يوميات الثورة السودانية – الجزء الثانى

Quote: إن تعذيب البشر يعتبر من اخطر الوسائل الإجرامية التى تتنافى مع المواثيق الدولية لحقوق الانسان والشرائع السماوية والأعراف قاطبة وهذه مسألة لا تحتاج إلى الشرح والاستفاضة ولكن أن يقع هذا في دولة يدعى شيوخها و قادتها أنهم جاءوا لانقاذ اهل السودان وبسط قيم السماء في جنوب وادى النيل والحفاظ على ثوابت الأمة من الزوال والنهوض بإنسان السودان التعيس المكبل بالفقر والمرض إلى رحاب الفضيلة والرخاء , فهذا ما لا نستطيع فهمه ما لم نفهم الطبيعة المافيوية للحركة الإسلامية السودانية والسلوك المنحرف الذى تربت عليه هذه الفئة اللقيطة والغريبة على اهل السودان والتى وصفها وبرع في وصفها زعيم القاعدة الراحل , اسامة بن لادن ( خليط من الدين والجريمة المنظمة). إن العشرية الأولى للإنقاذ في تقديرنا تمثل الأساس الذى بُنيت عليه أعمدة اللهب التي أحرقت لاحقا الأخضر واليابس في بلادنا وفصلت جنوب الوطن عن أضلاعه وقتلت الملايين منّا وشردت الملايين في المنافي ودول الإغتراب وكان مُحقاً الدكتور منصور خالد عندما قال عن العشرية الاولى : (عشر سنوات خارج نطاق القرن العشرين). نعم بالفعل كنّا ولعقد من الزمان خارج تاريخ القرن الماضى فأين كنّا في تلك العشرية ؟ وإلى أين صِرنا بعدها ؟ وأين نحن الآن ؟. نعم انها أسئلة تمر عفو الخاطر حول مصير بلد سُرق خلسة من بين ايدي أبنائه وهم غافلون ---------- نعود إلى قصتنا وحكاية شاب من نواحي مدينة شندي والتي تشبه إلى حد كبير قصة عادل امام في فلمه المشهور (نحنا بتوع الأتوبيس). دخلت على البروف عثمان فضل في مكتبه في مقر المنظمة السودانية لضحايا التعذيب في القاهرة والبروف فضل لمن لا يعرفه هو رئيس المنظمة في ذلك الوقت وهو بروف زراعي كان يعمل استاذا في جامعة الجزيرة وبعيد مجئ الإنقاذ كان أول موظف دولة يفصل للصالح العام بقرار جمهورى صادر تحت توقيع الرئيس البشير. قلت للبروف إن هنالك شاب ينتظر في صالة الإستقبال ويريد أن يدلى بإفادته عن تجربته في بيوت الاشباح وقبل ان أكمل حديثي سمعنا طرقاً على الباب وكان القادم رجل انجليزي وبرفقته زوجته فإنقطع حديثي وقبل أن أخرج أمر البروف بالتلفون أحد معاونيه بالقيام باللازم في الموضوع الذي جئت من أجله. بالفعل بدأ الاستماع في غرفة خاصة إلى إفادة الشاب موضوع هذا الخيط وفي هذه الأثناء انشغلت بالتحدث مع بعض الأصدقاء والصديقات المتواجدون في صالة الاستقبال بعد فترة جاء الشخص الذي كان يحقق معه ليقول لي إن صاحبك انتهى من إفادته وخرج وهنا سألته إن كان قد ذكر شيئا عن اسم الطفلة ونوع السيارة عندما توقف البص في قرية فداسي؟ اجابنى ب (لا). خرجت مسرعاً و حاولت اللحاق به في الشارع العام إلا انه كان قد ابتعد كثيرا عن مبنى المنظمة وفي المساء عندما ذهبت إلى المركز السودانى للثقافة والإعلام وجدت المركز يغص بالسودانيين وكان صوت الفنان السمرى يشيع البهجة في قلوب الحاضرين , فيا له من صوت رخيم . تجولت ببصرى ورأيت صاحبنا يجلس في الصفوف الخلفية يصفق مع المصفقين ويغنى مع المغنين فتجنبته عمداً حتى لا تقع عينه على عيني فتتبدد لحظة الصفاء التى لمحتها في وجهه لأول مرة منذ أن التقيته. وخفت أن يستعيد مواجعه وذكرياته في بيوت الأشباح كانت بدايتي مع هذا الشاب عندما ذهبت إلى شقة في مدينة نصر لأمر ما وهناك صادفته وتعرفت عليه كبقية القاطنين في الشقة. كان مُقلاً في الكلام يذهب إلى البالكون ويراقب المارة والسيارات ثم يعود و يجلس أمام التلفزيون وأحيانا يطأطأ رأسه ويبحلق في الأرض لمدة طويلة. إعتراني إحساس غريب أنه يعيش أزمة ما وبالفعل صدق ظني عندما صارحنى قريبة عند خروجنا من الشقة ونحن في الطريق إلى وسط البلد أن هذا الشاب مرّ بتجربة صعبة بعد إعتقاله من مجهولين أخذوه الى بيت مجهول ومارسوا عليه صنوفاً من ألوان التعذيب كبقية من كانوا معه هناك من ضحايا مجهولون بالنسبة اليه إذ انه لم يصادفهم يوماً في حياته. تبادر إلى ذهني أن يكون من طلاب المعاهد والجامعات الناشطين في العمل السياسي المعارض للحكومة إلا أن الأمر كان عكس ذلك فصاحبنا لم يكمل المرحلة الثانوية مع أنه كان من النابهين وذلك نسبة لظروف أسرته القاسية وجاء للعمل في الخرطوم بالرغم من الحملات الواسعة التى تستهدف الشباب في ذاك الزمن الصعب وتزج بهم في أتون الحرب في جنوب البلاد . كان يعمل في سوق أم درمان وفي يوم ما من العام 1994 ذهب لاستلام بضاعة من منزل صديق له يعمل معه وكان صديقه يسكن في منزل أقربائه في ( بيت عزّابة ) وكان من سوء حظه أنه جاء في الزمن الخطأ . جاء في الوقت الذى احتلت فيه مجموعة من عناصر الأمن البيت وأحالته إلى كمين يعتقلون فيه كل زائر ثم يحال إلى اماكن مجهولة وهنا فهمت أن من بين العزّابة يوجد سياسي أو اكثر ينتمى لحزب معارض. حاول صاحبنا أن يقنعهم أنه ليس من فئة الناس الذين يبحثون عنهم ولكن لا أحد يريد أن يستمع إليه وما هي إلا لحظات حتى يجد صاحبنا نفسه معصوب العينين في داخل سيارة صغيرة تحمله إلى مكان مجهول ليجد نفسه في غرفة مظلمة تنبعث منها الروائح الكريهة ووسط جماعة يشبهون على حد وصفه أجدادنا القدماء . اشكالهم بائسة وعيونهم غائرة وكأنهم لم يغتسلوا من زمن بعيد. لم يقل صاحبنا ماذا حدث له بالضبط ولم يصرح إلى أهله وأصدقائه بشئ من تلك الايام التي امتدت لثلاثة اسابيع ولربما يرجع ذلك إلى التحذيرات التى عادة ما تقال لكل من يخرج من تلك البيوت حيا وهى التهديد والوعيد إن تجرأ أحدهم وحكى عما يحدث في تلك البيوت السرية.دارت الأيام والليالي والأعوام دورتها وصاحبنا لا يزال على حاله لا يميز صبحه من مسائه ولا يجد تفسيرا للظلم الذي حاق به ولربما سأل نفسه مرارا وتكرارا عن هوية معذبيه واصلهم وفصلهم وهل هم بشر مثل باقى البشر العاديين ؟ وهل هم حقا سودانيين ؟ ولماذا يفعلون بالناس هذه الافاعيل ؟ ثم جاءت المفاجأة التى كانت بالنسبة اليه ابعد من المستحيل. في يوم من الايام وقبل يوم واحد من أحد الأعياد لم أذكر على وجه التحديد , عيد الفطر أم عيد الأضحى , كان صاحبنا في طريقه من الخرطوم إلى مدينة ودمدنى لقضاء أيام العيد مع خاله الذي يعمل في إدارة مشروع الجزيرة وكانت هذه أول مرة في حياته يسافر جنوب الخرطوم . عندما وصل البص إلى قرية فداسى الحليماب توقف للحظات وخرجت منه سيدة في مقتبل العمر تحمل طفلة صغيرة تبلغ من العمر في حدود العام أو تزيد قليلا وكانت تقف على الجانب الآخر من طريق الأسفلت سيارة ملاكي في انتظارها وكان يقف أمامها شخصان كان أحدهما هو نفس الرجل الذي حقق معه وضربه بيده في أيامه الأولى في بيت الاشباح . نعم نفس الرجل بلحمه وعظمه . ركز مليا في وجهه وهو بين مصدق ومكذب عينيه ألى أن تأكد من ذلك تماما عندما سمعه ينادى على الطفلة الصغيرة. الآن تبين الخيط الأبيض من الأسود وحلّ اليقين محل الشّك . فهذا الصوت هو صوته كما سمعه قبل عدة سنوات وهذا الشكل هو شكله ولم يطرأ عليه أي تغيير يذكر . إنه الرجل نفسه الذى قلب حياته رأسا على عقب وزرع في قلبه بذور الكراهية والانتقام. عندما وصل صاحبنا إلى منزل خاله بودمدنى ،أخبره أنه شاهد واحدا مِن من كانوا يعذبونهم في بيوت الأشباح وأنه قرر أن يذهب في الصباح الباكر إلى فداسي ليصلي صلاة العيد هناك فلربما يعرف المزيد عن غريمه، إلا أن الخال منعه من خطوة كهذه فمن المحتمل أن يتعرف عليه الرجل وقد يتطور الامر إلى أبعد من ذلك وقد يكون الثمن هذه المرة حياته نفسها . فهؤلاء القوم يستحلون قتل الأنفس ويسترخصون أرواح البشر ولا يبالون بشئ . سألت قريبه ونحن في الاوتبيس في الطريق من مدينة نصر إلى وسط البلد : هل حكى صاحبنا قصته تلك الى المحققين في الامم المتحدة ؟ قال لى : لا.... فهو لم يتقدم أصلا بطلب لجوء إلى مكتب الأمم المتحدة في القاهرة لأنه عند مجيئه الى مصر كانت السفارة الكندية تستقبل طلبات اللجوء من شباك السفارة مباشرة بعد المشكلة المعروفة بين البعثة الكندية والمحلفين الامريكان . لاحقته بالسؤال هل حكى للمحقق الكندي قصته تلك ؟ قال لى : لا . لأنه خشى ألا يصدقونه .ثم أردف : كانت المحققة في السفارة الكندية سيدة مصرية واعتقد أن المحققة شّكت في أنه يخفي امرا جللا وحاولت استدراجه لكنها فشلت في ذلك وعلى أي حال لم يستغرق التحقيق معه وقتا طويلا لانه كان في ذاك الوقت كان بالفعل في حالة يرثى لها وكان ينوي العودة الى السودان لأنه اشتاق إلى امه وشقيقته الصغرى التى تعاني من بعض المتاعب الصحية إلا انني اقنعته بمواصلة مشواره الذى مشاه وسيكون ذلك أفضل له ولاسرته ان وُفّق فيه . اقترحت على قريبه أن يقنعه بفكرة الذهاب الى المنظمة السودانية لضحايا التعذيب وأن يدلي بإفادته وسيتم تحويله إلى مركز النديم وسيتلقى هناك علاجا مجانيا فهذه فرصة يمكنه الاستفادة منها . ثم كان ماكان . أدلى بإفادة منقوصة غاب عنها اهّم شئ كنا نبحث عنه . ويبدو أن فكرة الثأر تسيطر عليه وتمنعه من قبول أي رأى آخر وياليته يدرى بأن الملاحقة القانونية أو حتى نشر صورة غريمه في الأسافير مقرونة بأفعاله لعمري أشد هولا على غريمه من القتل والسحل والآن لا ادري إن كانت السنوات التى قضاها صاحبنا في كندا قد غّيرت الكثير من قناعاته القديمة وعلمته اشياءا اخرى كانت ستكون بعيدة عنه إن بقى في السودان. مضت شهور على تلك الواقعة، وذات مرة وجدت نفسي على بعد خطوات من تلك الشقة التى يسكنها، صاحبنا فصعدت السلالم وطرقت الباب وسألت عنه بالاسم فقال محدثى إنه لا يسكن معهم شخص بهذا الإسم، ثم سألت عن قريبه فعرفت أنه انتقل للعمل والاقامة مؤقتا في مصانع ست اكتوبر وفي هذه الاثناء وقبل أن ابتعد من باب الشقة سمعت صوتا من داخل الشقة يقول لي إن الشخص الذي سألت عنه في البداية سافر الى كندا في أواخر الشهر الماضى وقد كنت في وداعه في مطار القاهرة الجديد. يا لحظي التعيس؛ لقد تأخرت عليه كثيراً، فأخيرا غادر صاحبنا الى كندا وترك وراءه رواية لم تكتمل فصولها وأضاع علينا صيدا ثمينا كنّا سنقيم لاجله الولائم فنحن لم نطلب منه المستحيل كنّا نريد فقط أن نصل إلى الجانى الذي عذّبه , فصاحبنا لم يكن الوحيد من ضحاياه فغيره كُثرٌ . لو أنه أعطانا فقط اسم الطفلة التي تناهى اسمها الى أذنه عندما توقف البص في قرية فداسى ونوع السيارة التي كان يقف الى جوارها رجل بيوت الاشباح فإسم الطفلة ونوع السيارة هما الخيطان الرئيسيان للوصول الى ذاك الرجل . إن بيوت الاشباح ستظل وصمة عار في جبين الحركة الاسلامية السودانية وستظل عنوانا عريضا وهوية كاملة لعصر اسمه ( المشروع الحضارى ) , فإختطاف الناس وتعذيبهم لهو فعل لا يقدم عليه إلا مجرم محترف وشخص مشوّه ويا ليت الظلم وقف عند إختطاف الناس وتعذيبهم بل تعداه الى التشهير بالضحايا واذلالهم بنشر الاكاذيب وانكار الحقائق مثلما فعل الدكتور الافندى واحمد كمال الدين ( محامى من أبناء نيالا حي الوادي , عضو المؤتمر الشعبى ويقيم الآن , بحسب علمنا , في البحرين ) مع العميد الركن محمد احمد الريح، فإن وجدنا للمحامى احمد كمال الدين العذر لانه اقتدى بشيخة الترابى ومن شابه شيخه في المهنة والفكرة فما ظلم ولكن من اين نجد العذر للدكتور الافندى الذى قضى معظم حياته في بلاد الانجليز، وامتلأت خياشيمه بنسيم الديمقراطية وعبيرها، ومشت خطاه على طرق لم يضع عليها حجرا واحدا ومع ذلك خرج علينا عشية الانقاذ كأنه خرج لتوّه من مدينة بربر. واخيرا أقول لصاحبنا : إنه كان بإمكانى أن أصل إلى عنوانك في كندا وأعيد الكرة ثانية في محاولة اخرى لاقناعك ، إلا اننى فضلت عدم انتهاك خصوصياتك وإزعاجك، فإن كنت لا تزال تذكر كلامي الذي قلته لك في القاهرة فأنا ما زلت عند وعدي وأملي أن تكون قد صرت تنظر للأمور بشكل مختلف. وعلى أي حال إن قررت أن تتصل بى ستجد رقم هاتفي عند صاحب موقع الراكوبة او صاحب موقع سودانيس اونلان وستجد عندي بعض الجديد وإن كنت لا تريد هذا أوذاك فأرجو ان تتصل بقريبك في تكساس لأن هاتفه قد ضاع مني قبل عام ونيف ........ تحياتى ومتعك الله بالصحة ودوام العافية والسلام موصول لقريبك واهل بيتك.