بالمرارة. وأصبحت قطعة البيوتي في فمي كمية من القصاصات مثل ألياف برتقالة أو قصب سكر ولم أعرف ما اذا كان يتوجب بلعها أو لفظها من الفم، وفي تلك اللحظة نهض صاحب البيت ودعا الجميع للخروج للبرندة.

    وخرجنا وجلسنا في الظلام. كان المكان مريحا في الخارج وأحضر صاحب المنزل زجاجة خمر مكسيكية "تيكيلا" .

    كان الرجال جالسين صفا وظهورهم إلى الحائط وكنت في أقصىالطرف الأيمن من الصف. كان دون خوان يجلس بجانبي وقام بوضع برطمان قطع البيوتي بين ساقي، ثم قدم لي زجاجة المشروب التي انتقلت عبر الصف وأمرني أن أرشف بعض التيكيلا لكي أغسل بها المرارة من فمي.

    بصقت الألياف من فمي ورشفت جرعة. طلب مني دون خوان ألا أبلعها بل أغسل فقط فمي بها لكي أوقف سيلان اللعاب. ولم تساعد كثيرا في وقف تدفق اللعاب ولكنها بالتأكيد ساعدت في غسل الطعم المر من فمي.

    وأعطاني دون خوان قطعة خوخ مجفف أو ربما تين مجفف فلم أكن أتبينها في الظلام ولم يكن بإمكاني معرفة طعمها وطلب مني مضغها بشدة وببطء. ووجدت صعوبة في بلعها فقد بدا أنها ترفض المرور لمعدتي.

    وبعد انتظار قصير دارت الزجاجة مرة أخرى. وقدم لي دون خوان قطعة لحم مجفف وقلت له أنني لا أشعر بالرغبة في الأكل.

    "هذا ليس أكلا" قال لي ذلك بحزم.

    وتكررت الدورة ستة مرات. أتذكر أنني كنت قد مضغت ستة قطع عندما أصبح الحديث متدفقا بين المجموعة، ورغم أنني لم أكن أتبين ما هي اللغة التي كان يتحدثها الجمع فقد كان موضوع الحديث الذي شارك فيه الجميع مثيرا جدا للاهتمام وحاولت أن أنصت باهتمام لكي أستطيع المشاركة، ولكن عندما حاولت أن أتكلم اكتشفت انني غير قادر على الكلام فقد كانت الكلمات تتحرك بلا هدف داخل عقلي.

    وجلست مسندا ظهري للحائط منصتا لما كان الرجال يقولونه. كانوا يتكلمون الإيطالية ويكررون كثيرا عبارة تصف غباء سمك القرش. بدا لي أن موضوع الحديث منطقي وواضح، كنت قد أخبرت دون خوان سابقا أن نهر كولورادو في ولاية أريزونا سماه الأسبان الأوائل نهر الخشب المحروق إل ريو ديل تيثونس وأخطأ أحدهم في هجاء الإسم فتمت كتابته إل ريو دي تيبرونس "نهر سمك القرش". كنت متأكدا أنهم كانوا يتحدثون عن هذا الموضوع لكن لم يخطر ببالي أبدا التفكير في أنه لا أحد من هؤلاء الرجال يتحدث الإيطالية.

    شعرت برغبة شديدة في التقيؤ لكنني لا أتذكر أنني تقيأت. سألت إن كان بإمكان أحدهم ان يأتيني بماء. كنت أشعر بعطش شديد.

    وأحضر لي دون خوان مقلاة كبيرة ووضعها على الأرض قرب الحائط وأحضر أيضا كوبا صغيرا أو علبة غرف به من المقلاة وقدمه لي، وقال لي أنني يجب ألا أشرب فقط علي أن أغسل فمي بالماء.

    بدا الماء لامعا بصورة عجيبة، وزجاجيا مثل ورنيش غليظ القوام. أردت أن أسأل دون خوان عن لماذا كان الماء يبدو هكذا لكنني بذلت جهدا كبيرا في صياغة كلماتي و عندها عرفت أنني لم أعد أعرف اللغة الإنجليزية. ومرت بي لحظة من الارتباك الشديد ثم أصبحت أعرف أنه رغم وجود فكرة واضحة في ذهني فلم أكن قادرا على التعبير عنها. أردت أن أعلق على صفات الماء الغريبة ولكن ما تلا ذلك لم يكن كلاما كان الشعور بأفكاري الصامتة تتدفق من فمي في شكل سائل. كان الأمر يشبه التقيؤ بدون جهد بدون تقلص الحجاب الحاجز. كان تدفقا لطيفا لكلمات سائلة.

    شربت واختفى الشعور بأنني أتقيأ. عندها كانت كل الأصوت قد اختفت ووجدت صعوبة في تركيز عيني. نظرت لدون خوان وعندها اكتشفت أن مجال رؤيتي قد انخفض وأصبح في شكل دائرة أمام عيني. كان ذلك الشعور غير مسلي ولكنه لم يكن غير مريح، على العكس كان يبدو شيئا جديدا. كان بإمكاني استكشاف جميع المكان عن طريق تثبيت نظري في نقطة ومن ثم تحريك رأسي ببطء في أي اتجاه. كنت عندما دخلت البرندة في المرة الأولى قد لاحظت أنها مظلمة فيما عدا وهج أضواء المدينة البعيد في الأفق ولكن في الدائرة التي أصبحت تشكل مجال رؤيتي الجديد أمام عيني كان كل شئ واضحا. ونسيت دون خوان والرجال الآخرين وركزت كل جهدي في استكشاف المكان مستخدما رؤيتي الجديدة.

    رأيت خظ التقاء أرضية البرندة بالجدار، وأدرت رسي ببطء لليمين وتتبعت الخط ورأيت دون خوان يجلس مستندا للجدار، وحركت رأسي لليسار لكي أركز على الماء ووجدت قاع المقلاة، ورفعت رأسي قليلا ورأيت كلبا أسود متوسط الحجم يتقدم. رأيته يتجه للماء. وبدأ الكلب يشرب ومددت يدي لأبعده عن الماء وركزت رؤيتي المركزة الجديدة على الكلب لكي أقوم بدفعه بعيدا ولكن فجأة رأيته يصبح شفاف. كان الماء سائلا لامعا لزجا رأيته يتدفق عبر حلق الكلب لجوفه ثم يندفع من كل شعرة فيه. رأيت السائل المضئ يسري على طول كل شعرة من شعرات الكلب ثم يتدفق خارج الشعر ليكون عرفا طويلا أبيض.

    في تلك اللحظة شعرت بأنني أتشنج بشدة وخلال لحظات تكون نفق حولي كان منخفضا وضيقا وقاسيا وبارد بدرجة عجيبة. كان ملمسه مثل شريط قصدير صلب. وجدت نفسي أجلس على أرضية النفق. حاولت النهوض لكن رأسي اصطدم بالسقف المعدني وتقلص النفق حتى أصبح يخنقني، وأتذكر أنني زحفت تجاه نقطة مستديرة ينتهي عندها النفق وعندما وصلت لها إن كنت قد وصلت فعلا كنت قد نسيت أمر الكلب ودون خوان ونفسي. كنت متعبا وكانت ملابسي مبللة بسائل بارد لزج. وتقلبت جيئة وذهابا محاولا ايجاد وضعية مريحة يكف فيها قلبي عن الخفقان بشدة. وفي إحدى تلك التقلبات رأيت الكلب مرة أخرى.

    فجأة تذكرت كل شئ وفجأة أصبح كل شئ واضحا في عقلي، استدرت باحثا عن دون خوان. لكنني لم أستطع تبين أي شئ أو أي شخص. كل ما كنت قادرا على رؤيته كان الكلب الذي أصبح مشعا وضوء باهر ينبعث من جسمه. مرة أخرى رأيت الماء يتدفق داخله ويوقده مثل نار عظيمة. وتحركت للماء وغمرت وجهي في المقلاة وشربت مع الكلب. كانت يدي أمامي على الأرض وعندما شربت رأيت السائل يسري في عروقي باعثا ألوانا حمراء وصفراء وخضراء. وشربت المزيد والمزيد. شربت إلى أن اشتعلت بكليتي. شربت إلى أن خرج السائل من جسمي عبر كل مساماتي واندفع خارجا منها مثل ألياف حريرية وأصبح لي أنا أيضا عرفا طويلا متوهجا. نظرت للكلب ووجدت أن عرفه مثل عرفي. وملأت سعادة عظيمة كل جسمي، وجرينا أنا والكلب معا في اتجاه ما بدا أنه دفءأصفر منبعث من مكان غير محدد. وهناك لعبنا أنا والكلب. لعبت أنا والكلب وتصارعنا حتى أصبحت أعرف رغباته وأصبح يعرف رغباتي. وتناوبنا في اللعب على هيئة مسرح العرائس. كنت قادرا على جعله يحرك ساقيه عندما أحرك أنا أصابع قدمي، وفي كل مرة كان يومئ فيها برأسه كنت أشعر برغبة لا يمكن مقاومتها في القفز. لكن فعله الإشد عفرتة كان جعلي أحك رأسي بقدمي وأنا جالس وكان يفعل ذلك عن طريق تحريك أذنيه من جانب لآخر. كان ذلك الفعل بالنسبة لي مضحكا لدرجة لا يمكن تحملها.وفكرت أن الأمر هو مزيج من الرشاقة والغرابة و سيطرة تامة. كان الفرح الذي تملكني لا يمكن وصفه وضحكت حتى كدت أعجز عن التنفس.

    أحسست بوضوح أنني غير قادر على فتح عيني، كنت كأنني أنظر عبر حوض ماء. كانت حالة استمرت زمنا طويلا مليئة بالقلق من العجز عن أن استيقظ مرة أخرى ولكن في نفس الوقت كنت مستيقظا. ثم وببطء أصبح العالم واضحا وداخل حدود النظر. مرة أخرى أصبح مجال رؤيتي مستديرا جدا وممتدا ومعه عاد التصرف الطبيعي الواعي، وهو الاستدارة والبحث عن ذلك الكائن المذهل. عند تلك اللنقطة واجهت أصعب التحولات. كان التحول من حالتي الطبيعية في البداية قد حدث دون أن ألاحظه تقريبا : كنا مدركا وكانت أفكاري وأحاسيسي مترتبات على ذلك الإدراك وكان الانتقال واضحا وسلسا، ولكن هذا التغيير الثاني وهو الإستيقاظ والدخول لعالم الوعي الجاد صادما حقا. كنت قد نسيت أنني إنسان! كان الحزن الناجم من ذلك الموقف غير القابل للتصالح معه شديدا بحيث أنني بكيبت.
                  

05-28-2009, 05:35 PM

محمد عثمان الحاج

تاريخ التسجيل: 02-01-2005
مجموع المشاركات: 3514

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: محمد عثمان الحاج)

    السبت 5 أغسطس 1961

    لاحقا في ذلك الصباح بعد الإفطار ركبنا السيارة أنا ودون خوان وصاحب المنزل. كنت أشعر بإرهاق شديد لكنني ما كنت قادرا على أن أغفو في السيارة ولم يدركني النوم إلا بعد أن غادر الرجل المنزل حيث نمت في برندة منزل دون خوان.
    عندما استيقظت كان الظلام قد حل ووجدت أن دون خوان غطاني ببطانية. بحثت عنه ولكنه لم يكن في المنزل وظهر بعد مدة وهو يحمل قدرا يحتوي على فاصوليا مقلية و كمية من الأرغفة المكسيكية. كنت جائعا جدا.

    بعد أن أكلنا وخلدنا للراحة طلب مني أن أحكي له كل ما حدث لي في الليلة السابقة وقمت بسرد تجربتي بتفصيل شديد وبأشد دقة ممكنة.

    بعد أن انتهيت أومأ برأسه وقال:" أعتقد أنك على ما يرام. من الصعب علي أن أشرح الآن كيف ولماذا توصلت لذلك لكنني أعتقد أن الأمور سارت سيرا جيدا بالنسبة لك. كما ترى فهو في بعض الأحيان متلاعب مثل طفل وفي أحيان أخرى فهو مخيف ومرعب، هو إما أن يتلاعب أو يكون جادا جدية مميتة. من المستحيل التنبوء مسبقا بكيفية تصرفه مع شخص معين، لكن عندما يعرفه الإنسان جيدا فذلك ممكن في بعض الأحيان. لقد لعبت معه أنت في الليلة الماضية. أنت الشخص الوحيد الذي أعرفه الذي مر بمثل هذه التجربة مع مسكاليتو".

    "ما هو الفرق بين تجربتي وتجارب الآخرين؟"

    "أنت لست هندي أحمر لذلك يصعب علي التفريق بين الأمور، لكنه إما أن يقبل الناس أو يرفضهم سواء كانوا من الهنود الحمر أم لا. تلك معلومة معروفة بالنسبة لي فقد شاهدت عددا من مثل هذه التجارب. أنا أيضا أعرف أنه يلهو ويجعل بعض الناس يضحكون لكن لم يسبق لي بدا أن رأيته يلعب مع شخص ما".

    "هل يمكن أن تشرح لي يا دون خون كيف يحمي البيوتي ..."
    لم يتركني أكمل سؤالي ولمس كتفي بقوة:
    "إياك أن تسميه ذلك الإسم مرة أخرى. أنت لم تر منه ما يكفي لكي تعرفه"
    "كيف يحمي مسكاليتو الناس؟"
    "هو ينصح. هو يجيب عن أي سؤال تسأله إياه"
    "إذن مسكاليتو هو شئ حقيقي؟ أعني هل هو شئ يمكن للإنسان رؤيته عيانا؟"

    بدا أن سؤالي حيره. نظر لي بوجه خالي من التعبير.
    "ما أعنيه هو أن مسكاليتو ..."

    لقد سمعت ما قلته. ألم تره الليلة الماضية؟"

    أردت أن أقول له أن كل ما رأيته كان كلبا، لكنني لاحظت نظرته المتحيرة.
    "إذن أنت تعتقد ان ما رأيته أنا ألليلة الماضية كان هو مسكاليتو؟"

    نظر لي بنظرة اشمئزاز وضحك وهز رأسه كأنه لايصدق ما يسمعه وأضاف قائلا بلهجة شديدة الوضوح:" لا تقل لي أنك تعتقد أن ما رأيته كان أمك؟"
    كان قد سكت قبل أن يقول كلمة أمك التي استعمل لها لفظا يستعمل عادة لتحقير أم الطرف المخاطب. كان استعماله للكلمة فكاهيا بحيث انفجرنا الاثنين ضاحكين لمدة طويلة.

    ثم لاحظت أن النوم داهمه وهو لم يجب بعد على سؤالي.
                  

05-28-2009, 05:36 PM

محمد عثمان الحاج

تاريخ التسجيل: 02-01-2005
مجموع المشاركات: 3514

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: محمد عثمان الحاج)

    الأحد 6 أغسطس 1961

    قدت سيارتي بصحبة دون خوان إلى المنزل الذي تناولت فيه البيوتي. في الطريق أخبرني أن إسم الرجل الذي "قدمني لمسكاليتو" هو جون. عندما وصلنا للمنزل وجدنا جون يجلس في برندة منزله بصحبة شابين. كانوا جميعا في حالة مرح شديد. كانوا يضحكون ويتكلمون بانطلاق. كانوا ثلاثتهم يجيدون الإنجليزية. قلت لجون أنني أتيت لكي أشكره على مساعدته لي.

    أردت أعرف وجهة نظرهم عن سلوكي أثناء التجربة الهلوسية فقلت لهم أنني كنت أحاول أن أفكر عما قمت بفعله تلك الليلة ولم أستطع تذكره فضحكوا لكنهم رفضوا الكلام عن ذلك. بدا أنهم صمتوا بسبب وجود دون خوان. كانوا جميعا ينظرون إليه وكأنهم ينتظرون موافقته لكي يتكلموا عن الموضوع. ويبدو أن دون خوان أوعز اليهم بالكلام رغم أنني لم ألاحظ صدور أي إشارة من جانبه بذلك، لأن جون بدأ فجأة يحدثني عما قمت به تلك الليلة.

    قال أنه عرف أنني تم "أخذي" عندما سمعني أتقيأ. وقدر أنني تقيأت ثلاثين مرة. وصححه دون خوان قائلا أنها كانت عشرة مرات فقط.

    واستمر جون في الحديث:" ثم تحركنا جميعا وجلسنا جوارك، كنت متصلبا وتصاب بتشنجات. لمدة طويلة وأنت راقد على ظهرك كنت تحرك فمك وكأنك تتكلم. ثم بدأت تضرب الأرض برأسك فقام دون خوان بوضع قبعة قديمة على رأسك فتوقفت عن فعل ذلك. وأخذت ترتعش وتتأوه لساعات وأنت راقد على الأرضية. أعتقد أن الجميع خلدوا للنوم بعد ذلك لكنني سمعتك تنفث وتتأوه أثناء نومي. ثم سمعتك تصرخ فاستيقظت. رأيتك تقفز في الهواء وتصرخ. وثبت نحو الماء وركلت المقلاة فانقلبت وبدأت تعوم في الماء الذي اندلق منها.

    "أحضر لك دون خوان المزيد من الماء فجلست بهدوء أمام الماء وشربت بجرعات كبيرة. ثم جلست هناك وحدقت للفراغ. ظننا أنك ستظل على تلك الحالة للأبد. كان الجميع نائمين تقريبا بما فيهم دون خوان عندما قفزت أنت مرة أخرى وأنت تعوي وركضت نحو الكلب. وخاف الكلب وعوى هو أيضا وجرى نحو مؤخرة المنزل. ثم استيقظ الجميع.

    "نهضنا جميعا. أتيت أنت من الجزء الآخر من المنزل وأنت لا تزال تطارد الكلب. كان الكلب يجري أمامك وهو ينبح ويعوي. أظن أنك جريت حوالي العشرين مرة حول المنزل على شكل دائري وأنت تنبح ككلب. خشيت أنا أن يسمع الناس خارج المنزل ذلك فيثير فضولهم. لا يوجد جيران هنا ولكن عوائك كان عاليا لدرجة أنه كان يمكن سماعه على بعد أميال.".

    وأضاف أحد الشابين: ثم لحقت بالكلب وأحضرته للبرندة حاملا إياه بين ذراعيك"

    وواصل جون الحكاية :" ثم بدأت تلعب مع الكلب. تصارعت معه وعضضت أنت والكلب بعضكما البعض ولعبتما. فكرت حينها أن ذلك مضحك. كلبي في العادة لا يلعب. لكن تلك المرة كنت أنت والكلب تتقلبان فوق بعضكما البعض".

    "ثم جريت للماء وشرب الكلب معك" قال الشاب ذلك. "جريت خمسة أو ستة مرات للماء مع الكلب".
    "كم من الوقت دام ذلك ؟" سألته أنا.
    قال جون:" ساعات. في وقت ما اختفيتما الإثنين عن نظرنا أعتقد أنكما جريتما نحو الجانب الخلفي من المنزل، فقط كنا نسمعكما تنبحان وتزمجران. كان صوتك مشابها لصوت كلب بحيث كان من المستحيل التمييز بينكما."
    "ربما كان ذلك صوت الكلب وحده " قلت لهم ذلك فضحكوا وقال جون:" لقد كنت تنبح هناك حقا".

    "ماذا حدث بعد ذلك؟"
    نظر الرجال الثلاثة لبعضهم البعض وبدا أنهم يجدون صعوبة في تحديد ما حدث. في النهاية تكلم الشاب الآخر الذي كان قد ظل صامتا طوال الوقت فقال :"لقد اختنقت" ونظر إلى جون.
    "نعم بالتأكيد أنت اختنقت. بدأت تبكي بصورة غريبة. ثم سقطت على الأرض. ظننا أنك تعض لسانك ففتح دون خوان فكيك وصب الماء في فمك. ثم بدأت ترتجف وتصاب بتشنجات مرة أخرى. ثم ظللت بلا حراك لزمن طويل. قال دون خوان أن الأمر انتهى، كان الصباح قد أصبح حينها فغطيناك ببطانية وتركناك لتنام في البرندة"

    توقف هنا عن الحديث ونظر لبقية الرجال الذين كان واضحا أنهم يقاومون الرغبة في الضحك. واستدار نحو دون خوان وسأله عن شئ وابتسم دون خوان وجاوبه. واستدار جون نحوي وقال: " تركناك هنا في البرندة لأننا خشينا من أن تتبول في كل الغرف"

    وضحكوا جميعا بصوت عال جدا.
    "ماذا حدث لي؟" سألتهم. "هل أنا فعلت ..."
    "أنت فعلت؟ " قال ذلك جون مقلدا صوتي. "لم نكن نريد أن نذكر هذا لكن دون خوان يقول انه لا ضرر من ذكره. لقد تبولت أنت على كلبي".
    "ماذا فعلت أنا؟"
    "هل ظننت أن الكلب كان يهرب منك لأنه خائف منك؟ لقد جرى الكلب لأنك كنت تتبول عليه".
    وانفجر الجميع بالضحك عند هذه النقطة، وحاولت أن أطرح الأسئلة على أحد الشابين ولكنهم كانوا جميعا يضحكون ولم يسمعني.

    وواصل جون الحديث:"لكن كلبي انتقم منك وقام هو الأخر بالتبول عليك! "

    كانت هذه العبارة فيما يبدو مثيرة جدا للضحك لأن الجميع ضجوا بالضحك. وعندما هدأوا أخيرا سألتهم:" "هل هذا حقيقي؟ هل حدث هذا فعلا؟"
    وأجابني جون وهو لايزال يضحك:" أقسم لك أن كلبي حقا تبول عليك"

    وفي طريق عودتنا سألت دون خوان:"هل حقا حدث ذلك يا دون خوان؟"
    قال لي دون خوان" نعم، لكنهم لم يعرفوا ما رأيته أنت. هم لم يعرفوا أنك كنت تلعب "معه" ذلك هو سبب أنني امتنعت عن ايقافك."
    "لكن هل ماحدث مع الكلب وتبول كلا منا على الأخر حقيقي؟"

    "لم يكن ذلك كلبا! كم مرة يجب علي أن كرر ذلك؟ هذه هي الطريقة الوحيدة لفهم ذلك. إنها الطريقة الوحيدة! كان "هو" الذي لعب معك".
    "هل كنت تعرف بأن ذلك هو ما كان يحدث حتى قبل أن أحكي لك عما رأيته أنا؟"
    وتريث لبرهة قبل أن يجيب:" كلا، لقد تذكرت بعد أن أخبرتني أنت المظهر الغريب الذي كنت تبدو عليه. أنا ظننت فقط أنك على ما يرام لأنك لم تبد خائفا"
    "هل لعب الكلب معي حقا كما قالوا؟"
    "تبا! ذلك لم يكن كلبا! "
                  

05-29-2009, 07:03 PM

محمد عثمان الحاج

تاريخ التسجيل: 02-01-2005
مجموع المشاركات: 3514

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: محمد عثمان الحاج)

    الخميس 17 أغسطس 1961
    أخبرت دون خوان عن شعوري عن تجربتي. من وجهة نظر العمل الذي كنت أنويه كانت حدثا يشكل كارثة. قٌلت له أنني غير مهتم بـ "لقاء" آخر مع مسكاليتو. وافقته على أن كل ما حدث لي كان أكثر من مثير للاهتمام، لكنني أضفت أنه ليس فيه أي شئ يدعوني لتكرار التجربة مرة أخرى. شعرت بصورة جدية أنني لم أخلق للدخول في أمر كهذا. أحدث البيوتي في نفسي رد فعل بعد تناوله، نوع غريب من عدم الارتياح الجسدي. كنت أشعر بفزع غير محدد من الحزن والكآبة من نوع ما لم أستطع تحديد شعوري بصورة قاطعة، ولم أجد أن تلك حالة نبيلة على الإطلاق.

    ضحك دون خوان وقال "لقد بدأت تتعلم".
    "هذا النوع من التعلم لا يناسبني. أنا لم أخلق له يا دون خوان".
    "أنت تبالغ دائما".
    "هذه ليست مبالغة"
    "هي كذلك. المشكلة الوحيدة أنك تبالغ فيما يخص النقاط السيئة فقط".
    "لا توجد نقاط جيدة من وجهة نظري. كل ما أعرفه أنه يخيفني".
    "ليس هناك خطأ في أن تكون خائفا. عندما تخاف ترى الأشياء بطريقة مختلفة".
    "لكنني غير مهتم برؤية الأشياء بطريقة مختلفة يا دون خوان. أعتقد أنني سأتخلى عن التعلم عن مسكاليتو. لا أستطيع التعامل معه يا دون خوان. هذا موقف سئ بالنسبة لي".
    "هو بالتأكيد موقف سئ حتى بالنسبة لي. لست أنت وحدك المحتار".
    "لماذا تتحير أنت يا دون خوان؟"
    "كنت أفكر فيما رأيته أنا تلك الليلة. مسكاليتو لعب معك بالفعل. ذلك حيرني لأنه كان ذو دلالة (فأل).
    "أية دلالة يا دون خوان؟"
    "مسكاليتو كان ينبهني مشيرا إليك".
    "من أجل ماذا؟"
    "لم يكن الأمر واضحا بالنسبة لي حينها لكنه واضح بالنسبة لي الآن. كان يعني أنك أنت الرجل المختار. مسكاليتو كان يشير لي إليك، وبذلك أخبرني أنك أنت الرجل المختار".
    "هل تعني أنني تم اختياري من بين مجموعة من الناس لكي أقوم بمهمة أوشئ من هذا القبيل؟"
    "كلا. مسكاليتو قال لي أنك أنت يمكن أن تكون الرجل الذي أبحث عنه".
    "متى أخبرك ذلك يا دون خوان؟"
    "عن طريق قيامه باللعب معك أخبرني بذلك. لدي أسرار لا يمكن لي كشفها لإنسان ما لم أجد رجلي المختار. لكنك لست هندي أحمر. ما أغرب ذلك! "
    "لكن ماذا يعني ذلك بالنسبة لي يا دون خوان؟ ماذا يتوجب علي فعله؟"
    لقد حزمت أمري وقررت أن أعلمك الأسرار التي تصنع رجلا من الرجال العارفين"
    "هل تعني أسرار عن مسكاليتو؟"

    "نعم لكن هذه ليست كل الأسرار التي أعرفها. هناك أسرار أخرى من نوع آخر أود أن أعطيها لشخص. أنا نفسي كان لدي أستاذ، صليح، وأنا أيضا أصبحت رجله المختار بعد أن أنجزت مهمة صعبة. لقد علمني كل ما أعرفه.

    سألته مرة أخرى ما الذي يتطلبه مني هذا الدور الجديد فقال لي أن التعلم هو كل ما هنالك، تعلم من النوع الذي اختبرته في جلستي الإثنتين معه.

    كانت الطريقة التي تطور بها الأمر غريبة حقا. كنت قد قررت أن أخبره أنني تخليت عن فكرة التعلم عن البيوتي ثم قبل أن أوضح له تلك النقطة تماما إذا به يعرض علي أن يعلمني معرفته. لم أكن أعرف ما يعنيه بذلك لكنني شعرت أن هذا التبدل المفاجئ مهم جدا. وأحتججت بأنني غير مؤهل لمهمة كهذه لأنها تحتاج لشجاعة نادرة لا أملكها أنا. قلت له أن عيب شخصيتي هي أنني أحب أن أتكلم عن أفعال قام بها آخرون. أنا أريد أن أسمع وجهات نظر وأفكار عن كل شئ. قلت له أنني سأكون سعيدا بالجلوس هناك والاستماع له لأيام بلا انقطاع، بالنسبة لي ذلك هو التعلم.

    وأنصت لي دون مقاطعة من جانبه، وتكلمت أنا لمدة طويلة ثم قال:" كل هذا يسهل فهمه. الخوف هو أول عدو طبيعي للإنسان يتوجب عليه هزيمته في طريقه للمعرفة. إلى جانب ذلك فانت فضولي وذلك يرجح الكفة. سوف تتعلم بالرغم مما في نفسك، تلك هي القاعدة".

    واحتججت لوقت قصير بعد ذلك، محاولا أن أجعل يغير رأيه لكنه بدا مقتنعا بأنه لا يوجد شئ آخر أفعله سوى التعلم.

    قال لي: "أنت لا تفكر بتسلسل صحيح. مسكاليتو لعب معك بالفعل. تلك هي النقطة التي يتوجب التفكير عنها. لماذا لا تمعن التفكير في ذلك بدلا من التفكير عن الخوف؟
    "هل كان الأمر شاذا لهذه الدرجة؟"
    "أنت الشخص الوحيد الذي رأيته يلعب معه. أنت غير معتاد على هذا النوع من الحياة لذلك فأنت لا تلاحظ الدلالات (الفال). لكنك شخص جاد لكن جديتك مرتبطة بما تفعله وليس بما يجري خارج نفسك. أنت تفكر عن نفسك بصورة أكثر مما يجب. تلك هي المشكلة. وذلك ينتج تعبا شديدا".
    "لكن ماذا يمكن لأي إنسان أن يفعل بخلاف ذلك؟"
    "ابحث وأنظر للعجائب التي تحيط بك. عندما تنظر لنفسك وحدك فانت تتعب وذلك التعب يجعلك أصم وأعمى عن كل شئ آخر".
    " أنت على حق يا دون خوان، ولكن كيف لي أن أتغير؟"
    "فكر عن أعجوبة قيام مسكاليتو باللعب معك. لا تفكر عن أي شئ آخر، البقية ستأتي إليك بنفسها."

    الأحد 20 أغسطس 1961

    الليلة الماضية بدأ دون خوان يدخلني في مجال معرفته. جلسنا أمام منزله في الظلام. فجأة بعد صمت طويل بدأنا نتكلم قال لي أنه سينصحني بنفس الكلمات التي التي اسعتملها أستاذه هو في أول يوم قبل فيه أن يكون تلميذ له. كان دون خوان قد حفظ الكلمات عن ظهر قلب لأنه رددها عدة مرات لكي يتأكد من أنني لم تفتني أيا منها:
    " يتوجب على الرجل أن يذهب للمعرفة بنفس الطريقة التي يذهب بها للحرب: صاحيا بأقصى ما يمكن، شاعرا بالخوف والإحترام والثقةالكاملة. الذهاب للمعرفة أو للحرب بأي طريقة أخرى هو خطأ ومن يرتكب مثل ذلك الخطأ سيقضي بقية حياته نادما عليه".

    سألته لماذا كان الأمر كذلك فقال لي أن الرجل عندما يستوفي هذه المتطلبات الأربعة فليست هناك أخطاء يتوجب عليه دفع ثمنها وتحت ظروف كهذه فإن أفعاله تكون خالية من صفة ارتكاب الأخطاء التي تميز أفعال الأحمق. إذا فشل رجل كهذا أو عانى من هزيمة فإنه يكون قد خسر فقط معركة ولن يكون هناك ندم مثير للشفقة على ذلك.

    ثم قال لي أنه ينوي أن يعلمني عن "الحليف" بنفس الطريقة التي درسه بها أستاذه. وركز في كلامه على الكلمات "بنفس الطريقة" وكرر العبارة التالية عدة مرات.

    قال لي:"الحليف هو قوة يمكن للإنسان أن يدخلها حياته لتساعده وتنصحه وتعطيه القوة اللازمة للقيام بأعمال سواء كانت كبيرة أو صغيرة، صحيحة أو على خطأ. هذا الحليف ضروري لتحسين حياة الإنسان وإرشاده وزيادة معرفته. في الواقع الحليف هو مساعدة لا يمكن الاستغناء عنها للحصول على المعرفة. قال دون خوان ذلك باقتاع شديد وقوة. بدا أنه يختار كلماته بعناية. وكرر الجملة التالية أربعة مرات:" الحليف سوف يجعلك ترى وتفهم أشياء لا يمكن لبشر أن يشرحها لك".
    "هل الحليف هو شئ مثل روح حارسة؟"
    "الحليف ليس حارسا وليس روحا. هو مساعد"
    "هل مسكاليتو هو حليفك؟"
    "كلا! مسكاليتو نوع آخر من القوة. قوة فريدة، حامي و معلم".
    "ما الفرق بين مسكاليتو وبين الحليف؟"
    "لا يمكن تدجينه واستعماله. مسكاليتو هو خارج نفس الإنسان. هو يختار أن يظهر نفسه بعدة أشكال لمن يقف أمامه سواء كان ذلك الواقف بروجو أو فلاح".
    وتكلم دون خوان بحماس شديد عن كون مسكاليتو معلم يدرس الإنسان الطريق الصحيح للعيش. وسألته كيف يقوم مسكاليتو بتدريس الطريقة الصحيحة للعيش وأجاب دون خوان بأن مسكاليتو يري الإنسان كيف يعيش.
    "كيف يريه؟"
    "لديه عدة طرق لذلك. بعض الأحيان يبين له ذلك في كفه أو على الصخور أو الأشجار أو يقوم بإظهار ذلك أمام الإنسان وحسب".
    "هل يكون ذلك مثل صورة أمامك؟"
    "كلا. إنه تدريس يتم أمامك"


    يتبـــــــــــع
                  

05-29-2009, 07:06 PM

ALazhary2
<aALazhary2
تاريخ التسجيل: 09-06-2003
مجموع المشاركات: 4966

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: محمد عثمان الحاج)

    .
    .

    أستاذنا محمد عثمان الحاج

    ملأك الله عافية وكلأك كلاءة من يخشاه بالغيب إنه حميد مجيد .

    أتابع ماتكتبه باهتمام، وأبحث عن مداخلتك من خلال خاصية البحث .

    بصدق : ثقافتك موسوعية،ومدهشة.

    لا حرمنا الله جميل تواجدكم بهذا المنتدى .

    وتقبل خالص التحية والود والتقدير .


    .
    .

    (عدل بواسطة ALazhary2 on 05-29-2009, 07:11 PM)

                  

05-29-2009, 07:08 PM

محمد عثمان الحاج

تاريخ التسجيل: 02-01-2005
مجموع المشاركات: 3514

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: محمد عثمان الحاج)

    "هل يتكلم مسكاليتو مع الإنسان؟"
    "نعم ولكن ليس بالكلمات"
    "كيف يتكلم إذن؟"
    "هو يتكلم بطريقة مختلفة مع كل إنسان"

    شعرت أن أسئلتي تضايقه. وكففت عن التساؤل. واستمر في الشرح وقال أنه ليست هناك خطوات معينة يتم إتباعها لمعرفة مسكاليتو لذلك لا يمكن لأحد أن يدرس شخص آخر عن مسكاليتو ما عدا مسكاليتو نفسه. هذه الخاصية تجعل منه قوة فريدة فهو يتجلى لكل إنسان بصورة مختلفة.

    من ناحية أخرى قال دون خوان أن الحصول على الحليف يتطلب تعليم دقيق جدا واتباع مراحل وخطوات محددة بدون أي إنحراف عنها. وقال ان هناك الكثير من مثل هذه القوى في الكون لكنه لا يألف منها سوى اثنتين. وهو سوف يقودني لهما ولأسرارهما ولكن سيتوجب علي اختيار إحداهما لأنه لن يكون لي سوى واحدة فقط منهما. وقال لي أن حليف أستاذه كان عشبة الشيطان ولكنه شخصيا لم يحبها رغم أن أستاذه علمه أسرارها. حليفه هو شخصيا هو الدخان الصغير لكنه لم يشرح لي طبيعة الدخان.

    سألته عن الدخان فبقي صامتا. وبعد صمت طويل سألته:
    "أي نوع من القوة هو الحليف؟"
    "هو مساعد. قلت لك ذلك من قبل".
    "كيف يقوم بالمساعدة؟"
    "الحليف هو قوة قادرة على حمل الإنسان لخارج حدود نفسه. تلك هي الكيفية التي يقوم بها الحليف بكشف أمور لا يمكن لإنسان كشفها".
    "لكن مسكاليتو أيضا يحملك لخارج حدود نفسك. ألا يجعل ذلك منه حليفا؟"
    "كلا. مسكاليتو يحملك لخارج حدود نفسك لكي يقوم بتعليمك. الحليف يحملك خارج حدود نفسك لكي يعطيك قوة"

    طلبت منه أن يشرح لي هذه النقطة بتفصيل أكبر،أو أن يصف الفرق بين الإثنين في التأثير. ونظر لي نظرة طويلة وضحك. وقال أن التعلم من خلال المحادثة ليس هو إضاعة وقت فحسب، بل غباء لأن التعلم هو أصعب مهمة يمكن أن يقوم بها إنسان. وطلب مني تذكر المرة التي حاولت فيها العثور على بقعتي الصديقة وكيف أنني كنت أريد العثور عليها بدون القيام بأي جهد لأنني توقعت منه أن يعطيني كل المعلومات اللازمة. وقال لي أنه لوقام بإعطائي المعلومات كاملة لما أمكنني أن أتعلم. ولكن معرفة صعوبة العثور على بقعتي وفوق كل ذلك معرفة أنها حقا موجودة سيعطيني ثقة فريدة بالنفس. وقال أنني طالما بقيت فوق بقعتي الجيدة فلا يمكن لشئ أن يتسبب لي في أذى بدني لأن لدي التأكيد أنني عندما أكون فوق تلك البقعة أكون في أفضل حالاتي. سيكون لدي القوة لأدفع بعيد أي شئ يكون مؤذيا لي. وأكد لي أنه لو كان أراني مكان وجودها لما حصلت أبدا على الثقة بالنفس المطلوبة لاستيعاب ذلك كمعرفة فريدة. لذلك المعرفة هي حقا القوة.

    ثم قال دون خوان أنه في كل مرة يقصد فيها الإنسان أن يتعلم فعليه أن يبذل جهدا مثل الذي بذلته أنا لمعرفة تلك البقعة، وحدود ذلك لاتعلم تحددها طبيعته الخاصة به. لذلك فهو يرى أنه لا جدوى من التحدث عن المعرفة. وقال أن بعض أنواع المعرفة هي أكبر من طاقتي وأن الحديث عنها سوف لن يجلب لي سوى الأذى. من الواضح أنه كان يشعر بأنه لا يوجد شئ آخر يريد قوله. ونهض وسار نحو منزله. وقلت له أن الموقف قد أعجزني. إنه ليس ما كنت أتصوره أو أريده أن يكون.

    وقال أن المخاوف هي أمر طبيعي وأننا جميعا نمر بها ولا يمكن لنا أن نفعل شيئا تجاه ذلك. ولكن من ناحية أخرى مهما كان التعلم مخيفا فإن ما يخيف أكثر هو حال الإنسان الذي ليس له حليف أو ليست له معرفة.


    يتبـــــع
                  

05-29-2009, 07:12 PM

محمد عثمان الحاج

تاريخ التسجيل: 02-01-2005
مجموع المشاركات: 3514

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: محمد عثمان الحاج)

    لك الشكر أخي الأزهري وتسعدني جدا متابعتك لهذا البوست، وآمل أن أتمكن من ترجمة الجزء الأكبر من تعاليم دون خوان هنا، وعن طريق مقارنة هذه المعرفة الروحية المبنية على أسس مختلفة تماما عما هو موجود في ثقافتنا فإن ذلك ينير أمامنا الكثير من غوامض النفس البشرية وعلاقتها بالكون وما فيه من قوى.
                  

05-31-2009, 05:56 PM

محمد عثمان الحاج

تاريخ التسجيل: 02-01-2005
مجموع المشاركات: 3514

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: محمد عثمان الحاج)

    3
    أثناء المدة التي تجاوزت العامين بين اليوم الذي قرر فيه دون خوان أن يعلمني عن قدرات الحليف وبين الوقت الذي ظننت فيه أنني أصبحت مستعدا للتعلم عنها، وذلك بالطريقة البراغماتية المعتمدة علىالمشاركة التي يعتبرها هو تعلما، قام تدريجيا بتعريف الخصائص العامة للحليفين المعنيين. وقام بتجهيزي للمترتبات التي لا يمكن تجاوزها للكل ما قام بتلقينه لي وتدعيمه من تعاليم، حالات الواقع غير العادي.

    في البداية تكلم عن قوى الحليف بطريقة ارتجالية جدا. الإشارات الأولى لهذا الموضوع المسجلة ضمن ملاحظاتي مبعثرة بين مواضيع حديث أخرى.

    (عدل بواسطة محمد عثمان الحاج on 05-31-2009, 05:59 PM)

                  

05-31-2009, 06:01 PM

محمد عثمان الحاج

تاريخ التسجيل: 02-01-2005
مجموع المشاركات: 3514

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: محمد عثمان الحاج)

    الأربعاء 23 أغسطس 1961

    "عشبة الشيطان (عشبة جيمسون) كنت هي حليف أستاذي. كان يمكن أن تكون حليفتي أنا أيضا لكنني لم أحبها".
    "لماذا لم تحب عشبة الشيطان يادون خوان؟"
    "لديها عيب فظيع".
    "هل هي أقل مرتبة من قوى الحلفاء الأخرين؟"
    "كلا. لا تسئ فهمي. هي بنفس قوة الحلفاء الآخرين ولكن هناك شئ فيها لا أحبه".
    "هل يمكن أن تخبرني ما هو؟"
    "هي تشوه الرجال. إنها تذيقهم طعم القوة بسرعة دون أن تحصن قلوبهم وبذلك تجعلهم محبين للسيطرة و لايمكن التنبؤ بتصرفاتهم. إنها تجعلهم ضعفاء رغم ما تهبه لهم من قوة هائلة".
    "ألا توجد طريقة أخرى لتجنب ذلك؟"
    "هناك طريقة للتغلب على ذلك وليس تجنبه. الإنسان الذي يصبح حليف العشبة يتوجب عليه دفع الثمن".
    "كيف يمكن لنا التغلب على هذا التأثير يادون خوان؟"
    "عشبة الشيطان لديها أربعة رؤوس: الجذر والساق والأوراق والأزهار والبذور. كل واحدة من هذه تختلف عن الأخريات وكل من يصبح حليف العشبة يتوجب أن يتعلم عن تلك الأجزاء بهذا الترتيب. أهم رأس من هذه الرؤوس هو الجذور. الساق والأوراق هي الرأس الذي يشفي الأمراض وإذا تم استعمال هذا الرأس بطريقة صحيحة فإنه هبة عظيمة للإنسانية. الرأس الثالث هو الأزهار وهو يستعمل في إصابة الناس بالجنون أو إخضاعهم أو قتلهم. الرجل الذي تكون العشبة حليفته لا يتناول الأزهار أبدا ولا الساق ولا الأوراق ما عدا في حالة أن يصيبه مرض لكن الجذور والبذور يتم تناولها دائما خاصة البذور فهي الرأس الرابع لعشبة الشيطان وهي أقوى الرؤوس الأربعة.
    " كان أستاذي يقول أن البذور هي الرأس الواعي ـ الجزء الوحيد الذي يمكنه تحصين قلب الإنسان. كان يردد أن عشبة الشيطان صعبة المراس مع من تتبناهم لأنها تهدف لأن تقتلهم بأسرع ما يمكن وهو شئ تفعله في العادة فبل أن يصلوا لأسرار الرأس الواعي. لكن هناك حكايات عن أشخاص كشفوا أسرر الرأس الواعي. ياله من تحدي بالنسبة للعارف!"
    "هل اكتشف أستاذك تلك الأسرار؟"
    "كلا لم يفعل"
    "هل قابلت ي إنسان تمكن من ذلك؟"
    "كلا ولكن كان هناك أناس فعلوا ذلك كانوا يعيشون في زمن كانت فيه تلك المعرفة مهمة"
    "هل تعرف أي إنسان قابل أناس كهؤلاء؟"
    "كلا، لا أعرف".
    "هل كان أستاذك يعرف أيا منهم؟"
    "نعم كان يعرف".
    "لماذا لم يتوصل لأسرار الرأس الواعي؟"
    "تدجين عشبة الشيطان لتكون حليف هو واحد من أصعب المهام التي أعرفها. على سبيل المثال هي لم تتحد معي أبدا ربما لأنني لم أعشقها أبدا".
    "هل يمكن أن تجعل منها حليف رغم أنك لا تحبها؟"
    "نعم يمكنني، لكني أفضل ألا أفعل ذلك. ربما يكون الأمر مختلفا معك".
    "لماذا سميت بعشبة الشيطان؟"
    هنا أشار دون خوان إشارة تدل على اللامبالاة، هز كتفيه وبقي صامتا لمدة. في النهاية قال أن عبارة "عشبة الشيطان" هو اسمها المؤقت. وقال أنه توجد أسماء أخرى لعشبة الشيطان لكنها لا تستعمل لأن إطلاق الأسماء هو أمر جدي خاصة إذا كان الإنسان بصدد تدجين قوة حليف. وسألته لماذا كان إطلاق الإسماء أمر جاد. وقال أن الأسماء مقصور استعمالها على إحتياج الإنسان للمساعدة في حالات العسر الشديد والحاجة وأكد لي أن مثل تلك اللحظات تحدث سواء عاجلا ام آجلا في حياة أي إنسان يبحث عن المعرفة.
                  

05-31-2009, 06:03 PM

محمد عثمان الحاج

تاريخ التسجيل: 02-01-2005
مجموع المشاركات: 3514

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: محمد عثمان الحاج)

    الأحد 3 سبمتمر 1961
    عصر اليوم قام دون خوان بإحضار نبتتي داتورا Datura (وهو الاسم العلمي لعشبة الشيطان) من الحقل.

    وبصورة غير متوقعة قام بجر حديثنا لنتكلم عن عشبة الشيطان ثم طلب مني التوجه نحو التلال والبحث عن واحدة.

    وركبنا السيارة للجبال القريبة. وأخذت معولا من السيارة ومشينا لأحد الأودية. سرنا لمدة ونحن نخوض عبر الشجيرات الصغيرة التي كانت تنمو بكثافة في التربة الرملية الناعمة. وتوقف أمام نبتة صغيرة ذات أوراق خضراء داكنة و أزهار بيضاء كبيرة ذات شكل يشبه الجرس.

    قال لي: "هذه واحدة ".
    وعلى الفور بدأ الحفر بالمعول. حاولت أن أساعده ولكنه رفض عن طريق هز رأسه بقوة. واستمر في حفر حفرة دائرية حول النبتة، حفرة ذات شكل مخروطي: عميقة عند الحافة الخارجية ومنحدرة لتشكل تلا صغيرا في منتصف الدائرة. وعندما توقف عن الحفر انحنى قرب الساق وقام بأصابعه بإزاحة التربة الناعمة من حوله كاشفا عن نحو أربعة بوصات من جذر كبير أنبوبي متفرع حجمه كبير بالمقارنة مع سمك ساق النبتة الذي كان يبدو هزيلا بالمقارنة بالجذر.

    نظر لي دون خوان وقال أن النبتة ذكر لأن الجذر يتفرع في النقطة التي يلتقي فيها بالساق. ثم وقف وبدأ يسير مبتعدا باحثا عن شئ ما.
    "عماذا تبحث يا دون خوان؟"
    "أبحث عن عصا"
    بدأت أبحث أنا بدوري عنها لكنه أوقفني.
    "ليس أنت. أجلس هناك". وأشار إلى صخور على بعد حوالي عشرين قدم. "أنا سأجدها".

    وعاد بعد برهة حاملا غصنا طويلا جافا. ومستعملا إياه كعصا للحفر قام بإزاحة التراب بحرص شديد من حول فرعي الجذر. وقام بتنظيف الجذر لعمق يبلغ نحو قدمين. وعندما تعمق الحفر أصبحت التربة صلبة بحيث تعذر اختراقها بواسطة العصا.

    وتوقف وجلس ليسترد أنفاسه. وجلست قربه. ولم نتكلم لوقت طويل.
    سألته: "لماذا لا تحفرها بواسطة المعول؟"
    "المعول يمكن أن يقطع النبتة أو يصيبها. توجب علي أن استعمل عصا تنتمي لهذا المكان بحيث أنني لو خدشت الجذر فإن الإصابة لا تكون سيئة كما هو الحال عند استعمال معول أو شئ أجنبي لاينتمي لهذا المكان".
    "أي نوع عصا استعملت؟"
    "أي غصن جاف من شجرة البالوفيردي يفي بالغرض. إذا لم تجد غصنا جافا يمكن استعمال غصن أخضر.".
    "هل يمكن استعمال غصن شجرة من نوع آخر؟"
    "قلت لك شجرة البالوفيردي وليس أي شجرة أخرى.".
    "لماذا يا دون خوان؟"
    "لأن عشبة الشيطان لديها أصدقاء قليلين جدا والبالوفيردي هي الشجرة الوحيدة في هذه المنطقة التي توافقها فهي الشجرة الوحيدة التي تمسك بها أو تتشبث بها. إذا أتلفت الجذر عن طريق المعول فإنها لن تنمو لك عندما تعيد زراعتها لكن إذا آذيتها بعصا من هذا النوع فإن من المحتمل أن النبتة سوف لن تشعر بذلك.
    "ماذا ستفعل بالجذر الآن؟".
    " سوق أقو بقطعها. يتوجب عليك تركي وحيدا. اذهب وأعثر على نبتة أخرى وانتظر إلى أن أناديك".
    "ألا تريد مني أن أساعدك؟"
    "يمكنك ن تساعدني فقط عندما أطلب منك ذلك".
    ومشيت بعيدا وبدأت في البحث عن نبتة خرى لكي أقاوم الرغبة الشديدة في أن أتسلل وأراقب دون خوان. وبعد وقت انضم إلي.
    "دعنا نبحث الآن عن الأنثى".
    "كيف يمكن لك تمييزها؟"
    "الأنثى أطول وتنمو فوق الأرض بحيث تبدو مثل شجرة صغيرة. النبتة الذكر كبيرة وتنتشر على الأرض وتبدو اشبه بشجيرة غليظة. عندما نقوم بالحفر حول الأنثى سترى أن لها جذر واحد يغور في الارض لمسافة طويلة قبل أن يتفرع في حين أن الذكر يتفرع عند النقطة التي يلتقي فيها بالساق".

    وبحثنا عبر المنطقة التي تكثر فيها أشجار الداتورا ثم أشار دون خوان لنبتة أخرى وقال :"تلك هي الأنثى" ثم شرع في حفرها بمثل ما فعل مع الأولى. وحالما أزاح التربة من الجذر لاحظت أنه فعلا كما وصفه. ومرة أخرى توجب علي أن أتركه وحيدا عند قيامه بقطعها.

    عندما وصلنا بيته قام قام بفتح الحزمة التي وضع فيها نبتتي الداتورا. وقام بأخذ النبتة الأكبر وهي الذكر أولا وقام بغسلها في صحن معدني كبير. وبحرص شديد قام بتنظيف الجذر من التراب وكذلك الساق والأوراق. وبعد ذلك التنظيف الدقيق قام بفصل الساق عن الجذر عن طريق عمل قطع دائري حول نقطة التقائهما وذلك بواسطة سكين منشاري قصير ومن ثم قصفهما منفصلين. وأخذ الساق ووضع مكوناته كلا على حدة في شكل أكوام: الأوراق والأزهار والبذور الشوكية. وقام بالتخلص عن كل شئ جاف أو أتلفته الديدان واحتفظ فقط بالأجزاء السليمة وقام بربط فرعي الجذر معا عن طريق خيطين وقام بفصلهما بعد أن قام بعمل قطع سطحي عند نقطة التقائهما وحصل على قطعتي جذر لهما نفس الطول. ثم وضع فيها أولا قطعتي الجذر المربوطتين ببعضهما البعض ثم وضع فوقهما الأوراق في حزمة منسقة ثم الأزهار ثم الجزء المحتوي على البذور والساق. وقام بطي القماش وعقد أركانه.

    وكرر نفس الخطوات مع النبتة الأخرى الأنثى باستثناء أنه عندما وصل للجذر لم يقم بقطعه وبدلا من ذلك ترك التفرع سليما مثل حرف Y مقلوب ثم وضع جميع الأجزاء في حزمة قماش منفصلة. عندما انتهى كان الظلام قد حل.
                  

05-31-2009, 06:07 PM

محمد عثمان الحاج

تاريخ التسجيل: 02-01-2005
مجموع المشاركات: 3514

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: محمد عثمان الحاج)

    يتبـــــــــــــع....
                  

06-04-2009, 07:03 PM

محمد عثمان الحاج

تاريخ التسجيل: 02-01-2005
مجموع المشاركات: 3514

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: محمد عثمان الحاج)

    أشكر أخي الأستاذ الدكتور نظمي يوسف الذي جمع بين علوم الكيمياء والطب واللغة الإسبانية والذي نبهني إلى أن نطق حرف j في إسبانية أمريكا الجنوبيه هو مثل حرف الهاء وبالتالي يكون النطق الصحيح لكلمة Brujo هو بروهو وكذلك الكلمة التي نطقتها أنا ديابليرو Diablero هي ديابلو، وأتابع تعليم دون خوان:
                  

06-04-2009, 07:05 PM

محمد عثمان الحاج

تاريخ التسجيل: 02-01-2005
مجموع المشاركات: 3514

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: محمد عثمان الحاج)

    الأربعاء 6 سبمتبمبر 1961

    في وقت متأخر من عصر اليوم عدنا لموضوع عشبة الشيطان.
    قال دون خوان فجأة "أظن أننا يجب أن نبدأ مرة أخرى مع تلك العشبة".

    بعد صمت مهذب سألته:" ماذا ستفعل بالنباتات؟"
    قال لي :"النباتات التي قمت أنا بحفرها وقطعها هي ملكي. إنها تعتبر وكأنها أنا وعن طريق تلك النباتات سأعلمك كيفية التعامل مع عشبة الشيطان".
    "كيف ستفعل ذلك؟"
    "عشبة الشيطان مقسمة لقسمين كل واحد منهما مختلف، وكل منهما له غرض متفرد وخدمة".
    وفتح يده اليسرى وقام بقياس الأرض من حافة إبهامه لحافة أصبعه الرابع.
    "هذا هو قسمي. أنت ستقيس قسمك بيدك. الآن لكي تتم السيطرة على عشبة الشيطان يجب أن تبدأ بتعاطي القسم الأول من الجذر. لكن حيث أنني أنا الذي أتيت بك لها فيجب أن تأخذ من البداية."

    ودخل المنزل وأحضر إحدى الحزمتين وجلس وقام بفتحها. ولاحظت أن ما فيها كان هو النبات الذكر كما لاحظت أن فيها قطعة جذر واحدة فقط. وأخذ القطعة والتي كانت هي ما تبقى من الطقم الذي كان يتكون من اثنين وأمسك بها أمام وجهي.
    "هذا هو قسمك الأول. أنا أعطيك إياه. لقد قمت أن بقطعه لك بنفسي. أنا قسته على أساس أنه لي والأن أنا أعطيه لك".

    وللحظة فكرت أنه يتوجب علي مضغه كجذرة لكنه وضعه في كيس قطني أبيض صغير.

    ومشى لمؤخرة المنزل وجلس هنك على الأرضية مربعا رجليه وباستعمال حجر مدق مستدير النهاية بدأ في هرس الجذر داخل الكيس بعد أن وضعه على شريحة حجرية مسطحة عملت كسطح مدق. من حين لآخر كان يقوم بغسل الحجرين ويحتفظ بالماء الناتج عن ذلك في قدح خشبي صغير مسطح.

    أثناء الدق كن يغني متمتما بكلمات غير مفهومة ببطء شديد وتكرار. وعندما فرغ من هرس الجذر محولا إياه للب رخو داخل الكيس قام بوضعه في الصحن الخشبي. مرة أخرى وضح الحجرين الذين استخدمهما للدق في الصحن الخشبي ثم حمله لما يشبه حوض سقي حيوانات خشبي خارج المنزل مسند على الحظيرة الخارجية.

    وقال ان الجذر يجب أن يترك في الماء طيلة الليل وأنه يجب أن يترك خارج المنزل لكي يمتص هواء الليل، وقال لي لي:"إذا كان يوم الغد يوما مشمس حارا فسيكون ذلك فألا حسنا".


    الأحد 10 سبمتمبر 1961

    كان يوم الخميس 7 سبمتمبر يوم جوه صافي وحار. بدا دون خوان فرحا جدا بالفأل الحسن وكرر القول أنه من المحتمل أن عشبة الشيطان أحبتني. كان الجذر قد ترك مغمورا بالماء طيلة الليل وفي حوالي العاشرة صباحا سرنا لمؤخرة المنزل حيث أخرج الصحن من الحوض الخشبي ووضعه على الأرض وجلس قربه. وأخذ الكيس القطني ومسحه على قاع الصحن الخشبي وورفعه بوصات قليلة فوق الصحن وقام بعصره ثم رمى الكيس في الماء وكرر نفس العملية ثلاثة مرات أخرى ثم تخلص من الكيس ورماه في الحوض الخشبي وترك الصحن الخشبي في الشمس الحارة.
    وعدنا إليه بعد ساعتين وأحضر دون خوان معه إبريق شاي متوسط الحجم به ماء مغلي مصفر اللون. وقام بإمالة الصحن بحرص شديد وقام بتفريغ الماء الذي في الجزء الأعلى محتفظا بالرواسب الغليظة التي تراكمت على القاع. وصب ماء يغلي على الصحن وتركه في الشمس مرة أخرى.

    وتكرر كل ذلك لما لا يقل عن ثلاثة مرات على فترات تزيد عن الساعة. في النهاية قام بصب معظم الماء وأماله بزاوية تجعله يواجه شمس العصر وتركناه.

    عندما عدنا بعد ساعات كان الظلام قد حل. في قاع الصحن كانت هناك طبقة من مادة لزجة. كانت تشبه كمية من النشا نصف المطبوخ وذات لون أبيض أو رمادي خفيف. كانت تعادل ربما ملء ملعقة شاي واحدة. وأخذ الصحن لداخل المنزل وانهمك في غلي كمية من الماء في حين كنت أنا أحاول تنظيف الرواسب مما علق بها من تراب ألقته الريح، وضحك دون خوان وقال:
    "تلك الكمية القليلة من التراب لن تضر أحدا".
    عندما غلى الماء قام بصب كمية تعادل حوالي كوب في الصحن. كان نفس الماء المصفر اللون الذي سبق أن استعمله من قبل. وذوب الماء الرواسب ونتج عن ذلك سائل لبني.
    "أي نوع من الماء هذا يا دون خوان؟"
    "ماء فواكه وأزهار من الوادي".
    وأفرغ محتويات الصحن في كوب فخاري قديم شكله يشبه زهرة. كان ساخنا جدا لذا قام بالنفخ عليه ليبرده. وشرب جرعة ثم قدم لي الكوب.
    "إشرب الآن!"

    وبصورة تلقائية ودون تفكير قمت بشرب كل الماء. كان طعمه مرا بعض الشئ ولو أن مرارته كان بالكاد يمكن ملاحظتها. ما كان ظاهرا بشدة هو الرائحة النفاذة للماء والتي كانت شبيهة برائحة الصراصير.

    على الفور تقريبا بدأت أتصبب عرقا. شعرت بسخونة في جسمي واندفع الدم في أذناي. ورأيت بقعة حمراء أمام عيني. وبدأت عضلات معدتي تتقلص بتشنجات مؤلمة. بعد مدة ورغم أن الألم اختفى بدأت أشعر بالبرد و غمرني العرق.

    سألني دون خوان عما إذا كنت ارى سوادا أو بقع سوداء أمام عيني. أخبرته أنني أرى كل شئ ملونا بالأحمر.

    كانت أسناني تصطك بسبب توتر لا يمكن التحكم فيه كان يأتيني على شكل موجات وكأنه ينبعث من منتصف صدري.

    ثم سألني عما إذا كنت خائفا. بدا سؤاله غير ذو معنى بالنسبة لي. أخبرته أن من الواضح أنني خائف لكنه سألني عما إذا كنت خائفا منها. لم أفهم ما عناه وقلت له نعم. وضحك وقال أنني في حقيقة الأمر لست خائفا سألني مرة أخرى عما إذا كنت لا أزال أرى لونا أحمر. كان كل ما أراه هو بقعة حمراء ضخمة أمام عيني. شعرت بتحسن بعد مدة قصيرة وببطء اختفت التشنجات العصبية تاركة تعبا لطيفا بألم خفيف ورغبة قوية في النوم. لم أستطع إبقاء عيني مفتوحتين رغم أنني كنت لا أزال أسمع صوت دون خوان. وخلدت للنوملكن الشعور بأنني مغموس في لون أحمر قوي استمر طيلة الليل. حتى أحلامي كان لونها أحمر.

    واستيقظت يوم السبت في حوالي الثالثة مساء. كنت قد نمت يومين كاملين تقريبا. كنت أشعر بصداع خفيف وغثيان و آلام حادة متقطعة في أمعائي. بخلاف ذلك كان كل شئ آخر مثله مثل الاستيقاظ من نوم طبيعي. ووجدت دون خوان جالسا أمام منزله وهو يغالب النوم. وابتسم لي.
    قال لي: "سارت الأمور على ما يرام تلك الليلة، لقد رأيت اللون الأحمر وذلك هو المهم".
    "ما ذا كان سيحدث إذا لم أر لونا أحمر؟"
    "كنت سترى الأسود وتلك علامة سيئة".
    "لماذا سيئة؟"
    "إذا رى الرجل اللون الأسود فهذا يعني أنه لم يخلق لكي يستعمل عشبة الشيطان وسيصاب بقئ شديد ذلك يحدث لمن يرى لونا أسود أو أخضر".
    "هل يموت مثل ذلك الشخص؟"
    "لا أظن أن أحدا سيموت لكنه سيكون مريضا لوقت طويل".
    "ماذا يحدث لمن يرون الأحمر؟"
    "هم لا يتقيأون والجذر يعطيهم تأثيرا من السعادة مما يعني أنهم أقوياء وذوي طبيعة عنيفة وهو أمر تحبه العشبة. ذلك هو سبب كونها جذابة. النقطة الوحيدة السيئة هي أن الرجال ينتهون لأن يكونوا عبيدا لعشبة الشيطان في مقابل القوة التي تعطيهم إياها. لكن تلك أمور لا سيطرة لنا عليها. الإنسان يحيا فقط لكي يتعلم وإذا تعلم فإن ذلك ناجم من طبعته هو سواء كانت سيئة أو جيدة".
    "ماذا أفعل بعد هذا يا دون خوان؟"
    "المرحلة التالية هي أن تقوم بزراعة شتلة قمت بقطعها من النصف الأخر من القسم الأول من الجذر. أنت تناولت نصفه في تلك الليلة والآن يجب غرس النصف الأخر في الأرض. يجب أن ينمو ويخرج حبا قبل أن يمكنك بدأ المهمة الحقيقية وهي تدجين النبتة".
    "كيف سأدجنها؟".
    "تدجين عشبة الشيطان يتم عبر الجذر. يجب عليك أن تتعلم خطوة خطوة أسرار كل قسم من الجذر. يتوجب عليك تناولها لكي تتعلم الأسرار وتسيطر على القوة".
    "هل يتم تحضير الأقسام المختلفة بنفس الطريقة التي قمت أنت بها بتجهيز القسم الأول؟"
    "كلا، كل قسم مختلف".
    ما هي التأثيرات الخاصة بكل قسم؟"
    "سبق لي أن قلت لك أن كل منها يقوم بتعليم نوع مختلف من القوة. ما قمت بتناوله تلك الليلة لا يكاد يسوى شئ. أي إنسان يستطيع فعل ذلك. لكن البروهو Brujo وحده يستطيع تناول الأقسام الأعمق. أنا لا أستطيع إخبارك بذلك حتى الآن لأنني غير متأكد بعد ان النبتة ستقبلك. يجب أن ننتظر".
    "متى ستخبرني إذن؟"
    "عندما تكون نبتتك قد نمت وأخرجت حبا"
    "إذا كان القسم الأول من الجذر يمكن لأي إنسان تعاطيه فلأي غرض يستعمل؟"
    "عندما يكون مخففا فهو صالح لزيادة القدرة الجنسية للرجال، لكبار السن الذين فقدوا قدرتهم أو الشباب الباحثين عن المغامرة أو حتى النساء الباحثات عن عاطفة قوية".
    "كنت تقول ان الجذر يستخدم للحصول على القوة (الروحانية) فقط وأنت الآن تقول أنه يستخدم لأغراض أخرى بخلاف ذلك فهل انا محق؟"
    نظر لي نظرة طويلة دون ان يرف له جفن مما أشعرني بالحرج. شعرت أن سؤالي أغضبه لكنني لم أعرف السبب في ذلك.
    في النهاية قال بجفاء :"العشبة تستعمل فقط للحصول على القوة (الروحانية والجسدية). الرجل الذي يريد أن يسترد قوته والشباب الذين يريدون تحمل التعب والجوع او الرجل الذي يريد أن يقتل رجلا أو المرأة التي تريد أن تشعر بالرغبة الجنسية هم جميعا باحثون عن القوة والعشبة تعطيهم إياها! هل تحس انك تحبها؟"
    قلت له:"أنا أشعر بقوة جسدية غريبة" وكنت حقا أشعر بذلك. كنت شعرت بذلك عند استيقاظي ولا زلت أشعر به. كان شعورا غريبا بعدم الإرتياح أو الكبت، كان جسمي بكامله يتمطى بخفة غير معهودة وقوة.كنت أعشر برغبة في حك ذراعي وساقي، وبدا أن كتفي تضخما وشعرت بقوة في عضلات ظهري ورقبتي جعلتني أشعر بالرغبة دفع الأشجار أو الاحتكاك بها. شعرت أن بإمكاني هدم حائط إذا اصطدمت به.

    لم نتكلم بعد ذلك. جلسنا في البرندة لمدة قصيرة ولاحظت أن دون بدأ يستغرق في النوم حيث غفا واستيقظ مرتين ثم مد رجليه ورقد على الأرضية ويديه خلف رأسه ونام. وذهبت أنا لمؤخرة المنزل حيث قمت بإغحراق طاقتي الزائدة في تنظيف المكان حيث كنت تذكرت أنه طلب مساعدتي في تنظيف مؤخرة المنزل.

    عندما استيقظ لاحقا وأتى لمؤخرة المنزل كنت أنا في حالة استرخاء.

    وجلسنا لتناول الطعام وأثناء تناوله سألني ثلاثة مرات عما أشعر به. ولما لم يكن ذلك أمرا معتادا فقد سألته:" لماذا أنت قلق بخصوص ما أشعر به يا دون خوان؟ هل تتوقع أنني سصيبني رد فعل سئ جراء تناول العصارة؟"

    وضحك. فكرت أنه يتصرف مثل ولد مشاغب قام بتدبير مقلب ويقوم بتفحص النتيجة من حين لآخر. استمر في الضحك وقال:"لا تبدو أنت مريضا. قبل قليل تكلمت معي بصورة حادة".
    قلت له محتجا :"لم أفعل ذلك يا دون خوان، لا أتذكر أبدا أنني تكلمت معك بتلك الطريقة". كنت جاد جدا في ذلك لأنني لم أتذكر أبدا أنني شعرت بالضيق تجاهه.
    قال لي "لقد فعلت ذلك عندما كنت تدافع عنها".
    "عن ماذا؟"
    "كنت تدافع عن عشبة الشيطان. تكلمت وكأنك قد أصبحت حقا عشيقها".

    كنت على وشك الاحتجاج بشدة على ذلك لكنني أوقفت نفسي.
    "حقا لم أدرك أنني دافعت عنها".
    "بالتأكيد لم تدرك ذلك. أنت لا تتذكر ما قلته أليس كذلك؟"
    "كلا لا أتذكر، يتوجب علي الإعتراف بذلك."
    "كما ترى فإن تلك هي طبيعة عشبة الشيطان. إنها تتسلل إليك مثل إمرأة. أنت لا تكاد تشعر بذلك. كل ما تهتم به هو أنها تجعلك تشعر شعورا جيدا وتشعرك بأنك قوي: العضلات تنتفخ ممتلئة بالقوة وتشعر بحكة في قبضتك وباطن الأقدام يشتعل متشوقا للجري وإلقاء شخص ما أرضا. عندما يعرفها الرجل فإنه يصبح حقا ممتلئا بأشواق. كان أستاذي يقول أن عشبة الشيطان تحتفظ بالرجال الذين يريدون القوة وتتخلص من أولئك الذين لا يستطيعون استعمال القوة. لكن في أيامه كان طلب القوة شائعا. كان أستاذي رجلا ذو قوة روحانية وحسب ما أخبرني فإن أستاذه بدوره كان أشد طلبا للقوة. لكن في أيامهم كان هناك مبرر لطلب القوة".
    "هل تظن أنه لا يوجد مبرر لطلب القوة في أيامنا هذه؟"
    "القوة هي شئ جيد بالنسبة لك. أنت شاب. أنت لست هندي أحمر. ربما تكون عشبة الشيطان جيدة بين يديك. يبدو أنك أحببتها. لقد جعلتك تشعر بالقوة. أنا نفسي شعرت بذلك. لكنني لم أحبه".
    "هل يمكنك إخباري لماذا لم تحب ذلك يا دون خوان؟"
    "لم أحب القوة التي تقوم بإعطائها! لم يعد هناك ما يمكن إستعمال تلك القوة له. في أزمان أخرى مثل تلك التي اخبرني عنها أستاذي كان هناك سبب للبحث عن القوة. كان الناس يقومون بأفعال مذهلة ويتم الإعجاب بهم لقوتهم ويحترمهم الناس ويهابونهم لما يملكونه من معرفة. أخبرني أستاذي بأعمال مذهلة تم القيام بها في الماضي السحيق. لكننا الآن لم نعد نحن الهنود الحمر نبحث عن تلك القوة. هذه الأيام يستعمل الهنود الحمر العشبة ليمسحونها على أجسامهم. يستعملون الأوراق والأزهار لأمور أخرى ويقولون أنها تشفي التهاباتهم الجلدية. لكنهم لا يبحثون عن القوة التي تعطيها، قوة هي مثل مغناطيس وتتزايد وتصبح أشد خطورة كلما زاد عمق الجذر في باطن الأرض. عندما يصل الإنسان لعمق حوالي أربعة ياردات ـ ويقولون أن البعض وصلوا لذلك العمق ـ يجد الإنسان مقعد القوة الدائمة، قوة بلا نهاية. القليل جدا من البشر هم من فعلوا ذلك في الماضي ولم يفعله أحد في يومنا هذا. أقول لك أن قوة عشبة الشيطان لم نعد نحن الهنود الحمر نحتاجها. أعتقد أننا فقدنا الاهتمام تدريجيا والآن لم تعد القوة مهمة أبدا. أنا شخصيا لا أبحث عنها لكن مع ذلك فذات يوم عندما كنت في عمرك أنا أيضا شعرت بقوتها في داخلي. شعرت بما تشعر أنت به اليوم ولكنه أشد بخمسمائة ضعف. قتلت رجلا بضربة واحدة من يدي. كان بإمكان قذف الصخور الضخمة بعيدا، صخور ضخمة بحيث لا يمكن لعشرين رجلا تحريك إحداها. ذات مرة كنت أقفز لارتفاع عال بحيث كنت أقطف أوراق قمم أعلى الأشجار. لكن كل ذلك كن بلا جدوى! كل ما فعلته هو أنني أفزعت الهنود الحمر، فقط الهنود الحمر! البقيةالذين لم يعرفوا عن هذا الأمر لم يصدقوه. ما رأوه هو إما هندي مجنون أو شئ يتحرك في أعلى الأشجار".

    صمتنا لوقت طويل. رغبت في ان أقول شيئا.
    قال لي:" كان الأمر مختلفا عندما كان هناك أناس في العالم يعرفون أن بوسع الإنسان أن يتحول لأسد جبال أو طائر أو أنه ببساطة بإمكان الإنسان أن يطير. لذلك لم أعد أستعمل عشبة الشيطان. لأجل ماذا استعملها؟ لكي أخيف الهنود الحمر؟"
    رأيت أنه حزين وملأني شعور بالعطف عليه. أردت أن أقول له شيئا ولو على كان سطحيا.
    "ربما يادون خوان ذلك هو مصير كل الرجال الذين يريدون أن يعرفوا".
    قال بهدوء :"ربما".
                  

06-04-2009, 07:07 PM

محمد عثمان الحاج

تاريخ التسجيل: 02-01-2005
مجموع المشاركات: 3514

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: محمد عثمان الحاج)

    الخميس 23 نوفمبر 1961
    عندما قدت سيارتي لبيت دون خوان لم أره يجلس في البرندة. فكرت أن ذلك أمر غريب. ناديته بصوت عال وخرجت زوجة ابنه من البيت.
    قالت لي: "هو في الداخل"
    وجدت أنه أصيب بخلع في الكاحل قبل أسابيع. كان قد صنع لنفسه جبيرة عن طريق غمس شرائط قماش في خليط من الصبار ومسحوق العظام. وجفت الشرائط المربوطة باحكام حول كاحله مشكلة جبيرة خفيفة انسيابية الشكل. كان لها قوة الجبس وليس لها ثقل وزنه.
    سألته: "كيف حدث ذلك؟"

    أجابتني زوجة ابنه وهي إمرأة مكسيكية من يوكاتان والتي كانت تمارضه:
    "كان ذلك حادث! لقد وقع وكاد يكسر قدمه!".

    ضحك دون خوان وانتظر إلى أن غادرت المرأة المنزل قبل أن يجيب:" أي حادث! لي عدو في الجوار. إمرأة، لاكاتالينا. لقد دفعتني خلال لحظة ضعف فوقعت".
    "لماذا فعلت ذلك؟"
    "أرادت قتلي، ذلك هو السبب".
    "هل كانت هنا معك؟"
    "نعم!"
    "لماذا سمحت لها بالدخول؟"
    "أنا لم أسمح لها. هي طارت ودخلت".
    "عفوا، ماذا تقول؟"
    "إنها طائر أسود. وهي جيدة جدا في ذلك. لقد فاجئتني. لقد ظلت تحاول القضاء علي منذ زمن طويل. هذه المرة أوشكت على ذلك."
    "هل قلت أنها طائر أسود، أعني هل هي طائر؟"
    "ها أنت تعود مرة أخرى لأسئلتك. إنها طائر أسود بنفس الطريقة التي أنا بها غراب. هل أنا غراب أم رجل؟ أنا رجل أعرف كيف أتحول إلى طائر. لكن فلنعد لموضوع لاكاتالينا.إنها ساحرة شريرة! إن همتها في قتلي قوية بحيث بالكاد يمكنني محاربتها. لقد أندفع الطائر الأسود إلى داخل منزلي ولم أستطع منعه".
    "هل يمكنك أن تتحول إلى طائر يا دون خوان؟"
    "نعم يمكنني، لكن ذلك شئ سنناقشه في وقت آخر."
    "لماذا هي تريد قتلك؟"
    "أوه، هناك مشكلة قديمة بيننا. لقد خرج الموضوع عن السيطرة ويبدو أن علي الآن أن أقضي عليها قبل أن تتمكن هي من القضاء علي".
    سألته بتحفز شديد"هل ستسعمل السحر في ذلك؟"
    "لا تكن غبيا. لا يوجد سحر يؤثر فيها. لدي خطط أخرى. سأخبرك عن ذلك ذات يوم".
    "هل يمكن لحليفك أن يحميك منها؟"
    "كلا. الدخان الصغير يخبرني فقط بما يمكن أن أفعله. ثم يتوجب علي حماية نفسي".
    "ماذا عن مسكاليتو؟ هل يمكن حمايتك منها؟"
    "كلا! مسكاليتو هو معلم وليس قوة تستخدم لأغراض شخصية".
    "ماذا عن عشبة الشيطان؟"
    "قلت لك أنني يتوجب علي حماية نفسي باتباع إرشادات حليفي الدخان. حسبما أعرفه يمكن للدخان أن يفعل كل شئ. إذا رغبت معرفة جواب أي سؤال فالدخان يخبرك به. هو لا يعطيك المعرفة فحسب بل أيضا الوسيلة التي تشرع بها في ذلك. الحليف الأفضل بالنسبة للإنسان. "
    "هل الدخان هو افضل حليف لأي إنسان؟"
    "هو ليس بنفس الكيفية مع أي إنسان. الكثيرون يخافونه ولا يلمسونه أو حتى يقتربون منه. الدخان مثله مثل أي شئ آخر لم يخلق من أجلنا جميعا".
    "أي نوع من الدخان هو يا دون خوان؟"
    "دخان العرافون!"
    قال ذلك بنبرة تبجيل لم أعهدها منه من قبل. "سأبدأ بإخبارك بما أخبرني به أستاذي عندما بدأ يدرسني عنه، رغم أنني كنت حينها مثما هو أنت الأن غير قادر على الفهم:" عشبة الشيطان هي لأولئك الذين يبحثون عن القوة. الدخان لأولئك الذين يريدون أن ينظروا ويروا" في رأيي أن الدخان لا نظير له. حالما يدخل الإنسان في مجاله تصبح جميع القوى الأخرى تحت سيطرته. إنه مدهش! بالطبع هو يستغرق وقتا طويلا لتعلمه. يتطلب الأمر سنوات للتعرف على جزئيه الحيويين: الغليون وخليط الدخان. الغليون أعطاني إياه أستاذي وبعد سنوات من مداعبته أصبح ملكي. لقد نما في يدي. لكي أنقله ليدك أنت سيتطلب مني ذلك مجهودا كبيرا وإنجازا ضخما بالنسبة لك هذا إذا نجحنا! الغليون سيشعر بتعب قيام شخص آخر بتداوله وإذا ارتكب أيا منا خطأ فسوف لن يكون بالوسع منع الغليون من الانفلاق بما فيه من قوة أو أن ينفلت من أيدينا لكي يتحطم حتى لو سقط فوق كومة قش. لو حدث ذلك فسيعني نهايتنا نحن الاثنين خاصة أنا. سيرتد الدخان ضدي بطريقة لا تصدق.
    "كيف يمكن له أن يصبح ضدك وهو حليفك؟"

    بدا أن سؤالي قد بدل مجرى أفكاره لأنه صمت لوقت طويل.
    فجأة واصل الكلام: " صعوبة تجهيز المكونات تجعل من خليط الدخان واحدا من اخطر المواد التي عرفتها. لا يمكن لأحد تحضيره دون أن يرشده مرشد. إنه سام بدرجة مميتة لأي إنسان باستثناء الشخص الذي يفضله الدخان. الغليون والخليط يجب أن يعاملا بحرص شديد. والرجل الذي يحاول المعرفة يتوجب عليه أن يجهز نفسه بأن يحيا حياة قاسية هادئة. تأثيراته قوية بحيث أن الرجل القوي فقط هو من يقدر على تحمل أصغر نشقة منه. كل شئ مرعب ومشوش للعقل في البداية ولكن كل نشقة جديدة تجعل الأشياء أكثر دقة. ثم فجأة ينفتح العالم من جديد! شئ لا يمكن تخيله! عندما يحدث ذلك يكون الدخان قد أصبح حليفا للشخص وسوف يجيب عن أي سؤال عن طريق السماح للإنسان بالدخول في عوالم لايمكن تصورها.

    "تلك هي أعظم خواص الدخان وأعظم هباته. وهو يؤدي وظيفته دون تسبيب أي أذى. أنا أقول أن الدخان هو حليف صادق!"

    كالعادة كنا نجلس أمام منزله حيث كانت الأرضية الترابية نظيفة دائما ومدكوكة. نهض فجة ودخل المنزل وعاد بعد لحظات يحمل ربطة صغيرة وجلس مرة أخرى.

    قال لي:"هذا هو غليوني"

    ومال نحوي وأراني غليون أخرجه من غلاف مصنوع من الكتان الأخضر. كان طوله نحو تسعة أو عشرة بوصات. كانت قصبته مصنوعة من خشب أحمر وغير مزينة بأي نقوش. وعاء الغليون بدا أنه أيضا مصنوع من الخشب لكنه كان كبير الحجم بالمقارنة بالقصبة. كان ناعم الملمس ولونه رمادي قتم يقارب لون الفحم.

    وأمسك بالغليون أمام وجهي. ظننت أنه يمده لي ومددت يدي لأخذه لكنه سحبه سريعا للوراء.
    قال لي:"هذا الغليون أعطاني إياه أستاذي. بدوري سأعطيك إياه لكن في البداية يتوجب عليك التعرف عليه. في كل مرة تأتي فيها إلى هنا سأعطيك إياه. إبدأ بلمسه. امسك به لمدة قصيرة جدا في البداية إلى أن تعتاد أنت والغليون على بعضكما البعض. ثم ضعه في جيبك أو ربما داخل قميصك. ثم في النهاية ضعه في فمك. كل هذا يجب أن يتم تدريجيا وبطريقة بطيئة وحريصة. عندما يتأسس الرابط بينكما عندها ستقوم بالتدخين باستعماله. إذا تبعت نصيحتي ولم تندفع ربما يصبح الدخان حليفك المفضل أنت أيضا".

    ومد لي الغليون ولكنه استمر في الامساك به. ومددت ذراعي الأيمن نحوه.
    قال لي:"استعمل يديك الاثنتين".
    لمست الغليون بيدي الاثنتين لوقت قصير جدا. لم يمده لي بحيث يمكنني الإمساك به. بل فقط بحيث يمكنني لمسه. ثم قام بسحبه مني.
    "الخطوة الأولى هي ان تحب الغليون. ذلك يستغرق وقتا!".
    "هل يمكن للغليون أن يكرهني؟"
    "كلا، لايمكن للغيون أن يكرهك لكن يتوجب عليك أنت أن تتعلم كيف تحبه بحيث أنه عندما يحين وقت قيامك بالتدخين يقوم الغليون بمساعدتك على تجنب الخوف".
    "مذا تدخن يا دون خوان؟"
    "هذا!"
    وفتح ياقته ليكشف عن كيس صغير يضعه تحت قميصه ويتدلى معلقا من رقبته كميدالية. وأخرج الكيس وقام بفتحه وبحرص شديد صب بعص محتوياته على كفه.

    بدا لي ان الخليط يشبه أوراق شاي مقطعة قطعا صغيرة وذات لون يتفاوت بين البني الغامض والأخضر الداكن مع بقع قليلة من الأصفر الزاهي.

    وأعاد الخليط للكيس وأغلق الكيس وربطه بخيط جلدي ووضعه مرة أخرى تحت قميصه.
    "أي نوع من الخليط هذا؟"
    "هناك الكثير من الأشياء فيه. الحصول على جميع المكونات أمر صعب جدا. يتوجب على الإنسان السفر لمكان نائي. الفطر الصغير المطلوب لتحضير الخليط ينمو فقط في وقت معين من السنة وفي أمكنة محدودة"
    يتبع
                  

06-06-2009, 07:00 PM

محمد عثمان الحاج

تاريخ التسجيل: 02-01-2005
مجموع المشاركات: 3514

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: محمد عثمان الحاج)

    "هل لديك خليط مختلف لكل غرض من الأغراض؟"
    "كلا! هناك دخان واحد فقط ولايوجد له مثيل. وأشار للكيس المعلق في عنقه وللغليون الذي كان موضوعا بين ساقيه.
    "هؤلاء الإثنين هما شئ واحد! لاجدوى من أحدهما دون الآخر. هذا الغليون ا وسر هذا الخليط يرجعان لأستاذي. وهما تم تسليمهما إليه من جانب أستاذه بنفس الطريقة. الخليط رغم أنه صعب التحضير لكن يمكن تحضيرالمزيد منه. سره يكمن في المكونات والطريقة التي تتم معاملتها بها وخلطها. من الناحية الأخرى فالغليون هو شئ يدوم مدى الحياة. يتوجب رعايته بحرص شديد. إنه قوي وصلب ولكن يجب ألا يتم ضربه أو قرعه. يجب أن يتم إمساكه بيد جافة وليس أبدا بيد مبللة بالعرق ويجب أن يستعمله الإنسان فقط عندما يكون وحيدا. ويجب ألا يراه أحد على الإطلاق ما لم تكن ترغب في إهدائه لشخص ما. ذلك هو ما علمني إياه أستاذي وتلك هي الطريقة التي تعاملت بها مع الغليون طيلة حياتي".
    "ماذا يحدث إذا فقدت الغليون أو تحطم؟"
    وهز رأسه ببطء شديد ونظر إلي:"
    "سوف أموت".
    "هل كل السحرة لديهم غلايين مثلك؟"
    "كلا ليسوا جميعا لهم غلايين لكنني أعرف بعض الرجال الذين لديهم غلايين".
    "هل يمكنك أن تصنع غليونا كهذا يادون خوان؟ أافرض أنك لا تملكه كيف يمكن إعطائي غليون في تلك الحالة؟"
    بدا أنه متضايق مني بطريقة ما. ووضع غليونه بحرص شديد في غلافه الذي كان واضحا أنه مبطن ببطانة ناعمة لأن الغليون انزلق داخل الغلاف الضيق بنعومة. ودخل المنزل لكي يضع غليونه في مكان حفظه.
    "هل انت غاضب مني يا دون خوان؟"
    "كلا! أنا لا أغضب أبدا من أي إنسان. لا يوجد إنسان يستطيع أن يفعل شيئا له أهمية بحيث يثير غضبي. أنت تغضب من الناس عندما تشعر أن أفعالهم مهمة. أنا لم أعد أشعر بذلك أبدا".

    الثلاثاء 26 ديسمبر 1961

    زراعة الجذر الذي سماه دون خوان شتلة لم يتحدد موعدها رغم أنها الخطوة التالية من خطوات تدجين قوة النبات.

    وصلت لمنزل دون خوان يوم السبت 23 ديسمبر في وقت العصر المبكر. وجلسنا صامتين لبعض الوقت كالعادة. كان اليوم دافئا ومغيما. كانت أشهر قد مرت منذ الوقت الذي أعطاني فيه القسم الأول من الجذر.
    قال لي فجأة :"حان الوقت لإعادة العشبة للأرض. لكن قبل ذلك سأقوم بعمل حماية لك. يتوجب عليك الاحتفاظ بها والحرص عليها ويجب ألا يراها غيرك. حيث أنني سأقوم بعملها فسوف أراها. ذلك ليس جيد لأنني مثلما أخبرتك لست من عشاق عشبة الشيطان. أنا وهي غير متحدين. لكن ذاكرتي لن تعيش طويلا فأنا عجوز جدا.لكن يتوجب عليك إبعادها من أعين الآخرين لأنه طالما بقيت رؤيتهم لها في ذاكرتهم فإن قدرتها على الحماية تضعف".

    ودخل الغرفة وسحب ثلاثة ربط قماش من تحت حصير قديم وعاد للبرندة وجلس مرة أخرى. وقام بفتح إحدى الربط فكانت النبتة الأنثى التي قام باستخراجها معي وقد جفت الأوراق والزهور والبذور التي كان قد قام بتجميعها قبل أن تجف النبتة. وأخذ قطعة الجذر الطويلة التي على شكل حرف Y وقام بعقد الربطة مرة أخرى.
    كان الجذر قد جف وانكمش وأصبحت التفرعات متفرقة بدرجة أكبر ومنكمشة ووضع الجذر على حجره وفتح كيسه الجلدي وسحب سكينه منه. وأمسك بالجذر الجاف أمامي. "هذال القسم للرأس" قال ذلك وقام بعمل قطع في ذيل الـ Y والتي هي عندما نقلبها تتحول لشكل شبيه برجل يقف وقدميه متباعدتين.

    "هذا للقلب " قال ذلك وقام بعمل قطع قريب من نقطة التفرع. ثم قام بقطع حواف الجذر تاركا حوالي ثلاثة بوصات من الخشب في كل فرع من فرعي الجذر ثم قام ببطء وحرص بنحت الجذر على شكل رجل.

    كان الجذر جافا وليفي ولكي يقوم بنحته قام دون خوان بعمل قطعين وتقشير الألياف بينهما بعمق القطع. مع ذلك عندما وصل لمرحلة التفاصيل الدقيقة مثل تشكيل الذراعين واليدين قام ببرد الخشب . كنت النتيجة النهائية شكل نحيل لرجل ذراعيه مضموتان على صدره ويداه متشابكتان.

    نهض دون خوان وسار نحو شجرة أجيف agave زرقاء نامية أمام البيت قرب البرندة وأخذ الشوكة الصلبة من إحدى الأوراق المركزية السميكة وأحناها وقام بتدويرها ثلاثة أو أربعة مرات فأدى ذلك إلى أن تنفصل تقريبا من الورقة وتدلت مرتخية. وعض عليها بل قبض عليها بأسنانه وجذبها بعيدا. وخرجت الشوكة من الورقة وخرجت معها ألياف طويلة خيطية مرتبطة بالجزء الخشبي مثل ذيل أبيض بطول قدمين. ظل دون خوان ممسكا بالشوكة بين أسنانه وقام بلف الألياف معا بين كفيه وصنع خيطا قام بلفه حول ساقي التمثال ليقرب بينهما ويضمهما معا. وقام بلف الخيط على الجزء الأسفل من جسم التمثال إلى أن نفد الخيط ثم وبمهارة شديدة قام باستعمال الشوكة مثل مسلة داخل الجزء الأمامي من الجسم تحت الذراعين المطويتين إلى أن خرج الطرف الحاد وكأنه منبثق من بين كفي التمثال. واستعمل يديه مرة أخرى وعن طريق الشد بلطف قام بجذب معظم الشوكة للخارج فبدت كرمح طويل يخرج من صدر التمثال، وبدون أن ينظر للتمثال مرة أخرى قام دون خوان بوضعه في كيسه الجلدي. بدا منهكا بسبب ما بذله من جهد. ورقد على الأرضية واستغرق في النوم.

    كان الظلام قد حل عندما استيقظ. وقام بتناول الأكل الذي كنت قد أحضرته له وجلس في البرندة لوقت قصير بعد ذلك. ثم سار لخلف المنزل حاملا الربط الثلاثة. وقام بقطع أغصان جافة وإشعال نار وجلسنا أمام النار مرتاحين وقام بفتح الربط الثلاثة. بجانب الربطة المحتوية على قطع النبتة الأنثى كانت هناك حزمة أخرى بها كل ما تبقى من النبة الذكر، وربطة أخرى تحتوي على قطع خضراء حديثة القطع من نبات الداتورا.

    وذهب دون خوان لحوض سقي الحيوانات ورجع حاملا مدق حجري عميق يشبه القدر وينتهي قاعه بتقوس خفيف. وقام بعمل حفرة ضحلة وتثبيت المدق على الأرض. ووضع المزيد من الأغصان الجافة على النار ثم قام بوضع القطع الجافة من النبتة الأنثى والذكر في المدق معا وقام بهز قماش الربطة ليتأكد من أن جميع القطع قد سقطت في المدق. ومن الربطة الثالثة أخذ قطعتين طازجتين من جذر الداتورا.

    "سأقوم فقط بتجهيزهم لك ".
    "أي نوع من التجهيز هو يا دون خوان؟"
    "إحدى هذه القطع هي من نبات ذكر والأخرى من نبات أنثى. هذا هو الوقت الوحيد الذي يتم فيه وضع النبتتين معا. القطع مأخوذة من عمق ياردة واحدة.

    وقام بسحقهم في المدق بدقات متساوية القوة بعمود الدق، وأثناء ذلك كان يدندن بصوت منخفض بدا كترنيمة ذات نغمة واحدة غير مقفاة. كانت الكلمات غير مفهومة بالنسبة لي. كان مندمجا في عمله.

    عندما تم سحق الجذور كليا قام بأخذ بعض أوراق الداتورا من الربطة. كانت نظيفة ومقطوعة حديثا وكانت كلها سليمة خالية من ثقوب الديدان والتمزقات. وقام برميها في المدق واحدة تلو الأخرى. وقام بأخذ حفنة من أزهار الداتورا ورميها في المدق بنفس الطريقة الحريصة. وحسبت عدد أربعة عشر من كل منها. ثم أحضر حفنة من حاويات البذور الطازجة الخضراء والتي كانت بها أشواكها وغير مفتوحة ولم أستطع عدها لأنه رماها جميعا في المدق معا لكنني افترضت أن عددهم أربعة عشر. وأضاف ثلاثة سيقان داتورا خالية من الأوراق. كان لونها أحمر غامض ونظيفة وبدا أنها تنتمي لنباتات كبيرة بناء على ما فيها من تفرعات متعددة.

    بعد وضع جميع هذه الأشياء في المدق قم بسحقها لتصبح عجينة بنفس الضربات المتساوية. وفي لحظة معينة قام بإمالة المدق وطرح العجينة في قدر قديم. ومد يده نحوي وظننت أنه يريد مني أن أجففها له ولكن بدلا من ذلك قام بأخذ كفي الأيسر وبحركة سريعة قام بتفريق إصبعي الأوسط عن إصبعي الرابع بأقصى ما يمكن ثم قام بطعني بطرف سكينه بين أصبعي ومزق الأصبع الرابع وقام بذلك بسرعة ومهارة بحيث أنني عندما انتفضت كانت يدي مجروحة جرحا عميق والدم يتدفق بغزارة، وأمسك بيدي مرة أخرى ووضعها فوق القدر وعصرها لإخراج المزيد من الدم.

    وفقدت الإحساس بذراعي. كنت في حالة صدمة وفي حالة برود وتصلب غريبة وبشعور مزعج في صدري وأذني. وشعرت أنني أنزلق على مقعدي. كنت على وشك الإغماء! وترك يدي وقام بتحريك محتويات القدر. عندما أفقت من الصدمة كنت أشعر حقا بالغضب تجاهه. تطلب الأمر مني وقتا لكي أستعيد رباطة جأشي.

    ووضع ثلاثة أحجار حول النار ووضع القدر عليهم. وأضاف لكل هذا المكونات ما ظننت أنه كتلة من غراء النجارة والذي تسبب في انبعاث رائحة قوية عندما بدأ الخليط يغلي وتصاعد بخار ذو رائحة نفاذة بحيث أنني قاومت الرغبة في التقيؤ بشدة.

    ظل الخليط يغلي لزمن طويل بينما جلسنا أمامه بلا حراك. في الأحيان التي دفعت فيها الريح بالبخار في اتجاهي أحاطت بي الرائحة وكتمت أنفاسي لأتجنبها.

    وفتح دون خوان الكيس الجلدي وأخرج التمثال ووقدمه لي بحرص وطلب مني وضعه في القدر دون أن أحرق يدي. وتركته ينزلق بلطف في الخليط الذي يغلي. وأخرج سكينه ولوهلة ظننت أنه سيجرحني مرة أخرى ولكنه بدلا من ذك استعملها في دفع التمثال واغراقه في الخليط.

    وراقب القدر وهو يغلي لوقت قصير بعد ذلك ثم بدأ في تنظيف المدق. وساعدته أنا. وبعد أن انتهى أسند المدق وعمود الدق على الحظيرة ودخلنا المنزل وتركنا القدر على الأحجار طيلة الليل.

    وفي الصابح التالي وجهني دون خوان بأن أنتزع التمثال من الغراء وتعليقه على السقف مواجها الشرق لكي يجف في الشمس. عند الظهر كان قد جف مثل سلك معدني صلب. كان الحرارة قد جعلت الغراء يغلف التمثال باحكام واختلط بالغراء اللون الأخضر الناتج من الأوراق. وأصبح للتمثال سطحا لامعا ذو لون مخيف.

    طلب مني دون خوان إنزال التمثال. ثم قدم لي كيسا جلدي قام بصنعه من بدلة جلدية قديمة كنت قد أحضرتها له قبل قبل مدة. كان الكيس يشبه الكيس الذي يخصه هو بفارق أن كيسي كان مصنوعا من جلد ناعم بني اللون.
    قال لي:"ضع تمثالك داخل الكيس وأغلقه."
    لم ينظر لي وتعمد توجيه وجهه لاتجاه آخر. حالما وضعت التمثال داخل الكيس أعطاني شبكة تستعمل في حمل الإشياء وطلب مني وضع القدر الفخاري فيها.

    وسار نحو سيارتي وأخذ الشبكة من يدي وقام بربطها في غطاء صندوق القفازات المفتوح.

    وقال لي:"تعال معي".

    وتبعته. وسار حول المنزل مكملا دائرة في اتجاه عقارب الساعة ثم وقف أمام البرندة ودار حول المنزل مرة أخرى هذه المرة عكس عقارب الساعة وعاد مرة أخرى للبرندة. ووقف دون حراك لبعض الوقت ثم جلس.

    كنت قد أصبحت على قناعة بأنه لا يفعل شيئا إلا وله معنى. كنت أتساءل في نفسي عن دلالة دورانه حول المنزل عندما قال :"هي! لقد نسيت أين وضعته".

    سألته عما يبحث عنه. قال أنه نسي أين وضع الشتلة التي كان يفترض بي غرسها. وسرنا حول المنزل مرة أخرى قبل أن يتذكر أين وضعها.

    وأرني برطمان زجاجي صغير موضوع على لوح مسمر على الجدار تحت السقف. كان البرطمان يحتوي على النصف الآخر من القسم الأول من جذر الداتورا. كان الجذر به بداية نمو أوراق في طرفه الأعلى. كان البرطمان يحوي كمية قليلة من الماء بدون تراب.
    سألته: "لماذا لا يوجد به تراب؟"
    "التربة يختلف بعضها عن بعض وعشبة الشيطان يجب أن تعرف تربة واحدة هي التي ستعيش فيها وتنمو. الآن حان وقت إرجاعها للأرض قبل أن تتلفها الديدان".
    سألته "هل يمكن لنا زراعتها قرب المنزل؟"
    "لا! لا! ليس قرب هذا المكان. يجب أن يتم إعادتها للمكان الذي تحبه أنت".
    "لكن أين يمكن أن أجد المكان الذي أحب؟"
    "لا أدري. يمكن لك أن تزرعها حيثما تشاء لكن يجب أن يتم الاعتناء بها والحرص عليها لأنها يجب أن تعيش لكي تمتلك أنت القوة التي تريد. إذا ماتت فهذا يعني أنها لاتريدك ويجب عليك أن تكف عن طلبها ولا تزعجها بعد ذلك. ذلك يعني أنه سوف لن يكون لك قوة عليها. وعليه يجب عليك أن أن تهتم بها وترعاها حتى تنمو. لكن يجب عليك ألا تدللها".
    "لماذا؟"
    "لأنه إذا كانت إرادتها ألا تنمو فمن غير المجدي محاولة إغرائها. لكن من ناحية أخرى يجب أن تثبت أنك مهتم بها. أبعد عنها الديدان واعطها الماء عندما تزورها. يجب ن يتم ذلك بانتظام إلى أن تخرج الحب. بعد ظهور البذور الأولى سنكون قد أصبحنا متأكدين أنها تريدك".
    "لكن يا دون خوان لن يكون بوسعي رعاية الجذر بالطريقة التي ذكرتها".
    "إن كنت تريد القوة التي تمنحها فعليك فعل ذلك! لا توجد طريقة أخرى! "
    "هل يمكن لك أن ترعاها لي عندما أغيب عن البلاد يا دون خوان؟"
    "كلا! ليس أنا! لا يمكنني فعل ذلك! كل إنسان يجب أن يغذي شتلته الخاصة به. أنا لي ما يخصني. الأن يجب أن يكون لديك ما يخصك. ولا يمكنك أن تعتبر نفسك جاهزا للتعلم إلى أن تتكون بذورها."
    "أين تظن أنه يتوجب علي زراعتها؟"
    "ذلك قرار يتوجب عليك اتخاذه أنت بنفسك! ويجب ألا يعرف أي إنسان ذلك المكن بما فيهم أنا! تلك هي الطريقة التي تتم بها إعادة زراعتها. لا أحد، لا أحد يجب أن يعرف مكان نبتتك. إذا تبعك شخص غريب ورآك تأخذ الشتلة وتجري لتزرعها في مكان آخر فسيكون بإمكانه أن يسبب لك أذى جسيم عن طريق تلك الشتلة. يمكن له أن يصيبك بالشلل أو يقتلك. ذلك هو السبب في أنه حتى أنا لا يجب أن أعرف أين زرعت الشتلة".
    ومد لي البرطمان الصغير الحاوي للشتلة.:" خذها الآن."

    وأخذتها. ثم قام تقريبا بجري لسيارتي.
    "يجب أن تغادر الآن. اذهب واختر البقعة التي تزرع فيها الشتلة. احفر حفرة عميقة في تربة رخوة قرب مكان ماء. تذكر أنها يجب أن تكون قرب الماء لكي تنمو. احفر الحفرة باستعمال يديك فقط حتى لو نزفتا. ضع الشتلة في مركز الحفرة واصنع كوما حولها. ثم اغمرها بالماء. عندما يغور الماء املأ الحفرة بتراب ناعم. بعد ذلك اختر بقعة على بعد خطوتين في ذلك الاتجاه وأشار للجنوب الشرقي. احفر حفرة عميقة أخرى هناك وأدفن فيها محتويات القدر. ثم هشم القدر وادفنه عميقا في بقعة أخرى بعيدة عن المكان الذي فيه الشتلة. بعد الفراغ من دفن القدر ارجع لشتلتك واسقها مرة أخرى. ثم أخرج تمثالك وامسك به بين الأصبعين حيث يوجد الجرح وقف في المكان الذي دفنت فيه الغراء والمس الشتلة برقة بالشوكة الحادة. در حول الشتلة أربعة مرات متوقفا في كل مرة عند نفس النقطة لكي تلمسها".
    "هل يتوجب علي اتباع اتجاه معين عند الدوران حول الجذر؟"
    "أي اتجاه ممكن. ولكن يجب عليك دائما أن تتذكر الاتجاه الذي دفنت فيه الغراء والاتجاه الذي درت به حول الشتلة. المس الشتلة برقة بحافة الشوكة في كل مرة ما عدا في المرة الأخيرة التي يتوجب عليك فيها غرسها بعمق. لكن افعل ذلك بحرص واركع لكي تكون يدك أكثر ثباتا لأنك يجب ألا تكسر الشوكة داخل الشتلة. إذا كسرتها فهذا يعني نهاية الأمر. لن يكون في الجذر فائدة لك."
    "هل يتوجب علي أن أردد أي كلمات عندما أدور حول الجذر؟"
    "كلا، سأقوم أنا بدلا عنك بفعل ذلك".


    يتـــــــــــــــع
                  

06-12-2009, 03:42 PM

محمد عثمان الحاج

تاريخ التسجيل: 02-01-2005
مجموع المشاركات: 3514

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: محمد عثمان الحاج)

    السبت 27 يناير 1962
    حالما وصلت لمنزله هذا الصباح قال لي دون خوان أنه سيريني كيفية إعداد خليط الدخان. وسرنا للتلال وتوغلنا داخل أحد الوديان ووقف دون خوان جوار شجيرة طويلة نحيلة لونها مختلف بشدة عما يجاورها من نباتات. كان لون النباتات القصيرة المجاورة لها مصفرا في حين كانت النبتة خضراء لامعة.

    قال لي: "من هذه الشجرة الصغيرة يجب أن تأخذ الأوراق والأزهار. الوقت المناسب لقطفها هو يوم كل الأرواح" (الثاني من نوفمبر).

    وأخرج سكينه وقطع نهاية فرع ثم اختار فرعا آخر مماثل وقطع نهايته أيضا. ثم جلس على الأرض.
    قال لي:" أنظر إلى هنا. لقد قطعت الأغصان فوق التفرع الناتج من ورقتين أو ثلاثة وقصبة الفرع. هل ترى؟ كلها متساوية أنا أخذت فقط طرف كل غصن حيث تكون الأوراق جديدة وناعمة. الآن يجب أن نبحث عن مكان ظليل".



    وسرنا إلى أن بدا أنه وجد ما كان يبحث عنه. وأخرج خيطا طويلا من جيبه وربطه بالجذع والأغصان الدنيا لشجيرتين صانعا بذلك ما يشبه حبل نشر غسيل علق عليه أطراف الأغصان التي سبق وأن قطعها بحيث تدلت رؤوسها للأسفل. ورتبها على طول الخيط بطريقة منظمة متدلية من التفرع الناتج بين الأوراق وقصبة الغصن وبدا شكلها شبيها بصف طويل من راكبي الخيول.

    وقال: "يجب أن يحرص الإنسان على أن تجف الأوراق في الظل. المكان يجب أن يكون منعزلا صعب الوصول إليه. بتلك الطريق تكون الأوراق محمية. يجب تركها لتجف في مكان يستحيل فيه العثور عليها. بعد جفافها يجب أن توضع في ربطة وتغلق."

    والتقط الأوراق من الخيط ورماها في الحشائش المجاورة. من الواضح أن كل قصده كان هو أن يريني الطريقة.

    استمر سيرنا وقطف هو ثلاثة أزهار من أنواع مختلفة قائلا أنها جزء من المكونات ويفترض جمعها في نفس الوقت. لكن الأزهار يتوجب وضعها في أواني فخارية منفصلة وتركها لتجف في الظلام ويجب تغطية الأواني بحيث تصبح الأزهار متخمرة بعض الشئ. وقال أن وظيفة الأوراق والأزهار هي تحلية خليط الدخان.

    وخرجنا من الوادي وسرنا في اتجاه نهر وبعد التفافة طويلة في السير عدنا لمنزله. وفي وقت متأخر من المساء جلسنا في غرفته لخاصة وهو أمر ما كان يسمح لي به إلا نادرا حيث حدثني عن المكون الأخير للخليط: الفطر.
    قال لي: "السر الحقيقي للخليط هو في الفطريات. إنها أصعب المكونات جمعا. الرحلة للمكان الذي تنمو فيه طويلة وخطيرة واختيار الفطر الصحيح هو أمر أشد صعوبة. هناك فطريات آخرى مشابهة تنمو بجوارها لا فائدة فيها وهي تتلف الفطريات الجيدة إذا تم تجفيفها معها. يتطلب الأمر وقتا لمعرفة الفطريات جيدا بحيث يميز الإنسان بينها. استعمال الفطر الخطأ يؤدي لضرر شديد، ضرر للإنسان وللغليون. أنا عرفت رجالا سقطوا ميتين بسبب استعمالهم لدخان سئ.

    "حالما يتم التقاط الفطريات يتم وضعها في بخسة ( وعاء كروي مصنوع من ثمرة نبات شبيهة بالقرع تجفف وتجوف) وبذلك لايمكن إعادة فحصها لاحقا فكما ترى يتوجب قطعها لشرائح لكي يمكن لها المرور من أنبوب البخسة الضيق."
    "كيف يمكن للإنسان تفادي الخطأ؟"
    "عن طريق الحرص ومعرفة كيفية الاختيار. قلت لك أن الأمر صعب. لايمكن لكل إتسان تدجين الدخان ومعظم الناس لا يحاولون القيام بذلك".
    "كم يطول بقاء الفطريات داخل البخسة؟"
    "لمدة سنة. جميع المكونات الأخرى يتم وضعها مغلقة بإحكام لمدة سنة. ثم يتم أخذ أجزاء متساوية منها ويتم سحق كل منها على حدة لتكون مسحوق ناعم جدا. الفطريات الصغيرة ليست في حاجة لسحقها لأنها تتحول لمسحوق ناعم من تلقاء نفسها وكل ما يحتاج له الانسان هو تهشيم الكتل. ويتم اضافة أربعة أجزءا من الفطر لجزء واحد من خليط بقية المكونات الأخرى. ثم يتم خلطها جميعا ووضعها في كيس مثل كيسي." وأشار للكيس الصغير المتدلي من رقبته تحت قميصه.
    "ثم يتم جمع المكونات مرة أخرى وبعد أن تجف فإنك تكون جاهزا لتدخين الخليط الذي كنت قد فرغت من تجهيزه. في حالتك أنت مثلا فستبدأ التدخين السنة القادمة. السنة التي تليها سيكون الخليط ملكا لك لأنك ستكون جمعته بنفسك. المرة الأولى التي تدخن فيها سأشعل لك أنا الغليون. سوف تدخن كل الخليط الموجود في وعاء الغليون وتنتظر. الدخان سيأتي. ستشعر به. إنه سيحررك لكي تتمكن من رؤية أي شئ تريده. الوصف الصحيح له هو أنه حليف لا نظير له. ولكن من يسعي إليه يجب أن تكون نيته وإرادته خالية من العيوب. إنه يحتاج لذلك لأنه يجب أن ينوي العودة ويركز همته على أن يعود وإلا فإن الدخان سوف لن يسمح له بالعودة. أيضا يجب عليه أن ينوي ويركز همته على أن يتذكر ما يسمح له الدخان برؤيته وإلا فإن التجربة لن تكون سوى قطعة من الضباب في عقله".

    السبت الثامن من أبريل 1962

    أثناء أحاديثنا كرر دون خوان استعمال مصطلح "العارف" لكنه لم يشرح أبدا ما يعنيه به؟ وسألته أنا عنه.

    قال: "الرجل العارف هو الذي اجتاز مصاعب التعلم، هو الرجل الذي سار بدون اندفاع أو تردد لأبعد ما يمكن في طريق كشف أسرار القوة والمعرفة".
    "هل يمكن لأي إنسان أن يصبح عارف؟"
    "كلا، لا يمكن لأي إنسان أن يصبح عارف"
    "إذن ماذا يتوجب على الإنسان فعله لكي يصبح عارف؟"
    "يتوجب عليه أن يتحدى ويهزم أعدائه الأربعة الطبيعيين."
    "هل يصبح الشخص عارف بعد هزيمته لهؤلاء الأعداء الأربعة؟"
    "نعم. لا يمكن للإنسان أن يسمي نفسه عارف إلا إذا أمكنه هزيمة أربعتهم".
    "هل يمكن لأي إنسان استطاع هزيمتة هؤلاء الأعداء أن يكون عارفا؟"

    "كل من يهزمهم يصبح عارف."
    "لكن هل هناك أي أشياء خاصة مطلوية قبل أن يتمكن الإنسان من هزيمة هؤلاء الأعداء؟"
    "كلا. يمكن لكل إنسان أن يحاول أن يكون عارف ولكن القليل جدا هم من ينجحون بالفعل ولكن ذلك شئ طبيعي. الأعداء الذين يواجههم الإنسان في طريق التعلم لكي يكون عارفا هم أعداء جبابرة حقا ومعظم الرجال يستسلمون لهم".
    "أي نوع من الأعداء هم يا دون خوان؟"
    رفض أن يتكلم عن الأعداء. قال أنه سيمر وقت طويل جدا قبل أن يمكنني فهم هذ الموضوع. أردت أن أبقي الموضوع حيا بأن أسأله عن رأيه بخصوص إمكانية أن أصبح عارف. وقال أنه لا يمكن لإنسان أن يجيب إجابة مؤكدة على هذا السؤال. لكنني ألححت سئلا عن إمكانية وجود أية دلائل يمكن أن تحدد عما إذا كان لدي فرصة لأن أكون عارف. وقل أن ذلك يعتمد على معركتي مع الأعداء الأربعة وما إذا كنت سأهزمهم أم سأنهزم أمامهم وأنه من المستحيل التنبؤ بنتيجة تلك المعركة".

    سألته إن كان يستطيع استعمال العرافة أو السحر لمعرفة نتيجة تلك المعركة. لكن أكد أن نتيجة تلك المعركة لا يمكن التنبؤ بها بأي وسيلة لأن تحول الإنسان لعارف هو أمر مؤقت. وعندما سالته أن يفسر ذلك أجاب:" تحول الإنسان لعارف ليس له دوام. في حقيقة الأمر الأنسان لا يكون أبدا عارف. ما يحدث هو أنه يصبح عارف لبرهة قصيرة جدا وذلك بعد هزيمته للأعداء الأربعة الطبيعيين".
    "يجب أن تخبرني يا دون خوان أي نوع من الأعداء هم؟"
    لم يجب. ألححت عليه لكنه ترك الموضوع وأخذ يتكلم عن موضوع آخر.

    الأحد 15 أبريل 1962
    كنت على وشك المغادرة عندما قررت أن أسأل دون خوان مرة أخرى عن أعداء العارف. تحججت بأنني سأغيب طويلا وأنه سيكون من الجيد بالنسبة لي أن أكتب ما سيقوله لي ثم اتأمل فيه أثناء فترة غيابي. وتردد هو لبرهة ثم بدأ الحديث:
    " عندما يبدأ الإنسان في التعلم فإنه لا تكون لديه فكرة واضحة عن أهدافه. غرضه خاطئ ونيته باهتة. هو يأمل في الحصول على مقابل لن يتحقق أبدا لأنه لا يعرف شيئا عن مصاعب التعلم.

    "ويبدأ في التعلم ببطء شيئا فشيئا في البداية ثم يصبح بإمكانه تعلم الكثير سريعا. وسرعان ما تتضارب أفكاره. ما تعلمه ليس هو ما كان يتصوره أويتخيله وهكذا يبدأ في الشعور بالخوف. التعلم ليس أبدا مثلما يتوقعه الإنسان. كل خطوة في التعلم هي مهمة جديدة ويبدأ الخوف الذي يشعر به الإنسان في التزايد بلا رحمة وبلا إمكانية للسيطرة عليه. ويصبح توجهه نحو غرضه ميدانا لمعركة.

    "وهكذا يكون قد اصطدم بأول أعدائه الطبيعيين: الخوف! عدو رهيب ومخادع وتصعب هزيمته. إنه يظل مختبئا خلف كل انحناءة في الطريق متربصا منتظرا. وإذا هرب الإنسان المفزوع أمامه فإن عدوه يتمكن بذلك من إنهاء رحلة معرفته".

    "ماذا يحدث إذا هرب الرجل فزعا أمام الخوف؟"
    "لا يحدث له شئ باستثناء أنه سوف لن يتعلم أبدا. سوف لن يصبح عارفا.ربما يصبح فتوة أو رجلا خائفا لا يؤذي أحدا، في كل الأحول سيكون رجلا مهزوما. عدوه الأول سيكون قد قضى على رغبته في المعرفة".
    "ماذا يمكن للإنسان عمله لكي يتغلب على ذلك؟"
    "الإجابة بسيطة جدا. عليه ألا يهرب عليه أن يتحدى خوفه ورغم خوفه يخطو الخطوة التالية في طريق التعلم ثم التي تليها والتي تليها. يجب أن يكون في أشد حالات الخوف ومع ذلك يجب عليه ألا يتوقف. تلك هي القاعدة الصحيحة! وعندها ستأتي اللحظة التي يبدأ فيها عدوه في الإنسحاب من أمامه. ويبدأ اللإنسان في الشعور بالثقة بنفسه. تصبح نيته أقوى. بالنسبة له لم يعد التعلم مهمة مفزعة. عندما تأتي هذه اللحظة السعيدة يمكن للإنسان حينها أن يقول أنه قد هزم أول أعدائه الطبيعيين".
    "هل يحدث ذلك دفعة واحدة أم شيئا فشيئا؟"
    "إنه يحدث شيئا فشيئا لكن رغم ذلك فالخوف يتم طرده فجأة وبسرعة".
    "لكن ألن يخاف اللإنسان مرة أخرى إذا حدث له شئ جديد؟"
    "كلا، إذا نجح الإنسن في طرد الخوف مرة واحدة فإنه يتحرر منه بقية حياته، لأنه بدلا من الخوف يكون قد تحصل على الصفاء، صفاء العقل الذي يمحو الخوف. حينها يكون الإنسان قد عرف ما هي رغباته وكيف يشبع تلك الرغبات. يمكن له أن يتوقع ماهي الخطوات الجديدة في التعلم ويغمر الصفاء التام كل شئ. يشعر الرجل أنه لم يتخل لعدوه عن شئ. وبذلك يكون قد وقف في مواجهة عدوه الثاني: الصفاء. ذلك الصفاء العقلي الذي يصعب الحصول عليه يطرد الخوف لكنه يعمي الإنسن أيضا.

    "إنه يجبر الإنسان على ألا يشك في نفسه أبدا. إنه يعطيه التأكيد بأنه قادر على فعل أي شئ يريد فعله لأنه يرى الصفاء في كل شئ. وهو شجاع لأن ذهنه صافي وهو لا يوقفه شئ لأنه في حالة صفاء. لكن كل ذلك خطأ. إنه مثل شئ غير مكتمل. إذا خضع الإنسان لهذه القوة التي تجعله يغفل عن الحقيقة يكون قد انهزم أمام ثاني أعدائه الطبيعيين وحينها سيكون صابرا في اللحظة التي يتوجب عليه فيها أن يسرع، وسوف يرتبك تعلمه إلى أن ينتهي به الأمر إلىعدم القدرة على تعلم أي شئ جديد".
    "ماذا يحدث للإنسان الذي ينتهي به الأمر هكذا هل سيموت بسبب ذلك؟"
    "كلا لن يموت. كل ما حدث أن عدوه الثاني قد أوقفه في طريق محاولته أن يصبح عارفا. حينها ربما يتحول الإنسان إلى محارب قدير أو ربما مهرج. لكن الصفاء الذي لذي دفع ثمنه غاليا سوف لن يفارقه أبدا ولن يعود أبدا لظلمات الخوف. سيكون في حالة صفاء طيلة حياته لكنه سوف لن يتعلم ولن يرغب في أي شئ".
    "لكن ما الذي يتوجب عليه فعله لكي يتجنب الهزيمة؟"
    "يتوجب عليه أن يفعل نفس الشئ الذي فعله مع الخوف: عليه أن يتحدى صفاءه ويستعمله فقط لكي يرى وينتظر بصبر ويقيس بحرص قبل أن يخطو خطوات جديدة. قبل كل شئ يتوجب عليه أن يفكر في أن صفاءه هو تقريبا خطأ وحينها تأتي اللحظة التي يدرك فيها أن صفاءه كان مجرد نقطة أمام أعينه. حينها سيكون قد هزم العدو الثاني ويكون قد وصل لنقطة لا يهزمه فيها شئ مرة أخرى. ذلك ليس خطأ. سوف لن يكون ذلك مجرد نقطة أمام عينه بل يكون القوة الحقيقية.
    "عند تلك النقطة سيعرف أن القوة التي ظل في طلبها قد أصبحت أخيرا ملكه . سيكون بإمكانه أن يفعل بها ما يشاء. يصبح حليفه خاضعا لمشيئته. تصبح رغبته هي الحاكمة، ويصبح من أهل الكشف ويرى ما يحيط به. ولكنه حينها يكون قد صادف عدوه الثالث: القوة!
    "القوة هي أقوى الأعداء. طبيعيا فإن أسهل شئ هو الاستسلام فبعد كل ذلك يكون الإنسان قد أصبح محصنا حقيقة. هو يأمر، ويبدأ بالقيام بمخاطرات محسوبة وينتهي به الأمر لصياغة الأحكام لأنه سيد. الأنسان في تلك المرحلة لا يكاد يرى أن عدوه الثالث يطبق عليه.وفجأة ودون أن يعرف يكون قد خسر المعركة. عدوه سيكون قد نجح في تحويله لرجل قاسي خاضع لنزوته.

    "هل سيفقد قوته؟"
    كلا، سوف لن يفقد أبدا صفاءه أو قوته."
    "إذن ما ذا يكون الفرق بينه وبين العارف؟"
    "الرجل الذي هزمته القوة يموت بدون أن يعرف كيفية التعامل مع القوة. تصبح القوة مجرد عبء في مصيره. مثل ذلك الرجل غير مسيطر على نفسه ولا يستطيع معرفة متى وكيف يستعمل قوته".
    "هل الهزيمة من جانب أيا من هؤلاء الأعداء هزيمة نهائية؟"
    "طبعا هي نهائية. حالما يهزم أحد هؤلاء الأعداء الإنسان فلن يتمكن من عمل شئ آخر".
    "هل يمكن مثلا للإنسان الذي هزمته القوة أن يرى خطأه ويصلح أسليبه؟"
    "كلا، حالما ينهزم الإنسان يكون الأمر قد انقضى".
    "لكن ماذا لو كانت القوة قد أعمته مؤقتا ثم رفضها؟"
    "ذلك يعني أن معركته لا زالت مستمرة. ذلك يعني أنه لا يزال يحاول أن يصبح عارف. الرجل ينهزم فقط عندما يكف عن المحاولة ويستسلم"
    "لكن يا دون خون هل هل يمكن أن يخضع الإنسان للخوف لسنوات ثم ثم يهزمه أخير؟"
    "كلا ذلك غير صحيح. إذا استسلم للخوف فسوف لن يتمكن من هزيمته أبدا لأنه سوف يخاف من التعلم ولن يحاول مرة أخرى. ولكن إذا استمر في محاولة التعلم لسنوات وهو في حالة خوف فسوف يهزم الخوف في النهاية لأنه لم يستسلم له أبدا في الحقيقة".
    "كيف يمكن له أن يهزم عدوه الثالث يا دون خوان؟"
    "يتوجب عليه أن يتحداه عمدا. يجب عليه أن يعرف أن القوة التي انتصر عليها هي في حقيقة الأمر ليست ملكه. يتوجب عليه أن يضبط نفسه في جميع الأوقات متعاملا بحرص وحذر مع كل ما تعلمه. إذا أمكنه ان يرى أن الصفاء والقوة بدون تحكمه في نفسه هما أسوأ من أي عيب، عندها سيصل لنقطة يكون كل شئ فيها تم التحكم فيه. عندها سيعرف متى وكيف يستعمل قوته وعندها سيكون قد هزم عدوه الثالث.
    "حينها يكون الأنسان قد وصل لنهاية رحلته في التعلم وحينها وبدون تحذير سيكون في مواجهة عدوه الأخير: الشيخوخة! هذا العدو هو أقسى الأعداء إنه العدو الذي سوف لن يمكنه أن يهزمه تماما بل يتوجب عليه فقط محاربته.
    "ذلك هو الوقت الذي يكون الأنسان فيه خاليا من المخاوف، ولن يكون لديه صفاء عقل عديم الصبر، وقت يتكون فيه كل قوته تم التحكم فيها ولكنه أيضا الوقت الذي يكون لديه فيه رغبة لاتقاوم في الراحة. إذا خضع تماما لرغبته في أن يرقد وينسى، إذا لطف بنفسه عند التعب، سيكون قد خسر جولته الأخيرة وسيحوله عدوه لكائن واهن عجوز. رغبته في الانسحاب ستتغلب على صفائه وقوته ومعرفته.
    "لكن إذا قاوم الأنسان تعبه وعاش بتلك الكيفية حينها يمكن تسميته عارف حتى ولو للحظة القصيرة التي التي ينجح فيه في صد عدوه الأخير الذي لا يهزم. تلك اللحظة من الصفاء والقوة والمعرفة كافية".
    4
    لم يتكلم دون خوان صراحة عن مسكاليتو إلا نادرا. في كل مرة سألته فيها عن الموضوع رفض التفصيل في الكلام لكنه كان دائما يكون انطباعا عن مسكاليتو، إنطباع يشبه مسكاليتو بالانسان. مسكاليتو ذكر ليس بسبب أن الكلمة المشتق منها اسمه هي كلمة مذكرة لغويا، ولكن أيضا بسبب خواصه الدائمه في كونه معلم وحامي. كان دون خوان يؤكد تلك الخصائص بأشكال مختلفة في كل مرة نتكلم فيها.


    يتبــــــــــــــع
                  

06-13-2009, 05:12 PM

محمد عثمان الحاج

تاريخ التسجيل: 02-01-2005
مجموع المشاركات: 3514

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: محمد عثمان الحاج)

    الأحد 24 ديسمبر 1961
    "عشبة الشيطان لم تقم بحماية أحد أبدا. إنها تخدم الإنسان بأن تقدم له القوة وحسب. من الناحية الأخرى فمسكاليتو لطيف مثل طفل رضيع".
    "لكنك قلت أن مسكاليتو مرعب أحيانا"
    "بالطبع هو مرعب، لكن حالما تتعرف عليه فهو لطيف وعطوف".
    "كيف يقوم بإظهار عطفه؟"
    "هو حامي ومعلم".
    "كيف يقوم بالحماية؟"
    "يمكنك الاحتفاظ به معك في كل الأوقات وستجد أنه لا يحدث لك شئ سئ".
    "كيف يمكنك أن تحتفظ به في كل الأوقات؟"
    "في كيس صغيرمربوط تحت ذراعك أو متدلي من عنقك بخيط".
    "هل تحتفظ به أنت معك؟"
    "كلا لأن عندي حليف. لكن أشخاص آخرين يحتفظون به"
    "ماذا يقوم بتعليمه؟"
    "هو يعلمك كيف تعيش بطريقة صحيحة"
    "كيف يقوم بالتعليم؟"
    "هو يريك الأشياء ويخبرك ماهيتها"
    "كيف؟"
    "يتوجب عليك أن ترى بنفسك"
    "ماذا ترى يادون خوان عندما يأخذك مسكاليتو معه؟"
    "مثل هذه الأشياء ليست موضوع حديث عادي. لا أستطيع إخبارك بذلك".
    " هل يمسك سوء إذا تكلمت؟"
    "مسكاليتو هو حامي، حامي لطيف ومهذب لكن ذلك لا يعني أن بإمكانك السخرية منه. لأته رغم أنه حامي لطيف فهو يستطيع أن يكون الرعب ذاته مع اولئك الذين لا يحبهم".
    "أنا لا أنوي أن أسخر منه. فقط أريد أن أعرف ما ذا يجعل الأخرين يرون أو يفعلون. أنا وصفت لك كل ما جعلني مسكاليتو أراه يا دون خوان".
    " بالنسبة لك الأمر مختلف ربما بسبب أنك لا تعرف أساليبه. يجب أن يتم تدريسك أساليبه مثلما يتم تدريس الطفل كيفية المشي".
    "كم من الوقت يتوجب أن يتم فيه تعليمي؟"
    "إلى حين يصبح معقولا بالنسبة لك".
    "ومن ثم؟"
    "ومن ثم سوف تفهم بنفسك. حينها لن يتوجب عليك إخباري بما تراه بعد ذلك".
    "هل يمكن أن تخبرني فقط بالمكان الذي يأخذك إليه مسكاليتو؟"
    "لا يمكنني التكلم عنه".
    "كل ما أريد معرفته هو ما إذا كان هناك عالما آخر يقوم بأخذ الناس إليع".
    "هناك عالم آخر".
    "هل هو السماء؟"
    "هو يأخذك ويخترق بك السماء".
    "أعني هل هي السماء التي يوجد فيها الله؟"
    "أنت تتحامق الأن. أنا لا أعرف أين الله".
    "هل مسكاليتو هو الله؟ هل هو أحد الألهة؟"
    "هو مجرد حامي ومعلم. هو قوة".
    "هل هو قوة في داخل أنفسنا؟"
    "كلا، مسكاليتو لا شأن له بأنفسنا. هو يقع خارجنا".
    "إذن كل من يرى مسكاليتو لابد وأن يراه بنفس الشكل؟"
    "كلا، أبدا. هو ليس نفسه مع كل إنسان".

    الخميس 12 أبريل 1962
    "لمذا لا تخبرني المزيد عن مسكاليتو يا دون خوان؟"
    "لايوجد ما يتم الإخبار به"
    "لابد أن هناك آلاف الأشياء التي يتوجب علي معرفتها قبل أن أراه مرة أخرى".
    "كلا، ربما بالنسبة لك لا يوجد ما يتوجب معرفته. كما سبق وأن أخبرتك هو ليس نفسه مع كل إنسان".
    "أنا أعرف ذلك ولكن مع ذلك أحب أن أعرف ما يشعر به الآخرون تجاهه".
    "رأي أولئك الذي يحرصون على الحديث عنه لا قيمة له. سترى أنت بنفسك. ربما ستتكلم عنه حتى نقطة معينة ثم لن تتكلم عنه أبدا بعد ذلك.
    "هل يمكنك أن تخبرني عن تجاربك الخاصة الأولى؟"
    " أنت الآن تعرف أكثر مما كنت أنا أعرفه في بدايتي. أنت لعبت معه حقا. يوما ما سترى كيف كان الحامي عطوفا. في المرة الأولى لك معه أن متأكد أنه أخبرك بآلآف الأشياء لكنك كنت أصم وأعمى".

    الأحد 14 أبريل 1962
    " هل يتشكل مسكاليتو بشكل عندما يظهر نفسه؟"
    "نعم، بأي شكل".
    "إذن ما هي الأشكال الشائعة التي تعرفها؟"
    "لاتوجد أشكال شائعة له".
    "هل تعني يادون خوان أنه يمكن أن يتشكل بأي شكل حتى بالنسبة للناس الذين يعرفونه جيدا؟"
    "كلا، هو يظهر بأشكال مختلفة لأولئك الذين لا يعرفون عنه سوى القليل، ولكن بالنسبة للذين يعرفونه جيدا هو ثابت دائما".
    "كيف يكون ثابتا؟"
    هو يظهر لهم أحيانا على هيئة إنسان مثلنا أو على هيئة نور. فقط نور".
    هل يغير مسكاليتو شكله للناس الذين يعرفونه جيدا؟"
    "في حدود معرفتي كلا".
    الجمعة 6 يوليو 1962

    بدأت أنا ودزن خوان رحلة في وقت متأخر من عصر السبت 23 يونيو. قال لي أننا سنذهب للبحث عن الفطريات في ولاية شيهواهوا. قال أنها ستكون رحلة طويلة وصعبة.وكان على حق في ذلك. وصلنا إلى مدينة صغيرة تعتمد على المناجم في شمال شيهواهوا في العشارة صباحا يوم الأربعاء 27 يونيو. وسرنا من المكان الذي أوقفت فيه سيارتي على حافة المدينة لمنزل صديقه وهو رجل هندي أحمر ينتمي لقبيلة التراهومارا ومعه زوجته. وقضينا الليل هناك.

    في الصباح التالي قام الرجل بإيقاظنا مبكرا في حوالي الخامسة صباحا وأحضر لنا الإفطار المكون من الفاصوليا و النشا، وجلس يحادثنا بنيما كنا تنناو الطعام لكنه لم يقل شيئا بخصوص رحلتنا.

    بعد الإطار وضع الرجل الماء في وعاء الماء الخاص بي وشطيرتين حلوتين في الكيس الذي يعلق على الظهر الخاص بي. وعلق دون خوان الكيس على كتفه بواسطة حبل وشكر الرجل على حسن ضيافته واستدار نحوي وقال:"حان وقت الذعاب".

    سرنا في الطريق الترابي نحو ميل ثم سرنا عبر الحقول وبعد نحو ساعتين كنا على سفح التلال المجاورة للمدينة. وتسلقنا المنحدرات ذات الإنحدار القليل سائرين في اتجاه جنوبي . عندما وصلنا المنحدرات الشديدة الإنحدر غير دون خوان الإتجاه وتابعنا وادي مرتفع متجهين شرقا. رغم تقدمه في السن كان دون خوان يسير باستمرار بسرعة مشي لا تصدق بالمقارنة بسنه المتقدم بحيث أنه عند الظهر كنت أنا قد أنهكت تماما. جلسنا وقام بفتح كيس الخبز.
    قال لي:" يمكنك أن تأكل كل ما فيه".
    "ماذا عنك أنت؟"
    "أنا لست جائعا ونحن سوف لن نحتاج لهذا الطعام لاحقا".

    كنت متعبا جدا وجائعا وقبلت عرضه. شعرت أن الوقت مناسب للتكلم عن الغرض من رحلتنا وسألته بتلقائية:" هل تظن أننا سنبقى هنا طويلا؟"
    "نحن هنا لنجمع بعض المسكاليتو. سنبقى حتى الغد."
    "أين هو مسكاليتو؟"
    "في كل مكان حولنا".
    كان الصبار من كل نوع ينمو بغزارة في المنطقة لكنني لم أستطيع تمييز البيوتي من بينها. وعدنا للسير ثانية وفي حوالي الثالثة وصلنا لوادي ضيق طويل تحيط به تلال شدية الإنحدار. كنت أشعر بإثارة غريبة بسبب فكرة أننا سنجد البيوتي الذي لم يسبق لي رؤيته في بيئته الطبيعية. دخلنا الوادي وسرنا لنحو أربعمائة قدم عندما رأيت فجأة ثلاثة نباتات بيوتي لا يمكن أن أكون أخطأت في التعرف عليها. كانت في شكل تجمع ينمو بوصات قليلة فوق سطح الأرض أمامي وعلى يسار الممر. بدت مثل أزهار ممتلئة خضراء. وركضت نحوها وأنا أشير إليها لدون خوان.

    تجاهلني وأولاني ظهره وسار مبتعدا. عرفت أنني أرتكبت خطأ وسرنا صامتين بقية العصر متحركين ببطء على أرضية الوادي التي كانت مغطاءة بصخور صغيرة حادة الحواف. سرناعبر الصبار مزعجين جماعات من السحالي وأحيانا طائر وحيد. لمحت الكثير جدا من نباتات البيوتي لكنني لم أقل كلمة.

    عند السادسة مساء كنا في قاع الجبال التي ترسم نهاية الوادي وتسلقنا لرف صخري. ورمى دون خوان كيسه وجلس. كنت جائعا ثانية واقترحت أن نلتقط مسكاليتو ونتجه للمدينة. وبدا على دون خوان الضيق وأصدر صوتا من فمه يدل على الامتعاض وقال أننا سنقضي الليل هناك.

    جلسنا في صمت. كان هناك حائط صخري في اليسار وعلى يميننا الوادي الذي عبرناه قبل قليل. وبدا أعرض وأقل تفلطحا مما ظننت أول وهلة. وعند النظر إليه من موضع جلوسي بدا مليئا بتلال صغيرة وبروزات.
    "غدا نبدأ السير عائدين" قال ذلك دون خون دون أن ينظر لي وأشار للوادي:" سوف نمضي عائدين ونلتقطه أثناء مرورنا في الحقل، أي أننا سنلتقط منه ما يقع في طريقنا فقط. هو سيعثر علينا ولسنا نحن الذين سنعثر عليه. سيعثر علينا إذا رغب هو في ذلك".

    وأسند دون خوان ظهره للحائط الصخري واستمر في الكلام في حين كان وجهه موجها لجانبه وكن هناك شخص آخر غيري هناك. "شئ آخر : أنا فقط هو من سيلتقطه. أنت ربما تحمل الكيس أو تسير أمامي ـ أنا لا أعرف حتى الآن أي الإحتمالين هو الذي سيحدث. لكن غدا سوف لن تشير إليه مثلما فعلت اليوم".
    "أنا آسف يا دون خوان".
    "لا بأس. أنت لم تكن تعرف أن ذلك ممنوع".
    "هل درسك أستاذك كل هذا عن مسكاليتو؟"
    "كلا! لم يقم أحد بتدريسي عنه. لقد قم مسكاليتو نفسه بتعليمي ذلك".
    "إذن مسكاليتو هو مثل إنسان يتم التكلم معه؟"
    "كلا هو ليس كذلك".
    "كيف يقوم بالتدريس إذن؟"
    بقي صامتا لبرهة.
    "هل تتذكر المرة التي لعبت فيها معه؟ لقد فهمت ما كان يعنيه أليس كذلك؟"
    "نعم فهمت".
    "تلك هي الطريقةالتي يدرس بها. أنت لم تكن تعرف حينها ولكن إذا كنت قد وجهت انتباهك إليه لكان تكلم معك".
    "متى؟"
    "عندما رأيته لأول مرة."

    بدا متضايقا جدا بسبب أسئلتي. قلت له أنني توجب علي أن أسأل كل تلك الأسئلة لأنني أردت معرفة كل ما يمكنني عنه.
    قال لي متخابثا:" لا تسألني أنا، إسأله هو. المرة القادمة التي تراه فيها إسأله عن كل ما تريد معرفته".
    "إذن مسكاليتو هو مثل الإنسان يمكنه الكلام..."
    لم يدعني أكمل كلامي وحمل إناء الماء واختفى خلف الصخرة. لم أرد أن أبقى وحيدا هناك ورغم أنه لم يطلب مني مرافقته فقد تبعته. وسرنا نحو خمسمائة قدم نحو جدول صغير. وغسل يديه ووجهه وملأ الوعاء. ومضمض الماء في فمه دون أن يبلع منه شيئا. وجمعت أنا الماء في كفي وشربت لكنه أوقفني وقال أنه لا ضرورة للشرب.

    وناولني الوعاء وبدأ السير عائد للرف الصخري. عندما وصلنا هناك جلسنا مرة أخرى مواجهين الوادي وظهورنا ملاصقة للحائط الصخري. سألته عما إذا كان بإمكننا إشعال نار. وكان رد فعله يدل ان طرح مثل هذا السؤال أمر غير مقبول. قال أنه أثناء الليل نحن ضيوف مسكاليتو وأن مسكاليتو سيجعلنا نشعر بالدفء.

    كان شفق الغروب قد حل وأخرج دون خوان بطانينتين قطنيتين رقيقتين من أكياسه ورمى بإحداهما في حجري وجلس متربعا والبطانية الأخرى على أكتافه.. تحتنا بدا الوادي مظلما وغطى ضباب المساء حوافه.

    جلس دون خوان دون حراك مواجها حقل البيوتي. ونفخت ريح ثابتة الهواء في وجهي.
    "وقت الشفق هو الشق في الجدار الفاصل بين العالمين". قال ذلك بلطف دون أن يتسدير نحوي.

    لم أسأله عما عناه بذلك. أصبحت عيوني منهكة. فجأة شعرت بالتسامي وواتتني رغبة قوية غريبة في أن أبكي!

    رقدت على بطني. كانت الأرضية الصخرية قاسية وغير مريحة وتوجب علي تغيير وضعي كل مرة بعد مرور دقائق قليلة. في النهاية نهضت وجلست متربعا ووضعت البطانية على كتفي. لدهشتي وجدت تلك الوضعية شديدة الراحة ونمت على الفور. استيقظت وأنا أسمع صوت دون خوان يتكلم معي. كان الظلام شديدا. لم أكن قادرا على رؤيته بوضوح ولم أفهم ما قاله لكنني تبعته عندما بدأ في السير هابطا من الرف الصخري. سرنا بحرص أو على الأقل سرت أنا بحرص بسبب الظلام وتوقفنا عند قاع الحائط الصخري. وجلس دون خوان وأشار لي أن أجلس على يساره.وفتح قميصه وأخرج كيسا جلديا فتحه ووضعه أمامه على الأرض. كان يحتوي على عدد من قطع البيوتي المجففة.

    بعد تريث طويل التقط إحدى القطع وأمسك بها في كفه الأيمن ومسحها عدة مرات بين الإبهام والأصبع الأول بينما كان ينشد بصوت واطئ. فجأة صرخ صرخة هائلة.
    "أهيييييي!"
    كان ذلك غريبا وغير متوقع وشعرت بالرعب. ورأيته بغير وضوح يضع قطعة البيوتي في فمه ويبدأ في مضغها وبعد برهة التقط الكيس بأجمعه وطلب مني هامسا أن آخذ الكيس وآخذ مسكاليتو ثم أضع الكيس أمامنا مرة أخرى ثم أفعل مثلما فعل هو بالضبط.

    والتقطت أنا قطعة بيوتي ومسحتها مثلما فعل هو بينما كان هو ينشد هازا ظهره للأمام والخلف. حاولت عدة مرات أن أضع القطعة في فمي لكنني شعرت بالحرج من أن أصرخ مثلما فعل هو. ثم وكأنني في حلم خرجت مني صرخة هائلة بدرجة لا يمكن تصديقها" أهييييي !" للحظة ظننت أن تلك الصرخة صدرت من شخص آخر. مرة أخرى شعرت بآثار الصدمة العصبية في بطني وشعرت أنني أقع للوراء. كنت على وشك الإغماء. وضعت قطعة البيوتي في فمي وبدأت في مضغها. بعد برهة التقط دون خوان واحدة أخرى من الكيس وشعرت بالراحة وأنا أراه يضعها في فمه بعد أن ردد بعض الإنشاد، ومرر الميس لي وقمت أنا بوضعه أمامنا بعد أن التقطت قطعة أخرى وتكرر الأمر خمسة مرات قبل أن ألاحظ أي شعور بالعطش. والتقطت الوعاء لكي أشرب ولكن دون خوان أمرني بأن أغسل فمي فقط ولا أشرب لكي لا أتقيأ.

    مضمت فمي بالماء عدة مرات. في لحظة كان الشرب يمثل إغراء هائلا وبلعت القليل من الماء. على الفور بدأت معدتي في التقلص. توقعت أن يندفع السائل بلا ألم أو جهد مثلما حدث في تجربتي السابقة مع البيوتي ولكن لدهشتني لم أحس سوى بإحساس التقيؤ العادي لكنه لم يستمر طويلا .
    التقط دون خوان قطعة أخرى وناولني الكيس وتكررت الدورة إلى أن مضغت أربعة عشر قطعة. عند ذلك اختفت كل أحاسيسي بالعطش والبرد وعدم الارتياح. بدلا من ذلك شعرت شعورا غير عادي بالدفء والإثارة. رفعت الوعاء لكي أرطب فمي لكنه كان خاليا. "هل يمكننا الذهاب للجدول يا دون خوان؟"


    لم يخرج صوتي من فمي لكنه اصطدم بسقف فمي ورجع لحنجرتي واستمر يتردد جيئة وذهابا بين الإثنين. كان الصدى لطيفا ورخيماوبدا أن له أجنحة ترفرف في حنجرتي. وأراحتني لمسته. وتابعت حركته جيئة وذهابا إلى أن تلاشت.

    كررت السؤال وبدا وكأن صوتي يخرج من بئر.

    لم يجبني دون خوان. ونهضت وسرت في اتجاه الجدول. نظرت نحوه لأرى ما إذا كان سيتبعني ولكنه بدا ينصت بانتباه لشئ.
    واشار لي بصرامة أن أهدأ.
    "أبوهتول هو هنا الآن".
    لم يسبق لي سماع تلك الكلمة من قبل وكنت أتساءل في نفسي عما إذا كان يتوجب علي سؤاله عنها عندما لاحظت صوتا بدا كأزيز داخل أذني. وبدأ الصوت في التزايد تدريجيا إلى أن أصبح مثل صوت ثور هائل وتفجر للوهلة قبل أن يتضاءل تدريجيا إلى أن أصبح كل شئ هادئا مرة أخرى. عنف الصوت وشدته أفزعاني. كنت أرتجف بشدة بحيث لم أكد أستطيع الوقوف على رجلي إلا بصعوبة، لكنني كنت في قمة العقلانية وإذا كنت نعسان قبل قليل فإن ذلك لاشعور اختفى تماما تاركا حالة من الوضوح الكامل. ذكرني الصوت بفيلم خيال علمي فيه نحلة عملاقة تهز أجنحتها وهي خارجة من منطقه إشعاع ذري. وضحكت على تلك الفكرة. ورأيت دون خوان يعود لوضعية جلوسه المسترخية. وفجأة عادت لي صورة النحلة العملاقة. كانت أشد واقعية من الأفكار العادية. ووقفت لوحدي محاطا بصفاء غير عادي. تم طرد كل شئ آخر من عقلي. تلك الحالة من الصفاء الذهني التي لم يسبق لي المرور بمثلها من قبل في حياتي نجم عنها حالة رعب أخرى.

    بدأت أتصبب عرقا. ملت نحو دون خوان لأقول له أنني خائف. كان وجهه على بعد بوصات قليلة من وجهي. كان ينظر لي لكن عيونه كانت عيون نحلة. بدت مثل زجج مستدير يشع منه نور في الظلام. كانت شفتاه بارتين ومنهما صدر نسق صوت:" بيهتوه بيهتوه بيهتوه" وقفزت للوراء وكدت أصطدم بالحائط الصخري. ولفترة بدت أنها طويلة بلا نهاية أصابني شعور لا يحتمل بالرعب. كنت ألهث وأتأوه، كان العرق وكأنه تجمد على جلدي مما جعل جسمي يتصلب بدرجة غريبة. ثم سمعت صوت دون خوان:" انهض. تحرك. انهض"

    اختفت الصورة ورأيت وجهه المعتاد مرة أخرى. قلت بعد مرور ما بدا أنه زمن طويل جدا:" سأحضر بعض الماء" كان صوتي متهدجا. ما كان بإمكاني قول الكلمات إلا بصعوبة. وأومأ دون خوان موافقا، وعندما سرت مبتعدا لاحظت ان خوفي قد أختفى

    عندما اقتربت من الجدول لاحظت أن بإمكاني رؤية كل شئ في طريقي. تذكرت أنني رأيت قبلة وهلة دون خوان بوضوح شديد في حينأنه قبل ذلك ما كان بإمكاني تمييز شكله إلا بصعوبة. وقفت ونظرت بعيدا ولا حظت أنني قادر على الرؤية عبر الوادي. أصبحت بعض الصخور في النهاية الأخرى للوادي ظاهرة بوضوح شديد. ظننت أن الوقت هوالصباح الباكر لكنني فكرت أنني ربما أكون قد فقدت الإحساس بالزمن. نظرت لساعتي فكانت تشير للثانية عشرة إلا عشرة دقائق. فحصت الساعة لأتأكد أنها تعمل. لا يمكن أن يكون الوقت ظهرا، لابد أنه منتصف الليل! كنت أنوي أن أصل الماء وأعود للصخور لكنني رأيت دون خوان قادما وانتظرته. أخبرته أنني أصبحت قادرا على الرؤية في الظلام.

    حدق لي لزمن طويل دون أن يقول شيئا وإذا كان قد قال شيئا فربما لم أسمعه لأنني كنت أركز على قدرتي الجديدة العجيبة في الرؤية في الظلام. كان بإمكاني رؤية الحصى الدقيق جدا في الرمل. في لحظات كان كل شئ واضحا بحيث بدا وكأن الوقت هو الصباح الباكر أو المغرب ثم يصبح مظلما ثم يضئ مرة أخرى. وسرعان ما لاحظت أن الإضاءة تقترن مع حركة انبساط قلبي والظلام مع حركة انقباضه. كان العالم يتحول من النور للظلمة وبالعكس مع كل دقة من دقات قلبي.

    انهمكت في هذا الاكتشاف عندما بدأت في سماع نفس الصوت الذي سبق لي سماعه. تصلبت عضلاتي.
    "أنوهكتال (هكذا سمعت الكلمة هذه المرة) هو هنا". قال ذلك دون خوان. تخيلت أن ذلك الزئير مرعد و طاغي بحيث لم تعد هناك أهمية لأي شئ آخر. عندما تلاشى الصوت لاحظت زيادة مفاجأة في الماء في الجدول. تمدد الجدول الذي كان قبل قليل عرضه أقل من قدم بحيث أصبح بحيرة هائلة. بدا أن هناك ضوء يأتي من الأعلى ويسقط عليها ملامسا سطحها وكأنه يأتي عبر أوراق أشجار كثيفة. من حين لآخر كان الماء يلمع لثانية بلون ذهبي أو أسود. ثم يصبح مسودا بلا نور ويكاد يختفي من البصر لكنه يبقى حضرا بصورة غريبة.

    لا أتذكر كم الوقت ظللت جالسا القرفصاء هناك فقط أراقب على شاطئ البحيرة السوداء. لابد أن الزئير قد اختفى حينها لأن ما أعادني مرة أخر للـ "الواقع" كان صوت الأزيز المفزع مرة أخرى. استدرت لأبحث عن دون خوان. رأيته يتسلق ويختفي خلف الرف الصخري. لكن الشعور بالوحدة لم يضايقني أبدا. وجلست هناك في حالة ثقة كاملة واسترخاء. أصبح الزئير مسموعا مرة أخرى وكان شديدا مثل صوت ريح عاصفة. عندما دققت اإنصات اكتشفت وجود نغمة محددة فيه. كانت تركيبة من أصوات حادة شبيهة بالصوت البشري يصحيها صوت طبلة غليظ عميق. وركزت انتباهي على النغمة ولاحظت أن حركة انقباض وانبساط قلبي توافق صوت الطبلة ونسق الموسيقى.

    نهضت وتوقفت الموسيقى. حاولت أن أنصت لدقات قلبي لكنها لم تكن مسموعة. جسلت مرة أخرى وأنا أفكر أنه ربما كانت وضعية جسمي هي التي سببت تلك الصوات. شعرت أنني اكتفيت ولكن عندما نهضت لأغادر شعرت برجفة في الأرض. كانت الأرض تهتز تحت أقدامي. كنت أفقد توزني. سقطت للوراء وبقيت عى ظهري فيما اهتزت الأرض بعنف. حاولت أن أمسك بصخرة أو نبتة لكن شيئا كان ينزلق تحتي. قفزت واقفا لبرهة ثم وقعت مرة أخرى. كانت الأرض التي أجلس عليها تتحرك لداخل الماء مثل طوف. وبقيت بلا حراك وأنا في حالة صدمة بسبب الرعب الذي كان مثل أي شئ آخر متفردا ومستمرا ومطلقا.
    تحركت عبر مياه البحيرة السوداء وأنا جالس على قطعة أرض بدت مثل جذع شجرة مصنوع من الطين. أتاني شعور بأن اتجاه الحركة كان نحو الجنوب حع حركة التيار. كان بإمكاني رؤية الماء يتحرك ويدور. كان باردا وثقيلا بدرجة غريبة عند اللمس. تخيلت أنه حي.

    لم تكن هناك شواطئ مميزة أو علامات ولا أتذكر الإفكار أو الأحاسيس التي شعرت بها خلال تلك الرحلة. بعدما بدا أنه ساعات من الطفو متحركا بدا أن طوفي استدار بزاوية قائمة نحو اليسار في اتجاه الشرق واستمر في الانزلاق عبر الماء لمسافة قصيرة ثم اصطدم فجأة بشئ. أدت الصدمة للإلقاء بي نحو الأمام أغلقت عيني وشعرت بألم حاد عندما اصدمت ركبتي وذراعي المفتوحتين بالأرض. بعد برهة نظرت للأعلى كنت راقدا على التراب. بدا :أن جذعي الطيني قد ذاب في الأرض. جلست وتلفت حولي. كان الماء ينحسر! كان يتحرك للخلف مثل موجة منعكسة إلى أن أختفى.

    جلست هناك لزمن طويل محاولا تجميع أفكاري وتحويل كل ما مر بي لشئ مفهوم. كان جسمي كله يؤلمني. كان حلقي مثل جرح مفتوح وكنت قد عضضت شفتي عندما اصدم طوفي بالأرض. نهضت. جعلتني الريح أدرك أنني أشعر بالبرد. كانت ثيابي مبللة. كانت يدي وركبتي وفكي تهتز بعنف بحيث وجب علي الرقاد مرة أخرى. تسللت قطرات العرق لعيوني وأحرقتني حتى صحت من الألم.

    بعد برهة استرجعت بعضا من رباطة جأشي ووقفت. في الفجر المظلم كان المنظر واضحا تماما. خطوت خطوتين. سمعت بوضوح عدة أصوات بشرية. بدا أنهم يتكلمون بصوت مرتفع. تبعت الصوت وسرت لنحو خمسين ياردة وأجبرت على التوقف فقد وصلت نهاية طريق مسدود. كان المكان الذي أقف فيه مغلقا مشكلا بصخور ضخمة. كنت أميز صخرة فالتي تليها إلى أن اندمجت الصخور مكونة جبلا. من بينها كانت تنبعث موسيقى رائعة. كان تدفقا مستمرا مخيفا من الأصوات.

    عند قاعدة إحدى الصخور رأيت رجلا يجلس على الأرض ووجه ملتفت بحيث كنت اكاد أراه من الجانب. اقتربت منه إلى أن أصبحت على بعد ربما عشرة أقدام عندما أدار وجهه ونظر لي. توقفت فقد كانت عيناه هما الماء الذي رأيته قبل قليل. فقد كان لهما نفس الحجم الهائل ولمعة اللون الأسود والذهبي. كان رأسه مدببا مثل ثمرة الفراولة وجلده أخضر تنقطه نتواءت عديدة. باستثناء الشكل المدبب كان رأسه مماثلا تماما لسطح نبات البيوتي. وقفت أمامه محدقا إليه. لم أستطع تحويل نظري عنه. شعرت أنه يضغط عمدا على صدري بثقل عينيه. كنت أختنق. فقدت توازني وسقطت على الأرض. استدارت عيناه بعيدا. سمعته يتكلم معي. في البداية كان صوته مثل حركة حفيف نسيم خفيف. ثم سمعته كموسيقى ـ كلحن مكون من مجموعة من الأصوات وعرفت حينها أنه يقول :"ماذا تريد."

    ركعت أمامه وتكلمت عن حياتي ثم بكيت. نظر لي مرة أخرى. شعرت أن عينيه تجذباني بعيدا وشعرت أن تلك هي لحظة موتي. أشار لي بأن أقترب أكثر. تريثت لوهلة قبل أن أخطو خطوة للأمام. عندما أقتربت أدار عيونه بعيدا عني وأراني ظهر كفه. وقال اللحن:"أنظر! " كان هناك ثقب مستدير في كفه. "أنظر! " قال اللحن مرة أخرى. نظرت في الثقب ورأيت نفسي. كنت عجوزا وضعيفا وكنت أركض وظهري منحن وشرارات لامعة تنتشر حولي. ثم اصطدمت بي ثلاثة شرارات اثنتان بالرأس وواحدة بالكتف الأيسر. ووقف جسمي الظاهر الثقب لوهلة إلى أن أصبح عموديا تماما ثم اختفى مع الثقب.

    أدار مسكاليتو عيناه في اتجاهي مر’ أخرى. كانتا قريبتين مني بحيث شعرت بهما يصدران نفس الصوت الغريب الذي سبق لي سماعه عدة مرات من قبل في تلك الليلة. وأصبحتا مسالمتين تدريجيا إلى أن أصبحتا مثل بركة هادئة تتلامع فيها توهجات ذهبية وسوداء.

    أدار عينيه بعيدا وقفز مثل جندب لمسافة تقارب الخمسين قدما واستمر في القفز إلى أن اختفى.
                  

06-13-2009, 05:15 PM

محمد عثمان الحاج

تاريخ التسجيل: 02-01-2005
مجموع المشاركات: 3514

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: محمد عثمان الحاج)

    يتبــــــــــــــع
                  

06-18-2009, 05:01 PM

محمد عثمان الحاج

تاريخ التسجيل: 02-01-2005
مجموع المشاركات: 3514

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: محمد عثمان الحاج)

    ما أتذكره بعد ذلك هو أنني بدأت أمشي. حاولت بصورة عقلانية التعرف على المعالم مثل الجبال البعيدة لكي أحدد مكاني. طيلة تلك التجربة كنت منشغلا بتحديد وضعية الجهات الأربعة واعتقدت أن الشمال على يساري. سرت في ذلك الاتجاه لوقت طويل قبل أن أدرك أن الوقت هو نهار وأنني لم أعد أستعمل قدرتي علىالرؤية في الظلام. تذكرت أن عندي ساعة ونظرت إليها فوجدتها الثامنة.

    كانت الساعة تقارب العاشرة عندما وصلت للرف الصخري الذي كنت فيه في الليلة السابقة. كان دون خوان راقدا على الأرض نائما.
    سألني: "أين كنت؟"
    جلست على الأرض لألتقط أنفاسي.
    بعد صمت طويل سألني:"هل رأيته؟"
    بدأت أروي له سلسلة تجتربتي منذ البداية لكنه قاطعني قائلا أن كل ما يهم هو هل رأيته أم لا.
    سألني عن المسافة التي كانت تفصل بيني وبين مسكاليتو هل كانت قريبة أم بعيدة. قلت له أنني كدت ألمسه. وأنصت باهتمام لكل التفاصيل دون أن يقاطعني إلا لكي يسألني عن شكل الكائن الذي رأيته وطريقة تصرفه وتفاصيل أخرى عنه. كان الوقت قد أصبح ظهرا عندما بدا أخيرا أن دون خوان اكتفى من سماع حكايتي. ووقف وربط كيس خيش إلى صدري وأمرني أن أسير خلفه حيث قال أنه سيقوم بقطع مسكاليتو من الأرض وأن علي الامساك به بيدي ووضعه في الكيس. وشربنا بعض الماء وبدأنا السير. عندما وصلنا حافة الوادي بدا أنه تريث لوهلة قبل أن يحدد الاتجاه الذي سنسير فيه. حالما حدد اختياره سرنا في خط مستقيم.

    في كل مرة كنا نمر فيها على نبتة بيوتي كان يجلس القرفصاء على الأرض أمامها ثم يقوم بلطف شديد بقطع الجزء الأعلى بسكينه المنشارية القصيرة. كان يقوم بعمل قطع موازي للأرض ويقوم برش مسحوق الكبريت النقي الذي كان يحمله في كيس جلدي على ما أسماه بالجرح في جسد النبتة.كان يمسك الجزء المقطوع بيده اليمنى ويرش المسحوق بيده اليسرى ثم يقف ويناولني القطعة التي كنت أتلقاها بيدي الاثنتين مثلما أمرني، وأضعها في الكيس. "قف منتصبا ولا تدع الكيس يمس الأرض أو الشجيرات أو أي شئ آخر" كرر لي ذلك عدة مرات وكأنما ظن أنني سأنسى.

    جمعنا خمسة وستين قطعة. عندما امتلأ الكيس قام بوضعه على ظهري وربط كيس آخر على صدري. عندما وصلنا نهاية الهضبة كان لدينا كيسين ممتلئين يحتويان مائة وعشرة قطعة بيوتي. كانت الأكياس كبيرة وثقيلة بحيت كدت أعجز عن السيرتحت وطأة وزنها وحجمها. قال لي دون خوان أن الأكياس أصبحت ثقيلة لأن مسكاليتو يريد ان يرجع للأرض. قال أن الحزن على مفارقة وطنه هو الذي جعل مسكاليتو ثقيلا وأن عملي المهم هو ألا أدع الأكياس تمس الأرض لأنني لو فعلت ذلك فإن مسكاليتو لن يسمح لي أبدا أن آخذه مرة أخرى.

    في لحظة معينة أصبح وزن الأكياس المعلقة على كتفي غير محتمل. كان هناك شئ يضغطني بقوة هائلة لكي يلقيني أرضا. شعرت بضيق شديد جدا. لاحظت أنني أسرعت في السير بما يقارب الجري كنت في الواقع أركض وراء دون خوان.

    فجأة تلاشى الوزن من على كتفي. أصبح الحمل اسفنجي خفيف. جريت بحرية لكي ألحق بدون خوان الذي كان أمامي. وفسر الأمر بأننا قد فارقنا موطن مسكاليتو.

    الثلاثاء 3 يوليو 1962
    "قال لي دون خوان: أعتقد أن مسكاليتو قد قبلك تقريبا".
    "لماذا تقول أنه قبلني تقريبا يا دون خوان؟"
    "هو لم يقتلك وحتى لم يؤذك. لقد أخافك بشدة لكن ليس بطريقة سيئة. لو كان لم يقبلك تماما لظهر أمامك بشكل وحش ممتلئ غضبا. بعض الناس عرفوا ما معنى الخوف حقا عندما قابلوه ولم يقبلهم".
    "لو كان هو مرعبا هكذا لماذا لم تقل لي ذلك قبل أن تأخذني للحقل؟"
    "أنت لا تملك الشجاعة لكي تبحث عنه باختيارك. لقد فكرت أنه سيكون من الأفضل لك ألا تغرف ذلك".
    "لكنني ربما كنت سأموت يا دون خوان! "
    "نعم ربما كنت ستموت. لكنني كنت متأكدا أن الأمور ستسير سيرا حسنا بالنسبة لك. لقد فكرت أنه سيعطف عليك هذه المرة".

    سألته عما إذا كان حقا يظن أن مسكاليتو يعطف علي. التجربة كانت مخيفة وكنت أشعر أنني مت بالفعل من شدة الخوف.

    قال أن مسكاليتو كان شديد العطف علي وأنه أراني منظرا كان فيه جواب سؤالي. قال دون خوان أن مسكاليتو قد أعطاني درسا. سألته ما ذا كان ذلك الدرس وما معناه. قال إن من المستحيل الإجابة عن ذلك السؤال لأنني كنت خائفا بدرجة لا أريد معها معرفة السؤال الذي سألته لمسكاليتو.

    وقلب دون خوان ذاكرتي بحثا عما قلته لمسكاليتو قبل أن يريني المنظر في كفه. لكنني لم أستطع التذكر. كل ما تذكرته هو جثوي على ركبتي واعترافي بخطاياي أمامه.

    بدا دون خوان غير مهتم بالحديث عن الموضوع بعد ذلك، وسألته:" هل يمكنك أن تعلمني كلمات الأغاني التي أنشدتها؟"
    "كلا لايمكنني. هذه الكلمات تخصني أنا وكلماتها قام الحامي (مسكاليتو) نفسه بتعليمي إياها. هذه الأغاني هي أغاني أنا. لا أستطيع إخبارك ماهي".

    "لماذا لا تستطيع إخباري يا دون خوان؟"
    "لأن هذه الأغاني هي رابط بين الحامي وبيني. أنا متأكد أنه هو سيعلمك أغانيك الخاصة بك. انتظر إلى ذلك الحين و لا تحاول مطلقا أن تقلد أو تسأل عن الأغاني الخاصة بشخص آخر".
    "ما هو الإسم الذي ناديته؟ هل يمكنك إخباري بذلك يا دون خوان؟"
    "كلا. اسمه لا يمكن التلفظ به أبدا إلا لمناداته."
    "ماذا لو كنت أنا الذي أريد مناداته؟"
    "لو قبلك يوما ما سيخبرك باسمه. ذلك الإسم سيكون خاصا بك أنت وحدك لتستعمله إما لمناداته بصوت عالي أو تردده بصوت خفيض لنفسك. ربما سيقول لك أن اسمه خوزيه، من يدري؟"
    "ما الخطأ في استعمال اسمه عند الحديث عنه؟"
    "أنت رأيت عينيه أليس كذلك؟ لا أحد يستطيع أن يتحامق مع الحامي. ذلك هو السبب في أنني لا أستطيع تجاوز حقيقة أنه لعب معك."

    كيف يمكن له أن يكون حاميا في حين أنه يؤذي بعض الناس؟"
    "الإجابة بسيطة جدا. مسكاليتو حامي لأنه متاح لكل من يطلبه".
    "لكن أليس حقا أن كل ما هو موجود في الكون متاح لمن يطلبه؟"
    "كلا هذا ليس بصحيح. قوى الحلفاء متاحة للبروهو فقط لكن يمكن لأي إنسان التعامل مع مسكاليتو "
    لكن لماذا يؤذي بعض الناس؟"
    "ليس كل أحد يحب مسكاليتو لكن الجميع يبحث عنه بنية الربح دون عمل. لذلك من الطبيعي أن تكون لقاءاتهم معه مرعبة".
    "ماذا يحدث عندما يقبل مسكاليتو الإنسان؟"
    "إنه يظهر له في شكل إنسان أو نور. عندما يتم قبول الإنسان بهذه الكيفية يصبح شكل مسكاليتو ثابتا ولن يتغير بعدها أبدا. ربما عندما تقابله المرة القادمة يكون نوراوربما يوما ما يطير بك ويكشف لك جميع سراره".
    ."ماذا تفعل للوصل لتلك المرحلة يا دون خوان؟"
    "يجب أن تكون رجلا قويا وحياتك صادقة"
    "ما هي الحياة الصادقة؟"
    "إنها حياة معاشة بالتأمل، حياة مقبولة "

    5

    كان دون خوان يسألني بانتظام وبطريقة ارتجالية عن حالة نبتة الداتورا الخاصة بي. خلال السنة التي مرت بعد قيامي بزرع الجذركانت النبتة قد نمت وتحولت لشجيرة كبيرة. كانت قد أثمرت وجفت براعمها. وقرر دون خوان أن الوقت قد أتى لكي أعرف المزيد عن عشبة الشيطان.

    الأحد 27 يناير 1963
    اليوم قدم لي دون خوان المعلومات الأولية عن القسم الثاني من جذر نبات الداتورا وتلك هي الخطوة الثانية حسب تقاليد التعليم التي يتبعها دون خوان. وقال أن القسم الثاني من الجذر هو البداية الحقيقية للتعلم وأن القسم الأول بالمقارنة معه كمثل لعبة أطفال. القسم الثاني يتوجب السيطرة عليه وتناوله على الأقل عشرين مرة قبل أن يتجه الإنسان للخطوة الثالثة.
    سألته "ماذا يفعل القسم الثاني؟"
    "القسم الثاني من عشبة الشيطان يستعمل للكشف الروحاني وبواسطته يمكن للإنسان أن يحلق في الهواء ليرى أي مكان يختاره".
    هل يستطيع الإنسان أن يحلق في الهواء يا دون خوان؟"
    "لم لا؟ كما قلت لك فعشبة الشيطان هي لأولئك الذين يبحثون عن القوة. الإنسان الذي يسيطر على القسم الثاني يستطيع أن يستعمل عشبة الشيطان لعمل أشياء لا يمكن تخيلها للحصول على المزيد من القوة".
    "ما هي تلك الأشياء يا دون خوان؟"
    "لا أستطيع إخبارك بذلك فكل إنسان يختلف عن الآخر".

    الاثنين 28 يناير 1963
    قال لي دون خوان "إذا أكملت الخطوة الثانية بنجاح لا يمكنني أن أريك سوى خطوة واحدة أخرى. أثناء تعلمي عن عشبة الشيطان أدركت أنا أنها لا تناسبني ولم أواصل السير في طريقها".
    ما لذي جعلك تتخذ القرار ضدها يا دون خوان؟"
    "عشبة الشيطان كانت توشك على قتلي في كل مرة حاولت فيها استعمالها. ذات مرة كان الأمر سيئا بحيث أنني ظننت أن نهايتي قد حلت. لكن رغم ذلك كان بمقدوري تفادي كل ذلك الألم".
    "كيف؟ هل هناك طريقة خاصة لتفادي الألم؟".
    "نعم، هناك طريقة".
    "هل هي وصفة أم خطوات معينة أم ماذ؟"
    "إنها طريقة في التشبث بالإشياء. مثلا عندما كنت أنا أتعلم عن عشبة الشيطان كنت متشوقا أكثر من اللازم. لقد لقد تشبثت بالأشياء مثلما يتشبث طفل بالحلوى. إن عشبة الشيطان ليست سوى طريق واحد من بين ملايين الطرق. لذلك يتوجب عليك أن تعرف دائما أن أي طريق هو مجرد طريق فحسب ولو شعرت أنك يجب ألا تسلكه فيجب ألا تبقى فيه تحت أي ظرف من الظروف. لكي يكون عندك مثل هذا الوضوح في الرؤية يجب أن تحيا حياة منضبطة. حينها فقط ستعرف أن أي طريق هو مجرد طريق وأنه لا يوجد ما يشين بالنسبة للإنسان أو للآخرين في أن تترك ذلك الطريق إذا أخبرك قلبك أن تفعل ذلك. لكن قرارك في أن تبقى في طريق أو تتركه يجب أن يكون متحررا من الخوف والطموح. أنا أحذرك. أنظر إلى كل طريق بدقة و إصرار. جربه عدة مرات حسبما تراه ضروريا. هذا سؤال لا يسأله سوى رجل عجوز جدا. أستاذي حدثني عنه ذات مرة عندما كنت شابا وكان دمي مندفعا أكثر من اللازم بحيث منعني من فهمه. الآن أنا أفهمه. سأخبرك ما هو: هل هذا الطريق له قلب؟ كل الطرق متماثلة وكلها لا تقود لمكان. إنها طرق تسير عبر الغابة أو إلى داخل الغابة. في حياتي يمكنني القول أنني عبرت طرقا طويلة، طويلة. لكنني لم أصل لمكان ما. سؤال أستاذي له معنى الآن. هل لهذا الطريق قلب؟ لو أن له قلب فهو طريق جيد ولو أنه ليس له قلب فلا فائدة منه. كلا الطريقين لا يقودان لمكان ولكن أحدهما له قلب والآخر ليس له قلب. أحدهما يؤدي لرحلة ممتعة وطالما أنت تتبعه فأنت متحد معه. أما الآخر فهو سيجعلك تلعن حياتك. أحدهما يجعلك قويا والآخر يضعفك".

    الأحد 21 أبريل 1963
    عصر يوم الثلاثاء 16 أبريل ذهبنا أنا ودون خوان للتلال التي توجد فيها نباتات الداتورا الخاصبة به. وطلب مني أن أتركه لوحده هناك وأن أنتظر في السيارة. ورجع بعد حوالي ثلاثة ساعات يحمل لفافة مربوطة في قماش أحمر. وعندما سارت بنا السيارة لمنزله أشار للحزمة وقال أنها هديته لي.

    سألته إن كان يعني أنه سيكف عن تعليمي. وشرح الأمر بأنه كان يشير لحقيقة أنني أصبح لدي نبتة ناضجة وأنني لم أعد بحاجة لنباتاته.

    لاحقا عصر ذلك اليوم جلسنا في غرفته حيث أخرج مدقا وعمود دق لهما ملمس ناعم كان قطر وعاء الدق حوالي سته بوصات. وقام بحل رباط ربطة كبيرة تحتوي في داخلها على عدة ربط صغيرة واختار منها اثنتين ووضعهما على حصير بجانبي. ثم أضاف أربعة ربط أخرى لها نفس الحجم من الربطة التي أحضرها معه للمنزل. قال أنها بذور وأنه يتوجب علي سحقها لتصبح مسحوقا ناعما. وفتح الربطة الأولى وصب بعض محتوياتها في المدق. كانت الحبوب مجففة ومستديرة ولها لون كاراميل مصفر.

    بدأت العمل على المدق وبعد مدة قام بتصحيحي. وجهني بأن أدفع عمود الدق تجاه أحد جوانب المدق في البداية ثم أقوم بزلقه عبر القاع للأعلى تجاه الجانب المقابل. سألته عما يريد أن يفعله بالمسحوق لكنه لم يرغب في الكلام عن ذلك.

    كانت أول مجموعة من البذور صعبة السحق جدا.تطلب الأمر مني أربعة ساعات لإكمال العمل. وآلمني ظهري بسبب وضعية جلوسي. رقدت وأردت الاستغراق في النوم في موضعي ذاك لكن دون خوان فتح الكيس التالي وصب بعض محتوياتها في المدق. كانت البذور هذه المرة ذات لون أدكن قليلا عن المرة الأولى وكانت متماسكة معا. كانت بقية محتويات الكيس عبارة عن مسحوق من نوع ما مكون من حبيبات صغيرة جدا ومستديرة.

    رغبت في تناول شئ ما ولكن دون خوان قال أنني إذا كنت أرغب في التعلم فعلي أن أتبع القاعدة القاعدة هي أنه لا يمكنني شرب سوى القليل من الماء أثناء تعلمي أسرار القسم الثاني.

    الكيس الثالث احتوى على حفنة من حشرات سوسة حية سوداء حبيبية والكيس الأخير احتوى على بذور طازجة بيضاء ناعمة بحيث تكاد تكون عجينية لكنها ليفية وصعبة السحق لتكون عجينة ناعمة مثلما توقع مني أن أفعل. بعد أن أنهيت سحق محتويات الأكياس الأربعة قاس دون خوان كوبين من ماء مخضر وصبه في قدر فخاري ووضع القدر في النار. عندما غلى الماء أضاف إليه الكمية الأولى من البذور المسحوقة، وقام بخلط القدر مستعملا قطعة خشب أو عظم طويلة مدببة كان يحملها في كيسه لجلدي. وحالما غلى الماء ثانية أضاف المواد الأخرى الواحدة تلو الأخرى متبعا نفس الخطوات. ثم أضاف كوبا ثانيا من نفس الماء وترك الخليط يغلي على نار هادئة.

    ثم قال لي أن الوقت حان لهرس الجذر. وقام بحرص باستخراج قطعة طويلة من جذر الداتورا من الربطة التي أحضرها للمنزل. كان طول الجذر حوالي ستة عشر بوصة. كان غليظا قطره حوالي بوصة ونصف. وقال أن ذاك هو القسم الثاني من الجذر. مرة أخرى قام بقياس القسم الثاني بنفسه لأنه لا يزال الجذر الخاص به هو. وقال أنه في المرة القادمة التي أجرب فيها عشبة الشيطان يتوجب علي قياس الجذر الخاص بي.

    وقام بدفع المدق نحوي وشرعت في هرس الجذر بنفس الطريقةالتي هرس بها القسم الأول. وقام بتوجيهي عبر نفس الخطوات ومرة أخرى تركنا الجذر المهروس مغمورا بالماء ومعرضا لهواء الليل. في تلك الأثناء كان الخليط الذي يغلي قد تصلب في القدر الفخاري. ورفع دون خوان القدر من النار ووضعه في شبكة تعليق وعلقها في عارضة سقف في منتصف الغرفة.


    يتبــــــــــع
                  

06-19-2009, 06:58 PM

محمد عثمان الحاج

تاريخ التسجيل: 02-01-2005
مجموع المشاركات: 3514

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: محمد عثمان الحاج)

    في حوالي الثامنة صباح يوم 17 أبريل بدأنا أنا ودون خوان في استخراج خلاصة الجذر عن طريق نقعه في الماء وتصفيته. كان اليوم يوما مشمسا صحوا وفسر دون خوان الجو الجميل بأنه فأل بأن عشبة الشيطان قد أحبتني وقال أنه حين يرى كيف سارت الأمور معي سيرا حسنا يتذكر كيف سارت أموره معها سيرا سيئا.

    كانت طريقة استخراج خلاصة الجذر هي نفس التي استعملتها مع القسم الأول. في وقت متأخر من العصر بعد صب الجزء الأعلى من الماء للمرة الثامنة كان هناك ملء ملعقة من المادة الصفراء في قاع الاناء.

    عدنا لغرفته التي كان لايزال فيها كيسان صغيران لم يمسهما بعد.وفتح أحدهما وأدخل فيه يده وضم الطرف المفتوح من الكيس حول يده مستعملا يده الأخرى في ذلك. بدا أنه يمسك شيئا من الطريقة التي كانت يده تتحرك بها داخل الكيس. وفجأة وبحركة سريعة خلع الكيس من يده مثل القفاز قالبا إياه بحيث صار باطنه ظاهره ودفع بيده نحو وجهي. كان يمسك بسحلية. كان رأسها على بعد بوصات قليلة من عيني. كان هناك شئ غريب بخصوص فم السحلية. حدقت إليها لبرهة ثم تراجعت بصورة لا إرادية. كان فم السحلية مخيطا بغرز غير متناسقة. أمرني دون خوان أن أمسك السحلية بيدي اليسرى. وقبضت عليها وتلوت هي على كفي. شعرت بالغثيان. وبدأت يداي تتصبان عرقا. وأخذ دون خوان الكيس الآخر وكرر نفس الحركات وأخرج سحلية أخرى. ومرة أخرى قربها من وجهي فلاحظت أن جفونها تمت خياطتها معا.وأمرني أن أمسك السحلية بيدي اليمنى.

    حين أمسكت بكلتا السحليتيتن كنت قد تقيأت تقريبا. شعرت شعورا قويا بالرغبة في أن أرمي السحليتين وأغادر فورا.
    قال لي: "لاتعصرهما!" وأشعرني صوته بالارتياح والثبات. وسألني عما أصابني. حاول أن يبدو جادا لكنه لم يوفق في ذلك وانفجر ضاحكا. حاولت أن أخفف قبضتي لكن يدي كانتا تعرقان بشدة بحيث أن السحليتين أوشكتا على الانفلات وخدشت مخالبهما الصغيرة الحادة يدي مما أدى لشعور لايصدق من الغثيان والاشمئزاز. وأغلقت عيني وضغطت على أسناني. إحدى السحليتين كانت قد بدأت الانزلاق على رسغي وكان كل ما تحتاجه هو تمرير رأسها من بين أصابعي لكي تصبح حرة. أصابني شعور فظيع باليأس البدني وعدم الارتياح الشديد. وزمجرت من بين أسناني المطبقة طالبا من دون خوان أن يأخذ هذه الأشياء الملعونة مني. اهتز رأسي لا إراديا. نظر لي دون خوان بفضول وزمجرت أنا مثل دب وهززت جسمي. ورمى دون خوان السحالي في أكياسها وضحك. أردت أنا أيضا أن أضحك لكن معدتي كانت مقلوبة فرقدت.

    شرحت له أن ما أثر علي هو الإحساس بمخالبهما على كفي، وقال أن هناك الكثير من الأشياء التي تجعل الإنسان يجن خاصة إذا لم يكن لديه الثبات والتوجه المطلوبين للتعلم. عندما يكون للإنسان نية صفية غير ملتوية فإن المشاعر لا تكون أبدا معوقة لأنه قادر على التحكم فيها.

    وانتظز دون خوان لمدة ثم وبنفس الحركات سلمني السحالي مرة أخرى. أمرني أن أمسك بهما بحيث يكون الرأس للأعلى وأن أمسحهما بلطف على صدغي وأن أسألهما عن أي شئ أرغب في معرفته.

    في البداية لم أفهم ماذا يريد مني أن أفعله وأخبرني مرة أخرى أن أسأل السحليتين عن أي تساؤل لم أجد له جوابا. وأعطاني سلسلة كاملة من الأمثلة: معرفة حال أشخاص من معارفي غائبين عني، أشياء ضاعت مني، أو أماكن لم يسبق لي زيارتها. ثم أدركت أنه يتكلم عن العرافة وشعرت بالإثارة وخفق قلبي. شعرت أنني أفقد أنفاسي.

    حذرني ألا أسأل عن أمور شخصية هذه المرة وقال لي أنني يجب أن أفكر بشئ لا صلة له بي. كان علي أن أفكر بسرعة ووضوح لأنه لا توجد طريقة لعكس أفكاري.

    حاولت بتهيج أن أفكر عن شئ أريد معرفته. وجعل دون خوان يستحثني بقوة واندهشت لأنني عجزت عن التفكير عن شئ أريد السؤال عنه.

    بعد انتظار طويل مؤلم فكرت بشئ. قبل مدة تمت سرقة مجموعة من الكتب من غرفة قراءة. لم يكن ذلك أمرا شخصيا ومع ذلك كنت مهتما به. لم يكن لدي أية أفكار مسبقة عن هوية الشخص و الأشخاص الذين أخذوا الكتب. ومسحت السحليتين بصدغي وسألتهما عمن سرق الكتب.

    بعد فنرة وضع دون خوان السحالي في أكياسها وقال أنه لاتوجد أسرار عميقة عن الجذر والعجين . العجين تم صنعه ليعطي توجيها والجذر يجعل الأشياء واضحة. لكن السر الحقيقي هو السحالي فهي سر العملية السحرية الخاصة بالقسم الثاني وفقا لما قاله. سألته عما إذا كانت نوعا خاصا من السحالي فقال أنها كذلك. يتوجب أن تأتي تلك السحالي من المنطقة التي توجد فيها نباتات الداتورا الخاصة بالإنسان، فيجب أن تكون صديقة له. وقال أن الحصول على صداقة السحالي يتطلب إغرائها لزمن طويل. يتوجب على الإنسان تطوير علاقة قوية معها بإعطائها الطعام والتكلم معها بكلمات عطوفة.

    سألته لم كانت صداقة السحالي مهمة بتلك الكيفية. قال أن السحالي لن تمكن أحدا أن يقبض عليها مالم تكن تعرف ذلك الشخص وأن الإنسان الذي يعرف قدر عشبة الشيطان لابد وأن يعرف قدر السحالي. وقال أنه كقاعدة يتوجب القبض على السحالي بعد أن يتم تجهيز العجينة والجذر. يتوجب القبض عليها في وقت متأخر من العصر. وقال أنه مالم يكن لإنسان علاقة حميمة بالسحالي فقد يقضي أياما في محاولة القبض على واحدة بلا جدوى في حين أن العجينة لا تبقى سوى ليوم واحد تفسد بعده. ثم أعطاني مجموعة طويلة من التوجيهات التي يتم اتباعها بعد القبض على السحالي.
    "حالما تقبض على السحالي ضعهما في كيسين منفصلين. ثم خذ الأولى وتكلم معها. اعتذر لها على ايذائك لها وأطلب منها المساعدة. ثم وباستعمال إبرة خشبية قم بخياطة فمها. استعمل ألياف شجر الإجيف وشوكة شجرة التشويا للقيام بالخياطة. أحكم الغرز ثم قل للسحلية الأخرى نفس الشئ وقم بخياطة جفونها. بحلول الليل ستكون قد أصبحت جاهزا. خذ السحلية ذات الفم المخيط وأشرح لها الشئ الذي تريد معرفته. اطلب منها أن تذهب وترى لك ما تريد، وقل لها أنك خيطت فمها لكي تعجل بالعودة لك ولا تتكلم مع أحد غيرك. دعها تتمسح بالعجينة بعد أن تمسحها بها على رأسها ثم ضعها على الأرض. إذا ذهبت في الاتجاه الذي تعتبره أنت اتجاهك المحظوظ فإن العملية السحرية ستكون ناجحة وسهلة، أما إذا تحركت السحلية في اتجاهك أنت (الجنوب) فيمكنك توقع ما هو اكثر من حظ جيد فائق للعادة لكن إذا تحركت مبتعدة عنك (شمالا) فسيكون العمل صعبا بصورة مرعبة. ربما تموت أنت في تلك الحالة، لذلك إذا ابتعدت عنك فمن الخير لك تتخلى عن الموضوع. إذا تخليت عنه ستفقد قدرتك على أن تأمر السحالي، لكن ذلك أفضل من فقدان حياتك. من ناحية أخرى ربما تقرر الاستمرار في العملية رغم تحذيري فإذا كان الأمر كذلك فالخطوة التالية هي أن تأخذ السحلية الأخرى وتطلب منها أن تستمع لما تحكيه أختها وتصفه لك".
    "لكن كيف يمكن للسحلية ذات الفم المخيط أن تحكي عما رأته؟ ألم يتم خياطة فمها لمنعها من الكلام؟"
    "خياطة فمها تمنعها من رواية حكايتها للغرباء. يقول الناس أن السحالي ثرثارة فهي تقف في أي مكان لتثرثر. في كل الأحوال الخطوة التالية هي مسح العجينة في مؤخرة رأسها ومن ثم مسح رأسها على صدغك الأيمن مبعدا العجينة عن منتصف جبينك. في بدية تعلمك سيكون من الأفضل ربط السحلية من وسطها بكتفك الأيمن بخيط. حينها سوف لن تفقدها أو تؤذيها، لكن لاحقا عندما تتقدم وتصبح قوة عشبة الشيطان مألوفة لك فإن السحالي تتعلم إطاعة أوامرك وتبقى جالسة على كتفك. بعد أن تمسح العجينة على صدغك الأيمن باستعمال السحلية أغمس يديك في العجينة ثم أمسحه أولا على الصدغين وانشره على كلا جانبي رأسك. العجينة تجف سريعا جدا ويمكن إعادة مسحها عدة مرات إذا دعا الأمر وفي كل مرة يتم ذلك باستعمال رأس السحلية ومن ثم أصابعك. بعد مدة وجيزة أو طويلة تعود السحلية التي ذهبت لترى وتحكي لأختها كل ما رأته والسحلية العمياء ستقوم بترديده لك وكأنك واحد من بني جنسها. عند انتهاء العمل ضع السحلية على الأرض واتركها تذهب ولكن لا تنظر لترى إلى ستذهب. إحفر حفرة عميقة بكلتا يديك وأدفن فيها كل ما استعملته في العملية".

    حوالي الساعة السادسة صباحا قام دون خوان بسكب خلاصة الجذر على سطح شقفة فخارية منبسطة فكان هناك أقل من ملء معلقة من النشا المصفر. وضع نصفه في كوب وأضاف ماء مصفرا وأدار الكوب في يده ليذيب المادة ومد لي الكوب وأمرني بشرب الخليط. كان عديم الطعم لكنه ترك مذاقا مرا بعض الشئ في فمي. كان الماء ساخنا وضايقني. وخفق قلبي بسرعة ولكن سرعان ما استرخيت.

    وتوجه دون خوان نحو الوعاء الآخر المحتوي على العجينة. بدت العجين متصلبة ولها سطح لامع. حاولت أن أخترق سطحها بأصبعي لكن دون خوان قفز وأبعد يدي من القدر. تضايق جدا وقال أن ما فعلته عديم التفكيروأنني إذا كنت أرغب حقا في التعلم فلا حاجة بي لأن أكون متهورا. قال مشيرا للعجينة أنها قوة وأنه لا يوجد إنسان يستطيع أن يقول أي نوع من القوة هي. وقال أن قيامنا بالتعامل معها لنيل أغراضنا هو أمر سئ بما يكفي وهو أمر لا نستطيع الامتناع عنه لأننا بشر لكن على الأقل يتوجب علينا معاملتها باحترام. بدت العجينة شبيهة بعجينة الشوفان المطهية. طلب مني إحضار الأكياس الحاوية للسحالي وأخذ السحلية ذات الفم المخيط ومدها لي بحرص وجعلني أمسكها بيدي اليسرى وطلب مني أخذ بعض العجينة بأصبعي ومسحها على رأس السحلية ومن ثم إنزال السحلية في الوعاء وأمساكها إلى أن تغطي العجينة جميع جسدها.

    ثم طلب مني إخراج السحلية من الوعاء. وحمل الوعاء وقادني لمنطقة صخرية قرب منزله وأشار لصخرة كبيرة وطلب مني الجلوس أمامها وكأنها هي نبات الداتورا الخاص بي وأن أمسك السحلية أمام وجهي وأشرح لها مرة أخرى ماذا أريد أن أعرفه وأن أتوسل إليه أن تذهب وتجد الإجابة لي. ونصحني بأن أقول للسحلية أنني آسف لما سببته لها من عدم ارتياح وأن أعدها أنني سأكون عطوفا على جميع السحالي في مقابل ذلك. ثم طلب مني أن أمسكها بين الأصبع الثالث والرابع من يدي اليسرى في المكان الذي سبق له أن جرحني فيه وأن أرقص حول الصخرة وأفعل نفس ما فعلته عندما قمت بإعادة غرس جذر عشبة الشيطان وسألني عما كنت أتذكر كل ما فعلته تلك المرة. قلت له أنني أتذكر. وشدد على أن كل شئ يجب أن يكون بالضبط مثل تلك المرة وأنني إذا لم أتذكر فيجب أن أنتظر إلى أن يصبح كل شئ واضحا في ذهني . وحذرني تحذيرا شديدا من أنني إذا تصرفت باستعجال وبدون تفكير فإنني سيتم إيذائي. وكانت آخر توجيهاته لي هي أنني يجب أن أضع السحلية ذات الفم المخيط على الأرض وأراقب إلى أين تذهب حتى يمكنني تحديد ما ستكون عليه نتيجة التجربة. وقال أنني يجب ألا أرفع عيني من السحلية ولو للحظة لأن السحالي اعتادت على أن تشتت بصر الإنسان ومن ثم تهرب.

    لم يكن الظلام قد حل بعد، ونظر دون خوان للسماء ثم قال :"سأتركك لوحد" ومشى بعيدا.

    اتبعت توجيهاته ووضعت السحلية على الأرض. بقيت السحلية بلا حراك في المكان الذي وضعتها فيه. ثم نظرت لي وجرت نحو الصخور في اتجاه الشرق واختفت بينها.

    جلست على الأرض أمام الصخرة وكأنني جالس أمام النبتة الخاصة بي. شعرت بحزن شديد. كنت أتساءل عما يحدث للسحلية ذات الفم المخيط. فكرت عن رحلتها الغريبة وكيف نظرت لي قبل أن تجري بعيدا. كانت فكرة غريبة وإسقاطا مثيرا للضيق. بصورة ما كنت أنا نفسي سحلية أقوم برحلة أخرى غريبة. ربما كان مصيري هو أن أرى فقط وفي تلك اللحظة فكرت أنني سوف لن أكون قادرا أبدا على وصف ما رأيته. كان الظلام شديدا حينها وكان بالكاد بإمكاني رؤية الصخور أمامي. وتذكرت كلمات دون خوان: "وقت الشفق هو الوقت الذي يحدث فيه الشق في الجدار الفاصل بين العالمين"! بعد تردد طويل بدأت في اتباع الخطوات المقررة. العجينة رغم أنها بدت مثل عجينة شوفان مطبوخة لم يكن لها ملمس عجينة الشوفان. كانت ناعمة جدا وباردة. كانت لها رائحة نفاذة غريبة. كانت تؤدي لإحساس بالبرودة في الجلد تجف بسرعة. ومسحت صدغي إحدى عشرة مرة دون أي تغيير في الإدرك أو المزاج لأنني لم أكن أعرف ما أتوقعه. حقيقة لم أكن أفهم طبيعة التجربة وواصلت البحث عن الدلائل.

    جفت العجينة وتقشرت من صدغي وكنت على وشك إعادة مسحها عندما أدركت أنني أجلس على على كعبي بالطريقة اليابانية. كنت أجلس متربعا قبل ذلك ولا أتذكر كيف غيرت وضعية جلوسي. مر وقت قبل أن أدرك أنني أجلس في نوع من مكان مغلق محاط بأقواس عالية. ظننت أنها أقواس من الطوب لكن عند فحصها عرفت أنها حجرية.

    كانت تلك النقلة صعبة جدا وأتت فجأة بحيث لم أكن مستعدا لمتابعة ما يحدث. كان إدراكي لعناصر الرؤية مشتتا وكأنني أحلم. لكن التفاصيل لم تتغير. بقيت ثابتة وكان بإمكاني التوقف أمام أيا منها وفحصه. لم تكن الرؤية واضحة أو حقيقية مثل الرؤيا التي يسببها البيوتي. كان لها طبيعة ضبابية وألوان مريحة جدا.

    تساءلت عما إذا بإمكاني النهوض أم لا ولاحظت بعدها أنني تحركت. كنت على قمة سلم وكانت هـ وهي صديقة لي تقف عند نهاية السلم. كانت عيناها كعيني المصاب بالحمى وكان هناك لمعان جنوني فيهما. ضحكت هي بصوت عالي وبشدة مخيفة. وبدأت في صعود السلم. أردت الهروب والاحتماء لأنها سبق لها أن أصيبت بنوبة جنونية ذات مرة. كانت تلك هي الفكرة التي مرت بي. اختبأت خلف عمود ومرت هي دون أن تلاحظني. "إنها ذاهبة في رحلة الآن" كانت تلك هي فكرة أخرى خطرت لي حينها، ثم كانت آخر فكرة تذكرتها هي:" هي تضحك في كل مرة تكون فيها على وشك الانفجار بالجنون".
    فجأة أصبح المنظر واضحا جدا. لم يعد مثل حلم. كان مثل منظر عادي لكن بدا أنني أنظر إليه عبر شباك زجاجي. حاولت أن ألمس عمود ولكن كل ما أحسست به هو عدم قدرتي على الحركة لكنني عرفت أن بإمكاني البقاء طالما أردت ذلك متفحصا المنظر عبر النافذة الزجاجية. كنت أرى المنظر لكنني لم أكن جزءا منه.

    وأتاني طوفان من الفكار العقلانية والحجج. كنت وفقا لحكمي في حالة وعي عادي. كان كل شئ ينتمي لما اعتدت عليه لكن مع ذلك كنت أعرف أنني لست في حالة عادية.

    وتغير المنظر فجأة. أصبح الوقت الوقت فيه ليلا ووجدت نفسي في قاعة منزل. جعلني الظلام داخل المنزل أنتبه إلى أنه في المنظر السابق كان ضوء الشمس جميلا وصافيا. ولكن ذلك كان عاديا بحيث أنني لم أنتبه إليه حينها. عندما دققت النظر في الرؤيا الجديدة رأيت شابا يخرج من غرفة حاملا حقيبة ظهر كبيرة على كتفيه. لم أكن أعرفه رغم أنني سبق لي أن رأيته مرة أو اثنتين. مر بجانبي ونزل من السلالم. حينها كنت قد تخلصت من شعوري بالضيق ومحاولة إدخال المنطق لما أراه وفكرت:"من هو هذا الرجل؟" "لماذا رأيته؟" وتغير المنظر ثانية وراقبت الشاب وهو يتلف الكتب ويلصق صفحات منها بالغراء معا ويمسح علامات وما إلى ذلك. ثم رأيته يضع الكتب بتنسيق في صندوق خشبي. كانت هناك كمية من الصناديق. لم تكن الصناديق في غرفته بل في مكان تخزين. وأتت مناظر أخرى لعقلي لكنها لم تكن واضحة. أصبح المشهد ضبابيا وأحسست بأنني أدور حول نفسي.

    هز دون خوان أكتافي واستيقظت. ساعدني على الوقوف والعودة لمنزله. كانت ثلاثة ساعات ونصف قد مرت منذ اللحظة التي بدأت فيها مسح العجينة على صدغي وحتى وقت استيقاظي لكن مرحلة الرؤى لم يكن من الممكن أن تكون زادت على عشرة دقائق. لم أشعر بأي شعور بالمرض. كنت جائعا ونعسان.

    يتبـــــــــــع
                  

06-25-2009, 04:27 PM

محمد عثمان الحاج

تاريخ التسجيل: 02-01-2005
مجموع المشاركات: 3514

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: محمد عثمان الحاج)

    الخميس 18 ابريل 1963
    طلب مني دون خوان الليلة الماضية أن أصف تجربتي الأخيرة لكنني كنت شديد النعاس فعجزت عن الكلام عنها. اليوم حالما استيقظت سألني مرة أخرى.

    بعد أن انتهيت من حكايتي سألني :"من قال لك أن هذه الفتاة هـ قد سبق لها أن أصيبت بالجنون؟"

    "لا أحد. كانت تلك واحدة من الأفكار التي مرت بذهني".
    "هل تظن أن تلك كانت أفكارك أنت؟"
    قلت له أنها كانت أفكاري رغم أنني ليس لدي سبب يدعوني للاعتقاد بأن هـ كانت مريضة. كانت تلك أفكارا غريبة. بدا أنها تظهر فجأة في عقلي بدون أي سابق لها. نظر لي نظرة تساؤل. سألته إن كان لا يصدقني فضحك وقال أن عادتي هي التخلي عن الحرص في تصرفاتي.
    "ما هو الخطأ الذي ارتكبته يا دون خوان؟"
    "كان يتوجب عليك الإنصات للسحالي".
    "كيف كان يتوجب علي الإنصات؟"
    "السحلية الصغيرة على كتفك كانت تصف لك كل الأشياء التي تراها أختها. كانت تتكلم معك. كانت تقول لك كل شئ وأنت لم توجه انتباهك لها. بدلا من ذلك ظننت أن كلمات السحلية هي أفكارك أنت!"

    "لكن تلك كانت أفكاري أنا يا دون خوان".
    "كلا لم تكن أفكارك أنت. تلك هي الكيفية التي تعمل بها هذه العملية السحرية. في الواقع يتوجب الإنصات في هذه الرؤيا بدلا من النظر. نفس الشئ حدث لي. كنت على وشك أن أنبهك لهذه النقطة مقدما لكنني تذكرت أن أستاذي لم ينبهني."
    "هل كانت تجربتك الأولى مشابهة لتجربتي يا دون خوان؟"
    "كلا. تجربتي كانت عبارة عن رحلة جحيمية. كدت أموت فيها".
    "لماذا كانت جحيمية؟"
    "ربما لأن عشبة الشيطان لم تحبني أو ربما أنني لم أكن متأكدا عما أسأل عنه. مثلك أنت بالأمس. لابد أنك كنت تفكر في تلك الفتاة عندما سألت السحالي عن الكتب".
    "لا أستطيع تذكر ذلك"
    "السحالي لا تخطئ أبدا فهي تعتبر كل فكرة تمر بعقلك سؤالا. لقد عادت السحلية وأخبرتك بأشياء عن هـ سوف لن يتمكن أحد من فهمها لأنه حتى انت نفسك لا تدري ماذا كانت أفكارك".
    "ماذا عن الرؤيا الأخرى التي رأيتها؟"
    "لابد أن أفكارك كانت مستقرة عندما سألت ذلك السؤال. وتلك هي الطريقة التي يتم بها تنفيذ هذه العمليةالسحرية: بالوضوح."
    "هل تعني أن الرؤيا عن القتاة لا يجب أن تحمل بمحمل الجد؟"
    "كيف يمكن أن تحمل محمل الجد في حين أنك لا تدري ما هو السؤال الذي قامت السحلية بالإجابة عليه؟"
    "هل يكون الأمر أكثر وضوحا بالنسبة للسحالي إذا سألها الإنسان سؤالا واحدا؟"
    "نعم ذلك سيكون أوضح. إذا أمكنك أن تركز على فكرة واحدة بصورة مستقرة".
    "ولكن ماذا يحدث يا دون خوان إذا كان السؤال الواحد معقدا وليس بسيطا؟"
    "طالما كانت أفكارك مستقرة ولا تتشتت في مواضيع أخرى فالأمر سيكون واضحا بالنسبة للسحالي الصغيرة وعندها تكون أجاباتهن واضحة بالنسبة لك".
    "هل يمكن للإنسان أن يستمر في طرح الأسئلة على السحالي أثناء الرؤيا نفسها؟"
    "كلا. الرؤيا هي لغرض أن تتأمل فيما تقوله لك السحالي. ذلك سبب قولي أنها رؤيا يتوجب فيها الإنصات أكثر من النظر. ذلك هو سبب أنني طلبت أن يكون سؤالك لا يتعلق بأمورك الشخصية. عادة عندما تكون الرؤيا عن أناس فإن رغبتك في التكلم معهم او لمسهم تكون قوية وحينها تتوقف السحالي عن الكلام وتنتهي الرؤيا. يجب أن يكون علمك أكثر مما هو الآن قبل أن تحاول رؤية أشياء تتعلق بك أنت شخصيا. المرة القادمة يجب أن تنصت باهتمام. أنا متأكد من أن السحالي أخبرتك بالكثير الكثير لكنك لم تكن منصتا".


    الجمعة 19 أبريل 1963

    "ما هي تلك الأشياء التي سحقتها لصنع العجينة؟"
    "بذور عشبة الشيطان والسوسة التي تعيش على البذور. القياس هو حفنة واحدة من كل منها" وضم كفه الأيمن ليريني مقدار الحفنة.

    سألته ماذا يحدث إذا تم استعمال أحد العناصر دون الأخرى فقال أن إجراء كهذا من شأنه أن يؤدي لاستعداء عشبة الشيطان والسحالي. "يجب ألا تستعدى السحالي" قال ذلك دون خوان. "غدا في وقت متأخر من العصر يجب أن تعود لموضع نباتاتك. تكلم مع جميع السحالي واطلب من السحليتين اللتان ساعدتاك في العملية السحرية الأخيرة الخروج مرة أخرى. ابحث في كل المكان إلى أن يحل الظلام الكامل. إذا لم تعثر عليهن حاول مرة أخرى في اليوم التالي. إذا كنت قويا ستجد كليهما وعندها يتوجب عليك التهامهما حالما تجدهما. عندها ستمنح للأبد القدرة على رؤية المجهول. سوف لن تحتاج أبدا مرة أخرى لأن تقبض على سحالي لكي تمارس هذه العملية السحرية. ستعيش السحالي في داخلك منذ ذلك الوقت وما يليه".

    "ماذا أفعل إن وجدت إحداهما فقط؟"
    "إذا وجدت واحدة فعليك أن تتركها تذهب في نهاية البحث. إن وجدتها في اليوم الأول فلا تحتفظ بها على أمل أن تقبض الأخرى في اليوم التالي. ذلك سيفسد صداقتك مع السحالي".
    "ماذا يحدث إن لم أجد أيا منهما أبدا؟"
    "أظن ذلك سيكون هو الأفضل بالنسبة لك. سيعني ذلك أنه سيتوجب عليك القبض على سحليتين في كل مرة تحتاج فيها لمساعدنهما. كما أنه سيعني أنك حر".
    "ماذا تعني بحر؟"
    "حر من أن تكون عبدا لعشبة الشيطان. إذا عاشت السحالي في داخلك فعشبة الشيطان سوف لن تسمح لك أبدا بالذهاب".
    "هل ذلك سئ؟"
    "بالطبع إنه سئ. سوف تعزلك عن كل شئ آخر. ستقضي حياتك تدللها كحليف لك. إنها تحب السيطرة. حالما تهيمن عليك فهناك طريق واحد فقط أمامك لكي تسلكه: طريقها".
    "ماذا إذا وجدت أن السحليتين ماتتا؟"
    "إذا وجدت إحداهما أو كليهما ميتتتين فيجب ألا تقوم بهذه العملية السحرية مرة أخرى لبعض الوقت. ابتعد بعض الوقت. أعتقد أن هذا هو كل ما أحتاج لأن أخبرك به. ما أخبرتك به هو القاعدة، في كل مرة تمارس فيها هذه العملية السحرية لوحدك يجب أن تتبع الخطوات التي وصفتها أنا عندما تجلس أمام نبتتك. شئ آخر: يجب ألا تأكل أو تشرب حتى نهاية العملية السحرية".
    6

    الخطوة التالية في تعاليم دون خوان كانت خاصية جديدة للسيطرة على القسم الثاني من جذر الداتورا. في الوقت الذي مر بين المرحلتين لم يفعل دون خوان شيئا سوى سؤالي عن حالة نبتتي.

    الخميس 27 يونيو 1963

    قال لي دون خوان:"من حسن التصرف أن تقوم بامتحان عشبة الشيطان قبل أن تسلك طريقها".
    "كيف تمتحنها يا دون خوان؟"

    "يجب أن تحاول القيام بعملية سحرية أخرى مع السحالي. أنت لديك كل العناصر المطلوبة لكي تسأل السحالي سؤالا آخر هذه المرة دون مساعدة مني".
    "هل من الضروي جدا أن أقوم بهذه العملية السحرية يادون خوان؟"
    "تلك هي أفضل طريقة لاختبار مشاعر عشبة الشيطان تجاهك. هي تقوم بامتحانك في كل مرة لذلك من العدل أن تمتحنها أنت أيضا وإذا شعرت عند أي نقطة في طريقها أنه ولسبب ما يجب ألا تستمر عندها ما عليك سوى التوقف".

    السبت التاسع والعشرين من يونيو 1963

    أثرت أنا موضوع عشبة الشيطان. أردت من دون خوان أن يخبرني المزيد عنها وفي نفس الوقت لم أرد أن أظهر له أنني مهتم بالمشاركة في ذلك الشأن.

    لكي أبدأ الحوار سألته:"القسم الثاني يستخدم فقط للعرافة أليس كذلك يا دون خوان؟"
    "ليس للعرافة وحسب. الإنسان يتعلم العملية السحرية الخاصة بالسحالي مع القسم الثاني وفي نفس الوقت يقوم الإنسان بامتحان عشبة الشيطان ولكن في حقيقة الأمر القسم الثاني يستخدم لأغراض أخرى. سحر السحالي هو البداية فقط".
    "إذن ففيم تستعمل يا دون خوان؟"
    لم يجب وقام بتغيير الموضوع فجأة. سألني كيف أصبح حجم أشجار الداتورا التي تنمو حول نبتتي وأشرت اليه موضحا الحجم.
    قال دون خوان:"أنا علمتك كيف تميز بين الذكر والأنثى والآن إذهب إلى نبتتك وأحضر لي كليهما. اذهب أولا لنبتتك القديمة وتتبع بحرص مجرى مياه الأمطار. الآن لابد أن ماء المطر قد حمل البذور بعيدا. راقب الانجرافات الناجمة عن جريان الماء ومنها حدد اتجاه الجريان. ثم اعثر على النبتة التي تنمو أبعد ما يمون عن نبتتك. جميع شجيرات عشبة الشيطان التي تنمو بينهما هي ملكك. لاحقا يمكنك أن تمدد حدودك عن طريق اتباع جريان الماء من كل نبته أخيرة في اتجاه الجريان".

    ثم أعطاني تعليمات دقيقة عن كيفية الحصول على أداة قطع. وقال أن قطع الجذر يجب أن يتم بالطريقة التالية: أولا يجب أن أختار النبات الذي أريد قطعه وأنظف التراب من المنطقة التي يلتقي فيها لجذر بالساق. ثانيا يجب أن أكرر بالضبط نفس الرقصة التي أديتها عندما أعدت زراعة الجذر. ثالثا يجب علي أن أقطع الساق وأترك الجذر في الأرض. الخطوة الأخيرة هي حفر مقدر ستة عشر بوصة من الجذر.ونصحني بعدم الكلام أو إظهار أي عاطفة أثناء تلك العملية.
    "يجب أن تحمل قطعتي قماش. أنشرهما في الأرض وضع النباتات فوقهما . ثم أقطع النباتات أجزاء وكومها. ترتيب ذلك هو كما تحب أن يكون ولكن يجب عليك أن تتذكر ذلك الترتيب لأنك ستسعمله نفسه مستقبلا. أحضر النباتات لي حالما تحصل عليها."

    الأحد 6 يوليو 1963

    يوم الاثنين 1 يوليو قمت بقطع نباتات الداتورا التي طلبها مني دون خوان. انتظرت إلى أن حل الظلام تماما قبل أن أقوم بالرقص لأنني لم أرغب أن يراني أحد أثناء الرقص. شعرت بالضيق الشديد. كنت متأكدا أن شخصا ما سيراقب أفعالي الغريبة. كنت قد اخترت النباتات التي بدا لي أنها ذكر وأنثى . كان يتوجب علي قطع ستة عشر بوصة من جذر كل منهما والحفر حتى ذك العمق بملعقة خشبية ليس أمرا هينا. تطلب مني الآمر عدة ساعات. توجب علي أن أكمل العمل في الظلام وعندما أصبحت جاهزا لقطعهما توجب علي استعمال مصباح بطارية. كان ضيقي الأولي من حقيقة أنه يمكن ن يكون أحد ما يراقبني صغيرا بالمقارنة مع خوفي من أن يرى أحدهم ضوء المصباح وسط الشجيرات.

    حملت النباتات لمنزل دون خوان يوم الثلاثاء الثاني من يوليو وفتح هو الربط وفحص القطع. وقال أنه لا يزال يتوجب عليه اعطائي بذور نباتاته. ودفع بمدق أمامي وأخذ برطمان وأفرغ محتوياته وهي بذور مجففة متكتلة في المدق.

    سألته عماهيتها فقال أنها بذور أكلتها السوسة. كانت هناك بعض الحشرات بين البذور: سوسة حبوب سوداء صغيرة. وقال دون خوان أن تلك هي حشرات خاصة وأن علينا أن نفصلها عن البذور ونضعها في برطمان منفصل. ومد لي برطمان آخر نصف ممتلئ بنفس نوع السوسة. وكان فم البرطمان مغلقا بورقة لمنع السوسة من الهروب.

    قال لي دون خوان:"المرة القادمة سيتوجب عليك استعمال حشرات من نباتاتك الخاصة بك". ما تفعله هو أن تقطع محافظ البذور التي بها ثقوب صغيرة فهي تكون مليئة بالحشرات.افتح المحفظة واكحت كل شئ في برطمان. اجمع حفنة من الحشرات وضعها في وعاء آخر. عاملها بقسوة. لاتكن لطيفا أو مهذبا معها. قس حفنة من البذور المتكتلة التي أكلتها السوسة وحفنه من مسحوق الحشرات وادفن ما يتبقى في أي مكان في ذلك الاتجاه (وأشار للجنوب الشرقي)من نبتتك. ثم اجمع بذور جيدة جافة وخزنها منفصلة. يمكنك أن تجمع أي كمية منها. يمكنك استعمالها دائما. من الجيد أن تخرج البذور من محافظها هناك حتى يمكنك دفن جميع البقايا مرة واحدة".

    بعد ذلك وجهني دون خوان بأن أسحق البذور المتكتلة أولا، ثم بعدها بيض السوسة ثم السوسة وأخيرا البذور السليمة الجافة.

    حين أصبح كل ذلك مسحوقا ناعما أخذ دون خوان قطع الداتورا التي كنت قد قطعتها وكومتها. وقام بعزل الجذر المذكر وقام بلفه بلطف بقطعة قماش. ثم أعطاني البقية وطلب مني سحقها وعصرها جيدا ووضع كل نقطة من العصارة في قدر. وقال أن ترتيب السحق هو نفس الترتيب الذي استعملته عندما كومتها.

    بعد أن انتهيت وجهني بأن أقيس كوبا من الماء المغلي وأخلطه بما في القدر ومن ثم أضيف كوبين آخرين. وقدم لي عصا مصنوعة من عظم ذات سطح مصقول قمت بتحريك الخليط بها ومن ثم وضعت القدر على النار. ثم قال أن علين تجهيز الجذر ولذلك الغرض يتوجب علينا استعمال مدق اكبر لأن الجذر الذكر لا يمكن قطعه أبدا. وذهبنا لمؤخرة المنزل حيث كان المدق جاهزا هناك وشرعت في سحق الجذر مثلما فعلت المرة السابقة. وتركنا الجذر مبللا بالماء ومعرضا لهواء الليل ودخلنا المنزل.

    وقال لي أن علي مراقبة الخليط الذي في القدر. كان علي ن أتركه يغلي إلى أن يغلظ قوامه ويصبح صعب التحريك. وقدرت أنه أصبح جاهز وأنزلته من النار. ووضعته في الشبكة وعلقته على حافة السقف وذهبت للنوم.

    استيقظت عندما استيقظ دون خوان. كانت الشمس مشرقة في سماء صافية، كان يوما ساخنا جافا. وعلق دون خوان مرة أخرى بأنه متأكد من أن عشبة الشيطان تحبني.

    وشرعنا في معالجة الجذر وفي نهاية اليوم كان لدينا كمية من المادة الصفراء في قاع الوعاء. وخذ دون خوان الجزء الأعلى من الماء وظننت أن تلك هي نهاية الخطوات لكنه قام بملء القدر بماء مغلي مرة أخرى. وقام بإنزال القدر الحاوي على السائل الثقيل القوام من السقف وبدا أن السائل قد جف تقريبا. وحمل القدر لداخل المنزل ووضعه بحرص على الأرض وجلس ثم بدأ يتكلم.

    "قال لي أستاذي أنه من المسموح أن يتم خلط السائل الغليظ القوام مع الشحم الحيواني. وذلك هو ما ستقوم بفعله. أستاذي قام بخلطه مع الشحم لي، مثلما سبق وأن قلت، فأنا لم أحب النبتة أبدا ولم أحاول الاتحاد معها. قال لي أستاذي أنه للحصول على أفضل النتائج بالنسبة لأولئك الذين يرغبون حقا في السيطرة على القوة فإن الشئ الصحيح هو خلط النبات مع شحم الخنزير البري. شحم الأمعاء هو الأفضل. لكن الخيار متروك لك. ربما تتفتق الأحداث عن أنك يجب أن تتخذ من عشبة الشيطان حليفة لك وفي تلك الحالة سأنصحك مثلما نصحني أستاذي بصيد خنزير بري واستخراج شحم أمعائه. في زمن آخر عندما كانت عشبة الشيطان تعتبر هي القمة كان البروهو يقومون برحلات صيد خاصة لصيد الخنزير البري والحصول على الشحم. كانوا يختارون أضخم وأقوى الذكور. كان لديهم سحر خصوصي متعلق بالخنازير البرية حيث كانوا يأخذون منها قوة خاصة قوة خاصة بدرجة يصعب تصديقها حتى في تلك الأيام. لكن تلك القوة فقدت. أنا لاأعرف شيئا عنها. ولا أعرف شخصا يعرف عنها شيئا. ربما ستخبرك العشبة نفسها بكل ذلك."

    وقاس دون خوان حفنة من الشحم ورمى بها في القدر المحتوي على السائل المتصلب وحك الشحم المتبقي في يده على حافة القدر. وطلب مني خلط المحتويات إلى أن تصبح ناعمة ومخلوطة جيدا.

    قمت بتحريك الخليط لمدة ثلاثة ساعات تقريبا وكان دون خوان ينظر إليه من حين لآخر ويقول أن لم يجهز بعد وفي النهاية بدا أنه رضي. كان الهواء الذي اختلط بالخليط نتيجة الخفق قد جعل لونه رماديا وقوامه مثل الهلام. وعلق دون خوان القدر على السقف أمام القدر الآخر. وقال أنه سيتركه هناك حتى الغد لأن تحضير هذا القسم الثاني يستغرق يومين. وطلب مني ألا آكل أي شئ حتى ذلك الحين. يمكنني الشرب ولكن لايمكنني الأكل إطلاقا.

    في اليوم التالي وهو الخميس الرابع من يوليو وجهني دون خوان باستخراج عصارة الجذر أربعة مرات. في المرة الأخيرة التي صببت فيها الماء من الوعاء كان الظلام قد حل. وجلسنا في البرندة. ووضع كلا الوعائين أمامه. كانت خصة الجذر بقدر ملء معلقة شاي من النشاء الأبيض ووضعها في كوب وأضاف لها الماء. وأدار الكوب في يده ليحل المادة ثم مد لي الكوب. وقمت بشربه سريعا ثم رقدت على الأرض. بدأ قلبي يخفق وشعرت أنني غير قادر على التنفس. وأمرني دون خوان بأن أخلع جميع ملابسي وكأن ذلك شئ عادي. وسألته عن السبب فقال أن علي أن أمسح جسدي بالعجينة. وترددت ولم أدر هل أقوم بخلع ملابسي أم لا. وحثني دون خوان على الإسراع وقال أنه لايوجد سوى وقت قليل جدا لا مجال لاضاعته في الحماقة. وخلعت جميع ملابسي.
    وحمل العصا العظمية وقام بشق خطين أفقيين على سطح العجينة مقسما إياها لثلاثة أقسام متساوية. ثم بدءا من منتصف الخط الأعلى قام بقطع خط رأسي متعامد مع الخطين الأوليين وبذلك قسم العجينة لخمسة أقسام. وأشار للجزء السفلي الأيمن وقال أن ذلك هو لقدمي اليسرى والجزء الذي فوه لساقي اليسرى والجزء الأعلى وهو الأكبر لأعضائي التناسلية والجزء المجاور له من الأسفل على الجانب الأيسر كان لقدمي اليسرى. وأمرني أن أمسح القسم المخصص لقدمي الأيسر على باطن قدمي وأدعكه بشدة. ثم وجهني بمسح العجينة على باطن ساقي الأيسر وأعضائي التناسلية وللأسفل عبر ساقي الأيمن بأكمله وأخيرا باطن قدمي اليمنى.
    تبعت ارشاداته. كانت العجينة باردة ولها رائحة نفاذة. عندما انتهيت من المسح وقفت. تسللت رائحة الخليط إلى أنفي وكانت تخنقني. كان الرائحة النفاذة في الواقع تخنقني. كانت مثل غاز من نوع ما. حاولت أن أتنفس من فمي وحاولت أن أتكلم مع دون خوان لكنني لم أستطع.

    وظل دون خوان يحدق لي. وخطوت خطوة نحوه. كانت ساقاي مطاطيتان وطويلتان، طويلتان جدا. شعرت بان مفاصل قدمي مثل الزنبرك. ومثل زانة القفز كانت تهتز وترتجف و تنكمش بصورة مرنة. تحركت للأمام فكانت حركة جسمي بطيئة ومهتزة وأشبه بهزة للأمام والأعلى. نظرت للأسفل ورأيت دون خوان يجلس تحتي بعيدا جدا. وحملني الاندفاع خطوة أخرى للأمام كانت أشد مرونة من الخطوة التي سبقتها. ومن تلك اللحظة حلقت في الهواء. أتذكر أنني نزلت مرة واحدة ثم دفعت نفسي للأعلى بكلا قدمي وقفزت للوراء وحلقت وأنا راقد على ظهري. رأيت السماء الداكنة فوقي والسحب بجانبي. وهززت جسمي لكي أتمكن من النظر للأسفل.ورأيت كتلة الجبال القاتمة . كانت سرعتي خارقة. كانت أذرعي ثابتة مطوية على جانبي. كان رأسي هو وحدة التحكم في الاتجاه. إذا جعلته مائلا للوراء كنت أقوم بالتحليق في شكل دوائر رأسية. كنت أغير اتجاهي بتحريك رأسي للجانب. تمتعت بحرية وسرعة لم أحظ بها من قبل في حياتي. الظلام المدهش أعطاني شعورا بالحزن وربما الحنين. كان الأمر وكأنني قد وجدت المكان الذي انتمي إليه: ظلام الليل. حاولت أن أنظر حولي ولكن كان كل ما شعرت به هو أن الليل هادئ، ومع ذلك كان مشحونا بقوة هائلة.

    فجأة عرفت أن الوقت حان لكي أهبط، كان الأمر وكأنه تم إعطائي أمر يتوجب علي تنفيذه. وبدأت في الهبوط مثل ريشة بحركات عرضية. ذلك النوع من الحركة أشعرني بالمرض الشديد. كانت بطيئة وارتجافية وكأنه كان يتم إنزالي بواسطة بكرات وحبال. وتقيأت. كان رأسي يتفجر بألم حاد جدا. وغمرني نوع من السواد. كنت شديد الإحساس بأنني معلق فيه.

    الشئ التالي الذي أتذكره هو الشعور بأنني استيقظت. كنت في سريري في غرفتي الخاصة. جلست. اختفت صورة غرفتي. وقفت. كنت عاريا! حركة الوقوف جعلتني أشعر بالغثيان مرة أخرى.

    وتعرفت على بعض معالم المكان. كنت على بعد نحو نصف ميل من منزل دون خوان. قرب مكان نباتات الداتورا الخاصة به. فجأة اتضح لي كل شئ وعرفت أن علي السير كل تلك المسافة إلى منزله عاريا. كان الحرمان من الملابس ذو أثر نفسي سئ بشدة، لكن لم يكن هناك شئ يمكن فعله لحل المشكلة. فكرت في أن أصنع لنفسي لباسا من الأغصان لكن الفكرة بدت مضحكة كما أن الصبح كان على وشك أن يأتي لأن شفق الفجر كان قد ظهر. نسيت شعوري بعدم الارتياح والغثيان وبدأت السير لمنزل دون خوان. كنت مهووسا بخوف أن يراني أحد. كنت أنظر باحثا عن الناس والكلاب. حاولت الجري لكنني آذيت قدمي بالحجارة الصغيرة الحادة. سرت ببطء. كان ضوء الصبح قد أنار المكان. ثم رأيت شخصا آتيا في اتجاهي وسرعان ما تواريت خلف الشجيرات. بدا موقفي متناقضا بالنسبة لي. قبل وقت قصير كنت أستمتع بنشوة الطيران التي لا تصدق، وفي لحظة أخرى وجدت نفسي مختبئا شاعرا بالحرج من عريي. فكرت في القفز للطريق مرة أخرى والجري بكل قوتي عبر الشخص القادم. فكرت أنه سيصاب بالصدمة وحين يكون قد أدرك أن ما مر به رجل عاري أكون قد قطعت شوطا طويلا مبتعدا عنه. فكرت في كل ذلك لكنني لم أجرؤ على الحركة.

    وصل الشخص القادم في اتجاهي لمكاني وتوقف عن السير. سمعته ينادي باسمي. كان هو دون خوان حاملا ملابسي. وبينما أخذت في ارتدائها نظر لي وانفجر ضاحكا بشدة بحيث أنني أنا أيضا انفجرت بالضحك.

    نفس اليوم الجمعة 5 يوليو في وقت متأخر من العصر طلب مني دون خوان أن أحكي تفاصيل تجربتي. وحكيت له كل ما حصل بأشد حرص ممكن.

    وعندما انتهيت قال لي:" الجزء الثاني من العشبة يستعمل للطيران. المسوح بمفرده غير كافي فأستاذي قال أن الجذر هو الذي يعطي الاتجاه والحكمة وأنه هو سبب الطيران. عندما تتعلم أكثر وتتناوله مرات أكثر لكي تطير ستبدأ في رؤية كل شئ بوضوح شديد. سيمكنك الطيران لمئات الأميال لرؤية ما يحدث في أي مكان تريد أو لكي توجه ضربة قاتلة لأعدائك البعيدين جدا منك. عندما تألف عشبة الشيطان ستعلمك هي كيفية القيام بتلك الأشياء. مثلا هي علمتك كيف تغير اتجاهك أثناء الطيران. بنفس الطريقة ستعلمك أشياء لا يمكن تخيلها".
    "مثل ماذا يا دون خوان؟"
    "لا يمكنني إخبارك بذلك. كل إنسان يختلف عن الآخرين. أستاذي لم يخبرني أبدا بما تعلمه، هو أخبرني بكيفية الشروع ولكنه لم يخبرني أبدا بما رآه. ذلك شئ يخص الإنسان شخصيا".
    "لكنني أخبرك بكل ما أراه يا دون خوان".
    "الآن أنت تفعل ذلك ولكن لاحقا سوف لن تفعل. المرة القادمة التي تتناول فيها عشبةالشيطان ستكون لوحدك وقرب نباتاتك الخاصة بك لأن ذلك سيكون هو المكان الذي ستهبط فيه: قرب مكانك. تذكر ذلك. ذلك هو السبب الذي جعلني آتي إلى هنا قرب مكاني لكي أبحث عنك."

    لم يقل شيئا آخر واستغرقت أنا في النوم. عندما استيقظت مساء شعرت بالقوة. لسبب ما كنت أتدفق بشعور بالرضا الجسدي. كنت سعيدا ومكتفيا.

    سألني دون خوان:" هل أحببت الليل أم كان مخيفا؟"
    قلت له أن الليل كان رائعا حقا.
    سألني:"ماذا عن صداعك؟ هل كان شديدا؟ "
    قلت له: "كان الصداع بنفس قوة الأحاسيس الأخرى. كان أسوأ ألم يمر بي في حياتي".
    "هل سيمنعك ذلك من الرغبة في اختبار قوة عشبة الشيطان ثانية؟"
    "لا أدري. أنا لاأريدها الآن ولكن لاحقا ربما أرغب في ذلك. حقا لا أدري يادون خوان".

    كان هناك سؤال أردت أن أسأله إياه. كنت أعرف أنه سيرتجنب الإجابة عليه لذلك انتظرته أن يذكر الموضوع. انتظرت طيلة اليوم. وأخيرا قبل أن أغادر في المساء توجب علي أن أسأله:" هل طرت أنا حقا يا دون خوان؟"
    قال لي:" ذلك ما أخبرتني إياه. ألم تفعل؟"
    "أعرف ذلك يا دون خوان ما أقصده هو هل طار جسمي فعلا؟ هل حلقت مثل طائر؟"
    "أنت دائما تسألني أسئلة لا أستطيع الإجاب عليها. أنت طرت. ذلك هو الغرض الذي يستعمل له القسم الثاني من عشبة الشيطان. عندما يتكرر الأمر ستتعلم كيف تطير بإتقان. ذلك ليس أمرا هينا. الإنسان يطير بمساعدة القسم الثاني من عشبة الشيطان. ذلك هو كل ما أستطيع أن أخبرك إياه. ما تريد معرفته ليس منطقيا. الطيور تطير كطيور والأنسان الذي تناول عشبة الشيطان يطير كإنسان تناول عشبة الشيطان".
    "يطير مثل الطيور؟"
    "كلا بل يطير مثل إنسان تناول عشبة الشيطان".
    "إذن يا دون خوان فأنا لم أطر حقا. أنا طرت في خيالي في عقلي فقط. أين كان جسمي؟"
    "في الغابة" أجاب بسرعة لكنه انفجر ضاحكا مرة أخرى. "مشكلتك هي أنك تفهم الأشياء بطريقة واحدة فقط. أنت لا تصدق أن بإمكان الإنسان أن يطير لكن البروهو يستطيع قطع آلاف الأميال في ثانية واحدة ليرى ماذا يحدث هناك. يمكنه أن يضرب أعدائه وهم على بعد مئات الأميال. إذن فهل هو يطير أم لا؟"
    "كما ترى يا دون خوان أنت وأنا مواقفنا مختلفة. فنلفرض مثلا أن أحد زملائي الطلبة كان هنا معي عندما تناولت عشبة الشيطان هل سيكون قادرا على رؤيتي أطير؟"
    "ها أنت تعود مرة أخرى لأسئلتك عما يحدث إذا ... من غير المجدي التكلم بتلك الطريقة. إذا تناول صديقك أو أي إنسان آخر القسم الثاني من العشبة فكل ما يستطيع فعله هو الطيران. الآن إذا كان هو يراقبك أنت فقط فهو قد يراك تطير وقد لا يراك. ذلك يعتمد على الإنسان".
    "ما أعنيه يا دون خوان إذا أنا وأنت نظرنا لطائر ورأيناه يطير فإننا سنتفق على أنه يطير. ولكن إذا رآني اثنان من أصدقائي أطير مثلما فعلت الليلة الماضية هل ستفقان على أنني أطير؟"
    "حسنا ربما يتفقان. أنت توافق على أن الطيور تطير لأنك رأيتها تطير. الطيران أمر شائع بين الطيور. ولكنك سوف لن توافق على أشياء أخرى تفعلها الطيور لأنك لم تر طيورا تقوم بفعل تلك الأشياء. إذا كان أصدقائك يعرفون أن بإمكان الإنسان الطيران باستخدام عشبة الشيطان فسيتفقان".

    "دعنا نصوغ الأمر بطريقة أخرى يا دون خوان. ما أعنيه هو لو أنني قيدت نفسي لصخرة بسلسلة ثقيلة لكنت طرت لأن جسمي لا علاقة له بذلك الطيران".

    نظر لي دون خوان بتعجب"إذا قيدت نفسك بصخرة فأخشى أنه سيتوجب عليك الطيران وأنت تمسك بالصخرة والسلسلة الثقيلة".


    يتبـــــــــــــــع
                  

07-02-2009, 04:57 PM

محمد عثمان الحاج

تاريخ التسجيل: 02-01-2005
مجموع المشاركات: 3514

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: محمد عثمان الحاج)

    7
    جمع المكونات وتجهيزها لخليط الدخان كان يتم بصورة دورية كل سنة. في السنة الأولى علمني دون خوان الطريقة. وفي ديسمبر 1962 وهي السنة الثانية عندما تجددت الدورة قام دون خوان بتوجيهي فقط وقمت أنا بجمع المكونات بنفسي وتجهيزها وحفظها حتى السنة التالية.

    في ديسمبر 1963 بدأت دورة جديدة للمرة الثالثة. وعندها أراني دون خوان كيفية خلط المكونات المجففة التي كنت قد جمعتها وجهزتها قبل سنة. ووضع خليط الدخان في كيس جلدي صغير وخرجنا مرة أخرى لجمع الدخان للسنة التالية.

    لم يتحدث دون خوان عما كان يسميه الدخان الصغير أثناء السنة التي انقضت بين عمليتي الجمع. مع ذلك ففي كل مرة ذهبت فيها إليه قدم لي غليونه لكي أمسك به وتطورت خطوات "التعود على الغليون" بنفس الطريقة التي وصفها. بتدرج شديد البطء وضع الغليون في يدي ببطء شديد جدا. كان يطلب مني الحرص والتركيز أثناء ذلك الفعل وأعطاني تعليمات محددة جدا. وقال أن أي ارتباك في تداول الغليون سينتج عنه موتي.

    حالما انتهينا من دورة الجمع والتجهيز الثالثة بدأ دون خوان يتكلم عن الدخان كحليف للمرة الأولى منذ أكثر من سنة.

    الاثنين 23 ديسمبر 1963

    كنا نقود السيارة عائدين لمنزله بعد جمع بعض الأزهار الصفراء للخليط. كانت إحدى المكونات الضرورية. علقت أننا هذه السنة لم نتبع التسلسل السابق في جمع المكونات الذي اتبعناه السنة الماضية. وضحك وقال أن الدخان ليس متقلب المزاج ولا تافه مثل عشبة الشيطان. بالنسبة للدخان تسلسل جمع المكونات غير مهم وكل ما هو مطلوب أن أن يكون الشخص الذي يستعمل الخليط دقيقا ومنضبطا.

    سألت دون خوان عما سنفعله بالخليط الذي قام هو بتجهيزه وأعطاني إياه. وأجاب بأنه ملكي وأضاف بأن علي أن أستعمله في أقرب وقت ممكن. سألته عن الكمية المطلوبة في كل مرة. كان الكيس الصغير الذي أعطاني إياه يحتوي على ما يقارب ثلاثة أضعاف ما يحتويه كيس التبغ العادي. وقال لي أنه يتوجب علي استعمال جميع ما يحتويه كيسي في سنة واحدة أما الكمية التي يتوجب علي تدخينها في كل مرة فهي أمر يخضع للظروف الشخصية.

    أردت أن أعرف عما سيحدث إذا لم أتمكن من تدخين كل ما في الكيس. وقال دون خوان أنه لن يحدث شئ فالدخان لا يتطلب شيئا. هو شخصيا لم يعد يحتاج لأن يدخن، مع ذلك كان يقوم بصنع خليط جديد كل سنة. ثم صحح نفسه وقال أنه لم يعد يدخن إلا نادرا. سألته عما يفعله بالخليط الغير مستعمل لكنه لم يجب. وقال أن الخليط يصبح غير صالح إذا لم يتم استعماله لمدة سنة.

    عند هذه النقطة دخلنا في جدل طويل. لم أقم بصياغة أسئلتي بطريقة صحيحة وبدت أجوبته محيرة. أردت أن أعرف إن كان الخليط سيفقد قدرته الهلوسية، أو قوته الروحانية، بعد سنة، وبذلك يجعل القيام بالدورة السنوية ضروريا، لكنه أكد لي أن الخليط لا يفقد قوته أبدا. وقال أن الشئ الوحيد الذي حدث هو أن الإنسان لم يعد يحتاجه لأنه تحصل على كمية جديدة ولذلك عليه التخلص من الخليط القديم المتبقي بطريقة خاصة لم يشأ دون خوان أن يشرحها لي حينها.

    الثلاثاء 24 ديسمبر 1963

    "قلت يا دون خوان أنك لم تعد بحاجة لأن تدخن؟"
    "نعم، بما أن الدخان هو حليفي فلم أعد بحاجة للتدخين. أستطيع أن أستدعيه في أي مكان أو زمان".
    "هل تعني أنه يأتي إليك حتى لو لم تدخن؟"
    "أعني أنني أذهب إليه بحرية"
    "هل سيكون بمقدوري فعل ذلك أيضا؟"
    "إذا نجحت في أن تجعل منه حليفا لك سيكون بمقدورك ذلك"

    الثلاثاء 31 ديسمبر 1963

    يوم الخميس 26 ديسمبر مررت بتجربتي الأولى مع حليف دون خوان: الدخان. طيلة اليوم كنت أنقله بسيارتي وأقضي له بعض الأعمال الصغيرة وعدنا لمنزله في وقت متأخر من العصر. قلت له أننا لم نأكل شيئا طيلة اليوم. لكنه لم يبد أي اهتمام بذلك وبدلا من ذلك بدأ يقول لي أنه من المحتم علي أن آلف الدخان. وقال أن علي تجربته بنفسي لأرى لماذا هو مهم كحليف.

    ودون أن يعطيني فرصة لأن أقول شيئا قال لي دون خوان أنه سيقوم بإشعال غليونه لي حالا. حاولت \أن أصرفه عن ذلك متذرعا بأنني لا أظن أنني مستعد لذلك. قلت له أنني أحس بأنن لم أقم بتداول الغليون لفترة كافية، لكنه قال أنه لم يعد هناك الكثير من الوقت المتبقي بالنسبة لي لكي أتعلم وأنه يتوجب علي استعمال الغليون في وقت قريب جدا. وأخرج الغليون من كيسه وأخذ في مداعبته بأصابعه. كنت أجلس الأرٍض قربه وحاولت بعصبية أن أصاب بالقئ أو أن يغمى علي أو أن أفعل أي شئ لكي أزوغ من هذه الخطوة التي لا يمكن تجنبها.

    كانت الغرفة تكاد تكون مظلمة. كان دون خوان قد أشعل مصباح الكيروسين ووضعه في ركن. عادة كان المصباح يجعل الغرفة شبه مظلمة بطريقة تدعو للاسترخاء، حيث كان ضوءه المصفر يبعث على الارتياح دائما، لكن تلك المرة بدا الضوء معتما ومحمرا بطريقة غير عادية بحيث يدعو للتوتر. وحل دون خوان الخيط المربوط على رقبة الكيس المعلق حول عنقه دون أن يفكه من الخيط المعلق حول عنقه. وقرب الغليون من جسمه ووضعه داخل قميصه وصب بعض الخليط في وعاء الغليون. وجعلني أراقب الخطوات المتبعة موضحا أنه إذا سقط شئ من الخليط فسيسقط على قميصه.

    ملأ دون خوان ثلاثة أرباع الوعاء وربط الكيس بيد واحدة بينما كان يمسك الغليون بالأخرى. وناولني صحن فخاري صغير وطلب مني إحضار جمرات من النار المتقدة في الخارج. وذهبت لخلف منزله وحملت عددا من الجمرات من الموقد المبني بالطين وعدت مسرعا لغرفته. شعرت بقلق شديد. كان ذلك وكأنه إحساس مسبق بما سيحدث.

    جلست قرب دون خوان وأعطيته الصحن. نظر إليه وقال بهدوء أن الجمرات أكبر من اللازم. كان يريد جمرات أضغر يمكنها دخول وعاء الغليون. وعدت للموقد وعدت بجمرات . وأخذ صحن الجمرات الجديدة ووضعه أمامه. كان يجلس على الأرض متربعا. نظر لي بطرف عينه ومال للأمام حتى كاد ذقنه يلامس الجمر. كان يمسك الغليون بيده اليمنى ومن ثم وبحركة سريعة جدا من يده اليمنى التقط جمرة مشتعلة ووضعها في وعاء الغليون.ثم استقام في جلسته ثم أمسك الغليون بكلتا يديه ووضعه في فمه وسحب ثلاثة أنفاس. ومد يده لي وأمرني همسا بأن آخذ الغليون وأدخن.

    مرت بخاطري لوهلة فكرة أن أرفض أخذ الغليون وأن أجري هاربا لكن دون خوان أمرني مرة أخرى هامسا بأن آخذ الغليون وأدخن. نظرت إليه. كان عيناه مثبتتان علي. لكن نظرته كانت ودودة ومهتمة. كان من الواضح أنني اتخذت قراري قبل زمن طويل من ذلك ولايوجد خيار سوى تنفيذ ما يأمر به.

    أخذت الغليون وكاد يسقط مني فقد كان ساخنا جدا. ووضعته في فمي بحرص شديد لأنني تخيلت أن حرارته لن تتحملها شفاهي. لكنني لم أشعر بسخونة على الإطلاق.

    أمرني دون خوان أن آخذ نفسا. سرى الدخان لفمي وبدا أنه يدور فيه. كان ثقيلا! شعرت وكأن فمي مملوء بالعجين. مر هذا التشبيه بذهني رغم أنني لم يسبق لي أن ملأت فمي بالعجين. كان الدخان أيضا شبيها بالمنثول وأصبح باطن فمي باردا. كان شعورا منعشا."مرة أخرى، مرة أخرى!" سمعت دون خوان يهمس.شعرت بالدخان يتسلل لداخل جسدي بحرية ودون تحكم مني تقريبا. ما عدت محتاجا للمزيد من الحث من جانب دون خوان فقد استمررت في أخذ الأنفاس بصورة آلية.

    فجأة مال دون خوان وأخذ الغليون من يدي. وأفرغ الجمرات بلطف في الصحن الفخاري ثم بلل أصبعه بلعابه وقام بتنظيف جوانب الغليون من الداخل. ونفخ قصبة الغليون مرارا. ورأيته يضع الغليون في كيسه مرة أخرى. وتعلق انتباهي بمراقبة أفعاله.

    بعد أن انتهى من تنظيف الغليون وتخزينه حدق إلي. لاحظت لأول مرة أن جسمي مخدر ومشبع بالمنثول. شعرت بثقل في جسمي وألم في فكي. لم أعد قادرا على إغلاق فمي ولكن لعابي لم يكن يسيل. كان فمي يشتعل جفافا لكنني لم أكن عطشانا. وبدأت أشعر بسخونة غير عادية في كل رأسي. كانت سخونة باردة! بدا أن أنفاسي تقوم بجرح أنفي وشفتي العليا في كل مرة أزفر فيها لكنها لم تكن تحرق بل تؤلم كقطعة ثلج.

    جلس دون خوان جواري إلى يميني ودون أن يتحرك كان يمسك بالكيس الحاوي على الغليون مثبتا إياه على الأرض وكأنه يثبته بالقوة مانعا إياه أن يطير. كان كفاي ثقيلان. وتراخت ذارعاي وجذبتا كتفي للأسفل. كان أنفي يسيل. مسحت أنفي بظهر يدي فانكشطت شفتي العليا! كانت تذوب. قفزت واقفا وحاولت أن أمسك شيئا ـ أي شي أدعم به نفسي. كنت أشعر برعب لم أشعر بملثه أبدا من قبل. وأمسكت بعمود خشبي مثبت على الأرض في وسط غرفة دون خوان .وقفت هناك للحظة ثم استدرت لكي أنظر إليه. كان لا يزال جالسا دون حراك ممسكا غليونه وناظرا لي.

    كانت أنفاسي ساخنة (أو باردة؟) بدرجة مؤلمة. كانت تخنقني. أحنيت رأسي ومددته للأمام لكي أسنده فوق العمود ولكن يبدو أنني أخطأت تقدير موقع العمود واستمر رأسي في التحرك للأسفل تحت النقطة التي كان فيه العمود. توقفت عندما كدت أصل للأرض. وجذبت نفسي واقفا. كان العمود موجودا أمام عيني. حاولت مرة أخرى أن أضع رأسي عليه. حاولت أن أسيطر على نفسي وأن أكون متنبها وأبقيت عيوني مفتوحة عندما ملت للأمم لكي أمس العمود بجبهتي. كان على بعد بوصات قليلة من عيوني ولكن عندما وضعت رأسي عليه أتاني شعور غريب بأنني أمر عبر العمود.

    في محاولة يائسة للحصول على تفسير عقلاني أقنعت نفسي أن عيوني أصبحت تشوه العمق وأن العمود لابد وأنه كان على بعد عشرة أقدام مني رغم أنني رأيته مباشرة أمام وجهي. ثم اكتشفت طريقة عقلانية للتحقق من موضع العمود. بدأت أتحرك جانبيا حوله بخطوات صغيرة. كانت حجتي هي أنه عند السير حول العمود بتلك الطريقة فإتتي لا أقدر على صنع دائرة يزيد قطرها عن خمسة أقدام. ولو كان العمود حقا بعيد عني بعشرة أقدام أو بعيد عن إمكانية أن أصل إليه فإنه ستأتي لحظة يصبح فيها ظهري للعمود. كان أملي أن يختفي العمود حينها لأنه سيكون وراء ظهري.

    ثم شرعت في الدوران حول العمود ولكنه ظل أمام عيني طيلة الوقت. وفي نوبة غضب أمسكت العمود بيدي الاثنتين لكن يدي مرتا داخل العمود. كنت ممسكا بالهواء. وبحرص شديد حسبت المسافة بين العمود وبيني فكانت ثلاثة أقدام، أي أن عيوني قدرت بعده بثلاثة أقدام وتلاعبت للحظة بإحساسي بالعمق عن طريق تحريك رأسي من جانب لآخر مثبتا نظر كل عين تلو الأخرى على العمود ومن ثم الخلفية. وفقا لطريقتي في تقدير العمق فقد كان العمود بدون أي خطأ هو أمامي، ربما على بعد ثلاثة خطوات، مددت ذراعي أمامي لأحمي رأسي وهجمت عليه بكل ما أوتيت من قوة. مرة أخرى أتاني نفس الإحساس، فقد اخترقت العمود. هذه المرة وصلت للأرض، وقفت ثانية. ربما كان الوقوف هو أكثر الأشياء غرابة من ضمن الأفعال التي قمت بها تلك الليلة. ركزت تفكيري على أن أقف فوجدتني واقفا. لكي أقف لم استعمل عضلاتي وهيكلي العظمي حسبما تعودت لأنه لم يعد لي سيطرة عليها. عرفت ذلك في اللحظة التي اصطدمت فيها بالأرض. لكن فضولي عن العمود كان شديدا بحيث أنني ركزت تفكيري على الوقوف فوجدت نفسي واقفا بطريقة تشبه الفعل الإنعكاسي. وقبل أن أدرك بصورة كاملة أنني غير قادر على الحركة كنت واقفا.

    ناديب دون خوان ليساعدني. في إحدى اللحظات صحت بهياج بأعلى صوتي لكن دون خوان لم يتحرك. استمر ينظر لي نظرة جانبية وكأنه لا يريد أن يدير رأسه لينظر لي مباشرة. خطوت خطوة نحوه ولكن بدلا من التحرك للأمام فقد فقد ترنحت متراجعا وسقطت مقابل الحائط. عرفت أنني اصطدمت بالحائط بظهري لكن لم أحس بصلابة الحائط فقد كنت عائما في مادة رخوة اسفنجية هي الحائط. كانت أذرعي ممتدة للخارج عرضيا وبدا أن جسمي بكامله يغوص في الحائط ببطء. كان بإمكاني النظر للأمام فقط إلى داخل الغرفة. كان دون خوان لا يزال يراقبني لكنه لم يقم بأي حركة ليساعدني. قمت بمجهود كبير لكي أخرج جسمي من الحائط لكن جسمي استمر يغوص في الحائط أعمق وأعمق. في لحظة رعب لا يوصف شعرت بأن الحائط ينغلق على وجهي. حاولت أن أغلق عيني ولكنهما كانتا مفتوحتين رغما عني.

    لا أتذكر غير ذلك مما حدث. فجأة وجدت دون خوان أمامي على مسافة قصيرة. كنا في الغرفة الأخرى. رأيت منضدته والموقد الطيني بناره المشتعلة ومن طرف عيني رأيت الحظيرة خارج المنزل، كنت أرى كل شئ بوضوح شديد. كان دون خوان قد أحضر المصباح وعلقه على العارضة في منتصف الغرفة. حاولت أن أنظر في اتجاه مختلف ولكن عيوني كانت مثبتة بحيث لا ترى سوى الأمام. لم أيكن بإمكاني تمييز أي جزء من جسمي أو الإحساس به. كانت أنفاسي لا يمكن التحقق من وجودها . لكن أفكاري كانت صافية وواضحة جدا. كنت مدركا بصورة واضحة لما كان يحدث أمامي. سار دون خوان نحوي فانتهى وضوح أفكاري. بدا وكأن شيئا في داخلي قد توقف. لم تعد هناك أفكار أخرى. رأيت دون خوان قادما فكرهته. أردت أن أمزقه إربا. كنت سأقتله حينها ولكنني كنت عاجزا عن الحركة. في البداية شعرت شعورا مبهما بضغط على رأسي لكنه اختفى. بقي شئ واحد: غضب هائل تجاه دون خوان. رأيته على بعد بوصات قليلة أمامي. أردت أن أمزقه بأظافري. شعرت أنني أتأوه. بدأ شئ في في التشنج. سمعت دون خوان يتكلم معي. كان صوته لطيفا وباعثا على الاسترخاء وشعرت براحة لا نهائية. اقترب مني أكثر وبدأ يغني أغنية تستعمل لهدهدة الأطفال الرضع، بالأسبانية:" السيدة سانتا أنا لماذا يبكي الطفل الرضيع؟ يبكي لأنه أضاع التفاحة. سأعطيك واحدة. سأعطيك اثنتين. واحدة للولد وواحدة لك". شعرت بدفئ يغمرني. كان دفء القلب والأحساسيس. كانت كلمات دون خوان صدى بعيد. أعادت لي ذكريات طفولة منسية.

    اختفى العنف الذي شعرت به قبل ذلك. الكراهية تحولت إلى شوق: عاطفة فرحة تجاه دون خوان. قال أنني يجب أن أكافح كي لا أنام. وقال أنني لم يعد لدي جسم وأنني حر لكي أتشكل بأي صورة أشاء. وخطا للوراء. كانت عيوني على ارتفاع عادي وكأنني واقف أمامه. ومد كلا ذراعيه أمامي وطلب مني الوقوف بينهما.

    إما أنني تحركت للأمام أو أنه اقترب مني. كانت يديه على وجهي تقريبا على عيني رغم أنني لم أحس بهما. "أدخل داخل صدري" سمعته يقول ذلك. شعرت أنني أحيط به. كان نفس الشعور الاسفنجي الذي شعرت به عند الحائط.

    ثم سمعت صوته فقط يأمرني بأن أوجه نظري وأرى. لم أعد أميزه، كانت عيوني على ما يبدو مفتوحة لأنه كان بإمكاني تمييز تألقات من النور على حقل أحمر، كان الأمر وكأنني كنت أنظر إلى مصباح عبر أجفان مغلقة، ثم رجعت أفكاري مرة أخرى. أتت بدفعة سريعة من الصور والوجوه والمناظر. مناظر خالية من الوضوح ظهرت فجأة واختفت. كان الأمر كحلم سريع تتداخل فيه المناظر وتتغير. ثم بدأت الأفكار تقل في العدد والشدة، ثم اختفت مرة أخرى. كان هناك شعور بعاطفة، بسعادة. لم أعد أميز أية أشكال أو أضواء، فجأة تم جذبي للأعلى. شعرت بوضوح أنه يتم رفعي. ثم أصبحت حرا أتحرك بخفة هائلة وسرعة الماء أو الهواء. سبحت مثل ثعبان الماء، تقلبت وارتفعت للأعلى ونزلت للأسفل مستعملا إرادتي. شعرت بريح باردة تهب حولي وبدأت أطفو كريشة جيئة وذهاباـ منحدرا للأسفل والأسفل والأسفل.


    يتبــــــــــــع
                  

07-03-2009, 04:16 PM

محمد عثمان الحاج

تاريخ التسجيل: 02-01-2005
مجموع المشاركات: 3514

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: محمد عثمان الحاج)

    الشكر للباشمهندس بكري على نقل البوست للربع الثاني من العام ونتواصل رحلتنا مع دون خوان مع الاعتذار عن الأخطاء الطباعية نظرا للسرعة التي تتم بها هذه الترجمة الفورية:

    السبت 28 ديسمبر 1963

    استيقظت أمس في وقت متأخر من العصر. أخبرني دون خوان أنني نمت في سلام لمدة يومين كاملين دون انقطاع. كنت أعاني من صداع هائل. شربت بعض الماء فتقيأت. كنت أشعر بالتعب، التعب الشديد، وبعد أن أكلت عدت للنونم مرة أخرى.

    اليوم شعرت مرة أخرى أنني في حالة استرخاء تام. تكلمنا أنا ودون خوان عن تجربتي مع الدخان الصغير. فكرت أنه يريدين أن أحكي له كل الحكاية مثلما حدث في المرات الماضية فبدأت في وصف انطباعاتي له لكنه أوقفني وقال أن ذلك غير ضروري. قال لي أنني في حقيقة الأمر لم أفعل أي شئ وأنني استغرقت في النوم سريعا ولذلك لا يوجد شئ للتكلم عنه.

    "ماذا عن ما أحسست به؟ أليس ذلك مهما على الإطلاق؟" سألته ملحا.
    "كلا ، ليس مع الدخان. لاحقا عندما تتعلم كيف تسافر باستعمال الدخان سنتكلم. عندما تتعلم كيف تمر مخترقا الأشياء الصلبة".
    "هل يمكن للأنسان حقا اختراق الأشياء الصلبة؟"
    "ألا تتذكر؟ لقد دخلت داخل الحائط ومن ثم اخترقته وخرجت من الجانب الآخر"
    "أعتقد أنني فقدت عقلي"
    "كلا لم تفقد عقلك"
    "هل تصرفت أنت بنفس الطريقة عندما دخنت للمرة الأولى يادون خوان؟"
    "كلا لم أفعل نفس الشئ. كل منا له طبيعة تختلف عن الآخر"
    "كيف تصرفت أنت؟"

    لم يجب دون خوان. أعدت صياغة السؤال وسألته مرة أخرى لكنه قال أنه لا يتذكر تجربته وأن سؤالي شبيه بسؤال صياد سمك عن شعوره في المرة الأولى في حياته التي اصطاد فيها سمكة.

    وقال أن الدخان كحليف هو متميز فذكرته أنه قال أن مسكاليتو متميز فتحجج بأن كلا منهما متميز بطريقة مختلفة.
    "مسكاليتو هو حامي لأنه يتكلم معك ويمكنه أن يرشدك في أفعالك، مسكاليتو يعلمك الطريقة الصحيحة للحياة، ويمكنك أن تراه لأنه خارج نفسك. من ناحية أخرى فالدخان هو حليف. إنه يغيرك ويعطيك القوة دون أن يقوم بإظهار وجوده أبدا. لا يمكنك التكلم معه. لكنك تعلم أنه موجود لأنه يقوم بإبعاد جسدك ويجعلك في خفة الهواء. لكنك لا تراه أبدا. لكنه هناك معطيا إياك القوة لكي تنجز أشياء لا يمكن تخيلها مثل قيامه بأخذ جسدك وإبعاده منك"

    "حقا يا دون خوان أنا شعرت أنني فقدت جسدي"
    "ذلك هو ما حدث حقا"
    "هل تعني أنه لم يكن لدي جسد؟"
    "ما ذا تظن أنت؟"
    "حقا لا أدري. كل ما أستطيع إخبارك به هو ما شعرت به"
    "ذلك في حقيقة الأمر هو كل ما حدث. ما شعرت به أنت"
    "ولكن كيف تمكنت من رؤيتي يا دون خوان؟ كيف ظهرت أنا بالنسبة لك؟"
    "كيفية رؤيتي لك هي أمر غير مهم. إنها مثل المرة التي أمسكت فيها بالعمود. لقد شعرت أن العمود غير موجود فقمت بالدوران حوله لكي تتحقق من أنه موجود، ولكن حين قفزت نحوه شعرت مرة أخرى أنه غير موجود"
    "لكنك رأيتني كما تراني الآن أليس كذلك؟"
    "كلا! أنت لم تكن بحالتك التي أنت عليها الآن!"
    "ذلك صحيح، أنا أعترف بذلك. لكنني كان لدي جسمي أليس كذلك؟ رغم أنني لم أكن أشعر به"
    "كلا! اللعنة! لم يكن لديك جسم مثل الجسم الذي لديك اليوم"
    "ماذا حدث لجسمي إذن؟"
    "ظننتك فهمت. الدخان الصغير أخذ جسدك وأبعده عنك"
    "ولكن أين ذهب جسدي؟"
    "كيف تتوقع مني مني معرفة شئ كهذا؟"
    كان من غير المجدي المزيد من الإلحاح للوصول لتفسير عقلاني. قلت له أنني لا أريد أن أجادل أو أسال أسئلة غبية لكنني إذا قبلت فكرة أن بإمكاني فقدان جسمي فسأفقد عقلانيتي.

    قال أنني أبالغ كالعادة وأنني لم أفقد شيئا وسوف لن أفقد شيئا بسبب الدخان الصغير.

    الثلاثاء 28 يناير 1964

    سألت دون خوان عن رأيه عن فكرة تقديم الدخان لأي إنسان يريد المرور بالتجربة.

    أجاب بأن تقديم الدخان لأي إنسان هو كالقيام بقتله لأنه لن يكون هناك من يقوم بإرشاده. طلبت من دون خوان تفسير ذلك فقال أنني الآن حي أتكلم معه لأنه هو الذي أرجعني. هو قام بإرجاع جسدي. بدونه ما كنت سأفيق أبدا.

    "كيف قمت بإرجاع جسدي يا دون خوان؟"
    "سوف تتعلم ذلك لاحقا، ولكن يجب أن تتعلم أولا كيف تستعيد جسدك دون مساعدة أحد. ذلك هو السبب الذي يجعلني أريد منك أن تتعلم أكثر ما يمكن طالما أنا لازلت موجودا في هذا العالم. لقد أضعت ما يكفي من الوقت في سؤال أسئلة غبية عن هراء. لكن برما لم يكن مقدرا لك أن تتعلم عن الدخان الصغير".
    "حسنا ماذا أفعل إذن؟"
    "دع الدخان يعلمك بأقصى ما يمكن"
    "هل الدخان أيضا يقوم بالتعليم؟"
    "بالطبع هو يعلم"
    "هل يعلم مثله مثل مسكاليتو؟"
    "كلا هو ليس معلم مثل مسكاليتو. هو لايقوم بإظهار نفس الأشياء"
    "إذن ماذا يدرس الدخان؟"
    "هو يريك كيف تتحكن في قوته الروحانية ولكي تفعل ذلك يجب أن تدخن عددا من المرات بأكثر ما تستطيع"
    "حليفك هذا مخيف جدا يا دون خوان. كان الأمر لا يشبه أي شئ اختبرته من قبل.. ظننتني فقدت عقلي"

    لسبب ما كانت تلك هي الصورة الأبرز التي ملأت عقلي. نظرت للحدث بكامله من وجهة النظر الغريبة المتعلقة بتجاربي الهلوسية السابقة لكي أقارن بينهما، والشئ الوحيد الذي ظل يمر على عقلي المرة تلو الأخرى كان هو أن الدخان يجعل الإنسان يفقد عقله.

    لكن دون خوان دحض تشبيهي قائلا أن ما شعرت به هو القوة الروحانية التي لا يمكن تخيلها الخاصة بالدخان. قال أنه للسيطرة على تلك القوة يتوجب على الإنسان أن يعيش حياة قوية. فكرة الحياة القوية لا تتعلق فقط بفترة التحضير بل تتضمن أيضا توجه الإنسان بعد التجربة. قال أن الدخان قوي بدرجة هائلة بحيث لا يمكن للإنسان ملاقاته إلا بقوة مماثلة من جانب الإنسان وإلا فإن حياة الإنسان ستتهشم.

    سألته عما إذا كان الدخان له نفس التأثير على كل إنسان فأجاب أن يؤدي لتغيير لكن ليس في أي إنسان.
    "إذن ما هو السبب الخاص الذي جعل الدخان ينتج تغييرا في؟ سالته أنا.
    "أعتقد أن ذلك سؤال غبي جدا. لقد اتبعت أنت بطاعة تامة كل خطوة مطلوبة. ليس هناك لغز في أن الدخان قام بتغييرك"

    سألته مرة أخرى عن شكلي أثناء التجربة. أردت أن أعرف كيف ظهرت لأن صورة الكائن الذي لا جسد له التي زرعها في عقلي لم تكن محتملة.


    قال أنه في حقيقة الأمر كان خائفا من النظر إلي وأنه لابد وأنه شعر بنفس الشعور الذي شعر به أستاذه عندما رآه يدخن للمرة الأولى.
    "لماذا خفت؟ هل كنت أنا مرعبا بتلك الدرجة؟"
    "لم يسبق لي أن رأيت أحدا يدخن من قبل"
    "ألم تر أستاذك يدخن؟"
    "كلا"
    "الم تر نفسك؟"
    "كيف يكون بإمكاني رؤية نفسي؟"
    "كان بإمكانك أن تدخن أمام مرآة"

    لم يجب بل حدق لي وهز رأسه. سألته مرة أخرى عما إذا كن بالإمكان النظر لمرآة. قال أن ذلك ممكن لكنه غير مجدي لأنه غالبا ما سيتسبب في أن يموت الإنسان من شدة الخوف إن لم يكن لسبب آخر.

    قلت:" إذن فصورة الإنسان مرعبة في تلك الحالة"
    "أنا ظللت أتساءل عن ذلك طيلة حياتي. لكنني لم أسأل ولم أنظر في مرآة. لم أفكر حتى في أن أفعل ذلك.
    "كيف لي أن أعرف إذن؟"
    "سيتوجب عليك أن تنتظر مثلما فعلت أنا إلى أن تقوم بتقديم الدخان لشخص آخر ـ ذلك إذا وصلت ذات يوم للسيطرة الكاملة عليه بالطبع، عندها سترى كيف يبدو الإنسان. تلك هي القاعدة"
    "ماذا يحدث إذا دخنت أمام الكاميرا وقمت بتصوير نفسي؟"
    "لا أدري. ربما ينقلب الدخان ضدك. لكنني أفترض أنك تظن أن التلاعب به غير مؤذي".
    قلت له أنني لا أريد لاتلاعب وأنه سبق وأن أخبرني أن الدخان لا يتتطلب خطوات يتم ابتاعها وأنني ظننت أنه لا يوجد أذى في أن يرغب الإنسان في معرفة كيف يكون شكله عند التدخين. وقام بتصحيحي قائلا أن ما قاله هو أنه لا توجد ضروة في اتباع تسلسل معين مثلما هو الحال مع عشبة الشيطان وأن كل ما هو مطلوب مع الدخان هوالتوجه الصحيح. وضرب لي مثلا بأنه من غير المهم أي مكون من مكونات الخليط يتم جمعه اولا طالما كان مقداره صحيحا.

    سألته هل هناك ضرر من أن أحكي للآخرين تفاصيل تجربتي فقال أن السر الوحيد الذي لا يجوز افشاؤه أبدا هو كيفية صنع الخليط وكيفية التحرك عند استعمال الدخان وكيفية الرجوع، وأن الأمور الأخرى المتعلقة بالموضوع هي ليست بذات أهمية.

    يتبــــــــــــع
                  

07-10-2009, 03:09 PM

محمد عثمان الحاج

تاريخ التسجيل: 02-01-2005
مجموع المشاركات: 3514

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: محمد عثمان الحاج)


    آخر لقاء لي مع مسكاليتو كان مجموعة من أربعة حلقات تمت خلال أربعة أيام متتالية وقد سمى دون خوان هذه السلسلة الطويلة ميتوتي. الميتوتي كان عبارة عن طقس خاص بالخبراء و المستجدين في تناول البيوتي. كان هناك رجللين متقدمين في السن، في نفس عمر دون خوان تقريبا، أحدهما كان القائد وخمسة شباب كنت أنا واحدا منهم.

    تمت الطقوس في ولاية شيهواوا في المكسيك قرب الحدود مع تكساس. تضمنت الطقوس الغناء وتناول البيوتي أثناء الليل. أثناء النهار كانت النساء اللائي كن يبقين بعيدا عن موقع الطقوس يجلبن لكل رجل الماء وطعام طقوسي قليل جدا كل يوم.

    السبت 12 سبتمبر 1964
    خلال الليلة الأولى للشعائر وهي الخميس الثالث من سبمتبر تناولت ثمانية قطع بيوتي. لم يكن لها تأثير علي أو أن تأثيرها كان ضئيلا جدا.أبقيت عيوني مغمضة معظم الليل حيث كنت أشعر أن حالي أفضل بتلك الكيفية، لم أنم ولم أشعر بالتعب. عند نهاية الجلسة أصبح الغناء مذهلا. للحظة شعرت بالتسامي وكدت أبكي ولكن الشعور زال بنهاية الأغنية.

    نهضنا جميعا وسرنا للخارج. أعطتنا النساء الماء حيث شربه بعض الرجال وغرغره الباقين. لم يتكلم الرجال أبدا لكن النسوة كن يتكلمن ويضحكن بصوت منخفض طيلة اليوم. وتم جلب الطعام الشعائري في منتصف النهار وكان عبارة عن ذرة شامية مطبوخة.

    عند غروب شمس يوم الجمعة الرابع من سبتمبر بدأت الجلسة الثانية. غنى القائد أغنية البيوتي الخاصة به وبدأت دورة الغناء وتناول البيوتي مرة أخرى. وانتهت في الصباح بقيام كل رجل بغناء أغنية البيوتي الخاصة به مع الآخرين.

    عندما خرجت لاحظت أن عدد النساء أقل مما كان أمس، أعطاني شخص ما ماء ولكنني لم أعد مهتما بما يحيط بي. كنت قد تناولت ثمانية قطع مرة أخرى ولكن التأثير لم يختلف.

    لابد أن الوقت كان عند نهاية الجلسة عندما تصاعد الغناء مرة أخرى حيث كان كل شخص يغني في نفس الوقت. شعرت أن هناك شئ أو شخص خارج المنزل يريد أن يدخل. لم أتمكن من تحديد ما إذا كان الغرض من الغناء هو إبعاد ذلك الشئ أو أغراءه بالدخول.

    كنت الوحيد الذي لم يكن لديه أغنية. بدا أن الجميع ينظرون لي نظرة استفهام خاصة الشباب. شعرت بالحرج وأغمضت عيني.

    ثم لاحظت أنني يمكنني إدراك ما يجري بصورة أفضل عندما أغمض عيني. هذه الفكرة شدت أنتباهي. أغمضت عيني فرأيت الرجال الذين كانوا أمامي. فتحت عيني فلم يتغير المنظر. كان كل ما يحيط بي هو نفسه سواء فتحت عيني أو أغمضتهما!

    فجأة اختفى كل شئ أو تهاوى وظهر في مكانه شكل مسكاليتو الشبيه بالبشر الذي سبق لي رؤيته قبل سنتين. كان يجلس على مبعدة مني بحيث كنت أراه بصورة جانبية. حدقت إليه دون أن يطرف لي جفن لكنه لم ينظر لي ولم يستدر ليواجهني.

    واعتقدت أنه لابد وأنني ارتكبت خطأ ما، بحيث أدى ذلك لإبعاد مسكاليتو عني. نهضت وسرت إليه لكي أسأله عنه. لكن قيامي بالتحرك جعل الصورة تتخلخل. وبدات الصورة في التلاشي وظهرت فوقها صورة الرجال الذين كانوا معي. مرة أخرى سمعت الغناء ذو الصوت العالي المتهيج.

    خرجت لخارج المنزل وسرت بين الشجيرات لبعض الوقت. كان كل شئ ظاهر بجلاء شديد. لاحظت أنني قادر على الرؤية في الظلام لكن الأمر لم يثر اهتمامي هذه المرة. كان الشئ المهم هو: لماذا تجنبني مسكاليتو؟

    عدت لكي انضم للمجموعة وبينما كنت على وشك دخول المنزل سمعت صوت دوي شديد وشعرت باهتزاز الأرض. تزلزلت الأرض. كان نفس الصوت الذي سبق لي سماعه في وادي البيوتي قبل سنتين. جريت لداخل منطقة الشجيرات مرة أخرى. عرفت أن مسكاليتو هو هناك وأنني سأجده. ولكنه لم يكن هناك. انتظرت حتى الصباح ثم انضممت للرجال قبل وقت قليل من نهاية الجلسة.

    تكررت الطقوس المعتادة في اليوم الثالث. لم أكن متعبا لكنني نمت في العصر.

    في مساء السبت الخامس من سبتمبر غنى الرجل العجوز أغنية البيوتي الخاصة به مرة أخرى لكي يبدأ الجلسة. خلال تلك الجلسة لم أتناول سوى قطعة بيوتي واحدة ولم أنصت لأي من الأغنيات ولم أوجه انتباهي لأي شئ مما يجري أمامي. منذ اللحظة الأولى كانت كل كينونتي مركزة على نقطة واحدة. كنت أعرف أن شيئا مهما بدرجة هائلة لكي أكون في أحسن حال مفقود.

    بينما كان الرجال يغنون طلبت من مسكاليتو بصوت عال أن يعلمني أغنية. اختلطت توسلاتي بغناء الرجال المرتفع الصوت. على الفور سمعت أغنية في أذني. استدرت وأوليت ظهري للجماعة وأنصت. سمعت الكلمات واللحن مرارا وتكرارا إلى أن حفظت الأغنية بكاملها. كانت أغنية طويلة بالأسبانية. ثم قمت بغناءها للمجموعة عدة مرات. وبعدها بقليل أتت أغنية أخرى لمسمعي. عندما أتى الفجر كنت قد غنيت كلتا الأغنيتين عددا لا يحصى من المرات. شعرت أنني تجددت وتحصنت.

    بعد أن تم إعطاؤنا الماء أعطاني دون خوان كيس. وذهبنا جميعا للتلال. كان مشوارا طويلا منهكا لهضبة صغيرة منخفضة. هناك رأيت العديد من نباتات البيوتي ولكن لسبب ما لم أكن أرغب في النظر إليها. بعد أن عبرنا الهضبة تبعثرت المجموعة وسرنا أنا ودون خوان راجعين جامعين لقطع البيوتي بنفس الطريقة التي قمنا بها بذلك في المرة السابقة التي ساعدته فيها.

    عدنا في وقت متأخر من عصر الأحد السادس من سبتمبر وفي المساء افتتح القائد الدورة مرة أخرى. لم يقل أحد كلمة لكنني كنت أعلم يقينا أن تلك هي الجلسة الأخيرة. هذه المرة أنشد العجوز أغنية جديدة. تم تمرير كيس يحتوي على قطع بيوتي طازجة على المجموعة. كانت منتفخة اللب لكنها صعبة المضغ حيث شابهت فاكهة صلبة خضراء لكنها كانت أحد مذاقا وأشد مرارة من القطع المجففة. شخصيا وجدت البيوتي الطازج حي بدرجة لا نهائية.

    مضغت أربعة عشر قطعة قمت بعدها بحرص. لم أكمل الأخيرة لأنني سمعت الدوي المألوف الذي يشير لحضور مسكاليتو. بدأ كل شخص يغني بهياج وعرفت حينها أن دون خوان وكل البقية قد سمعوا ذلك الدوي بالفعل. رفضت أن أتشكك في الأمر وأن أظن أن أحدهم أعطى الإشارة للبقية لكي يتم خداعي.

    عند تلك اللحظة شعرت بموجة هائلة من الحكمة تغمرني. فرضية حيرتني لأكثر من ثلاثة سنوات تحولت حينها لشئ أكيد. لقد تطلب الأمر مني ثلاثة سنوات لكي أدرك أو بالأحرى لأكتشف أن الشئ الذي يحتويه الصبار الذي اسمه العلمي لوفوفورا ويليامسي هو شئ موجود ولا يحتاج وجوده ككائن لوجودي أنا فقد كان موجودا بصورة منفصلة هناك في الخارج. علمت بذلك يقينا حينها.

    غنيت باهتياج حتى ضاع صوتي، شعرت وكأن الأغنيات هي داخل جسمي و تهزني بصورة لا يمكن التحكم فيها. شعرت بالحاجة للخروج والبحث عن مسكاليتو وإلا انفجرت. سرت نحو حقل البيوتي. استمريت في غناء أغاني. علمت أن تلك الأغنيات خاصة بي أنا وحدي، وأنها البرهان الذي لا شك فيه على تفردي. تحسست كل خطوة من خطواتي. كانت أصواتها تنعكس من الأرض و كان صداها يجلب النشوة التي لاتوصف المتعلقة بكوننا بشر.

    كانت كل واحدة من نباتات البيوتي في الحقل تشع ضوءا أزرق متوهج. إحداها كان لها ضوء ساطع جدا. جلست أمامها و غنيت أغنياتي لها. أثناء غنائي خرج مسكاليتو من النبتة ـ نفس الشكل الشبيه بالبشر الذي سبق لي رؤيته. نظر لي. بجرأة تعتبر هائلة بالنسبة لإنسان له طبيعتي، غنيت له. كان هناك صوت ناي أو ريح، اهتزاز موسيقي مألوف. بدا أنه قال مثلما قال قبل سنتين :" ماذا تريد؟"

    تكلمت بصوت مرتفع جدا. قلت أنني أعرف أن هناك شئ خاطئ في حياتي وأفعالي لكنني لم أستطع معرفته. توسلت إليه أن يخبرني ما هو الشئ الخطأ في، وطلبت منه أن يعلمني إسمه حتى أستطيع مناداته به عندما أحتاج إليه. نظر لي ثم قام بتطويل فمه حتى أصبح مثل آلة الترومبيت الموسيقية ووصل فمه إلى أذني ثم أخبرني باسمه.

    فجأة رأيت أبي يقف في وسط حقل البيوتي لكن الحقل اختفى وأصبح المشهد منزلنا القديم الذي نشأت أنا فيه. كنا أنا وأبي نقف بجوار شجرة تين. احتضنت أبي وبدأت بسرعة بإخباره بأشياء لم أستطع قولها له من قبل، وكانت كل فكرة من أفكاري مختصرة ومركزة. كان الأمر كما لو أننا ليس لدينا وقت وتوجب علي قول كل شئ دفعة واحدة. قلت أشياء مذهلة عن شعوري نحوه، أشياء ما كنت أجرؤ على قولها في ظروف عادية.

    لم يتكلم معي أبي. فقط استمع لي ثم تم سحبه بعيدا أو امتصاصه. كنت وحيدا مرة أخرى. وبكيت من الندم والحزن.

    سرت عبر حقل البيوتي وأنا أنادي الاسم الذي عمني إياه مسكاليتو. وخرج شئ من ضوء غريب شبيه بضوء النجوم فوق نبتة بيوتي. كان شيئا طويلا لامعا، عصى من الضوء بطول رجل. للحظة أنارت كل الحقل بضوء باهر أصفر ثم أنارت كل السماء فوقها مشكلة منظرا رهيبا. ظننت أنني سأفقد بصري إذا واصلت النظر فغطيت عيني وأحطت رأسي بذارعي.
    وأتاني يقين بأن مسكاليتو طلب مني أن آكل قطعة بيوتي أخرى ففكرت:" لا أستطيع فعل ذلك لأني ليس عندي سكين لأقطعها بها".
    "قم بأكل واحدة من الأرض" قال لي ذلك بنفس الطريقة الغريبة.

    رقدت على بطني ومضغت الجزء الأعلى من نبتة. وأحسست بها تتفجر نورا في داخلي. ملأت كل جزء من جسمي بالدفء والاستقامة. كل شئ كان حيا. كل شئ كانت له تفاصيل رائعة ومعقدة، وفي مفس الوقت كان كل شئ بسيطا. كنت أنا موجودا في كل مكان، وقادر على رؤية ما هو فوقي وما هو تحتي وما هو حولي في نفس الوقت.

    هذا الشعور استمر لفترة طويلة بما يكفي لكي أصبح مدركا له. ثم تغير الشعور ليصبح رعبا طاغيا، رعب لم يهجم علي فجأة ولكنه هجم بسرعة شديدة. في البداية اهتز عالمي الرائع الصامت بأصوات حادة، لكنني لم أهتم بها، ثم أصبحت الضوضاء صاخبة ومستمرة دون انقطاع، وكأنما هناك من هم آتون ليطاردوني وقد اقتربوا مني، وفقدت تدريجيا الشعور بالطفو في عالم خال من التفرقة و غير آبه وجميل. أصبحت الأصوات أصوات خطوات عملاقة. كان هناك شيئا هائل الحجم يتنفس ويتحرك حولي. اعتقدت أنه يريد اصطيادي.

    جريت وتواريت وراء صخرة وحاولت أن أحدد من ذلك الموقع ماهية الشئ الذي يطاردني. في لحظة ما زحفت من مكان اختبائي لكي أنظر وفي تلك اللحظة داهمني الشئ الذي كان يطاردني. كان مثل طحلب البحر. ألقى الشئ بنفسه علي، ظننت أن وزنه سيهشمني، لكنني وجدت نفسي داخل أنبوب أو فجوة. رأيت بوضوح أن الطحلب لم يغط كل سطح الأرض حولي. بقيت هناك مساحة صغيرة غير مغطاة حول الصخرة. بدأت أزحف تحت الشئ. رأيت قطرات سائل صخمة تتساقط من الطحلب. عرفت حينها أنه يفرز حامض يقوم به بالهضم لكي يذيبني. سقطت قطرة على ذراعي. حاولت أن أمسح الحامض وأزيله عني مستخدما التراب ولعابي بينما واصلت الحفر. في لحظة ما كنت قد تحولت تقريبا إلى بخار. كان يتم دفعي للأعلى تجاه ضوء. ظننت أن الطحلب قد قام بتذويبي. بصورة باهتة لاحظت نورا أخذ يصبح أقوى وأقوى، كان يندفع من تحت سطح الأرض إلى أن تفجر أخيرا متحولا لما عرفت أنه الشمس تشرق من وراء الجبال.

    بدأت ببطء أستعيد عمليات إحساسي الطبيعية. رقدت على بطني واضعا ذقني على أذرعي المطوية. بدأت نبتة البيوتي التي أمام وجهي في الإنارة مرة أخرى، وقبل أن أحرك عيني خرج منها النور مرة أخرى. حلق الضوء فوقي. جلست. لمس النور كل جسمي بقوة هادئة ثم تدحرج بعيدا خارج مدى النظر.

    جريت كل المسافة للمكان الذي كان فيه بقية الرجال. رجعنا جميعا للمدينة. بقيت أنا ودون خوان ليوم آخر مع دون روبرتو، قائد البيوتي. نمت طيلة الوقت الذي كنا فيها معا. عندما أوشكنا على المغادرة حضر لي الشباب الذين كانوا معنا في جلسات البيوتي. قاموا بمعانقتي الواحد تلو الآخر وضحكوا في حياء. وعرف كل واحد منهم نفسه لي. وتبادلت معهم الحديث لعدة ساعات عن كل شئ باستثناء جلسات البيوتي. قال دون خوان أن الوقت حان للمغادرة. وعانقني الشباب مرة أخرى. وقال أحدهم :" عد إلينا مرة أخرى". وأضاف آخر :"نحن بدأنا في انتظار عودتك منذ الآن". وقدت سيارتي مغادرا ببطء شديد محاولا رؤية العجائز ولكن لم يكن أحد منهم موجودا.


    يتبــــــــــــــع
                  

07-14-2009, 04:11 PM

محمد عثمان الحاج

تاريخ التسجيل: 02-01-2005
مجموع المشاركات: 3514

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: محمد عثمان الحاج)

    الخميس 10 سبمتمبر 1964
    اضطررت لتذكر التجربة خطوة خطوة بأفضل ما أستطيع، لكي أتمكن من إخبار دون خوان بها. بدا أن تلك هي الطريقة الوحيدة لتذكر كل شئ.

    اليوم سردت له تفاصيل لقائي الأخير بمسكاليتو. وأنصت لروايتي بانتباه حتى النقظة التي أخبرني فيها مسكاليتو باسمه. قاطعني دون خوان عندها قائلا:" من الآن فصاعدا أنت لوحدك. لن أساعدك إلا قليلا من الآن فصاعدا. يجب عليك ألا تخبرني بالمزيد عن علاقتك به. أنت الآن تعرف اسمه ولايجب عليك أبدا أن تذكر اسمه أو تعاملاته معك لأي مخلوق آخر".

    ألححت عليه أنني أريد أن أخبره بكل تفاصيل التجربة لأنها خالية من المنطق بالنسبة لي. قلت له أنني أريد مساعدته لكي أفسر ما رأيته. وقال لي أنني أستطيع فعل ذلك من تلقاء نفسي وأنه من الأفضل بالنسبة لي أن أبدأ التفكير فيها بنفسي. تحججت بأنني مهتم بمعرفة رأيه لأن الأمر سيتطلب مني زمنا طويلا لكي أصل بنفسي وأنني لا أعرف كيف أشرع في هذا الأمر.

    قلت له:"خذ الأغاني على سبيل المثال. ما معناها؟"
    "أنت وحدك فقط يمكنك معرفة ذلك. كيف لي أن أعرف معانيها؟ الحامي وحده يستطيع أن يخبرك ذلك مثلما أنه هو الوحيد الذي يمكنه أن يعلمك أغانيه. إذا قلت لك أنا معانيها فذلك سيكون مثل تعلم أغاني تخص إنسان آخر".
    "ماذا تعني بذلك يا دون خوان؟"
    "يمكنك تمييز من هو الذي يقوم بتزوير الأغاني عندما تسمع الناس يغنون أغانيه. فقط الأغاني التي لها روح هي أغانيه التي قام بتعليمها، أما الأخرى فهي نسخ من أغاني الآخرين. بعص الأحيان الناس مخادعون لتلك الدرجة. يغنون الأغنية الخاصة بشخص آخر حتى دون معرفة ما تعنيه الأغنية".

    قلت له أنني أرددت أن أسأل ما هو الغرض الذي تستعمل له الأغاني. وأجابني أن الأغاني التي تعلمتها هي لغرض مناداة الحامي وأنني يجب أن أستعملها مقترنة باسمه لكي أناديه. وقال دون خوان أنه لاحقا سيعلمني مسكاليتو أغاني أخرى لأغراض أخرى.

    سألته عندها عما إذا كان يظن أن الحامي قد تقبلني قبولا كاملا. وضحك كأنما سؤالي سؤال غبي. وقال أن الحامي قد تقبلني وتأكد من أنني عرفت أنه تقبلني وذلك عندما أظهر نفسه لي على هيئة نور مرتين. بدا أن دون خوان منبهر جدا بكوني رأيت النور مرتين. وركز على ذلك الجزء من لقائي بمسكاليتو.

    قلت له أنني لا أفهم كيف تقبلني الحامي وفي نفس الوقت قام بإرعابي.

    صمت صمتا طويلا جدا. بدا أنه متحير. في النهاية قال ": الأمر واضح جدا. ما يعنيه هو واضح جدا بحيث لا أدري كيف أنك فشلت في فهمه".
    "كل شئ لا يزال غير مفهوم بالنسبة لي يا دون خوان".
    "يتطلب الأمر وقتا لرؤية مسكاليتو وفهمه. يتوجب عليك التأمل في دروسه حتى تصبح مفهومة بالنسبة لك".

    الجمعة 11 سبمتمبر 1964

    مرة أخرى ألححت على دون خوان أن يفسر لي الرؤى التي رأيتها. وتريث لبعض الوقت. ثم تكلم وكأنه يواصل الكلام عن مسكاليتو:" هل ترى كيف أنه من الغباء أن تسأل عما إذا كان هو مثل إنسان يمكنك التكلم معه؟ إنه لا يشبه أي شئ سبق لك رؤيته. هو مثل إنسان لكنه في نفس الوقت ليس مثل الإسان أبدا. من الصعب جدا شرح ذلك للناس الذين لا يعرفون شيئا عنه ويريدون معرفة كل شئ عنه دفعة واحدة. ثم إن جميع دروسه غامضة مثلمما هو نفسه غامض. في حدود معرفتي لا يوجد أنسان يمكنه التنبؤ بأفعال مسكاليتو. حين تسأله سؤالا هو يريك الطريق نحو الإجابة ولكنه لا يخبرك بها بنفس الكيفية التي نتكلم بها أنا وأنت مع بعضنا البعض. هل تفهم الأن ما يفعله مسكاليتو؟"

    "لا أظن أن عندي مشكلة في فهم ذلك. ما لا أستطيع تخمينه هو معناه".
    "أنت سألته أن يخبرك ما هو الخطأ فيك وهو أعطاك الصورة الكاملة. لا يمكن أن يكون هناك خطأ. لايمكنك الادعاء بأنك لم تفهم. لم يكن الأمر حوارا ولكنه كان حوارا. ثم سألته أنت سؤالا آخر فأجابك بنفس الطريقة. أما عما يعنيه فأنا لست متأكدا من أنني أفهمه لأنك لم تخبرني بماهية السؤال الذي سألته".

    رددت له بدقة شديدة الأسئلة التي تذكرت أنني أسلتها وسردتها بالترتيب الذي سألتها به. وهي:" هل ما أقوم به صحيح؟ هل أنا في الطريق الصحيح؟ ماذا يتوجب علي فعله بحياتي؟" وقال دون خوان أن الأسئلة التي سألتها هي مجرد كلمات وأنه من الأفضل عدم ترديد كلمات الأسئلة بل سؤالها من عمق الإنسان. وقال لي أن الحامي أراد أن يعطيني درسا وأنه لكي يبرهن أنه يعطيني درسا وليس قصده إرعابي فقد أظهر نفسه لي على شكل نور مرتين.

    قلت له أنني لا زللت لا أفهم لماذا أرعبني مسكاليتو إن كان قد تقبلني. ذكرت دون خوان أنه وفقا لما قاله فإن القبول من جانب مسكاليتو يترتب عليه أن شكله سيكون ثابتا وأنه لن يتغير من نعمة لكابوس. وضحك علي دون خوان مرة أخرى وقال أنني إذا تأملت في السؤال الذي كان في قلبي عندما تكلمت مع مسكاليتو فإنني سأفهم الإجابة بنفسي.

    كان التفكير حول ما هية السؤال الذي كان في قلبي مسألة صعبة الحل. قلت لدون خوان أنه كانت هناك عدة أشياء في عقلي. عندما سألت عما إذا كنت في الطريق الصحيح كنت أعني: هل لدي قدم واحدة في كل عالم من العالمين؟ ما هو العالم الصحيح بالنسبة لي؟ ما هو المسار الذي يجب أن تتخذه حياتي؟

    أنصت دون خوان لتفسيراتي وخلص إلى أنني ليس نظرة واضحة للعالم وأن الحامي قد أعطاني درسا واضحا بصورة جميلة.

    قال :" أنت تظن أن هناك عالمين بالنسبة لك ومسارين. لكن هناك عالم واحد فقط. لقد وضح الحامي ذلك لك بوضوح لايصدق. العالم الوحيد المتاح بالنسبة لك هو عالم البشر وأنه لا يمكنك أن تختار مغادرة ذلك العالم فأنت إنسان! لقد أراك الحامي عالم السعادة حيث لا يوجد فرق بين الأشياء لأنه لايوجد هناك من يسأل عن الفرق. لكن ذلك ليس هو عالم البشر. لقد قام الحامي بانتزاعك من ذلك العالم وأراك كيف يفكر الإنسان وكيف يحارب. ذلك هو عالم الإنسان! وكونك من البشر يعني أنك مدان بالسجن في ذلك العالم. أنت لديك الغرور الذي يجعلك تظن أنك تعيش في عالمين لكن ذلك ليس سوى غرورك لذي يجعلك تظن ذلك. لا يوجد سوى عالم واحد بالنسبة لنا. نحن بشر ويجب أن نتبع عالم البشر باكتفاء".

    "أظن أن ذلك هو الدرس".


    يتبــــــــــع
                  

07-16-2009, 06:43 PM

محمد عثمان الحاج

تاريخ التسجيل: 02-01-2005
مجموع المشاركات: 3514

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: محمد عثمان الحاج)

    بدا أن دون خوان يريد مني أن أن أتعامل مع عشبة الشيطان بأكثر ما يمكن. هذا الموقف غير متوافق مع كراهيته المزعومة لقوتها. وفسر هو موقفه بأن الوقت الذي يتوجب علي فيه التدخين مرة أخرى قد اقترب، وأنه قبل ذلك يتوجب علي أن أطور معرفتي بقوة عشبة الشيطان.

    واقترح مرارا وتكرارا أن أقوم بامتحان قوة عشبة الشيطان بالقيام بعملية سحرية واحدة مع السحالي. وتلاعبت بالفكرة لزمن طويل. وازداد استعجال دون خوان بصورة درامية إلى أن شعرت بأنني ملزم بالاستجابة لطلبه. وذات يوم قررت أن أعرف من الذي سرق بعض الأشياء.

    الاثنين 28 ديسمبر 1964

    يوم السبت 19 ديسمبر قمت بقطع جذر الداتورا. أنتظرت إلى أن أظلم الليل لكي أقوم بالرقص حول العشبة. قمت بتحضير خلاصة الجذر خلال الليل ويوم الأحد حوالي الساعة السادسة صباحا ذهبت لموقع الداتورا. جلست أمام النبتة. كنت قد سجلت في مفكرتي ملاحظات دقيقة من دون خوان عن الخطوات التي بنبغي اتباعها. قرأت ملاحظاتي مرة أخرى واكتشفت أنه لا يتوجب علي سحق البذور هناك. بصورة ما أدى جلوسي أمام النبتة لإعطائي اتزانا عاطفيا من نوع نادر، وضوح تفكير أو قدرة على التركيز على أفعالي كنت أفتقدها في العادة.

    اتبعت التوجيهات بصورة دقيقة ونظمت وقتي بحيث أصبح العجين والجذر جاهزين في الأصيل. في حوالي الساعة الخامسة كنت مشغولا أحاول القبض على زوج من السحالي. لمدة ساعة ونصف جربت كل وسيلة أمكنني تدبرها ولكنني فشلت في كل ذلك.

    كنت أجلس أمام شجرة الداتورا محاولا ايجاد وسيلة ملائمة لتنفيذ ما أهدف إليه عندما تذكرت فجأة أن دون خوان قال أنه يجب التكلم مع السحالي. في البداية شعرت بالغباء لأنني أتكلم مع سحالي. كان الأمر يشبه الحرج الذي يشعر به االإنسان عندما يتكلم أمام جمهور. لكن ذك الشعور سرعان ما زال وواصلت الكلام. ورفعت صخرة. كانت هناك سحلية تحتها. كان شكلها يوحي بأنها في حالة خدر. والتقطتها من الأرض. ثم لاحظت أن هناك سحلية أخرى متصلبة الجسم تحت صخرة أخرى. لم تتحرك أيا من السحليتين أو تحاول المقاومة.

    كانت خياطة العيون والفم أصعب الأعمال. لاحظت أن دون خوان قد ألقى حسا من اللاعودة على أفعالي. كان موقفه هو أنه عندما يبدأ الإنسان عملا فلا توجد طريقة للتوقف. لكنني إن أردت التوقف فلا شئ يمنعني من ذلك. ربما ما كنت أريد التوقف.

    أطلقت سراح إحدى السحليتيتن فذهبت في اتجاه شمالي شرقي. كان ذلك الفأل يعني تجربة جيدة ولكنها صعبة. قيدت السحلية الأخرى إلى كتفي ومسحت العجينة على صدغي مثلما هو مقرر. تصلبت السحلية بحيث ظننت لوهلة أنها ماتت ولم يخبرني دون خوان بما يتوجب فعله إذا ماتت السحلية. لكن السحلية كانت في حالة خدر وحسب.

    شربت الخلاصة وانتظرت لبرهة. لم أشعر بشئ خارج عن المألوف. بدأت في مسح العجينة على جانبي جبهتي. قمت بمسح العجينة خمسة وعشرين مرة. ثم وبصورة آلية وكأنني في حالة شرود ذهني قمت بنشر العجينة عدة مرات على كل جبهتي. ثم لاحظت خطئي وقمت بسرعة بإزالة العجينة. تصبب العرق من جبهتي وشعرت بالحمى. وسيطر علي قلق شديد لأن دون خوان حذرني بشدة من مسح العجينة على جبهتي. وتغير الخوف ليصبح شعورا بالوحدة المطلقة، شعور بأنني متجه لمصيبة. كنت هناك وحدي. إذا حدث لي شئ سئ فلم يكن هناك من يساعدني. أردت أن أركض بعيدا. شعرت شعورا مزعجا بعدم القدرة على اتخاذ قرار أو معرفة ما يتوجب فعله. وجرى طوفان من الأفكار عبر ذهني وهو يومض بسرعة هائلة. لاحظت انها كانت أفكارا غريبة بعض الشئ،، أي أنها بدت غريبة لأنها كانت تأتي بطريقة مختلفة عن الأفكار العادية. أنا معتاد على الطريقة التي أفكر بها. أفكاري لها تسلسل محدد يخصني أنا، وأي انحراف عن ذلك التسلسل كان قابلا للملاحظة.

    كانت إحدى الأفكار التي بدا أنها أجنبية هي عن مقولة قالها كاتب. كانت تلك الفكرة حسبما أتذكره بصورة باهتة هي أشبه بصوت أو شئ قيل في مكان ما في الخلفية. حدث ذلك بصورة سريعة بحيث أنه أفزعني. توقفت عن التفكير لأتأملها لكنها تحولت لفكرة عادية. كنت متأكدا أنني قرأت المقولة من قبل لكنني لم أتذكر اسم المؤلف. ثم فجأة تذكرت أنه الفريد كروبر. ثم فجأة طفت فكرة غريبة أخرى و"قالت" أنه ليس كروبر بل جورج سيمل هو الذي كتب تلك المقولة. ألححت أنا على أنه كروبر وما أتذكره أنه بعد ذلك وجدت نفسي وسط جدل مع نفسي ونسيت شعوري بالمصيبة.

    كانت أجفاني ثقيلة وكأنني تناولت أقراص منومة. رغم أنني لم يسبق لي تناول مثل تلك الأقراص لكن تلك هي الصورة التي قفزت إلى ذهني. كنت أستغرق في النوم. أردت أن أذهب لسيارتي وأزحف لداخلها لكنني لم أستطع التحرك.

    ثم فجأة استيقظت أو شعرت بأنني استيقظت. كانت فكرتي الأولى هي عن الوقت من اليوم. نظرت حولي. لم أكن أمام نبتة الداتورا. وتقبلت في هدوء حقيقة أنني أمر عبر تجربة معرفة غيب أخرى. كانت ساعة الحائط فوق رأسي تشير إلى 35 : 12. عرفت أنه بعد الظهر.

    رأيت شابا يحمل حقيبة أوراق. كنت قريبا منه بحيث أكاد أمسه. رأيت عروق عنقه تنبض وسمعت دقات قلبه المتسارعة. كنت مستغرقا في ما أشاهده ولم أنتبه لنوعية أفكاري حتى تلك اللحظة. ثم سمعت "صوتا" في أذني يقوم بوصف المشهد. ثم أدركت أن الصوت هو الأفكار الأجنبية في عقلي.

    انهمكت في الإنصات بحيث أن المشهد فقد أهميته البصرية بالنسبة لي. سمعت الصوت في أذني اليمنى فوق مستوى كتفي. كان الصوت في الواقع يخلق المشهد عن طريق وصفه له. لكنه كان يطيع إرادتي لأنني قادر على وقفه في أي وقت وتفحص تفاصيل ما قاله على مهل. "سمعت رأيت" كامل سلسلة أفعال الشاب. استمر الصوت يصفها بتفاصيل دقيقة ولكن بصورة ما لم تكن الأفعال مهمة. كان الشئ العجيب هو الصوت الصغير. ثلاثة مرات خلال التجربة حاولت أن التفت لأرى من الذي يتكلم أو أستدير بصورة مفاجئة لكي أرى ما إذا كان هناك شخص بجواري. ولكن في كل مرة فعلت فيها ذلك أصبحت رؤيتي مشوشة. فكرت:" السبب في أنني لا أستطيع الاستدارة هو لأن المشهد ليس في الواقع العادي". تلك الفكرة كانت فكرتي أنا.

    من تلك اللحظة وما تلاها ركزت انتباهي على الصوت وحده. بدا أنه يأتي من كتفي. كان شديد الوضوح رغم أنه صوت صغير. لكنه لم يكن صوت طفل أو صوت مصطنع بل صوت رجل مصغر. لم يكن صوتي أنا. افترضت أن اللغة التي أسمعها هي الإنجليزية. في كل مرة كنت أحاول فيها بتعمد أن اقتنص الصوت كان ينحسر أو يصبح باهتا ويختفي المشهد. فكرت في تشبيه. كان الصوت مثل الصورة التي تسببها جزيئات الغبار على الرموش، شكل يشبه الدودة يمكن رؤيته طالما لم يكن الإنسان ينظر إليه مباشرة ولكن حالما يحاول الإنسان تركيز بصره عليه فإنه يختفي عن النظر تبعا لحركة بؤبؤ العين.

    أصبحت فاقد الاهتمام تماما بالافعال. عندما أصغيت أصبح الصوت معقدا بدرجة أكبر. ما كنت أظن أنه صوت كان أكثر شبها بشئ يهمس الأفكار في أذني. لكن ذلك لم يكن دقيق. كان هناك شئ يفكر لي. كانت الأفكار خارج ذاتي. عرفت ذلك لأنني كنت أستطيع متابعة أفكاري الخاصة والأفكار القادمة من "الآخر" في نفس الوقت.

    في نقطة ما كون الصوت مشاهد قام بها الشاب ليس لها علاقة بسؤالي الأصلي عن الأشياء المسروقة. قام الشاب بأفعال معقدة جدا. أصبحت الأفعال مهمة مرة أخرى ولم أعد أوجه انتباهي للصوت. بدأ صبري ينفذ وأردت التوقف.فكرت "كيف لي أن أوقف هذا؟" . قال الصوت في أذني أنني يجب أن أتوجه للوادي. تساءلت عن كيفية ذلك فأجابني الصوت بأنني يجب أن أفكر في نبتتي.

    أخذت أفكر في نبتتي. في العادة كنت اجلس أمامها. كنت قد سبق لي فعل ذلك مرات عديدة بحيث كان تخيل صورتها أمامي سهلا جدا. اعتقدت أن رؤيتي لها مثلما فعلت في تلك اللحظة كانت هلوسة أخرى لكن الصوت قال أنني "رجعت!". أصغيت بشدة لكي أسمع لم يكن هناك سوى الصمت. بدا أن نبتة الداتورا أمامي حقيقة مثلها مثل كل شئ آخر رأيته ولكنني كنت قادرا على لمسها وكنت قادرا على التحرك حول المكان. وقفت وسرت نحو سيارتي. أنهكني الجهد وجلست وأغمضت عيني. شعرت بدوخة وأردت أن أتقيأ. كان هناك صوت أزيز في أذني.

    وانزلق شئ على صدري. كانت تلك هي السحلية. تذكرت نصيحة دون خوان عن وجوب إطلاق سراحها. عدت للنبتة وحللت قيد السحلية. لم أرد أن أرى ما إذا كانت حية أو ميتة. قمت بتحطيم الوعاء الفخاري الحاوي للعجينة ودفنته بالتراب. ودخلت سيارتي واستغرقت في النوم.

    الخميس 24 ديسمبر 1964

    اليوم قمت بسرد التجربة بكاملها لدون خوان. كالعادة أنصت لي دون مقاطعة. في النهاية دار بيننا الحوار التالي:

    "ارتكبت خطئا فظيعا"
    "أعرف ذلك. كان خطئا غبيا، حادث"
    "لاتوجد حوادث عندما تتعامل مع عشبة الشيطان. أخبرتك أنها سوف تمتحنك طيلة الوقت. رأيي هو أنه إما أنك قوي جدا أو أن عشبة الشيطان تحبك. مسح العجينة على وسط الجبهة هو فقط للبروهو الأقوياء جدا الذين يعرفون كيف يتعاملون مع قوتها"
    "ماذا يحدث في العادة عندما يمسح الإنسان العجينة على جبهته يا دون خوان؟"
    "إذا لم يكن الإنسان بروهو عظيم فإنه سوف لن يعود أبدا من الرحلة"
    "هل سبق لك أبدا أن مسحت العجينة على جبهتك يا دون خوان؟"
    "لم يحدث ذلك أبدا! أخبرني أستاذي أن القليل جدا من الناس يعودون من مثل تلك الرحلة. في تلك الحالة قد يفقد الإنسان الوعي لعدة أشهر ويحتاج لأن يرعاه الآخرين. قال أستاذي أن السحالي تستطيع أخذ الإنسان لنهاية العالم وتريه أعظم الإسرار حسب طلبه"
    "هل عرفت أي إنسان قام برحلة كتلك؟"
    "نعم. أستاذي. لكنه لم يعلمني أبدا كيفية الرجوع منها"
    "هل الرجوع صعب لتلك الدرجة يادون خوان؟"
    "نعم، وذلك هو السبب في أن ما قمت أن بفعله أذهلني حقا. لم يكن لديك خطوات لتتبعها في مواجهة ذلك الخطأ في حين أنه هناك خطوات معينة يجب اتباعها لأنه في تلك الخطوات يجد الإنسان القوة. بدونها نحن لا شئ."

    وبقينا صامتين لساعات. بدا أن دون خوان مستغرق في تفكير عميق جدا.

    السبت 26 ديمسبر 1964

    سألني دون خوان عما إذا كنت قد بحثت عن السحالي. أخبرته أنني بحثت عنها ولكنني لم أجدها. سألته عما كان سيحدث إذا كانت إحدى السحليتين قد ماتت أثناء إمساكي بها.قال أن موت السحلية هو فأل سئ.قال أنه إذا ماتت السحلية ذات الفم المخيط فلا يوجد منطق في مواصلة العملية السحرية. ذلك أيضا كان سيعني أن السحالي انسحبت عن صداقتها وأنه كان ستوجب علي التوقف عن مواصلة التعلم عن عشبة الشيطان لزمن طويل.
    "كم من الوقت يتوجب التوقف يادون خوان؟"
    "سنتان أو أكثر"
    "ماذا كان سيحدث إذا ماتت السحلية الأخرى؟"
    "إذا ماتت السحلية الثانية كنت ستكون في خطر رهيب. كنت ستكون وحدك بدون مرشد. إذا ماتت قبل أن تبدأ العملية السحرية يمكنك التوقف لكنك إذا توقفت سيتوجب عليك عندها ترك التعلم عن عشبة الشيطان نهائيا. أما إذا ماتت السحلية على كتفك بعد أن تكون قد بدأت العملية فسيتوجب عليك الاستمرار فيها وذلك كان سيكون شيئا جنونيا حقا".
    "لماذا شئ جنوني؟"
    "لأنه تحت تلك الظروف لا شئ يكون منطقي. أنت بدون مرشد ترى أشياء مرعبة خارجة عن المنطق".
    "ماذا تعني بأشياء خارجة عن المنطق؟"
    "أشياء نراها بانفسنا. أشياء نراها عندما نفقد اتجاهنا. كان ذلك سيعني أن عشبة الشيطان تحاول التخلص منك ودفعك بعيدا في النهاية"
    "هل عرفت أي إنسان مر بتلك التجربة؟"
    "نعم عرفت. بدون حكمة السحالي أصبت بالجنون".
    "ماذا رأيت يا دون خوان؟"
    "حفنة من الخزعبلات. ماذا كنت سأرى خلاف ذلك بدون توجيه؟"

    الاثنين 28 ديسمبر 1964

    "قلت لي يا دون خوان أن عشبة الشيطان تمتحن الناس. ماذا عنيت بذلك؟"
    "عشبة الشيطان هي مثل إمرأة. ومثل إمرأة هي تثير غرور الرجال. هي ترمي شراكها عند كل منعطف. هي فعلت لك ذلك عندما أجبرتك على مسح العجينة على جبينك. ستحاول معك مرة أخرى وأنت ربما ستقع في الشرك. أنا أحذرك منها. إياك أن تتعامل معها بعاطفة فعشبة الشيطان ليست سوى طريق واحد من الطرق المتاحة للعارف. هناك طرق أخرى. لكن شركها هو ان تجعلك تعتقد أن طريقها هو الطريق الوحيد المتاح. أنا أقول أن من غير المجدي أن تضيع حياتك وأنت تتبع طريقا واحدا خاصة إذا كان ذلك الطريق ليس له قلب"
    "ولكن كيف تعرف أن الطريق ليس له قلب يا دون خوان؟"
    "قبل أن تبدأه اسأل نفسك"هل هذا الطريق له قلب؟ إذا كانت الإجابة هي لا فستعرف ذلك، وعندها يتوجب عليك اختيار طريق آخر"
    "لكن كيف لي أن أعرف يقينا أن ذلك الطريق ليس له قلب؟"
    "أي إنسان يمكنه معرفة ذلك. المشكلة هي أنه لا يوجد من يسأل ذلك السؤال وعندما يعرف الإنسان في النهاية أنه قد سلك طريقا ليس له قلب يكون الطريق جاهزا ليقتله. في تلك اللحظة القليل جدا من الناس هم من يتوقفون ويتأملون ويتركون الطريق".
    "كيف أشرع في طرح السؤال بطريقة صحيحة يا دون خوان؟"
    "فقط اطرح السؤال"
    "أعني هل هناك طريقة صحيحة بحيث لا أخدع نفسي واعتقد أن الإجابة هي نعم في حين أنها ليست كذلك؟"
    "لماذا تخدع نفسك؟"
    "ربما لأن الطريق في تلك اللحظة لطيف وممتع"
    "ذاك هراء. الطريق الذي ليس له قلب لا يكون أبدا ممتعا. يتوجب عليك العمل بقسوة حتى لكي تبدا فيه. من ناحية أخرى الطريق الذي له قلب هو طريق سهل ولا يجعلك تبذل جهدا لكي تحبه".

    فجأة غير دون خوان مسار الحديث وواجهني بخشونة بفكرة أنني قد عشقت عشبة الشيطان. اضطررت للاعتراف بأنني على الأقل لدي تفضيل لها. سألني عما أشعر به تجاه حليفه الدخان وقلت له أن التفكير عنه يفزعني بدرجة خارج حدود عقلي.
    "طلبت منك اختيار طريق تكون فيه حرا من الخوف والطموح. لكن الدخان يعميك بالخوف وعشبة الشيطان تعميك بالطموح"
    تحججت بأن الإنسان يحتاج للطموح لكي يسلك أي طريق وأن مقولته بأن على الإنسان أن يتحرر من الطموح غير منطقية. يتوجب عى الإنسان أن يكون لديه طموح لكي يتعلم.


    قال:"الرغبة في المعرفة ليست طموحا. إن من خصائصنا كبشر الرغبة في المعرفة. لكن طلب عشبة الشيطان هو طلب للقوة وذلك طموح لأنك لا تطلب المعرفة. لا تدع عشبة الشيطان تعميك. هي قامت بربط إليها. إنها تغوي الناس وتعطيهم الشعور بالقوة، إنها تجعلهم يشعرون بأنهم قادرون على فعل أشياء لايستطيع الناس العاديون فعلها. لكن ذلك هو شركها. وما يلي ذلك هو أن الطريق الذي لا قلب له يرتد ضد الناس ويدمرهم. لايتطلب الموت الكثير وطلب الموت هو طلب للاشئ".


    يتبــــــــــــــــــع
                  

07-24-2009, 05:23 PM

محمد عثمان الحاج

تاريخ التسجيل: 02-01-2005
مجموع المشاركات: 3514

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: محمد عثمان الحاج)

    10
    في شهر ديسمبر 1964 ذهبنا أنا ودون خوان لجمع النباتات المختلفة التي يحتاج إليها لصنع خليط الدخان. كانت تلك هي الدورة الرابعة. كل ما قام به دون خوان كان هو الإشراف على ما أقوم به. حثني على التريث والمراقبة والتفكير قبل أن التقط أيا من النباتات. حالما تم جمع المكونات وتخزينها حثني على ملاقاة حليفه مرة أخرى.

    الخميس 31 ديسمبر 1964
    قال لي دون خوان :"بما أن معرفتك زادت قليلا بعشبة الشيطان والدخان يمكنك أن تقول بوضوح أكثر أيهما تفضل".
    "الدخان يخيفني حقا يا دون خوان. لا أدري لماذا بالضبط، لكنني لا أشعر شعورا طيبا تجاهه".
    "أنت تحب المدح وعشبة الشيطان تمدحك. مثل امرأة هي تجعلك تشعر شعورا طيبا. من ناحية أخرى الدخان هو القوة الأنبل ولديه القلب الأصفى. هو لا يغوي الرجال ولا يجعلهم سجناء وهو لايحب ولا يكره. كل ما يتطلبه هو القوة. عشبة الشيطان أيضا تتطلب قوة ولكنها قوة من نوع مختلف. إن ذلك أشبه بممارسة الرجولة تجاه إمرأة. من ناحية أخرى القوة التي يتطلبها الدخان هي قوة القلب. أنت لا تملك تلك القوة! لكن القليل جدا من الرجال هم أولئك الذين يملكونها. ذلك هو ما يدعوني لنصحك بأن تتعلم أكثر عن الدخان. إنه يقوي القلب. هو ليس مثل عشبة الشيطان المليئة بالعاطفة والغيرة والعنف. الدخان ثابت. مع الدخان لا يتوجب عليك أن تقلق بسبب نسيان شئ في الطريق".

    الأربعاء 27 يناير 1965

    يوم الثلاثاء 19 يناير دخنت الخليط الهلوسي مرة أخرى. أخبرت دون خوان أنني أشعر بالضيق الشديد من الدخان وأنه يخيفني. قال أنه يتوجب علي تناوله مرة أخرى لكي أقيمه.

    سرنا لغرفته. كان الوقت يكاد يكون الثانية بعد الظهر. وأخرج الغليون. أحضرت أنا الجمرات ومن ثم جلسنا في مواجهة بعضنا البعض. قال أنه سيدفئ الغليون ويوقظه، وأنني إذا ارقبت بحرص فسأرى كيف يتوهج. ووضع الغليون على شفتيه ثلاثة أو أربعة مرات وقام بامتصاص الدخان. وربت على الغليون بلطف. فجأة أومأ بوجهه بطريقة تكاد تكون غير مرئية لكي ينبهني لكي أنظر إلى استيقاظ الغليون. نظرت ولكنني لم أر شيئا.

    وقدم لي الغليون. ملأت الوعاء بالخليط الخاص بي، ثم التقطت زوجا من الجمرات بملقط صنعته من مشبك ثياب خشبي كنت أدخره لهذه المناسبة. نظر دون خوان لملقطي وبدأ يضحك. ارتعشت للحظة فالتصقت الجمرات بالملقط. خشيت من أن أقوم بطرق الجمرات بوعاء الغليون واضطررت للبصق على الجمرات لكي أطفئها.

    أشاح دون خوان بوجهه عني ووضع يديه على وجهه. ارتعش جسمه وللحظة ظننت أنه يبكي لكنه كان يضحك ضحكا صامتا.

    استغرقت مني محاولة وضع الجمرات زمنا طويلا ومن ثم قام دون خوان بالتقاط جمرة بيده بسرعة ووضعها في الوعاء وأمرني أن أدخن. كانت عملية اشفط الدخان عبر الخليط تتطلب مجهودا كبيرا حيث بدا أن الخليط متماسك جدا. في الحاولة الأولى شعرت أنني امتصصت المسحوق الناعم وسحبته لداخل فمي مما أدى لتخدير لساني على الفور. رأيت الوهج في وعاء الغليون لكنني لم أحس أبدا بالدخان مثلما يحس المرء بدخان سيجارة. لكنني شعرت أنني استنشق شيئا، شئ ملأ رئتي في البداية ثم تدفق منهما وملأ بقية جسدي.

    قمت بحساب عشرين استنشاق ثم لم يعد للعد أهمية. بدأت أتصبب عرقا فقال لي دون خوان أن علي ألا أخاف وأن أنفذ ما يطلبه مني بدقة. أردت أن أقول له أنني سأفعل، ولكن ما خرج من حلقي كان صوتا غريبا عاويا استمر صداه يتردد بعد أن أغلقت فمي. أفزع الصوت دون خوان الذي أصابته نوبة ضحك أخرى. أردت أن أهز رأسي بالموافقة لكنني لم أستطع التحرك.

    فتح دون خوان يدي بلطف وأخذ الغليون. أمرني أن أرقد على الأرض ولكن دون أن أستغرق في النوم. تساءلت بيني وبين نفسي عما إذا كان سيساعدني على الاستلقاء أرضا لكنه لم يفعل. كل ما فعله هو التحديق لي دون انقطاع. فجأة رأيت الغرفة تتقلب ووجدتني أنظر لدون خوان من نقطة تقع على جانبي. من تلك اللحظة وما تلاها أصبحت المشاهد مشوشة بصورة غريبة مثل حلم. أستطيع أن أتذكر بصورة باهتة دون خوان وهو يتكلم معي كلاما كثيرا أثناء المدة التي كنت فيها مشلولا عن الحركة.

    لم أشعر بخوف أو ضيق أثناء الحالة نفسها، ولم أتقيأ عند استيقاظي في اليوم التالي. الشئ الوحيد الغريب كان هو عجزي عن التفكير الواضح لمدة بعد استيقاظي. ثم وببطء وخلال مدة استمرت ما بين ساعة إلى خمسة ساعات استعدت نفسي مرة أخرى.

    الأربعاء 20 يناير 1965
    لم يتكلم دون خوان عن تجربتي ولم يطلب مني أن أحكي له عنها. كان تعليقه الوحيد هو أنني استغرقت في النوم بسرعة أكثر من اللازم.
    "الطريقة الوحيدة للبقاء مستيقظا هي التحول لطائر أو جندب أو شئ من هذا القبيل".
    "كيف تفعل ذلك يا دون خوان؟"
    "ذلك هو ما أقوم بتعليمك إياه. هل تتذكر ما قلته أنا لك بالأمس عندما لم يكن لديك جسد؟"
    "لا أستطيع التذكر بوضوح"
    "أنا غراب. أنا أعلمك كيف تتحول إلى غراب. عندما تتعلم ذلك سوف تبقى مستيقظا وسوف تتحرك بحرية وبخلاف ذلك ستظل ملتصقا بالأرض في المكان الذي تقع فيه أرضا".

    الأحد 7 فبراير 1965

    محاولتي الثانية مع الدخان تمت حوالي ظهر الأحد 31 يناير. استيقظت في اليوم التالي في وقت مبكر من المساء. شعرت بأن لدي قدرة غير عادية على تذكر ما قاله لي دون خوان أثناء التجربة. . كانت كلماته مطبوعة في عقلي. استمريت في سماعها بوضوح غير عادي وتكرار. خلال هذه المحاولة لاحظت حقيقة أخرى: أصبح جسمي بكامله مخدرا بعد وقت قصير من بدء ابتلاعي للمسحوق الذي كان يدخل فمي في كل مرة أشفط فيها الغليون. لذلك لم أكن أستنشق الدخان فحسب بل كنت أيضا أبتلع المسحوق.

    حاولت أن أحكي تجربتي لدون خوان ولكنه قال أنني لم أفعل شيئا ذو أهمية. ذكرت له أن باستطاعتي تذكر كل ما حدث لكنه لم يرغب في الاستماع لي. كانت كل ذكرى واضحة ولا يمكن الوقوع في خطأ بشأنها. كانت خطوات التدخين مماثلة لما حدث في المرة السابقة. كان الأمر كما لو أن التجربتين يمكن وضعهما جوار بعضهما البعض وكنت استطيع بدء التذكر من الوقت الذي انتهت فيه التجربة الأولى. تذكرت بوضوح أنني بدءا من الوقت الذي وقعت فيه أرضا على جانبي أصبحت خاليا تماما من الشعور أو التفكير. لكن وضوح ذهني لم يعوقه شئ. أتذكر أنني فكرت آخر فكرة عندما تحولت الغرفة لمستوى رأسي. لابد أن رأسي ارتطم بالأرض لكنني لم أشعر بأي ألم.

    من تلك النقطة وما تلاها ما كان بإمكاني سوى النظر و الاستماع . بت أستطيع ترديد أي كلمة قالها دون خوان. اتبعت كل واحد من توجيهاته. بدت واضحة ومنطقية وسهلة. قال أن جسدي يختفي وأن رأسي فقط سيبقى وأنه في هذه الحالة فإن الطريقة الوحيدة للبقاء صاحيا والتحرك هنا وهناك هي بالتحول إلى غراب. أمرني أن أبذل مجهودا لكي أحرك رموش عيني، وقال أنني حالما أنجح في تحريك رموشي سأكون جاهزا للخطوة التالية. ثم قال لي أن جسدي قد اختفى تماما ولم يبق سوى رأسي. وقال أن الرأس لا يختفي لأن الرأس هو الذي يتحول إلى غراب.

    وأمرني بتحريك رموشي. لابد أنه كرر هذا الأمرا وأوامره الأخرى عددا لا يحصى من المرات لأنني أستطيع تذكرها جميعا بوضوح غير عادي. لابد أنني حركت رموش عيني لأنه قال أنني أصبحت جاهزا وأمرني أن أعدل رأسي وأضعه على ذقني. وقال أن الذقن فيه سيقان الغراب. وأمرني أن أحس بالسيقان وألاحظ أنها تنمو ببطء. وقال أنني لا زلت غير صلب بعد، وأنه يتوجب أن أنبت ذيلا وأن الذيل سيخرج من عنقي. وأمرني أن أمد الذيل مثل مروحة وأن أشعر به يمس الأرض.

    ثم تكلم عن أجنحة الغراب وقال أنها ستخرج من عظام وجنتي. قال أن ذلك سيكون صعبا ومؤلما. ثم أمرني بأن أنشر جناحي. وقال أنهما يجب أن يكونا طويلين جدا بأبعد ما أستطيع مدهما، وإلا فسوف لن أستطيع الطيران. وقال لي أن الأجنحة بدأت في التكون والخروج وأنها جميلة وأن علي تحريكها إلى أن تصبح أجنحة حقيقية.

    ثم تكلم بعد ذلك عن قمة رأسي وقال أنها لازالت كبيرة وثقيلة وأن كتلتها ستمنعني من الطيران. وقال لي أن طريقة تقليل حجمها هي تحريك الرموش وأنه مع كل حركة للرموش سيصغر حجم رأسي. وأمرني بتحريك رموشي إلى أن اختفى وزن الجزء الأعلى وأصبح بإمكاني القفز بحرية. ثم قال لي أنني قد صغرت حجم رأسي بحيث أصبح في حجم غراب، وأن علي المشي والقفز إلى أن أتخلص من التصلب.

    وقال أنه بقي شئ واحد لابد لي من تغييره قبل أن أستطيع الطيران. إنه التغيير الأصعب، ولكي أنجزه لابد لي من أن أكون مطيعا وأنفذ ما يطلبه مني بالضبط. يتوجب علي أن أرى مثلما يرى الغراب. وقال أن فمي وأنفي سوف ينموان بين عيني إلى أن يصبح لي منقار قوي. وقال أن الغربان ترى بصورة مستقيمة في اتجاه الجانب وأمرني أن أدير رأسي وأنظر له بعين واحدة. وقال أنني إذا أردت تغيير ذلك والنظر بالعين الأخرى يتوجب علي هز منقاري محركا إياه للأسفل وأن الحركة ستجعلني أرى بالعين الأخرى. وأمرني بتغيير العين التي أنظر بها. ثم قال أنني أصبحت جاهزا للطيران وأن الطريقة الوحيدة للطيران هي أن يقوم بقذفي في الهواء.

    لم أعاني من أي صعوبة في الشعور بالإحساس المترتب على أي من أوامره. كان لدي الشعور بإنبات ساقي طائر كانا ضعيفين ومتهالكين في البداية. شعرت بذيل يخرج من مؤخرة عنقي وأجنحة من عظام وجنتي. كانت الأجنحة مطوية بعمق. شعرت بها تنبت شيئا فشيئا. كانت العملية صعبة ولكن غير مؤلمة. ثم حركت رموشي مصغرا بذلك رأسي ليصبح في حجم غراب. لكن التأثير الأشد إدهاشا تم بواسطة عيني: طريقة نظر الطائر!

    عندما وجهني دون خوان بأن أقوم بإنبات منقار شعرت شعورا من الضيق بسبب نقص الهواء. ثم انبعج شئ للخارج مكونا كتلة أمامي. لكن لم تصبح عيني قادرتين على رؤية منظر جانبي إلى أن وجهني دون خوان بأن أنظر جانبيا. كان بإمكاني أن أرمش عين واحدة في كل مرة وأن أغير تركيز نظري من عين لأخرى. لكن منظر الغرفة وكل ما فيها من أشياء لم يكن مثل منظر عادي. لكن كان من المستحيل تبين الشئ المختلف فيه. ربما كان بسبب عدم التناظر أو ربما كانت الأشياء خارج حدود تركيز البصر. أصبح دون خوان ضخما جدا ومتوهجا. كان هناك شئ فيه مريح وآمن. ثم اهتزت الصور وفقدت خطوطها وأصبحت نسق تجريدية لمعت متوالية لمدة.

    الأحد 28 مارس 1965

    يوم الخميس 18 مارس دخنت الخليط الهلوسي مرة أخرى. كانت الخطوات الأولى مختلفة في بعض التفاصيل. توجب علي إعادة ملأ وعاء الغليون مرة واحدة. بعد أن نفذت الكمية الأولى وجهني دون خوان بأن أنظف الوعاء لكنه عبأ الوعاء بالخليط بنفسه لأنني كنت أفتقد التنسيق العضلي. كان تحريك ذراعي يتطلب مجهودا هائلا. كان هناك خليط في كيسي يكفي لإعادة ملأ الغليون مرة واحدة. نظر دون خوان للكيس وقال أن هذه ستكون محاولتي الأخيرة مع الدخان حتى السنة التالية لأنني استنفذت كل ما خزنته.

    وقلب الكيس وهزه فوق الصحن الحاوي للجمرات فاشتعلت بوهج برتقالي وكأنه قد وضع غشاء من مادة شفافة على الجمر فاشتعل الغشاء ثم تشقق مكونا نسق معقد من الخطوط. كان هناك شئ يتحرك حركة متعرجة داخل الخطوط بسرعة كبيرة. أمرني دون خوان أن أنظر للحركة في الخطوط. رأيت شيئا مثل قطعة رخام صغيرة تتأرجح جيئة وذهابا في المنطقة المتوهجة. ومال ومد يده لداخل الوهج والتقط قطعة الرخام ووضعها في وعاء الغليون. وأمرني بأن أشفط. كان لدي انطباع واضح أنه وضع الكرة الصغيرة في وعاء الغليون لكي أستطيع شفطها. في لحظة فقدت الغرفة وضعها الأفقي. شعرت بخدر شديد وثقل.

    عندما استيقظت وجدت نفسي راقدا على ظهري في قاع جدول ري ضحل مغمورا بالماء إلى ذقني. كان هناك شخص ممسك برأسي مبقيا إياه أعلى الماء. كن ذلك هو دون خوان. كان أول انطباع لي هو أن الماء في الجدول له خاصيو غير عادية، كان باردا وثقيلا. كان الماء يضربني بصورة خفيفة وتوضحت أفكاري في كل مرة فعل فهيا الماء ذلك. في البداية كان للماء هالة خضراء لامعة أو تألق سرعان ما تبخر تاركا جدول من الماء العادي.

    سألت دون خوان عن الوقت فقال أنه الصباح المبكر. بعد برهة استيقظت تماما وخرجت من الماء.

    قال لي دون خوان عندما وصلنا البيت "يجب أن تخبرني بكل ما رأيته". وقال أيضا أنه ظل يحاول إرجاعي لمدة ثلاثة أيام وأنه عانى من صعوبة شديدة في ذلك. قمت بعدة محاولات لكي أصف ما رأيته لكنني لم أستطع تركيز أفكاري. لاحقا في وقت مبكر من المساء شعرت أنني جاهز للحديث مع دون خوان وبدأت أخبره ما أتذكره من الوقت الذي سقطت فيه على جانبي لكنه لم يرد الاستماع. قال أن الشئ الوحيد المهم هو ما رأيته وفعلته بعد قام بقذفي في الهواء وطرت بعيدا.

    كان كل ما أتذكره هو سلسلة من المشاهد أو المناظر الشبيهة بالحلم. لم يكن لها ترتيب تسلسلي. كان لي الشعور بأن كل واحد منها عبارة عن فقاعة معزولة تطفو لتصبح في مدى النظر ثم تتحرك مبتعدة. لكنها لم تكن مشاهد يتم النظر إليها وحسب. كنت أنا داخلها. كنت قد شاركت فيها. عندما حاولت تذكرها في البداية كان لدي الحس بأنها لمعات بهتة مشتتة ولكن عندما فكرت فيها أدركت أن كل واحد منها واضح جدا رغم نه مختلف تماما عن النظر العادي وذلك ما كان يعطي الانطباع بأنها غير واضحة. كانت المشاهد قليلة وبسيطة.

    حالما قال دون خوان أنه قذف بي في الهواء تذكرت بصورة باهتة مشهدا شديد الوضوح كنت فيه أنظر مباشرة لدون خوان من على البعد. كنت أنظر لوجهه فقط. كان حجم وجهه هائلا . كان مسطحا ولديه وهج شديد. كان شعره مصفرا ويتحرك. كان كل جزء من وجهه يتحرك على خدة ملقيا ضوء أصفر بني.

    المشهد التالي كان فيه أن دون خوان قذف بي فعلا للأعلى أو دفعني للأعلى في اتجاه مستقيم للأمام. تذكرت أنني مددت جناحي وطرت. شعرت بالوحدة وأنا أشق الهواء متحركا بصورة مؤلمة للأمام باستقامة. كان امر أشبه بالمشي منه بالطيران. بعث ذلك التعب في جسمي. لم يكن هناك شعور بالسريان حرا والاندفاع.

    ثم تذكرت لحظة كنت فيها متجمدا لا أتحرك نظر لكتلة من الحواف الحادة موجودة في مساحة لها ضوء كئيب مؤلم، بعد ذلك رأيت حقلا به عدد لا نهائي من أنواع الأضواء. كانت الأضواء تتحرك وتتلامع وتتغير شدتها. كانت أشبه بألوان. بهرتني شدتها.

    في لحظة أخرى كان هناك شئ يكاد يمس عيني. كان شيئا غليظا مدببا له وهج محمر. شعرت برعشة مفاجئة في مكان ما في جسمي ورأيت عددا كبيرا من الأشكال المحمرة المماثلة متجهة نحوي. ووصلت كلها لي. قفزت مبتعدا.

    كان المشهد الأخير الذي تذكرت هو ثلاثة طيور فضية اللون. كانت تشع بضوء معدني لامع يكاد يكون مثل الحديد الصلب المقاوم للصدأ لكنه حي وقوي ومتحرك. أحببت تلك الطيور. طرنا معا.

    لم يعلق دون خوان على ما سردته.

    الثلاثاء 23 مارس 1965

    الحوار التالي دار في اليوم التالي لليوم الذي سردت فيه ما رأيته في تجربتي.

    قال دون خوان: " لايتطلب الأمر الكثير لكي يتم التحول لغراب. لقد نجحت في التحول ومن الآن فصاعدا ستكون دائما غراب".
    "ماذا حدث بعد أن تحولت انا لغراب يا دون خوان؟ هل ظللت أطير لمدة ثلاثة أيام؟"
    "كلا. لقد كنت تأتي كل مرة عند غروب الشمس مثلما أمرتك به"
    "لكن كيف عدت؟"
    "كنت مرهقا جدا ونمت في كل مرة. ذلك هو كل ما حدث"
    "أعني هل عدت أنا مرة أخرى للطيران؟"
    "أخبرتك بذلك. أطعتني وعدت للمنزل. لكن لا تشغل نفسك بذلك الأمر. ليس له أهمية"
    "ما هو المهم إذن؟"
    "في كل رحلتك كان هناك شئ واحد ذو قيمة عظيمة: الطيور الفضية".
    "ما هو الشئ المميز لها؟ لم تكن سوى طيور"
    "ليست مجرد طيور. كانت غربان"
    "هل كانت غربان بيضاء يا دون خوان؟"
    "ريش الغراب الأسود هو في الحقيقة فضي اللون. الغربان تتوهج بصورة شديدة بدرجة تجعل الطيور الأخرى تبتعد عن مضايقتها".
    "لماذا بدا ريشها فضي اللون؟"
    "لأنك كنت تراها بالكيفية التي يراها بها غراب. الطائر الذي نراه نحن أسود يراه الغراب أبيض. الحمام الأبيض مثلا يبدو للغراب ذو لون محمر أو مزرق. والنوارس صفراء. الآن تذكر كيف قمت بالانضمام لهم؟"

    فكرت في الأمر لكن الطيور كانت مشهدا معتما غير مترابط ليس له استمرراية. قلت له أن كل ما أتذكره هو أنني طرت معهم. سألني عما إذا كنت قد انضممت إليهم في الجو أو على الأرض لكنه لم يكن بوسعي الإجابة على ذلك. وكاد أن يصبح غاضبا مني. طالبني بأن أفكر في الأمر. وقال:"كل هذا لن يعني شيئا كل ما سيكونه هو مجرد حلم جنوني مالم تتذكره بصورة صحيحة". بذلت جهدا منهكا لكي أتذكر لكنني لم أستطع التذكر.

    السبت 3 أبريل 1965

    اليوم تفكرت في مشهد آخر في "حلمي" عن الطيور الفضية. تذكرت أنني رأيت كتله داكنة بها عدد لا يحصى من الثقوب الدبوسية. في الواقع كانت الكتلة عبارة عن تجمع داكن من الثقوب الدبوسية الصغيرة. لا أدري لماذا ظننت أنها رخوة. بينما كنت أنظر إليها أتت ثلاثة طيور قادمة في اتجاهي. أحدها أصدر صوتا ثم كانت الثلاثة بجواري على الأرض.

    وصفت المشهد لدون خوان. سألني عن الاتجاه الذي أتت منه الطيور. قلت أنه لايمكنني تحديد ذلك. وفقد دون خوان صبره واتهمني بأن تفكيري غير مرن. وقال أنني سأستطيع أن أتذكر إذا حاولت التذكر وأنني أخشى من أن أجعل تفكيري أقل تصلبا. وقال أنني أفكر بمصطلحات بشر في مقابل غربان في حين أنني لم أكن إنسان أو غراب أثناء الوقت الذي أحاول تذكره.

    طلب مني أن أتذكر ما الذي قال له لي الغراب. حاولت تذكر ذلك لكن عقلي تلاعب بعدد كبير من الأشياء الأخرى بدلا من ذلك. وفقدت القدرة على التركيز.

    الأحد 4 أبريل 1965
    قمت برحلة طويلة سيرا على الأقدام هذا اليوم. كان الظلام قد حل عندما وصلت لمنزل دون خوان. كنت أفكر عن الغربان عندما مرت بخاطري فجأة فكرة غريبة. كانت بالأحرى انطباعا أو شعورا أكثر من أن تكون فكرة. الطائر الذي أصدر الصوت قال أنهم قادمون من جهة الشمال ومتجهون جنوبا وأننا عندما نلتقي مرة أخرى سيكونون قادمون من نفس الاتجاه.

    قلت لدون خوان ما فكرت فيه أو ربما تذكرته. وقال :" لا تفكر فيما إذا كنت قد تذكرته أو اختلقته. مثل هذه الأفكار تناسب البشر فقط. لكنها لا تناسب الغربان خاصة تلك الغربات الني رأيتها لأنها رسل تنبئ بمصيرك. أنت غراب. لن تغير ذلك أبدا. من الآن فصاعدا ستخبرك الغربان بطريقة طيرانها بكل تغير في مصيرك. في أي اتجاه طرت معها؟"

    "لايمكنني معرفة ذلك يا دون خوان"
    "إذا فكرت بطريقة صحيحة ستتذكر. اجلس على الأرض وقل لي الوضعية التي كنت فيها عندما أتت تلك الطيور إليك. اغمض عينيك وارسم خطا في الأرض".

    اتبعت تعليماته وحددت النقطة.
    "لا تفتح عينيك بعد. في أي اتجاه طرتم بالنسبة لتلك النقطة؟"
    وقمت بعمل علامة أخرى على الأرض.

    اعتبر دون خوان نقاط تحديد لموقع تلك مرجعا وفسر نسق الطيران المختلفة التي تتبعها الغربان لكي تخبر بمستقبلي أو مصيري. وجعل من الاتجاهات الأربعة محاور لطيران الغربان.

    سألته عما إذا كانت الغربان تتبع دائما الاتجاهات الأربعة لكي تنبئ بمصير الإنسان. وقال أن تحديد الاتجاهات هو شئ يخصني وأن كل ما فعلته الغربان في لقائي الأول معها هو أمر شديد الأهمية. وألح على أن أتذكر كل التفاصيل لأن الرسالة ونسق "الرسل" هو أمر شخصي فردي.

    كان هناك شئ آخر ألح أن أتذكره وهو الوقت من اليوم الذي فارقني فيه الرسل. طلب مني تحديد الفرق في الضوء المحيط بي من الوقت الذي "بدأت فيه الطيران" إلى الوقت الذي "طارت فيه الطيور الفضية معي". عندما كنت أشعر بإحساس الضوء المؤلم كان هناك ظلام. لكن عندما رأيت الطيور كان كل شئ محمرا حمرة خفيفة أو ربما برتقالي.
    قال "هذا يعني أن الوقت كان متأخرا في النهار وأن الشمس لم تغرب بعد. عندما يحل الظلام فإن الغراب يعميه البياض وليس السواد الذي نراه نحن في الليل. هذا الدليل من الوقت يضع آخر لقائك مع الغربان في نهاية اليوم. سوف ينادونك عندما يطيرون فوق رأسك سيصبحون بلون أبيض فضي وستراهم يلمعون مقابل السماء وسيعني ذلك أن وقتك قد انتهى. سيعني ذلك أنك ستموت وتصبح غرابا أنت نفسك".
    "ماذا لو رأيتهم في الصباح؟"
    "سوف لن تراهم في الصباح! "
    "لكن الغربان تطير طيلة اليوم"
    "لكن ليس رسلك أيها الغبي! "
    "ماذا عن رسلك أنت يا دون خوان؟"
    "رسلي سيأتون في الصباح. سيكون هناك أيضا ثلاثة منهم. قال لي أستاذي أن الإنسان يمكنه الصياح فيهم وتحويلهم مرة أخرى للون الأسود إذا لم يرد المرء أن يموت. لكنني الآن أعلم أن ذلك غير ممكن. أستاذي كان يحب الصراخ وكل الضوضاء والعنف الخاص بعشبة الشيطان. أنا أعرف أن الدخان مختلف لأنه ليس له عاطفة. إنه عادل. عندما يأتيك رسلك الفضيون لا حاجة بك لأن تصرخ في وجوههم. فقط طر معهم مثلما فعلت من قبل. بعد أن يقوموا باستلامك سيعسكون اتجاه طيرانهم وعندها سيكون هناك أربعة منهم يطيرون بعيدا"


    يتبــــــــــــــــــع
                  

07-30-2009, 05:48 PM

محمد عثمان الحاج

تاريخ التسجيل: 02-01-2005
مجموع المشاركات: 3514

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: محمد عثمان الحاج)

    السبت 10 أبريل 1965

    ظللت أمر بومضات قصيرة من الإنشطار أو حالات واقع غير عادي ضحلة.

    أحد عناصر التجربة الهلوسية مع الفطريات ظل يتردد على تفكيري: الكتلة الرخوة من الثقوب الدبوسية. واصلت تخيلها كشحم أو فقاعة زيت بدأت تجذبني لمركزها. كان الأمر كما لو أن المركز سينفتح ويبتلعني، وللحظات قصيرة جدا مررت بحالة تشبه حالة الواقع الغير عادي. نتيجة لذلك عانيت من لحظات من الضيق الشديد والقلق وعدم الإرتياح وبذلت جهدي لأنهي التجارب حالما تبدأ.

    اليوم ناقشت هذه الحالة مع دون خوان. طلبت منه النصح. بدا أنه غير مهتم بالموضوع وطلب مني تجاهل التجارب لأنه لا معنى لها أو بالأحرى لا قيمة لها. وقال أن التجارب الوحيدة التي تستحق جهدي واهتمامي هي تلك التي أرى فيها غراب وأن أي "رؤيا" أخرى ستكون ناتجة من مخاوفي. وذكرني مرة أخرى أن التعامل مع الدخان يستوجب أن يعيش المرأ حياة قوية وهائة. شخصيا بدا أنني وصلت لعتبة خطيرة. قلت له أنني أشعر بأنني غير قادر على المتابعة فهناك شئ مخيف حقا في الفطريات.

    عند تأمل المشاهد التي تذكرتها من تجربتي الهلوسية وصلت للنتيجة التي لايمكن تجنبها بأنني رأيت العالم بطريقة مختلفة بنيويا عن الرؤية العادية. في حالات الواقع غير العادي الأخرى التي مررت بها فإن الأشكال والنسق التي رأيتها كانت دائما في حدود مفاهيمي البصرية للعالم. لكن الشعور بالرؤيا تحت تأثير خليط الدخان المهلوس لم يكن مماثلا لذلك. كل شئ رأيته كان أمامي في خط رؤية مستقيم ولم يكن هناك شئ فوق أو تحت ذلك الخط البصري.

    كل مشهد كان له تفلطح مزعج، ولكن في نفس الوقت وبصورة مناقضة كان له عمق كبير. ربما كان الأدق هو القول أن المشاهد كانت تجمعات من التفاصيل الدقيقة بدرجة لاتصدق موضوعة داخل مجالات ضوء مختلفة يدور فيها الضوء في المجالات محدثا تأثيرا دورانيا.

    بعد أن بحثت في نفسي وأجهدتها في التذكر أجبرت على أن أقوم بعمل سلسلة من التشبيهات أو المقابلات لكي "أفهم" ما "رأيته". مثلا وجه دون خوان بدا وكأنه مغمور بالماء. بدا أن الماء يتحرك في تدفق دائم فوق وجهه وشعره ونتج عن ذلك تكبير التفاصيل بحيث كنت قادرا على رؤية كل المسامات في جلده أو كل شعرة في رأسه في كل مرة ركزت فيها بصري. من ناحية أخرى رأيت كتل من المادة مسطحة ومليئة بالحواف ولكنها لم تكن تتحرك لأنه لم يكن هناك تذبذبات في الضوء الصادر منها.

    سألت دون خوان عن ماهية هذه الأشياء التي رأيتها. وقال أنه لأن تلك كانت هي المرة الأولى التي أرى فيها كغراب فإن المشاهد لم تكن واضحة وليست مهمة وأنني لاحقا بتكرار التجربة سيمكنني التعرف على كل ما أراه.

    وطرحت عليه موضوع الفروقات التي تبينتها في حركة الضوء. وقل دون خوان :" الأشياء التي هي حية تتحرك دواخلها والغراب يستطيع بسهولة تمييز الشئ الميت أو على وشك الموت لأن الحركة في داخله توقفت أو أخذت تتباطأ في طريقها للتوقف. يستطيع الغراب أيضا أن يميز الشئ الذي يتحرك بسرعة أكبر من اللازم وبنفس الكيفية يستطيع الغراب تمييز الشئ الذي يتحرك بسرعة مناسبة.

    "ماذا يعنيه أن يتحرك الشئ بسرعة أكثر من اللازم أو سرعة مناسبة؟"
    "إن ذلك يعني أن الغراب يستطيع بالفعل تحديد ما هو الشئ الذي يتوجب عليه تجنبه وما هو الشئ الذي يمكن له أن يطلبه. عندما تكون الحركة الداخلية في الشئ أسرع من اللازم فذلك يعني أن الشئ على وشك أن يمتص شيئا بعنف أو أن يقفز للأمام فيقوم الغراب بتجنبه. عندما تكون الحركة الداخلية مناسبة فإن الغراب سيطلب ذلك الشئ".
    "ألا توجد حركة داخلية في الصخور؟"
    "كلا ، ليس الصخور ولا الحيوانات الميتة أو الأشجار الميتة. لكنها جميلة عند النظر إليها. ذلك هو السبب الذي يجعل الغربان تمكث بجوار الجثث. إنها تحب النظر للجثث. لاتوجد أضواء تتحرك في داخلها".

    "لكن عندما يتعفن اللحم ألا يتغير أو يتحرك؟"
    "نعم يتحرك، ولكن تلك حركة مختلفة. ما يراه الغراب حينها هو ملايين الأشياء التي تتحرك داخل اللحم ولها ضوئها الخاص بها وذلك هو ما يحب الغراب رؤيته. ذلك هو حقا منظر لا يمكن نسيانه"
    "هل رأيته أنت يا دون خوان؟"
    "كل إنسان يتعلم كيف يصبح غراب بإمكانه رؤيته. أنت ستراه".

    عند هذه النقطة سألت دون خوان السؤال الذي لا يمكن تجنبه:
    "هل تحولت أنا حقا لغراب؟ أعني إذا رآني شخص آخر هل سيظن أنني غراب عادي؟"
    "كلا. لا يمكنك التكلم بتلك الكيفية عندما تتعامل مع قوة الحلفاء. مثل هذه الأسئلة ليس لها منطق مع ذلك فإن التحول لغراب هو من أسهل الأمور. إنه يكاد يكون مثل المغازلة. إن له فائدة قليلة. مثلما سبق وأن أخبرتك فالدخان ليس لأولئك الذين يبحثون عن القوة. إنه فقط لأولئك الذين يتشوقون لأن يصبحوا من أهل الكشف. أنا تعلمت أن أتحول لغراب لأن هذه الطيور هي الأشد تأثيرا. لا توجد طيور أخرى تقوم بمضايقتها ربما باستثناء الصقور الضخمة الجائعة لكن الغربان تطير في جماعات ويمكنها الدفاع عن بعضها البعض. البشر أيضا لايقومون بإيذاء الغربان وتلك نقطة مهمة. أي إنسان يستطيع تمييز الصقر الكبير خاصة الصقر غير العادي، أو أي طائر آخر غير عادي، ولكن من يهتم بغراب؟ الغراب آمن. حجمه وطبيعته مثاليان. إنه يستطيع الذهاب بأمان لأي مكان دون أن يجتذب الانتباه. من ناحية أخرى من الممكن التحول لأسد أو دب، لكن ذلك خطير. مثل هذا المخلوق حجمه أضخم من اللازم ويتطلب الأمر طاقة كبيرة للتحول إليه. يستطيع الإنسان أيضا أن يتحول إلى جندب أو سحلية أو حتى نملة لكن ذلك أشد خطورة لأن الحيوانات الضخمة تفترس المخلوقات الصغيرة".

    تجادلت معه قائلا أن ما صرح به يعني أن الإنسان تحول فعلا إلى غراب أو جندب أو أي شئ آخر. لكنه أكد أنني أسئ الفهم.

    قال لي: "يتطلب الأمر وقتا طويلا جدا للتحول لغراب صحيح. لكنك لم تتغير ولم تكف عن أن تكون إنسان. هناك شئ آخر".
    "هل يمكن أن تخبرني ما هو ذلك الشئ الأخر يا دون خوان؟"

    "ربما أنت تعرفه الآن بنفسك. ربما لو لم تكن شديد الخوف من فقدان عقلك أو فقدان جسدك لكنت فهمت هذا السر العجيب. لكن ربما يتعين عيك الانتظار إلى أن تتخلص من الخوف لكي تفهم ما أعنيه"

    الحدث الأخير الذي سجلته في كراسة ملاحظاتي الحقلية حدث في سبتمبر 1965. كان ذلك هو خاتمة تعاليم دون خوان ( لكن المؤلف واصل بعد فترة انقطاع ـ المترجم) وسميت أنا ذلك الحدث "حالة خاصة من حالات الواقع غير العادي" لأنها لم تكن ناتجة عن أي من النباتات التي سبق لي استخدامها. وبدا لي أن دون خوان قد تسبب فيها عن طريق التلاعب بالعديد من الإشارات الدالة عليه هو، أي أنه قد سلك سلوكا أمامي بطريقة ماهرة بحيث أنه خلق الانطباع الواضح والمستمر بأنه ليس هو نفسه بل شخص آخر يتظاهر بأنه هو. بسبب ذلك عانيت شعورا قويا بالأزمة: أردت أن أصدق أنه دون خوان مع ذلك لم أستطع التأكد من ذلك، وكانت محصلة الأزمة رعب واعي، رعب شديد بحيث أثر على صحتي لعدة أسابيع. لاحقا فكرت أنه كان من العقل أن أنهي تلمذتي حينها. لم أشارك في التعلم منذ ذلك الحين لكن دون خوان لم يتوقف عن اعتباري تلميذ له. لقد اعتبر انسحابي مجرد فترة ضرورية للتوقف للتأمل أي أنه خطوة أخرى في طريق التعلم ربما تستمر لمدة غير محددة. لكنه منذ ذلك الحين لم يقدم لي المزيد من معرفته.

    كتبت تفاصيل تجربتي الأخيرة ربما بعد شهر من حدوثها رغم أنني كتبت ملاحظات مفصلة عن نقاطها الهامة في اليوم التالي أثناء ساعات توتر عاطفي هائل سبق قمة الرعب التي مررت بها.

    الجمعة 29 أكتوبر 1965

    يوم الخميس 30 سبتمبر 1965 ذهبت لأقابل دون خوان. كانت حالات الواقع غير العادي الضحلة قصيرة المدة تنتابني باستمرار رغم محاولاتي المصرة لإنهائها أو تجاهلها مثلما اقترح دون خوان. شرحت أن حالتي أخذت تزداد سوءا لأن مدة تلك الحالات أخذت في الازدياد. أصبحت أحس إحساسا شديدا بضوضاء الطائرات. كانت ضوضاء محركاتها عندما تمر فوقي تسيطر على انتباهي وتتملكه لدرجة أحس فيها أنني أتبع الطائرة وكأنني راكب فيها أو طائر معها. كان هذا الإحساس مثيرا للضيق بدرجة كبيرة. كانت عدم قدرتي على التخلص منه تثير في نفسي قلقا عميقا.

    بعد أن استمع دون خوان باهتمام لجميع التفاصيل استنتج بأنني أعاني من فقدان نفسي. قلت له أنني ظللت أعاني من هذه الهلوسات منذ الوقت الذي دخنت فيه الفطريات لكنه أصر على أنها تطور جديد. قال أنني سابقا كنت خائفا ولذلك فقط حلمت "أحلاما غير منطقية" لكنني الآن حقيقة مسحور. البرهان هو ان صوت الطائرات العابرة فوقي يمكنه أن يحملني بعيدا. قال أنه عادة فإن صوت جدول أو نهر يمكنه أن يأسر الشخص المسحور الذي فقد نفسه ويحمله بعيدا لموته. ثم طلب مني أن أسرد له جميع نشاطاتي خلال المدة السابقة لمعاناتي من تلك الهلوسات. قمت بسرد جميع النشاطات التي تذكرتها ومن سردي استنتج المكاني الذي فقدت فيه نفسي.

    بدا أن دون خوان في حالة انشغال شديد جدا وهي حالة غير عادية بالنسبة له. تسبب ذلك بصورة طبيعية في زيادة ضيقي. لم يكن له فكرة محددة عن ماهية ما تسبب في أسر نفسي ولكن مهما كانت فقد كان القصد منه هو قتلي أو إصابتي بمرض شديد. ثم قام بإعطائي تعليمات دقيقة جدا عن "وضعية قتالية" وهي وضعية جسمية معينة أضع فيها نفسي أثناء بقائي في بقعة الأرض الصديقة لي. كان يتوجب علي الاستمرار في هذه الوضعية التي أطلق عليها دون خوان "وضعية قتالية".

    سألته ما هو المقصود بذلك ومن الذي سأقوم بمقاتلته. أجاب بأنه ذاهب ليرى من هو الذي أخذ نفسي ومعرفة ما إذا كان بالإمكان استردادها وحتى عودته يتوجب علي البقاء في الوضعية القتالية. وقال أن الوضعية القتالية هي فقط مجرد احتياط لحالة أن يحدث شئ أثناء غيابه وأنه يتوجب اتخاذها فيما لو تعرضت للهجوم. كانت تشتمل على صفق كفي على باطن ساقي وفخذي الأيمن وضرب الأرض بقدمي الأيسر بطريقة رقص يتوجب علي القيام بها أثناء مواجهتي للمهاجم.

    وحذرني من أن هذه الوضعية لا يجب اتخاذها إلا في حالات التأزم الشديد، وأنه طالما لم يكن هناك خطر في مدى البصر فما علي سوى الجلوس متربعا على بقعتي الصديقة. وقال أنه في حالات الخطر الشديد جدا يمكنني أن ألجأ لإجراء دفاعي أخير: قذف العدو بشئ. قال لي أنه في العادة يقوم الإنسان بقذف شئ مشحون بالقوة الروحانية ولكن بما أنني لم أكن أملك شيئا كهذا فيتوجب علي استخدام أي حجر حجمه يملأ قبضة يدي اليمنى. حجر يمكنني إمساكه عن طريق ضغطه على كفي بإبهامي. قال إن مثل تلك التقنية لا يجب استعمالها إلا إذا تأكد الإنسان أنه معرض لفقدان حياته. وقال أن قذف الشئ يجب أن تصاحبه صيحة قتالية: صرخة لها قدرة أن تقود الحجر لهدفه. وشدد على أنني يجب أن أكون حريص ومتأمل فيما يخص الصيحة وأنني يجب ألا استعملها جزافا بل تحت ظروف شديدة الجدية.

    سالته ماذا يعني بظروف شديدة الجدية وقال أن الصيحة القتالية أو الصرخة هي شئ يبقى مع الإنسان طيلة عمره ولذلك يتوجب أن تكون جيدة منذ البداية وأن الطريقة الوحيدة لأدائها بصورة صحيحة هي إبعاد الخوف الطبيعي في نفس الإنسن والتسرع إلى أن يمتلئ الإنسان تماما بالقوة الروحانية وعندها ستنفجر الصرخة مشحونة بالاتجاه وبالقوة. قال أن تلك هي ظروف الجدية اللازمة لإطلاق الصيحة.

    سألته عن القوة التي يفترض أن تملأ الإنسان قبل أن يطلق الصيحة. قال ان ذلك هو شئ يسري في الجسد آتيا من الأرض التي يقف عليها الإنسان، إنه نوع من القوة ينبعث من البقعة الصديقة ذلك هو وصفه الدقيق. إنها قوة تجذب الصيحة للخارج. إذا تم التعامل مع تلك القوة بصورة صحيحة فإن الصيحة القتالية ستكون مثالية.

    سألته مرة أخرى عما إذا كان يظن أن شيئا سيحدث لي. قال أنه لا يعلم شيئا عن ذلك ونصحني بصورة درامية أن أظل ملتصقا ببقعتي طالما كان الموقف يتطلب ذلك لأن تلك هي الحماية الوحيدة المتاحة لي ضد أي شئ يحدث.



    بدأت أشعر بالرعب وطلبت منه أن يكون أكثر تحديدا. قال أن كل ما يعرفه هو أنني يجب ألا أتحرك تحت أي ظرف من الظروف وأنني يجب ألا أدخل المنزل أو غابة الشجيرات المحيطة به، وفوق كل ذلك يتوجب علي ألا أتلفظ بأي كلمة حتى لو كانت موجهة له. وقال أنني يمكن أن أغني أغاني مسكاليتو الخاصة بي إذا شعرت بالفزع الشديد جدا ثم قال أنني أعرف ما يكفي عن هذه الأمور بحيث أن الأمر لا يتطلب تحذيري مثل طفل صغير عن أهمية تنفيذ كل شئ بطريقة صحيحة.

    تسببت نصائحه في حالة من الضيق الشديد بالنسبة لي. كنت متأكدا أنه يتوقع حدوث شئ. سألته لماذا أوصاني بان أغني أغاني مسكاليتو الخاصة بي وما هو الشئ الذي يعتقد أنه سيخيفني. وضحك وقال أنني ربما ساخاف من البقاء وحيدا. ودخل المنزل وأغلق الباب خلفه. نظرت لساعتي فكانت تشير للسابعة مساء. جلست في هدوء لمدة طويلة. لم يكن هناك أي صوت يأتي من غرفة دون خوان. كان كل شئ هادئ. كانت الريح تهب بقوة ففكرت في ان أجري نحو سيارتي وأحضر معطفي لكنني لم أجرؤ على مخالفة نصيحة دون خوان. لم أكن نعسان بل كنت مرهق وجعلت الريح الباردة الراحة شيئا مستحيلا بالنسبة لي.

    بعد أربعة ساعات سمعت صوت دون خوان يسير حول المنزل. فكرت أنه ربما خرج من الباب الخلفي لكي يقضي حااجته في الخلاء. ثم ناداني بصوت مرتفع:" ياولد! يا ولد! أنا أحتاجك هنا".

    كدت أهرع إليه. كان الصوت هو صوته لكن اللهجة كانت مختلفة وكذلك الكلمات لم تكن كلماته المعتادة. لم يسبق لدون خوان أبدا أن ناداني قائلا "ياولد". لذلك بقيت في مكاني. سرت القشعريرة في ظهري. وبدأ يصيح مرة أخرى مستعملا نفس العبارة أو مايشابهها.

    سمعته يسير داخل الجانب الخلفي من منزله. وتعثر فوق كومة عيدان وكأنه لم يكن يعلم أنها موجودة في موضعها ذاك. وأتى للبرندة وجلس قرب الباب وظهره إلى الحائط. بدا أن جسمه أثقل من المعتاد. لم تكن حركاته بطيئة أو مرتبكة فقط كانت أثقل من المعتاد. وتهالك على الأرض بدلا من الإنزلاق برشاقة مثلما اعتاد، كما أنه لم يجلس على بقعته الصديقة في حين أن دون خوان لا يمكن أبدا أن يجلس في أي مكان سواها.

    ثم تكلم معي مرة أخرى وسألني لماذا أرفض المجئ إليه في حين أنه يحتاج لي. تكلم بصوت مرتفع. لم أرد أن أنظر إليه لكنني شعرت برغبة جامحة في أن أراقبه. بدأ يهتز بصورة خفيفة من جانب لآخر. غيرت أنا وضعيتي واتخذت وضعية القتال التي علمني إياها واستدرت لأواجهه. كانت عضلاتي متصلبة ومتوترة بصورة غريبة. لا أدري ما الذي دفعني لاتخاذ وضعية القتال ولكن ربما كان ذلك بسبب أنني اعتقدت أن دون خوان يحاول متعمدا إخافتي عن طريق خلق الانطباع بأن الشخص الذي رأيته ليس هو. شعرت أنه حريص جدا على القيام بأفعال لا يقوم بها في العادة لكي يثير الشك في عقلي. كنت خائفا ولكنني في نفس الوقت كنت أحس أنني متسامي عن كل ذلك لأنني كنت في الواقع أنظر حولي وأحلل كل سلسلة الأحداث تلك.

    عند تلك النقطة نهض دون خوان. كانت حركاته غير مألوفة على الإطلاق. وضع ذراعيه أمام جسمه ثم دفع بهما نفسه للأعلى رافعا نصفه الخلفي أولا ثم أمسك بالباب وأقام لنصف الأعلى من جسمه. شعرت بالدهشة للدرجة التي كنت ألفت بها حركاته المعتادة وحفظتها وكيف أنه خلق في نفسي شعورا رهيبا عن طريق جعلي أرى دون خوان لا يتحرك بالطريقة التي يتحرك بها دون خوان.

    وخطا خطوتين في اتجاهي. كان يمسك بالجزء الأسفل من ظهره بكلتا يديه وكأنه يحاول الوقوف باستقامة أو كأنه يعاني من ألم. وتأوه وتنفس بصوت عال وكأن أنفه مسدود. وقال أنه سيأخذني معه وأمرني بالنهوض ومتابعته. ومشى نحو الجانب الغربي من المنزل. وغيرت وضعيتي لكي أواجهه، واستدار وواجهني. لم أتحرك من بقعتي الصديقة فقد كنت وكأنني ملصق فيها بالغراء.

    وصاح دون خوان :"ياولد! لقد أمرتك أن تتبعني. إن لم تأت فسوف أجرك جرا!".

    وسار نحوي. وبدأت أضرب بطن ساقي وفخذي وأرقص سريعا. ووصل لحافة البرندة أمامي و كاد أن يلمسني. وباهتياج جهزت جسمي لاتخاذ وضعية قذف الحجر لكنه غير اتجاهه وتحرك مبتعدا عني ودخل غابة الشجيرات على يساري. أثناء ابتعاده في لحظة من اللحظات استدار نحوي فجأة لكنني كنت أواجهه.

    واختفى عن نظري. واصلت في الاحتفاظ بوضعية القتال لمدة قصيرة بعدها ولكن حيث أنني لم أره بعدها فقد عدت للجلوس متربعا وظهري للصخرة. لكنني كنت حينها في حالة رعب شديد فعلا. أردت الركض هاربا بعيدا لكن حتى تلك الفكرة أفزعتني أكثر. شعرت أنني كنت سأكون تحت رحمته إذا أمسك بي وأنا في طريقي لسيارتي. بدأت أغني أغاني البيوتي التي كنت أحفظها. بصورة ما شعرت أنها مهمة حينها. كانت مجرد مهدئات لكنها نجحت فعلا في جعلي استرخى. وكررت الغناء المرة تلو المرة.

    في حوالي الساعة 2:45 سمعت صوتا داخل المنزل. على الفور غيرت وضعيتي. تم فتح الباب بعنف وخرج منه دون خوان. كان يلهث ويمسك بحنجرته. وانحنى أمامي وتأوه. وطلب مني بصوت عال متهدج أن آتي وأساعده. ثم صرخ مرة أخرى آمرا إياي أن أحضر وأساعده. وصدرت منه أصوات غرغرة. توسل لي أن آتي لأساعاده لأن هناك شئ يخنقه. وزحف نحوي علي يديه ورجليه حتى أصبح على بعد نحو أربعة خطوات مني. ومد يديه نحوي وقال :"تعال هنا!" ثم نهض. كانت ذرعية ممدوتين نحوي. بدا وكأنه متأهب للإمساك بي. وضربت الأرض بقدمي وضربت باطن ساقي وفخذي. كنت في حالة يرثى لها من الرعب.

    وتوقف وسار نحو جانب المنزل ومن ثم إلى غابة الشجيرات. وغيرت وضعيتي لكي أواجهه. ثم جلست مرة أخرى. لم أرد الاستمرار في الغناء. بدا أن طاقتي أخذت في التضاؤل كان جسمي بكامله يؤلمني وكانت كل عضلاتي متصلبة ومتشنجة بدرجة مؤلمة. لم أدر بأي شئ أفكر. لم أستطع أن أقرر هل أغضب على دون خوان أم لا. فكرت في أن أقفز وأفر منه لكنني كنت متأكدا أنه كان سيمسك بي وكأنني خنفسة. شعرت حقا بالرغبة في البكاء. شعرت بيأس شديد. فكرة أن دون خوان بذل كل هذا الجهد ليخيفني جعلتني أحس بالرغبة في البكاء. لم أستطع إيجاد سبب يفسر هذا العرض الهائل الذي قام به أمامي، كانت حركاته متقنة بدرجة أربكتني. لم يكن الأمر هو أنه كان يحاول أن يتحرك بالطريقة التي تتحرك بها إمرأة بل كان الأمر يبدو كما لو أنها إمرأة تحاول أن تقلد دون خوان. أتاني الإنطباع أنها كانت تحاول بجهد أن تقلد طريقة دون خوان الوقورة في التحرك لكنها كانت أثقل في حركاتها وليس لها خفة دون خوان. الشخص الذي كان أمامي كائنا ما كان خلق في نفسي الانطباع بأنه إمرأة أصغر سنا من دون خوان تحاول أن تقلد الحركات البطيئة الخاصة برجل عجوز.

    هذه الأفكار ألقت بي في حالة فزع. بدأ جندب في إصدار صوت عال بجواري. لاحظت غنى صوته وتخيلت كيف سيكون فيما لوكان صوته غليظا. وبدأ صوت الجندب يضمحل. فجأة ارتعد جسمي بكامله. واتخذت وضعية القتال مرة أخرى وواجهت الاتجاه الذي أتى منه صوت الجندب. بدأ الصوت في أخذي مرة أخرى، بدأ في أسري قبل أن ألاحظ أنه تقليد لصوت جندب. اقترب الصوت مرة أخرى وأصبح عاليا بصورة مرعبة. فجأة توقف صوت الجندب. وجلست مرة أخرى فورا لكنني واصلت الغناء. بعد لحظة لا حظت شكل رجل يجري في اتجاهي من ناحية معاكسة لتلك التي كان صوت الجندب يأتي منها. وضربت باطن ساقي وفخذي وضربت الأرض بقدمي بقوة واهتياج. ومر الشكل بجانبي بسرعة شديدة وكاد أن يمسني. بدا أنه كلب. وشعرت برعب شديد بحيث تخدرت. لا أتذكر ماذا شعرت به أو فكرت به بعد ذلك.

    كان ندى الصباح منعشا. شعرت أنني أحسن حالا. مهما كانت تلك الظاهرة فقد بدا انها انسحبت. كانت الساعة هي الخامسة صباحا عندما فتح دون خوان الباب بهدوء وخرج. ومد ذراعيه وتثائب ونظر لي. وسار خطوتين في اتجاهي وهو مستمر في التثاؤب. رأيت عينيه خلف جفنين نصف مغلقين. قفزت للأعلى فقد عرفت أن الشخص الذي هو أمامي ليس دون خوان.

    التقطت صخرة صغيرة حادة الحواف من الأرض. كانت قريبة من يدي اليمنى. لم أنظر للصخرة بل أمسكت بها فقط عن طريق ضغطها بين ابهمي وكفي. واتخذت الوضعية التي علمني إياها دون خوان. شعرت بقوة غريبة تملأ جسمي خلال ثوان قليلة. ثم صرخت وقذفت الصخرة نحوه. فكرت أن صرختي كانت رائعة. في تلك اللحظة لم أهتم بما إذا كنت سأعيش أو سأموت. شعرت أن الصرخة كانت هائلة في قوتها وقدرتها على التأثير. كانت حادة وطويلة وقد ساعدتني حقا في توجيه قذيفتي بدقة. واهتز الشكل الواقف أمامي وصرخ وترنح متجها نحو جانب المنزل ومن ثم لغابة الشجيرات مرة أخرى.

    تطلب الأمر مني عدة ساعات لكي أهدأ مرة أخرى. لم أعد قادرا على الجلوس ووواصلت تحريك قدمي بطريقة الركض دون تحرك وكنت أتنفس من فمي لكي أحصل على المزيد من الهواء.

    في حوالي الحادية عشرة صباحا خرج دون خوان مرة أخرى. كنت على وشك القفز ولكنني سرعان ما تبينت أن الحركات هي حركاته المعتادة. ذهب مباشرة لبقعته الصديقة وجلس بطريقته المعتادة المألوفة. نظر لي وابتسم. كان ذلك هو حقا دون خوان! ذهبت إليه وبدلا من أن أكون غاضبا قبلت يده. حينها كنت أعتقد جازما أن ما حدث لم يكن تمثيلية قام بها لإحداث تأثير درامي بل أن شخصا آخر قام بتقليده لكي يسبب لي الأذى أو يقتلني.

    بدأ الحديث بيننا بتخمين عن من هي المرأة المزعوم أنها أخذت نفسي. ثم طلب مني دون خوان أن أحكي له كل تفاصيل التجربة.

    سردت جميع تفاصيل التجربة بتمهل وتركيز. كان يضحك طول الوقت وكأن الأمر كان نكتة. عندما انتهيت قال لي:" لقد أبليت حسنا. لقد فزت بالمعركة لاسترداد نفسك. لكن هذا الأمر أشد جدية عما ظننت. لم تكن حياتك تسوى شيئا الليلة الماضية. من حسن الحظ انك تعلمت شيئا في الماضي. مالم تكن قد حزت القليل من التدريب لكنت الآن ميتا لأن الشئ الذي رأيته الليلة الماضية كان يهدف حقا لقتلك".

    "كيف يمكن لها أن تتشكل بصورتك يا دون خوان؟"
    " الأمر بسيط جدا فهي ديابليرا ولها معاون جيد في الجانب الآخر. لكنها لم تتقن تقليدي وتبينت أنت خدعتها".
    "هل المساعد في الجانب الآخر هو نفسه الحليف؟"
    "كلا، المساعد هو معاون الديابليرو. المساعد هو روح تعيش في الجانب الآخر من العالم وتساعد الديابليرو في تسبيب المرض والألم. إنها تساعده في القتل".

    "هل يمكن أن يكون للديابليرو حليف يا دون خوان؟"
    "الديابليرو هم في الواقع من لديهم حلفاء، لكن قبل أن يتمكن الديابليرو من تأليف حليف فإنه في العادة يتخذ مساعد ليساعده في مهماته".

    "ماذا عن المرأة التي تصورت بصورتك يا دون خوان، هل لديها مساعد وليس حليف؟"
    "لا أدري هل لديها حليف أم لا. بعض الناس لا يحبون قوة الحليف و يفضلون المساعد. تأليف الحليف عمل صعب. الأسهل هو الحصول على حليف في الجانب الآخر".
    "هل تظن أن بإمكاني الحصول على مساعد؟"
    "لكي تعرف ذلك يتوجب عليك تعلم الكثير فوق ما تعلمته. نحن الآن عدنا مرة أخرى للبداية وكأنه نفس اليوم الذي قابلتني فيه المرة الأولي وطلبت مني أن أحدثك عن مسكاليتو ولم أستطع أنا لأنك ما كنت ستفهمني. الجانب الآخر هو عالم الديابليرو. أعتقد أن الشئ الأفضل هو أن أخبرك بشعوري بنفس الكيفية التي أخبرني بها أستاذي بشعوره. كان هو ديابليرو ومحارب كانت روحه تميل نحو قوة العالم وعنفه. لكنني لست هذا ولا ذاك. تلك هي طبيعتي. لقد رأيت عالمي منذ البداية. بالنسبة لجعلك ترى عالم أستاذي لا أستطيع فعل شئ سوى أن أضعك أمام الباب وسيتوجب عليك أن تقرر بنفسك. سيتوجب عليك أن تتعلم عنه بجهدك الخاص. يجب أن اعترف الآن أنني ارتكبت خطأ. أرى الآن أن الطريقة المثلى للبدء كانت هي التي اتبعتها أنا. عندها سيكون من السهل رؤية كيف أن الفرق بسيط وهائل في الوقت نفسه. الديابليرو هو الديابليرو والمحارب هو المحارب. أو الرجل الذي يقاطع مسارات الحياة هو كل شئ. أنا اليوم لست محاربا ولا ديابليرو. بالنسبة لي لا يوجد سوى السلوك في الطرق ذات القلب. عليها أسافر والتحدي الوحيد الذي يستحق الجهد بالنسبة لي هو السير عبر الطريق حتى نهايته. وهكذا فأنا استمر في السير وأنظر وأستمر في السير وأنظر وأنا ألهث".

    وتوقف عن الكلام. عكس وجهه حالة مزاجية غريبة فقد بدا أنه جاد بصورة غير عادية. لم أدر ماذا أسال أو أقول. وواصل الكلام:
    " الشئ المهم تعلمه هو كيفية الوصول للشق الموصل بين العالمين وكيفية دخول العالم الآخر. هناك شق يوصل بين العالمين، عالم الديابليرو وعالم البشر الأحياء. هناك مكان يتداخل فيه العالمان. الشق موجود في ذلك المكان. إنه يفتح ويغلق مثل باب أمام الريح. لكي يصل الإنسان إلى هناك فعليه أن يستعمل قوة إرادته. يجب عليه أن يكون في نفسه رغبة هائلة في ذلك العالم، توجه بكامل ذات اإنسان. ولكن يتوجب عليه أن يفعل ذلك بدون مساعدة من أي قوة أو من أي إنسان. يجب على الأنسان أن يرغب وأن يتأمل إلى أن تأتي اللحظة التي يصبح فيها جسمه قادرا على القيام بالرحلة. تلك اللحظة علامتها حدوت رعشة مستمرة في الأطراف وقئ شديد. عادة يعجز الإنسان عن الأكل والنوم ويهزل جسمه. عندما تكف التشنجات عن التوقف فذلك يعني أن الأنسان جاهز للسير وعندها يظهر الشق الواصل بين العالمين أمام عينيه مثل باب هائل، شق ممتد للأعلى والأسفل. عندما يفتح الشق يتوجب على الإنسان أن ينزلق عبره. من الصعب رؤية الجانب الآخر من الحدود. إنه عاصف مثل عاصفة رملية. الريح تعصف وتدور فيه. حينها يتوجب على الإنسان أن يسير في أي اتجاه شاء. قد تطول الرحلة أو تقصر اعتماد على مدى قوة إرادته. الرجل القوي الإرادة تكون رحلته قصيرة. الرجل الضعيف المهتز القرار يسير طويلا وتكون رحلته مليئة بالمهالك. بعد تلك الرحلة يصل الإنسان لما يشبه الهضبة. من الممكن تبين بعض ملامحها بوضوح. أنها سهل مرتفع عن الأرض. من الممكن التعرف عليه بواسطة الريح التي تصبح هناك أشد عنفا ضاربة بسياطها ودائرة في المكان. في قمة تلك الهضبة يوجد المدخل للعالم الآخر. وهناك يوجد جلد يفصل بين العالمين. الموتى يعبرونه بهدوء أما نحن فيتوجب علينا تحطيمه بصيحة. تجمع الريح قوتها، نفس الريح الهائجة التي تهب على الهضبة. وعندما تجمع الريح ما يكفي من القوة فيجب أن يكون الرجل أيضا صلبا لأنه يتوجب عليه أن يحارب الريح. كل ما يحتاجه هو دفعة لطيفة فهو لايريد أن يتم دفعه لنهاية العالم الآخر. حالما يدخل الإنسان للجانب الآخر فيتوجب عليه التجول فيه. حظه الحسن سيكون هو العثور على مساعد في منطقة قريبة وليست بعيدة من المدخل. يتوجب على الإنسان عندها أن يطلب منه المساعدة. يتوجب عليه أن يطلب بكلامه هو من المساعد أن يعلمه ويجعل منه ديابليرو. عندما يوافق المساعد فإنه يقوم بقتل الإنسان في موضعه ذلك ومن ثم يقوم بتعليمه أثناء موته. عندما تقوم بهذه الرحلة ربما تجد ديابليرو عظيم في المساعد الذي يقوم بقتلك وتعليمك. لكن معظم الأحيان لا يلاقي الإنسان سوى بروهو صغير ليس لديه سوى القليل جدا ليعلمه. ولكن لا أنت ولا هو له القدرة على الرفض. أفضل شئ هو العثور على مساعد ذكر لئلا يصبح الإنسان فريسة لديابليرا تجعل الإنسان يعاني بدرجة لا يمكن تصديقها. النساء دائما هن كذلك. لكن ذلك يعتمد على الحظ وحده ما لم يكن أستاذ الإنسان هو ديابليرو عظيم وفي تلك الحالة سيكون له العديد من المساعدين في العالم الآخر ويستطيع أن يوجه الإنسان ليرى مساعد معين. كان أستاذي هو أحد هؤلاء وقد وجهني لكي أقابل مساعده الروحاني. بعد عودتك لن تكون نفس الشخص. ستكون ملزما بالعودة لمساعدك عدة مرات. وستكون ملزما بالتجول أبعد وأبعد من المدخل إلى أن تبتعد ذات يوم عن المدخل بحيث لن يكون بوسعك العودة. بعض الأحيان يستطيع الديابليرو أن يمسك بنفس ويدفع بها عبر الشق ويتركها بحوزة مساعده إلى أن يقوم بسرقة كل قوة إرادة الإنسان. لكن في حالات أخرى كحالتك هذه فإن النفس تنتمي لإنسان قوي الأرادة ويتوجب على الديابليرو الاحتفاظ بها في جرابه لأنه من الصعب حملها بأي طريقة أخرى. في مثل تلك الحالات مثلما حدث معك يمكن أن تحل المسألة بالقتال، قتال إما أن يفوز فيه الديابليرو بكل شئ أو يخسر كل شئ. هذه المرة هي خسرت المعركة واضطرت لإطلاق سراح نفسك. لو فازت كانت ستأخذها لمساعدها ليحتفظ بها لديه".
    "لكن كيف فزت أنا؟"

    "لم تغادر بقعتك الصديقة. لو كنت تحركت بوصة واحدة بعيدا عنها لكنت هلكت. لقد اختارت فترة غيابي على أساس أنها أفضل وقت للهجوم وقد نفذت هجومها جيدا. لقد فشلت لأنها لم تأخذ طبيعتك العنيفة في الحسبان ولأنك لم تغادر بقعتك والتي أنت لايمكن هزيمتك فوقها".
    "كيف كانت ستقتلني لو تحركت؟"
    "كانت ستضربك مثل صاعقة. لكن فوق كل شئ كانت حينها ستحتفظ بروحك وعندها كنت ستذبل وتموت".
    "ماذا سيحدث الآن يا دون خوان؟"
    "لاشئ. لقد فزت واستعدت نفسك. كانت معركة جيدة. لقد تعلمت الكثير الليلة الماضية".

    بعد ذلك بدأنا البحث عن الصخرة التي قمت بقذفها. قال أننا لو عثرنا عليها فسنكون متأكدين تماما أن الهجوم قد انتهى. بحثنا لمدة ثلاثة ساعات تقريبا. كان لدي إحساس أنني سأتعرف عليها لو رأيتها لكنني لم أستطع ذلك".

    نفس ذلك اليوم في وقت مبكر من المساء أخذني دون خوان للتلال المحيطة بمنزله. هناك أعطاني توجيهات طويلة ومفصلة عن طرق قتالية محددة. في لحظة عندما كنت أقوم بتكرار خطوات معينة وجدت نفسي وحيدا. كنت قد ركضت أعلى منحدر وأخذت ألهث. كنت أتصبب عرقا وفي الوقت نفسه كنت أشعر بالبرد الشديد. ناديت دون خوان عدة مرات لكنه لم يرد وبدأت أشعر بضيق غريب. سمعت صوت حفيف في الشجيرات وكأنما هناك من هو قادم نحوي. أنصت بانتباه لكن الصوت توقف. ثم انبعث مرة أخرى بدرجة أعلى وأقرب. حينها شعرت أن أحداث الليلة الماضية ستتكرر. خلال ثوان قليلة تنامى فزعي لدرجة هائلة. اقترب الحفيف في الشجيرات أكثر ووهنت قوتي. أردت أن أصرخ أو أهرب أو يغمى علي. وتهالكت ركبتاي وسقطت على الأرض متأوها. لم أستطع حتى إغلاق عيني. بعد ذلك لم أتذكر سوى أن دون خوان أشعل نارا وقام بتدليك عضلات ذراعي وساقي المتصلبة.

    بقيت في حالة ضيق عظيم لعدة ساعات. لاحقا شرح دون خوان أن ردة فعلي غير المتزنة على أنها شئ شائع. قلت له أنني لا أستطيع أن أجد السبب الذي جعلني أفزع بتلك الدرجة فقال أن ذلك لم يكن هو الخوف من الموت بل الخوف من فقدان نفسي وهو خوف شائع لدى الرجال الذين ليس لهم مشيئة لا تقهر.

    كانت تلك التجربة هي آخر تعاليم دون خوان. منذ ذلك الحين تجنبت أن آخذ المزيد من الدروس. ورغم أن دون خوان لم يغير من توجهه الأستاذي نحوي فإنني أظن أنني انهزمت أمام عدو العارفين الأول.

    =========
    بقية هذا الكتاب عبارة عن تحليل أنثروبولوجي ليس له أهمية من الناحية الروحانية لذلك سنواصل هذه الرحلة لاحقا إنشاء الله مع كاستانيدا وطريق التولتيك والجزء التالي سيكون عن تصفية التفس وتهذيبهاتقنيات الترقية الروحية للوصول لحالات المشاهدة ودخول العوالم الاخرى والتي يمكن لأي إنسان أن يمارسها، وفي حين أن دون خوان استعمل النباتات المهلوسة مع المؤلف عند هذه المرحلة ففي المراحل اللاحقة يؤكد له أنها لا تستعمل عادة إلا مع الأشخاص البعيدين جدا عن الروحانية وأن ضرر تلك النباتات شديد .

    (عدل بواسطة محمد عثمان الحاج on 07-30-2009, 05:50 PM)

                  

08-06-2009, 06:25 PM

محمد عثمان الحاج

تاريخ التسجيل: 02-01-2005
مجموع المشاركات: 3514

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: محمد عثمان الحاج)

    حالما يترقى السالك الصادق في طريق المعرفة وتبدأ بصيرته في التفتح فأول ما يصطدم به هو القرين وعالم الجن الذين سماهم دون خوان في البداية الحلفاء ثم لاحقا الكائنات الغير عضوية. ننتقل لبداية تعرف المؤلف على هذا العالم في الكتاب الثاني: "واقع منفصل"، وفي بدايته يقوم المؤلف بزيارة لبروهو آخر صديق لدون خوان ويعمل كمعالج بالأعشاب وهو دون فيسنتي ميدرانو، ويبدو أن كاستانيدا كان يرغب في عرض ما تعلمه من دون خوان على البروهو الآخرين ليرى هل يتبعون جميعا نفس المفاهيم أم لا. لكن دون فيسنتي امتنع عن تقديم معلومات لكاستانيدا وبدلا من ذلك أعطاه شتلات وطلب منه أن يغرسها في مكان نائي لا يمر به الناس، وأخذ المؤلف الشتلات لمكان نائي بسيارته ونزل من السيارة وسار بعيدا وغرس الشتلات وعندما رجع ولدهشته الشديدة وجد ثلاثة أشخاص يحيطون بالسيارة في تلك البقعة النائية التي لايوجد قربها أية مدينة أو قرية أو مساكن، طلبوا منه أن يأخذهم معه ولكن لم يكن في سيارته متسع لهم فطلبوا منه أن يعطيهم مالا ليركبوا الحافلة فلم يكن معه مال وفي النهاية اضطر لتركهم والذهاب في طريقه وعندما حكى الحكاية لدون خوان أكد له دون خوان أن هؤلاء لم يكونوا من البشر بل هم خدام دون فيسنتي ميدرانو "حلفائه" ودار الحوار التالي:

    هز دون خوان رأسه من جانب لآخر وبلهجة نصف ضاحكة عبر عن حيرته بسبب ما أسماه حظي الجيد بدرجة مذهلة. قال أن زيارتي لدون فيسنتي كانت مثل دخول عرين أسد مسلحا بغصن شجرة. بدا أن دون خوان متضايق لكنني لم أجد أي سبب لتوجسه. كان دون فيسنتي رجلا وسيما. كان يبدو نحيلا وعيونه التي تأسر من ينظر إليها تجعله يبدو وكأنه مخلوق من الأثير وليس من لحم ودم. قلت لدون خوان كيف يمكن لإنسان بهذا الجمال أن يكون خطيرا.
    "أنت أحمق جدا" قال لي دون خوان وقد بدت عليه الجدية لوهلة. "هو لن يؤذيك بنفسه . المعرفة هي القوة ولكن حالما يبدأ الإنسان رحلة المعرفة فإنه يصبح غير مسؤول عما يحدث للآخرين الذين يحتكون به. كان يتوجب عليك زيارته بعد أن تتعلم ما يكفي لكي تحمي نفسك ليس منه هو شخصيا بل من القوة التي قام بترويضها. والتي هي بالمناسبة ليست ملكا له هو أو أي إنسان آخر. عندما عرف فيسنتي أنك صديقي افترض أنك تعرف كيف تحمي نفسك ومن ثم قدم إليك هدية. لابد أنه أحبك ولابد أنه قدم إليك هدية عظيمة لكنك لم تستفد منها ويا للأسف".

    24 مايو 1968
    ظللت أضغط على دون خوان ليحدثني عن هدية دون فيسنتي طيلة اليوم. بينت له بطرق عديدة أنه يجب أن يأخذ في الحسبان الفرق بيننا وقلت له أن ما يبدو سهلا ومفهوما بالنسبة له قد يكون مستغلق الفهم كليا بالنسبة لي.
    في النهاية قال لي: "كم شتلة أعطاك إياها؟"

    قلت له أربعة لكن الحقيقة كانت أنني لم أتذكر. ثم أراد دون خوان معرفة كل ما حدث منذ اللحظة التي تركت فيها دون فيسنتي وحتى قبل توقفي على جانب الطريق، لكنني لم أستطع تذكر ذلك أيضا.

    "عدد الشتلات مهم وكذلك ترتيب الأحداث. كيف لي أن أشرح لك ماهية هديته إن كنت أنت نفسك لا تتذكر مذا حدث؟"
    كافحت بلا جدوى لكي أتخيل سلسلة الأحداث.

    "لو تذكرت كل ماحدث سأستطيع على الأقل أن أشرح لك كيف فرطت أنت في هديتك". بدا أن دون خوان منزعجا جدا وحثني بلا هوادة على التذكر ولكن بدا كما لو أن ذاكرتي صفحة بيضاء.
    "في رأيك ما هو الخطأ الذي ارتكبته يا دون خوان؟" قلت له ذلك فقط لكي لا ينقطع خيط الحديث بيننا.
    "كل شئ"
    "لكنني اتبعت تعليمات دون فيسنتي حرفيا"
    "وماذا إذن؟ ألم تفهم أن اتباع تعليماته هو أمر لا معنى له؟"
    "لماذ؟"
    "لأن هذه التعليمات مصممة لإنسان من أهل الكشف وليس لإنسان جاهل لم يخرج من التجربة حيا إلا بسبب حظه الجيد. لقد ذهبت لمقابلة فيسنتي بدون أن تكون جاهزا لذلك. هو أحبك وقدم لك هدية. تلك الهدية كان يمكن لها أن تكلفك حياتك بكل سهولة".

    "ولكن لماذا أعطاني شيئا مهولا كهذا؟ لو كان هو ساحرا لعرف أنني لا أعرف شيئا".
    "كلا ما كان سيرى ذلك بطريق الكشف. بالنسبة لأهل الكشف أنت تبدو كما لو أنك تعلم لكن الحقيقة هي أنك لا تعرف الكثير".

    قلت له أنني متأكد جدا من أنني لم أتظاهر أبدا بالمعرفة أمامه على الأقل لم أفعل ذلك عن قصد.
    "لم أقصد ذلك. لو كنت تتظاهر بالمعرفة فإن دون فيسنتي كان سيرى ذلك بطريق الكشف. هذا أسوأ من التظاهر بالمعرفة. عندما أنظر إليك أنا بعين البصيرة فإنك تظهر لي وكأنك تعرف الكثير لكنني أنا شخصيا أعرف أنك لا تعرف".
    "ما هو الشئ الذي أظهر أنا وكأنني أعرفه؟"
    "أسرار القوة الروحانية بالطبع، معرفة البروهو. وهكذا عندما رآك فيسنتي بعين الكشف قدم لك هدية وأنت تعاملت معها بالطريقة التي يتعامل معها كلب مع الطعام عندما تكون بطنه متخمة. الكلب يتبول على الطعام عندما يعجز عن تناوله حتى لا يتناوله الكلاب الآخرين. أنت فعلت ذلك بالهدية. الآن سوف لن نعرف أبدا حقيقة ما حدث. لقد فقدت شيئا كبيرا فيا للتبذير! "

    وهدأ لبعض الوقت ثم هز أكتافه وابتسم.
    "الشكوى لا تجدي لكن من الصعب الكف عنها. إن استلام هدايا قوة روحانية شئ نادر الحدوث في حياة الإنسان لذلك فهي نادرة وثمينة. خذني أنا على سبيل المثال. لم يقدم لي أحد أبدا مثل تلك الهدية. وبحسب ما أعرفه فإن من تلقوا تلك الهدايا قليلين جدا. "
    "الآن فهمت ماترمي إليه يا دون خوان. هل هناك أي طريقة لكي أستنقذ بها الهدية؟"
    " يعجبني سماع ذلك منك. أحب ما تقوله. لكن لا توجد وسيلة يمكن لأحد القيام بها لاستنقاذ هديتك".


    25 مايو 1968
    قضى دون خوان اليوم بكامله تقريبا وهو يشرح لي كيف أقوم بصنع شراك للقبض على الحيوانات الصغيرة. ظللنا نقطع الأغصان وننظفها طيلة الفترة الصباحية تقريبا. كانت هناك أسئلة عديدة في عقلي. اضطررت للحديث معه أثناء العمل لكنه علق على ذلك ضاحكا بأنه بيننا نحن الاثنين فأنا الوحيد الذي يستطيع تحريك يديه وفمه في نفس الوقت. في النهاية جلسنا لنرتاح وانفجرت أنا بالسؤال :
    " كيف هو النظر بعين الكشف والبصيرة يا دون خوان؟"
    "يتوجب عليك أن تكون من أهل الكشف لكي تعرف إجابة ذلك السؤال. لا أستطيع أن أخبرك ذلك."
    "هل هو سر يجب علي ألا أعرفه؟"
    "كلا ولكن كل ما في الأمر أنني لا أستطيع وصف ذلك"
    "لماذا؟"
    "لن تفهم ذلك".
    "حاول معي يا دون خوان فربما أفهم"
    "كلا. يجب عليك أنت تنظر أنت بعين الكشف. حالما تتعلم كيف تفعل ذلك فسترى كل شئ في العالم بطريقة مختلفة".
    "إذن أنت يا دون خوان لم تعد ترى العالم بالطريقة العادية؟"
    "أنا أرى بالطريقتين. عندما أريد أن أنظر للعالم فأنا أراه بالطريقة التي تراه بها أنت. وعندما أريد أن أبصر العالم بطريق الكشف فإنني فأنا أنظر إليه بالطريقة التي أعرفها وأبصره بطريقة مختلفة".
    "هل تبدوا الأشياء هي نفسها في كل مرة تراها بها عن طريق الكشف؟"
    "الأشياء لا تتغير. أنت تغير طريقتك في النظر ذلك هو كل شئ".
    "ما أعنيه يا دون خوان هو أنك عندما تنظر لشجرة بطريقة أهل الكشف هل تظل الشجرة هي نفسها في كل مرة تنظر إليها بتلك الطريقة؟"
    "كلا، إنها تتغير، لكنها في نفس الوقت هي نفسها"
    "لكن إذا كانت نفس الشجرة تبدو مختلفة في كل مرة تنظر إليها بها بطريق الكشف فهذا يعني أن ما تراه ليس سوى وهم".

    ضحك ولم يرد لبعض الوقت. بدا أنه يفكر. وأخيرا قال:" عندما تنظر للأشياء فأنت لا تبصرها بطريق الكشف. أنت تنظر إليها فيما أعتقد لكي تتأكد من أن هناك شئ موجود. وحيث أنك غير معني بالنظر بعين البصيرة فإن الأشياء تبدو لك هي نفسها في كل مرة تنظر إليها. ولكن عندما تتعلم النظر بطريق الكشف فإن الشئ لا يكون هو نفسه في كل مرة تنظر إليه. قلت لك على سبيل المثال أن الإنسان يظهر شبيها بالبيضة. في كل مرة أنظر فيها لإنسان بعين البصيرة أرى بيضة لكنها ليست نفس البيضة".
    "إذن والحالة هذه فلن تتمكن أبدا من التعرف على شئ لأنه لا يوجد شئ يظل كما هو فما هي فائدة تعلم الرؤية بعين البصيرة؟"
    "يمكنك التمييز بين الأشياء. يمكنك أن تعرف حقيقتها".
    "ألا أرى أنا الإشياء على حقيقتها؟"
    "كلا. عيونك تعلمت فقط أن تنظر. خذ على سبيل المثال الأشخاص الثلاثة الذين التقيت بهم، المكسيكيون الثلاثة. لقد وصفتهم بدقة بل وصفت حتى الملابس التي كانوا يرتدونها. وهذا أثبت لي أنك لم ترهم أبدا بعين البصيرة. لو كنت قادرا على الرؤية بعين البصيرة لعرفت على الفور أنهم ليسوا من البشر".
    "ليسوا من البشر؟ ما هم إذن؟"
    "لم يكونوا من البشر وهذا كل شئ".
    "ذلك مستحيل فهم كانوا مثلهم ومثلي أو مثلك"
    "كلا هم ليسوا كذلك. أنا متأكد من ذلك".
    سألته عما إذا كانوا أشباحا أو أرواحا أو أنفس أنا موتى. وكانت إجابته أنه لا يعلم ما هي الأشباح والأرواح والأنفس.

    وترجمت له تعريف قاموس وبستر العالم الجديد لكلمة شبح:" الروح المفترضة التي غادرت الجسد الخاصة بشخص متوفي التي يتم تصورها علىأنها تظهر للبشر في شكل طيف شاحب ظلالي"، ومن ثم تعريف كلمة الروح:" كائن خارق للطبيعة خاصة ذلك الذي يعتقد أنه شبح أو يسكن مكانا معينا وله طبيعة معينة (خيرة أو شريرة).

    قال أنهم ربما كان يمكن أن يسموا أرواحا رغم أن التعريف الذي قرأته لم يكن ملائما تماما لوصفهم.

    "هل هم حراس من نوع ما؟"
    "كلا هم لا يحرسون شيئا"
    "هل هم مشرفون يراقبوننا؟"
    "هم قوى لا خيرة ولا شريرة فقط قوى يتعلم البروهو السيطرة عليها"
    "هل هم حلفاء يا دون خوان؟"
    "نعم، هم حلفاء الإنسان العارف"

    كانت تلك المرة الأولى في السنوات الثمانية من علاقتي بدون خوان التي اقترب فيها دون خوان من تعريف كلمة "حليف". لابد أنني طلبت منه ذلك عددا من المرات. كان في العادة يتجاهل يؤالي قائلا أنني أعرف ما هو الحليف وأن من الغباء أن أحول ما أعرفه إلى كلام. كان تصريح دون خوان المباشر عن طبيعة الحليف شيئا جديدا واضطررت لتفحصه.
    "قلت لي أن الحلفاء هم في النباتات، في عشبة جيمسون وفي الفطريات".
    "لم يسبق لي أبدا أن قلت لك ذلك" قال ذلك باقتناع راسخ. "أنت دائما تقفز لاستنتاجاتك الخاصة".
    "لكنني كتبتها في دفتر ملاحظاتي يا دون خوان".
    "يمكنك أن تكتب ما تشاء لكن إياك أن تخبرني بأنني أنا الذي قلت ذلك".
    ذكرته أنه قال لي أن حليف أستاذه كان عشبة جيمسون وأن حليفه هو هو الدخان الصغير وأنه لاحقا وضح الأمر بقوله أن الحليف موجود في كل واحد من تلك النباتات.
    "كلا ذلك غير صحيح" قال ذلك عابسا. "حليفي هو الدخان الصغير لكن ذلك لا يعني أن الحليف موجود في خليط الدخان أو في الفطريات أو في غليوني. كل تلك يجب أن تجمع معا لكي تقودني إلى حيث الحليف وأنا أسمي الحليف الدخان الصغير لسبب يخصني".
    قال دون خوان أن الأشخاص الثلاثة الذين رأيتهم والذين سماهم "أولئك الذين هم ليسوا من البشر" هم في حقيقة الأمر حلفاء دون فيسنتي.

    ذكرته أنه قد ثبت أن الفرق بين الحليف وبين مسكاليتو أن الحليف لا يمكن رؤيته في حين أن مسكاليتو يمكن رؤيته بسهولة.

    ودخلنا في جدل طويل. قال أنه قد ثبت فكرة أن الحليف لا يمكن رؤيته لأن الحليف يمكنه أن يتشكل بأي صورة. عندما أشرت أنا إلى أنه قد ذكر مرة أن مسكاليتو يمكنه اتخاذ أي شكل انصرف دون خوان عن النقاش قائلا أن "الإبصار" الذي عناه لم يكن النظر العادي للأشياء وأن سبب التباس الأمر علي هو إصراري على الكلام.


    بعد ساعات من ذلك بدأ دون خوان من تلقاء نفسه الحديث عن موضوع الحلفاء. كنت قد شعرت أنه قد تضايق بصورة ما من أسئلتي لذلك لم أضغط عليه أكثر. كان يشرح لي حينها كيف أصنع شركا للأرانب وكان يتوجب علي الإمساك بعصا طويلة وإحنائها بأقصى درجة ممكنه بحيث يتمكن من ربط خيط بين طرفيها. كانت العصا رقيقة ورغم ذلك احتاجت لقوة كبيرة لإحنائها. كان رأسي وذراعي يرتجفان من شدة الجهد وكادت قواي تخور قبل أن يتمكن أخيرا من ربط الخيط.

    جلسنا وبدأنا في الكلام. قال أنه أصبح واضحا بالنسبة له أنني غير قادر على فهم أي شئ مالم أتكلم عنه وأنه غير متضايق من أسئلتي وأنه سيخبرني عن الحلفاء.
    "الحليف ليس هو الدخان. الدخان يحملك إلى حيث الحليف وعندما تتحد مع الحليف عندها لايتوجب عليك التدخين بعد ذلك. من تلك اللحظة وم يليها يمكنك أن تستدعي حليفك حين تشاء وتجعله يفعل أي شئ ترغب فيه.
    الحلفاء ليسووا أخيارا أو أشرارا لكن يستطيع السحرة أن يستغلوهم لأي غرض يرونه ملائما. أنا أحب الدخان الصغير كحليف لأنه لا يتطلب مني الكثير. إنه ثابت وعادل".
    "كيف يبدوا لك الحليف يا دون خوان؟ مثلا هؤلاء الثلاثة أشخاص الذين بدوا لي بهيئة بشر عاديين كيف سيبدون لك؟"
    "سيبدون لي مثل بشر عاديين"
    "كيف ستميزهم إذا من البشر العاديين؟"
    "البشر العاديين يبدون مثل بيضات منيرة عندما تراهم بعين الكشف. الذين ليسوا من البشر يبدون دائما بهيئة بشر. ذلك ما عنيته بقولي أنك لايمكن أن ترى الحليف. الحلفاء يتخذون أشكالا مختلفة. هم يتصورون بصور الكلاب والكويوتي والطيور وحتى كتل الأعشاب التي تدور بها الريح في الصحراء ، أو أي شئ آخر. الفرق الوحيد هو أنك عندما تنظر لهم بعين البصيرة تراهم دائما على الهيئة التي اتخذوا صورتها. كل شئ يظهر بطريقته الخاصة عندما تنظر إليه بعين الكشف . مثلما يظهر البشر على هيئة بيض فإن الأشياء الأخرى تظهر بصورة أخرى عن صورتها المعتادة ولكن الحلفاء يمكن رؤيتهم فقط بالشكل الذي تشكلوا به. ذلك الشكل جيد بدرجة كافية لتضليل الأعين، أي أعيننا نحن. لا يمكن لهم خداع الكلب أو حتى الغراب".
    "لماذا يريدون خداعنا؟"
    "أعتقد أننا جميعا مهرجون. نحن الذين نخدع أنفسنا. الحلفاء يقومون فقط باتخاذ المظهر الخارجي لما هو حولهم ومن ثم نقوم نحن باعتبارهم ما هم ليسوا إياه حقيقة. ليس الخطأ خطـأهم كون أننا علمنا أعيننا أن تنظر للأشياء وحسب".
    "وظيفتهم غامضة بالنسبة لي يا دون خوان، ماذا يفعل الحلفاء في العالم؟"
    "هذا مثل أن تسألني ما هي وظيفة البشر في العالم. أنا حقيقة لا أعرف ما هي وظيفة البشر. نحن هنا وذلك هو كل شئ. والحلفاء هم هنا مثلنا وربما كانوا هنا قبلنا".
    "ماذا تعني بقبلنا يا دون خوان؟"
    "نحن البشر لم نكن هنا على الدوام"
    "هل تعني هنا في هذه البلاد أم هنا في هذا العالم؟"
    ودخلنا في جدل طويل عند هذه النقطة. قال دون خوان أنه بالنسبه له فإن هناك فقط العالم، المكان الذي يضع فيه قدميه. سألته كيف عرف أننا لم نكن دائما موجودون في هذا العالم.
    "الأمر بسيط. نحن البشر لا نعرف سوى القليل جدا عن العالم. الكويوتي يعرف أكثر منا. الكويوتي لا يخدعه مظهر العالم أبدا".
    "كيف أمكن لنا القبض على حيوانات الكويوتي وقتلها؟ إذا كانت لا تخدعها المظاهر فلماذا تموت بسهولة؟"
    حدق لي دون خوان إلى أن شعرت بالحرج. "يمكن لنا أن نوقع الكويوتي في الشرك أو نطلق النار عليه، بأي وسيلة نفعل ذلك فالكويتي فريسة سهلة بالنسبة لنا لأنه غير معتاد على مكر الإنسان. لكن إذا نجا الكويوتي فثق بأنه لن يمكننا القبض عليه مرة أخرى أبدا. الصياد الجيد يعرف ذلك ولذلك لا يضع شراكه أبدا في نفس المكان مرتين لأنه إذا وقع الكويوتي في الشرك فإن كل كويوتي آخر يمكنه أن يرى موته بعين البصيرة لأن موته يظل في المكان لذلك سيتجنبون الشرك أو حتى المكان الذي نصب فيه. نحن البشر من ناحية أخرى لا نرى أبدا الموت الذي يظل في المكان الذي مات فيه أحد بني جلدتنا. ربما نشك في وجوده لكننا لا نراه بعين البصيرة أبدا".
    "هل يمكن للكويوتي رؤية الحليف؟"
    "بكل تأكيد"
    "كيف يبدو الحليف بالنسبة للكويوتي؟"
    "سيتوجب علي التحول لكويوتي لكي أعرف ذلك. لكنني أستطيع أن أقول لك أن الغراب يراه في شكل قبعة مدببة، مستدير وعريض عند القاع وينتهي بطرف طويل. بعضهم منيرون ولكن الغالبية معتمون ويظهرون وكأنهم ثقيلون جدا. يبدون مثل قطعة قماش مشربة بالماء. إن لهم أشكالا مهولة".
    "كيف يبدون لك عندما تراهم بعين البصيرة يادون خوان؟"
    "سبق وقلت لك أنهم يبدون بالشكل الذي يتظاهرون أنهم هو. إنهم يتخذون أي شكل أو حجم يلائمهم. يمكنهم اتخاذ شكل حصاة أو جبل".
    "هل يتكلمون أو يضحكون أو يصدرون أصواتا؟"
    "في رفقة البشر يتصرفون كبشر وفي رفقة الحيوانات يتصرفون كحيوانات. الحيوانات في العادة تخافهم ولكنها إذا اعتادت على رؤيتهم فإنها تتركهم وشأنهم. نحن أيضا نفعل شيئا مماثلا لذلك. هناك عدد كبير من الحلفاء بيننا لكننا لا نزعجهم. لأن عيوننا لا يمكنها سوى النظر للأشياء فنحن لا نلاحظهم"
    "هل تعني أن بعض الناس الذين أراهم في الشارع هم في الحقيقة ليسوا ناس؟" سألته وأنا متحير حقا فيما قاله.
    "بعضهم ليسوا ناس". قال ذلك بصورة تأكيدية.
    بدت تصريحات دون خوان متناقضة بالنسبة وهزلية بالنسبة لي لكنني لم أستطع تصور أن يدلي دون خوان بمثل تلك التصريحات لمجرد أن يثيرني. قلت له أن ما يقوله يبدو مثل فيلم خيال علمي عن كائنات من كوكب آخر. قال أنه لا يهمه ما يبدو عليه كلامه ولكن بعض مانراه على أساس أنه ناس في الشارع ليسوا بشر. قال لي بجدية شديدة :" لماذا يتوجب عليك أن تعتقد أن كل شخص في جمهرة متحركة من الناس هو من البشر؟"
    لم أستطع في الواقع أن أشرح له سبب ذلك باستثناء أنني تعودت على الاعتقاد بذلك ليصبح فعلا مبنيا بصوره كاملة على الاعتقاد من جانبي.

    ومضى في شرحه وذكر لي كيف أنه يحب أن يراقب الأماكن التي تزدحم بالناس وكيف أنه في بعض الأحيان يرى بعين البصيرة جمهرة من الناس الذين يظهرون كالبيض وبين تلك الكتلة من المخلوقات الشبيهة بالبيض يرى واحدا لا يشبه البيض بل شكله بشري.
    "ذلك أمر ممتع جدا أو هو ممتع جدا بالنسبة لي أنا. أحب الجلوس في الحدائق العامة ومحطات الحافلات ومراقبة الناس فيها. في بعض الأحيان يمكنني فورا تمييز الحليف وفي أحيان أخرى لا أرى بعين البصيرة سوى بشر. ذات مرة رأيت اثنين من الحلفاء يجلسان في حافلة جنب لجنب. كانت تلك هي المرة الوحيدة في حياتي التي أرى فيها اثنان منهم معا".
    "هل كانت رؤية اثنين منهم لها دلالة معينة بالنسبة لك يا دون خوان؟"
    "بالتأكيد. كل ما يفعلونه له دلالة. البروهو يستيطع أن يستمد قوته من مراقبة أفعالهم في بعض الأحيان. حتى لو لم يكن للبروهو حليف خاص به فإنه حالما يتعلم كيف يرى بعين البصيرة فيمكنه التحكم في القوة الروحانية من مراقبة تصرفات الحلفاء. علمني أستاذي كيف أفعل ذلك ولعدة سنوات قبل أن يصبح لي حلفائي الخاصين بي كنت أراقب الحلفاء وسط جمهرة الناس وفي كل مرة رأيت فيها أحدهم تعلمت شيئا جديدا. أنت التقيت بثلاثة منهم معا فأية درس هام قد ضيعته! "
    لم يقل شيئا بعدها إلى أن انتهينا من تركيب الشرك بطريقة صحيحة. ثم استدار نحوي وقال وكأنه تذكر ذلك في تلك اللحظة أن شيئا آخر مهم عن الحلفاء هو أنه إذا وجد الإنسان اثنان منهم معا فهم يكونون دائما من النوع . الحليفين الذين رآهما في الحافلة كانا رجلين، في حين أنني رأيت رجلين وامرإة فإن ذلك يعني أن التجربة كانت أشد غرابة.

    سألته إن كان الحلفاء يظهرون في شكل أطفال وعما إذا كان الأطفال في تلك الحالة يكونون من نفس الجنس أم من الجنسين وعما إذا كان الحلفاء يظهرون بشكل أشخاص من أعراق مختلفة وعما إذا كان بإمكانهم الظهور في شكل أسرة من رجل وامرأة وطفل وفي النهاية سألته إن كان قد رأى حليفا يقود سيارة أو حافلة.
    لم يجب دون خوان على الإطلاق بل ابتسم وتركني أتكلم. وعندما سمع سؤالي الأخير انفجر ضاحكا وقال انني أصبحت عديم الحرص في اسئلتي وأن السؤال كان يجب أن يكون عما إذا رأى حليفا يقود مركبة آلية.
    "لا تريد أن تنسى الدراجات النارية أليس كذلك؟" قال ذلك وهينه تلمع ببريق من السخرية.

    فكرت أن سخريته من أسئلتي مضحكة وخفيفة القلب وضحكت أنا أيضا.
    ثم شرح أن الحلفاء لا يمكنهم التصدر للقيادة أو التصرف في شئ مباشرة، لكنهم يستطيعون أن يتصرفوا في الإنسان بطرق مختلفة. وقال دون خوان أن الاتصال بالحليف أمر خطير لأنه يمكن أن يخرج أسوأ ما في الإنسان.وقال أن تلمذتي عليه طويلة ومنهكة لأن على الإنسان أن يقلل للحد الأدنى كل ما هو غير ضروري في حياته لكي تصبح لديه القوة على تحمل اللقاء بالحليف. وقال دون خوان أن أستاذه عندما التقى بالحليف للمرة الأولى أجبر على التعرض للحريق وامتلآ جسمه بالخدوش وكأن أسد جبال قد صارعه. وبالنسبة له هو شخصيا قال أن حليفا دفعه للسقوط في كتلة من الخشب المشتعل مما أدى لإحراق كتفه وركبته بدرجة خفيفة وأن آثار ذلك اختفت بمرور الوقت عندما اتحد مع الحليف.

    يتبع

    (عدل بواسطة محمد عثمان الحاج on 08-06-2009, 06:27 PM)

                  

08-12-2009, 00:01 AM

Elkhawad

تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 2843

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: محمد عثمان الحاج)

                  

08-14-2009, 12:29 PM

محمد عثمان الحاج

تاريخ التسجيل: 02-01-2005
مجموع المشاركات: 3514

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: Elkhawad)

    شكر أخي الخواض على الحضور.

    لاحقا سنرى أن التقنيتين الرئيسيتين في طريق التولتيك هما التربص والحلم. التربص هو التربص بعيوب النفس كما يتربص الصياد بالفريسة ومن ثم اصطيادها والتخلص منها. بحسب حكماء التولتيك فإن للإنسان انتباهين، انتباه يمارسه في حياته اليومية وهو انتباه الجانب الأيمن، وانتباه آخر أثناء الأحلام في النوم وهو انتباه الجانب الأيسر. الانتباه الأيمن يختص بعالم العقل والمنطق والحياة اليومية وهو عالم التونال، والانتباه الأيسر يختص بعالم اللانهاية وعالم الوعي الكوني الشامل وهو عالم الناخوال أو ما نعرفه نحن بعالم الروح، تقنية الحلم تتمثل في تطوير الانتباه الأيسر الذي لا يستعمله الإنسان العادي. لكي يبدأ الإنسان تنمية الانتباه الأيسر فيجب عليه أن يوفر طاقة هائلة لكي يستطيع أن يكتسب القدرة على أن يكون واعيا ومتحكما في نفسه أثناء الحلم وكان أول تمرين أعطاه دون خوان لدكتور كارلوس كاستانيدا هو أن يعثر على يده أثناء الحلم وينظر إليها ويحركها أمام وجهه، وهكذا كان ينام يوميا وهو يضمر أنه سيرى يده في الحلم إلى أن تمكن من ذلك ومن ثم تتالت الخطوات الأخرى، لكن قبل الوصول لمرحلة تقنيات الحلم يجب استخدام تقنيات التربص لتوفير الطاقة ، وإحدى تقنيات التربص هي ما أسماه دون خوان بالحماقة المتحكم فيها.

    حضر كارلوس شعائر طقس ميتوتي آخر دون أن يتناول البيوتي، ولكن ولدهشته الشديدة أحس بأنه يرى نورا بنفس الكيفية التي صاحبت حضور مسكاليتو عندما تناول البيوتي قبل ذلك بشهور،وعقب ذلك بدا الأشخاص الآخرين في التصرف بطريقة أوضحت أنهم هم أيضا شعروا بحضور مسكاليتو . نتابع هنا الحوارحول الحماقة المتحكم فيها:

    " أتساءل عما إذا كان يمكنك أن تخبرني المزيد عن الحماقة المتحكم فيها؟"
    "ماذا تريد أن تعرف عنها؟"
    "أرجوك يا دون خوان قل لي ما هي الحماقة المتحكم فيها؟"
    ضحك دون خوان بصوت عال وصفع فخذه بيده مصدرا صوتا عاليا.
    "هذه هي الحماقة المتكم فيها" وضحك وصفع فخذه ثانية.
    "ماذا تعني؟"
    "أنا سعيد بأنك سألتني أخيرا عن حماقتي المتحكم فيها بعد كل هذه السنوات مع ذلك ما كان الأمر سيهمني على الإطلاق لو أنك لم تسألني. لكنني اخترت أن أشعر بالسعادة وكأنني مهتم بأنك سألت، وكأن اهتمامي بذلك هو أمر مهم. تلك هي الحماقة المتحكم فيها".
    وضحكنا كلانا بصوت عال. وأحطت دون خوان بذراعي. وجدت أن شرحه مبهج رغم أنني لم أفهمه تماما.

    كنا نجلس كالعادة في مكان يقع أمام باب منزله مباشرة. كان الوقت هو منتصف الصباح وكانت أمام دون خوان كومة من البذور يقوم هو بتنقيتها من الشوائب. كنت قد عرضت عليه المساعدة لكنه رفض قائلا أن البذور هي هدية لأحد أصدقائه في وسط المكسيك وأنني لا أمتلك قوة روحانية كافية لكي ألمس البذور.
    "مع من تمارس الحماقة المتحكم فيها يا دون خوان؟"
    وضحك.
    "مع كل إنسان!" قال ذلك بلهجة تعجب وهو يبتسم.

    " إذن متى تختار أن تمارسها ؟"
    "في كل مرة أقوم فيها بفعل"
    شعرت أنني يجب ان أراجع ما فهمته لحظتها فسألته عما إذا كانت حماقته المتحكم فيها تعني أن أفعاله لا تكون مخلصة أبدا بل أفعال ممثل.
    "أفعالي مخلصة. لكنها ليست سوى أفعال ممثل".
    "إذن فكل ما تفعله هو حماقة متحكم فيها؟"
    قلت ذلك وأنا مندهش فعلا.
    "نعم كل شئ".
    "لكن لايمكن أن يكون حقا كل فعل من أفعالك حماقة متحكم فيها".
    "ماذا؟" قال ذلك وفي عينيه نظرة غامضة.
    "ذلك يعني أنه لا شئ مهم بالنسبة لك وأنك لا تهتم بشئ أو بإنسان. خذني أنا على سبيل المثال. هل تعني أنك غير مهتم بأن أصبح من أهل المعرفة أم لا أو أن أعيش أو أموت أو أفعل أي شئ؟"
    "حقا أنا لا أهتم. أنت مثل حفيدي لوسيو أو أي شخص آخر في حياتي حماقتي المتحكم فيها"
    شعرت شعورا غريبا بالخواء. من الواضح أنه لا يوجد سبب في العالم يجعل دون خوان يهتم بي، من ناحية أخرى كنت أكاد أكون متأكدا أن دون خوان مهتم بي شخصيا. فكرت أن الأمر لا يمكن أن يكون غير ذلك لأنه خصني بانتباهه التام دائما في كل لحظة قضيتها معه. فكرت أن دون خوان قال ما قاله فقط بسبب أنه تضايق مني لسبب ما فأنا قد تخليت عن اتباع تعاليمه.
    "أشعر أننا لا نتحدث عن نفس الشئ. ما كان يجب أن أجعل من نفسي مثالا. ما أعنيه هو أنه لابد وأن هناك شئ في العالم بطريقة ليست من قبيل الحماقة المتحكم فيها. لا أظن أن من الممكن الاستمرار في الحياة إن كنا لا نهتم بشئ".
    "ذلك ينطبق عليك أنت. الأشياء مهمة بالنسبة لك أنت. أنت سألتني عن حماقتي المتحكم فيها وأنا قلت لك أن كل ما أفعله فيما يتعلق بي أو بالآخرين هو حماقة لأنه لايوجد شئ مهم".
    "ما أريد قوله يا دون خوان هو أنه إذا لم يكن هناك ما تهتم به كيف يمكنك الاستمرار في العيش؟"
    ضحك وبعد أن تريث للحظة بدا أنه يفكر أثناءها هل يجيب أم لا نهض واتجه لمؤخرة المنزل وتبعته أنا. "انتظر، انتظر يادون خوان. يجب أن تفسر لي ما تعنيه".
    "ربما لايمكن الشرح. أشياء معينة تكون مهمة في حياتك لأنها مهمة، أفعالك هي بالتأكيد مهمة بالنسبة لك. لكن بالنسبة لي لم يعد هناك شئ واحد مهم سواء كان أفعالي أو أفعال غيري من البشرمع ذلك استمر في الحياة لأنني امتلك إرادتي. لأنني قد قويت إرادتي طيلة حياتي إلى أن أصبحت منسقة ومكتملة والآن لا تهمني حقيقة كون أن كل شئ غير مهم. إرادتي تتحكم في حماقة حياتي".
    وجلس القرفصاء و مرر أصابعه عبر بعض الأعشاب التي كان قد وضعها على قطعة خيش كبيرة لتجف.

    واحترت أنا. لم أتخيل أبدا الاتجاه الذي أدى إليه سؤالي. بعد صمت طويل فكرت في نقطة جيدة. قلت له أن من رأيي أن بعض أفعال الآخرين مهمة جدا. أشرت إلى أن اندلاع حرب نووية على سبيل المثال سيكون أشد مثل تلك الأفعال درامية. قلت له أنه بالنسبة لي فإن تدمير الحياة على كوكب الأرض أمر ذو أهمية هائلة.

    "أنت تظن ذلك لأنك تفكر. أنت تفكر عن الحياة، ولكنك لا ترى بطريق الكشف". قال ذلك وعيونه تلتمع.
    "هل كنت سأكون مختلفا إذا كنت من اهل الكشف؟"
    "حالما يتعلم الإنسان أن يرى بطريق الكشف فإنه يجد نفسه وحيدا في العالم وليس معه فيه سوى الحماقة." قال دون خوان ذلك بإلغاز.
    وتوقف عن الكلام لبرهة ونظر لي وكأنه يريد أن يحكم على مدى ما أثارته كلماته في نفسي.
    "افعالك وأفعال غيرك تبدوا مهمة بالنسبة لك لأنك تعلمت أن تعتقد أنها مهمة".
    قال كلمة "تعلمت" بلهجة غريبة بحيث أنني اضطررت لسؤاله عما يعنيه بها.
    وتوقف عما كان يفعله بالنباتات ونظر لي.
    " قال:" نحن نتعلم أن نفكر عن كل شئ. ثم نقوم بتدريب أعيننا على النظر بينما نفكر في الأشياء التي ننظر إليها. نحن ننظر إلى أنفسنا بالمفهوم المسبق أننا مهمون. لذلك يتوجب علينا الشعور بالأهمية! لكن عندما يتعلم الإنسان النظر بعين البصيرة فإنه يدرك بأنه لم يعد يستطيع التفكير في الأشياء التي ينظر إليها، وعندما يكف الإنسان عن التفكير في التي الأشياء التي ينظر إليها فإن كل شئ يصبح غير مهم".
    لابد أن دون خوان لاحظ نظرتي المتحيرة فكرر تصريحاته ثلاثة مرات وكأنه يريد مني أن أفهمها. ما قاله بدا بالنسبة لي في البداية مثل كلام غير مفهوم ولكن عندما تفكرت فيه بدت كلماته أشبه بتصريحات عن بعض خصائص الإدراك البصري.

    بدأت أفكر في سؤال جيد يجعله يوضح نقطته لكنني عجزت عن العثور على سؤال. فجأة شعرت بالإرهاق وعدم القدرة على صياغة أفكاري بوضوح.

    وبدا أن دون خوان لاحظ تعبي فربت على كتفي بلطف.
    "قم بتنظيف هذه النباتات هنا ثم قم بتقطيعها ووضعها في هذا البرطمان".
    وأعطاني برطمان بن كبير وغادر المنزل.
    عاد لمنزله بعد ساعات في وقت متأخر من العصر. كنت قد انتهيت من تقطيع النباتات وتوفر لي وقت كافي لكتابة ملاحظاتي. أردت أن أسأله بعض الأسئلة فور وصوله لكنه لم يكن في مزاج الرد على أسئلتي. قال أنه جائع جدا ويتوجب عليه تجهيز طعامه أولا. وأوقد النار في الموقد المبني من الطين الجاف ووضع عليها قدرا يحوي مكونات حساء العظام. ونظر لكيس المشتروات الذي أحضرته وأخذ منه بعض الخضروات وقطعها قطعا صغيرة وألقى بها في القدر. ثم رقد على بساطه وخلع حذائه وأمرني أن أجلس قريبا من الموقد لكي أغذي النار بالوقود.
    كان الظلام قد اقترب ومن مكان جلوسي كنت أرى السماء في اتجاه الغرب. كانت حواف تشكيلة السحب ذات لون بني مصفر فيما كان الجزء الأوسط منها يكاد يكون أسود اللون.
    كنت على وشك أن أعلق عن جمال السحب لكنه سبقني للكلام؟
    "حواف ناعمة ولب غليظ" قال ذلك مشيرا للسحب.
    كانت كلماته متطابقة مع ما كنت أفكر فيه بحيث أنني قفزت من مكاني.
    قلت له :"كنت على وشك أن أكلمك عن السحب".
    "إذن فقد سبقت للحديث عنها" قال ذلك وضحك بانطلاق طفولي.
    سألته عما إذا كان في مزاج يسمح له بالإجابة عن بعض الإسئلة .
    أجابني:" ماذا تريد أن تعرف؟"
    "ما قلته لي هذا العصر عن الحماقة المتحكم فيها أزعجني كثيرا. حقيقة لم أفهم ما عنيته".
    "بالطبع لن تفهمه. أنت تحاول أن تفكر فيه وما قلته أنا لا يناسب تفكيرك"
    قلت له "أنا أفكر فيه لأن تلك هي الطريقة الوحيدة بالنسبة لي شخصيا لفهم أي شئ. مثلا يا دون خوان هل تعني أنه حالما يتعلم الإنسان أن يرى بطريق الكشف يصبح كل شئ في العالم لا قيمة له؟"
    "لم أقل لا قيمة له. قلت غير مهم. كل شئ متساوي مع البقية ولذلك فهو غير مهم. مثلا لاتوجد طريقة بالنسبة لي لكي أقول أن أفعالي أهم من أفعالك أو أن هناك شئ ضروري بدرجة أكبر من شئ آخر لذلك فكل الأشياء متساوية ولكونها متساوية فهي غير مهمة".

    سألته عما إذا كانت تصريحاته تعبر عن حقيقة كون ما يسميه هو النظر بطريق الكشف هو في واقع الأمر طريقة أفضل من النظر العادي للأشياء. وقال أن عيون الإنسان تقوم بكلا الوظيفتين لكن ليست إحدى الوظيفيتن أفضل من الأخرى. لكن وفقا لرأيه فإن تدريب العيون لكي تنظر بالطريقة العادية هو خسارة لا داعي لها.
    "مثلا نحن نحتاج أن ننظر بعيوننا لكي نضحك لأننا فقط عندما ننظر للأشياء نرى الجانب المضحك من العالم. من ناحية أخرى عندما ننظر بطريق الكشف فإن كل شئ متساوي مع البقية بحيث أنه لا يوجد شئ مضحك".
    "هل تعني يا دون خوان أن الإنسان الذي هو من أهل الكشف لا يضحك أبدا؟"
    بقي صامتا لبعض الوقت.
    قال : "ربما هناك عارفون لا يضحكون أبدا، مع ذلك فأنا لم يسبق لي أن عرفت مثل هؤلاء. أولئك الذين أعرفهم ينظرون نظرا عاديا وأيضا ينظرون بطريق الكشف ولذلك فهم يضحكون".
    "هل يبكي العارف أيضا؟"
    "أفترض ذلك. أعينا تنظر بحيث يمكن لنا أن نضحك أو نبكي أو نفرح أو نحزن. أنا شخصيا لا أحب أن أكون حزينا لذلك حالما أشاهد شيئا يجعلني عادة حزينا فإنني ببساطة أقوم بتغيير كيفية نظري إليه وأنظر إليه بطريق الكشف بدلا من النظر العادي. لكن عندما أصادف شيئا مضحكا فانا أنظر إليه وأضحك".
    "لكن ذلك يعني يا دون خوان أن ضحكك حقيقي وليس حماقة متحكم فيها"
    حدق لي دون خوان للحظة.
    وقال:" أنا أتكلم معك لأنك تجعلني أضحك. أنت تذكرني بالفئران الصحراوية ذات الأذيال المنتفشة التي تعجز عن الحركة عندما تقوم بإدخال ذيولها في حفر أثناء محاولتها إخافة فئران أخرى وإراغامها على الهرب لكي تستولى على طعامها. أنت تقع في شرك أسئلتك. انتبه جيدا ففي بعض الأحيان تقطع تلك الفئران ذيولها في محاولتها تخليص أنفسها".
    وجدت مقارنته مضحكة فضحكت. كان دون خوان قد أراني مرة قوارض صغيرة ذات ذيول منتفشة تشبه سناجب سمينة. كانت صورة أحد هذه الفئران السمينة يقطع ذيله محزنة وفي نفس الوقت مضحكة بصورة مؤلمة".
    قال لي: "ضحكي وكل ما أفعله هو حقيقي. لكنه أيضا حماقة متحكم فيها لأنه غير مفيد ولا يغير شيئا ومع ذلك أقوم به".
    "لكن ما أفهمه يادون خوان أن ضحكك ليس عديم الجدوى فهو يجعلك سعيدا".
    "كلا! أنا سعيد لأنني أختار أن أنظر للأشياء التي تجعلني سعيدا ومن ثم تقبض عيوني على جانب تلك الأشياء المضحك فأضحك. قلت لك ذلك عددا لا يحصى من المرات. يجب أن يختار الإنسان دائما الطريق ذو القلب لكي يكون الإنسان في أفضل حالاته، ربما لكي يستطيع أن يضحك الإنسان دائما".
    فسرت ما قاله على أساس أن البكاء أقل مكانة من الضحك أو أنه على الأقل فعل يضعفنا. لكنه أكد أنه لا يوجد فرق أساسي بينهما وأن كليهما غير مهم لكنه قال أن ما يفضله هو الضحك لأن الضحك يجعل جسمه يشعر شعورا أفضل من البكاء.
    عند تلك النقطة اقترحت له أنه ما دام هناك تفضيل فهذا يعني عدم تساوي، إذا فضل الضحك على البكاء فإن الضحك أهم.
    لكنه أصر بعناد على أن تفضيله لا يعني أنهما غير متساويين في حين أكدت أنا أن جدالنا يمكن أن يمد بصورة منطقية ليكون حول أنه ما دامت الأشياء كلها متساوية فلماذا لا نختار الموت؟
    "العديد من العارفين يفعلون ذلك. ذات يوم وبكل بساطة يختفون. ربما يظن الناس أنهم تعرضوا لكمين وقتلوا بسبب أفعالهم. إنهم يختارون الموت لأنه لا يهمهم. من ناحية أخرى أنا أختار أن أعيش وأضحك ليس بسبب أن ذلك مهم بالنسبة لي ولكن لأن ذلك الاختيار يوافق طبيعتي. السبب الذي يجعلني يقول أنني أختار هو بسبب أنني أرى بطريق الكشف. لكن الأمر ليس هو أنني أختار أن أعيش بل أن إرادتي تجعلني استمر في العيش رغم كل شئ يمكن أن أراه عن طريق الكشف. أنت لا تفهمني الآن بسبب عادتك في التفكير عندما تنظر والتفكير عندما تفكر".

    هذه العبارات حيرتني جدا. طلبت منه شرح ما يعنيه بها.
    وأعاد نفس العبارات عدة مرات وكأنه يعطي نفسه الوقت ليقوم بترتيبها بطرق مختلفة، ثم عبر عن النقطة التي يقصدها قائلا أنه يعني بكلمة "التفكير" الفكرة الدائمة التي لدينا عن كل شئ في العالم. وقال أن النظر بطريق الكشف يزيل تلك العادة وأنني إلى أن أتعلم أن أرى بطريق الكشف فإنني سوف لن أفهم ما يعنيه.
    "لكن يادون خوان مادام لا يوجد شئ مهم لماذا أهتم بأن أتعلم النظر بطريق الكشف؟"
    "قلت لك ذات مرة أن نصيبنا كبشر هو أن نتعلم سواء كان ذلك خيرا أم شرا. أنا تعلمت أن أرى بطريق الكشف وأقول لك لا شئ مهم. الآن أتى دورك. ربما يوما ما سترى بطريق الكشف وعندها ستعرف هل الأشياء مهمة أم لا. بالنسبة لي لا شئ مهم لكن ربما بالنسبة لك سيكون كل شئ مهم. الآن يجب أن تكون قد عرفت أن العارف يعيش عن طريق القيام بالأفعال وليس بالتفكير عن الأفعال. العارف يختار طريقا له قلب ويتبعه ومن ثم ينظر ويفرح ويضحك ثم يرى بطريق الكشف ويعرف. سيعرف أن حياته ستنتهي بأسرع مما يجب، سيعرف أنه هو وكل إنسان آخر لن يذهبوا لأي مكان، سيعرف لأنه يرى بطريق الكشف أنه لا يوجد شئ أكثر أهمية من شئ آخر. بكلمات أخرى فالعارف ليس له شرف ولا وقار ولا عائلة ولا اسم ولا بلد فقط حياة ينبغي أن يحياها وتحت هذه الطروف فالرابط الوحيد بينه وبين بقية البشر هو الحماقة المتحكم فيها. وهكذا فالعارف يبذل الجهد ويعرق ويلهث وإذا نظر إليه إنسان فسيجده مثله مثل أي إنسان آخر باستثناء أن حماقة حياته هي تحت التحكم. حقيقة كون أنه لايوجد شئ أكثر همية من أي شئ آخر فإن العارف يختار أي فعل ويقوم بفعله وكأنه يهمه. حماقته المتحكم فيها تجعله يقول أن ما يفعله مهم وتجعله يتصرف وكأن الأمر حقا مهم. مع ذلك هو يعلم أن الأمر غير مهم لذلك عندما يكمل القيام بأفعاله فهو ينسحب في سلام وإذا كانت أفعاله جيدة أو سيئة وسواء كانت نافذة أو غير نافذة فذلك لا يهمه في شئ.

    من ناحية أخرى يمكن للعارف أن يختار أن يكون ساكنا لا يقوم بأي فعل البتة ويتصرف وكأن عدم عدم القيام بفعل هو أمر مهم بالنسبة له وسيكون صادقا في ذلك أيضا لأن ذلك سيكون بالنسبة له هو حماقته المتحكم فيها".

    عند هذه النقطة بذلت جهدا معقدا لكي أشرح لدون خوان أنني مهتم لمعرفة ما الذي يحفز العارف لكي يتصرف بطريقة معينة في حين أنه يعرف أنه لاشئ مهم.
    ضحك دون خوان بلطف قبل أن يجيب.
    " أنت تفكر في أفعالك ولذلك يتوجب عليك أن تعتقد أن أفعالك لها الأهمية التي تظن أنها تمتلكها، في حين أنه في حقيقة الأمر لاشئ مما يفعله الإنسان مهم. لاشئ! لكن مثلما سألتني إذا كان لايوجد شئ مهم كيف لي أن استمر في الحياة؟ سيكون الموت أمر بسيط ذلك هو ما تقوله وتعتقده لأنك تفكر عن الحياة مثلما تفكر الأن عن كيفية النظر بطريق الكشف. أنت تريدني أن أصفها لك لكي تبدأ بالتفكير فيها كما هي عادتك مع كل شئ آخر. لكن في حالة النظر بطريق الكشف فالتفكير ليس ذو أهمية على الإطلاق لذلك لايمكنني أن أصف لك كيف يبدو النظر بطريق الكشف. الآن تريدني أن أصف أسباب حماقتي المتحكم فيها ويمكنني أن أقول لك أن الحماقة المتحكم فيها تشبه النظر بطريق الكشف شبها شديدا فهي شئ لايمكنك التفكير فيه".

    وتثاءب. رقد على ظهره ومد يديه ورجليه وطقطقت عظامه.
    "لقد غبت عني فترة أطول من اللازم. أنت تفكر أكثر من اللازم".


    ونهض وسار نحو الشجيرات الكثيفة بجانب المنزل. وغذيت النار بالوقود لكي أبقي القدر في حالة غليان. كنت على وشك إشعال مصباح الكيروسين لكن الظلام الخفيف كان يبعث على الاسترخاء. كانت نار الطبخ توفر ضوءا كافيا للكتابة وتخلق وهجأ أحمر في كل ما حولي. ووضعت دفتر ملاحظاتي على الأرض ورقدت. شعرت بالتعب. من كل الحوار مع دون خوان كان الشئ البارز الوحيد الذي بقي في ذهني هو أنه لا يهتم بي وقد أزعجني ذلك بشدة. لقد وثقت به عبر مدة استمرت سنوات. لو لم تكن عندي ثقة كاملة فيه لكان الخوف قد شلني لمجرد التفكير في تعلم معرفته. كان الأساس الذي تستند إليه ثقتي به هو أنه مهتم بي بصورة شخصية، في واقع الأمر كنت دائما أخاف منه لكنني تحكمت في خوفي لأنني أثق فيه. وعندما قام بهدم تلك القاعدة لم يعد لي ما أستند إليه وشعرت بالعجز.
    أصابني قلق غريب جدا. أصبحت منزعجا بصورة فظيعة وبدأت في السير جيئة وذهابا أمام الموقد. استغرق دون خوان زمنا طويلا وانتظرت عودته بنفاذ صبر.

    ورجع بعد وقت قصير من ذلك وجلس أمام النار وانفجرت أنا معبرا له عن مخاوفي. قلت له أنني منزعج لأنني لا يمكنني أن أغير اتجاهي بعد وأنا في منتصف الطريق، وشرحت له أنه إضافة للثقة التي وضعتها فيه فقد تعلمت أن أحترم طريقته في الحياة وأعتبرها أشد عقلانية أو على الأقل أشد وظيفية من طريقتي في الحياة. قلت له أن كلماته قد ألقت بي في صراع فظيع لأنها تعني أن علي تغيير مشاعري. لكي أوضح نقطتي حكيت لدون خوان حكاية رجل عجوز يتمني لثقافتي وهو محامي ثري جدا ومحافظ في توجهه السياسي عاش حياته وهو مقتنع أنه يمتلك الحقيقة. في بدايات الثلاينات ومع بدء الحقبة الجديدة وجد نفسه منغمسا في الدراما السياسية حينها. كان يعيش متأكدا أن التغيير ضار بالبلد وانطلاقا من ولائه لطريقته في الحياة واقتناعه أنه على حق عاهد نفسه على محاربة ما اعتقد أنه شر سياسي. لكن تيار الزمن كان قويا بصورة تغلبت عليه. وقاوم لمدة عشرة سنوات في الحلبة السياسية وفي حياته الخاصة ثم أدت الحرب العالمية الثانية لفشل جهوده وهزيمته التامة. أدى سقوطه السياسي والعقائدي إلى شعور فظيع بالمرارة وهكذا قام بنفي نفسه خارج البلاد لمدة خمسة وعشرين عاما. عندما قابلته كان عمره أربعة وثمانين عاما وكان قد عاد لبلدته ليقضي سنواته الأخيرة في سكن مخصص لكبار السن. بدا من غير المفهوم بالنسبة لي أنه عاش عمرامديدا كمثل عمره بالنظر للطريقة التي بدد بها حياته في المرارة والرثاء للنفس. بطريقة ما كان قد أحب رفقتي واعتاد على أن يتكلم معي كثيرا.

    آخر مرة رأيته فيها أنهى حوارنا كما يلي:" لقد توفر لي الوقت لكي أستدير وأتفحص حياتي. المواضيع المهمة في زمني هي اليوم مجرد قصة ليست حتى مثيرة. ربما كنت قد ضيعت سنين من حياتي أطارد شيئا لم يوجد أبدا. شعرت مؤخرا أنني كنت أؤمن بشئ خيالي. لم يكن يستحق زمني. أعتقد أنني أعرف ذلك. لكنني لا أستطيع استعادة الأربعين سنة التي فقدتها".

    قلت لدون خوان أن أزمتي ناجمة من الشكوك التي رمتني فيها كلماته عن الحماقة المتحكم فيها.
    قلت له: "إذا لم يكن هناك ما هو مهم حقا فإنه عندما يصبح الإنسان عارفا فسيجد نفسه خاويا مثله مثل صديقي وليس في وضع أفضل".
    قال دون خوان بحسم:" الأمر ليس كذلك. صديقك وحيد لأنه سيموت دون أن يرى بطريق الكشف. في حياته كل ما فعله هو أن تقدم في السن والآن سيكون لديه رثاء للنفس أشد مما كان. هو يظن أنه ضيع أربعين عاما لأنه كان يجري وراء انتصارات ولم يجد سوى الهزائم. سوف لن يعرف أبدا أن الهزيمة والانتصار متساويان.
    إذن أنت الآن تخاف مني لأنني قلت لك أن متساوي مع كل شئ آخر. أنت تتصرف بطريقة طفولية. نصيبنا كبشر هو أن نتعلم والإنسان يذهب للمعرفة بالطريقة التي يذهب بها للحرب قلت لك ذلك عددا لا يحصى من المرات. الإنسان يذهب للمعرفة أو للحرب بخوف واحترام واعيا بأنه يسير للحرب وبثقة تامة في النفس. ضع ثقتك في نفسك وليس في أنا.

    إذن أنت خائف من خواء حياة صديقك. لكن ليس هناك خواء في حياة العارف أؤكد لك ذلك. كل شئ ممتلئ حتى النهاية".

    نهض دون خوان ومد يديه وكأنه يتحسس أشياء في الهواء.
    "كل شئ ممتلئ حتى النهاية" كرر القول. "وكل شئ متساوي مع البقية. أنا لست مثل صديقك الذي لم يفعل شيئا سوى التقدم في السن. عندما أقول لك أنا أنه لا شئ مهم فأنا لا أعني ما عناه صديقك. بالنسبة له كفاحه لم يكن يسوى ما انفقه فيه من وقت لأنه انهزم. بالنسبة لي لا يوجد انتصار أو هزيمة أو خواء. كل شئ ممتلئ حتى النهاية وكل شئ متساوي مع البقية وكفاحي كان يستحق ما أنفقته فيه من وقت.
    ""لكي يصبح الإنسان عارفا يجب أن يكون محاربا وليس طفلا منتحبا. يجب على الإنسان أن يكافح و لا يستسلم ولا يشكو ولا يتردد إلى أن يصل لمرحلة الكشف وعندها يدرك أنه لاشئ مهم".

    وقلب دون خوان محتويات القدر بملعقة خشبية. نضج الطعام. رفع القدر من الموقد ووضعه فوق كتلة مستطيلة من الطين المجفف كان قد بناها ملتصقة بالحائط وكان يستعملها كمنضدة أو رف. وبرجله دفع صندوقين صغيرين يستعملان كمقعدين مريحين خاصة إذا أسند الإنسان ظهره للحائط. أشار لي أن أجلس ومن ثم صب كمية من الحساء في وعاء. وابتسم. كانت عيناه تلمعان وكأنه حقا يستمتع بوجودي معه. ودفع الوعاء بلطف نحوي. كانت حركته مليئة باللطف والعطف بحيث بدت كما لوكانت طلبا لأن أعيد ثقتي فيه. شعرت بأنني أحمق، وحاولت أن أبدد مزاجي السئ عن طريق البحث عن ملعقتي لكنني لم أستطع العثور عليها. كان الحساء أسخن من أن يتم شربه مباشرة من الوعاء. وفي انتظار أن يبرد سألت دون خوان عما إذا كانت الحماقة المتحكم فيها تعني أن العارف لا يمكنه أن يحب أحدا.

    وتوقف عن الأكل وضحك.
    "أنت مشغول أكثر من اللازم بهل تحب الناس وهل هم يحبونك أم لا. العارف يحب وحسب. إنه يحب ما يريده أو من يريده ولكنه يستعمل حماقته المتحكم فيها ليكون غير مهتم بذلك. ذلك عكس ما أنت تفعله الآن. أن يحب الإنسان الناس أو يحبونه ليس أفضل شئ يمكن أن يفعله الإنسان في حياته."

    حدق لي للحظة ورأسه يميل قليلا للجانب. قال لي: " فكر في ذلك".
    "هناك شئ آخر أحب أن أسأله عنه يا دون خوان. قلت أننا نحتاج لأن ننظر بعيوننا لكي نضحك لكنني أعتقد أننا نضحك لأننا نفكر. الرجل الأعمى مثلا يضحك أيضا".
    قال :"كلا. العميان لا يضحكون. أجسادهم تهتز قليلا بموجة الضحك. هم لم ينظروا أبدا لحافة العالم المضحكة ويتوجب عليهم تخيلها. ضحكهم ليس قهقهة مدوية".

    لم نتكلم بعد ذلك. شعرت بالفرح والإطمئنان. أكلنا بصمت ثم بدأ دون خوان يضحك. كنت أستعمل غصنا جافا لألتقط به الخضروات لكي آكلها.

    يتبـــــــع.

    (عدل بواسطة محمد عثمان الحاج on 08-14-2009, 12:48 PM)

                  

08-20-2009, 07:05 PM

محمد عثمان الحاج

تاريخ التسجيل: 02-01-2005
مجموع المشاركات: 3514

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: محمد عثمان الحاج)

    عذرا عند هذه النقطة سأقفز لكتاب آخر متقدم هو "الجانب النشط من اللانهاية" وأقتبس منه هذا الجزء، منبها على أن هذا الموقف حدث بعد أن وصل كارلوس لحالة الصمت الداخلي وايقاف العالم وتقدم في التحكم في الأحلام إلى أن وصل مرحلة الرؤى المشتركة وهي الرؤى التي يراها عدد من الأشخاص في نفس الوقت وهي أشبه بالحضرات عند الصوفية وتمثل مرحلة متقدمة في التحكم في الجسد الحلمي أو الجسد الأثيري، وسأعود لاحقا إنشاء الله لتلك المواضيع. هناك مشكلة في قلة الكلمات العربية التي تعبر عن حالات الوعي المختلفة ولذلك سأضع المفردة الإنجليزية لتوضح أي نوع من الوعي هو المقصود:

    الوعي awarness اللا عضوي

    في لحظة معينة من لحظات تلمذتي على دون خوان كشف لي عن تعقيد موقفه في الحياة، فقد أصر رغم ضيقي وإحباطي على أنه يعيش في الكوخ في ولاية سونورا في المكسيك لأن ذلك الكوخ يمثل حالة الوعي awareness التي أنا فيها. لم أصدق تماما أنه قصد حقا أن يقول أنني متهالك لتلك الدرجة ولم أصدق أن لديه أماكن أخرى يعيش فيها حسبما أدعي.

    واتضح أنه كان على حق في كلا الأمرين. كانت حالة وعيي متهالكة وكان لديه حقا أماكن أخرى يعيش فيها وهي مريحة بدرجة لا نهائية بالمقارنة بالكوخ الذي وجدته فيه في البداية. كما أتضح أنه ليس بالساحر المنعزل عن الناس مثلما ظننت في البداية بل كان قائدا لمجموعة من خمسة عشر سالكا محاربا: عشرة نساء وخمسة رجال. كانت دهشتي هائلة عندما أخذني لمنزله في المكسيك الوسطى حيث كان يعيش هو وأصحابه السالكون.
    "هل كنت تعيش في سونورا فقط لأجلي يا دون خوان؟"
    سألته وأنا عاجز عن مواجهة المسؤولية التي ملأتني بالشعور بالذنب والندم و عدم الاستحقاق.
    "في الواقع لم أكن أعيش هناك، فقط قابلتك هناك".
    "لكنك .. لكنك.. لكنك لم تكن تعرف متى سآتي لزيارتك يا دون خوان. لم تكن لدي وسيلة أعلمك بها أنني قادم".
    "حسنا إذا تذكرت بصورة صحيحة فقد كانت هناك عدة مرات لم تجدني فيها. كان يتوجب عليك عندها الجلوس والصبر وانتظاري لمدة قد تصل لأيام أحيانا".
    سألته بتشوق:" هل كنت تركب الطائرة من هنا لجوياماس يا دون خوان؟" سألته وأنا أفكر أن أقصر الطرق هو السفر جوا.
    "كلا لم أركب طائرة لجوياماس. قال ذلك بابتسامة كبيرة. "كنت أطير مباشرة للكوخ الذي كنت تنتظرني فيه".

    عرفت أنه يقول لي عمدا شيئا ما كان عقلي الخطي يفهمه أو يتقبله، شئ كان يحيرني تماما. كنت حينها في حالة وعي تجعلني أسال نفسي السؤال الحتمي:"ماذا لوكان ما يقوله دون خوان حقيقيا فعلا؟"
    لم أرد أن أسأله أية أسئلة أخرى لأنني تهت بدرجة لاتنفع معها المساعدة، وأنا أحاول أن أجمع بين مساري الفكر والفعل.
    في محيطه الجديد بدأ دون خوان يدرسني جانبا من جوانب معرفته أكبر تعقيدا، جانب تطلب كل انتباهي، جانب لم يكن يكفي فيه تعليق إصدار الأحكام. كان ذلك هو الوقت الذي توجب عليه فيه أن أقفز وأغوص في عمق معرفته. توجب علي أن أكف من أن أكون فاعلا وفي نفس الوقت لا أكون منفعلا.

    ذات يوم كنت أساعد دون خوان في تنظيف بعض سيقان نبات البامبو في مؤخرة منزله. طلب مني ارتداء قفازات عمل لأنه قال أن شظايا البامبو حادة جدا ويمكنها أن تسبب التهابات بسهولة. وأراني كيفية استعمال السكين لتنظيف البامبو. وانغمست في العمل وعندما بدأ دون خوان يكلمني توجب علي التوقف عن العمل لكي أوجه انتباهي له. وقال لي أنني عملت لزمن طويل بما يكفي وأن علينا أن ندخل المنزل.
    طلب مني الجلوس في كرسي مريح في حجرة المعيشة الواسعة التي تكاد تكون خالية. وقدم لي بعض الجوز و المشمش المجفف و شرائح جبن موضوعة بتنسيق في صحن، احتججت بأنني أريد أن أنظف البامبو. لم أرد أن آكل. لكنه لم يعرني اهتماما وقال أني علي أن أمضغ ببطء وحرص لأنني سأحتاج لأن يتدفق الطعام باستمرار لكي أكون منتبها ويقظا لما سيقوله لي.
    "أنت الآن تعرف أنه توجد قوة في الكون سماها قدامى عارفي المكسيك بحر الوعي AWARENESS المظلم. عندما وصلوا لأقصى قدرتهم على النظر والإبصار رأوا شيئا جعلهم يرتعدون داخل سراويلهم لو كان يلبسون سروايل في ذلك الزمان. لقد أبصروا أن بحر الوعي المظلم ليس مسؤولا عن وعي الكائنات العضوية الحية فحسب بل أيضا وعي كائنات ليس لها أجساد".
    "ما هذا يا دون خوان؟ كائنات حية لا أجساد لها، لديها وعي؟" سالته وأنا مندهش، فهو لم يعبر عن فكرة كهذه من قبل.
    "اكتشف الشامانات القدماء أن الكون بكامله يتركب من قوتين توأمتين. قوتين معاكستين ومكملتين لبعضهما البعض. لايمكن الهروب من حقيقة أن عالمنا هو عالم توأم. العالم المعاكس والمكمل له هو عالم تسكنه كائنات لديها وعي لكن ليس لديها أجساد. لهذا السبب سماها الشامانات القدماء الكائنات اللاعضوية."
    "أين هذا العالم يا دون خوان؟ سألته وأنا أمضغ بلا وعي قطعة مشمش مجفف.
    "هنا في المكان الذي نجلس فيه أنا وأنت." قال ذلك مجيبا وكأنه يعبر عن حقيقة ثابتة ولكنه كان يضحك من تصرفاتي العصبية. "قلت لك أنه عالمنا التوأم لذلك فهو مرتبط بنا بصورة حميمة. عارفي المكسيك القديمة لم يكونوا يفكروا مثلك أنت بمصطلحات الفضاء والزمن، كانوا يفكرون بصورة اقتصارية بمصطلحات الوعي. هناك نوعان من الوعي موجودان دون أن يصطدما ببعضهما البعض لأن كل نوع مختلف تماما عن الآخر. واجه الشامانات القدماء مشكلة الوجود المترافق دون أن يتعبوا أنفسهم بالفضاء والزمن. استنتجوا أن درجة وعي AWARENESS الكائنات العضوية والكائنات اللاعضوية مختلفة بدرجة كبيرة بحيث يمكن لكلاهما أن يوجدا معا دون أن يحدث تداخل بينهما سوى القليل جدا.
    سألت:" هل يمكننا رؤية هذه الكائنات اللاعضوية يا دون خوان؟"
    أجابني:"بالتأكيد نستطيع. العارفين يفعلون ذلك برغبتهم. الأشخاص العاديون يفعلون ذلك أيضا لكنهم لا يلاحظون أنهم يفعلون ذلك لأنهم يجهلون وجود العالم التوأم. عندما يفكرون في عالم توأم فهم يدخلون في مختلف أنواع الخيالات العقلية، لكن لم يخطر ببالهم أبدا أن خيالاتهم لها أساس من المعرفة اللطيفة جدا والتي نملكها نحن جميعا: أننا لسنا وحدنا".

    تسمرت في مكاني بسبب كلمات دون خوان. فجأة أصابني جوع شديد. كان هناك خواء في قاع بطني. كان كل ما يمكنني فعله هو الإنصات بأشد حرص أستطيعه والأكل.
    استمر قائلا: "الصعوبة هي مواجهتك للأشياء بمصلحات الفضاء والزمن هي أنك لا تلاحظ شيئا ما لم يهبط في الفضاء والزمن الخاصين بك، وهذا أمر شديد المحدودية.من ناحية أخرى العارفون لديهم مجال واسع يمكنهم أن يلاحظوا فيه أي شئ أجنبي يهبط عليه. الكثير من الكائنات الآتية من الكون الواسع، كائنات لديها وعي ولكن ليس لديها أجساد، تهبط في مجال الوعي الخاص بعالمنا أو مجال الوعي الخاص بالعالم التوأم لعالمنا تنتمي لعوالم أخرى موجودة بجانب عالمنا وتوأمه. الكون الواسع ممتلئ حتى الحافة بعوالم الوعي الخاصة بالكائنات العضوية واللاعضوية."
    استمر دون خوان في الكلام وقال أن أولئك العارفون كان يعرفون عندما يهبط في مجال وعيهم وعي خاص بكائن لاعضوي من عالم آخر غير عالمنا التوأم. ومثلما كان سيفعله أي بشري من الأرض فقد وضع هولاء الشامانات تصنيفات لا تحصى للأنواع المختلفة من هذه الطاقة التي لديها وعي. وقد أطلقوا عليهم المصطلح العام: الكائنات اللاعضوية.
    سألته"هل لهذه الكائنات اللاعضوية حياة مثل حياتنا؟"
    "إذا كنت تعتقد أن الحياة هي أن تكون واعيا فإن لهم حياة. أفترض أنني سأكون دقيقا عندما أقول أنه إذا كانت الحياة تقاس بشدة الوعي ومدته وحدته فهم بكل تأكيد أشد حياة مني ومنك".
    "هل تموت هذه الكائنات اللاعضوية يادون خوان؟"
    ضحك دون خوان لوهلة قبل أن يواصل قائلا:"إذا كنت تعني بالموت نهاية الوعي فنعم هم يموتون. وعيهم ينتهي. موتهم هو في الواقع شبيه بموت البشر، وفي نفس الوقت لا يشبهه لأن موت البشر يتضمن خيارا خفيا. في بعض الأوقات ذلك الخيار هو مثل فقرة في مستند قانوني مكتوبة بحروف صغيرة جدا بالكاد يمكن رؤيتها. يتوجب عليك استعمال عدسة لتقرأها مع أنها أهم فقرة في المستند".
    "ما هو الخيار الخفي يا دون خوان؟"
    "الخيار الخفي في الموت يقتصر على العارفين وحسب. هم الوحيدون في حدود علمي الذين قرأوا تلك الفقرة. بالنسبة لهم الخيار مقبول و فعال. بالنسبة للبشر العاديين الموت يعني نهاية وعيهم ونهاية أجسادهم. بالنسبة للكائنات اللاعضوية الموت يعني نفس الشئ: نهاية وعيهم. في كلا الحالتين نتيجة الموت هي أن يتم امتصاصهم وجرهم لداخل بحر الوعي المظلم. وعيهم الفردي المحمل بخبرات حيواتهم يحطم حواجزه و ينتثر الوعي الذي هو طاقة في بحر الوعي المظلم".
    "لكن ما هو خيار الموت الخفي الذي لا يختاره سوى العارفون يا دون خوان؟"
    "بالنسبة للعارف فإن الموت هو عامل توحيدي. بدلا من تفكيك وانهاء الكائن الحي مثلما يحدث في العادة فإن الموت يوحد الكائن".
    "كيف يمكن للموت أن يوحد شيئا؟"
    "موت العارف ينهي حكم الأمزجة الفردية في الجسد. الشامانات القدما اعتقدوا أن سلطة الأجزءا المختلفة من الجسم هي التي تحكم الحالات المزاجية و أفعال الجسد بكامله، الأجزءا التي تعطب تجر الجسد بكامله للفوضى مثلا حين عندما تمرض بسبب أكل طعام فاسد. في تلك الحالة فإن مزاج معدتك يؤثر على كل البقية. الموت يجتث سلطة هذه الأجزاء المستقلة. إنه يوحد وعيها في وحدة واحدة."
    "هل تعني أن العارفين يحتفظون بوعيهم بعد الموت؟"
    "بالنسبة للعارفين الموت هو فعل توحيد يتطلب كل ذرة من طاقتهم. أنت تفكر في الموت على أساس أنه جثة أمامك، جسم حل فيه التعفن. بالنسبة للعارفين عندما يتم فعل التوحيد فليس هناك جثة. ليس هناك تعفن. كل أجسامهم تتحول لطاقة، طاقة لها وعي غير مقسم لأجزاء. الحدود التي كان الجسد قد رسمها وهي الحدود التي يهدمها الموت لا تزال تعمل عند العارفين رغم أنها لم تعد مرئية بالعين المجردة".
    واستمر بابتسامة عريضة:" أنا أعرف أنك تتحرق لتسألني عما إذا كنت أصف الروح التي تذهب للجنة أو للنار. كلا تلك ليست هي الروح. ما يحدث للعارفين عندما يأخذون الخيار الخفي في الموت هو أنهم يتحولون لكائنات غير عضوية، كائنات لها قدرة على القيام بمناورات إدراك بصري هائلة. حينها يدخل العارفين فيما سماه شامانات المكسيك القدماء بالرحلة النهائية. اللانهاية أصبحت هي مجال فعلهم".
    "هل تعني بهذا يا دون خوان أنهم يصبحون سرمديين؟"
    "وعي يقظتي sobriety كعارف يقول لي أن وعيهم ينتهي بنفس الكيفية التي ينتهي بها وعي الكائنات اللاعضوية لكنني لم أر ذلك يحدث. ليس لدي معرفة مباشرة بذلك. اعتقد العارفون القدماء أن وعي هذا النوع من الكائنات اللاعضوية يبقى طالما بقيت الأرض حية. الأرض هي مصفوفتهم. طالما هي باقية يستمر وعيهم. بالنسبة لي هذه عبارة منطقية جدا".

    كانت استمرارية وتنسيق شرح دون خوان بالنسبة لي رائعة. لم أجد طريقة لكي أساعده فيها في الشرح. وتركني وأنا ممتلئ بشعور بالغموض وتوقعات صامتة تنتظر أن يتم إشباعها.

    في زيارتي اللاحقة لدون خوان بدأت حديثي بسؤاله بتشوق سؤالا كان يتصدر أفكاري.

    "هل هناك احتمالية يا دون خوان أن الأشباح والأطياف موجودة حقا؟"
    وقال لي:" ماتعتبره أنت شبحا أو طيفا عندما يفحصه العارف ينتهي لأمر واحد: من المحتمل أن كل تلك الأطياف الشبحية هي تجمعات من مجالات الطاقة التي لها وعي ونحن نحولها لأشياء نعرفها. لو صح ذلك فالأطياف لها طاقة. العارفون يسمونها تركيبات مولدة للطاقة. وإذا لم تكن هناك طاقة تخرج منها ففي تلك الحالة فهي تخليقات خيالية في العادة من جانب شخص قوي جدا، قوي فيما يتعلق بالوعي".
    ......
    ......

    وقال دون خوان أن الكائنات اللاعضوية التي تعيش في عالمنا التوأم اعتبرتها سلسلة العارفين التي يتبعها أقارب لنا. اعتقد الشامانات أن من غير المجدي إقامة صداقات مع أفراد عائلتنا لأن الطلبات التي يلقى بها على عاتقنا في مثل تلك الصداقات دائما منهكة. وقال أن نوع الكائنات اللاعضوية الذين هم أبناء عمنا الأقرب يتصل بنا بلا انقطاع ولكن اتصالهم بنا ليس في مستوى الوعي الصاحي conscious awareness. بمعنى آخر نحن نعرف كل شئ عنهم بطريقة متسامية لطيفة في حين أنهم يعرفون كل شئ عنا بطريقة واعية وإرادية.

    "الطاقة الخاصة بأبناء عمنا الأقرب هي معوقة. هم في نفس حال السوء الذي نحن فيه. لنقل أن الكائنات العضوية واللاعضوية الخاصة بعالمينا التوأمين هم أبناء أختين تعيشان جارتين لبعضهما البعض. هم مثلنا تماما رغم أن شكلهم مختلف. هم لا يستطيعون مساعدتنا ولا نستطيع نحن مساعدتهم. ربما يمكننا أن نجتمع ونؤسس شركة عائلية قوية لكن ذلك لم يحدث. كلا فرعي العائلة حساسين جدا و يشعران بالإهانة لأقل سبب، وهي العلاقة التقليدية بين أبناء الخالات. خلاصة الأمر هي أن عارفي المكسيك القديمة اعتقدوا أن كلا من البشر والكائنات اللاعضوية من العالمين التوأمين هم متكبرون جدا".

    وفقا لدون خوان فهناك تصنيف آخر قام به عارفي المكسيك القديمة للكائنات اللاعضوية وهو الكشافة أو المستكشفين وعنوا بهم كائنات لا عضوية تأتي من عمق الكون تمتلك وعيا حاد وقوي وسريع بدرجة لا نهائية بالمقارنة بالبشر. أكد دون خوان أن أجيالا من السحرة مرت وهم يجودون مشروعهم التصنيفي وكانت خلاصة ما وصلوا إليه أن بعض أنواع الكائنات اللاعضوية من فئة الكشافة أو المستكشفين هم شبيهون بالبشر بسبب حيويتهم. يمكنهم إقامة روابط وعلاقات رمزية مع البشر. قام العارفون لاقدماء بتسمية هذه الكائنات بالحلفاء.

    وقال دون خوان أن الخطأ الأساسي الذي وقع فيه أولئك الشامانات عند الإشارة لهذا النوع من الكائنات اللاعضوية هو إضفاء صفات بشرية على على تلك الطاقة التي هي لاشخصية وكذلك اعتقادهم أن بإمكانهم التحكم فيها. كانوا ينظرون لهذه الكتل من الطاقة على أساس أنهم معاونيهم واعتمدوا عليهم دون أن يفكروا أن تلك الكائنات لكونها طاقة محضة لا يمكنها الاستمرار في أي مجهود.
    قال دون خوان فجأة :"شرحت لك كل ما يتوجب معرفته عن الكائنات اللاعضوية. الطريقة الوحيدة لكي تختبر بها معرفتك هي أن تمتحنها باختبار الموضوع مباشرة".

    لم أساله عما يريد مني أن أفعله، فقد تملكني خوف رهيب جعل جسمي يرتعد بتشنجات عصبية كبركان ممتدة من ضفيرتي الشمسية حتى أخمس قدمي وللأعلى عبر جذعي.
    "اليوم سوف نذهب للبحث عن بعض الكائنات اللاعضوية" قال دون خوان ذلكالتصريح.

    أمرني دون خون أن أجلس على جانب السرير وأن أتخذ وضعية الصمت الداخلي. اتبعت تعليماته بالسهولة المعتادة. عادة كنت أكون رافضا ولو بدرجة غير مكشوفة ولكن بشعور من الرفض. أتتني فكرة باهتة بأنني حالما جلست أصبحت في حالة صمت داخلي. لم تعد أفكاري واضحة. شعرت بظلام حالك يحيط بي يجعلني أحس كما لو كنت أستسلم للنوم. كان جسدي بلا حراك بسبب أنني لم تكن لدي نية لأمره بالحركة أو ربما لأنني فقدت القدرة على تكوين الأمر بالحركة.

    بعد لحظة وجدت نفسي مع دون خوان نسير في صحراء سونورا. تعرفت على ما يحيط بنا فقد كنت قد زرت تلك المنطقة معه بكثرة بحيث كنت أتذكر ادق تفاصيلها. كان الوقت هو الأصيل وجعلني ضوء الشمس الغاربة أشعر باليأس. سرت بصورة آلية وأنا منتبه إلى أنني أشعر باحساسي في جسدي لا ترافقها أفكار. لم أكن أصف لنفسي حالة الكينونة التي أنا فيها. أردت أن أقول ذلك لدون خوان لكن الرغبة في اخباره بما أجسه في جسدي اختفت في لحظة.

    يتبع
                  

08-23-2009, 04:45 PM

محمد عثمان الحاج

تاريخ التسجيل: 02-01-2005
مجموع المشاركات: 3514

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: محمد عثمان الحاج)

    قال دون خوان ببطء شديد وبصوت منخفض وبلهجة توحي بأمر جلل أن مجرى الوادي الجاف الذي كنا نسير فيه هو المكان الأنسب لما نحن بصدده وأنه يتوجب علي الجلوس على صخرة صغيرة وحيدا في حين اتجه هو نحو صخرة أخرى تبعد نحو خمسين قدما وجلس عليها. لم أسأل دون خوان حسب عادتي عما هو مطلوب مني أن أفعله. كنت أعرف ما يتوجب علي فعله. عندها سمعت أصوات أقدام أناس يسيرون بين الشجيرات التي كانت منتشرة في المكان بصورة غير كثيفة. لم يكن الجو في المنطقة رطبا بدرجة كافية لكي تنمو فيه حشائش كثيفة. كانت هناك شجيرات قوية تنمو هناك على مسافات بينها تتراوح بين العشرة وخمسة عشر قدما.

    ثم رأيت رجلين يتقدمان نحوي. بدا أنهما رجلين محليين ربما هنود حمر من قبيلة الياكي آتيين من إحدى مدن الياكي في الجوار. وحضرا ووقفا بجانبي. وسألني أحدهما بفتور عن حالي. أردت أن ابتسم له أو أضحك ولكن لم أستطع. كان وجهي متصلبا بشدة. لكنني كنت فرحا. كنت أريد أن أقفز وأقفز في مكاني لكنني لم أستطع. أخبرته أنني بخير. ثم سألتهما عمن هما. قلت لهما أنني لا أعرفهما لكنني كنت أشعر بألفة غير عادية تجاههما. وقال أحدهما وكأنه يعبر عن حقيقة ثابتة أنهما حليفي.

    حدقت إليهما محاولا تذكر ملامحهما لكن ملامحهما أخذت في التغير. بدا أنهما يشكلان أنفسهما حسب مزاج نظرتي لهما. لم تكن هناك أية أفكار في عقلي أثناء ذلك. كان كل شئ أمر توجهه أحاسيسي الداخلية. حدقت إليهما وقتا طويلا بحيث انمسحت ملامحهما تماما وفي النهاية كان في مواجهتي كتلتين مشعتين تهتزان. لم يكن للكتلتين حدود ظاهرة. بدا أنهما تحتفظان بشكلهما بسبب قوة جذب للداخل. في أوقات كانتا تصبحان عريضتين وواسعتين. ثم كانتا تتخذان وضعا رأسيا مرة أخرى على ارتفاع قامة رجل.

    فجأة شعرت بذراع دون خوان تشبك على ذراعي وتجذبني بعيدا عن الصخرة. قال لي أن الوقت حان للذهاب. وجدت نفسي في لمح البصر في منزله مرة أخرى في وسط المكسيك وأنا متحير أكثر من أي وقت آخر.

    قال لي دون خوان : "اليوم وجدت الوعي اللاعضوي ثم رأيته بعين البصيرة على حقيقته. الطاقة هي البنية الأساسية لكل شئ وفيما يتعلق بنا فإن رؤية الطاقة مباشرة هي أمر أساسي بالنسبة للإنسان. ربما هناك أشياء أخرى وراء ذلك لكنها لم تتح لنا بعد".
    وأعاد دون خوان تأكيد الكلام عدة مرات، وفي كل مرة كان يقول فيها ذلك بدت كلماته وكأنها تجعلن جسدي أشد صلابة لتساعدني على العودة لحالتي الطبيعية.

    أخبرت دون خوان بكل ما رأيته وسمعته. قال لي دون خوان أنني يومها نجحت في تحويل الشكل البشري الذي تشكلت به الكائنات اللاعضوية إلى شكلها الأساسي: طاقة غير مشخصة ذات وعي بنفسها.

    "يجب أن تعرف أن إدراكنا cognition والذي هو في الأساس منظومة تفسير هو الذي يضيق مواردنا. منظومة التفسير الخاصة بنا هي التي تحدد لنا ما هي عناصر الاحتمالات الخاصة بنا، وحيث أننا ظللنا نستعمل تلك المنظومة طيلة حياتنا فلا نجرؤ على مخالفة ما تمليه."
    ومضى دون خوان قائلا:" إن طاقة هذه الكائنات اللاعضوية تدفع بنا في اتجاهات تعتمد على الحالة المزاجية التي نحن فيها. والشئ الأشد وعيا الذي يمكن للعارف أن يفعله هو رد هذه الكائنات للمستوى التجريدي. كلما قلت التفسيرات التي يقوم بها العارفون كلما كان حالهم أحسن"

    واستمر قائلا:" من الآن فصاعدا وفي كل مرة ترى فيها شبحا اثبت في مكانك وحدق إليه بتوجه لا ينثني. إذا كان كائن لا عضوي فإن تفسيرك له سيتساقط مثل أوراق الأشجار الميتة. أما إذا لم يحدث شئ فما رأيته لم يكن سوى هراء انحراف في عقلك، والذي هو ليس عقلك على كل حال".

    .........
    ...........
    .........

    ظلال طينية
    كان الجلوس في صمت مع دون خوان واحدة من أمتع التجارب التي مررت بها. كنا نجلس في راحة على كراسي محشوة في مؤخرة منزله في في جبال المكسيك الوسطى. كان الوقت هو الأصيل. كان هناك نسيم منعش يهب. كانت الشمس خلف المنزل وراء ظهورنا. كان ضوؤها المتناقص يخلق ظلالا رائعة من اللون الأخضر في الأشجار الضخمة في الالفناء الخلفي. كانت هناك أشجار ضخمة تنمو حول منزله ووراءه تحجب منظر المدينة التي يعيش فيها. كان ذلك يعطيني دائما الإحساس بأنني في الخلاء، خلاء مختلف عن خلاء صحراء سونورا العقيم، ولكنه خلاء على كل حال.

    قال دون خوان فجأة: "اليوم سنناقش واحدا من أشد المواضيع جدية في المعرفة. وسنبدأ الحديث بالكلام عن الجسد المكون من الطاقة (الجسد الطاقي)"

    كان قد وصف الجسد الطاقي لي عددا لا يحصى من المرات حيث قال أنه تجمع من مجالات الطاقة التي تصنع الجسد المادي عندما يتم النظر للجسد المادي بعين البصيرة بحيث يظهر كطاقة سارية في الكون. وقال أن الجسد الطاقي هو أصغر وأشد تماسكا وله مظهر أثقل من الكرة المضيئة الخاصة بالجسد المادي.

    كان دون خوان قد شرح لي أن الجسد والجسد الطاقي هما تجمعان من مجالات الطاقة مضغوطين إلى بعضهما بواسطة قوة لاصقة عجيبة. كان قد شدد وكرر مرارا أن القوة التي تربط مجموعة مجالات الطاقة معا هي وفقا لعارفي المكسيك القديمة هي أشد قوى الكون غموضا. كان تقديره الشخصي هو أنها الجوهر الصافي للكون، مجموع كل شئ موجود.

    كان قد أكد أن الجسد المادي والجسد الطاقي هما تركيبتا الطاقة الوحيدتين اللذين بينهما توازن تعاكسي في مجالنا كبشر. لذلك لم يكن يقبل بثنائية أخرى غير تلك الخاصة بهما. ثنائية الجسد والعقل، الروح واللحم كان هو ينظر إليها على أنها مجرد اختلاقات عقلية تصدر من العقل دون أن تكون مبنية على أساس من الطاقة.

    وقال دون خوان أن بوسع أي إنسان عن طريق الإنضباط أن يقرب بين الجسد المادي والجسد الطاقي. عادة المسافة بين الاثنين هائلة. حالما يصبح الجسد الطاقي على مسافة معينة تتفاوت من شخص لآخر، يمكن لأي شخص عن طريق الإنضباط في السلوك أن يشكله بحيث يصبح نسخة طبق الأصل من الجسد المادي، أي كائن صلب ثلاثي الأبعاد. تلك هي فكرة العارفين عن "الآخر" أو البدل. وبنفس الطريقة يمكن لأي إنسان عن طريق نفس السلوك المنضبط أن يحول الجسد المادي الثلاثي الأبعاد الصلب ليكون نسخة متقنة من الجسد الطاقي أي بمعنى آخر طاقة أثيرية غير مرئية بالعين المجردة البشرية، مثلها مثل أي طاقة أخرى.

    عندما أخبرني دون خوان بكل هذا سألته عما إذا كان يتكلم عن أساطير. وأجابني أنه لا توجد أساطير فيما يخص العارفين. العارفون هم أناس عمليون وما وصفوه كان دائما شيئا ذو صحو و عملي. وفقا لدون خوان فإن الصعوبة في فهم ما يفعله العارفون هو أنهم ينطلقون من منظومة معرفية cognitive مختلفة.

    ونحن جلوس في مؤخرة منزله في وسط المكسيك ذلك اليوم قال دون خوان أن الجسد الطاقي ذو أهمية قصوى فيما يحدث في حياتي. لقد رأى بعين البصيرة حقيقة طاقية (نسبة إلى الطاقة) أن جسدي الطاقي بدلا من الابتعاد عني مثلما يحدث في العادة كان يقترب مني بسرعة هائلة.
    سألته : "ماذا يعني أنه يقترب مني يا دون خوان؟"
    قال وهو يبتسم :"يعني أن شيئا سيهزك حتى النخاع. ستدخل حياتك درجة هائلة من التحكم ولكنه ليس تحكمك أنت بل تحكم الجسد الطاقي".
    "هل تعني يا دون خوان أن قوة خارجية ستتحكم في؟"
    أجابني دون خوان:"هناك عدد من القوى الخارجية التي تتحكم فيك في هذه اللحظة. التحكم الذي أتكلم عنه هو أمر خارج عن قدرة اللغة أن تعبر عنه. إنه تحكمك أنت وفي نفس الوقت ليس تحكمك أنت. لا يمكن تصنيفه ولكن يمكن اختباره. فوق كل شئ من المؤكد أنه يمكن توجيهه بحيث تكون في الوضع الأفضل بالطبع، وذلك مرة أخرى ليس الأفضل بالنسبة لك ولكن بالنسبة للجسد الطاقي. لكن على كل حال الجسد الطاقي هو أنت لذلك يمكننا الاستمرار للأبد ككلاب تعض ذيولها في محاولتنا تفسير ذلك. جميع هذه التجارب هي خارج حدود التعبير."

    حل الظلام بسرعة شديدة جدا وأصبحت أوراق الأشجار التي كانت خضراء متوهجة قبل مدة قصيرة داكنة جدا وثقيلة. وقال دون خوان أنني لو انتبهت بتركيز لعتمة أوراق الأشجار دون أن أركز نظري بل بالنظر بطريقة تشبه النظر بطرف العين فسأرى ظلا سابحا يعبر مجال بصري.

    "هذا هو الوقت المناسب من اليوم لعمل ما أطلبه منك. سيتطلب الأمر وقتا لكي توجه الانتباه الضروري في نفسك لكي تقوم به. لا تتوقف إلى أن ترى ذلك الظل الأسود السابح"

    وبالفعل رأيت ظلا أسود سابح على خلفية أوراق الأشجار. كان إما ظلا واحدا يسير جيئة وذهابا أو عددا من الظلا السابحة تتحرك من اليمين لليسار أو من اليسار لليمين أو باستقامة للأعلى في الهواء. بدت مثل أسماك سوداء سمينة بالنسبة لي. كان الأمر أشبه بسمك أبو سيف عملاق يطير في الهواء. واستغرقت بكليتي في المنظر. ثم في النهاية أصابني الرعب منه. أصبح الظلام شديدا بحيث اختفت أوراق الأشجار لكنني ما زلت أرى الظلال السوداء.

    "ماهذا يا دون خوان؟ أرى ظلالا سوداء سابحة تملأ المكان"

    قال لي:" آه. ذلك هو الكون الواسع. غير قابل للقياس، غير خطي، خارج عن حدود لغتنا. كان شامانات المكسيك القدماء هم أول من رأوا هذه الظلال السابحة لذلك تتبعوا تلك الظلال في سيرها. لقد رأوها مثلما أنت تراها الآن كما رأوها أيضا كطاقة تسري في الكون. واكتشفوا شيئا متساميا".
    وتوقف عن الكلام ونظر لي. كانت توقفاته أثناء الكلام عادة تأتي في الوقت المناسب تماما. كان دائما يتوقف عن الكلام عندما يصل بي التشوق لمداه.
    سألته:" ماذا اكتشفوا يا دون خوان؟"
    قال بأوضح لهجة ممكنة :"لقد اكتشفوا أن لدينا رفيقا يرافقنا مدى الحياة. لدينا كائن مفترس أتى من عمق الكون واستولى على حكم حياتنا. البشر هم سجناؤه. المفترس هو سيدنا والمتحكم فينا. لقد جعلنا مطيعين وعاجزين. إذا أردنا الاحتجاج قمع احتجاجنا. إذا أردنا التصرف من تلقاء أنفسنا أمرنا ألا نفعل ذلك".
    كان الظلام حالكا حولنا وبدا أن ذلك قد أخمد أي محاولة للكلام من جانبي. لو كان الوقت نهارا لكنت استغرقت في الضحك، ولكن في الظلام شعرت بأنني مقموع.
    قال دون خوان:" الظلام حالك حولنا ولكن لو نظرت بطرف عينك فسوف ترى ظلالا سابحة تتقافز حولك".
    كان على حق فقد كنت لا أزال قادرا على رؤيتهم. حركتهم جعلتني أشعر بالدوخة. وأشعل دون خوان المصباح وبدا أن ذلك جعل الرؤيا تتلاشى.
    قال دون خوان:" لقد وصلت بجهدك الخاص للموضوع الذي سماه شامانات المكسيك القدماء موضوع المواضيع. لقد كنت أدور حول هذا الموضوع طيلة الوقت موحيا لك أن هناك شئ جعلنا أسرى. نحن حقا مأسورون. كانت تلك حقيقة طاقية بالنسبة لشامانات المكسيك القديمة".
    قلت له:"لماذا استولى هذا المفترس على كل شئ بالطريقة التي وصفتها يا دون خوان؟ لابد أن هناك تفسيرا منطقيا ما؟"
    أجاب دون خوان:" هناك تفسير هو أبسط تفسير في العالم. لقد استولوا على كل شئ لأننا طعام بالنسبة لهم وهم يعتصروننا بلا رحمة لأننا غذاؤهم. مثلما نحن نربي الدجاج في أقفاصه فإن المفترسون يربوننا في أقفاص بشرية لكي يكون غذاؤهم دائما في متناول أيديهم".
    شعرت برأسي يهتز بعنف من جانب لآخر. كنت عاجزا عن التعبير عن شعوري الهائل بعدم الإطمئنان وعدم الارتياح ولكن جسدي تحرك من تلقاء نفسه ليعبر عنه. أخذت أرتعد غصبا عني من قمة رأسي وحتى أخمص قدمي.
    سمعت نفسي أقول" كلا، كلا ، كلا. هذا عبثي يا دون خوان. ما تقوله هو شئ وحشي. ببساطة لايمكن أن يكون ذلك صحيحا سواء بالنسبة للعارفين أو البشر العاديين أو غيرهم".
    قال دون خوان بهدوء:"لماذا؟ لأن الأمر يغضبك؟"
    "نعم لأنه يغضبني." رددت عليه."هذه الادعاءات وحشية!"
    قال لي"حسنا، أنت لم تسمع الإدعاء بكامله بعد. انتظر لحظة أخرى وانظر كيف تشعر. سأقوم بتعريضك لعاصفة، أي أنني سأقوم بتعريض عقلك لهجمات هائلة، وسوف تعجز عن النهوض والمغادرة لأنك مأسور. ليس لأنني قد أسرتك بل لأن شيئا في داخلك سيمنعك من المغادرة في حين أن جزءا آخر منك سيكون في حالة هياج. جهز نفسك!"
    كان هناك شئ في داخلي يشتهي العقاب. كان على حق. ما كنت سأغادر منزله مهما كان الثمن، ولكنني لم أحب ما كان يقوله من تصريحات.
    قال دون خوان:"سأتوجه بالكلام لعقلك التحليلي. فكر للحظة وأخبرني كيف تفسر التناقض بين ذكاء الإنسان كمهندس وغباء منظوماته الاعتقادية أو غباء سلوكه المتناقض. يعتقد العارفون أن المفترسون هم الذين أعطونا منظومات الاعتقادات الخاصة بنا، فكرتنا عن الخير والشر، وأعرافنا الاجتماعية. هم الذين وضعوا آمالنا وتوقعاتنا وأحلامنا بالنجاح أو الفشل. لقد أعطونا الطمع والجشع والجبن. المفترسون هم الذين يجعلوننا طائعين نتبع الروتين ومهووسون بأنفسنا:.

    سألته وأنا بصورة ما ازددت غضبا بسبب ما قاله"ولكن كيف يفعلون ذلك يا دون خوان؟ هل يهمسون بكل ذلك في آذاننا عندما ننام؟"
    قال دون خوان وهو يبتسم :"كلا هم لايفعلون ذلك بتلك الكيفية، هذا جهل. هم أشد كفاءة وتنظيما بصورة لا نهائية من ذلك. لكي يبقوننا مطيعين وضعفاء ووضيعين فقد انغمسوا في القيام بمناورة مدهشة ، مدهشة بالطبع من وجهة نظر خبير في استراتيجية القتال. وهي مناورة مرعبة من وجهة نظر أولئك الذين يعانون بسببها. لقد أعطونا عقولهم! هل تسمعني؟ المفترسون يعطونا عقولهم والتي تصبح عقولنا. عقل المفترس معقد وكئيب وممتلئ بالخوف من أن يتم اكتشافه في أي لحظة".
    واستمر قائلا:" أنا أعرف أنك رغم أنك لم تعاني من الجوع أبدا من قبل في حياتك فلديك قلق من ألا تجد ما يكفي من الطعام وذلك القلق إنما هو قلق المفترس الذي يخشى أن يتم اكتشاف مناورته في أي لحظة وحرمانه من الطعام. عبر العقل والذي هو في نهاية لمطاف عقلهم هم يقوم المفترسون بحقن حياة البشر بما يلائم المفترسين. وهم بهذه الطريقة يضمنون درجة من الأمان تعمل كواقي من الخوف الذي يشعرون به".
    قلت له:" ليس الأمر ببساطة هو أنه لا يمكنني تقبل ما تقوله يا دون، بل يمكنني تقبله، ولكن الأمر أن فيه شيئا شاذا ينفرني. إنه يجبرني على اتخاذ موقف متناقض. لو صح أنهم يأكلوننا فكيف يفعلون ذلك؟"
    ابتسم دون خوان ابتسامة عريضة. كان مسرورا. وشرح لي أن العارفين يرون بعين الكشف الأطفال الرضع ككرات طاقة مشعة غريبة مغطاة من القاع للقمة بكساء متوهج، شئ يشبه غطاء بلاستيكي مركب بإحكام على شرنقة الطاقة. وقال أن كساء الوعي المتوهج هذا هو ما يتغذى به المفترس وأنه عندما يبلغ الإنسان الحلم فإنما يتبقى من الكساء المتوهج ليس سوى حافة ضيقة تمتد من القاع للقمة. تلك الحافة تسمح للبشر بالاستمرار في الحياة ولكن الحد الأدنى الممكن من الحياة.

    وكأنني في حلم سمعت دون خوان ماتوس يشرح لي أنه في حدود علمه فالبشر هم الكائنات الوحيدة التي لديها كساء الوعي المتوهج خارج شرنقتها المضيئة. لذلك أصبح البشر فريسة سهلة لوعي من نوع مختلف هو الوعي الثقيل الخاص بالمفترسين.
    ثم بعد ذلك صرح بالتصريح الأشد إتلافا فيما قاله حتى الآن. قال أن هذه الحافة الضيقة من الوعي هي مركز التفكير في النفس الذي هو نقطة الوعي الوحيدة التي تم تركها لنا. المفترسون يخلقون شتعالات من الوعي في الإنسان يقومون بالتهامها بطريقة افتراسية بلا رحمة. إنهم يخلقون لنا مشاكل غبية تجعل تتسبب في نشوء تلك الإشتعالات وبتلك الطريقة يبقوننا أحياء لكي يمكن لهم أن يتغذوا من الإشتعال الطاقي الناتج من همومنا الكاذبة".
    لابد أن ماكان يقوله دون خوان كان فيه شئ مدمر بالنسبة لي بحيث أنني في تلك اللحظة تقيأت ما في بطني.

    بعد لحظة صمت طالت بما يكفي لكي أسترجع نفسي سألت دون خوان:" ولكن لماذا لم يفعل عارفوا المكسيك القديمة وعارفوا اليوم شيئا تجاه المفترسون رغم أنهم يرونهم بطريق الكشف؟"
    قال دون خوان بصوت جاد وحزين:" لا يوجد شئ نستطيع أنا وأنت فعله بخصوص ذلك. كل ما يمكننا عمله هو رياضة أنفسنا للدرجة التي تجعلهم عاجزين عن لمسنا. كيف يمكن لك أن تطلب من إخوتك البشر أن يمروا عبر مشاق رياضة النفس هذه؟ سيضحكون عليك ويسخرون منك والعدوانيون من بينهم سيضربونك ضربا مبرحا. ليس لأنهم لا يصدقون ففي داخل كل إنسان هناك معرفة غريزية داخلية بوجود المفترسين".

    يتبع
                  

08-24-2009, 06:06 PM

محمد عثمان الحاج

تاريخ التسجيل: 02-01-2005
مجموع المشاركات: 3514

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: محمد عثمان الحاج)

    قفز عقلي التحليلي جيئة وذهابا مثل لعبة اليويو. تركني ورجع ثم تركني ورجع مرة أخرى. ما كان يقترحه دون خوان كان معاكسا وغير قابل للتصديق، وفي نفس الوقت كان أمرا شديد المنطقية وبسيط. لقد فسر جميع التناقضات البشرية التي فكرت فيها. ولكن كيف يمكن للإنسان أن يحمل هذا الأمر محمل الجد؟ لقد كان دون خوان يدفع بي في مسار انهيار جليدي سيدفع بي نحو هاوية يمتد السقوط فيها للأبد.
    شعرت بموجة أخرى من الأحاسيس المهددة. لم تنبع الموجة مني ولكنها كانت مرتبطة بي. كان دون خوان يفعل شيئا في، شيئا إيجابيا بصورة غامضة وفي نفس الوقت سلبي بدرجة مرعبة. شعرت به كمحاولة لقطع غشاء رقيق بدا أنه ملصق بي. كانت عيونه مثبتة في عيوني بنظرة لا تطرف. وحرك عينيه بعيدا واستمر في الكلام دون أن يعيد النظر لي.
    "الشكوك التي تنتابك لدرجة خطيرة افعل شيئا انتفاعيا تجاهها. اطفئ النور. اخترق الظلام، اعثر على ما يمكن لك أن تراه".
    ونهض ليطفئ النور. وأوقفته.
    "كلا، كلا يا دون خوان. لا تطفئ النور. أنا بخير".
    ما شعرت به كان شيئا غير معتاد أبدا بالنسبة لي وهو الخوف من الظلام. مجرد التفكير فيه جعلني ألهث. بالتأكيد أنا أعرف شيئا معرفة في قرارة نفسي، لكنني ما كنت أجرؤ على مسه أو إحضاره للسطح حتى لو طال الانتظار لمليون سنة!
    قال دون خوان وهو يجلس على كرسيه:" لقد رأيت الظلال السابحة على خلفية الأشجار. ذلك جيد. أود منك أن تراها داخل هذه الحجرة. أنت لم تر شيئا بعين البصيرة . ما أبصرته كان مجرد لمحات سابحة. عندك طاقة كافية لذلك".
    كنت أن أخشى أن ينهض دون خوان ويطفئ النور، وهو ما فعله فعلا. بعد ثانيتين من ذلك كنت أصرخ بأعلى صوتي. لم أر لمحة لهذه الصور السابحة فحسب بل سمعتها تطن بجوار أذني. وانفجر دون خوان بالضحك وهو يعيد تشغيل المصباح.
    "يا لك من إنسان مزاجي! أنت شديد الإنكار من ناحية، ومن ناحية أخرى فأنت براجماتي بدرجة كاملة. يجب أن تنسق هذا الصراع الداخلي وإلا سوف تنتفخ كضفدع ضخم وتنفجر".
    واستمر دون خوان يدفع بشوكته الحادة في داخلي.
    قال:" لقد رأى عارفو المكسيك القديمة المفترس. وسموه الطيار لأنه يقفز في الهواء. منظره ليس جميلا. إنه ظل ضخم ذو ظلمة لا تخترق، ظل أسود يقفز عبر الهواء. ثم يهبط مفلطحا على الأرض. لم يصل عارفو المكسيك القديمة لحسم فكرة متى ظهر هذا المفترس على كوكب الأرض. لقد استنتجوا أن الإنسان لابد وأنه كان كائنا مكتملا في وقت من الأوقات له إلهامات مدهشة وقدرات وعي أسطورية بالنسبة لما هو عليه اليوم. ثم بدا أن كل شئ اختفى ولدينا الآن إنسان مخدر".
    أردت أن أغضب عليه وأن أصمه بأنه مصاب بجنون الخوف ولكن بصورة ما فإن الاستقامة التي كانت في العادة تحت سطح كينونتي لم تعد هناك. كان هناك شئ في داخلي قد مضى لما هو أبعد من النقطة التي أسأل فيها نفسي: ماذا لو كان كل ما يقوله حق؟ في اللحظة التي كان يتكلم فيها معي تلك الليلة في قرارة فؤادي شعرت بأن جميع ما قاله حق ولكن في نفس الوقت شعرت بأن كل ما قاله هو العبث بعينه.
    سألته بوهن:" ماذا تقول يادون خوان؟" كان حلقي منقبضا وكنت لا أكاد أقدر على التنفس.
    "ما أقوله أن مايقف ضدنا ليس مجرد مفترس بسيط. إنه ذكي جدا ومنظم. إنه يتبع منظومة منهجية ليجعلنا عديمي الفائدة. الإنسان، ذلك الكائن السحري مثلما قدر له أن يكون لم يعد كائنا سحريا. ليس سوى قطعة لحم عادية. لم تعد هناك أمنيات لدى الإنسان سوى أمنيات حيوان تتم تربيته لكي يؤكل لحمه: مستهلك، تقليدي، متخلف عقليا".
    كانت كلمات دون خوان تبعث في رد فعل جسدي غريب يشبه الغثيان. بدا كما لو أنني سأتقيأ مرة أخرى. لكن الغثيان كان ينبع من قاع كينونتي، من نخاع عظامي. تشنجت بصورة لا إرادية. وهز دون خوان أكتافي بعنف. شعرت برقبتي تهتز للأمام والخلف تحت صدمة مسكته. أدت تلك المناورة لتهدئتي على الفور. شعرت أنني مسيطر على نفسي بدرجة أكبر.
    قال دون خوان:" هذا المفترس، والذي هو بالطبع من الكائنات اللاعضوية، ليس خفيا عنا تماما مثلما هو حال بقية الكائنات اللاعضوية. أعتقد أننا في مرحلة الطفولة نراه ونقرر أنه مرعب لدرجة لا نريد معها أن نفكر فيه. الأطفال بالطبع يمكنهم أن يركزوا على منظره، ولكن كل من حولهم يدفعونهم بعيدا عن ذلك".

    واستمر قائلا:" إن الخيار الوحيد الباقي أمام البشر هو الانضباط (رياضة النفس )discipliene. رياضة النفس هي الرادع الوحيد. لا أقصد برياضة النفس اتباع روتين قاسي. لا أعني الاستيقاظ في الخامسة والنصف صباحا وصب الماء البارد على الجسم حتى يزرق لونك. العارفون يفهمون رياضة النفس على أنها القدرة على مواجهة أشياء شاذة لا نتوقعها، بثبات وهدوء . بالنسبة لهم رياضة النفس هي فن: فن مواجهة اللانهاية دو نكوص، ليس لأنهم أقوياء وذوي صلابة، بل لأنهم ممتلئون بالرهبة".
    سألته :"كيف يمكن لرياضة أنفس العارفين أن تكون رادعا؟"
    قال دون خوان وهو يتفحص وجهي باحثا عن أي علامة تكذيب: "يقول العارفون أن رياضة النفس تجعل كساء الوعي المتوهج كريه الطعم وغير قابل للأكل بالنسبة للطيار. نتيجة ذلك أن المفترس يصبح متحيرا. غشاء وعي متوهج غير قابل للأكل هو أمر خارج قدرتهم المعرفية حسبما أفترض. بعد أن يصابوا بالحيرة لا يبقى لهم ما يفعلونه سوى الكف عن فعلهم الكريه".

    واستمر قائلا:" إذا كف المفترسون عن التهام كساء الوعي المتوهج الخاص بنا لمدة، فإنه سينمو. سأبسط هذا الأمر لأبعد حد وأقول أن العارفين عن طريق رياضتهم لأنفسهم يدفعون المفترسين بعيدا لمدة كافية تسمح بنمو كساء الوعي المتوهج الخاص بهم لما بعد مستوى أصابع القدم، أي أنه يعود لحجمه الطبيعي. كان عارفو المكسيك القدماء يقولون أن كساء الوعي المتوهج هو مثل شجرة. ما لم يتم قصها فهي تنمو لحجمها وشكلها الطبيعي. عندما يصل كساء الوعي لتحت مستوى أصابع القدم يمكن حينها القيام بمناورات إدراك هائلة بسهولة".
    واستمر دون خوان قائلا:" لقد كانت الخدعة الكبرى التي قام بها عارفو الزمن القديم هي تحميل عقل الطيار برياضة النفس. لقد وجدوا أنهم إذا أنهكوا عقل الطيار عن طريق صمتهم الداخلي فإن البنية الأجنبية في الإنسان تفر بعيدا وتعطي لكل من يقوم بهذه المناورة التأكيد بأن العقل الذي كان يستعمله هو عقل أجنبي. وتعود البنية الأجنبية مرة أخرى ولكنها تكون ضعيفة ومن ثم تبدأ عملية مستمرة يصبح فيها هروب عقل الطيار أمر روتيني إلى أن يأتي اليوم الذي يفر فيه بلا عودة. ياله من يوم حزين! في ذلك اليوم سيتوجب عليك أن تعتمد على أدواتك الخاصة التي هي تكاد تكون صفرا. لا يوجد أحد يملي عليك ما تفعله. لا يوجد عقل أجنبي يملي عليك الأفعال الغبية التي اعتدت على ممارستها. لقد اعتاد أستاذي الناخوال جوليان على تحذير مريديه من أن ذلك اليوم هو أصعب يوم في حياة العارف لأن العقل الحقيقي الذي يخصنا الذي هو خلاصة خبرتنا، بعد أن ظل تحت الهيمنة عمرا، قد تم جعله حييا فاقد الأمان و غير مستقر. شخصيا أقول أن معركة العارفين الحقيقية تبدأ في تلك اللحظة. كل البقية لم تكن سوى تجهيز".
    أصبحت منزعجا بدرجة كبيرة. أردت أن أعرف المزيد ولكن شعورا غريبا في داخلي كان يدفعني نحو التوقف. كان يثير في نفسي أفكارا عن نتائج شيطانية وعقاب مثل غضب إلهي سيحل بي بسبب تلاعبي بشئ جعله الله محجوبا. قمت بمجهود جبار لكي أجعل فضولي يتغلب على ذلك الإحساس.
    سمعت نفسي أقول:" ماذا ـ ماذا ـ ماذا تعني بإنهاك عقل الطيار؟"
    أجابني: " رياضة النفس تنهك عقل الطيار بدرجة لا نهائية. لذلك عن طريقة رياضة أنفسهم طرد العارفون البنية الأجنبية من أنفسهم".
    أدهشتني هذه العبارات. اعتقدت أن دون خوان إما أن يكون مجنونا وإما أنه يكشف لي عن شئ رهيب بدرجة جمدت كل ما في داخلي. لكنني لاحظت السرعة التي أمكنني بها تجميع قواي لإنكار كل ما قاله. بعد لحظة رعب بدأت أضحك وكانما حكى لي دون خوان نكتة. سمعت نفسي أقول :" يا دون خوان أنت حقا لا يمكن تقويم انحرافك".
    بدا أن دون خوان كان يفهم ما أمر به. هز رأسه من جانب لآخر ورفع عينه للسماء في إشارة ساخرة لليأس.
    " أنا لا يمكن تقويم إنحرافي بدرجة سأهز فيها عقل الطيار الذي تحمله في داخلك هزة أخرى. سأشرح لك واحدا من أغرب أسرار العارفين. سأصف لك اكتشافا استغرق من العارفين آلاف السنين لكي يتحققوا منه ويدعمونه".
    نظر لي وابتسم بخبث:" عقل الطيار يهرب للأبد عندما ينجح العارف في الإمساك بالقوة المهتزة التي تضم أجزاء كينونتنا كتجمع مجالات طاقة. إذا احتفظ العارف بذلك الضغط لمدة طويلة بدرجة كافية يهرب عقل الطيار منهزما. وذلك هو بالضبط ما ستقوم أنت بفعله: تمسك بالطاقة التي تضم أجزاءك لبعضها البعض".
    أصابني رد فعل لم أكن أتخيله أبدا. اهتز شئ في داخلي فعلا، وكأنه صعق. دخلت في حالة رعب فظيع ربطت على الفور بينها وبين خلفيتي الدينية.
    نظر لي دون خوان من قمة رأسي لأخمص قدمي.
    قال لي: "أنت تخشى غضب الله أليس كذلك؟ استرح وأعلم أن ذلك ليس خوفك أنت. إنه خوف الطيار لأنه يعلم تماما أنك ستفعل ما أقوله لك".

    لم تهدئني كلماته بل شعرت بان حالتي ازدادت سوءا. كنت في واقع الأمر أتشنج بصورة لا إرادية وعجزت عن إيقاف تشنجي.
    "لا تحمل هما. أنا أعرف حقا أن هذه الهجمات تتلاشى سريعا. عقل الطيار ليس لديه تركيز أبدا".

    بعد لحظة توقف كل شئ مثلما تنبأ دون خوان. لو قلت أنني تحيرت فذلك تخفيف لما هو الحال عليه. كانت تلك المرة الأولى في حياتي سواء مع دون خوان او غيره التي أشعر فيها بأنني لا أعرف ما إذا كنت قادما أو ذاهبا، أردت أن أنهض من الكرسي وأسير حول المكان لكني كنت في حالة رعب مميت. كنت ممتلئا بتأكيدات عقلانية وفي نفس الوقت مخاوف طفولية. بدأت أتنفس بعمق في حين تصبب جسدي عرقا باردا. لقد فتحت على نفسي منظرا لامثيل له في الرعب: ظلال سودات سابحة تتقافز حولي حيثما اتجهت.

    أغلقت عيني وأرحت رأسي على ذراع الكرسي المحشو. :"لا أدري إلى أين أتجه يا دون خوان. الليلة أنت نجحت في جعلي أتوه".
    قال دون خوان:" أنت يمزقك صراع داخلي. في قرارة نفسك أنت تعرف أنك غير قادر على رفض الاتفاقية التي تنص على أن جزءا لايمكن الاستغناء عنه من ذاتك وهو كساء الوعي المتوهج الخاص بك سيكون بصورة غير مفهومة غذاء لكائنات هي الأخرى غير مفهومة. هناك جزء آخر منك سيقف ضد هذا الموقف بكل قوته".
    استمر قائلا:" إن ثورة العارفين هي أنهم يرفضون الإيفاء باتفاقيات لم يشاركوا فيها. لم يسألني أحد عما إذا كنت أوافق على أن يتم التهامي من جانب كائنات ذات وعي من نوع مختلف. أبي وأمي أحضراني لهذا العالم فقط لكي أكون غذاء مثلما كانا هما أيضا غذاء. تلك هي نهاية القصة".

    يتبع
                  

08-25-2009, 05:36 PM

محمد عثمان الحاج

تاريخ التسجيل: 02-01-2005
مجموع المشاركات: 3514

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: محمد عثمان الحاج)

    نهض دون خوان من كرسيه ومط ذراعيه وساقيه. وقال: "لقد ظللنا جالسين هنا لساعات. هيا ندخل المنزل. أنا أريد أن آكل. هل تريد أن تأكل معي؟"
    ورفضت. كانت معدتي ثائرة.
    قال:" أعتقد أن من الأفضل لك أن تذهب للنوم. العاصفة دمرتك".
    لم أحتج للمزيد من الحث من جانبه. ارتميت على فراشي واستغرقت في النوم وكأنني ميت.
    عند عودتي للوطن وبمرور الزمن أصبحت فكرة الطيارين واحدة من الاهتمامات الرئيسية في حياتي. شعرت بأن دون خوان على حق تماما فيما يخصهم. لم أستطع دحض حجته رغم محاولاتي المستميتة. كلما فكرت فيها أكثر أو تكلمت وراقبت نفسي ورفاقي من البشر كلما زاد اقتناعي بأن هناك شيئا يجعلنا غير قادرين على ممارسة أي نشاط أو معاملة أو التفكير بطريقة لا تكون أنفسنا هي البؤرة الأساسية لها. كان همي الأول وهم كل من عرفته أو تكلمت معه هو نفسه. لما لم أجد أي تفسير لهذا الاتفاق الجماعي فقد اعتقدت أن سلسلة تفكير دون خوان كانت هي الطريقة المثلى لتفسير هذه الظاهرة.

    توغلت في القراءة عن الأساطير. في القراءة شعرت بشئ لم أشعر به من قبل: كل كتاب قرأته كان تفسيرا للأساطير. في كل كتاب من تلك الكتب كانت هناك عقلية إجماعية واضحة. كانت الأساليب تختلف لكن الدافع وراء الكلمات كان واحدا رغم أن الموضوع كان شيئا شديد التجريد كالأساطير فقد كان المؤلفين دائما يتدبرون كيفية ما لحشر أنفسهم في الموضوع. لقد كان الدافع الجماعي وراء كل كتاب من تلك الكتب ليس هو موضوع الكتاب المعلن بل كان خدمة النفس. لم يسبق لي أن شعرت بشئ كهذا من قبل.

    نسبت رد فعلي لتأثير دون خوان. كان السؤال الذي لا يمكن تجنبه الذي سألته لنفسي هو: هل هو يؤثر علي لكي يجعلني أرى هذا؟ أم هناك حقيقة عقل أجنبي يملي علينا كل ما نفعله؟ لذلك ارتددت مرة أخرى للإنكار وأصبحت أتردد بصورة جنونية بين الإنكار والقبول. شئ في داخلي كان يعرف أن ما كان يدفعني نحوه دوان خوان هو حقيقة تتعلق بالطاقة ولكن شيئا في داخلي كان يقول أن كل ذلك ليس سوى هراء. نهاية صراعي الداخلي كان إحساس بقرب حلول مصيبة كبرى تتجه نحوي.
    قمت بعمل بحث شامل عن موضوع الطيارين في الثقافات الأخرى لكنني لم أجد إشارة لهم في أي مكان (من العجيب أن المؤلف لم يطلع على النصوص القرآنية التي تفيد بوجود القرين ومشاركة الشيطان للإنسان والأحاديث النبوية التي تفيد بجريانه من الإنسان مجرى الدم وأكله مع الإنسان أي انه يتطفل على طاقة الإنسان ـ المترجم). بدا أن دون خوان هو مصدر المعلومات الوحيد عن هذا الموضوع. في المرة التالية التي قابلته فيها قفزت فورا بالحديث لموضوع الطيارين.
    قلت :" بذلت جهدي لكي أكون عقلانيا عن هذا الموضوع، لكني عجزت. هناك لحظات اتفق فيها معك تماما عن المفترسين".
    قال دون خوان وهو يبتسم:"ركز انتباهك على الظلال السابحة التي أنت تراها بالفعل".
    قلت لدون خوان أن تلك الظلال هي نهاية حياتي العقلانية. كنت أراها في كل مكان. منذ أن غادرت منزله آخر مرة عجزت عن النوم في الظلام. النوم والمصباح مضئ لم يزعجني على الإطلاق. لكن في الحظة التي أطفئ فيها المصباح يبدأ كل شئ حولي في القفز. لم أر أبدا أشكالا كاملة كل ما كنت أراه هو ظلال سوداء سابحة.
    قال دون خوان: عقل الطيار لم يتركك بعد. لقد تم تعويقه إعاقة شديدة لكن يحاول بكل جهده أن يعيد ترتيب علاقته بك. لكن هناك شئ في داخلك تم بتره للأبد. الطيار يعرف ذلك. الخطر الحقيقي هو أن ينتصر عليك عقل الطيار عن طريق إنهاكك وإجبارك على التراجع عن طريق اللعب على التناقضات بين ما أقوله لك وما يقوله هو لك".
    استمر دون خوان قائلا:" كما ترى عقل الطيار ليس له منافسون. عندما يقترح شيئا فهو يتفق مع نفسه ويجعلك تظن أنك قمت بشئ يستحق التقدير. عقل الطيار سيقول لك أن ما يقوله لك دون خوان ماتوس ليس سوى محض هراء ثم سيتفق نفس ذلك العقل مع ما قام هو نفسه بطرحه وستقول:"نعم بالطبع إنه هراء، تلك هي الطريقة التي ينتصرون بها علينا".
    و استمر قائلا:" الطيارون هم جزء أساسي من الكون. ويجب التعامل معهم على ما هم عليه: وحوش هائلة رهيبة. إنهم الوسيلة التي يقوم بها الكون بامتحاننا".
    و استمر قائلا وكأنه نسي وجودي معه: "نحن مجسات طاقة خلقها الكون. وبسبب أننا نمتلك طاقة ذات وعي فنحن الوسيلة التي بها الكون يعي بنفسه. الطيارون هم متحدينا الذين لايلينون. لايمكن التعامل معهم على أي أساس آخر. إذا نجحنا في الامتحان فالكون يسمح لنا بالاستمرار."

    أردت أن يقول لي دون خوان المزيد لكنه لم يقل سوى:" العاصفة انتهت في آخر مرة كنت فيها هنا. هذا كل ما يمكن قوله عن الطيارين. الآن حان الوقت لمناورة أخرى".
    أصابني الأرق تلك تلك الليلة ولم يأتني النوم إلا في ساعات الصباح الأولى إلى أن انتزعني دون خوان من سريري وجرني لرحلة سيرا على الأقدام في الجبال. في المكان الذي يعيش فيه كانت هيئة الأرض مختلفة تماما عن هيئتها في صحراء سونورا لكنه أمرني ألا استغرق في المقارنة بينهما وأنه بعد أن نسير ربع ميل تصبح جميع الأماكن على سطح الأرض متماثلة.
    قال :" التمتع برؤية المناظر هو لراكبي السيارات. هم يقطعون مسافات كبيرة بلا جهد من جانبهم. التمتع برؤية المناظر ليس للمشاة. مثلا عندما تكون راكبا سيارة ترى جبلا عملاقا يأسرك منظره ولكن عندما تكون ماشيا فإنه يأسرك بطريقة مختلفة خاصة إذا كان مسارك يوجب عليك تسلقه أو الدوران حوله".

    كان الحر خانقا ذلك الصباح. سرنا في مجرى وادي جاف. كان الشئ المشترك بين هذا الوادي وصحراء سونورا هو وجود ملايين الحشرات. كان البعوض والذباب من حولي مثل قاذفات قنابل تنقض على أنفي وعيوني وأذني. نصحني دون خوان ألا أوجه انتباهي لطنينهم.
    قال لي بلهجة جادة:" لا تحاول أن تطردهم مستعملا يدك. وجه إرادتك لتجعلهم يبتعدون عنك. أقم درعا من الطاقة حول نفسك. أصمت في داخلك ومن صمتك سينشأ الدرع. لا أحد يدري الكيفية التي يتم بها ذلك. إنها حقيقة من الحقائق التي سماها العارفون القدماء حقيقة تتعلق بالطاقة. كف عن التفكير والحديث مع نفسك، ذلك كل ما هو مطلوب".

    استمر دون خوان قائلا وهو يسير أمامي:" أريد أن أقترح عليك فكرة غريبة."
    توجب على الإسراع في المشي لكي ألحق به لكي أتمكن من سماع جميع ما يقوله.
    "يجب أن أشدد على أنها فكرة غريبة ستلاقي مقاومة شديدة في داخلك. سأقول لك مقدما أنك لن تتقبلها بسهولة. لكن كونها فكرة غريبة لايجب أن يكون رادعا يمنعها. أنت عالم اجتماع وإذن فأنت منفتح للبحث دائما أليس كذلك؟"
    كان دون خون دون حياء يجعل مني أضحوكة. عرفت ذلك لكنه لم يهمني. ربما نتيجة لكونه كان يسير بسرعة شديدة وكنت أبذل جهدا هائلا لكي أسير بجانبه فإن سخريته لم تضايقني إلا قليلا وبدلا من أن تجعل مني مائلا للشجار فقد جعلتني أضحك. كان انتباهي التام موجها لما يقوله وبدا أن الحشرات كفت عن مضايقتي لأنني بإرادتي أقمت حاجزا يحول بينها وبيني أو ربما استغراقي في الاستماع لدون خوان جعلني لا أشعر بمضايقتها.
    قال دون خوان وهو يقيس تأثير كلماته علي:" الفكرة الغريبة هي أن كل إنسان على الأرض يبدو أن له نفس ردود الفعل ونفس الأفكار ونفس المشاعر. ويبدو أنهم جميعا يستجيبون نفس الاستجابة عندما تواجههم نفس المؤثرات. ردود الفعل هذه ربما تظللها اللغة التي يتكلمونها ولكن إذا كشطنا ذلك بعيدا فإنها هي نفس ردود الفعل التي تحاصر كل كل إنسان على الأرض. أريد منك أن تكون فضوليا تجاه هذا الأمر ـ كعالم اجتماع ـ بالطبع، وأنظر ما إذا كنت ستجد تفسيرا رسميا لهذا التجانس".

    جمع دون خوان سلسلة من النباتات. بعضها كانت صغيرة بحيث لا تكاد تبين. بدا أنها تقع ضمن تصنيف الطحالب . كنت أمسك كيسه مفتوحا ولم نتكلم. عندما جمعنا ما يكفي من النباتات اتجه لمنزله وهو يسير بأسرع ما يستطيع. قال أنه يريد تنظيف تلك النباتات وتقطيعها قبل أن تجف أكثر من اللازم.
    كنت منغمسا في التفكير في المهمة التي أوكلها لي. بدأت باستعراض في عقلي لكي أتذكر عما إذا كانت هناك أي أوراق بحوث تمت كتابتها عن هذا الموضوع. قررت أن أبدأ بحثي بقراء كل البحوث المكتوبة عن موضوع "الشخصية القومية". تحمست للموضوع بطريقة خطيرة وأردت حقا العودة للوطن سريعا فقد أردت أن أبذل حهدي في هذا العمل ولكن قبل أن نصل منزله جلس دون خوان على رف صخري عالي يطل على الوادي. لم يكن يلهث. لم أفهم ما الذي دعاه للتوقف لكي يجلس.
    قال فجأة وبلهجة توحي بمصيبة قادمة : "مهمة اليوم بالنسبة لك هي واحدة من أغمض الأشياء في المعرفة، شئ يتوغل لما وراء اللغة وورء التفسير. لقد خرجنا في رحلة سير على الأقدام اليوم وتكلمنا لأن سر المعرفة يجب تلطيفه بإحاطته بأشياء الحياة اليومية. يجب أن ينبع من اللاشئ ويعود لللاشي. ذلك هو فن السالك المحارب: المرور عبر ثقب الإبرة دون أن يلاحظه أحد. لذلك أدعم نفسك عن طريق الاستناد لهذا الحائط الصخري بأبعد ما يمكن عن الحافة. أنا سأكون بجانبك احتياطا في حالة أن يغمى عليك أو تقع".
    "ماذا تخطط أن تفعله يا دون خوان؟" سألته وكان انزعاجي شديدا بحيث أنني لاحظته و قللت من ارتفاع صوتي.
    قال: "أريد منك أن تجلس متربعا وتدخل في حالة الصمت الداخلي. لنقل أنك تريد أن تجد مقالات تدعم أو تدحض ما قلته لك في مجالك الأكاديمي. ادخل لحالة الصمت الداخلي ولكن لا تستغرق في النوم. هذه ليست رحلة عبر بحر الوعي المظلم. إنها رؤية بطريق الكشف انطلاقا من الصمت الداخلي".

    كان من الصعب علي الدخول في حالة الصمت الداخلي دون الاستغراق في النوم. قاومت رغبة لا يكاد يمكن هزيمتها في النوم. نجحت في ذلك ووجدت نفسي أنظر لقاع الوادي عبر ظلام كثيف يحيط بي. ثم رأيت بطريق الكشف شيئا جعلني ارتعد حتى النخاع. رأيت ظلا عملاقا ربما عرضه خمسة عشر قدما يقفز في الهواء ثم يهبط محدثا دويا صامتا. شعرت بدوي هبوطه في عظامي لكنني لم أسمعه. قال دون خوان في أذني:" هم حقا ثقيلون." كان يمسك بي من ذراعي الأيمن بكل قوته.
    رأيت شيئا يبدو مثل ظل طيني يتلوى على الأرض ثم يقفز قفزة أخرى هائلة طولها ربما خمسين قدما ويهبط ثانية بنفس الدوي الصامت المشؤوم. كافحت لكي لا أفقد تركيزي. كنت في حالة رعب تتجاوز حدود القدرة العقلانية على وصفها. أبقيت عيوني مركزة على الظل القافز في قاع الوادي. ثم سمعت أغرب طنين: خليط من أصوات أجنحة خافقة وصوت جهاز راديو غير منغم لالتقاط بث محطة إذاعية وكان الدوي الذي تبع ذلك شئ لاينسى. اهتززنا أنا ودون خوان حتى النخاع فقد هبط ظل طيني عملاق قرب قدمينا.
    قال دون خوان بلهجة آمرة:" لا تخف. احتفظ بصمتك الداخلي وسوف يبتعد الظل".
    كنت أرتعش من رأسي لأخمص قدمي. كانت لدي معرفة واضحة أنني مالم احتفظ بصمتي الداخلي فسيحيط بي الظل الأسود مثل بطانية ويخنقني. دون أن أفقد رؤيةالظلام المحيط بي صرخت بأعلى صوتي. لم أشعر في حياتي بغضب او احباط مماثلين. قفز الظل الطيني مرة أخرى وكان من الواضح أنه اتجه لقاع الوادي. استمررت في الصراخ وهز ساقي. أردت أن أهز بعيد عني كل منيأتي لكي يأكلني. كانت حالتي العصبية شديدة بحيث فقدت الإحساس بالزمن وربما أغمي علي.

    عندما استعدت وعيي كنت راقدا على سرير في منزل دون خوان. كانت هناك منشفة مبللة بماء شديد البرودة ملفوفة حول رأسي. كان جسمي يشتعل بالحمى. وقامت إحدى مريدات دون خوان بمسح ظهري وصدري وجبهتي بالكحول لكن ذلك لم يخفف عني. كانت الحرارة التي أشعر بها تنبع من داخلي. كان الغضب والعجز هو الذي يولدها.
    كان دون خوان يضحك وكأن ما كنت أمر به هو أطرف شئ في العالم. كانت موجات من الضحك تأتي متلاحقة من جانبه.

    قال:" ماكنت أظنك ستندمج بكل قلبك مع رؤية الطيار بطريق الكشف بهذه الكيفية".
    وأخذ بيدي وقادني لمؤخرة منزله حيث ألقى بي في حوض ماء ضخم بكل ملابسي وحذائي.
    صرخت:"ساعتي، ساعتي! "
    خلعت ساعتي ووضعتها بجانب الحوض. ثم تذكرت أنها مقاومة للماء ولن يصيبها ضرر. ساعدني الغمر بالماء في الحوض بدرجة هائلة. عندما أخرجني دون خوان من الماء شبه المتجمد كنت قد استعدت درجة من السيطرة على نفسي.
    "ذلك المنظر لايمكن قبوله! " رددت ذلك وأنا غير قادر على أن أقول شيئا آخر.
    المفترس الذي وصفه دون خوان لم يكن شيئا خيرا. كان ثقيلا بدرجة هائلة غليظا ولا مبالي. شعرت باحتقاره لنا. لاشك أنه هزمنا قبل عصور جاعلا منا مثلما قال دون خوان ضعفاء وعاجزين ومطيعين. خلعت ملابسي المبتلة وارتديت بونشو وجلست في سريري وانهمكت في بكاء شديد. لم أكن أبكي على نفسي فأنا كان لدي غضبي و قوة إرادتي التي لا تنثني لكي لا أدعهم يأكلونني. بكيت من أجل كل البشر، وبكيت بصفة خاصة من أجل أبي. لم أعرف إلا تلك اللحظة أنني أحببته كثيرا هكذا.
    "لم يكن لديه فرصة أمامهم" سمعت نفسي أردد ذلك مرارا وكأن تلك الكلمات لم تكن كلماتي أنا. أبي المسكين، الإنسان الأشد عطفا ولطفا الذي عرفته، كان عاجزا تماما أمامهم.


    يتبـــــــع
                  

08-27-2009, 06:58 PM

محمد عثمان الحاج

تاريخ التسجيل: 02-01-2005
مجموع المشاركات: 3514

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: محمد عثمان الحاج)

    أنتقل إلى كتاب آخر هو "حكاوي القوة" وللموضع الذي يقدم فيه مفهومي التونال والناخوال:
    "سأكلمك عن التونال والناخوال" قال ذلك وهو ينظر لي نظرة ثاقبة.
    كانت تلك هي المرة الأولى منذ أن عرفته التي استعمل فيها هذين المصطلحين. كنت آلفهما بصورة باهتة من خلال الكتابات الأنثروبولوجية عن المكسيك الوسطى. كنت أعرف أن التونال كان يفسر على أساس أنه روح حامية، عادة حيوان، يحصل عليها الطفل عند ميلاده ويظل على علاقة حميمة بها بقية عمره، أما الناخوال فقد كان الإسم المسمى به الحيوان الذي يزعمون أن السحرة يحولون أنفسهم إليه، أو الإسم الذي يسمى به السحرة الذين يستطيعون تحويل أنفسهم لذلك الحيوان.
    "هذا هو تونالي" قال دون خوان ذلك وهو يمسح على صدره.
    "هل هو بدلتك؟"
    "كلا بل شخصي".
    وضرب على صدره وفخذيه وجوانب أضلاعه.
    "تونالي هو كل هذا".
    وشرح أن كل إنسان لديه جانبين، كينونتين منفصلتين، شيئين متقابلين ينشطان عند الميلاد: أحدهما يسمى التونال وأحدهما يسمى الناخوال.
    أخبرته بما يعرفه علماء الأنثروبولجي عن المفهومين. وتركني أتكلم دون أن يقاطعني.
    قال: "حسنا، كل ما تظن أنك تعرفه عنهما هو مجرد هراء. أنا أؤسس هذه المقولة على حقيقة أن ما سأقوله لك عن التونال والناخوال لم يسبق أن حدثك به أحد. أي جاهل سيعرف أنك لا تعرف شيئا عنهما لأنه لكي تعرف شيئا عنهما يجب أن تكون من العارفين وأنت لست منهم. أو يجب أن تتكلم عنهما مع عارف وأنت لم تفعل. لذلك أطرح بعيدا كل ما سمعته من قبل لأنه لاينطبق على الموضوع".
    قلت: "كان ذلك مجرد تعليق من جانبي".
    ورفع حاجبيه بطريقة ضاحكة وقال:"تعليقاتك خارجة عن الخط. هذه المرة أحتاج لانتباهك التام لأنني سأقدمك للتونال والناخوال. العارفون لديهم اهتمام خاص ومتميز بهذه المعرفة. أنا أقول أن التونال والناخوال هما في مجال أهل المعرفة وحدهم. بالنسبة لك فهذا هو الغطاء الذي يغطي كل ما علمتك إياه. لذلك انتظرت حتى الآن لكي أتكلم عنهما.

    التونال ليس حيوانا يحرس الإنسان. أنا كنت سأقول أنه حامي يمكن الرمز إليه بحيوان. لكن تلك ليست نقطة هامة".

    وابتسم وغمز بعيونه لي.
    قال:"أنا استعمل كلماتك أنت الآن. التونال هو الإنسان الاجتماعي".
    وضحك على ما أظن أنه حيرتي.
    "التونال بهذه الكيفية هو حقا حامي، حامي يتحول في معظم الأحيان لحارس"
    وأمسكت بكراستي وأنا أحاول الانتباه لما يقوله. ضحك وقلد حركاتي العصبية.
    استمر قائلا:"التونال هو منظم العالم. ربما كانت أفضل طريقة لوصف عمله الهائل أن نقول أنه يحمل على كتفيه عبء تنظيم فوضى العالم. ليس من المبالغة أن نقول مثلما يقول العارفون أن كل ما نعرفه ونفعله كبشر هو من عمل التونال.
    "مثلا هذه اللحظة الشئ الذي يقوم ببذل الجهد لفهم حديثنا هو تونالك فبدونه الكلام ليس سوى أصوات غريبة وتغيرات في الوجه ولن تفهم شيئا مما أقوله".
    "لذلك أقول أن التونال هو حامي يحرس شيئا قيمته لاتقدر بثمن: ذاتنا نفسها. لذلك فخاصية التونال الضمنية هي أنه يكون متملكا وغيورا في أفعاله. وحيث أن أفعاله هي أهم ما في حياتنا حتى الآن لذلك من غير المستغرب أنه يتحول في كل منا من حامي لحارس".
    وتوقف وسألني عما إذا كنت قد فهمت. وأومأت برأسي بالإيجاب بصورة تلقائية وابتسم هو بتعبير يدل على عدم التصديق.
    قال: "الحامي متفتح الذهن ومتفهم، من ناحية أخرى الحارس هو رقيب ضيق الذهن وطاغية في معظم الأحيان. لذلك أقول أن التونال في كل منا تم تحويله لحارس تافه وطاغية في حين أنه كان يجب أن يكون حاميا متفتح الذهن".
    بالتأكيد ما كنت أفهم ما يرمي إليه شرحه. سمعت وكتبت كل كلمة ولكن بدا وكأنني منهمك في حوار داخلي يخصني وحدي.
    "قلت: "من الصعب علي تتبع نقطتك. "
    "لو لم تكن مهمكا في الكلام مع نفسك لما كنت ستتشاجر".
    تعليقه رمى بي في مقولة تفسيرية طويلة. في النهاية أدركت نفسي واعتذرت على إلحاحي على الدفاع عن نفسي.
    ابتسم وصدرت عنه إشارة بدا أنها تبين أن موقفي لم يزعجه حقا.
    واستمر قائلا:" التونال هو كل ما هو نحن. أذكر أي شئ! كل ما لدينا كلمة تعبر عنه هو تونال. وحيث أن التونال هو صنيعة نفسه لذلك فمن الواضح أن كل شئ يقع في مجاله."
    ذكرته أنه قال أن التونال هو الإنسان الاجتماعي وهو مصطلح كنت أستعمله أنا في كلامي معه بحيث يعني الإنسان كنتيجة نهائية لعمليات الإجتماع مع الآخرين. قلت له أنه إذا كان التونال هو تلك النتيجة فهذا يعني أنه لا يمكن أن يكون كل شئ مثلما ذكر هو لأن العالم المحيط بنا ليس ناتجا عن الاجتماع مع الآخرين.
    ذكرني دون خوان أن حجتي لا أساس لها بالنسبة له حيث أنه قبل زمن طويل قد سبق وأن شرح لي أنه في حقيقة الأمر فالعالم المحيط بنا ليس سوى وصف للعالم تعلمنا أن نتخيله و نعتبره شيئا لا يقبل الشك.
    قال:"التونال هو كل مانعرفه. أعتقد أن هذا وحده سبب كافي لكي يكون التونال شيئا طاغيا".
    وصمت لوهلة. بدا من المؤكد أنه ينتظر تعليقات أو أسئلة لكن لم يكن لدي أيا منها. لكنني شعرت بأنني مرغم على طرح سؤال و كافحت لصياغة سؤال مناسب. فشلت. شعرت أن التوبيخات التي افتتح بها حديثنا قد شكلت رادعا ضد أي استفسار من جانبي. شعرت بخدر غريب. كنت غير قادر على تركيز أفكاري وترتيبها. في الواقع شعرت وعرفت بدون أي شك أنني غير قادر على التفكير لكنني كنت أعرف تلك المعرفة بدون تفكير إن كان ذلك ممكنا.
    نظرت لدون خوان. كان يحدق إلى وسط جسمي. رفع عينيه فعاد لي وضوح عقلي على الفور.
    وكرر ببطء:" التونال هو كل ما نعرفه. وذلك لا يتضمننا نحن كبشر فحسب بل كل ما هو في عالمنا. يمكن القول أن التونال هو كل ما تراه العين.
    "نحن نبدأ في تشذيبه منذ لحظة ميلادنا. اللحظة التي نأخذ فيها أول شهقة هواء فنحن نستنشق معها قوة التونال. لذلك من الصحيح القول أن تونال الإنسان مرتبط بصورة حميمية بميلاده. يجب عليك أن تتذكر هذه النقطة. إنها هامة جدا لغرض فهم كل هذا. التونال يبدأ عند الميلاد وينتهي عند الموت".
    أردت أن أستعيد كل النقاط التي ذكرها واندفعت حى أنني فتحت فمي لكي أطلب منه أن يكرر النقاط البارزة في حديثنا ولكن لدهشتي عجزت عن أخرج صوتا من حنجرتي. كنت أمر بحالة عجز شديدة الغرابة، كلماتي كانت ثقيلة ولم يكن لدي تحكم في ذلك الشعور.
    نظرت لدون خوان لكي أشير له بأنني غير قادر على الكلام. كان يحدق مرة أخرى للمنطقة التي تحيط بمعدتي.

    رفع عينيه وسألني عما شعرت به. اندفعت الكلمات خارجي مني وكأنه تم فتح سدادتها. قلت له أنني أصبت بشعور غريب من عدم القدرة على الكلام أو أن أفكر مع أن أفكاري كانت واضحة تماما قبل ذلك.
    سألني: "أفكارك كانت واضحة؟"
    عندها أدركت أن الوضوح لم يكن متعلقا بأفكاري بل لإدراكي للعالم من حولي.
    سألته :"هل أنت تفعل شيئا بي يا دون خوان؟"
    قال ضاحكا:"أنا أحاول أن أقنعك أن تعليقاتك غير ضرورية."
    "هل تعني أنك لا تريدني أن أطرح أسئلة؟"
    "كلا، كلا. إسأل عما تشاء لكن لا تدع انتباهك يهتز"
    توجب علي الاعتراف بأنضخامة الموضوع شتت انتباهي.
    قلت بعد لحظة صمت:"لازلت لا أفهم يا دون خوان قولك أن التونال هو كل شئ؟"
    "التونال هو ما يصنع العالم".
    وحك دون خوان صدغيه.
    "التونال يصنع العالم فقط على سبيل الكلام. إنه لايستطيع خلق أو تغيير شئ، مع ذلك هو يصنع العالم لأن وظيفته هي أن يصدر الأحكام ويقيم ويشهد. أنا أقول أن التونال يصنع العالم لأنه يشهده ويقيمه وفقا لقوانين التونال. بطريقة غريبة فالتونال هو خالق لا يخلق شيئا. بمعنى آخر التونال يضع القوانين التي عن طريقها يفهم العالم ولذلك يمكن القول أنه يصنع العالم"
    وأخذ يتمتم مغنيا أغنية شعبية ذائعة وهو يضبط الايقاع بالنقر بأصابعه على جوانب كرسيه. كانت عيناه تلتمعان وبدا أنهما تصدران شررا. وضحك وهز رأسه.
    قال مبتسما: "أنت لا تتابع ما أقوله لك"
    قلت :"أنا أتابعك. ليس لدي مشكلات." لكن صوتي لم يبد مقنعا.
    شرح قائلا:"التونال هو جزيرة. أفضل طريقة لشرح ذلك هو أن نقول أن التونال هو هذا".
    ومرر يده على قمة المائدة.
    "يمكننا القول أن التونال هو مثل قمة هذه المائدة. جزيرة. على هذه الجزيرة لدينا كل شئ. هذه الجزيرة هي في الواقع العالم".
    هناك توتال شخصي يخص كل واحد منا. وهناك تونال جماعي يخصنا جميعا في كل زمن من الأزمان، يمكننا أن نسميه تونال الزمان".
    وأشار لصفوف الموائد في المطعم.
    "أنظر! كل مائدة لها نفس الترتيب. هناك أشياء معينة موضوعة على كل واحدة منها. لكنها على كل حال مختلفة فيما بينها. بعض الموائد مزدحمة بالناس أكثر من الأخرى، هناك أطعمة مختلفة على كل منها، صحون مختلفة وجو مختلف، مع ذلك يتوجب علينا الاعتراف بأن جميع الموائد في هذا المطعم متشابهة جدا. نفس الشئ يحدث مع التونال. يمكننا القول أن تونال الزمان هو ما يجعلنا متشابهين بنفس الطريقة التي يجعل بها جميع الموائد في هذا المطعم متشابهة. لكن العامل المهم الذي يجب أن نتذكره هو أن كل ما نعرفه عن أنفسنا وعن عالمنا يقع في جزيرة التونال. هل ترى ما أعنيه؟"
    "إن كان التونال هو كل ما نعرفه عن أنفسنا وعن عالمنا فما هو الناخوال؟"
    "الناخوال هو الجزء من أنفسنا الذي لا نتعامل معه أبدا"
    "عفوا؟"
    "الناخوال هو الجزء منا الذي ليس له وصف. لا كلمات، لا أسماء، لا مشاعر، لا معرفة".
    "ذلك هو تناقض يا دون خوان. في رأيي ما لايمكن الشعور به أو وصفه أو تسميته لا يوجد".
    "ذلك تناقض في رأيك أنت. لقد حذرنك من ألا تفقد وعيك وأنت تحاول فهم هذا".
    "هل يمكن أن نقول أن الناخوال هو العقل؟"
    "كلا فالعقل هو أحد الأشياء الموجودة على المائدة. العقل هو جزء من التونال. يمكن أن نقول أن العقل هو الشطة الموجودة على المائدة".
    وهز زجاجة الشطة ووضعها أمامي.
    "هل الناخوال هو الروح؟"
    "كلا. الروح هي أيضا على المائدة. لنقل أن الروح هي مطفأة السجائر.
    "هل هو حالة ربانية سماوية؟"
    "كل فتلك كائنة ما كانت هي أيضا حزء من التونال. لنقل أنها الفوطة".
    واصلت تعديد طرق مختلفة لوصف ما كان يشير إليه: العقل المجرد، النفس، الطاقة، القوة الحيوية، الخلود، مبدأ الحياة. كل شئ قمت بوصفه وجد له ندا من الأشياء الموضوعة على الطاولة ودفعه بعيد إلى أن كوم كل ما كان على المائدة في كومة واحدة في ناحية.
    بدا أن دون خوان مستمع جدا. كان يضحك ويمسح كفيه في كل مرة أذكر فيها شيئا جديدا."هل سألته الناخوال هو الكائن الأسمى الجبار الإله؟"
    "كلا. الإله هو أيضا على المائدة. لنقل أن الإله هو مفرش المائدة".
    وعمل إشارة كوميدية وكأنه سينتزع مفرش المائدة ويكومه مع بقيةالأشياء التي وضعها أمامي.
    "لكن هل تقول أن الإله غير موجود؟"
    "كلا لم أقل ذلك. كل ما قلته أن الناخوال ليس الإله، لأن الإله بند بخص تونالنا الشخصي وتونال الزمان. التونال كما قلت هو كل شئ نظن نحن أن العالم يتكون منه بما في ذلك الإله بالطبع. الإله ليس له أهمية أكثر من كونه جزء من تونال زماننا" (هو يعني هنا مفهوم الإله الذي هو جزء من ثقافة الإنسان ـ المترجم)
    "في فهمي يا دون خوان فالإله هو كل شئ. ألسنا نتكلم عن الشئ نفسه."
    "كلا. الإله هو كل شئ يمكنك أن تفكر فيه ولذلك فمن الصحيح القول أنه جزء من البنود التي في الجزيرة. لايمكن لنا مشاهدة الإله بإرادتنا بل يمكن لنا فقط الحديث عنه. الناخوال من ناحية أخرى هو تحت خدمة المحارب. يمكن شهوده لكن لا يمكن الكلام عنه".
    قلت: "إن لم يكن الناخوال هو أيا مما تكلمنا عنه ربما يمكنك أن تخبرني عن موضعه. أين هو؟"
    حرك دون خوان يده في إشارة ماسحة مشيرا للمنطقة التي هي خارج حدود المائدة. مسح بيده وكأنه ينظف بها سطحا خياليا يمتد وراء حدود المائدة.

    "الناخوال هو هناك محيطا بالمائدة. الناخوال هو هناك حيث تحلق القوة.
    "نحن نحس منذ ولادتنا أننا نتكون من جزئين. عند الميلاد ولمدة بعد ذلك نكون جميعنا ناخوال. نحس عندها أنه لكي يمكننا القيام بوظيفتنا فنحن بحاجة لمقابل لما لدينا. التونال مفقود وذلك يعطينا منذ البداية شعورا بالنقص. ثم يبدأ التونال في التطور ويصبح شديد الأهمية بالنسبة لنا لكي نؤدي وظيفتنا، يصبح مهم بدرجة أنه يعتم على الناخوال ويطغى عليه. منذ اللحظة التي نصبح فيها تونال خالص فإننا لا نفعل شيئا سوى زيادة ذلك الشعور القديم بالنقص الذي يرافقنا منذ لحظة الميلاد والذي يخبرنا باستمرار أن هناك جزءا آخر من أنفسنا يعطينا الاكتمال.
    "منذ اللحظة التي نصبح فيها تونال كلي نبدأ في عمل أزواج. نحن نحس بجانبينا لكننا دائما نمثلهما بأشياء تخص التونال. نقول أن جزئينا هما الروح والجسد، العقل والمادة. الخير والشر. الإله والشيطان. لكننا لا ندرك أبدا أننا في حقيقة الأمر نكون أزواجا من أشياء تقع في الجزيرة، مثلما نزاوج بين القهوة والشاي و خبز القمح وخبز الذرة الشامية أو الشطة و الخردل. أقول لك أننا حيوانات غريبة. نحن نندفع بجنون وفي جنوننا نظن أننا في قمة العقل".
    نهض دون خوان وتحدث معي وكأنه خطيب على منبر. أشار بسبابته نحوي وهز رأسه.قال بصوت يتصنع البلاغة بصورة ساخرة :هو يحمل وعائي الملح والفلفل بكلتا يديه:" الإنسان لا يتحرك بين الخير والشر، حركته الحقيقية هي بين الإيجابية والسلبية."
    ورمى بالملح والفلفل وأمسك بسكين وشوكة.
    واستمروكأنه يرد على نفسه:" أنت مخطئ! الإنسان ليس سوى عقل"
    وحمل زجاجة الشطة ثم وضعها. "كما ترى يمكننا استبدال الشطة بالعقل وننتهي للقول أن الإنسان هو شطة! لو فعلنا ذلك لما كنا أكثر خبالا مما نحن عليه".
    قلت له:" أخشى أنني لم أسأل السؤال الصحيح. ربما سنصل لفهم أفضل لو سألت أنا عما يوجد في المساحة التي هي خارج حدود الجزيرة؟"
    "لا توجد وسيلة للإجابة على ذلك. لو قلت "لاشئ" فسأجعل من الناخوال جزءا من التونال. كلما يمكنني قوله هو أنه هناك خارج الجزيرة يجد الإنسان الناخوال".
    " ولكن عندما تسميه الناخوال ألا تضعه بتلك التسمية على الجزيرة؟"
    "كلا. أنا سميته فقط لكي أجعلك واعيا به".
    "حسنا! وعيي به هو الخطوة التي جعلت الناخوال بندا جديدا في تونالي".
    "أخشى أنك لم تفهم. لقد سميت التونال والناخوال كزوجين حقيقيين. ذلك هو كل ما فعلته".
    وذكرني أنني مرة أثناء محاولتي لأن أشرح له سبب حرصي على تحديد المعنى أنني ناقشت فكرة أن الأطفال ربما لايكونون قادرين على فهم الفرق بين الأب والأم إلى أن تتطور قدرة تداول المعاني لديهم بدرجة كبيرة وأنهم ربما يظنون أن الأب هو من يلبس بنطلون والأم من تلبس تنورة، أو اختلافات أخرى تتعلق بتصفيف الشعر أو حجم الجسم أوقطع الملابس.
    قال:" نحن بالتأكيد نفعل الشئ نفسه بجزئينا. نحن نحس بأنه يوجد جزء آخر فينا. ولكن عندما نحاول معرفة ذلك الجزء الآخر فإن التونال يمسك بالعصا وهو كموجه يتسم بالتفاهة والغيرة. إنه يضللنا بمكره ويجبرنا على مسح أدنى إحساس بالجزء الأخر من الزوجين الحقيقيين: الناخوال".

    تقليص التونال
    صبح الأربعاء غادرت فندقي حوالي التاسعة وخمسا وأربعون دقيقة. سرت ببطء معطيا نفسي خمسة عشر دقيقة للوصول للمكان الذي اتفقنا أنا ودون خوان على اللقاء فيه. كان قد اختار ركنا في شارع باسيو ديلاريفورما على بعد خمسة أو ستة مباني من مكاني، أمام مكتب تذاكر طيران. كنت قد أنهيت لتوي تناول طعام الإفطار مع صديق لي. كان قد أصر على أن يسير معي لكنني أوحيت إليه أنني بصدد مقابلة فتاة. تعمدت أن أسير على الجانب الآخر للطريق المقابل لمكتب التذاكر. كنت أشك بشدة أن صديقي الذي طالما أراد مني أن أعرفه بدون خوان يعرف أنني على وشك أن أقابله وربما كان يتبعني. كنت أخشى أنني إذا استدرت سأجده خلفي.
    ريت دون خوان يقف قرب كشك بيع مجلات على الجانب الآخر من الطريق. بدأت عبور الشارع لكن توجب علي الوقوف في الرصيف في منتصف الشارع إلى أن يمكنني العبور بأمان عبر الطريق الواسع. واستدرت تلقائيا لكي رى ما إذا كان صديقي يتبعني. كان يقف في الركن خلفي. ابتسم بخجل ولوح بيده وكأنه يقول لي أنه عجز عن السيطرة على نفسه. واندفعت عبر الطريق دون أن أعطيه وقتا لكي يلحق بي.
    بدا أن دون خوان لاحظ ما أنا فيه من حرج. عندما وصلته نظر فوق كتفي. قال لي:"إنه قادم. من الخير لنا أن نسير للطريق الجانبي".
    وأشار لطريق يصل لميدان باسيوديلاريفورما باتجاه مائل عند النقطة التي كنا نقف فيها. وبدأت بسرعة في محاولة فهم تفاصيل المكان. لم يسبق لي أن كنت في ذلك لاشارع لكنني كنت في مكتب تذاكر الطيران قبل يومين. كنت أعرف وضعيته الغريبة. كان يقع في ركن حاد ناجم عن التقاء الشارعين. كانت لديه باب يفتح على كل شارع، والمسافة بين البابين ما بين عشرة لاثني عشر قدما. كان هناك ممر عبر المكتب من باب لباب بحيث يمكن للإنسن بسهولة العبور من شارع للشارع الأخر. كان هناك مناضد مكتب على أحد جانبي الممر فيما كان في الجانب الأخر كاونتر كبير يجلس إليه الموظفين والمحاسبين. كان المكتب مزدحما بالناس في اليوم الذي سبق لي أن كنت فيه.
    أردت الإسراع وربما الجري لكن مشية دون خوان كانت مسترخية. عندما وصلنا لباب المكتب عرفت دون أن استدير أن صديقي جرى عابرا الشارع وأنه على وشك أن يدخل الطريق الذي كنا نسير فيه. نظرت لدون خوان آملا أن أجد لديه حلا. هز كتفيه. شعرت بالضيق ولم أستطع أن أفكر في شئ من جانبي أقل من الرغبة في ضرب صديقي على أنفه.لابد أنني تنهدت أو زفرت في تلك اللحظة لأن الشئ التالي الذي شعرت به هو كان الفقدان المفاجئ لأنفاسي بسبب دفعة هائلة دفعني بها دون خوان دفعت عبر باب مكتب الطيران. اندفاعي الهائل جعلني أمرق كالإعصار عبر باب المكتب. كان دون خوان قد فاجأني بتلك الدفعة بحيث ان جسمي لم يقم بأي مقاومة وامتزج رعبي بهزة دفعته وبصورة آلية وضعت ذراعي أمام لأحمي وجهي. كانت دفعة دون خوان من القوة بحيث أن اللعاب تتطاير من فمي وشعرت بدوخة خفيفة وأنا أتعثر إلى داخل الغرفة. كدت أفقد توازني وبذلت جهدا هائلا لكي لا أقع. استدرت حول نفسي مرتين فقد بدا أن سرعة حركتي جعلت المنظر مشوشا. لاحظت بصورة باهتة جمهرة من الزبائن يجرون معاملاتهم. شعرت بضيق شديد. عرفت أن الجميع كانوا ينظرون لي وأنا أندفع عبر الغرفة. كانت فكرة أنني جعلت من نفسي أحمق تسبب لي ما هو اكثر من الإنزعاج. مرت سلسلة من الأفكار عبرعقلي. شعرت بحتمية سقوطي على وجهي أو اصطدامي بأحد الزبائن، ربما سيدة عجوز ستصاب من جراء الاصطدام. وربما في احتمال أسوأ أن يكون الباب الزجاجي في الناحية الأخرى مغلقا فأصطدم به وأهشمه.
    وصلت للباب الذي على شارع باسيوديلاريفورما وأنا في حالة ذهول. كان مفتوحا وخطوت خارجا منه. كان تركيزي حينها منصبا على الاحتفاظ بهدوئي والدوران لليمين والسير علىالشارع لمركز المدينة وكأنه لم يحدث شئ. كنت متأكدا أن دون خوان سينضم لي وأن صديقي ربما كان يسير عبر الشارع المائل.
    فتحت عيني أو بالأحرى ركزتهما على المساحة التي أمامي. تخدرت للحظة طويلة قبل أن أدرك بصورة كاملة حقيقة ماحدث. لم أكن في شارع باسيوديلاريفورما مثلما ينبغي أن يكون، بل في سوق لاجونيلا الذي يبعد ميلا ونصف عن المكان.

    يتـــــــــــبع

    (عدل بواسطة محمد عثمان الحاج on 08-27-2009, 07:01 PM)

                  

08-27-2009, 08:21 PM

محجوب البيلي
<aمحجوب البيلي
تاريخ التسجيل: 04-19-2005
مجموع المشاركات: 2016

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: محمد عثمان الحاج)



    أخي محمد عثمان الحاج
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    ما كنت أظن قط أنني سألتقي يوماً من يحكي عن ... هؤلاء.
    ليس غروراً مني.
    لا. ربما كان في الأمر شيءٌ من غرور، وفيه، بالتأكيد، شيءٌ آخر، مثل ذلك الذي قال فيه حبيبي أمل دنقل، سقى الله قبره شآبيب رحمته: يسير ولا يلتقي بأحدْ.
    تعرفت إلى شيخي كارلوس كاستنيدا في أوائل الثمانينيات في الرباط، عندما أهداني زميلي حسن عثمان مجموعته الكاملة.
    كنا نقتسم مكتب الملحق الصحفي بالسفارة السعودية في العاصمة المغربية.
    ونقتسم هموم الكتابة والكتب، والمعارض الفنية ومجلات التصوير الفوتوغرافي، ونقضي نهايات الأسبوع نطارد الظلال وسيقان أشجار البلوط والعرعار في الغابات المجاورة.
    وكنا نقتسم أيضاً شغفاً وحنيناً لذلك العالم الذي يبدأ حيث تغيب آخر نقطة في الأفق.
    لم أكن بحاجة إلى تنبيه حسن بأن ما يقدمه لي مصنف كـ Non-fiction.
    وأذكر أنني التهمت المجموعة كاملة (كان آخرها وقتذاك هو Eagle's Gift) في وقت قياسي. كنت أقرأ في التاكسي من وإلى المكتب. وأقرأ في المكتب. وفي الحدائق العامة.
    وكلما أوغلت في عالم دون خوان وكاستنيدا، إزداد عطشي ... وحزني.
    وكنت أزداد يقيناً أنني ـ بكيفية ما ـ أعرف هذا الذي أقرأه، بل إنني لامسته وعشته ذات يوم.
    * * *


    فالجنوبي يا سيدي يشتهي أن يكون الذي لم يكنه
    يشتهي أن يلاقي اثنتين:
    الحقيقة والأوجه الغائبة.

    * * *

    "I will never reach Ixtlan," he said.

    "Yet in my feelings... in my feelings sometimes I think I'm just one step from reaching it.
    Yet I never will. In my journey I don't even find the familiar landmarks I used to know. Nothing is any longer the same."
    • * *

    بعد أقل من عشر سنوات، إلتقيت أصدقاء مشتركين.
    كانوا أكثر من مجرد أصدقاء مشتركين.
                  

08-27-2009, 09:04 PM

Elkhawad

تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 2843

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: محجوب البيلي)


    .

    لا املك غير نقطتي ..
    ______________
    شكراَ محمد


    _________
    "YourAttitudeDeterminesYourAltitude"
                  

08-29-2009, 08:20 PM

محمد عثمان الحاج

تاريخ التسجيل: 02-01-2005
مجموع المشاركات: 3514

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: Elkhawad)

    تشكر أخي محجوب البيلي على هذه الكلمات الرائعة. من المدهش حقا أن الكتاب الأول كان جزءا من رسالة دكتوراه في علم الاجتماع ما لبثت أن هزت الضمير الغربي بدرجة جعلت كاستانيدا يلقب بلقب أبي العصر الجديد New Age. اندهشت قبل أيام وأنا أشاهد تسجيلا في اليوتيوب لصحفي غربي يحكي عن الأحداث البارزة في حياته وكيف أنه بعد أن قرأ كتاب تعاليم دون خوان ترك دراسته وهو في السابعة عشرة من عمره وهرب لغابات الأمازون ليصبح تلميذا لمعالج روحاني تأسيا بكاستانيدا وبعد أكمال فترة تعلمه عاد ليواصل دراسته الجامعية!

    الهزة الأشد التي أتى بها كاستانيدا هي كسره لاحتكار المعرفة الروحية التي ظل أهلها يعتبرونها من الأسرار المكتومة التي لا يجوز كشفها للعوام وما لبث أن تحول ذلك التوجه لتسخيرها لمأرب سياسية وتريسية، لكن كاساتانيدا أفشى بكل ما تعلمه ووضع بذلك التيارات العرفانية الكبرى في العالم وهي اليوغا الهندوسية و البوذية و القبالة العبرانية والتصوف الإسلامي في موقف حرج، ولذلك تعرض كاستانيدا لهجوم شديد وتكذيب ولكن كل باحث عن الحقيقة سيعرف أن منظومة دون خوان المكسيكية تفسر معظم غوامض جميع أساليب المعرفة الروحانية. إن أهم ما في طريق التولتيك هو أنه طريق الحرية فشيخ المشايخ "الناخوال" هو الذي يقود مريديه نحو الحرية لا أن يجعل منهم عبيدا له بسبب احتكار المعرفة كما هو الحال منظومات عرفانية أخرى، لقد قدم دون خوان مثلا رائعا فيما يجب أن يكون به المرشد الروحي من تواضع وصفاء.
                  

08-29-2009, 08:27 PM

محمد عثمان الحاج

تاريخ التسجيل: 02-01-2005
مجموع المشاركات: 3514

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: محمد عثمان الحاج)

    تشكر أخي الخواض ونقطتك ليست بالهينة فكم تكلم عنها الصوفية. العالم كله نشآ من نقطة، وما فهمته أنا من تفسير آخر للناخوال قدمه أشهر مشايخ طريق التولتيك المكسيكيين المعاصرين وهو الناخوال دون ميخويل رويتز الذي ظل كتابه "الاتفاقات الأربع" على قائمة أفضل الكتب مبيعا في أمريكا لزمن طويل هو أن الفضاء والزمن والمادة والطاقة كانت كلها منكمشة في نقطة واحدة ما يحيط بتلك النقطة هو عالم الناخوال وعندما حدث الانفجار الكبير تمدد الفضاء والزمن ولا يزال الفضاء يتمدد داخل عالم الناخوال فكأنما هو تمدد عالم التونال في عالم الناخول.
                  

08-29-2009, 08:31 PM

محمد عثمان الحاج

تاريخ التسجيل: 02-01-2005
مجموع المشاركات: 3514

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: محمد عثمان الحاج)

    ما أحسست به في لحظة ذلك الإدراك كان دهشة عظيمة بحيث كان كل ما في وسعي عمله هو التحديق مذهولا.
    نظرت حولي لكي أحدد موضعي. أدركت أنني في الواقع قريب جدا من المكان الذي التقيت فيه بدون خوان في مدينة المكسيك أول مرة. ربما كنت في نفس النقطة بالضبط. كانت الأكشاك التي تبيع العملات القديمة تبعد خمسة أقدام. بذلت جهدا هائلا لكي أسيطر على نفسي. من الواضح أنني كنت أمر بهلوسة فلا يمكن أن يكون هناك أي تفسير آخر لما حدث. بذلت مجهودا جبارا لكي أبقى متماسكا. استدرت بسرعة لكي أعود عبر باب مكتب الطيران لداخل المكتب ولكن خلفي لم يكن هناك سوى صف من الأكشاك التي تبيع الكتب والمجلات القديمة. كان دون خوان يقف بجانبي على يميني وفي وجهه ابتسامة ضخمة.
    كان هناك صغط في رأسي وشعور بالدغدغة وكأنني استنشق مشروب صودا غازي. كنت واجما. حاولت الكلام با جدوى. سمعت دون خوان بوضوح وهو ينصحني بعدم الكلام أو التفكير، لكنني رغبت في قول شئ، أي شئ. كان هناك توتر شديد يتزايد في صدري. شعرت بالدموع تجري على خدي.
    لم يقم دون خوان بهزي مثلما كانت عادته عندما يغمرني رعب لا يمكن السيطرة عليه، وبدلا من ذلك ربت على رأسي.
    قال:"الآن، الأن يا كارلوس الصغير لا تفقد رباطة جأشك".
    أمسك بوجهي بكفيه للحظة.
    قال:"لا تحاول الكلام".
    ترك وجهي وأشار لما كان يجري حولنا.
    قال:"هذا ليس لكي تتكلم عنه بل لكي تراقبه. راقب! راقب كل شئ!"
    كن حقا أبكي. لكن رد فعلي على بكائي كان غريبا حقا فقد واصلت البكاء دون أن آبه لذلك. لم أهتم في تلك اللحظة بما إذا كنت أجعل من نفسي أحمقا أم لا.
    نظرت حولي. أمامي مباشرة كان هناك رجل في منتصف العمر يرتدي قميصا قصير الأكمام بنفسجي اللون وبنطلون رمادي غامق. بدا أنه أمريكي. كانت هناك إمرأة سمينة بدا أنها زوجته تمسك بذراعه. كان الرجل يتفحص بعض العملات المعدنية فيما كان فتى في الثالثة عشرة أو الربعة عشرة من عمره، ربما كان ابن صاحب الكشك، يراقبه. تابع الرجل كل حركة قام بها الرجل. في النهاية وضعالرجل العملات على المنضدة واسترخى الفتى على الفور.
    مرة أخرى أمرني دون خوان:"راقب كل شئ!"
    لم يكن هناك شئ غير عادي لكي أراقبه. كان الناس يمرون حول في جميع الاتجاهات. نظرت حولي. كان هناك رجل بدا أنه صاحب كشك بيع مجلات، يحدق لي. كان يغمض ويفتح عينيه مرارا وتكرارا وهو ينظر لي وكأنه على وشك أن ينام. بدا أنه مرهق ومريض ومحبط.
    شعرت أنه لا يوجد ما يستدعي المراقبة، على الأقل لايوجد شئ ذو مرتبات. حدقت للمنظر. وجدت أن من المستحيل تركيز انتباهي على شئ. كان دون خوان يسير في شكل دائرة حولي. كان يتصرف وكأنه يقوم بتقييم شئ ما في. هز رأسه وزم شفتيه.
    "هيا ، هيا، حان الوقت للمشي". قال ذلك وهو يمسكني بلطف من ذراعي.
    حالما بدأنا الحركة لاحظت أن جسمي خفيف جدا. في الواقع شعرت وكأن بطني قدمي اسفنجي. كان لباطن قدمي خاصية مطاطية قافزة غريبة.
    لابد أن دون خوان كان يعلم بما أحس به لأنه أمسك بي بقوة وكأنه يحاول منعي من الهرب. كان يضغطني للأسفل وكأنه يخشى من أنني سأتحرك للأعلى بعيدا عن متناوله، مثل بالون.
    جعلني المشي أحس بأنني أحسن حالا. زال توتري وحلت محله طمأنينة.
    مرة أخرى ألح علي دون خوان أن أراقب كل شئ. قلت له أنه لا يوجد ما أرغب في مراقبته وأنه لا يهمني ما يقوم به الناس في السوق وأنني لا أريد أن أشعر أنني أحمق عن طريق مراقبة الأفعال المتخلفة عقليا التي يقوم بها من يشتري مجلات وعملات قديمة في حين أن الشئ المهم يتسلل هاربا من مسكتي.
    سألني:"ما هو الشئ المهم؟"
    توقفت عن المشي وقلت له بحزم أن الشئ المهم هو الشى الذي فعله هو لكي أجعلني أرى أنني قطعت المسافة بين مكتب الطيران والسوق خلال ثوان.
    عند تلك النقطة بدأت أرتجف وبدأت أشعر بالغثيان. جعلني دون خوان أضع يدي على معدتي.
    مرة أخرى أشار لما حوله وقال مرة أخرى بلهجة الأمر الواقع أن النشاط العادي الذي يجري حولنا كان هو الشئ الوحيد المهم.
    شعرت بالضيق منه. شعرت شعورا جسديا بأنني أدور حول نفسي. أخذت نفسا عميقا.
    سألته سؤالا عابرا بلهجة قوية.
    قال لي بلهجة تطمينية أنه يمكنه إخباري بذلك في أي وقت ولكن ما يحدث حولي سوف لن يتكرر مرة أخرى. لم أعترض على ذلك فمن لاواضح أن النشاط الذي كان يذور حولي لا يمكن أن يتكرر مرة أخرى بكل جزئياته. كان النقطة التي أثرتها أنه يمنني مراقبة نشاط مشابه جدا في أي وقت. من ناجية أخرى فإن مترتبات كوني طويت لي الأرض، مهما كان الشكل الذي تم به ذلك، ذات دلالة هائلة.
    عندما قلت ما في خاطري هز دون خوان رأسه وكأن ما قلته قد آلمه حقا.
    سرنا في صمت للحظة. كان جسمي محموما. لاحظت أن كفي وباطن قدمي تشتعل بالحرارة. نفس الحرارة الغريبة بدا أنها مركزة في فتحتي أنفي وجفوني.
    سألته بتوسل:" ماذا فعلت يا دون خوان؟"
    لم يجب بل ربت على صدري وضحك. قال أنالبشر مخلوقات ضعيفة جدا وأنهم يجعلون من أنفسهم أشد وهنا عن طريق الإسراف فيما يفعلونه. وبصوت جاد جدا حثني على ألا أشعر أنني على وشك الهلاك بل أن أدفع نفسي وراء حدود تحملي وأن أوجه انتباهي ببساطة للعالم من حولي.
    واصلنا السير بخطوات بطيئة جدا. كان الأمر الذي شغلني طاغيا على تفكيري. لم أستطع توجيه انتباهي لشئ. توقف دون خوان وبدا أنه يفكر فيما إذا كان سيتكلم أم لا. فتح شفتيه ليقول شيئا ثم بدا أنه غير رأيه وبدأنا السير مرة أخرى.

    "الذي حدث هو أنك أتيت إلى هنا" قال ذلك فجأة وهو يستدير محدقا لي.
    "كيف حدث ذلك؟"
    قل أنه لا يعرف، وأن الشئ الوحيد الذي يعرفه هو أنني اخترت ذلك المكان بنفسي.
    أصبح الأمل في اجتياز عقبتنا أقل عندما واصلنا الكلام. أردت أن أعرف الخطوات التي اتبعها في فعل ذك لكنه ألح على أن اختيار المكان هو الشئ الوحدي الذي يمكننا مناقشته، وأنه بما أنني لا أعرف لماذا اخترته فإذن لا يوجد ما نتكلم عنه. وانتقد بغير غضب هوسي بإيجد تفسير منطقي لكل شئ واصفا إياه بأنه إسراف غير ضروري. قال أن الشئ الأبسط والأشد فاعلية هو القيام بالفعل دون البحث عن تفسيرات وأنني عندما أتكلم عن تجربتي وأفكر فيه فإنني في الواقع أشتتها.
    بعد لحظات قليلة قال لي أنه يتوجب علينا مغادرة المكان لأنني أفسدته ولذلك سيصبح ضارا بي.

    غادرنا السوق وسرنا نحو حديقة الاميدا. كنت شديد الإرهاق. ارتميت على كنبة. لم يخطر ببالي إلا في تلك اللحظة أن أنظر لساعتي. كانت تشير للعاشرة والثلث صباحا. توجب علي أن أبذل جهدا هائلا لكي أركز انتباهي. لم أتذكر الوقت الذي قابلت فيه دون خوان بالضبط ولكنني قدرت أنه كان العاشرة. والمشوار من السوق للحديقة لا يمكن أن يكون قد استغرق منا أكثر من عشرة دقائق وبذلك تبقى هناك عشرة دقائق مفقودة. أخبرت دون خوان بحساباتي.ابتسم. شعرت شعور مؤكدا أن ابتساماته تخفي مقته لي لكن لم يكن هناك في وجهه ما يعبر عن مقت. "أنت تظن أنني أحمق لا يمكن إصلاحه إليس كذلك يا دون خوان؟"
    "آه ها!" قال ذلك وقفز واقفا. كان رد فعله مفاجئا بحيث أنني أيضا قفزت واقفا في نفس الوقت. "قل لي بالضبط ماذا تظن مشاعري؟" قال ذلك بتشديد.
    شعرت أنني أعرف مشاعره. كنت كما لو كنت أحس بها بنفسي. ولكن عندما حاولت أن أقول ما أحس به أدركت أنني غير قادر على الكلام عنه. كان الكلام يتطلب مجهودا جبارا.
    قال دون خوان أنني لا زلت لا أملك قوة روحانية كافية لكي أرى ما في دوخله عن طريق الكشف، ولكنني كنت بالتأكيد أرى بعين الكشف ما يكفي لكي أجد تفسيرا مناسبا لما يحدث.
    فجأة واتتني فكرة غريبة مثل تلك التي تمر بعقل الإنسان قبل لحظة من الاستغراق في النوم. كانت أكثر من فكرة: الوصف الأنسب لها هو انها كانت صورة كاملة. رأيت رأيت منظرا يحتوي على عدة شخصيات. كان الذي أمامي مباشرة رجل يجلس خلف إطار نافذة. كانت المساحة خارج الإطار مبهمة ولكن الإطار و الرجل كانا واضحين. كان ينظر لي نظرة جانبية. كنت أرى عينيه تتحركان لكي يمكنه ابقائي في مجال نظره. كان يتكئ على رف النافذة بكوعه الأيمن. كان كفه مقبوضا وعضلاته تتقلص.
    على يسار الرجل كان هناك منظرا آخر. كان عبارة عن أسد طائر. كان الرأس وشعر الرأس يخصان أسدا ولكن بقية جسمه جسم كلب فرنسي صغير مموج الشعر. كنت على وشك أن أركز انتباهي عليه عندما أصدر الرجل صوت صرير من شفتيه ومد رأسه وجذعه خارج النافذة. خرج جسمه بكامله وكأن هناك شيئا بدفعه. وتوقف لوهلة ممسكا برف النافذة بحافة أصابعه بينما كان يهتز كبندول. ثم أرخى قبضته. شعرت في جسمي بشعور السقوط. لم يكن تهاويا للأسفل بل هبوط ناعم ثم طفو على وسادة. كان الرجل عديم الوزن. بقي ساكنا للحظة ثم اختفى عن النظر وكأن قوة لا تقاوم امتصته عبر شق في المنظر. بعد لحظة كان مرة أخرى في النافذة ينظر لي نظرة جانبية. كان ذراعه الأيمن يستريح هذه المرة على رف النافذة ولكن الجديد كان أنه كان يلوح لي بالوداع.
    كن تعليق دون خوان أن رؤيتي بطريق الكشف بها تفاصيل أكثر من اللازم. قال:" يمكن لك أن تفعل ما هو أفضل. أنت تريدني أن أشرح ما حدث. حسنا، أريدك أن تستعمل كشفك لكي تعرف ذلك. لقد رأيت بعين الكشف ولكنك رأيت هراء. تلك المعلومات لا أهمية لها بالنسبة للمحارب. إنها تتطلب وقتا أطول من اللازم لتفسيرها. النظر بطريق الكشف يجب أن يكون مباشرا لأن المحارب لا وقت لديه لكي يفسر ما يراه هو شخصيا بطريق الكشف. النظر بطريق الكشف هو كشف لأنه يخترق كل ذلك الهراء".
    سألته عما إذا كان يظن أن رؤيتي كانت مجرد هلوسة وليست كشفا حقيقيا. كان متأكدا أنها كشف حقيقي بسبب دقة تفاصيلها ولكنه غير ملائمة للمناسبة.
    سألته:"هل تظن ان رؤاي تفسر أي شئ؟"
    "بالتأكيد هي تفسر. لكنني لو كنت مكانك لما حالوتتفسيرها. الكشف في البداية يكون مربكا ومن السهل الضياع فيه. ولكن عندما يصبح المحارب أشد عزما فإن كشفه يصبح ما يتوجب أن يكون عليه: معرفة مباشرة."
    بينما كان دون خوان يتكلم أتاني شعور بأحاسيس سبق أن شعرت بها وأحسست بوضوح أنني على وشك رفع الحجاب عن شئ سبق لي معرفته، شئ كان يزوغ مني عن طريق جعل نفسه مشوشا جدا. أدركت أنني في نزاع، كلما حاولت أن أعرف أو أصل لتلك المعرفة الزواغة كلما غاصت بعيدا عني.
    "ذلك الكشف كان بصريا أكثر من اللازم." قال دون خوان ذلك فهزني صوته. "المحارب يطرح سؤالا وعبر النظر بعين الكشف يجد الإجابة لكن الإجابة تكون بسيطة وليست مزوقة لدرجة كلاب فرنسية طائرة".
    ضحكنا على المنظر. قلت له بلهجة نصف ضاحكة أنه متشدد أكثر من اللازم وأن أي إنسان مر بما مررت به أنا ذلك الصباح يستحق القليل من المسامحة.
    قال:"ذلك هو المخرج السهل. ذلك هو طريق الإسراف. أنت تعلق العالم على الشعور أن كل شئ هوأكثر من طاقتك. أنت لا تعيش كمحارب."
    قلت له أن هناك أجزاء كثيرة جدا فيما أسماه هو بطريق المحارب بحيث أنه من المستحيل الإيفاء بها جميعا، وأن معناها يتضح فقط عندما أواجه مواقف جديدة تتطلب تطبيقها.
    قال:" قاعدة رئيسية بالنسبة للمحارب هي أنه يتخذ قرارته بحرص شديد بحيث أن ما يحدث من مرتباتها لا يمكن ن يدهشه أبدا ناهيك عن أن يستنفذ طاقته".
    "أن تكون محاربا يعني أن تكون متواضعا و يقظا. اليوم كان يفترض بك أن تراقب المنظر الذي كان يتفتح أمام ناظريك لا أن تتفكر في كيفية حدوث ذلك. لقد ركزت انتباهك على المكان الخاطئ. لو أردت أن أكون متسامحا معك فسأقول بسهولة أنه بما أن هذه هي المرة لأولى التي يحدث فيها ذلك لك فإنك لم تكن مستعدا. لكن ذلك غير مسموح به لأنك أتيت إلى هنا كمحارب، مستعد للموت ولذلك فما حدث لك هنا ما كان يجب أن يفاجئك هكذا".
    اعترفت له أنني أميل للإسراف في الخوف والحيرة.
    "فلنقل أن القاعدة الأساسية بالنسبة لك يجب أن تكون هي أنك عندما تأتي لمقابلتي فيجب أن تأتي مستعدا للموت. لو أتيت جاهزا للموت فسوف لن تكون هناك حفر تقع فيها أو أي مفاجئات غير مرحب بها أو أي أفعال غير ضرورية . كل شئ سيكون في موضعه بلطف لأنك لا تتوقع شيئا".

    يتــــــبع

    (عدل بواسطة محمد عثمان الحاج on 08-29-2009, 08:34 PM)

                  

08-29-2009, 10:14 PM

Sinnary
<aSinnary
تاريخ التسجيل: 03-12-2004
مجموع المشاركات: 2770

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: محمد عثمان الحاج)

    صديقي الصنديد في دروب البحث والبحث والبحث

    هكذا انت ومنذ أن تلاقينا في بداية الثمانينات وانت أمين علي عدة الحفر المعرفي في ما وراء المادة تلك المعرفة التي تخطتها
    الفلسفة وهشم مشروعيتها ذلكم العدمي الكبير نيتشة بعد أن طفق عمود الحداثة الفقري ولكننا للآن لم نرزق بمن يدشن علم الروح
    اللاديني حتي ولو علي خطا الزوقاني العقلاني الكبير لايبنتز أو الوجودي المماحك كيركيجارد وكلاهما يحتفيان بالإكويني
    مثل ما تفعله هو غطس في غريق المعرفة ووجودك عطر في سديم البورد ... أنا أعرف كيف تواصل منهوكاً إعشاب نهمك المعرفي في مسارب
    الروح وخفاياها وفقك الله أينما كنت
                  

08-30-2009, 06:48 PM

محمد عثمان الحاج

تاريخ التسجيل: 02-01-2005
مجموع المشاركات: 3514

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: Sinnary)

    لك الشكر أخي د. ماجد السناري، أسعدني جدا أن يكون هذا البوست سببا في إطلالتك هذه وكلماتك الرائعة التي افتقدها المنبر العام طويلا ولا شك عندي أنك مشغول بالتوغل في دروب المعرفة واستكشاف خبايا الكون. إن من أجمل الأشياء في طريق التولتيك أنه لا يتطلب سوى الاعتقاد بأن للإنسان قدرات تتجاوز حدود ما هو مطلوب للحياة اليومية بكثير وله أن يكون فهمه الخاص وعقيدته عما يراه من عوالم الغيب بعد أن تنفتح بصيرته.

    موقع الناخوال دون ميخول رويز شيخ مشايخ سلسلة فرسان الصقر:
    http://www.miguelruiz.com/
                  

09-03-2009, 06:58 PM

محمد عثمان الحاج

تاريخ التسجيل: 02-01-2005
مجموع المشاركات: 3514

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: محمد عثمان الحاج)

    "من السهل قول ذلك يا دون خوان. لكنني أنا المتلقي. أنا الذي يتوجب عليه التعايش مع كل هذا".
    "ليس الأمر أنه يتوجب عليك التعايش مع كل هذا. كل ما في الأمر أنك لا تتحمله في الوقت الراهن. قرارك بالانضمام لهذا العالم السحري الشرير يتوجب أن يكون قد أحرق كل مشاعر الحيرة المتبقية وأعطاك الشجاعة لكي تعلن أن ذلك العالم هو عالمك".
    شعرت بالحيرة والحزن. مهما كانت درجة استعدادي فقد كانت أفعال دون خوان تجهدني بدرجة أنه في كل مرة ألتقي فيها به لا يتبقى أمامي سوى أن أتعامل وأشعر وكأنني شخص فاقد للعقلانية وملحاح. ملأني الغضب وتوقفت عن كتابة ما كان يقوله دون خوان. في تلك اللحظة أردت أن أمزق أوراق ملاحظاتي وأرمي بكل شئ في سلة القمامة. وكنت سأفعل ذلك لولا دون خوان ضحك وأمسك بي من ذراعي.
    بلهجة ساخرة قال أن تونالي على وشك أن يجعل من نفسه أحمقا مرة أخرى. واقترح على أن أتوجه للنافورة وأن أرش عنقي وأذني بالماء.
    لطف الماء من مشاعري. وبقينا هادئين زمنا طويلا.
    "أكتب، أكتب." حثني دون خوان بلطف. "فلنقل أن دفتر ملاحظاتك هو كل السحر الذي تملكه. تمزيقه هو طريقة أخرى لتفتح نفسك لموتك. ستكون نوبة أخرى من نوباتك في أفضل الأحوال وليس تغييرا. المحارب لا يترك جزيرة التونال أبدا ولكنه يستغلها".
    وبحركة سريعة من يده أشار لما هو حولي ثم لمس كراستي.
    "هذا هو عالمك. لا تستطيع التخلي عنه. من غير المجدي الغضب على النفس والشعور بالاحباط. كل ما يبرهن عليه ذلك هو أن تونال الإنسان هو في حالة معركة داخلية، ومعركة داخل تونال الإنسان هي أشد المعارك التي يمكن أن أفكر فيها حماقة . حياة المحارب القاسية مصممة لكي تنهي ذلك الصراع. منذ البداية علمتك أن تبتعد عن الانهاك والتمزق. الآن لم تعد هناك معركة في داخلك مثلما كان في السابق لأن طريق المحارب هو التناسق، التناسق بين الأفعال والقرارات في البداية ومن ثم التناسق بين التونال والناخوال.
    "طيلة الوقت الذي عرفتك فيه ظللت أخاطب تونالك وناخوالك. تلك هي الطريقة التي يجب أن يتم بها التعليم.
    "في البداية يتوجب على الإنسان الكلام مع التونال. التونال هو الذي يجب أن يتخلى عن السيطرة. لكن يجب أن يتم جعله يفعل ذلك بفرح. مثلا تونالك تخلى عن بعض مفاتيح السيطرة دون مقاومة تذكر لأنه أصبح من الواضح بالنسبة له أنه لو استمر على ما هو عليه فإن كليتك كانت ستصبح ميتة الآن. بكلمات أخرى فإن التونال اضطر للتخلي عن أشياء غير ضرورية مثل الشعور بالأهمية والإسراف واللذان يلقيا به في الملل. المشكلة بكاملها هي أن التونال يتمسك بهذه الأشياء في حين أنه كان يتوجب عليه أن يكون سعيدا بتخليص نفسه من ذلك الهراء. إذن المهمة هي أن يتم جعل التونال حرا وسلسا. ذلك ما يحتاجه العارف قبل كل شئ: تونال قوي وحر. كلما قوي كلما قل تمسكه بأفعاله وكلما أصبح تقليصه أسهل. إذن ما حدث هذا الصباح هو أنني رأيت فرصة لتقليص تونالك. لوهلة من الزمن كنت أنت شارد الذهن ومسرعا و لاتفكر في شئ وانتهزت أنا فرصة تلك اللحظة لكي أدفعك.
    "التونال يتقلص قي أوقات معينة خاصة عندما يكون في حالة حرج. في الواقع إحدى خصائص التونال هي الحياء. حياء التوال ليس أمرا مهما في حقيقة الأمر. لكن هناك لحظات معينة يتفاجأ فيها التونال وعندها فإن الحياء يجعله يتقلص بطريقة لا يمكن تجنبها.
    "هذا الصباح انتهزت أنا السنتيمتر المكعب من الفرصة التي ظهرت. لاحظت باب ذلك المكتب المفتوح ودفعت بك. إذن الدفعة هي تقنية لتقليص التونال. يتوجب على الإنسان أن يقوم بالدفع في اللحظة المناسبة تماما، ولكي يفعل ذلك يجب أن يعرف كيف يرى بعين الكشف.
    "حالما يتم دفع الإنسان وتقليص توناله فإن ناخواله إذا كان قد بدأ الحركة مسبقا مهما كانت ضآلة تلك الحركة سيستلم زمام الأمور ويقوم بأفعال خارقة. لقد تسلم ناخوالك الأمور هذا الصباح فوصلت للسوق".
    وبقي صامتا للحظة وكأنه ينتظر اسئلتي. ونظر كل منا للآخر.
    قال وكأنه يقرأ أفكاري:"أنا حقا لا أعرف كيف حدث ذلك. كل ما أعرفه هو أن الناخوال قادر على القيام بأفعال لا يمكن تصورها. هذا الصباح طلبت منك أن تراقب. المنظر الذي أمامك مهما كان، كانت له قيمة لا تقدر ثمن بالنسبة لك. لكن بدلا من اتباع نصيحتي أسرفت في الانغماس في الشعور بالرثاء لنفسك والحيرة ولم تقم بالمراقبة.
    "لفترة قصيرة كنت أنت بكاملك ناخوال وكنت عاجزا عن الكلام. ذلك كان هو وقت المراقبة. ثم تدريجيا بدأ تونالك يتسلم زمام الأمر مرة أخرى وبدلا من أن أجعلك تقع في معركة مميتة بين التونال والناخوال فقد أحضرتك إلى هنا".
    "ماذا كان في ذلك المنظر يا دون خوان؟ ما الذي كان مهما فيه؟"
    "لا أدري فهو لم يكن يحدث لي".
    "ماذا تعني؟"
    "كانت تلك تجربتك أنت وليس تجربتي أنا".
    "لكنك كنت معي أليس كذلك؟"
    "كلا لم أكن معك. كنت لوحدك. لقد طلبت منك مرارا أن تراقب كل شئ لأن ذلك المنظر كان يخصك وحدك".
    "لكنك كنت بجانبي يادون خوان".
    "كلا لم أكن بجانبك. لكن من غير المجدي الكلام عن ذلك. كل ما أقوله سوف لن يكون مفهوما لأنه خلال تلك اللحظات كنا في زمن الناخوال. أمور الناخوال يمكن فقط شهودها بالجسم وليس بالمنطق".
    "إن لم تكن معي يادون خوان فمن كان الشخص أو الشئ الذي شاهدته أنا على أساس أنه أنت؟"
    "كان ذلك هو أنا ولكنني لم أكن هناك".
    "أين كنت أنت إذن؟"
    "أنا كنت معك، لكني لم أكن هناك. لنقل أنني كنت بجوارك ولكن ليس في المكان بالتحديد الذي حملك إليه ناخوالك."
    "هل تعني أنك لم تعرف أننا في السوق؟"
    "كلا لم أعرف. أنا بقيت بقربك فقط لكي لا أفقدك".
    "هذا شئ رهيب حقا يادون خوان"
    "كنا في زمن الناخوال وليس هناك ما هو رهيب فيما يخصه. بإمكاننا أن نفعل ما هو أكثر بكثير من ذلك. تلك هي طبيعتنا ككائنات نورانية. عيبنا هو إصرارنا على البقاء في جزيرتنا المملة المنهكة ولكنها في نفس الوقت ملائمة. التونال هو الخائن في حين أنه يجب ألا يكون كذلك."
    وصفت له الشئ القليل الذي تذكرته. أراد أن يعرف عما إذا كنت قد لاحظت أي خاصية للسماء: سحب أو شمس، إو ما إذا كنت سمعت صوتا من أي نوع، أو ما إذا كنت قد رأيت أناسا غير عاديين أو أحداث غير عادية. أراد أن يعرف ما إذا كانت هناك أية مشاجرات، أو أناسا يتصايحون وإن كان هناك أناسا يتصايحون ماذا كانوا يقولون.
    لم أستطع الإجابة على أي من أسئلته. كانت الحقيقة هي أنني تقبلت الحدث بناء على قيمته الظاهرة معترفا بكوني قد "طرت" عبر مسافة كبيرة لم تزد عن ثانية أو ثانيتين وأنني والفضل يعود لمعرفة دون خوان قد حللت بكل جسمي داخل السوق.
    كانت ردود فعلي هي مترتبات مباشرة لتفسير كهذا. أردت أن أعرف الخطوات التي تم اتباعها في ذلك، معرفة الذي ينتمي للمجموعة، معرفة كيفية فعل ذلك. لذلك لم أهتم بمراقبة ما ظننته تفاصيل حدث يومي عادي. سألته:" هل تظن أن الناس في السوق كانوا يرونني؟"
    لم يجبني دون خوان بل ضحك وضربني بقبضته ضربات خفيفة.
    حاولت تذكر ما إذا حدث أي احتكاك جسدي بيني وبين الناس. لكن ذاكرتي خذلتني.
    سألته:"ماذا رأى الناس في مكتب الطيران عندما دخلت أنا الككتب متعثرا؟"
    "ربما رأوا رجلا يتعثر مارا من باب المكتب للباب الآخر".
    "لكن هل رأوني أتلاشى في الهواء؟"
    "ذلك أمر يعتني به الناخوال. لا أدري كيف. كل ما يمكنني قوله لك هو أننا كائنات نورانية مخلوقة من ألياف نوارنية. العرف الجاري بأننا أشياء صلبة هو من فعل التونال. عندما ينكمش التونال يصبح بالإمكان القيام بأشياء خارقة. لكنها خارقة فقط بالنسبة للتونال. أما بالنسبة للناخوال فإن التحرك بالكيفية التي فعلت هذا الصباح هو أمر عادي.، خاصة ناخوالك أنت الذي سبق له القيام بأفعال فائقة." في حقيقة الأمر هو غطس في شئ عجيب بدرجة مفزعة".
    وردت علي ملايين الأسئلة في وقت واحد. بدا وكأن هبة ريح أطاحت بقشرة تماسكي. ارتعدت. شعر جسدي وكنه على حافة هاوية. كافحت لكي أسيطر على قطعة معرفة غامضة ولكنها ملمسوة. كان الأمر كما لو كنت على وشك أن يتم الكشف لي عن شئ ولكن جزءا عنيدا في نفسي كان يصر على حجبه بسحابة. خدرني الصراع تدريجيا إلى أن أصبحت لا أحس بجسدي. كان فمي مفتوحا وعيوني نصف مغمضة. شعرت أن وجهي يتصلب أكثر فاكثر حتى أصبح كوجه جثة جافة بجلد أصفر ملتصق بالجمجمة.
    ما شعرت به بعد ذلك كان هزة. كان دون خوان يقف بجانبي ممسكا بسطل ماء فارغ. كان قد بللني بالماء. سعلت ومسحت الماء من وجهي. وشعرت بنوبة برد في ظهري. وقفزت من الكنبة. كان دون خوان قد صب ماء على عنقي.
    كانت هناك مجموعة من الأطفال ينظرون لي ويضحكون. وابتسم لي دون خوان. وأمسك بكراسة ملاحظاتي وقال أن من الأفضل الذهاب للفندق الذي كنت أنزل فيه لكي أبدل ملابسي. وقادني خارجا من الحديقة. ووقفنا عند الرصيف لوهلة قبل أن يأتي تاكسي.

    بعد ساعات من ذلك وبعد تناول الغداء والراحة جلسنا أنا ودون خوان على كنبته المفضلة في الحديقة قرب الكنيسة. وبطريقة مائلة وصلنا لموضوع رد فعلي الغريب. بدا أنه حذر جدا. لم يواجهني مباشرة بالموضوع.
    قال: "أشياء كهذه من المعروف أنها تحدث. حالما يتعلم الناخوال كيفية الوصول للسطح فإنه يمكن أن يسبب الضرر للتونال عن طريق الخروج عن السيطرة. لكن حالتك هي حالة خاصة. أنت تميل للإسراف بدرجة مبالغ فيها بحيث يمكن أن تموت دون أن تبالي بذلك والأسوا من ذلك هو أنك لن تعي أنك تموت".
    قلت له أن رد فعلي بدأ عندما سألني هو عما إذا كنت أشعر بما فعله ناخوالي. ظننت أنني أعرف بالضبط ما يشير إليه ولكن عندما حاولت أن أصفه وجدت أنني لا أستطيع التفكير بوضوح. شعرت بخفة في رأسي وشعور يكاد يكون لامبالاة وكأنني غير مهتم بأي شئ. ثم نما الإحساس متحولا لتركيز هائل. كان الأمر وكأن ذاتي يتم امتصاصها للخارج. الذي جذب انتباهي وأسره هو الشعور الواضح بأن سرا كبيرا على وشك أن يتم الكشف عنه لي ولذلك لم أرد أن يتداخل أي شئ آخر مع ذلك الإحساس.
    قال دون خوان: "الذي كان سيتم الكشف عنه لك هو موتك. ذلك هو خطر الإسراف، خاصة بالنسبة لك لأنك تميل بصورة طبيعية للمبالغة فيه. تونالك اعتاد على الإسراف بصورة تهدد كليتك. هذه طريقة سيئة للحياة".
    "ما الذي بوسعي أن أفعله؟"
    "يجب أن يتم إقناع تونالك بالأسباب، وإقناع ناخوالك بالأفعال إلى أن يحمل أحدهما الآخر. كما أخبرتك فإن التونال يحكم مع ذلك فهو ضعيف جدا. الناخوال من ناحية أخرى لا يقوم بالفعل أبداأو يكاد لا يقوم بالفعل أبدا، ولكن عندما يفعل فهو يرعب التونال. هذا الصباح تعرض تونالك للخوف وبدأ يتقلص من تلقاء نفسه ومن ثم بدأ ناخوالك في استلام زمام السيطرة. توجب علي أن أستعير سطل ماء من أحد المصورين الذين يعملون في الحديقة لكي أجلد به ناخوالك وكأنه كلب سئ ليعود لمكانه. التونال يجب حمايته مهما كلف الثمن. يجب أن يتم انتزاع تاج السلطة منه لكنه يجب أن يبقى كمشرف محمي .
    "أي تهديد للتونال كثيرا ما يؤدي للموت، وإذا مات التونال فالإنسان يموت بكامله. بسبب ضعفه الكامن فيه فالتونال يتم تدميره بسهولة ولذلك فأحد أفعال المحارب التوازنية هي جعل الناخوال يبرز للخارج لكي يدعم التونال. أنا أقول أن ذلك فن لأن العارفين يعرفون أنه الناخوال لا يبرز إلا إذا تم دعم التونال. هل تفهم ما أعنيه؟ إن ذلك الدعم يسمى بالقوة الشخصية".
    ونهض دون خوان ومط ذراعيه وقوس ظهره. بدأت أنهض لكنه دفعني للأسفل بلطف.
    قال لي:"يجب عليك أن تبقى على هذه الكنبة حتى المغرب. خينارو ينتظرني في الجبال، لذلك أحضر لمنزله خلال ثلاثة أيام وسوف نتقابل هناك".
    سألته:" ماذا ستفعل في منزل دون خينارو؟"
    "اعتمادا على ما إذا كنت تملك قوة كافية أم لا فسوف يريك خينارو الناخوال".
    كان هناك تساؤل آخر توجب علي التلفظ به. أردت أن أعرف ما إذ كانت البدلة الكاملة التي يلبسها أداة صدمة لي فقط أم أنها جزء معتاد من حياته. لم يسبق أن أربكني فعل من أفعاله بمثل ما أربكني به ارتداؤه لبدلة كاملة. لم يكن فعل الإرتداء نفسه رهيبا بالنسبة لي وحسب بل حقيقة أن دون خوان كان أنيقا. كان لساقيه سرعة الشباب. بدا وكأن ارتداء حذاء (بدلا من الصندل ـ المترجم) قد حرك نقطة توازنه فأصبحت خطواته أطول وأشد ثباتا عن قبل.
    سألته:" هل تلبس بدلة كاملة طول الوقت؟"
    أجابني بابتسامة جذابة:" نعم. لدي بدلات أخرى لكنني لم أرد ارتداء أيا منها اليوم لكي لا أزيد من فزعك".
    لم أعرف بماذا أفكر. شعرت أنني وصلت لنهاية مساري. إذا كان بإمكان دون خوان ارتداء بدلة كاملة وأن يكون أنيقا وهو يرتديها، فكل شئ ممكن.
    بدا أنه يستمتع بارتباكي وضحك.
    قال بلهجة غامضة ولكنها غير متأثرة :" أنا مالك أسهم في شركات".
    اليوم التالي الذي كان يوم الخميس طلبت من صديق لي أن يسير معي من باب المكتب الذي دفعني عنده دون خوان وحتى سوق لاجونيلا. سلكنا أقرب الطرق إليه. تطلب الأمر منا خمسا وثلاثين دقيقة للوصول إليه. حالما وصلنا إلى هناك بدأت أتفحص المكان لأحدد المكان الذي كنت فيه لكنني فشلت. سرت نحو دكان قماش في ركن الشارع الواسع الذي كنا نقف بجانبه.
    قلت للشابة التي كانت تنظف قبعة مستعملة منفضة غبار :" أين طبليات بيع العملات والكتب القديمة؟"
    قالت لي بلهجة نفور:" لايوجد أيا منها".
    قلت لها:"لكنني رأيتها في هذا السوق أمس".
    قالت لي:"دع المزاح" ومشت لخلف الكاونتر.
    جريت خلفها وتوسلت إليها أن توضح لي أين هم. نظرت لي من أخمص قدمي لقمة رأسي.
    قالت لي:"لايمكن أن تكون رأيتها أمس. تلك الطبليات يتم تجميعها فقط يوم الأحد هنا في هذا الموقع بالضبط بجوار هذا الحائط. إنها لا تكون موجودة بقية أيام الأسبوع".
    رددت بصورة آلية:" يوم الأحد قط؟"
    "نعم يوم الأحد فقط. تلك هي الطريقة. بقية الأسبوع سوف تعرقل حركة المرور إذا تم نصبها". وأشارت للشارع الواسع الملئ بالسيارات.


    يتبــــــــع
                  

11-01-2009, 07:58 PM

محمد عثمان الحاج

تاريخ التسجيل: 02-01-2005
مجموع المشاركات: 3514

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: محمد عثمان الحاج)

    اعتبر شامانات التولتيك أن مهمة ارتقاء الإنسان بنفسه للوصول للكشف ومن ثم مواصلة رحلته الروحية هي أخطر مهمة يجب أن يتم إعداد الإنسان لها بأقصى ما يمكن من جدية وجهد ولذلك رأوا أن التوجه الحربي العسكري هو الأنسب للإنسان فمعركة الروح هي أخطر بكثير من المعارك العادية ولذلك فالاستعداد لها بأسلوب استعداد المحارب للمعركة العادية هو أقل ما يمكن فعله.

    وهذه الأفكار ليست غريبة عن التصوف الإسلامي الذي اعتبر أن جهاد النفس هو الجهاد الحقيقي واحتفظت الطرق الصوفية ببعض أشكال هذا التوجه مثل الرايات والأحزمة والرتب، ولكن الطريقة الصوفية الوحيدة التي اقتربت بأكثر ما يمكن من أسلوب المحاربين التولتيك ربما كانت هي الإنكشارية التركية التي كانت تقوم على الأسلوب الحربي بصورة كاملة.

    لذلك أعود مرة أخرى لمفهوم المحارب كما فصله دون خوان في اقتباسات نقلها عنه كاستانيدا.


    المحارب يعرف أنه ليس سوى إنسان. حسرته الوحيدة هي أن حياته قصيرة بحيث أنه لا يستطيع الإحاطة بكل الأشياء التي يريد الإحاطة بها. لكن بالنسبة له ذلك ليس شيئا هاما بل فقط مجرد حسرة.

    عندما يتعلم المحارب أن يرى بطريق الكشف فإنه يرى أن الإنسان عبارة عن بيضة نورانية سواء كان متسولا أم ملكا وأنه ليس هناك إمكانية لتغيير شئ أو بعبارة أخرى ما الذي يمكن تغييره في بيضة نوارنية؟ ماذا؟


    المحارب لا يحمل هما فيما يخص خوفه، بدلا من ذلك فهو يتفكر في روعة الوصول للكشف ورؤية سريان فيض الطاقة في الكون. البقية ليست سوى زوائد غير مهمة.

    الطريقة الأشد فعالية في الحياة هي أن يحيا الإنسان كمحارب. المحارب قد يحمل هما ويفكر قبل أن يتخذ قرارا ولكن حالما يتخذ القرار فإنه يمضي في طريقه متحررا من الهموم والأفكار فلا تزال هناك ملايين القرارت التي تنتظره. ذلك هو طريق المحارب.

    المحارب يعيش عن طريق الفعل وليس عن طريق التفكير في الفعل ولا التفكير فيما سيفكر فيه بعد أن ينتهي من القيام بالفعل.

    المحارب يختار طريقا ذو قلب، أي طريق ذو قلب ويتبعه وعندها فهو يفرح ويضحك. هو يعرف لأنه يرى بطريق الكشف أن حياته سرعان ما تنتهي وأنه لا يوجد شئ أكثر أهمية من شئ آخر.



    في حين أنه لا يوجد شئ أكثر أهمية من شئ آخر فالمحارب يختار أي فعل ويقوم به وكأنه مهم بالنسبة له. حماقته المتحكم فيها تجعله يقول أن ما يقوم به مهم وتجعله يتصرف وكأن ما يقوم به هو مهم فعلا، مع ذلك هو يعرف أن ما يقوم به ليس مهما ولذلك عندما يحقق أفعاله فهو يتراجع في سلام، سواء كانت أفعاله جيدة أم لا وسواء أثمرت أم لا، فذلك ليس أبدا من ضمن همومه.

    المحارب ربما يختار أن يظل ساكنا ولايقوم بفعل ويتصرف وكأن بقاءه بلا فعل هو شئ مهم بالنسبة له وسيكون حينها على حق في ذلك لأن ذلك يكون أيضا هو حماقته المتحكم فيها.

    الإنسان العادي مشغول أكثر من اللازم بشعوره تجاه الآخرين أو شعور الاخرين تجاهه (هل يحبونه أم لا) وذلك هو كل شئ بالنسبة له. أما المحارب فهو يحب وحسب. هو يحب ما يشاء أو من يشاء فقط من أجل الحب.

    المحارب يتحمل مسوؤلية أفعاله مهما صغرت تلك الأفعال. أما الإنسان العادي فهو ينفذ ما تمليه عليه أفكاره و لا يتحمل مسؤولية ما يفعله.

    الإنسان العادي إما منتصر أو مهزوم وبناء على ذلك يصبح إما من يقوم بالإضطهاد أو يكون ضحية الإضطهاد. هذان الحالتان تسودان طالما لم يكن الإنسان من أهل الكشف. الكشف يبدد وهم الإنتصار أو الهزيمة أو المعاناة.

    (عدل بواسطة محمد عثمان الحاج on 11-01-2009, 08:02 PM)

                  

12-25-2009, 05:24 PM

محمد عثمان الحاج

تاريخ التسجيل: 02-01-2005
مجموع المشاركات: 3514

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطريق الصوفي عند حكماء الهنود الحمر المكسيكيين (Re: محمد عثمان الحاج)

    التحية والشكر لكل الإخوة والأخوات الذين تابعوا هذا البوست والذين كتبوا لي معلقين عليه، وإنشاء الله سأواصل مستقبلا عرض جوانب مختلفة من طريق التولتيك في بوستات مستقبلية إذا سمحت الظروف وتوفر الوقت وحينها ساشير فيها لهذا البوست الذي لا يحمل سوى شذرات قليلة من بحر هذا الطريق الواسع المفصل في كتابات كاستانيدا التي أرى أنه لا غنى عن دراستهابالتفصيل لكل من يسعى للحقيقة والتقدم الروحي مهما كانت المدرسة الروحية التي ينتمي اليها، وشكري للجميع.
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de