الأستاذ خالد الحاج: الفكرة الجمهورية والبراغماتية

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-26-2024, 04:32 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة عمر محمد أحمد عبد الله هواري(Omer Abdalla)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-21-2005, 09:36 PM

Omer Abdalla
<aOmer Abdalla
تاريخ التسجيل: 01-03-2003
مجموع المشاركات: 3083

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الأستاذ خالد الحاج: الفكرة الجمهورية والبراغماتية


    تعقيباً على دكتور النور حمد
    الفكرة الجمهورية والبراغماتية (1)
    خالد الحاج عبد المحمود

    لقد اطلعت على سلسلة مقالات للأخ الدكتور النور محمد حمد، نشرت بجريدة الأضواء السودانية، وبعضها نشر بموقع سودانيز أون لاين على الشبكة .. وقد جرت تلك المقالات، تحت عنوان: العصر الأموي، وفجر البراغماتية الاسلامية.. ثم اتخذت عنواناً ثانياً هو مستقبل الفكرة الجمهورية.. وانا هنا، أود ان اعقب، بصورة خاصة، على الجزء المتعلق بالفكرة الجمهورية... ففي تلك المقالات نسب د. النور الاستاذ محمود محمد طه ودعوته – الفكرة الجمهورية – للبراغماتية!! وهو أمر لا أجد له أي وجه من الوجوه.. بل الأمر الواضح عندي هو، ان البراغماتية، والاسلام عامة، والفكرة الجمهورية خاصة، يتناقضان، في الجوهر، وفي المبادئ الأساسية، وفي التفاصيل.. وهذا ما أنا بصدد بيانه.

    1- الأسس الفلسفية
    جاء ضمن اقوال د. النور، ما نصه: يمكن القول بشكل عام ان البراغماتية الاسلامية في التجربة السياسية السودانية ذات وجهين: وجه نقدي، وعملي، استهدف تفكيك سلطة النص المقدس، وهذا يفسح المجال، ان احسن استخدامه لبناء حالة حضارية اسلامية عقلانية ونسب هذا الاتجاه للاستاذ محمود، وذلك بقوله: "وقد مثل الاستاذ محمود في عموم الامر الاتجاه الأول .." وقد نسب الدكتور الترابي للوجه الثاني من البراغماتية، وهو ما اسماه البراغماتية الانتهازية.. وفي موقع آخر، جاء من اقواله: "في حين مثل الاستاذ محمود محمد طه، عبر حقب حركته وفي عموم الامر ايضاً البراغماتية الاسلامية في نسختها العقلانية الفاحصة لسلطة النص، والعاملة على تفكيك سلطة النص، وعلى اضاءة تحديات الواقع المتجدد لضرورة فهم الحكمة وراء النص" .. كما ورد في عدد من المواقع الاخرى وصف الاستاذ محمود، ودعوته، بالبراغماتية.. ود. النور يذكر بعض التحفظات، فيما يتعلق ببراغماتية الفكرة الجمهورية، فيقول: "غير أن هنالك تحفظات لا بد من ابدائها فيما يتعلق بوصف الفكر الجمهوري بالبراغماتية.. فقد اتسم الفكر الجمهوري، بالكثير من البراغماتية، فيما يتعلق بفحص سلطة النص، والوقوف بعقلانية راسخة أمام أقوال السلف، لكن الفكر الجمهوري اتسم ايضاً بالرؤى، والتوقعات الصوفية، الغيبية الغنوصية Gnostic يضاف الى ذلك فقد احتفظ الفكر الجمهوري بجوهر الفكرة الدينية في اعتناق نظرية شاملة وتصور كلي، وما يمكن ان يوصف بانه خارطة طريق لحركة الوجود، الامر الذي يجعل اضفاء صفة البراغماتية عليه، على اطلاق العبارة، أمر غير صحيح تماماً" .
    اذاً حسب د. النور، مع ملاحظة التحفظات المذكورة، الاستاذ محمود، في عموم الحال براغماتي، وكذلك الحال، بالنسبة لدعوته.. فالنور لا يقول ان الاستاذ محمود، والفكرة الجمهورية، يلتقيان في نقطة معينة، أو نقاط، مع البراغماتية.. وانما يصف الاستاذ ودعوته بالبراغماتية، مع ملاحظة التحفظات المذكورة – والتحفظات، التي اوردها د. النور بنفسه كافية، جداً، لجعل البراغماتية نقيض الفكرة الجمهورية لكن النور لم يقف عندها، ولم يبين بوضوح المبادئ الاساسية، للبراغماتية، واين تلتقي بالفكرة الجمهورية وداعيتها بصورة موضوعية.. فعلينا نحن ان نبرز الاصول الفلسفية للبراغماتية ونقارنها بالاصول الاسلامية للفكرة الجمهورية، لنرى هل ما ذكره النور له أي وجه من وجوه الصحة!!.
    وقد دلل د. النور على براغماتية الاستاذ محمود ببعض المواقف، ومنها موقفه من مشكلة الشرق الاوسط.. ونحن سوف نناقش هذا الامر في موضعه..
    بالطبع، أي فكر، يمكن ان يلتقي، مع أي فكر آخر خصوصاً في الامور الشكلية، وذلك لأن المعلم واحد، ولكن التفكير بصورة عامة، هو ما يجمع بين البشر.. ولكن لا عبرة باللقاء في الامور الشكلية، والعرضية.. فلكي يوصف الاستاذ محمود، ودعوته بالبراغماتية، لا بد ان تكون هنالك امور اساسية، تجمع بين الاستاذ ودعوته، وبين البراغماتية كما يقتضي الامر الا تكون هنالك خلافات جوهرية بين البراغماتية، والاستاذ محمود ودعوته، تجعلهما لا يلتقيان.
    وكلمة براغماتية، تستخدم بمعنيين المعنى الأول، كمصطلح يستخدم في وصف الانسان الذي يتعامل مع القضايا بصورة واقعية، حسب منفعته المباشرة، ودون تقيد بالمبادئ والقيم.. والمعنى الثاني، هو المعنى الفلسفي للكلمة.. ود. النور، واضح انه عندما يصف الاستاذ محمود ودعوته بالبراغماتية لا يعني المعنى الأول – المعنى الدارج فقد نفى عن الاستاذ صفة الانتهازية، التي يشير اليها المعنى الأول، واثبت في عديد من المواضع ان الاستاذ في قمة الالتزام بالقيم والمبادئ.. فالنور، اذاً، يتحدث عن البراغماتية كفلسفة وكمنهاج كما وردت عند كبار مفكريها، الذين اورد اسماء، اشهرهم امثال جون ديوي، ووليم جيمس... كما اورد بعض التعريفات للبراغماتية.. فهو اذاً في حق الاستاذ ودعوته يتحدث عن البراغماتية ليس بالمعنى الدارج، وانما بالمعنى الفلسفي.. وهو يركز بصورة خاصة على جانب التعامل مع الواقع، كما سنبينه في موضعه.
    لقد اورد د. النور بعض التعريفات للبراغماتية، مما يؤكد انه معني بالجانب الفلسفي وليس مجرد المعنى الدارج.. ومن بين تلك التعريفات ما اورده، نقلاً عن معجم كامبردج الفلسفي.. ونلاحظ ان البراغماتية، كما يتحدث عنها د. النور تختلف في بعض الجوانب بصورة اساسية عن البراغماتية كما هي عند اصحابها، والذين أورد، بنفسه، اسماء الأساسيين منهم، وعلى رأسهم: بيرس، ووليم جيمس، وجون ديوي!!.

    البراغماتية ما هي!؟
    نحن لسنا بصدد دراسة نقدية مفصلة للفلسفة، وانما نريد فقط عرض اساسياتها، لمعرفة صحة ما قاله النور عنها، وصحة نسبة الفكرة الجمهورية للبراغماتية، من عدم صحتها، ونعتقد ان الحد الأدنى من الموضوعية، ان تنسب للآخرين، افكارهم واقوالهم كما وردت عندهم، ثم بعد ذلك تبني عليها او تنتقدها ان شئت.. والحد الاعلى من عدم الموضوعية، ان تنسب للآخرين، خلاف ما يقولون أو عكس ما يقولون!! وبكل أسف، كتابات د. النور تتورط في هذه الاخيرة كما سنبينه في موضعه.. ثم هنالك ملاحظة، نود التنبيه لها منذ البداية، لملاحظتها عند ورودها، وهي ان كتابات د. النور تفتقر الى الدقة في تحديد المفاهيم، بل قد يصل الامر الى حد تجاهل، مجرد توضيح المفاهيم.
    لقد اورد د. النور، عن تعريف البراغماتية، من معجم كمبردج الفلسفي، ما نصه: "لا يمكن تقرير الحقيقة عن طريق استخدام المقياس الابستمولجي وحده، لأن كفاءة هذا المقياس لا يمكن التحقق منه بمعزل عن الاهداف، والقيم الظرفية المحيطة. فالقيم التي تعلو في ظرف تاريخي، ثقافي معين قد جرى تكييفها بحصافة، بالقدر الذي تستطيع به، فقط حل، تلك المشاكل بقدر مرضٍ وبناء على ذلك، فقد جرى الاعتقاد بان تلك القيم تستحق ان يحتفظ بها... فوفقاً للنظريات البراغماتية عن الحقيقة، فان الحقائق ليست سوى معتقدات جرى التثبت منها عبر شوط التجربة، ولذلك فهي قابلة للخطأ، وقابلة من ثم للمراجعة لاحقا"ً واضح من النص، انه يتحدث عن الحقيقة في نظر البراغماتية خصوصاً في العبارة: "فوفقاً للنظريات البراغماتية عن الحقيقة فان الحقائق ليست سوى معتقدات جرى التثبت منها عبر التجربة" .. عبارة "عبر التجربة" واضحة، في الاشارة الى ان البراغماتية، فلسفة تجريبية!! وفي موضع آخر يواصل د. النور النقل، عن المصدر المذكور فيقول: "هي فلسفة تشدد على اهمية العلاقة بين النظرية، والبراكسيس كلمة براكسيس مأخوذة من اليونانية pracso وتعني الفعل والاستجابة العملية، وبهذا فان البراغماتية تأخذ استمرارية التجربة والطبيعة كما يجسدهما ناتج الفعل المباشر كنقطة ارتكاز لبداية التأمل والتفكر، فالتجربة هي محصلة التعامل المستمر بين العضويات Organisms، وبين بيئتها، وعلى سبيل المثال فان هذا الفهم يرى ان الذات والموضوع مشمولان ومحاط بهما معاً، في هذه السيرورة.. وعليه فان المعرفة يتم توجيهها اما بالمصالح أو القيم.. وبما ان طبيعة الاشياء لا يمكن تعريفها بشكل سابق للتجربة، فان دعاوى تملك الحقيقة، يمكن اقامتها فقط بناء على الاحوال المتحققة عملياً، التي فرضتها التجربة" .. (الخطوط تحت الكلمات، من وضعي) واضح من النص، ومن العبارات التي تحتها خطوط، ان البراغماتية، فلسفة تجريبية، وهذا ما يقول د. النور بخلافه، كما سنرى في موضعه.
    كان ينبغي ان يشرح د. النور الاشارات المبتسرة، الواردة في التعريف الذي اورده، وان يبني على اقوال البراغماتيين انفسهم، ولكنه لم يفعل شيئاً من ذلك.. وحتى التعريف الذي اورده من المعجم، هو لم يبني عليه، بل نسب له خلاف ما يعطي – كما سنرى في موضعه!!.
    خلاف هذا التعريف، لم ينسب د. النور اقواله عن البراغماتية الى أي مصدر، من مصادر الفلسفة!! وانما جاء بعبارات من عنده، في تعريف البراغماتية، وذلك مثل قوله: "العبارة القائلة السياسة فن الممكن ، عبارة تلخص جوهر البراغماتية" وقوله "البراغماتية مرادفة للعقلانية" وتحدث كثيراً عن البراغماتية والنص، ومن ذلك قوله "البراغماتية تعني فيما تعني مواجهة سلطة النص، حين يصبح تطبيق النص غير عملي" .. وقوله: "من أهم سمات البراغماتية، هي الا يعمينا النص، عن رؤية الواقع".. وتحدث في عدة مواضع عن البراغماتية والواقع.. ونحن سنعتمد، اقوال النور عن البراغماتية ما هو صحيح منها وما هو خاطئ – بعد ان نوضح خطأه.. ولكننا سنبني على اقوال فلاسفة البراغماتية انفسهم، وأقوال مؤرخي الفلسفة.. ونحن سنرجع الى مراجع اساسية هي:
    1- وليم جيمس: البراغماتية.. ترجمة الدكتور محمد علي العريان قدم له د. زكي نجيب محمود.. الناشر دار النهضة العربية
    2- يعقوب فام: البراغماتية.. الهيئة المصرية العامة للكتاب
    3- د. سعيد اسماعيل علي: فلسفات تربوية معاصرة.. سلسلة عالم المعرفة الكويتية، العدد 198.
    وسنشير الى هذه المراجع، حسب ارقامها المذكورة كما سنشير الى النصوص من اقوال د. النور حسب رقم المقالة بجريدة الاضواء.. وبعض المراجع الاخرى سنذكرها في موضعها.
    يرجع استخدام براغماتية، كمصطلح فلسفي الى بيرس Charles Piers وذلك في يناير 1878م بمجلة Popular Science Monthly والكلمة اصلها يوناني، وتعني: عملي أو صالح لغرض معين، أو يؤدي الى الغرض المطلوب.. وبعد بيرس تناول المصطلح وليم جيمس وفصله في نظام فلسفي ونشره حتى اصبحت هذه الفلسفة تعرف بوليم جيمس ويعرف بها 2-131.
    والفكرة الاساسية عند تشارلز بيرس تقول: "ان معنى كل اصطلاح او فكرة ليس لها صورة حسية، انما هو اثر هذه الفكرة، أو الاصطلاح في المحسوسات، أي في الاختيار والمشاهدة" .. 2-139.. فبيرس يزعم أن كل اصطلاح حق اذا كان له مدلول Object، والمدلول له وجود حقيقي Real اذا كان ينتج بعض النتائج في هذه الحياة الدنيا التي نشاهدها، والا فلا معنى للاصطلاح، ولا وجود للمدلول أو الشئ 2-140 .. فالفكرة عند بيرس، وعند البراغماتيين عموماً، انما هي مشروع او خطة للعمل والنشاط، والتأثير على البيئة.
    هذه هي الخطوة الأولى في البراغماتية – وهي ان البراغماتية نظام فلسفي لتفسير معنى الفكرة أو العقيدة، فالفكرة هي مشروع للعمل، وليست حقيقة في ذاتها، كما تزعم الفلسفة العقلية 2-142.. واضاف وليم جيمس لذلك: "ليست فقط الفكرة مشروعاً للعمل، وانما العمل، والنتائج هي الدليل على صحة الفكرة" – 1-32- واضاف جون ديوي للبراغماتية رؤيته في أن "الفكر أو العقل، ليس للمعرفة فالعقل ليس اداة المعرفة وانما هو اداة الحياة" 1-150 وقد سميت نظرية ديوي هذه بالآلية Instrumentalism، وهي تعني ان العقل آلة يستخدمها الانسان في المحافظة على الحياة أولاً وفي تنميتها، واضطرادها ثانياً..
    وقد اضاف شيلر schiller الانجليزي للبراغماتية مصطلح الانسية Humanism الذي اعتمده البراغماتيون.
    والآن لنرَ المبدأ الاساسي للبراغماتية، كما يوضحه وليم جيمس، فهو يقول: "ان الطريقة البراغماتية، هي محاولة تفسير كل فكرة بتتبع واقتفاء أثر نتائجها العملية كل على حدة" 1-64 ويقول "اذاً فلكي نبلغ الوضوح التام في أفكارنا عن موضوع ما فانا نحتاج إلى اعتبار ما يترتب من آثار يمكن تصورها" 1-65 .. فمعيار الحق الاساسي بالنسبة للبراغماتية هو النتائج وما تقوم عليه من نفع، ولا يوجد أي معيار قبلي ثابت، تقاس وفقه الافكار والمبادئ، والعقائد .. "عليك ان تخرج من كل كلمة قيمتها النقدية الفورية والعملية" 1-33 كما يقول وليم جيمس.. فرفض الافكار، والمبادئ، والقيم القبلية من أهم مبادئ البراغماتية وهو مبدأ تنبني عليه، كل المبادئ الاخرى، ولذلك سنفصل فيه بعض الشئ.. يقول وليم جيمس: "البراغماتي يولي ظهره بكل عزم وتصميم والى غير رجعة، لعدد كبير من العادات الراسخة المتأصلة، العزيزة على الفلاسفة المحترفين، انه ينأى بعيداً عن التجريد، وعن عدم الكفاية، ويعرض عن الحلول الكلامية، وعن التعليلات القبلية الدرئية (السابقة على التجربة) وعن المبادئ الثابتة، وعن ضروب المطلق والاصول المزعومة..
    وهو يولي وجهه شطر الاستفادية والمحسوس والكفاية، شطر الحقائق والوقائع شطر الاداء والمزاولة، وشطر القوة" 1-7 – يلاحظ ان كل ما ذكره وليم جيمس من ان البراغماتي يولي ظهره له، ويعرض عنه هو ما يقوم عليه الاسلام الفكرة – ويقول: "وفحوى ذلك كله ان البراغماتية تعني الهواء الطلق، وامكانات الطبيعة المتاحة، ضد الوثوقية التعسفية، واليقينية الجازمة، والاصطناعية، وادعاء النهائية، في الحقيقة، باغلاق باب البحث والاجتهاد، استناداً على مبدأ العلة الغائية" 10-71 ويقول عن البراغماتية "وليس لها أية مذاهب أو مبادئ اللهم الا طريقتها ومنهجها" .. 1-75 ويقول: "ان حلالنا وحرامنا، وصوابنا وباطلنا، ومحرماتنا وعقوباتنا، وكلماتنا وصيغنا واصطلاحاتنا اللغوية وعقائدنا كلها مستحدثات جديدة كثيرة، ابتدعت وخلقت بحيث انها تصوغ نفسها بسرعة تقدم التاريخ، مواكبة على نفس الوتيرة.
    وأبعد ما تكون عن كونها مبادئ سابقة تحيي السبيل وتنعشه" 1-283 .. فرفض كل ما هو قبلي، هو من أهم مبادئ البراغماتية وهو لا خلاف حوله، بين البراغماتيين – وهو على النقيض تماماً لما تقوم عليه الفكرة الجمهورية، كفكرة دينية اسلامية كل ما فيها يقوم على مبادئ وقيم قبلية!!.
    المهم، بالنسبة للبراغماتية، لا توجد حقيقة قبلية، ولا مبادئ وافكار وقيم قبلية.. والبراغماتية شدت الاعناق وجذبت الافكار مما كان ومما هو كائن الى ما سوف يكون... شدت الاعناق وجذبت الانظار من الماضي الى المستقبل وذلك بان جعلت معيار صدق القول، هو ما يترتب على ذلك القول من نتائج.. فاعطني من القول ما يهديني سواء السبيل في حياة عامة أو في صناعة وزراعة وتجارة، اسلم لك فوراً بانه قول حق، بغض النظر عما كان وما هو كائن بالفعل فليس الحق شيئاً قائماً هناك ثم يجئ الناس ليشخصوا اليه بابصارهم، وليقولوا فيه ما يقولون، بل الحق هو طريق سير نمشي في الحياة على هداه 1-3 فالحقيقة بالنسبة للبراغماتية ليست موضوعية موجودة في جهة ما، وانما هي حكم، تحكمه وتحدد معيار الصدق فيه المنفعة المباشرة.
    والفلسفة البراغماتية، منهج في التفكير، اكثر منها نظرية عامة تتكون من افكار ومواقف تجاه موضوعات، وقضايا فلسفية كالانسان، والقيم والمعرفة مثلا ولذلك نجد وليم جيمس يقول عن البراغماتية: "وهي في نفس الوقت لا تظاهر أو تناصر أو تمثل او تنوب عن اية نتائج خاصة، انها مجرد طريقة فقط مجرد منهاج فقط..." 1-102 ولكن فيما بعد، اضطرت البراغماتية ان تقول رأيها في الحقيقة على اعتبار انها قضية الفلسفة الاساسية.. يقول وليم جيمس: "على ان البراغماتية في الوقت الحاضر... اصبحت تستعمل في معنى اوسع من المشار اليه، على اعتبار انها تعني أيضاً نظرية معينة للحقيقة" ..
    يتبع

    يمكن متابعة مقالات د. النور حمد من الأرشيف على الوصلة التالية:
    د. النور حمد يكتب: العصر الأموي، وفجر البراغماتية الإسلامية!

    (عدل بواسطة Omer Abdalla on 08-22-2005, 06:35 AM)

                  

08-21-2005, 10:52 PM

Murtada Gafar
<aMurtada Gafar
تاريخ التسجيل: 04-30-2002
مجموع المشاركات: 4726

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الأستاذ خالد الحاج: الفكرة الجمهورية والبراغماتية (Re: Omer Abdalla)

    الأخ عمر عبد الله

    شكرا جزيلا على هذا المقال الرفيع الذي إستمتعن بقراءته جدا و أتمنى على الدكتور النور حمد و آخرين أن لو يعقبوا حتى نشهد نحن سجالا فكريا رفيعا في هذه المساحة الخصبة


    تشكر أخ عمر


    مرتضى جعفر
                  

08-22-2005, 06:01 AM

Omer Abdalla
<aOmer Abdalla
تاريخ التسجيل: 01-03-2003
مجموع المشاركات: 3083

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الأستاذ خالد الحاج: الفكرة الجمهورية والبراغماتية (Re: Omer Abdalla)

    أخي العزيز مرتضي
    شكرا جزيلا على المرور والتعليق .. فأنت دائم الحضور في ساحات الحوار الفكري الناضج
    سأنشر بقية الحلقات تباعا .. فإلى الحلقة الثانية
    عمر
                  

08-22-2005, 06:03 AM

Omer Abdalla
<aOmer Abdalla
تاريخ التسجيل: 01-03-2003
مجموع المشاركات: 3083

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الأستاذ خالد الحاج: الفكرة الجمهورية والبراغماتية (Re: Omer Abdalla)


    تعقيباً على دكتور النور حمد
    الفكرة الجمهورية والبراغماتية (2)
    التناقضات الجوهرية بين الفكرة الجمهورية والبراغماتية

    خالد الحاج عبد المحمود
    والآن لندخل في مقارنة بين المفاهيم الاساسية للفلسفة البراغماتية، والفكرة الجمهورية لنرى هل هنالك أي ارض مشتركة، في أي مستوى من المستويات، يمكن ان تبرر وصف الاستاذ محمود، ودعوته بالبراغماتية... ونحن من خلال هذه المقارنة، سنعرض رأي البراغماتية، في القضايا الاساسية المختلفة ونبدأ بالحقيقة والوجوه المختلفة لها، على اعتبار انها قضية الدين، وقضية الفلسفة الاساسية.
    1/ عموماً البراغماتية فلسفة علمانية – كما قرر د. النور.. ودعوة الاستاذ محمود دعوة دينية، اسلامية وهذا وحده يجعل الجمع بينهما في أي مستوى من المستويات المهمة امر تعسفي شديد التعسف.. يقول الاستاذ محمود للدكتور مصطفى محمود: "فالفرق، اذاً كبير جداً بين الفلسفة والدين.. ومثل هذا يقال عن الفرق بين العلم التجريبي المادي، والدين وايسره اعتماد الفلسفة والعلم التجريبي اعتماداً كلياً ونهائياً على الفكر في حين ان الدين يروض العقل حتى يتسامى على نفسه ليصل الى تجريد التوحيد فيلغي الشفعية ويخلص الى الوترية".. والعلمانية ومنها البراغماتية تتعامل مع دورة واحدة من دورات الوجود، هي هذه الحياة الدنيا، في حين ان الدين يتعامل مع الدنيا والاخرى معاً.. ففي الدين اعتبارات الموت، وما بعد الموت، مكون اساسي لفكر وسلوك المتدين.. وهذا امر ليس للبراغماتية اية علاقة به.
    2/ الفكرة الجمهورية كدعوة اسلامية تقوم في جميع تفاصيلها في المعرفة وفي العمل والسلوك على مبدأ واحد اساسي هو مبدأ التوحيد.. وهو يعني فيما يعني وجود الله دائماً في الصورة في التصور والمعرفة وفي العمل والسلوك فالله تعالى في الفكرة الجمهورية لا يخرج من الصورة اطلاقاً.. فكل شئ في الحقيقة مرده الى الله وكل شئ في العمل والسلوك ينبغي ان يكون مرده الى الله .. والى ذلك تشير الآية: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) .. وعلى العكس من ذلك، الله تعالى، في البراغماتية لا يدخل في الصورة، اطلاقاً.. فهو عندهم مرفوض مبدئياً ومن عدة وجوه.. هو مرفوض لانه فكرة قبلية وهو مرفوض لانه مبدأ كلي.. وهو مرفوض لانه غيب، ولا يمكن في نظرهم التعامل معه تجريبياً بصورة مباشرة، وهو ليس حدثاً والبراغماتية لا تتعامل الا مع الاحداث التي تدخل في اطار الخبرة البشرية، حسب تصورها لهذه الخبرة.. ولكن لنرى رأي البراغماتية المباشر، ومن اقوال فلاسفتها الاساسيين، وخاصة وليم جيمس، اكثرهم اعتدالاً في التعامل مع الدين، ومع التجربة الدينية، فهو يقول: "فاذا اثبتت الافكار اللاهوتية ان بها قيمة في الحياة الملموسة المحسوسة، فهي افكار صحيحة بالنسبة للبراغماتية، بمعنى انها نافعة الى هذا الحد" 2-96 وحتى هذا اغضب بيرس، حتى انه فكر في تغيير مصطلح براغماتية 3-16 يقول وليم جيمس: "وليس في وسعي هنا ان اخوض في كل البراهين المنطقية لوجود مثل هذا الكائن الاعظم، اكثر من ان اقول انه ليس فيها برهان واحد على سبيل الحصر يبدو في نظري صحيحاً".. 1-178.
    3/ بالنسبة للفكرة الجمهورية من الناحية الوجودية الانطلوجية ، الذات الالهية المطلقة هي وحدها الموجود بذاته وكل من عداها وما عداها لا وجود له الا بها ... والحقيقة الالهية هي الثابت الوجودي الوحيد وكل الخلق في حالة فناء، يتقلبون في الصور ويطلبون ثبات الحقيقة وهيهات!!
    أما بالنسبة للبراغماتية فالوضع على العكس، المطلق لا وجود له، وانما الوجود فقط للمحسوس، المحدود، في تعدده الظاهر، يقول وليم جيمس: "انني لا اؤمن شخصياً بالمطلق" 1-355 ويقول: " واذاً فالمطلق ليس صحيحاً على أي نحو .." 1-357..
    4/ الفكرة الجمهورية تتعامل مع حقيقة موضوعية، تتمثل في الذات الالهية، وتجلياتها.. وبالنسبة لها، ليس في الوجود سوى ذات الله، واسمائه، وصفاته وافعاله ، فالكون المادي في كل صوره واحداثه، هو فعل الله ولذلك قلنا ان الله تعالى في الفكرة الجمهورية لا يخرج من الصورة اطلاقاً.. اما بالنسبة للبراغماتية، فهي ترى انه لا توجد أي حقيقة موضوعية.. يقول وليم جيمس: "اما الحقيقة الموضوعية البحتة، الحقيقة التي لا تؤدي في ارسائها ورسوخها أي دور مهما تكن وظيفة منح الرضا والاكتفاء واالاشباع الانساني، في تزويج الاجزاء السابقة من الخبرة، بالاجزاء الجديدة اللاحقة، فهذه حقيقة لا وجود لها في أي مكان على الاطلاق" 1-87 .. ويقول عن الحقيقة: "الحقيقة علاقة اجزاء من الخبرة اقل رسوخاً وثباتاً باجزاء اخرى اكثر رسوخاً وثباتاً نسبياً".. فالحقيقة عند البراغماتية ليست اكثر من خبرة بشرية يقول جيمس: "لذلك اقول حينئذٍ ان الحقيقة صفة او خاصية لبعض افكارنا" 1-351 ويقول: "ان الحقيقي في أوجز عبارة ليس سوى النافع الموافق المطلوب في سبيل تفكيرنا، تماماً كما ان الصواب ليس سوى الموافق النافع المطلوب في سبيل مسلكنا" 1-353..
    5/ الفكرة الجمهوية تقوم على التوحيد المتمثل في وحدة الوجود، ووحدة الفاعل وعلى العكس من ذلك تماماً البراغماتية ترفض الوحدة، وتقوم على التعدد، بصورة اساسية.. يقول وليم جيمس: ("العالم واحد"!! ان العبارة قد تصبح ضرباً من عبادة الارقام.. صحيح ان رقم "ثلاثة" و"سبعة" اعتبرا رقمين مقدسين، ولكن من الناحية التجريدية لماذا يكون واحد اكثر سمواً وعلواً وعزة من 43 أو من 25 مليوناً أو عشرة !؟) 1-162.. ويتساءل: "ما هي القيمة العملية للتوحيد بالنسبة لنا" 1-163.. ويقول: "البراغماتية يجب ان تدير ظهرها للاحدية المطلقة وتولي وجهها شطر طريقة التعددية الاكبر تجريبية.. وهذا يخلي بيننا وبين عالم الواقع العادي، عالم المعقول البديهي، الذي تجد فيه الاشياء، متصلة جزئياً، ومنفصلة جزئياً" 1-196..
    6- الفكرة الجمهورية تقوم على اركان الايمان في الاسلام، وهي جميعها مرفوضة من قبل البراغماتية، على اعتبار انها افكار قبلية، وغيبية.. والفكرة الجمهورية، ترى ان الوجود الحادث كله، يحكي قصة واحدة هي تنفيذ لامر الله، الواحد (إنا كل شئ خلقناه بقدر، وما أمرنا الا واحدة كلمح بالبصر)... على النقيض من ذلك، ترفض البراغماتية، هذه الفكرة الواحدة.. يقول وليم جيمس: "يترتب على ذلك ان كل من يقول بان العالم كله يحكي قصة واحدة، فانه بذلك يغمغم ويلغط بواحدة أو اخرى من تلك العقائد الجزمية الاحدية، التي يؤمن بها المرء على مسؤوليته" 1-176..
    7/ الفكرة الجمهورية تؤمن بالغائية، يقول الاستاذ محمود: "الغائية اصل الدين.. بل آصل الأصول فيه – فلا مكان للصدفة، لا في كبيرة ولا صغيرة"... وعلى العكس من ذلك يقول وليم جيمس: "وكل من يدعي وحدة غائية مطلقة، قائلاً ان هناك غرضاً واحداً يخدمه كل تفصيل من تفاصيل الكون، فانما يتمذهب تحكماً وجزماً وتبعة المجازفة تقع عليه وحده" 1-173..
    8/ الفكرة الجمهورية ترى ان الحقيقة – الذات الإلهية – هي خالق كل شئ.. وعلى العكس من ذلك ترى البراغماتية اننا نحن من يخلق الحقيقة.. يقول وليم جيمس: "فالحقيقة تصنع تماماً كالصحة والثروة والقوة في سياق الخبرة ومجراها".. 1-258..
    9/ بالنسبة للفكرة الجمهورية البيئة روحية، ذات مظهر مادي والفكرة تتعامل مع البعدين معاً.. اما البراغماتية فلا تتعامل الا مع البعد المادي للبيئة، وبصورة محدودة..
    10/ البراغماتية، في نظرتها للزمن تركز على المستقبل – كما سبق ان بينا – وتركز على النتائج العملية ، المستقبلية، التي تقوم على المنفعة المباشرة، وتنعي على العقلانيين انشغالهم بالماضي.. أما الفكرة الجمهورية، فهي ترى ان أصل الزمن هو الحاضر – اللحظة الحاضرة – يقول الاستاذ محمود: "فليس الماضي زمناً، ولا المستقبل زمناً، باعتبار الحقيقة وانما هما زمانان باعتبار الحكمة.. والشئ الذي هو زمن باعتبار الحقيقة انما هو اللحظة الحاضرة".. فالفكرة، من الناحية العرفانية والناحية السلوكية تركز على اللحظة الحاضرة تركيزاً كبيراً.. فالله تعالي، ليس في الماضي، ولا في المستقبل، وانما هو في الحاضر فهو لا يحويه الزمان ولا المكان.. وكل السلوك، في العبادة، وفي المعاملة، هو رياضة، للعيش في اللحظة الحاضرة ومن عبارات الاستاذ محمود الجامعة، قوله: "الكون كله موجود في كل جزء منه".. وقوله: "ما من شئ كان، أو سيكون، إلا وهو كائن الآن".. وهذه معاني لا تستطيع البراغماتية أو أي فلسفة اخرى، ان تشم شميمها.
    11/ الفكرة الجمهورية في جميع تفاصيلها، تقوم على القرآن، وعلى حياة محمد صلى الله عليه وسلم.. وهذان أمران لا علاقة للبراغماتية بهما، لا من قريب ولا من بعيد.
    12/ تعتبر معضلة الجبر والاختيار، هي مشكلة الفكر البشري، الأولى والاساسية، عبر تاريخ الفكر البشري، والى اليوم سواء كان هذا الفكر فكراً دينياً، أو فكراً فلسفياً... وبالنسبة لي شخصياً، كانت قضية الجبر والاختيار من المسائل الاساسية، التي ادت الى انتمائي للفكرة الجمهورية.. فقد كان الموضوع ضمن دروس الفلسفة التي تلقيناها بجامعة الخرطوم، حيث كان يدرسنا الموضوع، اكاديمي عجوز شديد الجدية، يدعى بروفيسور كافندش، ضمن مادة: مشاكل فلسفية، وقد احدث لنا بلبلة فكرية، ونفسية شديدة، لم يخرجني منها الا كتابَا "الاسلام" و"أسس دستور السودان" للاستاذ محمود..
    فالبراغماتية، ترفض التسيير، وترى حرية الارادة البشرية – انظر كتاب The Writings of William James الفصل المعنون The Dilemma of Determinism ولا أعلم ان للمرجع ترجمة عربية.
    أما الفكرة الجمهورية، فتقوم على التسيير التام وعندها ان الله تعالى هو الفاعل الحقيقي لكل ما يجري في الوجود وقد تمت معالجة الموضوع بتوسع في كتاب "الرسالة الثانية من الإسلام".. فوحدة الفاعل هي أصل التوحيد، وهي معنى كلمة التوحيد "لا إله إلا الله"، وتعني لا فاعل لكبير الاشياء ولا صغيرها إلا الله.. والسلوك كله، في الفكرة الجمهورية يقوم على تجويد وحدة الفاعل، وهذه هي وظيفة المنهاج "طريق محمد" صلى الله عليه وسلم.. والاختلاف في هذه النقطة بالذات يجعل الخلاف بين الفكرة الجمهورية والبراغماتية خلافاً جوهرياً، في جميع القضايا لأنه لا يوجد أي مجال، من مجالات الحياة، والفكر في الفكرة لا يقوم على مبدأ وحدة الفاعل بما في ذلك تصور الواقع، والتعامل معه والنظرة لإشكالية النص، وهما المجالان اللذان ركز عليهما د. النور، تركيزاً كبيراً كما سنرى..
    ود. النور، للاعلاء من شأن البراغماتية، قال في حقها :"ارتبطت كلمة البراغماتية بشكل عام بالمنفعة الامر الذي القى عليها الكثير من الظلال السالبة.. غير ان البراغماتية، على ما هي عليه من علات، هنا وهناك، قد مثلت تحولاً كبيراً في مسار الفكر البشري، والعقل البشري، خاصة في القرون الاربعة الماضية"!! 1-1
    لاحظ هذه المبالغة "تحولاً كبيراً في مسار الفكر البشري، والعقل البشري"!! ولم يورد د. النور أي مثال لهذا التحول الكبير، وهو لم يفعل لانه لن يجده.. والأعجب من ذلك القول، بان هذا التحول الكبير حدث "خصوصاً في القرون الاربعة الماضية"!! ولكنك يا دكتور اوردت بنفسك، تواريخ حياة مؤسسي الفلسفة، وجميعهم ولدوا في القرن التاسع عشر، بما فيهم بيرس مؤسس الفلسفة، فلو اسسها يوم ميلاده، يكون مجرد وجودها لم يمر عليه اكثر من قرن ونصف، خل عنك تأثيرها!! وهذه ليست المرة الوحيدة التي يناقض فيها د. النور، ما يورده بنفسه، كما سنرى.. والذين أرخوا للفلسفة البراغماتية، لهم رأي يختلف كثيراً عن هذا التأثير الكبير، على الفكر العالمي كله، الذي يزعمه د. النور.. وهذا هو د. اسماعيل علي، من كتابه: "فلسفات تربوية معاصرة" يقول: (وعلى الرغم مما كانت تلقاه معظم الفلسفات الاوروبية من اهتمام بين المشتغلين بالفلسفة داخل الولايات المتحدة، فان البراغماتية باعتبارها فلسفة امريكية، لم تحظ بما تستحق من اهتمام خارج الولايات المتحدة، بل لقد ضرب عليها موقف عزلة وتعتيم عجيبان، حتى لقد شكا "سيدني هوك" في بحث له بعنوان "الفلاسفة الامريكيون في حالة عمل"، من أن امريكا ظلت دولة مجهولة من الناحية الفكرية، وخاصة بالنسبة لفلسفتها البراغماتية.
    ولقد دفع هذا الموقف واحداً مثل "بتركاز" عندما كان يدعى كضيف سنة 1960 لحضور سمنار للفلسفة في جامعة هيدلبرج، حين عرض عليه اثناء اقامته ان يلقي كلمة أو كلمتين في جامعة مجاورة، وهي جامعة "مينز" سرعان ما فطن الى انه لو تحدث عن ديوي أو رويس، أو عن الموقف السائد في الفلسفة الامريكية فان حديثه لن ينال غير القليل من الاهتمام، فرأى بدلاً من ذلك أن يدلي ببعض الاحاديث ، عن كانط)!! 3-3
    هذه الخلافات الجوهرية، حول الحقيقة والتعامل معها يجعل الفكرة الجمهورية والبراغماتية لا يلتقيان ولكن رغم ذلك سنتحدث عن المنهاج والعقل والعقلانية، كما سنتحدث عن موضوع الواقع، وموضوع اشكالية النص، كقضايا وجدت اهتماماً خاصاً في كتابات د. النور.


    (عدل بواسطة Omer Abdalla on 08-24-2005, 09:40 PM)

                  

08-22-2005, 06:56 AM

Dr.Elnour Hamad
<aDr.Elnour Hamad
تاريخ التسجيل: 03-19-2003
مجموع المشاركات: 634

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الأستاذ خالد الحاج: الفكرة الجمهورية والبراغماتية (Re: Omer Abdalla)

    الأخ الكريم عمر
    التحية لك وللأستاذ خالد الحاج وأشكرك على نقل تعقيب الأستاذ خالد الحاج إلى منبر سودانيز أونلاين. وأحب هنا أن أعرب عن سعادتي بتصدي الأستاذ خالد حاج لطروحاتي بالنقد. فهذا ربما أرخ لبداية حوار جمهوري - جمهوري يجري في العلن وعلى رؤوس الأشهاد وذلك بعد عقدين مما يشبه الركود.
    أحببت في هذه العجالة أن أسجل حضوري فقط. وسوف أعود بالتعقيب لاحقا بعد أن تستقر أحوالي قليلا. فهذا أول يوم لي في مدينتي الجديدة وجامعتي الجديدة وأمامي الآن مشاغل جمة. أرجو أن أتمكن من التعليق كلما سنحت لي فرصة.
    والشكر موصول لكل زوار هذا الخيط.
                  

08-22-2005, 07:23 AM

Haydar Badawi Sadig
<aHaydar Badawi Sadig
تاريخ التسجيل: 01-04-2003
مجموع المشاركات: 8270

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الأستاذ خالد الحاج: الفكرة الجمهورية والبراغماتية (Re: Dr.Elnour Hamad)

    الأح الكريم عمر،
    لك شكري الوافر على نقل سلسلة مقالات الأستاذ خالد الحاج، الذي أحيه من هذا المنبر أطيب تحية. وأحيي فيه وفي الدكتور النور هذا الانفتاح الخصيب على التداول الحر، الذي يرسخ لمفهوم الحرية الفردية المطلقة، الذي قالت به الفكرة الجمهورية، والانفكاك من أسر العقيدة إلى رحابة الحرية. في تقديري، الاختلاف في الرأي محمدة كبيرة تصب في ترفيع مستوى الحوار وفي تعريفنا ببعضنا البعض، وبفكرتنا نفسها، في مستوى جديد يخصب من علائقنا، ويزيد من اقترابنا من تنزيل معاني الحرية في الفكرة على الأرض.

    كنا نختلف في الرأي حتى في أيام حركتنا العامة، وظللنا كذلك، ولم يؤثر ذلك في محبتنا لبعضنا البعض. وظني، أننا بهذا المستوى المتقدم من النقاش الفكري، سندخل مدخلاً جديداً في الحياة العامة، دون قيود تكبل قوى الإدراك فينا. ومادام هذا الاختلاف ليس في حول مواقف سياسية المتناقضةً لا تستند على مبدأ، كما جرت عليه الأمور في التنظيمات الأخرى، وما دمنا لا نختلف في الأساسيات، فإن كل شئ ليس بمفلت عن البحث وليس بمفلت عن التشكيك. هذا لا يعني أن الأساسيات نفسها غير قابلة للبحث والتشكيك، ولكني لا ألمس خلافاً يذكر حول الأساسيات في كل حواراتنا في "الصالون،" وفي منبرنا الإلكتروني الخاص، ولا في المنابر العامة التي بدأنا نقل خلافاتنا الفكرية إليها. ربما لا يرى آخرون من جمهوريين وغير جمهوريين -من المتحاورين وغير المتحاورين، رأيي هذا. ولكني أرى بوضوح مواضع التلاقي في المساحة الشاسعة من التقاءنا في أرض مشتركة تسمح بحوار عميق جديد في مستواه وفي فحوار ههنا.

    وليبدأ النقاش الموضوعي، الذي أرجو أن أشارك فيه إن وهبني الله من عافية الفكر وعافية البدن ما يسمح بذلك.

    ومرة أخرى أحيي الأستاذ خالد الحاج على مساهمته الخصيبة.
                  

08-22-2005, 07:27 AM

Haydar Badawi Sadig
<aHaydar Badawi Sadig
تاريخ التسجيل: 01-04-2003
مجموع المشاركات: 8270

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الأستاذ خالد الحاج: الفكرة الجمهورية والبراغماتية (Re: Haydar Badawi Sadig)

    فاتني أن أقترح للأستاذ عمر هواري أن ينزل الحلقات واحدة واحدة بأن أن تستوفي كل منها حقها من الحوار الحر.
                  

12-11-2005, 10:06 PM

Elmosley
<aElmosley
تاريخ التسجيل: 03-14-2002
مجموع المشاركات: 34683

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الأستاذ خالد الحاج: الفكرة الجمهورية والبراغماتية (Re: Haydar Badawi Sadig)

    موضوع جدير بان يستمر في السنة الجديدة
                  

08-22-2005, 06:02 PM

Omer Abdalla
<aOmer Abdalla
تاريخ التسجيل: 01-03-2003
مجموع المشاركات: 3083

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الأستاذ خالد الحاج: الفكرة الجمهورية والبراغماتية (Re: Omer Abdalla)

    اخي العزيز د. النور
    ألف حمد لله على وصولك بالسلامة .. أتمنى لك اقامة طيبة وميسورة ..
    وسنكون في الانتظار الى أن تستقر أمورك وتسمح لك الظروف بالكتابة والتعليق فالموضوع حيوي وتثقيفي بالدرجة الأولى لأمثالي من قليلي الاطلاع على نتاج الفلسفات المعاصرة ..

    أخي العزيز د. حيدر
    أشكر لك متابعتك وتعليقك وأرجو ألا تبخل علينا بوارداتك وآرائك فيما يجري من حوار ..
    سأعمل باقتراحك في معني ما سأرجي انزال كل حلقة لمدة يوم أو يومين لأعطاء فرصة لقراءة وهضم ردود الأستاذ خالد الحاج .. الحوار في تقديري قد تم وما سيأتي من تعليقات اضافية ستكون محاولات شرح وتوسيع للنقاط التي تم تناولها بين الأستاذين خالد والنور .. لكن بطبيعة الحال فإني أتوقع أن يرفد الحوار بوجهات نظر اضافية مدعمة أو مناقضة لما يورده الطرفان من فهم حول هذا الموضوع الفكري الشيق ..

    عمر
                  

08-24-2005, 09:43 PM

Omer Abdalla
<aOmer Abdalla
تاريخ التسجيل: 01-03-2003
مجموع المشاركات: 3083

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الأستاذ خالد الحاج: الفكرة الجمهورية والبراغماتية (Re: Omer Abdalla)


    تعقيباً على دكتور النور حمد
    الفكرة الجمهورية والبراغماتية (3)
    المنهاج .. العقل والعقلانية
    خالد الحاج عبد المحمود

    رأينا الخلاف الجوهري والشامل بين الاستاذ محمود ودعوته الاسلامية، وبين الفلسفة البراغماتية بالنسبة للحقيقة، والتعامل معها.. وهذا الخلاف وحده كافٍ في التدليل على انه لا توجد اي ارض مشتركة بين الطرفين، لانه خلاف في المنطلق الأصلي، وكل القضايا الاخرى، تتبع له.. ولكن رغم ذلك سوف نتابع مزاعم د. النور في جوانبها الأساسية المختلفة.. فالقضية الثانية بالنسبة لقضايا الفلسفة هي نظرية المعرفة – الأبستومولجي – ووسائلها والتعامل مع هذه الوسائل وبالطبع اساس المعرفة في كل فكر بشري، هو العقل والحواس .. والفلسفة في هذا المجال تنقسم الى قسمين: فلسفة عقلية وفلسفة تجريبية.. يقول يعقوب فام من كتابه "البراغماتية": "الطرف الاول في الميتافيزيقيا هو كيف نعرف وهو ما ندعوه نظرية المعرفة اما الطرف الثاني فهو الوجود ذاته او الحقائق الكونية" 3-70..
    ويقول: "اختلف الفلاسفة من قديم الزمان الى هذا العصر الحديث في كيفية وصول المعرفة الينا، وتعددت آراؤهم وتباينت مدارسهم الى ان اصبحوا فرقاً متخاصمة، كل منها تصحح رأيها وتخطئ الرأي الآخر.
    1- فالمدرسة الاولى هي مدرسة الصوفية في المعرفة وهي التي تزعم ان المعرفة تأتي الينا عن طريق خفي.
    2- والمدرسة الاختبارية التي تزعم ان المعرفة تأتي الينا عن طريق الاختبار أو الحس والمشاهدة، أي بالنظر والذوق والشم والسمع واللمس.
    3- وجماعة العقليين يزعمون ان المعرفة تأتي الينا عن طريق العقل ففي العقل مبادئ عامة وقوانين شاملة خلقت فيه ونحن نطبق هذه القونين والمبادئ على ما يحيط بنا.
    4- "والبراغماتية تثور على العقلية من جهة وعلى الاختبارية من جهة اخرى .. تنكر ان بالعقل مبادئ عامة وقوانين ازلية اولاً ثم تنكر على الاختبارية زعمها ان الانسان عندما يتصل بالاشياء يكون ذلك للمعرفة، فالاختبار عندها ليس للمعرفة وانما للحياة.. وما تدعوه الفلسفة الاختبارية معرفة، تدعوه البراغماتية تكيفاً وتشكلاً وتغيراً في العلاقات بين الكائن الحي وبين ما يحيط به من اشياء.. وحالات" 3-82.. لقد اوردت هذا النص لأبين ان الفلسفة تتعامل مع مصطلحات ذات دلالات محددة ينبغي التعامل معها بدقة تراعي دقة المفاهيم فهنالك اختلاف كبير جداً بين العقلية او العقلانية والتجريبية.. والفلسفة البراغماتية فلسفة تجريبية، ولكنها تختلف مع التجريبيين في ان التجربة عندها للحياة وليست للمعرفة كما ورد في النص اعلاه.. والأمر المحسوم تماماً ان البراغماتية ليست عقلية، او عقلانية، وهذا ما سنبينه بوضوح من اقوال اصحابها.. واهم خلاف بينها وبين الفلسفة العقلية، ان الفلسفة العقلية تقوم على المبادئ الكلية والبراغماتية ترفض هذه المبادئ فالأصل في المعرفة في رأي النظرية العقلية انما هو القضايا العامة، والنظم الشاملة التي نستطيع ان نقيس بها المحسوسات فنحن نعرف بالعقل ان هنالك شيئاً او معنى اسمه استدارة أو عظمة أو انسانية او جمال أو حمرة او نعومة او رجل او كلب.. نعرف هذه الاشياء كقضايا عامة فالعقل يعرف "الرجل" وكل رجل فرد في زمان معين ومكان معين يندرج تحت هذا الاصطلاح الشامل وعلى ذلك قس 3-112 فالنظرية العقلية في المعرفة تزعم ان الاصل في المعرفة الانسانية، أو المنبع الذي تفيض منه المعلومات والمعارف عندنا انما هو هذه القضايا الكلية والعامة.. اما التجريبية والبراغماتية بالذات فتركز على الوقائع، وعندها صورة العقليين معكوسة، فالمعاني الكلية كالاستدارة والنعومة والمثلث والسببية... الخ ليس لها وجود الا في عقل العقليين، فهم قد شاهدوا هذه الاشياء في اشياء المادة التي تملأ الكون، وهذه المادة هي الموجود الحقيقي.. "في الواقع اننا رأينا رجالاً – أشخاص – واشياء ناعمة ومستديرة اولاً، وقبل كل شئ انتزعنا هذه الصفات من الاشياء المحسوسة وعممناها، وجعلناها كلاً، فالاصل في كل شئ هو هذا الواقع، هذه الاجسام وصفاتها، هذه القطع من الاختبارات اليومية وعليها انبنى هذا الصرح المهيب الذي ندعوه الكليات، فانا وانت نعرف مئات الاشياء المستديرة، عرفناها اولاً وقبل كل شئ، ثم جردنا منها هذه الخاصية التي هي الاستدارة، وزعمنا انها شئ عام وكلي وشامل." 3-116..
    اما المعارف أو المبادئ الاولية التي يبني عليها العقليون، والتي عندهم العقل يرثها عندما يولد، فالتجريبيون ينكرونها كل الانكار، ويرون انها هي الاخرى تصل الينا عن طريق الاختبار والمشاهدة، ومن الاتصال بعالم الاشياء والحس، ومن الحوادث التي تعج بها الحياة العادية 3-117..
    قصدنا مما تقدم ان نبين ان هنالك اختلافات جوهرية في الفلسفة بين النظرة العقلية والنظرة التجريبية.. والتعامل مع المفاهيم يجب ان يكون دقيقاً، وواضحاً، وهذا امر تفتقر اليه كل كتابات د. النور التي اطلعت عليها، فهو يتعامل مع المفاهيم، بصورة عشوائية، قد تصل الى حد، عكس الامور عكساً تاما، وهذا واضح بصورة جلية في نسبته الفلسفة البراغماتية للعقلانية وهو امر عكس الواقع ويرفضه البراغماتيون رفضاً تاماً، بل معظم صراعهم الفكري كان مع العقليين، ونحن سنبين ذلك بوضوح من اقوال ائمتهم.
    يقول د. النور: "البراغماتية مرادفة للعقلانية ولا تنحصر كلياً في مجرد كونها تياراً خارجياً مناهضاً لسلطة الدين".. ويقول: "تعني البراغماتية في مناحيها الايجابية، ضمن ما تعني العقلانية" ويقول: "فانها براغماتية مطابقة في تقديري للعقلانية" ويقول: "فالبراغماتية كفلسفة تمثل تجسيداً وتطبيقاً عملياً للاتجاهات العقلانية في الفكر الغربي" .. فدكتور النور يزعم ان البراغماتية مرادفة للعقلانية وهي كفلسفة تمثل تجسيداً وتطبيقاً عملياً للاتجاهات العقلانية!! وهو كالعادة لا يورد اي دليل .. المحاولة الوحيدة لايراد دليل على قوله هذا، جاءت اكثر ادهاشاً، في مفارقتها، من القول نفسه، لانها دليل واضح على دحض زعمه، فهو قد قال: "وتعريف البراغماتية الذي اوردته في الحلقة الرابعة كما ورد في معجم كيمبردج الفلسفي يظهر جوانب من ترادف البراغماتية والعقلانية" .. والآن لنعرض عليه وعلى القراء التعريف المذكور، لنرى معاً، مدى صحة ما زعم!!.
    التعريف المشار اليه يقول: "لا يمكن تقرير الحقيقة عن طريق استخدام المقياس الابستمولجي وحده، لأن كفاءة هذا المقياس لا يمكن التحقق منها بمعزل عن الاهداف والقيم الظرفية المحيطة، فالقيم التي تعلو في ظرف تاريخي، وثقافي معين، قد جرى تكييفها بحصافة، بالقدر الذي تستطيع به فقط حل تلك المشاكل بقدر مرضي، وبناء على ذلك فقد جرى الاعتقاد بان تلك القيم تستحق ان يحتفظ بها، فوفقاً للنظريات البراغماتية عن الحقيقة فان الحقائق ليست سوى معتقدات جرى التثبت منها عبر شوط التجربة ولذلك فهي قابلة للخطأ، وقابلة من ثم للمراجعة لاحقاً" هذا هو التعريف الذي ارجعنا اليه د. النور، ليس فيه ولا اشارة للعقلانية!! بل هو واضح كل الوضوح، في بدايته وفي ختامه في حديثه عن التجريبية فبداية التعريف يقول: "لا يمكن تقرير الحقيقة عن طريق استخدام المقياس الابستمولجي وحده".. والمقياس الابستمولجي يعني المعرفي، يعني العقل، فالتعريف يزعم انه لا يمكن تعريف الحقيقة اعتماداً عليه وحده.. اما ختام التعريف فهو واضح كل الوضوح، في الحديث عن التجريبية، فهو يقول: "فان الحقائق ليست سوى معتقدات جرى التثبت منها عبر شوط التجربة".. هذه المرة الثانية التي نورد فيها مناقضة النور لما يورده بنفسه، وفي امور اساسية جداً!! وقد بنى د. النور كل تمجيده للبراغماتية وكل اقواله ومفاهيمه حولها وكل محاولاته في استخدامها في المجالات المختلفة، على اساس انها فلسفة عقلانية فاذا انهار مفهوم العقلانية بالنسبة للبراغماتية ينهار بالضرورة كل ما بناه عليها وعلى اساس هذه العقلانية المزعومة.
    والآن لنرى من اقوال كبار فلاسفة البراغماتية، موقفهم من العقلانيين والعقلية .. يقول وليم جيمس: "تماماً مثلما تولي البراغماتية وجهها شطر المستقبل نجد ان المذهب العقلي يولي وجهه ثانية، هنا الى الخلف شطر الخلود الماضي، وامعاناً في الاخلاص لعادته المتأصلة، فان المذهب العقلي ينكفئ الى المبادئ ويعتقد انه بمجرد ان يسمي "مجرداً" ما، فان لدينا حلاً فاصلاً قاطعاً" 267..
    ويقول جون ديوي: "المعرفة ليست اولية ولا سابقة على التجربة بل انها نابعة من التجربة نفسها من الخبرة وهي ثمرة لها" 3-93..
    وقد سبق ان ذكرنا ان ديوي يرى ان العقل ليس للمعرفة وانما هو وسيلة للحياة، وهذا عكس رأي العقليين.. والبراغماتيون عموماً لا يتحدثون عن المعرفة وانما يتحدثون عن الخبرة، والعقل مجرد آلة للخبرة، ولذلك سميت نظرية ديوي بالآلية، والخبرة عندهم هي عبارة عن عملية تفاعل بين الكائن الحي والبيئة 3-81.. والبيئة نفسها عندهم عبارة عن احداث يتم التفاعل معها، وهم يرون ان التفاعل تفاعل حياتي وليس تفاعلاً عقلياً معرفياً... يقول وليم جيمس: "ان الافكار التي هي نفسها ليست سوى اجزاء من خبرتنا، تصبح حقيقية او صحيحة تماماً بقدر ما تساعدنا الى ان ندخل في علاقة مشبعة، مرضية مع اجزاء اخرى من خبرتنا.." 1-79..
    فصحة الافكار عندهم ـ والتي هي اساساً عندهم خبرة ـ ليست في منطقها وصحتها العقلية، وانما في نفعيتها واشباعها يقول وليم جيمس عن البراغماتية انها "تتفق مثلاً مع مذهب الاسمية في كونها تلجأ دائماً للاصطفائية في التفاصيل الجزئية.. وتتفق مع مذهب النفعية في توكيدها النواحي العملية. وتتفق مع الفلسفة الوضعية في ازدرائها للحلول الكلامية والاسئلة عديمة الجدوى، والتجريدات الميتافيزيقية.
    وهذه كما ترون اتجاهات مضادة للمذهب العقلي، وضد المذهب العقلي كدعوى وطريقة نجد البراغماتية مسلحة تسليحاً كاملاً".. 1-75..
    فالبراغماتية عند اصحابها، قد تلتقي مع افكار ومذاهب كثيرة، ولكنها ضد المذهب العقلي بالذات!!.
    فالبراغماتية كما رأينا – على خلاف العقلانية – لا تتعامل مع حقيقة موضوعية، وهي عندها اساساً لا توجد حقيقة موضوعية، في جهة ما وهي تحكم على صحة الاشياء بصلاحها للاستخدام لا بصحتها العقلية كما هو الحال عند العقليين، يقول وليم جيمس: "ان الصحيح هو الاسم الدال على ما يثبت انه صالح وخير من قبيل الاعتقاد وصالح وخير ايضاً لاسباب محددة معينة محسوسة" 1-10..
    وبعد ان يذكر وليم جيمس ثلاث قضايا عن الوقائع والحقائق يقرر: "هنا بالذات يبدأ المذهب البراغماتي والمذهب العقلي في الافتراق والطلاق" 1-250.. وعن توكيد التجريبية في البراغماتية يقول وليم جيمس: "انني مهتم بمذهب آخر في الفلسفة اخلع عليه اسم التجريبية الراديكالية، ويخيل الى ان اقامة النظرية البراغماتية للحقيقة، وارساء قواعدها، هي خطوة في الدرجة الأولى من الأهمية لجعل التجريبية الراديكالية تسود" 1-359.. وقد وصل الخلاف بين البراغماتيين، والعقلانيين، حد المهاترات الكلامية فها هو وليم جيمس يقول: "على انني ارغب في غضون ذلك في ان اختم هذه المحاضرة بان سمو المذهب العقلي لن ينجيه من الخبل العقلي"..!! 1-217...
    وصور الخلاف بين البراغماتيين والعقلانيين كثيرة جداً ولا ضرورة لان نفصل فيها اكثر من ذلك، ومع كل هذا الخلاف، الواسع والجذري يقرر د. النور وبكل بساطة ان البراغماتية تطابق العقلانية كما اوردنا من نصوصه، ويبني على ذلك، الكثير جداً، في الحديث عن البراغماتية وغير البراغماتية، انني عاجز حقيقة عن وصف هذا العمل.. كان ببساطة يمكن ان يرجع الى اي مرجع من مراجع البراغماتية ليتأكد من صحة ما يريد ان يقوله، قبل ان يقوله.. ان د. النور بهذا العمل لم يحترم القراء الذين ربما يكون بعضهم ليس مطلعاً على البراغماتية ووثق في كلامه عنها.. وهكذا يجري د. النور تعديلاً اساسياً في البراغماتية وهو ربما يظن ان هذا تمجيد للفلسفة على خلاف ما يرى فلاسفتها كما رأينا من اقوالهم!!.
    والآن لنفترض ان اقوال د. النور عن عقلانية البراغماتية – على ما هي عليه من خطأ – لنفترض انه صحيح، فهل هذا يعطيه الحق في ان ينسب الاستاذ محمود ودعوته للبراغماتية؟؟ بمعنى آخر، هل الاستاذ محمود عقلاني – كما وصفه النور في عدة مواضيع – بالمعنى الذي يمكن ان تكون به البراغماتية، كفلسفة عقلانية؟ د. النور وكعادته في التعامل مع المفاهيم لم يبين دلالة مفهوم "عقلاني"، لا بالنسبة للاستاذ ولا بالنسبة للبراغماتية، هذا اذا كان اصلاً يتحدث عن مفهوم معين، وليس مجرد كلمات!! فعلينا نحن ان نبين الخلاف.. وهو على كل حال خلاف شاسع.. لأنه خلاف بين الفلسفة والدين.
    يقول الاستاذ محمود، من كتابه في الرد على د. مصطفى محمود: "فالفرق اذن كبير جداً بين الفلسفة والدين، ومثل هذا يقال عن الفرق بين العلم التجريبي المادي، والدين وايسره اعتماد الفلسفة، والعلم التجريبي اعتماداً كلياً ونهائياً على الفكر في حين ان الدين يروض العقل حتى يتسامى على نفسه ليصل الى تجريد التوحيد، فيلغي الشفعية ويخلص الى الوترية..".. فالعقل ليس صورة واحدة.. فالعقل الذي يقوم عليه الدين عند الاستاذ محمود يسميه "عقل المعاد" والعقل الذي تقوم عليه الفلسفة، عنده هو "عقل المعاش" وعقل المعاد هو نفس عقل المعاش، ولكن بعد ان يروض ويؤدب بالتجربة الروحية فيصبح عقلاً محايداً، لا يتأثر بالرغبة.. والفلسفة عموماً، لا علاقة لها بالمعاد، وليس لها منهاج لترويض العقل وتأديبه ولا تدعي ذلك.. يقول الاستاذ محمود، عن المستويين من العقل: "العقل كريم عند الله، كل الكرامة.. سواء عرف واجبه، أو لم يعرفه.. وهو حين يعرف واجبه يكون في مستوى وحين يجهل واجبه يكون في مستوى آخر.. ولذلك فقد قال العارفون: العقل عقلان.. عقل معاش وعقل معاد.. اما عقل المعاش فهو عقل قد انشغل بالحياة الدنيا، ووظف نفسه لتحصيلها، ولم يرتفع لما هو أعلى منها" .. "وفي هذا العقل جاء قوله تعالى: (وقالوا: لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير * فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير) ولقد كانوا يعقلون، في أمور دنياهم، ولكنهم لم يكونوا يعبرون من طرف الدنيا الى بر الآخرة..".. وعبارة "فأما عقل المعاش فهو عقل قد انشغل بالحياة الدنيا، ووظف نفسه لتحصيلها ولم يرتفع لما هو أعلى منها" تنطبق تماماً على البراغماتية، فهي قد جعلت العقل أداة، للحياة وليس وسيلة للمعرفة – وهي بالطبع ليس عندها غير الحياة الدنيا، ولا تسعى لغيرها.. كما انها جعلت المنفعة المباشرة هي الغاية وتحقيقها أو عدم تحقيقها هو دليل صحة العمل أو الفكر أو خطأهما!!.
    ويقول الاستاذ محمود عن تأديب العقل "ان سر الحياة الاعظم – ان اكسير الحياة – هو الفكر.. الفكر الحر ، الفكر القوي، الدقيق الذي يملك القدرة على ان يفلق الشعرة، ويملك القدرة على ان يميز بين فلقتيها.. وهذا الفكر انما هو ثمرة العقل المسدد، المروض المؤدب بادب الحق، وادب الحقيقة".. والمنهاج كله، في الفكرة الجمهورية هو عمل في العبادة، وفي المعاملة يقوم على ترويض العقل، وتأديبه وتحريره.. فاساس السنة، التي تدعو الفكرة الجمهورية لبعثها هو ادخال الفكر في العمل.. وهذا امر يشمل كل نشاط السالك في كل كبيرة وصغيرة يقول الاستاذ: "فيجب ان نروض اعضاءنا وجوارحنا على الطاعة، وذلك بحفظ عقولنا وقلوبنا من الغفلة وبمحاسبة حواسنا، وجوارحنا على المعصية وبالمجاهدة حتى نحفظها في حظيرة الطاعة".. يقول الاستاذ محمود تحت عنوان "الفكر هو السنة": "لقد كرم الاسلام الفكر كل التكريم وأعظمه كل الإعظام.. قال تعالى: (وانزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل اليهم.. ولعلهم يتفكرون).. قوله تعالى "وانزلنا اليك الذكر" يعني القرآن كله... وقوله: "لتبين للناس ما نزل اليهم" يعني لتوضح للناس بالتشريع وبالتفسير ما نزل الى مستواهم من جملة القرآن.. وقوله: "ولعلهم يتفكرون" هو الغرض المطلوب من ارسال الرسل، ومن انزال القرآن، ومن تشريع الشريعة.. فلكأن الاسلام كله انما هو نهج لتحرير الفكر ولتسديد الفكر.. ولقد قال المعصوم: "تفكر ساعة افضل من عبادة سبعين سنة" ثم ان "السنة" النبوية المشرفة انما هي نهج مرسوم لمحاربة العادة، ولايقاظ الفكر.. يجري هذا منها في ابسط المستويات، وايسرها، مما يستوي في المشاركة فيه الأمي الجاهل والمتعلم." فالاستاذ محمود عندما يتحدث عن العقل لا يتحدث عن اي عقل وانما يتحدث عن العقل المروض المؤدب بأدب القرآن، ادب حقيقته وادب شريعته.. وهذا العقل الذي يتحدث عنه الاستاذ ليس هو العقل الذي تقوم عليه البراغماتية، وكل العقلانيين الذين يتحدث عنهم النور، والذين جعل الاستاذ واحداً منهم، ولمعرفة تفاصيل قيمة العقل، في الفكرة الجمهورية.. والمستوى من العقل الذي تدعو له، ومنهج تحرير العقل، نحيل القارئ الى كتب الاستاذ محمود الاساسية، وخصوصاً كتاب: "طريق محمد" عليه افضل الصلاة واتم التسليم، وكتاب: " تعلموا كيف تصلون"... ومخطوطة "ديباجة الدستور".. ولكن نحب ان نشير هنا إلى ان طبيعة الفكر عند الاستاذ محمود، مرتبطة بطبيعة العالم كله ومن هنا تأتي اهمية الفكر، وقيمته فالعالم عند الاستاذ محمود، صنع من مادة الفكر!! يقول الاستاذ محمود: "فالعالم هو تجسيد علم الله – هو تجسيد فكر العقل الكلي، المحيط، والمطلق في ذلك – وانه لحق ان العالم قد صنع من مادة الفكر، ومن اجل ذلك جاءت كرامة الفكر.. ولم يجعل الله هادياً في شعاب ظلمات العالم غير نور العقل القوي، الفكر.. وانما من اجل تقوية الفكر ارسل الله الرسل وانزل القرآن وشرع الشرائع"..
    فعقلانية البراغماتية – ان وجدت – هي عقلانية عقل المعاش.. وعقلانية الفكرة الجمهورية عقلانية عقل المعاد، وشتان مابين الاثنين.، شتان..
    وكما ان البراغماتيين، (على خلاف ما يقول د. النور عنهم) ينسبون فلسفتهم للتجريبية الراديكالية كما يقول وليم جيمس، فكذلك الجمهوريون ينسبون دعوتهم للتجريبية الروحية!! فالاستاذ محمود يسمي منهجه بالعلم التجريبي الروحي.. ولا توجد علاقة بين مجال التجريب ولا وسيلة التجريب في الدعوتين.. فتجريبية البراغماتية عبارة عن تفاعل بين اداة العقل والبيئة المادية المحسوسة.. وتجريبية الفكرة الجمهورية مجالها الارادة البشرية الحادثة في علاقتها بالارادة الالهية القديمة - راجع كتاب "الاسلام"..
    أما البيئة عند البراغماتيين فهي بيئة مادية متعددة والبيئة في الفكرة الجمهورية بيئة روحية، ذات مظهر مادي ومطلوب التواؤم مع كل من حقيقتها الروحية، ومظهرها المادي..
    ولقد رأينا موقف البراغماتية من المعرفة فهي تعتبر العقل وسيلة للحياة ، وليس للمعرفة وانه ليس لها اي نظرية في الكون، ولذلك اتهمت باللا أدرية، وهي تهمة ليست ببعيدة عنها.. وعلى العكس من البراغماتية الفكرة الجمهورية، كدعوة اسلامية تقدم الحلول لكل قضايا الوجود، ولكل قضايا الحياة، اتفق معها من اتفق، واختلف معها من اختلف.. المهم ان لها رأياً عتيداً في كل ما يتعلق بامر معاد الانسان ومعاشه.. والفكرة الجمهورية لانها تقوم على التوحيد، فكل قضاياها متسقة ومترابطة لا فرق في ذلك بين القضايا الوجودية الكبرى، وبين قضايا الحياة اليومية.. ورغم ذلك جاء د. النور، ليحشر هذه السعة الواسعة، في كبسولة البراغماتية التي لا تكاد تتسع لشئ!! وهو في سبيل ذلك، عدل البراغماتية فجعلها عقلانية، على خلاف رأي اصحابها فيها.. وعدل الفكرة الجمهورية وجعلها عقلانية بنفس المستوى، وبنفس المعنى الذي به البراغماتية، عقلانية في زعمه.. ولا اعتقد ان من حق النور ان يجري هذه التعديلات الاساسية، في افكار الآخرين!! وهذه هي قمة عدم الموضوعية، التي تحدثنا عنها – فقمة عدم الموضوعية ان تنسب للآخرين، خلاف ما يقولون – وعلى كل، هذا التعديل الذي قام به د. النور في الجانبين ، لم يؤد الى ما يريده من نسبة الفكرة الجمهورية للبراغماتية.
    الواضح ان هنالك تناقضات اساسية، بين الاسس الفلسفية للبراغماتية والمبادئ الاساسية للفكرة الجمهورية خصوصاً فيما يتعلق بتصور الحقيقة والتعامل معها.. وكذلك الحال بالنسبة للمنهج في الدعوتين!! فماذا بقي!؟ ان كل ما تبقى لا بد ان يكون مرتبطاً، بالمنطلقات الاساسية، للدعوتين، وبمنهجيهما.. ونحب ان نذكر ان المعرفة، في الفكرة الجمهورية تقوم على العمل "واتقوا الله، ويعلمكم الله"، فهي تجريبية ذوقية.
    رغم اننا، لا نعتقد انه قد بقي شئ مما يمكن ان يعتمد عليه د. النور في نسبة الاستاذ محمود ودعوته للبراغماتية الا اننا سنناقش بعض القضايا التي أثارها، ومنها قضية المنفعة، وقضية إشكالية النص، وبصورة خاصة قضية الواقع التي عوَّل عليها كثيراً.

                  

08-25-2005, 06:17 AM

Omer Abdalla
<aOmer Abdalla
تاريخ التسجيل: 01-03-2003
مجموع المشاركات: 3083

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الأستاذ خالد الحاج: الفكرة الجمهورية والبراغماتية (Re: Omer Abdalla)


    تعقيباً على دكتور النور حمد
    الفكرة الجمهورية والبراغماتية (4)
    الواقع بين الفكرة الجمهورية والبراغماتية
    خالد الحاج عبد المحمود

    من الواضح أن الغرض الأساسي من وصف د. النور للأستاذ محمود ودعوته بالبراغماتية ، مع التحفظات التي ذكرها ، هو محاولة تصوير الفكرة وكأنها تتعامل مع الواقع بصورة براغماتية وذلك في سبيل تدعيم رأيه في الجانب الديني والسلوكي في الفكرة ، هذا الرأي الذي جاء في مقالاته التي أعقبت حديثه المباشر عن البراغماتية والفكرة ، خصوصاً في المقالات التي تحدث فيها عن مستقبل الفكرة .. فهو في جملة الحال لا يريد للجمهوريين ، باسم الواقعية والمرونة ، التركيز على الجانب الديني للفكرة ، ويدعوهم صراحة للتحلل من القيود السلوكية التي يعتبرها متزمتة ، والانفتاح على الحياة في تجلياتها المختلفة ، وهذا ما سنراه في مواضعه .. وفي تقديري أن د. النور قد أخطأ خطأً فادحاً في اتخاذ البراغماتية مدخلاً لما يرمي إليه ، لأنه اختار أكثر فلسفة تتناقض بصورة أساسية مع الفكرة ، وفوق ذلك لأنه جعل معياره لتقويم الفكرة وقضاياها من خارجها ، ولأنه حاول حشر سعة الفكرة ـ والتي تحدث هو نفسه عنها ـ في اطار البراغماتية الضيقة جداً.. ولأن البراغماتية فلسفة سيئة السمعة في مجال القيم والمبادىء والفكرة في كل تفاصيلها تقوم على القيم والمبادىء .. والنور نفسه من حين لآخر يشير إلى المآخذ على البراغماتية مثل قوله: "ارتبطت كلمة البراغماتية بشكل عام بالمنفعة الأمر الذي ألقى عليها الكثير من الظلال السالبة" وقوله "تدير البراغماتية أمورها بعيداً عن النظريات الكلية والموجهات المبدئية التي لا تساوم" وقوله "الشاهد أن البراغماتية ليست دائماً مرادفة للإنتهازية غير أنه ما من شك أن البراغماتية ربما مثلت في كثير من الأحيان حياداً عن الموقف الأخلاقي الأعلى وربما مثلت مساومة غير أن المبادىء الأخلاقية ليست هي التي وجهت غالب مسار التاريخ.."!! ومع كل هذه المسالب التي يعرفها النور للبراغماتية والتي تجعلها نقيض الفكرة الجمهورية تماماً في هذا المجال ، لأن خلاصة ما تدعو له الفكرة الجمهورية ومنهجها هو العمل على تحقيق قول المعصوم "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" وذلك ببعث السنة.. ومع كل ذلك يصف الفكرة بالبراغماتية!!.
    ولكن لنرى هل هنالك أي أرض مشتركة بين الفكرة الجمهورية كدعوة إسلامية والبراغماتية ، بالنسبة لقراءة الواقع والتعامل معه.
    ونحن هنا سنورد أقوال د. النور عن رؤية البراغماتيين للواقع وتعاملهم معه ونعتمدها حتى ولو لم تكن صحيحة ونورد أقوال بعض فلاسفة البراغماتية لنقارن بينها وبين نظرة الفكرة الجمهورية للواقع وتعاملها معه.. يقول د. النور: "تدير البراغماتية أمورها بعيداً عن النظريات الكلية والموجهات المبدئية التي لا تساوم ولا ترضى بأنصاف الحلول .. بهذا المعنى تعني البراغماتية المرونة والتعامل مع الواقع بوصفه متشكلاً اجتماعياً أرضياً وليس بوصفه انعكاساً لمشروع غيبي كلي جرى رسمه في الأزل" 1 .. وهذا بالضبط نقيض الفكرة الجمهورية كما سنرى.. يمكن تلخيص عبارة النور في النقاط التالية:
    1/ تدير البراغماتية أمورها بعيداً عن النظريات الكلية والموجهات المبدئية التي لا تساوم ـ لا تساوم هذه إضافة من عند النور فالبراغماتية كما رأينا أساساً ترفض رفضاً مبدئياً المبادىء والقيم القبلية.
    2/ تتعامل البراغماتية مع الواقع بوصفه متشكلاً اجتماعياً أرضياً وليس بوصفه انعكاساً لمشروع غيبي كلي جرى رسمه في الأزل.
    يقول النور: "فالبراغماتية ربما مثلت في منعطفات شتى من التاريخ البشري، الترياق الأكثر فعالية لتخفيف غلواء الايديولوجيا، عمل البراغماتيون، على جر كثير مما بشرت به الايديولوجيا، من مشاريع كلية كبيرة، اتسمت بالمثالية، او بالشطح إلى حيث تفاعلات الواقع والى حيث القبول بما هو ممكن التحقيق، فالأيديولوجيا قد حلمت كثيراً بتغيير الواقع، من غير ان تلتفت للآليات العملية، والواقعية، الميسرة التي بها يتم التغيير، وتتم المحافظة على ديمومته وثبات وتائـره" والنور لم يحدد الايديولوجية التي يعنيها هنا، ولكنه في موضع آخر أشار للماركسية والدين ... والواقع أن الماركسية فلسفة عملية ولها آلياتها وهي أكثر الفلسفات التي لها رؤية واقعية للواقع وقد غيرت الواقع فعلاً وكذلك الحال بالنسبة للإسلام فهو قد غير الواقع منذ القرن السابع وإلى اليوم ولكن من طبائع الأشياء أن حركة التغيير لا تتوقف لأنها مظهر لتجلي الله ... والله تعالى "كل يوم هو في شأن" ... يقول النور: "وتصبح البراغماتية بهذا المعنى خياراً لا مندوحة عنه وهو خيار تفرضه قوى الواقع حين تستعصي عملياً على حماقات الأيديولوجي" وهو كشأنه دائماً لم يبين ما يعنيه بحماقات الأيديولوجي هذه ولا كيف تفرض قوى الواقع البراغماتية ... وإذا كانت البراغماتية خياراً تفرضه قوى الواقع كما يزعم النور إذاً لا توجد مشكلة ولا يحتاج هو أن يبشر بالبراغماتية لأنها أصلاً مفروضة بقوى الواقع بشر بها أم لم يبشر!! ونحن لنا عودة لمواصلة حديث د. النور عن البراغماتية والواقع عندما نتناول حديثه عن البراغماتية والنص.
    لقد أوردنا من النصوص ما يفيد أن البراغماتيين يرون أن الحقيقة الموضوعية لا وجود لها في أي مكان على الإطلاق ... وأن الحقيقة تصنع كما تصنع الصحة والثروة والقوة ولذلك هم عندما يتعاملون مع الواقع لا يتعاملون مع حقائق وانما يتعاملون مع أحداث Events ويتعاملون معها تعاملاً تجريبياً يقوم على المنفعة والتي هي الدليل الوحيد على الصحة ... والبراغماتيون يرون أن "أن الإنسان يتلقى من الخارج صورة المحسوسات كما يتلقى الروابط التي تربطها سواء بسواء" ... ويرون "أن العالم متكثر متعدد الكائنات وليس بالعالم المتصل المترابط في كيان واحد كما يريد له المثاليون أن يكون ..." 1 – 5 وهذا يشكل تصورهم العام والمبدئي للواقع ... وهم يرون "أن ما هو واقع، واقع . ولا معنى لوصفه بأنه حق أو باطل، وإنما الذي يوصف بالحق أو البطلان هو "الإعتقاد" أو الرأي الذي يحمله الواحد منا عن أمور الواقع" 3 – 71 ويتحدث جون ديوي عن التفاعل المستمر في مجرى الطبيعة بين ذهن الإنسان والأشياء الطبيعية 3 – 94 والبراغماتية كفلسفة متأثرة بالعلوم الطبيعية وفلسفتها عندما تتحدث عن العلاقات فهي إنما تتحدث عن العلاقات المكانية والزمانية والكمية والكيفية والعلية 3 – 75 وكما ذكرنا البراغماتية ترفض مبدأ العلة الغائية في الكون وتتعامل مع الواقع ليس على أساس من المبادئ والقيم والأفكار المسبقة وانما فقط على أساس نفعه وقيمته العملية المباشرة للحياة وكما رأينا هذا هو معيارها الأساسي للحق وللصحة.
    نظرة البراغماتية هذه للواقع وتعاملها معه هي بصورة عامة وأساسية نقيض نظرة الفكرة الجمهورية للواقع وتعاملها معه ... فالواقع عند الفكرة الجمهورية وفي كل تفاصيله الزمانية والمكانية هو تجسيد لإرادة الله ... فكلمة التوحيد "لا إله إلا الله" تعني لا فاعل لكبير الأشياء ولا لصغيرها إلا الله – فالفاعل الحقيقي في الوجود واحد هو الله – وهذا بالطبع إختلاف جذري في النظر للواقع بين الإسلام "الفكرة" والبراغماتية ... فالواقع في الفكرة لا ينفصل عن الله وهو في البراغماتية لا علاقة له بالله بل الله نفسه عندهم غير موجود ولأن الواقع في الفكرة هو إرادة الله متجسدة فهو من وجهة نظر الحقيقة لا يدخله الباطل وإنما الباطل حكم شرعي حكم عقلي. يقول تعالى: (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا فويلٌ للذين كفروا من النار) ... باطلاً هنا تعنى عبثاً ولغير حكمة فالآية تفيد أن السموات والأرض وما بينهما عبارة عن خلق الله وأن كل ما فيها خُلق لحكمة .. وهذه الحكمة الإلهية هي ما يتوخاه المسلم في تعامله مع الواقع .. فالواقع في الإسلام في كل صوره بما في ذلك الواقع المادي هو أساساً واقع فكري!! وهذا ماسنبينه في موضعه ، وهو واقع في كل تفاصيله هادف فكما يقول الأستاذ محمود : "الغائية اصل الدين بل هي آصل الأصول فيه – فلا مكان للصدفة لا في كبيرة ولا صغيرة" .. وهذا نقيض البراغماتية التي ترفض الغائية وعلى عكس البراغماتية تماماً فيما يقوله عنها د. النور، الفكرة الجمهورية تنظر إلى الواقع كمشروع غيبي كلي جرى رسمه في الأزل – حسب عباراته – فالفكرة عندها أن الواقع كله، وفي كل تفاصيله هو تنفيذ للقضاء ... والقضاء مشروع كلي واحد (إنا كل شئٍ خلقناه بقدر، وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر) فهذا الأمر الواحد هو القضاء ... والذي ما الواقع الا تنفيذ له ... يقول تعالى: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير) ... والله تعالى "وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله" فما من شئ يتشكل في الأرض اجتماعياً أو غير اجتماعي إلا بأمر الله تعالي وهو يتشكل تنفيذاً لإرادته تعالى .. وهذا هو معنى رؤية الفاعلين الذي أشار إليه د. النور: (يقول الأستاذ محمود "لابد من رؤية الفاعلين" .. أي رؤية الفاعل المباشر والفاعل غير المباشر في آن معاً أيضاً وهذه تعني: ألا تعميك "الفكرة" أو "الأيديولجيا" أو "المثال" عن قراءة الواقع. فالواقع هو التجلي الأكبر للحقيقة الكونية الكلية وبأكثر مما يمثله أي نص") ...
    أولاً: الأستاذ يقول الفاعل المباشر والفاعل الحقيقي أو الأساسي وليس الفاعل غير المباشر كما ذكر النور وهنالك فرق كبير بين الأمرين أما تفسير النور لرؤية الفاعلين فهو معكوس تماماً ... فالأصل في المقولة هو ألا تعميك رؤية الفاعل المباشر عن رؤية الفاعل الحقيقي وراءه .. أي ألا يعميك الواقع المتمثل في الفاعل المباشر عن رؤية "الفكرة" أو "المثال" أو "الأيديولوجيا" حسب عبارات النور – والفكرة هنا هي "لا إله إلا الله" لا فاعل لصغير الأشياء ولا كبيرها إلا الله – والناس عادة يرون الفاعل المباشر لأنه مباشر .. والتوحيد (الفكرة) إنما يدعوهم لرؤية هذا الفاعل لأنه الفاعل الحقيقي وراء مايرونه من واقع يتمثل في الفاعل المباشر فلا أحد يعمى عن الواقع المتمثل في الفاعل المباشر ولكن قليلين هم الذين يرون الفاعل الحقيقي .. فدكتور النور هنا يعطي مقولة الأستاذ مدلولاً عكس ما يدعو له الأستاذ تماماً ليسوق فكرته عن الواقع والمثال .. وهذا أمر جد عجيب !! ولا أجد له أي تبرير.
    والواقع في الفكرة مع أنه من وجهة نظر الحقيقة كله حق وخير إلا أنه من وجهة نظر الشريعة – منطقة الثنائية – يدخل فيه الخير والشر والحق والباطل .. فالباطل حكم شرعي - حكم عقلي - وقراءة الواقع تقتضي التمييز بين الحق والباطل - بين الخير والشر- أو بين الإرادة والرضا .. ووفق التمييز يتم التعامل مع الواقع ، فالتعامل مع الواقع في الفكرة يقتضي معرفة حكمة الله وراء فعله والتعامل وفق الحكمة بما يرضي الله ... ففي الآية الكريمة: (وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا : أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين) فهؤلاء احتجوا بالحقيقة على الشريعة فحجتهم داحضة فهم لا يعلمون مشيئة الله قبل أن تحدث ولكنهم يعرفون مرضاة الله المتمثلة فيما جاءهم من شريعة ... فالتعامل مع الواقع في الإسلام (الفكرة) ليس تعاملاً أعمى مع الواقع الخام كما هو عند البراغماتية وكما يريد لنا النور عندما يدعونا للأخذ بها وإنما هو تعامل مبصر تماماً يقوم على معرفة أسرار الألوهية وهي حكمة الله وراء فعله – فيميز بين ما هو خير ومطلوب وبين ما هو خلاف ذلك .. وفي الآية الكريمة (واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شئ عليم) .. "واتقوا الله" تعني اعملوا بالشريعة بإخلاص وتجويد "ويعلمكم الله" تعني يعلمكم الحقيقة – والحقيقة هنا هي معرفة أسرار الألوهية فالحقيقة في الفكرة ليست هي مجرد واقع وانما هي أسرار الألوهية التي يمكن معرفتها من خلال قراءة الواقع عن طريق منهاج التقوى ولا يوجد منهاج آخر غير هذا المنهاج – منهاج التقوى – يمكن عن طريقه معرفة أسرار الألوهية .. فالتعامل مع الواقع في الفكرة يقوم على معيار التوحيد والشريعة .. وهو تعامل تضبطه قيم محددة ويهدف إلى غايات محددة ومنهاج الشريعة في التعامل مع الواقع يبدأ من قول المعصوم: "الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور متشابهات فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه" .. ثم يدق هذا التعامل بدقة الفكر المكتسبة من الرياضة والمران وفق منهج السنة فالتعامل مع الواقع في الفكرة لا يقوم على الحقيقة وحدها ولا على الشريعة وحدها وإنما على الحقيقة والشريعة معاً وفي نفس الوقت.
    وقضية الواقع والتعامل معه في الفكرة يلخصها مفهوم "حكم الوقت" وهو ما أشار إليه د. النور ولم يبينه بصورة كافية وبنى على غيره .. وحكم الوقت يعني ببساطة أن الله تعالى له في كل وقت حكم لا يمكن أن يحدث خلافه ووراء هذا الحكم حكمة.. والمعرفة تقتضي معرفة حكم الوقت – مايريد الله ويرضاه في الوقت المعين – والتأدب بأدب الوقت باتباع مرضاة الله حسب معرفة حكم الوقت – وهذا ما أشار إليه العارف بالله ابن عطاء الله السكندري في حكمه حيث قال: "ما ترك من الجهل شيئاً من أراد أن يظهر في الوقت خلاف ما أظهره الله فيه" وما يظهره الله في الوقت يشمل الرضا والإرادة والمطلوب معرفة حكمته في إرادته واتباع رضوانه .. وهذا التمييز لا يأتي بصورة تلقائية وإنما يكون ثمرة للعمل بمنهاج التقوى ذلك العمل الذي يورث الفرقان الذي يتم به التمييز يقول تعالى: (يأيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً) .. "فرقاناً" يعنى نوراً في عقولكم تميزون به بين قيم الأشياء فتتعاملون معها وفق هذا التمييز.
    ما أريد أن أخلص إليه هنا هو أن رؤية الفكرة للواقع وتعاملها معه لا علاقة لهما لا من قريب ولا من بعيد بالفلسفة البراغماتية بل يقومان على نقيض البراغماتية ... وهذا يجعل القول بأن الأستاذ محمود براغماتي في تعامله مع الواقع في أي حالة من حالات هذا التعامل قول باطل شديد البطلان .. ومجرد أن الأستاذ محمود عندما يتعامل مع الواقع انما يتعامل مع الله، في خلقه، يجعل تعامله هذا نقيض مبادئ البراغماتية ... وكذلك الحال بالنسبة لكل الفكرة الجمهورية.
    الإسلام بصورة عامة دين واقعي بصورة لا مجال للبس فيها .. فهو عندما نزل في القرن السابع بدأ بعرض أصوله ثم عندما ثبت عملياً أن الناس في ذلك الوقت لم يكونوا في مستوى الأصول تنزل إلى مستوى الفروع وجاء القرآن المدني الذي قام عليه التشريع الذي يناسب طاقة الناس وحاجتهم .. وحكمة البدء بالأصول واضحة ومذكورة في كتب الفكرة والله تعالى يقول : "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها .." ... والمعصوم يقول : "نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم" .. فالإسلام ليس في حاجة للبراغماتية لتعليمه التعامل مع الواقع .. والفكرة عندما دعت لبعث السنة وبشرت بأصول القرآن هي واقعية تماماً لأن طاقة الناس وحاجاتهم أصبحت في هذا المستوى – مستوى الأصول – وقد بينت الفكرة ذلك بياناً وافياً في أدبياتها المكتوبة والمسموعة ... ولكن من الواضح أن د. النور له رأي عام ومبدئي في الدين كله بلا استثناء فهو يقول: "وأنا مِن مَن يميلون إلى وضع الماركسية اللينينية بسبب عدم عمليتها في خانة الأيديولوجيا المثالية شأنها في ذلك شأن الفكر الديني"!! وهذا موقف ذاتي وليس موقفاً موضوعياً والواقع كله يدحضه ونحن لنا إليه عودة.
    نواصل

                  

08-26-2005, 10:57 AM

Omer Abdalla
<aOmer Abdalla
تاريخ التسجيل: 01-03-2003
مجموع المشاركات: 3083

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الأستاذ خالد الحاج: الفكرة الجمهورية والبراغماتية (Re: Omer Abdalla)


    تعقيباً على دكتور النور حمد
    الفكرة الجمهورية والبراغماتية (5)
    النص وإشكالية النص
    خالد الحاج عبد المحمود

    قضية إشكالية النص قضية مطروحة بشدة في عالمنا العربي الاسلامي .. وهي مطروحة بهذه الصورة في تقديري بسبب الطرح الديني من الجماعات الاسلامية المختلفة ، واستناد هذه الجماعات على بعض النصوص الدينية في نشاطها السياسي والاجتماعي ، وفي تبريرها لأعمالها المخالفة لقيم العصر المتمثلة بصورة خاصة في حقوق الانسان الأساسية وفي الحريات العامة.. ومما زاد من أهمية معالجة إشكالية النص زيادة نفوذ جماعات الهوس الديني والاسلام السياسي ، وسعيها الحثيث للسلطة الزمنية وللهيمنة الاجتماعية وبصورة خاصة الارهاب باسم الدين ، والذي اتخذ طابعاً عالمياً واصبح ظاهرة خطيرة على حياة الناس وأمنهم ، في مختلف بقاع العالم .. وكل هذا النشاط الهدام يستند إلى استخدام النصوص الدينية استخداماً خاطئاً وبصورة بشعة بها يتم تبرير قتل الأبرياء حتى من المسلمين أنفسهم .. ونحن هنا لسنا بصدد معالجة هذه القضية المهمة وانما فقط نحاول مناقشة ما جاء حولها من أقوال د. النور في مقالاته التي نحن بصددها .. وحديثنا هنا هو استمرار للحديث عن البراغماتية والفكرة الجمهورية خصوصاً في جانب علاقة الفكر بالواقع.
    يقول دكتور النور "كل هذا يسوق في بعض جوانبه إلى القضية المركزية المتعلقة بتاريخانية النص التي يمكن تلمسها بقدر من المقادير في أعمال الأستاذ محمود محمد طه وفي أعمال محمد أركون وفي أعمال نصر حامد أبوزيد وسيد محمود القمني وخليل عبد الكريم" 1 ـ 2 .. ومع تقديرنا التام لكل النفر الكرام المذكورين إلا أننا نقول: ولا واحد منهم قام بعمل يشبه ولو من بعيد التأسيس الديني للتعامل مع إشكالية النص الذي قام به الأستاذ محمود.
    أما ما حاول دكتور النور القيام به من ربط إشكالية النص بموضوع البراغماتية فأقل ما يقال عنه انه عمل بعيد كل البعد عن التفكير الموضوعي .. فالإشكالية بطبيعتها لا تتعلق إلا تعلقاً فنياً بمجال دراسة علم اللغة والنقد الأدبي وما عدا ذلك هي لا تتعلق إلا بالفكر الديني عموماً ، حيث النص مقدس ، وهو أساس المرجعية في التفكير الديني وفي العمل والسلوك ، وبصورة خاصة التفكير الديني الاسلامي ، حيث إن القرآن بين دفتي المصحف موحى به من الله نصاً ومعنًى ، وهذا بخلاف الكتب السماوية الأخرى حيث المعنى وحده هو من الله ، وهي في ذلك أشبه بالأحاديث القدسية في الإسلام.
    والبراغماتية بالذات هي آخر فلسفة يمكن أن تكون لها علاقة بهذا الموضوع لعدة اعتبارات منها:
    1/ البراغماتية ـ كما سبق أن بينا ـ اهتمامها الأساسي بالحاضر وبالمستقبل وليس بالماضي.. ليس يالتاريخ.
    2/ البراغماتية ترفض مبدئياً الأفكار والمبادىء والقيم القبلية خلِّ عنك النصوص.
    3/ لا توجد أي أرض مشتركة ـ كما سبق أن بينا ـ بين التعامل مع الواقع وفق النص الديني والتعامل مع الواقع وفق النظرة البراغماتية .. وأيسر ما يقوم عليه الخلاف بين النظرتين هو أن الواقع ، حسب الفهم الذي يقوم على النص الديني، هو تجسيد لإرادة الله .. وهذا أمر مرفوض من البراغماتية بصورة مبدئية وقاطعة.
    ورغم كل ذلك حاول د. النور ـ كشأنه في تبسيط الأمور والخروج بها من اطارها ـ حاول ربط البراغماتية بإشكالية النص!! فلنرى بعض أقواله في هذا الصدد فهو مثلاً يقول: "البراغماتية تعني فيما تعني مواجهة سلطة النص حين يصبح تطبيق النص غير عملي أو حين يقف النص ضد المصلحة عامة كانت أم خاصة" 1 ويقول: "فقد اتسم الفكر الجمهوري بالكثير من البراغماتية فيما يتعلق بفحص سلطة النص والوقوف بعقلانية راسخة أمام أقوال السلف.." 4 فهل كان الفكر الجمهوري في موقفه من النص يستلهم البراغماتية أو كانت البراغماتية بعض مصادره في التعامل مع النص؟!! من المؤكد أن شيئاً من هذا لم يحدث على الاطلاق .. وهل البراغماتية كمفهوم ـ لم تستلهمه الفكرة ـ وانما فقط كمفهوم يستخدمه النور لتوضيح موقف الفكرة من النص ، هل هذا الاستخدام يمكن أن يكون موضوعياًً وله وجه من الصحة؟! الإجابة: قطعاً لا!! وذلك لعدة اعتبارات أهمها ما سبق أن بيناه بصورة كافية من اختلاف جذري بين نظرة الفكرة للواقع ، ونظرة البراغماتية له ، ومن الأسس المتناقضة بين نظرة الفكرة للواقع وللنص ونظرة البراغماتية لهما.. فنظرة الفكرة تقوم على اسس دينية ، المحك فيها التوحيد والشريعة .. ونظرة البراغماتية تقوم على أسس فلسفية المحك فيها المنفعة ، دون أي اعتبارات أخرى كاعتبارات الدين المتمثلة في القيم والمبادىء.
    ومن أقوال د. النور: "من أهم السمات البراغماتية هي ألا يعمينا النص عن رؤية الواقع بعبارة أخرى ألا نستعيض بتصوراتنا المسبقة ـ سواء كانت حدساً أو نبوءات وردت في النصوص المقدسة أو تأويلات لتلك النصوص المقدسة أو حتى نظريات سياسية وضعها البشر ـ يجب ألا تعمينا تلك الأمور عن مراقبة حركة الواقع والتفاعل الظرفي معها.." 4 السؤال: على أي اسس تتم مراقبة حركة الواقع؟ وكيف يتم التفاعل الظرفي معه ولأي غاية؟! ما هي الموجهات التي تحدد هذه الأمور؟! في الفكرة الجمهورية ، الأمر واضح من حيث المبدأ ، فمراقبة حركة الواقع تتم من خلال خلق العلاقة بالله ، عن طريق منهج التوحيد ، لمعرفة حكمة الله في فعله ـ الواقع الظرفي ـ والعمل وفقها لتحقيق الغايات المنشودة في أنفسنا ، وفي الكون من حولنا .. وفي هذا المنهج ، النص لا يعمى عن الواقع وانما هو الذي يضىء الواقع ويستخرج منه دلالاته .. وحسب فهم الفكرة ، الواقع نفسه نص!! بمعنى أن الواقع هو كلام الله الخَلقي .. فكلام الله في حقيقته خلق وما القرآن بين دفتي المصحف إلا صورة لفظية لهذا الكلام ، ولذلك القرآن بين دفتي المصحف هو منهاج حياة وفقه نتخلق بأخلاق الله الموجودة في القرآن ، ونخلق الصلة به تعالى والتي بها نعلم عنه حديثه ، في كلامه الخلقي ، والذي أسماه النور "حركة الواقع" .. وفي هذا المجال ، وفي قمته ، يجىء حديث الأستاذ عن الحروف الصوتية والحروف الفكرية والذي جاء فيه:
    "وأما الحروف الصوتية، فهي لا حصر لها، وذلك لأنها تنتج عن حركات المتحركات، وكل ذرات المادة في حركة ما تنقطع .. ويقابل عددها في الخارج عدد مماثل في داخل النفس البشرية .. وهي، في ذلك، المسموع منها، وغير المسموع، تؤلف الخواطر التي تجيش في العقل الواعي، وفي طرف العقل الباطن، مما يلي العقل الواعي، مما تصح تسميته بالعقل شبه الواعي ..
    وأما الحروف الفكرية، فهي ملكوت كل شيء .. وهي كلمات الله التي قال عنها، جل من قائل: (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي، لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي، ولو جئنا بمثله مددا)".
    الشاهد أن هذا العالم وأحداثه ، حسب الفكرة الجمهورية ، مصنوع من مادة الفكر .. يقول الأستاذ محمود: " فالعالم هو تجسيد علم الله – هو تجسيد فكر العقل الكلي، المحيط، والمطلق، في ذلك – وإنه لحق أن العالم قد صنع من مادة الفكر، ومن أجل ذلك جاءت كرامة الفكر .. ولم يجعل الله هاديا في شعاب ظلمات العالم غير نور العقل القوي الفكر .. وإنما من أجل تقوية الفكر أرسل الله الرسل، وأنزل القرآن، وشرع الشرائع" كتاب "لا اله الا الله" .. والعقل المعني هنا هو العقل المروض ، المؤدب بأدب الشريعة وأدب الحقيقة - (أدب الوقت) - فهو الذي يدرك "حكم الوقت" ، في كل وقت .. لقد حلت الفكرة الجمهورية قضية إشكالية النص بصورة نهائية عن طريق مفهوم التأويل وما يقوم عليه من منهج التوحيد.. وأما بحثك لحل القضية في البراغماتية وغيرها فبحث عن الشىء في غير مظانه وهو لن يفلح في شىء ولم يفلح في شىء.
    يقول دكتور النور: "يقول الأستاذ محمود: إن الدليل على كبر جسد الواقع على جلباب النص هو أننا اليوم نرسل بناتنا إلى الجامعات وإلى كليات القانون فيتخرجن قاضيات.."!!4 الأستاذ محمود لم يقل ذلك!! لم يقل إن "الواقع كبر على جلباب النص" بهذا التعميم!! فالأستاذ يتحدث عن الشريعة وليس عن النص وهو قد قال: " لدينا اليوم، في الخرطوم، قاضية شرعية، تخرجت من كلية الحقوق، بجامعة الخرطوم .. وهذا يعني أنها تمارس، أو من حقها أن تمارس حقها في تطبيق الشريعة الإسلامية على المتحاكمين إليها، على قدم المساواة مع زميلها الذي تخرج معها .. ولكن هذه الشريعة تقول أن شهادة هذه القاضية إنما هي على النصف من شهادة زميلها هذا .. أكثر من هذا!! فإن شهادتها إنما هي على النصف من شهادة رجل الشارع!! فهل هذا قول سليم؟؟ لعمري!! إن الخلل ليس في الدين، ولكنه إنما هو في العقول التي لا يحركها مثل هذا التناقض لتدرك أن في الأمر سرا .. هذا السر هو ببساطة شديدة، أن شريعتنا السلفية مرحلية .. " كتاب "تطوير شريعة الاحوال الشخصية" ط 2 ص 48 .. والأستاذ محمود في هذا الموضوع يعتمد على النص وهو قوله تعالى "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف" .. حقوقهن لقاء واجباتهن "حذوك النعل بالنعل" .. وهذا وارد في نفس الصفحة .. والنور ينسب للأستاذ خلاف ما يقول وهذا أمر غير مقبول وغير لائق .. وهو أمر عند النور متكرر، وقد سبق لنا أن أوردنا، تحويره لقول الأستاذ عن "الفاعل الحقيقي والفاعل المباشر" ليصبح الفاعل المباشر، والفاعل غير المباشر!! وهو تحوير مخل جداً لأن قضية الفاعل الحقيقي تتعلق بالقضية المحورية في الفكرة ـ وهي وحدة الفاعل، وهي مدلول كلمة التوحيد "لا إله إلا الله".. ود. النور يرى كبر الواقع على النص بصورة عامة، وهذا أمر يختلف اختلافاً أساسياً مع رؤية الأستاذ، والذي يرى أن آيات الأصول ـ وهي نصوص بالطبع ـ تستوعب طاقات العصر، وتحل مشكلاته.. بل يذهب الأستاذ إلى أبعد من ذلك ـ فهو يقول: "هل تريدون الحق؟؟ إذاً فاسمعوا!! لا كرامة لمطلق حي على هذا الكوكب، إلا ببعث أصول الإسلام.. إلا ببعث آيات الأصول التي كانت منسوخة، ونسخ آيات الفروع التي كانت ناسخة في القرن السابع"!! وسنرى كيف أن النور يرى أن الواقع أكبر من أي نص، بما في ذلك آيات الأصول، خصوصاً عندما نتحدث عن الربا!!.
    ومن حق النور أن يرى، ما يرى، ولكن ليس من حقه، بأي حال من الأحوال، أن يحور، أقوال الأستاذ، فيجعلها بغير حق تعبر عن آرائه هو!!.
    يقول د. النور: "من الكبسولات المعرفية الممتلئة معنى التي وردت في كتابات الأستاذ محمود محمد طه قوله إن الدين قد نشأ في الأرض وألمت به أسباب السماء فهذبته وهذا يعني أن التشريع لا يجىء كلياً من الغيب وإنما يتشكل التشريع نتيجة لظروف الصراع الاجتماعي على أرض الواقع.. ولقد تضمن القرآن الكثير من التشاريع اليهودية.." عبارة: "وهذا يعني أن التشريع لا يجىء كلياً من الغيب..الخ" ليست من أقوال الأستاذ وأقوال الأستاذ لا تؤدي إليها بهذا المعنى الذي يريده النور ـ فعند الأستاذ لا يوجد شىء ليس هو من "الله".. فهو تعالى الفاعل لكل شىء في الوجود.
    هذا مبدأ أساسي في الفكرة.. الاختلاف فقط في الطريقة التي تصدر بها الأشياء عن الله.. فقول النور: "وانما يتشكل التشريع نتيجة لظروف الصراع الاجتماعي". ظروف هذا الصراع الاجتماعي هي من الله، من الغيب، هي كلام الله الخلقي ـ الإسلام العام.. والتشريع الذي يجىء به كلام الله، والمصبوب في قوالب اللغة العربية ـ القرآن بين دفتي المصحف ـ انما به تتم تصفية الرضا من الإرادة وقد أشار د. النور إلى موضوع الرضا والإرادة بقوله: "كما أشار الأستاذ محمود إلى ضرورة التفرقة بين "الرضا" و"الإرادة" فالواقع هو تجسيد الإرادة والفكرة التي تمثل الحلم انما هي تجسيد الرضا" وهذا قول غير صحيح ، فالواقع يجسد الرضا والإرادة معاً.. و"الفكرة" لا تجسد الرضا إلا عندما تعاش.. فمعيشة الرضا هي تجسيد الفكرة.. وبدل هذا التعميم والتخريج غير الصحيح كان الأولى بالنور أن يورد نص كلام الأستاذ ثم يقدم فهمه ليعطي القارىء فرصة الحكم.. فلنورد نحن كلام الأستاذ لنرى هل يتمشى مع ما فهمه النور؟!..يقول الأستاذ محمود من كتاب "تطوير شريعة الأحوال الشخصية" ما نصه: " هذا يسوقنا، في استطراد بسيط، إلى تصحيح خطأ شائع، وهو الزعم بأن الدين قد نزل من السماء .. والحق أن الدين نبت في الأرض، وألمت به أسباب السماء، فهذبته، ونقته، ووجهته .. في تسام مقصود به أن تلحق الأرض بأسباب السماء، فإن رب الأرض، ورب السماء واحد .. قال تعالى: ((وهو الذي في السماء إله، وفي الأرض إله، وهو الحكيم العليم)) ..
    فإله الأرض، إله الإرادة .. وإله السماء، إله الرضا .. إله الأرض الرحمن، وإله السماء الله .. وإنما هما إله واحد: ((قل ادعوا الله، أو ادعوا الرحمن، أياً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى .. ولا تجهر بصلاتك، ولا تخافت بها .. وابتغ بين ذلك سبيلا)) وإنما، من ههنا، قررنا أن دين الإسلام العام هو الإرادة، ودين الإسلام الخاص هو الرضا .. وقررنا أن مهمة الوحي هي استخلاص الرضا من الإرادة بواسطة العقول البشرية المؤدبة بأدب السماء .. "
    فإله السماء وإله الأرض إله واحد.. وما يحدث في الواقع في الأرض وما ينزل من السماء لا يخرجان من فعل هذا الإله الواحد .. واستخلاص الرضا من الإرادة بواسطة العقول البشرية المؤدبة بأدب السماء هو السبيل لأخذ الجانب المستنير والإنساني من الحضارة الغربية الوارد في قول النور "وعلينا نحن الآن أن نأخذ بالجانب المستنير والإنساني من بنية الحضارة الغربية" .. وهذا ما قامت به الفكرة الجمهورية بالفعل ، وهي لم تكن في ذلك بحاجة للأخذ بالفلسفة البراغماتية ، ولم تفعل .. ولا سبيل لأخذ هذا الجانب المستنير من الحضارة بغير العقول المؤدبة بأدب السماء ، ولا سبيل لهذه العقول بغير المنهج الذي يفضي إليها ، وهو "طريق محمد" صلى الله عليه وسلم وليس أي منهج غيره .
    نستميح القراء عذراً في أن ننقل لهم هذا النص المطول من حديث الدكتور النور فهو يقول: "الفكرة ـ أي فكرة ـ والنص ـ أي نص ـ بما في ذلك النصوص المقدسة إنما هي حلم .. والواقع يستهدف الحلم ويسترشد بالحلم فالمثال أي "الفكرة" في تجربة آدم ليس هو "المثال" في تجربة موسى و"المثال" في تجربة موسى ليس هو "المثال" في تجربة عيسى و"المثال" في المسيحية ليس هو "المثال" في الإسلام.
    المثال والحلم يتغيران بتغير الأزمنة ومن طبيعة الواقع ـ أي واقع ـ أن يفلت من الفكرة في كل تجلياتها أرضية كانت أم سماوية .. فالواقع لدى النظر الشامل والثاقب هو أيضاً تجلٍ سماوي به تتم محاورة "الفكرة" ومقارعة سلطة "المثال" .. هذه المقارعة هي التي ينتج عنها التوسع والتعميق وهي التي تقود إلى الخروج على النصوص حيث يكبر جسد الواقع على جلباب النص .. ولو طبقنا هذا المفهوم على حالة الصراع التي جرت بين علي ومعاوية لأدركنا معنى عبارة "يحتاج إلى فكر يغطس الزانة ويطفِّح المسحانة" .. فجسد الواقع قد كبر في تلك اللحظة التاريخية على جلباب الدين في النسخة التي كان يمثلها علي بن أبي طالب وغيره من زاهدة الصحابة وأتقيائهم"!! 2 .
    ما معنى كون الفكرة أي فكرة والنص أي نص بما في ذلك النصوص المقدسة إنما هي حلم؟! هل نص الدكتور هذا حلم؟! وكيف؟! وهل الأفكار عن التاريخ والنصوص عن التاريخ هي حلم؟! كيف هي كذلك؟! هل النص القرآني مثلاً في قوله تعالى: "تبت يدا أبي لهب وتب" هذا حلم؟! وبأي معنى؟! وكيف يستهدف الواقع هذه النصوص التاريخية التي يفترض فيها أن تكون حلماً ولا يذوب فيها؟!.
    ما هو دليل الدكتور أن المثال في تجربة الأنبياء الذين ذكرهم يختلف من واحد للآخر؟! هو لم يوضح المثال المعني هنا!! ولكن "المثال" أو "الفكرة" في تجربة هؤلاء الأنبياء هو "لا إله إلا الله" التي جاءوا بها جميعاً .. فالمثال لا يختلف وإنما التحقيق هو الذي يختلف ، ومنهج التحقيق هو الذي يختلف .. والقول بأن الواقع ، أي واقع ، من طبيعته أن يفلت من الفكرة في كل تجلياتها ، أرضية كانت أم سماوية ، قول خاطىء ، شديد الخطأ .. فالواقع حسب التوحيد، أي واقع، لا يفلت ولا يمكن أن يفلت من كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" .. فالواقع ، أي واقع ، وكل واقع ، هو مظهر وتحقيق لهذه الحقيقة الكبرى وهذا سرمداً .. و"المثال" في النهاية هو ذات الله ، التي تتسامى عن كل قيد وتعلو على كل واقع أو فكر.. ومن هذا الإطلاق يجىء التنزل في المستويات المختلفة.. والقرآن نفسه كنص عند التناهي هو "الذات المطلقة" وإنما في مرحلة معينة من التنزل تم صبه في قوالب اللغة العربية ، لعلِّة أن نفهم نحن الذين نفهم عن طريق اللغة ، وإلا فان الله تعالى ليست له لغة.. يقول الأستاذ محمود عن القرآن من كتاب "الرسالة الثانية من الإسلام": " ومن أجل هذا فإنه باطل ، زعم من زعم أن القرآن يمكن أن يستقصى تبيينه.. ذلك بأن القرآن هو ذات الله.. وهذه الذات تنزلت ، بمحض الفضل، إلى مدارك العباد ليعرفوها، فكانت القرآن في تنزلاته المختلفة: الذكر، والقرآن، والفرقان. وفي منزلة الفرقان هذه انصب في قوالب التعبير العربية ، واستعملت هذه القوالب أبلغ استعمال لتشير الى منزلتي القرآن ، والذكر ..".
    وقول الدكتور: "فجسد الواقع قد كبر في تلك اللحظة التاريخية على جلباب الدين في النسخة التي كان يمثلها علي بن أبي طالب وغيره من زاهدة الصحابة" قول خاطىء .. فليس لسيدنا علي وزاهدة الصحابة دين خلاف الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم .. والواقع في تلك اللحظة لم يكبر على جلباب هذا الدين وهو لن يكبر عليه في لحظة من لحظات الزمان المقبل!! وإنما كبر على الشريعة .. بل لدى الدقة ، بدأ يكبر على الشريعة في بعض جوانبها المتعلقة بتنظيم المجتمع .. ان حديث الأخ الدكتور عن الواقع والفكرة، يقوم على تخيل كبير ، والواقع أنه استأنس ببعض كتابات النقد الأدبي ونقلها إلى غير مجالها .. فالتاريخانية في الأدب لا تقوم على التاريخ الموضوعي ، فزمن الرواية مثلاً في التكنيك الروائي، ليس هو الزمن التاريخي .. وكذلك الواقع في العمل الأدبي، والفني، ليس هو الواقع الموضوعي .. وعندما يناقش النقد الأدبي قضية إشكالية النص فهو يناقشها في إطار النص الأدبي ، وفي هذا الإطار ، الكاتب للنص محكوم بإطره الاجتماعية والفكرية والثقافية والنفسية ، والنص الذي يكتبه أيضا .. وكذلك زمن النص في الأدب هو الزمن الذي يفترضه المؤلف كزمن متخيل حسب التكنيك للعمل الفني المعين.. ولكن الزمن في التاريخ ، والواقع في التاريخ ، يختلفان تماماً عن الزمن والواقع في العمل الفني.. والنص في القرآن لا تحكمه القيم والمعايير التي تحكم النص الفني لأن المتكلم فيه هو الله!!.
    المهم الواضح أن هناك تخليطاً واضحاً في مفهوم الواقع ومفهوم النص فيما كتب د. النور بصورة تجعل حديثه الذي أوردنا منه النص المطول أعلاه مجرد حديث إنشائي خالٍ من المفاهيم المحددة.
    نواصل ...
                  

08-29-2005, 01:26 PM

عاطف عمر
<aعاطف عمر
تاريخ التسجيل: 11-26-2004
مجموع المشاركات: 11152

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الأستاذ خالد الحاج: الفكرة الجمهورية والبراغماتية (Re: Omer Abdalla)


    الأخ عمر عبدالله

    تحياتي والإحترام


    Quote: نواصل ...


    نتابع هذا الحوار الشيق باهتمام بالغ

    أرجو - إن لم يكن هناك ما يمنع - مواصلة إنزال حلقات

    الأستاذ خالد الحاج ، وأن تعمل على إدارة الحوار بين المتداخلين

    بالكيفية التي تفيد المتابعين

    شكري الجزيل
                  

08-31-2005, 09:25 PM

Omer Abdalla
<aOmer Abdalla
تاريخ التسجيل: 01-03-2003
مجموع المشاركات: 3083

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الأستاذ خالد الحاج: الفكرة الجمهورية والبراغماتية (Re: Omer Abdalla)

    أخي الأستاذ عاطف
    تحية طيبة
    تسرني جدا متابعتك لهذا الحوار الشيق كما وصفت .. سأنزل بعد قليل الحلقة السادسة وهي آخر ماوصلني من حلقات على أمل وصول البقية ونشرها فور وصولها .. أرجو أن يجد الأخ النور براح من الوقت ليعقب على ما أثاره الأستاذ خالد الحاج من نقاط حول فهم الدكتور النور للبرغماتية ومحاولته ربطها بمواقف الفكرة الجمهورية ..
    كما أرجو أن نقرأ مشاركاتك ومداخلات المتابعين لهذا الخيط التثقيفي ..
    عمر
                  

08-31-2005, 09:31 PM

Omer Abdalla
<aOmer Abdalla
تاريخ التسجيل: 01-03-2003
مجموع المشاركات: 3083

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الأستاذ خالد الحاج: الفكرة الجمهورية والبراغماتية (Re: Omer Abdalla)


    تعقيباً على دكتور النور حمد
    الفكرة الجمهورية والبراغماتية (6)
    البراغماتية والمنفعة
    خالد الحاج عبد المحمود

    ترجع الفلسفة المنفعية إلى الأبيقوريين .. وفي الفلسفة الحديثة، إشتهر بها بنتام وميل .. وتعتبر البراغماتية فلسفة منفعية.. وقد جعلت البراغماتية المنفعة هي الغاية، وهي المعيار الذي تقيس به الحق فكل فكرة تقودنا إلى النفع، وإلى النتيجة المرغوبة، هي حق .. والعكس صحيح، كل فكرة لا تقود إلى المنفعة وإلى ما هو مرغوب فهي باطلة.. فالبراغماتية تفسر الأفكار بنتائجها.. ولا توجد إشكالية، في أن تكون المنفعة هي الغاية، ولكن المشكلة في تصور المنفعة نفسها وهل تتم هذه المنفعة على حساب الآخرين، أم هي مرتبطة بمصالح الآخرين.. فمشكلة المنفعة، هي تعبير عن مشكلة علاقة الفرد بالمجتمع.. ولذلك العبرة بالقيم التي توجه السعي إلى تحقيق المنفعة.. والآن لنرَ بعض أقوال فلاسفة البراغماتية، عن المنفعة، يقول وليم جيمس: "وإذاً، فلكي نبلغ الوضوح التام في أفكارنا عن موضوع ما فإنا نحتاج إلى اعتبار ما يترتب من آثار يمكن تصورها" 1-65 ويقول: "ومن ثم فإن (الحقيقي) بإختصار جداً، ليس سوى المطلوب النافع، الموافق في سبيل تفكيرنا، تماماً مثلما أن (الصحيح) ليس سوى المطلوب النافع الموافق في سبيل سلوكنا" 1-262 فالمنفعة هي التي تحدد الصحة الفكرية، والصحة السلوكية.. وللإيضاح أكثر، يقول وليم جيمس: "إن الوفاء والجزاء والأرباح، التي تجلبها الأفكار الصحيحة، هي العلة الوحيدة لواجبنا في اتباعها واقتفاء أثرها" 1-271 ويقول: "فالفوائد المحسوسة والمنافع الملموسة التي نكسبها هي ما نعنيه بتسمية السعي في المطلب واجباً) 1-271 فالسعي الواجب هو السعي الذي يستهدف تحقيق "الفوائد المحسوسة، والمنافع الملموسة" .. ويقول جون ديوي: "الحقيقة هي ما تعطي ترضيه أو إشباعاً أو (إكفاء).." 1-275 ويقول وليم جيمس، عن الحقيقة التي ترتبط بمطلب عملي، أو بمطلب عاجل، من مطالبنا، وبضرورة ملحة من ضروراتنا، يقول عنها "في وسعك أن تقول عنها عندئذ.. أنها مفيدة لأنها صحيحة" أو "أنها صحيحة لأنها مفيدة" 1-241.
    يقول د. سعيد إسماعيل: "والطابع الغالب على المعنى الذي ألبسه جيمس للبراغماتية، هو طابع "النفع"، الذي فرح به عندما عثر على اصطلاح "القيمة الفورية" Cash Value لما نصفه بأنه صادق، وكأن العبارات الصادقة مثل السلع المطروحة في السوق، قيمتها فيما يدفع فيها من ثمن، لافي ذاتها" 3-6 وقد إشتهرت البراغماتية، بالسؤال: Does it cash هل يحقق الموضوع منفعة فورية؟!.
    إذاً المنفعة في البراغماتية، هي الغاية وهي معيار الحق، والصدق.. وقد ذكرنا أن البراغماتية لا تؤمن بغائية شاملة، في الكون.. ويدافع أنصار البراغماتية، بأن المنفعة المعنية، ليست هي "النفعية" الضيقة، التي تقوم على الأنانية.. لنفرض، أنهم فعلاً يعنون ذلك نظرياً، فما الذي يخرجهم من "النفعية" الضيقة، عملياً، طالما أنهم لايؤمنون بمبادئ وقيم، قبلية، توجه تحقيق المنفعة التي يدخل فيها اعتبار الآخرين.. كما ليست لهم اعتبارات روحية، تجعلهم يضحون بالمصلحة العاجلة، في سبيل مصلحة آجله، أو تجعلهم في سعيهم لتحقيق المنفعة يراعون اعتبارات غيرهم، أو يؤثرونهم!؟
    في الواقع - حسب فلسفتهم - لا شئ يعصمهم من أن تكون المنفعة عندهم هي "النفعية" الضيقة.. وهذا يجعل المعنى الدارج للبراغماتية، يقوم على أصل في الفلسفة.. فالبراغماتي، حسب المعنى الدارج للمصطلح هو الذي يسعى في تحقيق مصالحه الذاتية، دون أن تحكمه مبادئ أو قيم.. وفي الواقع هذا هو تعريف البراغماتية، الموجز حسب المعالج.. ففي معجم Cambridge Advanced Learners Dictionary جاء:

    Pragmatic: solving problems in a realistic way which suits the present conditions rather than obeying fixed theories, ideas or rules

    ويمكن ترجمته بـ "حل المشاكل بطريقة واقعية، تتناسب مع الظروف الحالية، بدل العمل وفق نظريات ثابتة، أو أفكار أو قوانين ومعايير".. وهذا هو المعنى الذي يتبادر إلى الذهن عندما تستخدم كلمة براغماتية، أو براغماتي.
    وكل ما ذكرناه، في هذا الجانب عن البراغماتية، يتناقض مع الفكرة الجمهورية، ومع الإسلام عموماً.. فالفكرة تقوم على اعتبار أن منفعة المسلم الحقيقية والباقية، هي مرضاة الله، ومرضاة الله تقتضي العمل لمنفعة خلقه، حسب توجيهاته الواردة في القرآن وفي السنة وهذا العمل في سبيل الآخرين مطلوب أن يقوم ولو كان يفوّت على صاحبه مصلحة عاجلة في سبيل مصلحة آجلة أو حتى لو كان صاحب العمل به حاجة لما يقدمه للآخرين "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة" .. "والخلق عيال الله أحبهم إلى الله أنفعهم لعياله" .. والمنفعة في الفكرة - وفي الإسلام عموماً – على عكس البراغماتية ، تحددها معايير محددة سلفاً .. وهذه المعايير كلها تقوم على ضرورة مراعاة مصلحة الآخرين والعمل على تحقيقها .. وهذا هو معيار التدين الحقيقي .. والبراغماتية فيما يتعلق بالمنفعة لا تملك الا أن تكون في جانب الأنانية السفلى ، خصوصاً أنها ليس لها تصور نظري ولا منهاج عملي، للتسامي عن هذه الأنانية ، هذا في حين أن الفكرة الجمهورية ، ولأنها تقوم في الأساس على مراعاة الجانب الروحي – مراعاة مرضاة الله – فإنها تقوم على منهج واضح في التربية مبني على مراعاة اعتبار الآخرين وتوصيل الخير إليهم عن محبة وإخلاص وهذا يتم مهما كان موقف هؤلاء الآخرين .. ففي حديث "اوصاني ربي بتسع، أوصيكم بهن" جاء "أن أعطي من حرمني" و "أن اصل من قطعني" .. والدعوة كلها قائمة، على التخلق بأخلاق الله، الواردة في القرآن الكريم، ومنها قوله تعالى: "إن الله بالناس لرؤوف رحيم" فالمطلوب ان نكون رؤوفين، رحماء بالناس.
    فالفكرة الجمهورة، والبراغماتية، في هذا الجانب (جانب المنفعة، وتصورها، والعمل على تحقيقها) لا يلتقيان .. بل هما في الواقع يتناقضان .

    مشكلة الشرق الأوسط والبراغماتية
    اعتقد انني بينت بصورة كافية، أن الفكرة الجمهورية، كما يدعو لها الاستاذ محمود محمد طه، وكما عاشها، تختلف بصورة جذريه، عن الفلسفة البراغماتية، وفي جميع مبادئها الأساسية .. والاختلاف يصل الى حد التناقض، في القضايا الجوهرية .. ولكن لابد من التعليق على ماقاله د. النور عن موقف الأستاذ محمود، من مشكلة الشرق الاوسط، كنموذج ضربه النور لما يعتبره، مواقف براغماتية للأستاذ محمود .. وهذا النموذج بالذات يوضح المدى البعيد في التبسيط، وفي عدم الموضوعيه الذي ذهب اليه النور .. فالنور يقول: "لقد كان الأستاذ محمود محمد طه، براغماتيا في موقفه المبكر، الذي دعا فيه العرب الى الاعتراف باسرائيل .. وحين صدع الاستاذ محمود محمد طه بذلك الموقف الجرىء بعد حرب 1967 مباشرة، استنكر الناس موقفه ذاك اشد الاستنكار" 5 .. أولاً ، موقف الاستاذ، كان معلناً قبل الحرب، وليس بعدها مباشرة .. وهنالك اختلاف كبير بين الأمرين .. فالأستاذ عندما اعلن موقفه، في العديد من المحاضرات، كان داعيا لعدم دخول الحرب أساسا .. وكان يؤكد في تلك المحاضرات ان الحرب اذا نشبت لابد ان العرب مهزومون .. وكان ذلك يتم وفق تحليل سياسي، دقيق وواضح .. وخط الأستاذ هذا كان مناقضا لخط العرب عموما، وبصورة حادة وقد كان من الصعب قول مثل هذا الرأي، مع ظروف الهياج العاطفي الأهوج، الذي كان يغذيه الاعلام العربي، خصوصا إعلام جمال عبد الناصر المهيمن.. وقد بدأت المحاضرات بعد قفل خليج العقبة، وقبل الحرب، وكنا وقتها في كوستي، في وفد طائف ... وقد كان النشاط مكثفاً والمحاضرات تكاد تكون يومية واستمرت في كوستي وبقية المدن التي مر عليها الوفد حتى قيام الحرب وهزيمة العرب واستقالة عبد الناصر والرجوع عنها وكنا وقتها بمدينة الأبيض وقد صدر في الموضوع كتابا: "مشكلة الشرق الأوسط" و"التحدي الذي يواجه العرب" وقد تم تسليم الكتابين من قبل الجمهوريين باليد للزعماء العرب في مؤتمر الخرطوم الذي عرف بمؤتمر اللاءات الثلاثة.
    وقطعاً الأستاذ محمود ، لا في أحاديثه ولا في كتاباته ، لم يستلهم البراغماتية ولم تكن ضمن مراجعه ولم ترد أي إشارة إليها على الإطلاق ، وإنما كان الأستاذ في كل مواقفه من قضية الشرق الأوسط منسجماً تماماً مع أفكاره ومبادئه الدينية ، وكل موقف مرتبط بهذه الافكار والمبادئ بصورة لا يمكن فصلها ، وهذا ما يجعله موقفاً أساساً مناقضاً للبراغماتية بصورة جوهرية في موجهاته وفي منطلقاته وفي المبادئ التي يقوم عليها وفي الغايات التي يدعوا لها ... ولا شك أن د. النور قد ذكر أن الأستاذ لم يكن براغماتياً انتهازياً مثل د. الترابي .. وكرر أكثر من مرة أن الاستاذ عاش ما يدعو له .. ولكنه ايضاً ذكر أن موقف الاستاذ من مشكلة الشرق الأوسط لا يتماشى مع ما أسماه هو بالمبدأ الأخلاقي العام!! مما يمكن أن يوهم بأن موقف الاستاذ لم يكن قائماً على المبادئ والقيم وإنما على الجانب العملي فقط حسب ما عليه من ظروف الواقع وهذا هو فهم د. النور للبراغماتية!!.
    يقول د. النور: "يقول المبدأ الأخلاقي العام إن على الإنسان ان يستميت في الدفاع عن أرضه المغتصبة وأن يناضل حتى الموت لاسترجاعها . هذا هو المبدأ الأخلاقي بشكل عام والتمسك بالمبدأ على هذا النحو دون التحلي بالمرونة والعقلانية اللازمتين تجاه ما يحيط بذلك الخيار من ملابسات في الظرف الزمكاني المعين ربما قاد إلى الانتحار في بعض الأحيان وربما قاد أيضاً إلى مزيد من الخسران خاصة حين تكون قوة المقاومة أضعف بكثير من قوة المغتصب كما هو الحال في مثال النزاع العربي الإسرائيلي" 5 .
    لكي يكون موقف الأستاذ موقفاً براغماتياً ينبغي أن يكون الاستاذ صاحب مصلحة مباشرة ... فالصحيح في البراغماتية كما بينا هو ما هو نافع وبصورة مباشرة لا علاقة لها باعتبار الله والدار الآخرة .
    وما أسماه النور مبدأً اخلاقياً عاماً هو ليس كذلك ، ولا يمكن أن يكون كذلك ، فمن أساسيات الأخلاق أن يقوم العمل على الفكر وأن يراعي الآخرين .. يقول الاستاذ محمود "الأخلاق مرتبطة بالفكر ومرتبطة بالآخرين" هذه هي طبيعة الأخلاق نفسها فما تقتضيه المرونة ومراعاة الظرف الزمكاني هو من طبيعة الاخلاق وليس مجرد حياد عنها للضرورة العملية .. فعن تعريف الأخلاق يقول الأستاذ: "الأخلاق في الاسلام ليست هي الصدق والأمانة ومعاملة الناس بما تحب أن يعاملوك به إلى آخر هذه الفضائل السلوكية المحمودة .. وإنما هذه نتائج للأخلاق وثمرتها ولكن الأخلاق هي حسن التصرف في الحرية الفردية المطلقة وحسن التصرف هذا بإزاء الخالق أولاً والخلق ثانياً وفي نفس الأمر" .. وحسن التصرف لا يقوم بدون فكر دقيق .. فلا يوجد شئ في الأخلاق اسمه "التمسك الأعمى بالمبدأ الأخلاقي" كما يقول د. النور فالتمسك الأعمى هو مناقض للأخلاق بصورة أساسية .. فالمشكلة تكمن في مفهوم د. النور للأخلاق فقوله: "فبعبارة أخرى ربما أصبح التنازل عن التمسك الأعمى بالمبدأ الاخلاقي ضرورة عملية "أحياناً" خاصة حين يصبح ذلك التمسك معيقاً وضاراً بالمصلحة أو مفضياً إلى نهاية مغلقة" .
    هذا قول لا معنى له فهو يدل على قصور في إدراك مفهوم الأخلاق.. فالعمل الأعمى والمعيق والضار بالمصلحة هو بالضرورة عمل غير اخلاقي .. بشرط ألا تكون هذه الاعتبارات اعتبارات ذاتية تقوم على الهوى .. ولذلك قال الأستاذ في رده على أسئلة الأخ أحمد الحسين "المهم في أمرك أن تأخذ ضوابط سلوكك من الشريعة حتى يجد عقلك التوجيه السليم من أمر خارج عنه حين تلتبس المسالك وتختلط السبل".
    لقد كان الأستاذ قبل الحرب وحسب تحليله للموقف السياسي يرى أن الحرب لو نشبت سوف تؤدي إلى هزيمة العرب وخسرانهم بأكثر مما هم عليه من خسران .. ولو نصحهم بالحرب لكان هذا هو عدم الاخلاق ولكنه على الرغم من المعارضة الشرسة والهوجاء كان يحاضر ويصر على عدم دخول العرب الحرب .. ولو كان براغماتياً لكانت مصلحته المباشرة ان ينزل عند واقع العرب ويسايرهم ، فهو ليست له مصلحة ذاتية في الأمر فلا هو فلسطيني، وهو ضد القومية العربية، فالموقف كله موقف إنساني مبدئي ، ينطلق من قراءة للواقع مناقضة لقراءة البراغماتية له ومن دوافع مخالفة لدوافع البراغماتية .
    لقد تجاوز د. النور كل تعقيدات الموقف في الواقع التاريخي وفي العلاقات الدولية وفي اتجاهات السياسة العربية وفي الحقوق التاريخية للعرب وللإسرائيليين ليبسط الموضوع تبسيطاً جد مخل فيجعله مجرد علاقة بين محتل ومحتلين ، هذا مع أن عنوان كتاب "مشكلة الشرق الأوسط" جاء فيه "تحليل سياسي، إستقراء تاريخي، حل علمي" ولم يتعرض النور لأي شئ من كل ذلك وذهب كعادته في الابتسار والتبسيط ليقول ما قال.. 11 .
    نواصل ...

    (عدل بواسطة Omer Abdalla on 08-31-2005, 09:34 PM)

                  

09-05-2005, 08:13 AM

Omer Abdalla
<aOmer Abdalla
تاريخ التسجيل: 01-03-2003
مجموع المشاركات: 3083

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الأستاذ خالد الحاج: الفكرة الجمهورية والبراغماتية (Re: Omer Abdalla)


    تعقيباً على دكتور النور حمد
    الفكرة الجمهورية والبراغماتية (7)
    الواقع في مشكلة الشرق الأوسط بين الأستاذ محمود والبراغماتية
    خالد الحاج عبد المحمود

    ما هو الواقع بالنسبة للأستاذ فيما يتعلق بمشكلة الشرق الأوسط!؟ وهل له أي علاقة بالواقع كما تراه البراغماتية!؟.
    قراءة الواقع عند الأستاذ ـ كما ذكرنا مراراً ـ متعلق بالله وبكلامه وهذا يختلف جذرياً عن قراءة البراغماتية للواقع .. يقول الأستاذ من كتاب "مشكلة الشرق الأوسط" ما نصه: "أنا زعيم بأن الهزيمة المنكرة التي تعرضنا لها أخيراً في ميداني الحرب والسياسة إنما جاءت بصورة حادة لأن الله قد كلمنا بحوادث عام 1948 فلم نفهم ، ثم كلمنا بحوادث عام 1956 فلم نفهم ، وها قد كلمنا بحوادث عام 1967 بصورة بليغة وفصيحة ، وإني لأرجو أن نفهم الآن عن ربنا فهماً يغنينا عن إعادة كلامه علينا بهذا الأسلوب مرة رابعة".
    ويقول: "وما ينبغي أن نفهمه عن الله من كلامه هذا هو أن العرب لن ينتصروا على عدو إلا إذا رجعوا إليه تعالى ـ إذا انتصر الناس بغير طريق الإسلام فإن العرب لن ينتصروا بغير طريق الإسلام.. " هل هذا الكلام عن قراءة الواقع والتعامل معه له أي علاقة بالبراغماتية ونظرتها للواقع ، أم هو نقيضها تماماً لأنه مربوط أساساً بالغيب، بالله، وهذا ما يناقض جوهر البراغماتية!؟ وقراءة الواقع التاريخي في كتاب مشكلة الشرق الأوسط لا تقوم على مجرد العلاقة بين محتل ومحتلين كما هو تبسيط النور المخل.. وانما هو يقوم على نظرة شاملة لواقع الإنسانية ومقتضيات هذا الواقع وما يفرضه وما ينبغي أن يكون للعرب من دور حسب مقتضى هذا الواقع.. والقراءة كلها تقوم على مفهوم "حكم الوقت" كمفهوم ديني.. يقول الأستاذ في بداية الفصل الأول من كتاب مشكلة الشرق الأوسط تحت عنوان "صورة الأشياء": "هنالك ثلاثة أمور لا بد من استيقانها:
    * أولها أن حكم الوقت يقضي على هذه البشرية التي تعمر هذا الكوكب في هذا العصر أن تتوحد
    * وثانيها أن هذه البشرية لكي تتوحد لا بد لها من السلام
    * وثالثها أنها من أجل السلام لا بد لها من المدنية التي تنشر حكم القانون العادل
    فأما الأول فلأن التقدم التكنولوجي في وسائل نقل الناس والأشياء والأخبار قد ألغى الزمان والمكان، أو كاد، وقد توحد هذا الكوكب وأصبح أي جزء من أجزائه على مدى ساعات، وتقل هذه الساعات كل يوم جديد، ووحدة هذا الكوكب المكانية تواجه البشرية اليوم ببيئة مكانية جديدة وهذه المواجهة تشكل تحدياً على مدى لم يسبق للبشرية أن عرفته في تاريخها الماضي، ذلك بأنه مطلوب لديها أن توائم مواءمة تامة، بين حياتها وبين بيئتها هذه الجديدة بأن تحدث وحدة تامة، تنصهر فيها عناصرها المختلفة، وألوانها المختلفة وعقائدها المختلفة ولغاتها المختلفة أيضا،ً أو إن عجزت عن ذلك فقد مضت سنة الأولين بالأحياء الذين عجزوا عن أن يوائموا بين حياتهم وبين بيئتهم.
    إن العلم التجريبي الحاضر قد خدم البشرية على هذا الكوكب خدمات لا تحصى ولكن هناك خدمة لم نتفطن إلى الآن إلى حقيقة عظمتها وتلك هي أنه باطلاقه للطاقة الذرية، بتفتيته للذرة، قد لفت نظرنا إلى أن البيئة التي عاش فيها الأحياء قبلنا ونعيش نحن اليوم، ليست في حقيقتها مادية وإنما هي روحية ذات مظهر مادي" إلى أن يقول: "البيئة التي نعيش فيها الآن إذاً قد برهن العلم المادي التجريبي الحديث نفسه على أنها ليست مادية، وإنما المادة مظهر لشىءٍ وراء المادة، وهذا الشىء الذي وراء المادة يعبر الإسلام عن أدنى منازله من المادة بالروح، أو إن شئت التعبير الحديث قل بالفكر.. فالبيئة التي نعيش فيها فكرية، تجسدت فيها الأفكار واتخذت مظهراً نسميه نحن المادة. ومن ثم فالوحدة البشرية التي تطلب البيئة الحديثة إلى الإنسانية تحقيقها إنما سبيلها الفكر.. فالناس يختلفون في اللون وفي الإقليم، وفي اللغة وفي العنصر وفي العقيدة، ولكنهم كلهم يلتقون في العقل..
    وأما الثاني فان السلام مقدمة للفكر ونتيجة فهو كمقدمة إنما يمليه الخوف من الحرب، وذلك أمر قد توفر الآن وتوفر بما يكفي، والسلام في هذا المستوى ليس سلاماً وإنما هو ضرب من الحرب، كأن الناس فيه من خوف الحرب في حرب وهو مع ذلك ضروري لنصل إلى السلام السليم الذي يكون نتيجة للتفكير المستقيم.
    وأما الثالث فان القانون العادل لا يجىء إلا عن التفكير المستقيم، وهو لا يطبق ولا ينفذ، إلا بالعمل وفق التفكير المستقيم، لا يجىء بالتمني وإنما يجىء نتيجة العيش وفق منهاج لم يتوفر على تقديمه في أوجه، فكرٌ، ولا فلسفةٌ ولا دينٌ، كما توفر في الإسلام".
    هذه القراءة للواقع لا علاقة لها لا من قريب ولا من بعيد بالبراغماتية، أو أي فلسفة أخرى.. وهي ـ القراءة للواقع ـ الأساس الذي قام عليه تحليل الأستاذ، كما قام عليه الحل الذي قدمه الأستاذ للمشكلة.. وقد قدم الأستاذ دراسة تاريخية موسعة بيَّن فيها حق اليهود في المنطقة، وهذا ما لم يتعرض له النور.
    والأستاذ محمود مبدئياً ضد الحرب، ويرى أنها لم تعد تحل مشكلة وقصارى ما تؤديه، هو أن تقود إلى طاولة المفاوضات.. وموقفه من السلام موقف مبدئي ويشكل جوهر دعوته، فهو يقول: "إن حاجة العالم اليوم للإسلام هي حاجته للسلام.. وتلك حاجة "حياة" أو "موت" والإسلام دين السلام.. هو رسالته وهو جوهره.. قال المعصوم: "لكل شىٍ قلب وقلب القرآن (يس) و(يس) لها قلب".. وقد عرف العارفون أن قلب (يس) إنما هي قوله تعالى (سلامٌ قولاً من رب رحيم)".
    ولذلك عندما يتحدث الأستاذ عن الحل السلمي، لمشكلة الشرق الأوسط، إنما يتحدث عن جوهر الإسلام، وعن تلبية حاجة الإنسانية الأساسية في نفس الوقت.. إلى جانب تقديم الحل العلمي والعملي، لمشكلة الشرق الأوسط.. وقد طفف دكتور النور كل ذلك وجعل الأمر كله مجرد معالجة براغماتية للموضوع، ليس فيها أكثر من الاستجابة إلى ما يمليه الواقع بمفهوم ضيق، وبعيد جداً عن رؤية الأستاذ للواقع، هذه الرؤية التي ذكرنا طرفاً منها!!.
    ثم إن الحل نفسه يقوم على مرحلتين.. الحل العاجل وهو حل سياسي.. وقد قال الأستاذ: "فإذا تفطن العرب إلى حقيقة المشكلة فإنهم لن يتحدثوا إلا عن الحل السياسي، وبأي ثمن، ذلك بأن الحل العسكري غير ممكن على الإطلاق وذلك لأمر بسيط وهو أن العرب لا يحاربون دولة إسرائيل ، وإنما يحاربون من ورائها دول أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا الغربية.. وهم قد التزموا بالمحافظة على حدود دولة إسرائيل حسب ما يعطيها قرار التقسيم الذي اتخذته الأمم المتحدة في التاسع والعشرين من نوفمبر عام 1947" والحل العاجل الذي اقترحه الأستاذ يقوم على قرار 1947 هذا، وعلى قرار ديسمبر 1948 -قرار إعادة اللاجئين - وهما قراران التزمت بهما إسرائيل عند دخولها هيئة الأمم..
    والمفاوضات التي اقترحها الأستاذ محمود تقوم على:
    1/ إنهاء حالة الحرب التي ظلت قائمة بين العرب وإسرائيل، والاعتراف لإسرائيل بحق البقاء في سلام، وأمن واحترام لسيادتها على أراضيها.
    2/ احترام حق إسرائيل في المرور البرىء بالممرات المائية ـ خليج العقبة وقناة السويس.
    3/ انسحاب القوات الإسرائيلية والسلطات الإسرائيلية من الأراضي العربية التي احتلتها إسرائيل على التوالي.. في حروب 15 مايو عام 1948 و29 أكتوبر عام 1956 ، و5 يونيو عام 1967.
    4/ ارجاع اللاجئين العرب الذين أخرجوا من ديارهم، أثناء هذه الحروب أو بعدها.
    5/ ضمان مجلس الأمن "الأمم المتحدة" بحدود الدولة العربية الجديدة، التي تنشأ نتيجة لتنفيذ مشروع التقسيم الأصلي، ولتأكيد هذا الضمان توقف على الفور الهجرة اليهودية إلى دولة إسرائيل.
    6/ تأخذ هيئة الأمم المتحدة على دولة إسرائيل تعهداً بألا تحاول أي توسع في أرض أيٍ من الدول العربية المجاورة.
    وقد أنذر الأستاذ العرب من التباطؤ في الأخذ بهذا الاقتراح لأن الابطاء يفقدهم قوة المساومة.. وكل يوم يتأخره العرب سيفقدون أكثر مما فقدوا.. وهذا ما حدث.
    والآن، فان العرب جميعهم على استعداد للاعتراف بإسرائيل وتطبيع العلاقات معها، ودون هذه الحقوق بكثير جداً وهذا ما قام عليه بالفعل المشروع السعودي، الذي أجمع عليه العرب.. فالحل العاجل أصبح العرب اليوم لا يحلمون بشىءٍ قريب منه ، بل هم يتطلعون إلى ما هو دونه بكثير، وإسرائيل هي التي تتمنع عليهم ومن موقف قوة.
    أما الحل الآجل ـ وهو الحل الأساسي عند الأستاذ ـ فيقوم على ضرورة استجابة العرب للتحدي الحضاري الحاسم، الذي يواجههم "وهم اليوم لا يعيشون حاضرهم، ولا يعيشون ماضيهم. فأما حاضرهم فهو عصر الحضارة الغربية، العلمية الآلية الذي، وإن تأخرت فيه الأخلاق، وانحطت القيم، فقد بلغ فيه التقدم التكنولوجي مبلغاً فاق أحلام، أصحاب الأحلام، وبلغ فيه تطوير الآلة وتطويعها لخدمة الإنسان مبلغاً غيَّر وجه الحياة.. ولكن العرب لا يعيشون إلا على هامشه.. فهم لا يصممون الآلة.. ولا يصنعونها.. ولا يحسنون حتى صيانتها ولا استعمالها.
    وأما ماضيهم فقد كان عهد التقوى، والإيمان والقيم الرفيعة، والسيرة المستقيمة، والخلق العبق، السجيح، والنجدة، والرجولة، والتضحية، والإيثار، والصدق! الصدق! الصدق!.
    ولكن العرب اليوم لا يعيشون إلا على هامشه أيضاً فهم قد تشرَّبوا أخلاق المدنية الغربية وجاروا أهلها في مباذلهم فأفقدتهم أصالة دينهم ولم يبلغوا من أصالتها هي طائلاً فأصبحوا يعيشون على قشور من الإسلام وعلى قشور من المدنية الغربية.. ." وبعد أن فصَّل الأستاذ محمود في الواقع الحضاري وحاجته قال: "خلاصة الحل الآجل في كلمة واحدة.. (الإسلام)" وشرح المستوى الذي يعنيه من الإسلام وهو مستوى أصول القرآن الذي يدعو له.
    هذه خطوط عريضة، لما قدمه الأستاذ محمود من حلٍ لمشكلة الشرق الأوسط.. وهو حل في كل تفاصيله، يقوم على الإسلام ومنهج التوحيد.. فإذا جاء النور ليقول عن كل ذلك إنه موقف براغماتي، فهو إنما دلل بذلك على عدم موضوعيته.. فموقف الأستاذ محمود من مشكلة الشرق الأوسط، في كل تفاصيله هو نقيض للبراغماتية، لأنه يقوم على العلاقة بالله.. والبراغماتية ترفض بصورة قاطعة الاعتبارات الغيبية في قراءة الواقع، والتعامل معه.
    من كل ما تقدم يتضح أن الأستاذ محمود هو آخر من يمكن أن يوصف بأنه براغماتي.. وكذلك الحال بالنسبة لدعوته.. وذلك لسبب أساسي هو أن التوحيد هو الذي يحكم كل الفكر والعمل عند الأستاذ محمود، ولذلك فإن جميع مناحي الفكر والعمل مرتبطة بالله.. ودعوة الأستاذ محمود للإسلام تقوم على أمرين مقترنين هما: القرآن ، وحياة محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.. وحياة النبي الكريم هي تجسيد للقرآن.. فالدعوة كلها هي لاتباع النبي الكريم، في عبادته وبما يستطاع من عادته، بغرض التخلق بأخلاق القرآن بالصورة التي تحقق فردية الفرد.. وهذا العمل في جملته يستهدف أن تكون الحياة كلها لله، ولذلك صدرنا هذا التعقيب، بقوله تعالى: "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين" فهذه الحياة التي هي كلها لله في كل شىء هي نقيض البراغماتية في كل شىء ولو كان الأستاذ محمود براغماتياً لما واجه حكم نميري عليه، بما واجهه به، فما أكثر الحلول البراغماتية ولكنه رفضها جميعاً، بما في ذلك، حتى مجرد الدفاع عنه فموقف الأستاذ من التنفيذ عليه هو أكبر تجسيد لنقيض البراغماتية.
    لو قال أحدهم إن الأستاذ محمود محمد طه رجل وهابي!!، لاعتبر أقل الناس إلماماً بالفكرة الجمهورية والدعوة الوهابية، مثل هذا القول محض تهريج، وذلك للخلافات الأساسية بين الفكرة الجمهورية والدعوة الوهابية.. ومع ذلك فان ما يجمع بين الفكرة الجمهورية والدعوة الوهابية، أكثر بكثير جداً مما يجمع بين الفكرة الجمهورية والبراغماتية.. فهما على الأقل يجمع بينهما القرآن والسنة وكل أركان الإسلام وأركان الإيمان ومبدأ التوحيد.. إلا أن الخلاف بين الدعوتين، في كل ما يجمع بينهما، هو من الكبر بحيث أنهما لا يلتقيان إلا في الظاهر فقط.

    نواصل ..
                  

09-05-2005, 10:08 AM

عبد العزيز الكمبالى

تاريخ التسجيل: 06-08-2010
مجموع المشاركات: 0

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الأستاذ خالد الحاج: الفكرة الجمهورية والبراغماتية (Re: Omer Abdalla)

    الأخ عمر ..
    سلامات ..


    لقد قمت بعمل يبدو أن أقل ما سنجنيه منه .. "المتعة" ..


    نحن نتظر بداية الحوار الجمهورى - الجمهورى ،

    ولن ندّخر وسعا - كمتابعين - فى المشاركة .. متى ما كان ذلك مفيدأً ..



    دكتور النور .. أستاذ خالد الحاج ..
    دكتور حيدر .. الأستاذ عاطف ..


    لكم جميعاً الود ..



    ــــــــــــــــــ

    حاجة فيك خلّتنى أرجع للقلم ..
    وأتحدّى بالفرح الألم ..
    وأضحك مع الزمن العريض ..


                  

09-06-2005, 09:26 AM

Omer Abdalla
<aOmer Abdalla
تاريخ التسجيل: 01-03-2003
مجموع المشاركات: 3083

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الأستاذ خالد الحاج: الفكرة الجمهورية والبراغماتية (Re: Omer Abdalla)

    أخي الأستاذ عبد العزيز الكمبالي
    تحية طيبة
    سرني تعليقك ومتابعتك لهذا الحوار
    وأرجو لك ولبقية المتابعين مزيد المتعة ومزيد الفائدة ..
    أنا معك في انتظار رجوع دكتور النور وبقية الاخوة الكرام لمواصلة الحوار بعد أن يتفرغوا بعض الشيء من مسئولياتهم الأكاديمية الجسيمة (وغير الأكاديمية) ..
    عمر
                  

09-06-2005, 09:29 AM

Omer Abdalla
<aOmer Abdalla
تاريخ التسجيل: 01-03-2003
مجموع المشاركات: 3083

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الأستاذ خالد الحاج: الفكرة الجمهورية والبراغماتية (Re: Omer Abdalla)


    تعقيباً على دكتور النور حمد
    الفكرة الجمهورية والبراغماتية (8)

    البراغماتية والربا

    خالد الحاج عبد المحمود

    إن موقف دكتور النور من الربا هو أكثر موقف يوضح تصوره لإشكالية الواقع والنص ومعالجته، بل وتصوره للدين بصورة عامة ، كما أنه أوضح تطبيق لمفهومه عن البراغماتية.. يقول د. النور: "واجهت معضلة الربا السلفيين وخاصة جماعة الإسلام السياسي فواجهوها بالتحايل وخداع النفس.. كما واجهتنا نحن الجمهوريين أول ما وطأت أقدامنا أرض الغرب ولم يكن أمامنا غير أن نقبل بالواقع الذي تقر بمخالفته النصوص فروعها وأصولها"!! أولاً لا أعتقد أنه من حق النور أن يتحدث باسم الآخرين فربما كانت لهم رؤية للواقع تختلف عن رؤيته وأسلوب ومنطلق في التعامل معه، يختلف عن أسلوبه ومنطلقه.. القضية الأساسية هي أن د. النور يقرر وبحق أن الربا في الإسلام حرام، محرم في أصول القرآن وفروعه ، ومعالجة النور للقضية هي الاستجابة للواقع وتجاوز النصوص أصولها وفروعها دون خداع كما يفعل السلفيون!! فهو لم يضع أي تسبيب ديني لموقفه هذا ، بل هو يدعو بوضوح لتجاوز الأصول والفروع .. هذا في تقديري موقف ينسجم مع البراغماتية ولكنه لا ينسجم، بأية حال من الأحوال، مع الإسلام عموماً والفكرة الجمهورية خصوصاً .. والمرجعية في الفكرة الجمهورية ليست رأيي أو رأي النور ولا رأي أي شخص آخر سوى صاحب الدعوة الأستاذ محمود محمد طه .. فهل لموقف النور هذا أي علاقة برأي الأستاذ محمود في الربا!؟ هذا ما سنراه.
    وتأكيداً لموقف الدين من الربا يقول د. النور: "لقد حرمت الديانات الكتابية الثلاثة الربا، بشكل حاسم، غير أن الحضارة المعاصرة قد قامت على الربا، بل والربا وحده، والقروض الدولية كلها مبنية على سعر الفائدة، ولم نسمع بدولة إسلامبة معاصرة أقرضت دولة أخرى، ولو كانت دولة مسلمة، بغير فائدة!! كما لم نسمع بدولة إسلامية رفضت أخذ قرض لأن فيه سعر فائدة!! فالمبدأ الأخلاقي المقرر في النص السماوي هو ألا يتعامل المسلمون بالربا أبداً ولكن الواقع العملي يقول إن هذا المبدأ غير ممكن التطبيق في عالم اليوم المترابط والمتشابك المصالح" .. هكذا الربا محرم في الديانات الكتابية بشكل حاسم .. والموقف الأخلاقي المقرر في النص السماوي هو ألا يتعامل المسلمون بالربا .. ولكن لما كان الواقع العملي، في نظر النور، يجعل عدم التعامل بالربا غير ممكن، فهو يدعو صراحة إلى تجاوز المبدأ الأخلاقي المقرر بصورة حاسمة في الدين!!.
    كون أنه لا توجد دولة إسلامية لا تتعامل بغير الربا فهذا سبب فيه تبسيط شديد اذ لاتوجد اليوم أي دولة إسلامية.. فنحن لسنا في عهد بعثة وانما نحن في عهد فترة.
    الربا ، بحسب رؤية الفكرة الجمهورية ، من أغلظ المحرمات .. والأستاذ محمود يركز تركيزاً شديداً على أكل الحلال .. وأكل الحلال عنده مقدم على كل عمل سلوكي آخر.. والأدبيات في هذا المجال كثيرة جداً.. والأستاذ يعتبر حتى مرتباتنا، نحن في السودان، ليست حلالاً بصورة صافية، لأن بعض مصادرها قد تكون من غير الحلال، ولذلك عنده من الضروري العمل على تحليل الدخل ـ جعله حلالاً ـ وهناك وسائل محددة لذلك كما سنرى.. في الإسلام ، الحرام لا يصبح حلالاً إلا عند الضرورة، والضرورة المعنية ليست موضوع تقدير شخصي، وانما هي محددة بالشريعة .. فحسب الإسلام وحسب النص الذي يريد النور أن يتجاوزه في أصوله وفروعه، الضرورة تبيح الحرام، بل تجعله حلالاً!! فالحرام في الدين حكم شرعي ولا يوجد شىءٌ حرام في ذاته .. وهذا الحكم الشرعي لم يترك في حالة الضرورة من غير معالجة شرعية .. وهذه هي عملية الدين ومرونته التي ينكرها النور عليه فالتكليف الديني يقوم على الوسع "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها" .. يقول الأستاذ محمود عن حكمة التحريم في الدين: "أمر تحريم الأعيان كوسيلة إلى تحريم عيوب السلوك جماعها اتباع هوى النفس .. وهوى النفس يخلِّص منه أحد أمرين: إما الضرورة الملجئة أو العلم النافع".. ويقول: "وإلى الضرورة الملجئة الإشارة بقوله تعالى: (إنما حرَّم عليكم الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم) .. جمع المحرمات في أربع ثم تجاوز عنها وحللها للمضطر غير الباغي ولا العادي وذلك لأن الاضطرار قد نفى هوى النفس فانما هي الحياة أو الموت.. " فالحرام في الشريعة ـ حسب النص ـ للمضطر حلال!! يقول المعصوم: (لو كانت الدنيا دماً عبيطاً ما أكل منها المؤمن إلا حلالاً)!! والدم العبيط ـ الدم السائل ـ هو من أكبر المحرمات .. ولكن من هو المؤمن هنا!؟ هو من قال عنه المعصوم: (حسب المؤمن من الزاد لقيمات يقمن صلبه).. وعلى هذا الفهم جاءت القاعدة الفقهية (الضرورات تبيح المحظورات) وتقدير الضرورة ليس تقديراً ذاتياً يؤدي إلى اتباع الهوى الذي جاء التحريم أساساً للتخلص منه ، وانما الضرورة محددة شرعاً .. فالضرورة الشرعية التي تجعل الحرام حلالاً لا تتحقق إلا حين يخشى الإنسان على نفسه الهلاك.. أو كما قال المعصوم: (أن يجىء الغبوق والصبوح ولا تجد ما تأكله) .. وتوسُّع السلفيون في فهم الضرورة وعدم تقييدها عندهم بالحد الشرعي هو الذي يجعل عملهم هذا تحايلاً .. وهو تحايل أدى إلى ما عرف عندهم بـ"فقه الضرورة" وهي ضرورة بلا ضرورة بالمعنى الشرعي.. وقد أدى هذا المسلك إلى الخروج عن الدين وعن الشريعة وهذا ما كان ينبغي أن يتعظ به النور ، ولكنه على العكس من ذلك ذهب في تبرير الضرورة مذهباً قصَّر عنه السلفيون الذين ينعي عليهم الالتواء .. فقد ذهب هو إلى الخروج عن الدين في موضوع الربا ، أصوله وفروعه ، باسم البراغماتية والاستجابة لضرورات الواقع .. وهو لم يقف في حدود نفسه ـ فهو حر في أمره الشخصي ـ ولكنه يدعو الآخرين للأخذ بمنهجه في التعامل مع الواقع بالضرورة التي لا تحكمها شريعة ولا نص سواء في الأصول أو في الفروع!!.
    قلت إن الأستاذ محمود كان يشدد على أكل الحلال ويوصي الجمهوريين بتحليل رزقهم وذلك عن طريق:
    1/ تجويد عملهم الذي يكسبون منه، والإخلاص في تأديته، حتى لو أمكن أن يقوموا في عملهم بأكثر مما هو مطلوب.
    2/ الانفاق وعدم التوسع في الدنيا فالكفاف من الدنيا دين، ونحب أن نذكر هنا بما قاله الأستاذ للدكتور مصطفى محمود رداً على محاولته تبرير تجاوز بعض المحرمات فقد قال له: "وظاهر التحريم انما قام على ظاهر القرآن .. لا لف ولا دوران" .. وجاء من أقوال الأستاذ في الرد على مقولة للدكتور مصطفى محمود: "هو قول يتورط في الخطأ حين يحاول أن يتحلل من نص التحريم القائم على النهي ليجعل التحريم مسألة اعتبارية: (ومجرد ارسال النظر لا ضرر منه، ولكن الضرر فيما يجري في القلب والعقل نتيجة إمعان النظر) كما تقول أنت ولا عبرة برأيك في الحياة الطبيعية في زماننا (زمن الميني جيب .. والديكولتيه والجابونيز والصدر العريان والشعر المرسل والباروكات الذهب أمر صعب) ذلك بأن الشريعة لا تزايل إلزامها اعتباراً للصعوبات التي تواجهنا بها حياة التحلل والتفسخ والتبذل بل انها تطالب برد الناس ـ كل الناس ـ إلى الجادة .. فان عجزنا نحن عن التزام الشريعة في أنفسنا وعن إلزام غيرنا بها فلنعترف بالعجز ولنعرف أننا نعيش ناصلين عن الشريعة .. ذلك خير من أن نحاول أن نفصِّل الشريعة على تقصيرنا، وعلى عجزنا، عن الالتزام .. وأنت تسأل: (فما هو نوع غض البصر المقصود؟؟) والجواب: هو مجرد غض البصر" ويقول الأستاذ محمود: "أحب لك أن تذكر دائماً أمرين اثنين: أحدهما أن الشريعة تقوم على الظاهر .. وثانيهما أنها تعمم.. " .. وفي الرد على الأخ أحمد الحسين جاء من أقوال الأستاذ: "المهم في أمرك أن تأخذ ضوابط سلوكك من الشريعة حتى يجد عقلك التوجيه السليم من أمر خارج عنه حين تلتبس المسالك وتختلط السبل.. ".
    ولكن الأخ النور محمد حمد في قضية الربا ترك الشريعة وترك الأصول والفروع وجعل الاطار المرجعي له في أمر الدين البراغماتية، وما يفهمه هو من ضرورات الواقع!! وهو لم يقف في حدود نفسه، بل ذهب يدعو الآخرين لذلك!! وهذا الطريق إذا تمت متابعته ليست له نهاية سوى إفراغ الدين من محتواه.
    من المهم جداً توكيد الملاحظة، أن د. النور في موقفه هذا من قضية الربا، يجعل المرجعية في أمر الدين خارج الدين، يجعلها للبراغماتية، والاستجابة لضرورات الواقع حسب فهمه، ودون أي تقيد بشريعة أو بأي نص، لا في الفروع ولا في الأصول!! وأبسط ما يمكن أن يقال عن هذا المنهج انه لا علاقة له بالدين لا في أصوله ولا في فروعه!!.
    ولا مجال لتجاوز الربا، بصورة جماعية وعامة، إلا عن طريق الاقتصاد الاشتراكي، وهذا ما تدعو له الفكرة الجمهورية.. وحتى د. النور تحدث عن الاشتراكية وعن فشل العلمانية عموماً وله العديد من الأقوال التي هي في حد ذاتها صحيحة ولكنه لا يبني عليها وهي لذلك لا عبرة بها فهي مجرد ديكور .. فالعبرة بما يبني عليه ويدعو له .. فهو يدعو للبراغماتية بكل وضوح على اعتبار أنها، على الرغم من كل ما فيها من عيوب، لا مندوحة عنها، حسب تعبيره، فهو يقول: "وتصبح البراغماتية بهذا المعنى خياراً لا مندوحة عنه وهو خيار تفرضه قوى الواقع حين تستعصي عملياً على حماقات الأيديولوجي" 4 .. وبما أن د. النور يدعو للبراغماتية وللمتشكِّل في الواقع، فانه من الناحية الاقتصادية يدعو للرأسمالية والاقتصاد الحر وهو يقول: "فنهج الاقتصاد الحر نهج براغماتي يبني على المتشكل في الواقع.." 6 .
    وهو يقول: "الشاهد أن ماليزيا بقيت دولة إسلامية الطابع ولكنها دولة عصرية ناهضة متفتحة على ثقافات شعوب العالم المختلفة".. فماليزيا عنده دولة إسلامية!! وهو يقول عنها: "كما أشار د. ياسر قنصوة مدرس الفلسفة بآداب طنطا إلى التجربة الماليزية التي تجسدها عبارة مهاتير محمد (حين أصلي أدير وجهي للكعبة وحين أتعامل اقتصادياً أدير وجهي ناحية بورصة نيويورك)!! والمسلم، ليست له قبلة للصلاة وقبلة للاقتصاد وانما قبلته واحدة.
    وأنا لا أعرف مدى صحة هذه المقولة المنسوبة لمهاتير وحتى لا أظلمه أقول إنني أعرف له الكثير من الآراء النيرة والنقد الواضح والقوي للحضارة الغربية خصوصاً في مجال القيم.
    العجيب في أمر د. النور، أنه كثيراً ما يدعو لأشياء، وهو في نفس الوقت، يعمل خلاف ما يدعو له الآخرين!!، فاسمعه يقول: "ولعل الوقت قد أزف أن يعيد الشرقيون الاعتبار لمرجعيتهم بعيداً عن تأثيرات المركزية الأوربية ومرجعيتها العقلانية، فالعقلانية نفسها ربما احتاجت إلى إعادة تعريف. كان الأستاذ محمود يقول إن العلمانية غير علمية، والعلم عند الأستاذ محمود هو ما جمع بين المادة والروح في سياق واحد"!! 23 .. إنك أكثر الناس حاجة لقولك هذا فكل ما كتبته هو نقيضه!!.

                  

09-07-2005, 01:47 PM

Omer Abdalla
<aOmer Abdalla
تاريخ التسجيل: 01-03-2003
مجموع المشاركات: 3083

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الأستاذ خالد الحاج: الفكرة الجمهورية والبراغماتية (Re: Omer Abdalla)


    تعقيباً على دكتور النور حمد
    الفكرة الجمهورية والبراغماتية (9)

    البراغماتية بين د. النور ود. الترابي

    خالد الحاج عبد المحمود

    زعم د. النور محمد حمد، أنه يتحدث عن البراغماتية كفلسفة .. وأورد أسماء عدد من مفكري الفلسفة البراغماتية وأورد بعض التعريفات ، وكل ذلك ليمهد لموضوعه الأساسي: "العصر الأموي وفجر البراغماتية الإسلامية"، ثم عندما جاء للتطبيق ، ترك الفلسفة جانباً!! ففي جميع الحالات التي طبق عليها مفهوم البراغماتية ، لم يزد المفهوم عنده على التعامل مع الواقع بصورة واقعية ، حسب ظروف هذا الواقع ، ولم نر قط ولو محاولة واحدة لربط الحالة المعينة بالأسس الفلسفية للبراغماتية ، مثل نظرتها للحقيقة وموقفها منها ، أو نظرتها للمعرفة .. وحتى بالنسبة للتعامل مع الواقع ، فهو لم يهتم إطلاقاً بالاختلافات الجوهرية بالنسبة لرؤية الواقع ومنطلق التعامل معه عند البراغماتيين ، وحالات التطبيق .. فطالما أنه لم يستخدم الفلسفة في تطبيقاته لم تكن هنالك ضرورة منذ البداية لعرض هذه الفلسفة وذكر مفكريها ، فحاصل الأمر أن البراغماتية كما طبقها د. النور هي براغماتية المعنى الدارج ، لا البراغماتية بالمعنى الفلسفي .. ولما كانت البراغماتية بالمعنى الدارج مصطلح سيء السمعة فقد سعى النور لتحسين سمعته ، مع الاعتراف بسوئها ، فهو يقول مثلاً "ارتبطت كلمة البراغماتية بشكل عام بالمنفعة الأمر الذي ألقى عليها الكثير من الظلال السالبة" و"البراغماتية مرادفة للعقلانية ولا تنحصر كلياً في مجرد كونها تياراً خارجياً مناهضاً لسلطة الدين" و"الشاهد أن البراغماتية ليست دائماً مرادفة للانتهازية غير أنه ما من شك أن البراغماتية ربما مثلت في كثير من الأحيان حياداً عن الموقف الأخلاقي الأعلى" .. وهو يقول "البراغماتية الغربية لا تحتفل كثيراً بموضوع الضمير ولا تقوم عليه في إدارة شؤونها اليومية" .. وكلمة غربية هنا توهم بأن هناك براغماتية غير غربية ، مع أنه لم يورد ولا اسم مفكر واحد براغماتي غير غربي .. الشاهد أن د. النور على الرغم مما يعرفه من هذه السلبيات الكبيرة للبراغماتية يصر على استخدامها .. وقد اقترح عليه بعض الأخوان أن يستخدم مصطلحاً آخر يخدم غرضه في ضرورة التعامل بواقعية ثم لا تكون له سلبيات مصطلح البراغماتية ولكنه أصر على موقفه!! ولقد وصف الفكرة الجمهورية بالبراغماتية ، رغم كل التناقضات بينها وبين الفلسفة البراغماتية ، ووصف الأستاذ محمود بالبراغماتية رغم كل ما وصفه به من السمو الأخلاقي والزهد التام في المنفعة الذاتية .. فالبراغماتية مجرد لافتة يعلقها د. النور على كل الحالات التي يرى فيها تعاملاً مع الواقع .. والناس كل الناس بطبيعة الحال يتعاملون مع الواقع بما يخدم مصالحهم .. ودور الفلسفات والأديان أن تضيف بعداً فكرياً أو خلقياً للتعامل مع الواقع ، فالاعتبار ينبغي أن يكون لهذا البعد المضاف والذي وفقه ينبغي أن يحكم على الفلسفات والأديان أو لها .. وهذا أساساً ما يفرق بين البراغماتية وبين الإسلام .. فالإسلام، كله، يقوم على ادخال الفكر وادخال القيمة في التعامل مع الواقع وذلك وفق ضوابط محددة في التوحيد وفي الشريعة .. أما بالنسبة للبراغماتية كفلسفة فالضابط الوحيد في التعامل مع الواقع هو تحقيق المنفعة المباشرة ، وقد سبق أن بينا ذلك من أقوال فلاسفتها وقلنا إن الاستعمال الدارج لكلمة براغماتية له أصل في الفلسفة ، فهي لا تشترط أي قيم ومبادىء قبلية وبالطبع ليس لها أي منهج للتربية وفق هذه القيم غير الموجودة .. ولكن د. النور في محاولاته لتحسين وجه البراغماتية يقول بأن القول بأن البراغماتية مرادفة للانتهازية تبسيط!! فليكن ، ولكن هذا التبسيط يقوم عليه الاستخدام العام للمصطلح وأنت لم تورد أي شىء من الفلسفة يدحضه بل اعترفت به في مستوى من المستويات .. فكتاباتك هذه لن تغير الظلال المصاحبة لاستخدام الكلمة وايجاد بديل آخر يخدم مراميك دون أن تكون له هذه الظلال أمر ممكن بل ميسور .. أنا أعلم أن قولي هذا غير مجدٍ مع د. النور فهو مصر على استخدامه له ويتوهم أنه باستخدامه له بالصورة التي استخدمها جاء بشىءٍ فريد .. وأن عمله هذا هو الفكر الذي يغطس "الزانة" ويطفِّح "المسحانة"!! فلسان حاله يقول عن وصفه للإسلام وللأستاذ محمود بالبراغماتية: براغماتي براغماتي والما عجبو يشرب من البحر!!.
    وهو لم يقف عند هذا الحد .. فحتى النبي الكريم وصفه بهذه الكلمة التي يعترف بنفسه أن لها ظلالاً سالبة!! وذلك دون أي ضرورة ودون أي وجه حق!!.
    يقول د. النور عن الدعوة الإسلامية على عهد النبي الكريم "لم تجد الدعوة بداً من أن تتحول مضطرة إلى أسلوب الإكراه وكانت تلك خطة براغماتية لجأت إليها الدعوة في السنوات العشرة الأخيرة من عمر النبي الكريم"!! 16.
    لقد بدأ انزال القرآن بآيات الأصول ثم نسخت وتنزلت آيات الفروع ، ولقد كانت هناك حكمة في البدء بآيات الأصول ـ آيات الاسماح ـ ومن هذه الحكمة أن النبوة قد ختمت بمحمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ، فكان لا بد من نزول آيات الأصول طالما أنه لا نبي بعده ، كما أنه من الحكمة ألا تصادر حرية الناس ابتداءً وانما ان يعطو الحرية حتى يثبت لهم عملياً أنهم ليسوا في مستواها فتصادر..
    فالمشرع في أمر الجهاد هو الله .. والله تعالى لا تضطره ملابسات الواقع ولا هي تغيب عنه وهو موجدها .. والنبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يكون براغماتياً ، لأنه على الأقل لا يستجيب للواقع من عنده وانما هو وحي يوحى .. فرب الواقع هو الذي أوجد الواقع وأوجد ضروراته وأنزل من القرآن ما يناسب تلك الضرورات ، ليس في موضوع الجهاد فقط ، وانما في جميع القضايا التي تتعلق بالتشريع الذي يقوم على آيات الفروع.
    على كلٍ ، فإن وصف ما جرى على يدي النبي الكريم بوحي من ربه بالبراغماتية أمر غير مقبول ، وغير لائق ، ولكن هذه هي رغبة النور وواضح أنه مصر عليها ، وهي رغبة نحن لا نحترمها ولكننا لا نملك شيئاً لتغييرها سوى ابداء رأينا حولها (إنك لا تهدي من احببت ولكن الله يهدي من يشاء) ..
    وإذا كانت البراغماتية الإسلامية ـ حسب رأي النور ـ بدأت على يدي النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهده فكيف يكون العصر الأموي هو "فجر" البراغماتية الإسلامية!؟ هل يوم البراغماتية الإسلامية ـ المزعومة ـ هذا له بداية قبل الفجر!؟ نقترح على د. النور أن يجري تعديلاً ـ وهو لن يكون مضراً بالنسبة له على كل حال ـ فيجعل عصر النبي الكريم هو فجر البراغماتية ـ حسب زعمه ـ والعصر الأموي، هو بزوغ شمس البراغماتية الإسلامية.
    من المؤكد أن الإسلام يشرع للناس حسب طاقاتهم وحسب حاجاتهم ، فاذا كان هذا العمل هو البراغماتية ـ حسب رأي النور ـ تكون براغماتية الإسلام هي ما جاء به النبي الكريم وليس للأمويين ولا العباسيين دور يذكر في هذا الأمر .. هم ليسوا مؤسسين لهذا الأمر .. والحروب الجهادية التي تمت على أيديهم وعلى أيدي غيرهم وبها انتشر الإسلام في رقعة جغرافية واسعة ووصل حتى الأندلس وتفاعل مع حضارات أخرى ، أقول هذه الحروب الجهادية وما تقوم عليه من مبادىء وقيم ، ليس الأصل فيها عمل الأمويين والعباسيين ، وانما الأصل فيها عمل النبي صلى الله عليه وسلم.. فإذا كان هناك شىء اسمه البراغماتية الإسلامية فأولى بها عهد النبي الكريم، ولكن لا أرى وجهاً لهذه البراغماتية الإسلامية المزعومة .. فانزال المثال للواقع، الإسلام سبق عليه البراغماتية وبأكمل وأدق من ما فعلت ومن منطلقات وقيم مختلفة تماماً عن منطلقاتها وقيمها فلماذا تجعل الإسلام تابعاً للبراغماتية في هذا الأمر وتسميه بها وهو سابق عليها بأكثر من ألف عام!؟.
    من الجانب الآخر تحدث د. النور عن براغماتية د. حسن عبد الله الترابي فقال عنه إنه يمثل الوجه الانتهازي الميكيافيلِّي للبراغماتية الإسلامية في التجربة السودانية .. وفي الحق، الترابي ليس براغماتياً بالمعنى الفلسفي .. ولكن بالمعنى الدارج للمصطلح يمكن أن يعتبر نموذجاً للبراغماتية .. ووصف الترابي بالانتهازية هو تحصيل حاصل لأن البراغماتية تتضمن الانتهازية ولو لم تذكر كلمة انتهازي .. فالانتهازي هو الذي ينتهز الفرص المواتية لتحقيق منفعته وهذا هو نفسه المعنى الدارج للبراغماتي .. ثم انه لا تعريف د. النور ولا تعريف فلاسفة البراغماتية يشترط عدم الانتهازية أو أي قيم قبلية .. ود. النور في تعريفه للبراغماتية قال: "العبارة القائلة (السياسة فن الممكن) عبارة تلخص جوهر البراغماتية" هذا التعريف الذي أورده النور لم يقيده بأي اعتبارات أخرى .. وتعريفه هذا يختلف بصورة جذرية عن تعريف الأستاذ محمود للسياسة فالسياسة عند الأستاذ محمود هي: "إدارة شؤون الناس وفق الحق والعدل" .. والحق والعدل تم تناولهما في الدعوة بالتفصيل .. أما د. الترابي فقد طبق جوهر البراغماتية كما هو عند النور بصورة تكاد تكون حرفية .. فعملياً وطوال سني عمله السياسي كانت السياسة عنده هي "فن الممكن" وقد كان الترابي واقعياً في نشاطه السياسي بالمعنى البراغماتي للواقعية.. فمواقفه كانت تتلون حسب ظروف الواقع .. وهو قد حاول الوصول إلى السلطة بالطرق الديمقراطية ولما فشل وتأكد له أن أسلوب الديمقراطية لن يوصله إلى هدفه قام بتدبير انقلاب عسكري ونجح في ذلك .. فالترابي طبق المبدأ البراغماتي حسب تعريف النور .. فالنور بعد قوله إن عبارة السياسة فن الممكن تلخص جوهر البراغماتية أضاف "وهي تعني فيما تعني إدارة شؤون الواقع بالقوى المتيسرة في الواقع في الظرف المعين ثم القبول بالمردود الممكن على أمل أن يزداد ذلك المردود كلما تقدم الزمان.. تدير البراغماتية أمورها بعيداً عن النظريات الكلية والموجهات المبدئية التي لا تساوم".. وكل هذا فعله الترابي فكان يستحق من د. النور الإشادة طالما أنه يدعو للبراغماتية بهذه الصورة والتي قام د. الترابي بتطبيقها فدلل بذلك على أنه براغماتي أصيل حسب تعريفات النور للبراغماتية.
    في تقديري أن تقويم د. النور لتجربة الترابي وقبيله في السودان غير واقعي ويقوم على تبسيط شديد، فهو يقول: "ارتطم رأس التجربتين الأفغانية والسودانية بالحائط.. فالتجربتان اعتمدتا التبسيط والتعبئة والحشد والتعامي عن حالة الواقع وعن التراكم المعرفي ولذلك لم تصمدا سوى بضع من ضحى" .. الواقع الذي رأته التجربة السودانية هو أن الشعب السوداني شعب يحب الدين ويمكن استغلاله عن طريق الدين وهذا حق لا مجال للمغالطة فيه.. ثم ان الواقع الذي رأته التجربة السودانية هو أن الترابي وتنظيمه وكما دللت التجربة العملية ، من المستحيل أن يصلا إلى السلطة بالطرق الديمقراطية ، وهذه قراءة صحيحة للواقع بصورة لا مجال للخلاف حولها ، وبناءً على هذه القراءة للواقع وجد التنظيم أن سبيله الوحيد للسلطة هو الانقلاب العسكري وقد نجح فيه .. أعتقد ـ حسب المعايير البراغماتية ـ أن الترابي وتنظيمه قد نجحا بصورة فاقت كل توقعاتهما .. وما أسماه النور "بضع من ضحى" هو عقد ونصف من الزمان!! حكموا فيه السودان حكماً شمولياً سيطروا فيه على كل شىء .. وهم رغم كل المتغيرات لا يزالون في السلطة .. فهل كان من الممكن بالطرق الديمقراطية أن يحكموا السودان منفردين لدورة انتخابية واحدة مكونة من أربع أو خمس سنين!؟ أعتقد أن ذلك كان من المستحيل ثم انه مع استحالته ـ حتى لو حدث ـ كان من المستحيل في ظل نظام ديمقراطي وحريات عامة أن يجمعوا الأموال التي جمعوها.
    خمسة عشر عاماً من عمر الشعب السوداني ليست بالشىء القليل .. والله وحده يعلم كم تبقى لهم من عمر في السلطة.. في الواقع لم يرتطم رأسهم هم بالحائط، وانما ضربونا نحن ـ الشعب السوداني ـ رأسياً بالحائط ولا يزالوا يفعلون .. يبدو أن الأخ النور قد انخدع بشعارات التوجه الحضاري وإقامة شرع الله .. إلخ، وهذا مما يؤكد نجاحهم بالمعنى البراغماتي.
    أما بميزان الدين فقد فشلوا قبل أن يبدأوا .. وكل مغنم ظنوا أنهم غنموه سيكون حسرة عليهم وسيودون أن لو لم يكونوا غنموه، فانه لا مهرب من قانون المعاوضة الإلهي، والوزن فيه بمثقال الذر.
    أعتقد أن موقف النور من الترابي فيه كثير من التناقض فمن جانب يصور الترابي كبراغماتي انتهازي، ومن جانب آخر يصوره كمثالي، يتعامى عن الواقع، ولذلك ارتطم رأس تجربته في السودان بالحائط، مثلما ارتطم رأس التجربة الأفغانية "فالتجربتان اعتمدتا التبسيط والتعبئة والحشد والتعامي عن الواقع.. " .. أعتقد أنه من الواضح أن الأفغان كانوا واضحين وصادقين، في فهمهم السلفي، وسعوا إلى تطبيق ما يعتقدونه، على عكس الترابي وجماعته، ولذلك وضعهم مع الأفغان يعطيهم فضيلة ليست لهم.. والترابي ، لا في التنظير ولا في التطبيق ، متقيد بالنص.. ويمكن ذكر العديد من وجوه الشريعة التي تم تجاوزها باسم تحكيم الشريعة .. فالنص ليس له سلطة على الترابي وجماعته .. وما يدعو له النور من ضرورة ألا يعمينا النص عن الواقع، هم مارسوه منذ وقت طويل ولوقت طويل .. فالنص في تجربة الإنقاذ تابع.. الواقع العملي والمنفعة السياسية أو الدنيوية عموماً هي التي تحدد الموقف، ثم بعد ذلك يجىء النص لتبرير الموقف.. فالنصوص موجودة في الشعارات وفي الدعاية فقط أما المواقف في الواقع فيمكن أن تكون أي شىء.. فعندما كان الواقع والمصلحة في تقديرهم يقتضي المشاركة في التجربة الديمقراطية شاركوا فيها ، وعندما رأوا أن الواقع يقتضي القيام بانقلاب عسكري قاموا به .. ولما اتجه الواقع مرة أخرى للديمقراطية اتجهوا لها .. وفي كل الحالات كان النص يوظف لخدمة المرحلة المعينة.. فإذا كانت الظروف حسب تقديرهم تقتضي الحرب فالنصوص جاهزة ، وإذا انعكس الوضع واقتضت الظروف السلام فنصوص السلام أيضاً جاهزة .. فهم لا تواجههم إشكالية نص لأنه لا يوجد موقف مبدئي ثابت، يقتضي موقفاً ثابتاً في التعامل مع النص.. الثابت الوحيد عندهم هو المنفعة.. وهذا موقف بالنسبة للترابي بالذات، استراتيجي، تحدث عنه في كتابه "الحركة الإسلامية في السودان" حيث ذكر أنهم لم يلتزموا برأي فقهي ثابت حتى يتمكنوا من إقامة جبهة عريضة تضم مختلف الآراء الفقهية، وعملياً هذا ما درجوا عليه في كل مواقفهم .. فإذا كان د. النور يريد البراغماتية، فان أفضل من يمثلها هو الترابي.
    ومن جانب آخر فان دعوة النور لعدم تقديس السلف بغرض تحقيق رؤية موضوعية لتاريخ الإسلام، هذا ايضاً من الجوانب التي للترابي فيها سبق .. فهو صاحب مواقف مشهودة، في عدم تقديس السلف، بما فيهم الأنبياء، ويكفي موقفه المشهور من حديث الذبابة.
    أما موقفه من الحرب في الجنوب فهو موقف براغماتي شديد الوضوح .. يقول د. النور: "تحالف الترابي مع الذين سبق أن اطلق عليهم حرباً جهادية، هي الأبشع على الإطلاق، في تاريخ السودان" 3 ويقول: "تحول الترابي في رمشة عين (وهو الذي أشعل حرباً جهادية ضد قرنق وحركته) إلى حليف جديد لقرنق ولحركته!! معطياً بذلك أوضح النماذج للسلوك البراغماتي، ولكن في أقوى تجلياته الانتهازية" 3 وبالطبع الجناح الآخر، حزب المؤتمر الوطني، ذهب إلى أبعد مما ذهب إليه الترابي، إذ أصبح ليس مجرد حليف فحسب بل شريكاً لقرنق وحركته في السلطة وفي الثروة!!.
    ولكن ما هو موقف النور نفسه!؟ وهل هو يختلف كثيراً عن موقف الترابي، الذي ينعيه عليه!؟ من مجرى الحديث يفهم أن النور ضد الحرب في الجنوب وأنه داعية سلام كما ينبغي أن يكون.. هل أدان النور الحرب، ولو بكلمة!؟ هل أبدى مجرد الشعور بالحزن للقتلى من الطرفين، وللخراب الذي جرته الحرب على البلاد!؟ هل لاذ بالصمت ولم يبد أي موقف!؟ لا شىء من ذلك حدث .. على العكس أيد النور الترابي، في حربه، علانية، وعلى صفحات الجرائد!! وقد كان ذلك أمراً (جد) مؤسف، وتجاوزه عنه الآن، وكأنه لم يحدث، أكثر مدعاة للأسف!!.
    قال د. النور: "رغم خلافي الفكري العميق مع طرح الإسلاميين في السودان إلا أنني أرى أهمية منازلتهم لحركة التمرد وتبديد الزخم السياسي والعسكري والإعلامي الذي ما كسبته حركة التمرد في الماضي إلا بسبب ضعف حكومات الشمال السابقة"!! جريدة الحياة 12/6/1999م .. هذا ما قاله النور وقتها!! قاله، في الوقت الذي كانت فيه الحرب تحصد أرواح الأبرياء من أبناء شعبنا الطيب في الشمال والجنوب!! ثم بعد أن وضعت الحرب أوزارها، وتحقق السلام، جاء ليقول لنا عن تلك الحرب التي أيدها، في وقت اشتعالها، "أنها هي الأبشع على الإطلاق، في تاريخ السودان"!! فلماذا أيدت هذه البشاعة، طواعية!؟.
    إن موقف النور السابق، من الحرب في الجنوب، يدل على ضعف كبير عنده، في الفهم السياسي، وهو قد كان يتصور أن الحكومة، ستنتصر في الحرب في الجنوب.. وأهم من ذلك أن د. النور في موقفه ذلك، يتناقض بصورة أساسية مع الأفكار والمبادىء، التي يفترض أنه ينتمي إليها.. وهي أفكار ومبادىء ترفض الحرب كوسيلة لحل المشكلات بصورة قطعية ونهائية، وبصورة خاصة ترفض الحرب الدينية، وقد كانت الحرب عند الإنقاذيين، تتم باسم الجهاد الإسلامي.. وإذا كان النور يؤيد حرب الإنقاذيين الجهادية في الجنوب، فلا معنى بعد ذلك لخلافاته العميقة معهم، طالما أنه يؤيدهم في أسوأ أعمالهم ، والتي تقوم على أشنع أساليب استغلال الدين لأغراض السياسة.. وهذا الأسلوب من العمل ـ أسلوب العمل الذي يستغل الدين لأغراض السياسة، لا يمكن مجاراته بمثل طروحات النور عن البراغماتية، بل على العكس، هذا الإتجاه، يدعمه ويغذيه، لأنه يسير في نفس خطه ـ خط فقه الضرورة.. وانما محاربته الفعالة تكون بتقديم البديل الديني الصحيح، وهذا ما يريد النور صرف الجمهوريين عنه، وهو بذلك، ودون وعي منه، يخدم الترابي، وجماعته، يقول د. النور: "هذه الأصول التي يمكن أن تقرب من وجهات النظر المختلفة في فضائنا الفكري والسياسي هي ما يجب التحاور حوله اليوم، وليس الدعوة الدينية.. "!! التحاور حول الدعوة الدينية هو السبيل الوحيد، للقضاء على ـ الهوس الديني، وعلى استغلال الدين لأغراض سياسية.. وأهم من ذلك، التحاور حول الدعوة الدينية، هو السبيل لتقديم الإسلام كمدنية جديدة تنفخ الروح في الحضارة الغربية، المادية، القائمة، وهذا ما تبشر به الفكرة الجمهورية.
    واهم من يظن أن نظام الإنقاذ قد انتهى .. فهو، ممثل في جناحي التنظيم، له أجندته الخاصة، للتعامل مع الواقع الجديد، بالصورة التي تحقق إمكانية الاستمرار في السلطة.. ومن الحكمة، والحزم، عدم الاستهانة بتدابيره، والتعامل معها بكل وعي وجد، حتى لا تدفع البلاد أكثر من ما دفعت، من مقدراتها، وأرواح بنيها.

    (عدل بواسطة Omer Abdalla on 09-08-2005, 07:54 AM)

                  

10-02-2005, 08:30 AM

Omer Abdalla
<aOmer Abdalla
تاريخ التسجيل: 01-03-2003
مجموع المشاركات: 3083

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الأستاذ خالد الحاج: الفكرة الجمهورية والبراغماتية (Re: Omer Abdalla)


    تعقيباً على دكتور النور حمد
    الفكرة الجمهورية والبراغماتية (10)
    د. النور والموقف من الأيديولوجيا والدين
    خالد الحاج عبد المحمود

    يرى د. النور أن الدين مثالي، بمعنى أنه غير عملي!! فهو يقول: "وأنا مِن مَن يميلون إلى وضع الماركسية اللينينية، بسبب عدم عمليتها، في خانة الأيديولوجيا المثالية، شأنها في ذلك شأن الفكر الديني"!! وهذه، في تقديري، نظرة لا حظ لها من الموضوعية.. فالماركسية والدين، كلاهما، عملي، بصورة جلية، لا يمكن الخلاف حولها، حتى حسب تعريف النور نفسه للعملي.. فالمعيار الذي وضعه النور للعملي، يجىء في قوله: "وعموماً فالذي يدل على عملية فكرة ما، ربما يكون تحقيقها في الواقع الزماني الذي ضمها"، فحسب هذا التعريف، هل الدين، والماركسية لم يحققا، ما يجعلهما فكرتين عمليتين!؟.. فبالنسبة للماركسية كفلسفة، أوضح شىءٍ بالنسبة لها أنها فلسفة عملية، فهي منذ قيام الثورة البلشفية في عام 1917 وحتى 1990 استطاعت أن تسيطر على نصف العالم، ولو اكتفت الماركسية بالتحول الذي جرى في روسيا فقط، فان ذلك دليل كافٍ على عمليتها.. يقول الأستاذ محمود عن الناحية العملية في الماركسية: "لقد كان ماركس فيلسوفاً "عملياً" ..ولقد لجَّت به "عمليته" هذه حتى أصبح نبتاً أرضياً، صلته بالسماء واهية، وفروعه في الأعالي قريبة.." .. أما الدين بصورة عامة، فقد ظل يوجه حياة البشر، منذ أن كان البشر، وإلى اليوم، وهذا لم يكن ممكناً، لو أن الدين غير عمليٍ.. والنور نفسه، وكعادته في التناقض ، يقول عن أصحاب الأديان الكبرى، سواءً أكانت سماوية، أو غير سماوية: إن "تعاليمهم عاشت آلاف السنين، ولا تزال تعيش بدفق وقوة عظيمتين"!! كيف ومع ذلك تقول إن الدين غير عملي!؟.
    ثم ماهو دور البراغماتية، مقارنة بالدين، والماركسية، حتى تعتبر هي عملية، وهما غير عمليين!؟ لا توجد، دولة واحدة، عبر التاريخ قامت، على أساس البراغماتية كفلسفة، ولا ينتظر أن توجد، لأن الفلسفة البراغماتية، لا تملك أساساً ما يكون به قوام الدولة.. بل لا توجد أي حركة شعبية، في التاريخ، قامت باسم البراغماتية، ولا ينتظر أن توجد.. وأنا لم أسمع، أن شخصاً واحداً، في السودان، براغماتي بالمعنى الفلسفي.. فالأمر كله يقوم على مغالطة، لا معنى لها.
    ويقول دكتور النور: "غير أن الأيديولوجيا، سواءً أكانت دينية أو علمانية، تشترك في طرح مشاريع كبرى mega projects . هذه المشاريع الكبرى، تقوم على رؤية شاملة، تزعم لنفسها معرفة البدايات والنهايات وبناء على هذه المعرفة بالبدايات والنهايات، فان الأيديولوجيا تقوم برسم المسار كله، ومراحل حركة السير، فيما بين بداياته ونهاياته"..وهذا الذي يقوله النور، ينطبق على الإسلام، وعلى الفكرة الجمهورية بالذات، أكثر من انطباقه على أية فلسفة، أو دين آخر.. وهذا ما يقوله النور نفسه، فهو يقول: "يقودنا هذا إلى فحص ما ظل عليه كثير من الجمهوريين من عقيدة مفادها أن الفكرة الجمهورية فكرة شاملة، رأت المسار البشري بين الصدور والورود، ورسمت طريقاً سالكاً بين نقطتي الصدور والورود" 18 وهل ترى أنت خلاف ذلك!؟ قول د. النور هذا، هو ترداد لقول البراغماتيين، فها هو وليم جيمس، مثلاً، يقول: (وعلى الرغم من وجود بوصلات السفن "ذلك ما يبدو أنهم يقولونه"، إلا أنه لن يكون أمامها قطب تشير إليه، انهم يصرون على وجوب وجود تعليمات ملاحية مطلقة مقضي بها ومبرمة من الخارج إبراماً، وكذلك خارطة للرحلة "مستقلة" مضاف إلى الرحلة "المجردة" ذاتها، إذا أردت أن تصل إلى مرفأ على الإطلاق) 1 ـ 442 ولوليم جيمس عذره، انه لا يؤمن بالغيب، ولا يرى وسيلة للعلاقة بالغيب، فهو يقول: (كيف يعرف مشايع الحقيقة المطلقة ما يأمره "هذا" بأن يفكر فيه؟ ليس في وسعه النظر المباشر إلى المطلق، وليس لديه وسيلة للرجم بالغيب لمعرفة ما يريده منه سوى اتباع العلامات المفتاحية الإنسانية) 1 ـ 443 والإجابة لمن يؤمن بها، بسيطة، وهي أنه يعرف عن طريق الوحي.. فالمطلق، تنزَّل من إطلاقه وقيد ليعرف.. انه لحق أن الفكرة الجمهورية، كدعوة إسلامية تعرف البدايات والنهايات، وتملك خريطة طريق للسير، وهذا بالذات ما يجعلني، أنا شخصياً، أؤمن بها.. والأمر جد بسيط، ولكنه يقوم على الإيمان.. فالإنسان من الله صدر، وإلى الله يعود.. وتقول الفكرة الجمهورية في بشارة عظيمة، إن الإنسان صدر من الخير المطلق، وعائد إلى الخير المطلق، وإن الشر في الوجود مرحلي، وقد دخل لحكمة تعليمية، خلاصتها هي سوق الناس إلى الخير عبر التجربة في الخطأ والصواب.. وهذه التجربة هي التي أعطت الإنسان حق الحرية، وميزته عن جميع خلق الله.. أما خارطة الطريق، فهي القرآن، ومفتاح هذه الخريطة هو، حياة محمد صلى الله عليه وسلم، والذي جعل من القرآن حياة تعاش، وجسده في اللحم والدم وبذلك وضع للبشرية نموذج الكمال الإنساني، ووضع لها المنهج، الذي عن طريق اتباعه، يحقق كل فرد حريته، وفرديته، وإنسانيته.. أما البوصلة، فهي التوحيد.. فما هو الغريب بالنسبة لمعرفة البدايات والنهايات، حتى يقال عنه أنه زعم!! "يقوم على رؤية شاملة تزعم لنفسها معرفة البدايات والنهايات"!! والزعم بمعرفة البدايات والنهايات، ليس وقفاً على الأيديولوجيا، وانما العلم المادي التجريبي أيضاً يزعم أنه يعرف البدايات والنهايات!!.
    يكاد يكون من المتفق عليه، بين العلماء اليوم أن الكون بدأ بالانفجار العظيم Big Bang وكثير من العلماء، وفلاسفة العلم، خصوصاً في مجال الفيزياء، لهم رأيهم في نهاية الكون.
    هذا هو الأمر الطبيعي، فطالما أن الناس أصحاب عقول، فهم في حاجة لإشباع حاجة عقولهم.. فهم يريدون أن يعرفوا من أين أتوا، وإلى ماذا يصيرون، ولماذا هم هنا الآن.. هذه الأسئلة الوجودية، هي ما يميز حياة الإنسان، عن حياة الحيوان، ولا عبرة بأي فلسفة أو دين، إذا لم تكن له إجابة عن هذه الأسئلة.. وليست العبرة بالطبع، بمجرد الإجابة، ولكن العبرة بالاجابة الصحيحة التي تقنع العقل، وتطمئن لها النفس.. فحاجة الحضارة البشرية في هذا الوقت بالذات، هي حاجتها للإجابة عن أسئلة الإنسان الوجودية، بما يعطي الحياة معنى، أكثر من حاجتها لتنظيم جوانب الحياة الأخرى، في السياسة، والاقتصاد، والقانون، والاجتماع.. فهذه منظمة بصورة من الصور.
    يوجد في الغرب من يقول بانتهاء زمن الأيديولوجيا، ولكن قولهم هذا لا عبرة به، ولا وزن له.. ومن الطرف الآخر يوجد من يقول إن مشكلة الحياة، كلها تكمن في غياب المعنى في حياة البشر.. يقول البرت اسفيتشر، من كتابه "فلسفة الحضارة": (إن مستقبل الحضارة يتوقف على تغلبنا على فقدان المعنى، واليأس، اللذين يميزان أفكار الناس ومعتقداتهم في هذه الأيام، وعلى بلوغ حالة من الأمل النضير والعزم الفتي. ولن يكون في وسعنا ذلك إلا إذا اكتشفت غالبية الناس بأنفسهم موقفاً أخلاقياً عميقاً راسخاً يؤكد الدنيا والحياة عن طريق نظرية في الكون مقنعة، وقائمة على الفكر معاً).. ولقد لخص اسفيتشر جوهر المشكلة كلها بعبارات بسيطة فهو يقول: (والخاصية المروعة في حضارتنا هي أن تقدمها المادي أكبر بكثير جداً من تقدمها الروحي. لقد اختل توازنها).. وكثير جداً من المفكرين، والأدباء، في الغرب، تحدثوا، عن قضية غياب المعنى، والهدف، على اعتبار أنها مشكلة الإنسان الأساسية في الحضارة القائمة، وكل كتابات كولن ولسن، عن اللامنتمي، تكاد تدور حول هذا المعنى.. فالأيديولوجيا ضرورية جداً لإعطاء الإنسان معنى وهدفاً لحياته، وضرورية جداً لتحديد الوسائل والغايات.. وهدف الحياة النهائي، لا بد أن يكون غير محدود.. وقد تفطَّن إلى ذلك كولن ولسن، فهو يقول: (إن الحاجة الملحة اليوم هي إلى بعث فكرة الهدف ـ لمعنى الحياة) وعن ضرورة أن يكون الهدف نهائياً وليس مرحلياً، يقول: (لقد كان الأسكندر الكبير يؤمن بشىء منحه قوة هادفة هائلة، إذ آمن بأنه سيحكم العالم كله. ولما حكم العالم، جلس يتساءل يائساً: ماذا أفعل الآن؟ أجل هذا هو محك كل إيمان.. فإذا انتهى مفهوم الهدف عند حد معين فانه ليس هدفاً حقيقياً، إذاً ليس هدفاً نهائياً، ولكن الدين يمنح الإنسان هذا الهدف النهائي..).
    والهدف النهائي، لا يتعارض مع التعامل مع الواقع تعاملاً موضوعياً حسب مقتضيات هذا الواقع..بل على العكس، هو الذي يعطي المعيار الذي ينظر به للواقع، والكيفية التي يتم بها هذا التعامل.. فبدون مذهبية تحدد كيفية قراءة الواقع، وضوابط التعامل معه، تكون الاستجابة للواقع، استجابة تلقائية لا يحكمها تفكير هادف، وهذا ما يجري، عند عموم الناس، في واقعنا الحضاري القائم، فلا يحتاج لأحد أن يعلمه الناس.. فمن يقدم للناس ما عندهم لا يقدم لهم شيئاً.. العبرة بأن تقدم لهم ما يحتاجونه، مما هو ضروري لحياتهم، ثم هو عملي، ويناسب حاجات، وطاقات الواقع في نفس الوقت.. وهذا ما قامت به الفكرة الجمهورية، ودون حاجة في ذلك للبراغماتية فالبراغماتية لا مجال لها في هذا الأمر، فهي ليست لها المذهبية، التي تمكنها من رؤية الواقع، بصورة كلية، تحدد ما هو ايجابي في الواقع فيصطحب وينمى، وما هو خطأ، وسلبي، فيصحح.. فالواقع ـ حسب الفكرة الجمهورية ـ ليس كله خيراً، ولا كله شر، فالعبرة بالميزان الذي يحدد ما هو خير، وما هو شر، فيعطي الرؤية الواضحة، والتي على ضوئها يتم التعامل مع الواقع.. فعملية الفكرة الجمهورية، تأتي من أنها تملك هذا الميزان، وهو ميزان التوحيد، حسب رؤيتها لمفهوم التوحيد.. ولدكتور النور اعتبار آخر فيما يتعلق بعدد الملتزمين، والاتجاه لصب الناس في قالب واحد، حسب قوله، وهذا ما سنتعرض له لاحقاً.
    ومن أقوال النور، التي تشير إلى مفهومه لعملية الأفكار قوله: "البراغماتية الغربية لا تحتفل كثيراً بموضوع الضمير، ولا تعول عليه في إدارة شؤونها اليومية، والسبب هو عدم عملية الاعتماد عليه. ففي المقابل، هي تعول على التشريعات والقوانين والنظام القانوني والقضائي في احقاق الحقوق." 14 وبالطبع العلاقة بين تربية الضمير ـ الأخلاق ـ والقانون، علاقة تكاملية.. فالحياة، لا تقوم على الضمير وحده، ولا على القانون وحده.. والإسلام، سواء أكان في مستوى الأصول، أو الفروع، لا يعول على الضمير وحده، وهذا أمر واضح.. ولكن سيادة حكم القانون في أفضل مستوياتها تقتضي أن يعيش الناس، وفق القانون، دون الحاجة لأن يطبق عليهم، من قبل السلطة، بل يعيشون وفق مقتضيات القانون، من تلقاء أنفسهم على أن يكون القانون موجوداً، يطبق على من يحتاج أن يطبق عليه.. والحياة تحتاج إلى الضمير، عند وضع القانون وعند تطبيقه، ومن المستحيل أن تقوم على القانون وحده.. ومن مشاكل حياتنا المعاصرة، الكبيرة، ضعف الضمير، الذي أدى إلى ضعف تطبيق القانون، فمشكلة مثل، مشكلة المخدرات، مثلاً، السبب الأساسي فيها ليس عدم وجود القانون، وانما ضعف تطبيقه، لضعف الضمير.. فلأن التجارة تدر أموالاً طائلة، أصبح التجار عملياً يرشون كل العاملين في مجال تطبيق القانون، من شرطة وقضاة، وساسة، ويملكون من الامكانات، ما يتفوقون به على امكانات محاربيهم، والعاملين على تطبيق القانون عليهم، الأمر الذي جعل كل محاولات محاربتهم فاشلة، رغم الامكانات الضخمة التي وظفتها الدول الكبرى بالذات، في هذا الصدد.. فما ينقص البشرية اليوم، ليس القوانين وانما هو تربية الضمير.. وقد عالجت الفكرة الجمهورية القضية بصورة أساسية، بأن جعلت القرآن دستوراً للفرد، ودستوراً للجماعة في آنٍ معاً.
    قول النور "عمل البراغماتيون، على جر كثير من ما بشرت به الأيديولوجيا، من مشاريع كلية، كبيرة، اتسمت بالمثالية، وبالشطح، إلى حيث تفاعلات الواقع، وإلى حيث القبول بما هو ممكن التحقيق"..هذا القول، لا يعلق بالإسلام، لا في مستوى ما تدعو إليه الفكرة، ولا في مستوى الشريعة، المطبقة في القرن السابع الميلادي.. ولا حتى، بالنسبة للإسلام، منذ أن بدأت رسالته، بآدم عليه السلام.. فهو قد كان دائماً يتنزل إلى مستوى واقع الناس، ويخاطبهم على قدر عقولهم، ولا يكلفهم، بما هو فوق وسعهم.. وهو قد ظل دائماً، يأمر بالعرف ـ وهو ما يتعارف عليه الناس ، شريطة ألا يتعارض مع غرض من أغراض الدين ـ وقد جاء في ذلك، قوله تعالى، لنبيه الكريم: "خذ العفو، وأمر بالعرف، واعرض عن الجاهلين" والعفو هو ما تيسر فلا توجد غلواء تحتاج للبراغماتية، ولا يوجد تشدد زائد، يبرر وصف النور لتجربة الإسلام الأولى بالتزمت، وذلك حيث يقول: "العودة المطلوبة، هي عودة إلى روح الحضارة الإسلامية، وليس عودة إلى حالة البعث الأولى، بكل تزمتها وقيودها"!!..ونحن لنا عودة لموضوع التزمت والقيود.

                  

10-03-2005, 06:52 AM

Omer Abdalla
<aOmer Abdalla
تاريخ التسجيل: 01-03-2003
مجموع المشاركات: 3083

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الأستاذ خالد الحاج: الفكرة الجمهورية والبراغماتية (Re: Omer Abdalla)


    تعقيباً على دكتور النور حمد
    الفكرة الجمهورية والبراغماتية (11)
    تجربة التسليك بين صلة المجتمع، والعزلة
    خالد الحاج عبد المحمود

    لقد تفرد الإسلام، كما يقدمه الأستاذ محمود محمد طه، بحل المشكلتين الأساسيتين، اللتين أعيى حلهما الفكر البشري، منذ أن كان الفكر البشري، وإلى اليوم.. وهما العلاقة بين الفرد والكون، والعلاقة بين الفرد والمجتمع.. والحل كله، بالنسبة للقضيتين، يدور حول محور واحد، هو التوحيد.. والتعامل مع كل شىء على أساس من التوحيد، يجعل القضايا كلها، مترابطة، متسقة، كل جزء منها، يفضي إلى بقية الأجزاء، بصورة من الصور.. ونحن هنا تعنينا العلاقة بين الفرد والمجتمع، في إطار محدود، هو التجربة السلوكية في المجتمع الجمهوري، تلك التجربة التي تحدث عنها د. النور، فأورد العديد من المعلومات الصحيحة، ولكن عندما تحدث عن الجانب المتعلق بالمجتمع، أعطى صورة هي عكس صورة ما يعطيه الواقع، فزعم أن الجمهوريين كانوا منعزلين عن المجتمع، وبالغ في تصوير هذه العزلة المزعومة، إلى حد أنه جعلها عزلة عن الأهل، والأقارب.. وصوَّرها بأنها شبيهة بالخلوة الصوفية التقليدية!! وهذا قول، بعيد جداً عن الحق، كما سنرى.. يقول النور: "تعود الجمهوريون ذلك النمط من العيش البسيط المنحصر، وأصبحوا من ثم يستوحشون من حياة المجتمع العريض. وقد خلق ذلك العيش المنحصر الذي يشبه خلوات الصوفية، شقة من نوع ما، بينهم وبين اهليهم وذويهم، وأصدقائهم. ويمكن القول إن الجمهوريين قد أحبوا تلك العزلة السلوكية واستمرأوها".. ويقول: "مدخل التسليك الذي صممه الأستاذ محمود محمد طه، ورعاه بنفسه كان مدخلاً محاطاً بإطار محكم من العزلة عن حياة المجتمع العريض. وهي عزلة فرضها ما تم استعارته من مناهج التصوف، خاصة مفهوم الخلوة".. ويقول: "هذا مع ملاحظة أن الأستاذ محمود محمد طه قد ذكر حين دعا إلى طريق محمد أن عهد الخلوة في الفلوات والمغارات قد انتهى. فالخلوة العصرية في الأدب الجمهوري المكتوب، هي خلوة الثلث الأخير من الليل. أما الجلوة فهي جلوة النهار، حيث يختبر السالك محصول عبادته في الليل، فيما يصدر منه من قول وعمل حين يحتك بالمجتمع العريض، في نهار كل يوم جديد. غير أن النظر الفاحص يمكن أن يقود إلى ملاحظة أن ذلك الاطار من الخلوة الذي مارسه الجمهوريون في تجربتهم، لا يختلف كثيراً من خلوة المغارات والكهوف. فقد اتسمت حياة الجمهوريين باعتزال المجتمع"!! فالنور يقول إن محك العبادة، عند الجمهوريين هو أن تنعكس معاملة للمجتمع، ولكن هذا في الكتب، أما في الواقع، فحياة الجمهوريين تقوم على اعتزال المجتمع بصورة مشابهة لخلوة الصوفية!! وهذه شهادة مدهشة في غرابتها.. في الواقع الفكرة الجمهورية، تعتبر أن الدين كله، هو معاملة الآخرين، في المجتمع، وما عبادته، إلا مدرسة لاعداد الفرد ليحسن هذه المعاملة.. فإذا لم يتم إحسان المعاملة، فالعبادة غير مثمرة، ولا قيمة لها، وهي تستشهد بقول المعصوم "الدين المعاملة".. و"انما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، من هنا تجىء قيمة المجتمع للفرد، وعن تلك القيمة يقول الأستاذ محمود: "إن قيمة المجتمع للفرد لا تساويها قيمة.. هو أكبر الوسائل لانجاب الفرد الحر الكامل.. ولقد يكفي أن يقال هنا إنه الوسيط الذي فيه يتحرك الفرد، وفيه يمارس العبادات، ويمتحن الأخلاق، ويميز القيم.. وفيه يجد الأمن، ويستشعر الحب ويباشر التعاون، والعمل، ويحصل العلم ـ وبالعلم، والعمل وفق هذا العلم، يتوكد وجود الفرد، وتنضج شخصيته، وتقوى وتتحقق حريته، وتتسع حياته، وتخصب".. ويقول: "إن حكم الوقت الحاضر، يقضي بأن نجعل العبادة مدرسة فيها نتلقى الطاقة التي بها نخلص الخدمة للناس، وأن نجعل المجتمع وسيطاً فيه نتحرك لتطبيق محصول العبادة".. وقد جعل الأستاذ منهاج الدنيا كله، الصلاة، وخدمة الناس، فهو يقول: "والصلاة والخدمة للناس، انما هما منهاج الدنيا".. وقد جعل للصلاة حضرتين، هما: حضرة الإحرام، وهي الصلاة الشرعية.. وحضرة السلام وهي الصلاة الوسطى، الفترة بين الصلاة والصلاة الأخرى.. وفصل آداب هذه الصلاة الوسطى "المعاملة" خصوصاً في "كتاب تعلموا كيف تصلون".. والأدب في حضرة السلام "المعاملة"، هو كف الأذى عن الناس، وتحمل أذاهم، وتوصيل الخير إليهم.. والقاعدة في المعاملة أن تعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به.. وقد زعم النور أن هذا كله موجود في الكتب أما في الواقع، فحياة الجمهوريين، كانت تقوم على العزلة مثل خلوة الصوفية!! والحقيقة على عكس ما زعم النور تماماً فقد عاش الأستاذ محمود، مفهوم الدين المعاملة، في القمة، وعمل على تربية، أبنائه وبناته على هذا المفهوم، في مجهود متصل، ومراقبة وتمحيص، لا يفتران ولا يكلان.. وقد عاش الجمهوريون طرفاً صالحاً من ما يدعون إليه في هذا الصدد، بل اشتهروا به بين الناس في مناطقهم، وفي مواقع عملهم.
    هذا الجانب ـ جانب المعاملة ـ لو أراد د. النور أن يحدث القراء عنه، لوجد فيما عايشه بنفسه، أو نقل له، مادة تأخذ العديد من حلقات الكتابة، ولكنه اختار خلاف ذلك!! كان يمكن أن يورد، عديد المواقف العظيمة، في رعاية أصحاب الحاجات، التي أشرف عليها المرحوم عبد الرحمن النقر بنفسه، وصورة الخفاء، واحترام إنسانية الإنسان التي كانت تتم بها، تلك الصلات.. كان يمكن أن يورد قصة الأخت التي طلب منها الأستاذ، أخذ اجازة من العمل ليملي عليها الأستاذ كتاب "تعلموا كيف تتعاملون".. وقد أخذت شهراً اجازة، وتفرغت للكتابة، وكانت تتهيأ كل يوم للكتابة، ولكن ظروف الزوار من الأصدقاء، والمعارف، وأصحاب الحاجات، كانت تحول دون الكتابة، وفي أخريات الشهر، ولم تتم كتابة شىءٍ يذكر، شعر الأستاذ أن الأخت تضايقت، فقال لها: أراك غير راضية؟ قالت: نعم يا أستاذ انتهى الشهر ولم نكتب شيئاً!! قال الأستاذ: إنت ما عارفه أبوك دينه الناس!؟ قالت: يا أستاذ لكن الكتاب ما من أجل الناس.. قال: لكن ديل الناس أنفسهم!!.
    كان يمكن للنور أن يحدث القراء عن عم فرغلي المصري، الذي صادر عبد الناصر أملاكه، فوجد عند الجمهوريين المأوى، وعن حمد الليبي، وعن جولاته على الأخوان في أقاليمهم المختلفة، ومعاملة الأخوان له رغم وعورة تعامله .. وعمك "بالبركة" النيجيري الذي رعاه الجمهوريون حتى مثواه الأخير.. وعمك دهشة، وشيخ عوض الله، أمد الله في عمره، إلى غير ذلك من القصص في المعاملة..
    وكعادة النور في التناقض، فان ما أورده بنفسه عن برنامج الحركة، دليل كافٍ لدحض أقواله عن العزلة، فهو يقول: "يضاف إلى ذلك أن برنامج الحركة اليومي الذي كان العاملون في إطاره من السالكين يصلون ليلهم بنهارهم دونما انقطاع قد كرس من تلك العزلة وأحكم من رتاجاتها"!!، كيف يكون البرنامج الذي كله اتصال بالناس، دليل على العزلة، والخلوة الصوفية!!، البرنامج كما تحدث عنه، هو حملة الكتاب، وأركان النقاش في مؤسسات التعليم العالي، وفي الميادين العامة، والشوارع، وفي مختلف مدن وقرى السودان.. وحملة الدعوة الخاصة والتي كانت تصل فيها أتيام الجمهوريين الناس في منازلهم، وتعرض عليهم الدعوة، وتحاورهم حولها.. ما من أحد عاش تلك الفترة في جامعة الخرطوم أو جامعة القاهرة "فرع الخرطوم" إلا ويذكر تماماً تلك الأركان العامرة، والحية بالحوار.. ولا تكاد مدينة أو قرية قد خلت من حملة الجمهوريين في حملة الكتاب، أو أركان النقاش.. وقد شارك النور بنفسه في هذا النشاط، وتحدث كثيراً عن تكثيفه.. فكيف تكون هذه الصلة المتصلة بالمجتمع، هي نفسها تكريس للعزلة عن المجتمع!؟، واضح أن الكلمات عند النور تفقد دلالاتها.. هل كان الجمهوريون في أركان النقاش يحاورون أنفسهم!؟ هل كان الجمهوريون في مواقع عملهم المختلفة، يتعاملون مع بعضهم البعض فقط!؟ لقد خدم الجمهوريون من خلال مواقع عملهم المواطنين خدمات مشهودة، وهم بحمد الله لا يزالون يفعلون، واخلاصهم في العمل وخدمة الناس وحسن التعامل معهم يجد الاحترام والتقدير من الناس، ولهم مواقف مشهودة، ولكن ليس من آدابهم الحديث عن ما يفعلون، وهم يعلمون عندما يخدمون الآخرين انما يعملون من أجل أنفسهم، فلا يريدون من ذلك جزاءً ولا شكورا "من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها، وما ربك بظلام للعبيد"..
    هنالك الممرض، الذي يعتمد معظم القسم الذي يعمل فيه على أدائه، ولا يكتفي بعمله المحدود، والذي يسير في الخريف حوالي عشرة كيلومترات في المطر والطين ليصل في مواعيده، ويؤدي عمل زملائه الغائبين، وهم يسكنون في المدينة .. والطبيب في مدن غرب السودان الريفية، الذي يكون الطبيب الوحيد بالمستشفى، ويتعامل مع حادث حركة كبير، فيقوم بالعمليات، ويضمد الجراح، ويغسل ويكفن الموتى، ويصلي عليهم، وعامل المدرسة، وموظف الجوازات، وغيرهم، وغيرهم، من الذين يعتبرون مضرب المثل في تفانيهم في العمل وخدمة الناس.
    لا شك أن النور يعرف نماذج من الذين جعلوا حياتهم وقفاً على خدمة أسرهم، فصرفوا على تعليم الأفراد، وعلى ضرورات الحياة، وأشرفوا على التربية، أو الذين تفرغوا لخدمة الوالد والوالدة في شيخوختيهما، وقاموا بكل ما يحتاجانه من رعاية وتمريض.. أما مشاركة الناس في أفراحهم وأتراحهم، وما جرت به عادة الشعب السوداني العظيم، فان الجمهوريين عموماً يتقدمون فيه على غيرهم، سواء في المأتم، أو عقودات الزواج، أو زيارة المرضى ورعايتهم، ففي هذه المجالاتهم يخدمون بأنفسهم وبمالهم وبصورة متميزة عن الآخرين.. وعند الأستاذ محمود أفضل ما في الوجود هو العواطف الإنسانية، وكان يوصي بصورة خاصة على الإنفاق، ويقول إنه سيأتي وقت لا يكون فيه فقير يحتاج أن ينفق عليه.
    لقد رأى الجمهوريون صداقات مشهودة لمرشدهم، وتركت أثرها على صداقاتهم هم، وتعاملهم مع أصدقائهم.. رأوا من أصدقاء الأستاذ المهندس حسن بابكر، والذي كان الأستاذ يعتبر منزله بمدينة سنار منزله، حتى في حالة غياب صاحب المنزل، ود. جرجس، ود. دسوقي، وشيخ خليفة النعمة، وشيخ حسن خشم الموس، والخليفة مكاوي، وشيخ الأمين حسين، وود جاد الرب، وشيخ سليمان حمد، والشيخ حسن خير السيد، ويونس الدسوقي.. إلخ أشخاص من مختلف الأوضاع الاجتماعية، والانتماءات الفكرية، والدينية.. هل يوجد في مدينة ود مدني من يجهل العلاقات الاجتماعية الواسعة جداً للأستاذ سعيد الطيب شايب، وبقية الأخوان، وكذلك الحال بالنسبة للعديد من المدن والقرى التي بها أخوان من الجمهوريين.. كهولاً وشبابا وظفوا حياتهمً لخدمة الناس، وأصبح الناس، مختلف الناس، يقصدونهم ويكلفونهم بأعمال تقتضي السفر والصرف على حسابهم الخاص.. كل هذا وغيره كثير من ما يعرفه د. النور.
    كان تفقد الناس والاهتمام بهم والسعي في خدمتهم وحل مشاكلهم يجد الاهتمام الأكبر والمتابعة من المرشد، مع كل أبنائه وبناته من الجمهوريين.. ومن تجربتي الشخصية، كان الأستاذ قد يسألني عن عبادتي وقيامي ولكن هذا ليس دائماً.. هذا في حين أنه كان دائماً يسألني عن الناس، الأهل، وغير الأهل، ويتابع معي في هذا الشأن بالتفصيل.. وكثيرا ما يكتب لي وأنا خارج العاصمة، بخصوص قضايا الناس ومشاكلهم، وينتظر مني تقارير عندما ألتقي به، وهذا يتم بصورة دائمة.. وعندما أغيب عن الأستاذ، ثم ألتقي به، كان أكثر شىءٍ يشغلني، ألا أكون قد قصرت في الاتصال بالأهل، وأصحاب الحاجات.. وهذا ما يجري مع كل الأخوان في أقاليمهم المختلفة.
    فإذا كان كل هذا هو العزلة عن المجتمع، فانعم بها من عزلة. إنني أشهد بان الجمهوريين في عموم احوالهم وعلى تفاوت بينهم في ذلك يصلون الرحم وهم بررة بأهلهم قد وظفوا أنفسهم لخدمة الناس بأنفسهم وبأموالهم وهم يفعلون ذلك في إطار التربية التي رباهم عليها مرشدهم، وفي إطار القيم التي أرشدهم لها.
    أما المشاركة في حفلات الأعراس وما أسماه د. النور باللهو البرىء فأمر فيه نظر، وسنتعرض له في موضعه.. ولكن نقول هنا أننا لا نعتبر التقصير في هذا الجانب مما يعيب، ولا هو تخلٍ عن الحياة الطبيعية، بل عندنا الأمر على العكس من ذلك، وما تحدثنا عنه هو الحباة التي تليق بإنسانية الإنسان.
    إنه لأمر غريب أن يسمي النور موقفه هذا الصارخ في مناقضة الواقع بالنظر الفاحص!! اسمعه يقول: "غير أن النظر الفاحص يمكن أن يعود إلى ملاحظة أن ذلك الإطار من الخلوة الذي مارسه الجمهوريون في تجربتهم، لا يختلف كثيراً من خلوة المغارات والكهوف"!!.
    أيُّ نظر فاحص هذا، الذي يعكس الأمور عكساً، وفي أمور هي من الوضوح بحيث يصعب الخلاف حولها في الظروف الطبيعية. وفي موضع آخر يقول: "ربما لا يجد الباحث المحايد، ذي النظرة الموضوعية بدا من.. .. .. .. .. "!! المشكلة الأساسية فيما كتبت يا دكتور هي غياب الحياد والموضوعية.. كيف يكون حياداً وموضوعية، وصف الاتصال المكثف بالناس آناء الليل وأطراف النهار، بأنه انعزال عن المجتمع، وخلوة مثل خلوة المغارات، والكهوف!؟ مع النور فقدت الكلمات دلالاتها الأولية المباشرة.. يبدو أن النور يعتبر الحوار المتصل، مع الآخرين، حول قضايا الدين، والحياة، والسياسة، ليس اتصالاً، وانما هو عزلة بطبيعة موضوعه.. يبدو أنه يعتبر ان السعي في خدمة "الناس" وحل مشاكلهم، وبذل الأموال والأنفس ليس اتصالاً، وانما هو عزلة، يبدو أن الاتصال المعتبر عنده هو المشاركة في حفلات الأعراس والسينما ودور الرياضة وما أسماه اللهو البرىء، أما خلاف ذلك فهو عزلة عن المجتمع، وعن الحياة الطبيعية، ولذلك كرر هذه المواضع، خصوصاً حفلات الأعراس، عديد المرات.. ونحن لنا إلى هذا الموضوع عودة.

                  

10-04-2005, 09:39 AM

Omer Abdalla
<aOmer Abdalla
تاريخ التسجيل: 01-03-2003
مجموع المشاركات: 3083

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الأستاذ خالد الحاج: الفكرة الجمهورية والبراغماتية (Re: Omer Abdalla)

    تعقيبا على دكتور النور حمد
    الفكرة الجمهورية والبراغماتية (12)
    التجربة التسليكية: خلل الميزان
    خالد الحاج عبد المحمود

    يقول د. النور: "الشاهد أن تجربة الجمهوريين "التسليكية" التي عاشوها مع الأستاذ محمود محمد طه، والتي حالت بينهم وبين الأدب والفن، والموسيقى والتمتع بمباهج الحياة، في تجلياتها المختلفة، ليست هي الصورة التي ينبغي أن يكون عليها حال الجمهوريين في مقبل أيامهم"!! .. قبل أن تحدد ما ينبغي أن يكون عليه حال الجمهوريين في مقبل أيامهم كان ينبغي أن تذكر ما كانوا عليه في سابق أيامهم بصورة موضوعية، تذكر الحقائق كما هي ثم تقومها التقويم الصحيح الذي لا يتجاهل تصورات الجمهوريين للقضايا المطروحة.. كان يمكن أن تعرض رأي الجمهوريين في ماهية الحياة، ثم تناقش تجربتهم السلوكية، على ضوء موقفك من تصورهم للحياة، لتصل إلى ما تصل إليه.. أما أن تغيِّب الواقع نفسه أو تعكسه، وتترك المفاهيم الأساسية جانباً، ثم تقول ما تقول، فهذا منافٍ لأبسط مقتضيات الموضوعية.
    فالفكرة الجمهورية ليست ضد الفن، وإنما تعتبره في وقته، يمكن أن يكون من أهم وسائل السير إلى الله، وإخصاب الحياة، وزيادتها عمقاً واتساعاً.. لكن الفكرة الجمهورية ترتب أولوياتها، حسب حكم الوقت، وحسب معرفة الواجب المباشر، ولكن في عموم الحال ـ حسب الفكرة الجمهورية ـ يمكن أن يكون كل شىء، وسيلة للسير إلى الله، وهذا السير هو تحقيق الحياة، الحياة الحرة الكريمة، حياة الإنسان، ولذلك جاء في اهداء كتاب "الإسلام والفنون" ما نصه: "إلى المنفتحين على الله السالكين إليه كل السبل، فانه ما من شىءٍ إلا وهو إلى الله سبيل!!" "وإن من شىءٍ إلا يسبح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم".. وقد فصل الكتاب الوضع بالنسبة للمبتدئين، وبالنسبة للمستوين، وحدد الانشغال بما هو أولى، حسب طبيعة المرحلة.
    والتجربة "التسليكية" لم تَحُلْ بين الجمهوريين، والفن، كما يزعم النور، وانما قامت على الفن الذي يناسب المرحلة، وبصورة مكثفة، في الإنشاد العرفاني، وهو من أعمق ضروب الفن، وأقدرهاعلى اخصاب الحياة، حياة الإنسان، حياة الفكر والشعور.. فهو يقوم على المعاني العرفانية، التي تغذي العقول، وتهذبها، لترتفع بالنفوس في مدارج الحياة، كما يقوم على التطريب بالألحان الجميلة، التي يؤديها العديد من الأخوان والأخوات المبدعين.. فبدل العبارة الخاطئة، والمعممة "حالت بينهم وبين الفن" كان يمكن للنور أن يتحدث عن الإنشاد ويحدد موقفه منه، حتى ولو كان هذا الموقف، أنه لا يعتبره فناً.
    والتجربة التسليكية، لم تحل بين الجمهوريين، والأدب، فقد إطلعنا، إطلاعاً واسعاً، على آداب الشعوب المختلفة، وقد جرى كثير من هذا الاطلاع، والحركة على أشدها، فلا يكاد يوجد أديب صاحب اسم في مجاله، على مستوى العالم، لم نطلع على شىءٍ من أعماله..
    فباستثناء أستراليا، لا يكاد يوجد شعب من شعوب العالم، لم نطلع، على أعمال المبدعين من كتابه، خصوصاً في مجال الرواية، والمسرح.. وبعض الكتاب اطلعنا على جميع أعمالهم، ومنهم دوستوفسكي، ونجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، وارنست همنجواي، والطيب صالح، والذي اطلعنا على أعماله حتى منسي.. وجبران خليل جبران، ومشاهير الأدباء عموماً، إلى جانب الأعمال الشعرية المهمة، قديمها والحديث، في الأدب العربي، والأدب الإنجليزي.. وإلى جانب النقد الأدبي.. وكانت لنا وقفات مع التكنيك الروائي، خصوصاً مع الأعمال ذات الخصوصية، مثل "يولسيس" وكتابات غراهام جرين، وفرجينيا وولف، والطيب صالح، وصمويل بيكيت، ورائعة همنجواي "العجوز والبحر" .. وأعمال غابرييل غارسيا ماركيز، خصوصاً "الحب في زمن الكوليرا"، وحتى سلمان رشدي اطلعنا على روايته الأساسية "أطفال نصف الليل"، وطاغور، ولوركا، وبدر شاكر السياب، والحاردلو الكبير، وبيرم التونسي.. وغيرهم، ولا داعي لحصرهم.. وقد كنا نتبادل هذه الأعمال، خصوصاً الروائية، في دائرة من الأخوان، منهم من هم في عمر معلمينا، ومنهم من هو في عمر تلاميذنا.. فعبارة "حالت دونهم والأدب" عبارة، هي نقيض الواقع، ومع ذلك ليس هذا هو الأدب الذي نتطلع إليه، فالأدب الذي نتطلع إليه، وله الأولوية عندنا، هو أدب القرآن.. أدب شريعته، وأدب حقيقته.
    نحن الجمهوريين لسنا من رواد السينما، ولا دور الرياضة، فعندنا أولويات أهم.. ولكن هذه الأنشطة ليست محرمة عندنا.. فرغم الأولويات الواضحة عندنا، إلا أننا حصل أن سمعنا مع الأستاذ محمود مباراة كاملة، في كرة القدم للفريق القومي، ومنا من دخل معه السينما، أذكر منهم الأخ عبد الرحيم محمد أحمد، والأخ أمين عبد الله.. وكان الأستاذ يشجع دخول فيلم "أريد حلاً" لفاتن حمامة، على اعتبار أنه فيلم يعالج مشكلة معينة، كما شجع على دخول فيلم "المسيح".. وقد اتفق لي شخصياً أن دعونا الأستاذ لمشاهدة فيلم "الأخوة كرامازوف" بسينما الأبيض، وكان النشاط في المحاضرات بمدينة الأبيض على أشده، فانتهزنا فرصة يوم لم تكن فيه محاضرة معلنة، ودعونا الأستاذ، وقد وافق الأستاذ، ولكن الأمطار حالت دوننا ودخول الفيلم..
    وقد كان الأستاذ يعجب بصوت الفنانة اللبنانية فيروز، ويقول إن صوتها ملائكي، وطاهر، وكان إذا سمع صوتها من راديو الجيران، يطلب أن يحضر له الراديو.. وقد زار الفنان الراحل عبد الرحمن بلاص الأستاذ، وجلس معه في حجرته الخاصة، وطلب منه الأستاذ أن يسمعه من فنه، فغنى المرحوم عبد الرحمن بلاص أغنية، وطلب الأستاذ من الأخوان والأخوات أن "يشيلو معاهو" .. ولقد حكى لي الأخ أحمد عبد الرحمن العجب، أنه كان مع الأستاذ في حجرته، وكان الأستاذ يردد بيت الحقيبة الذي يقول:
    يا موفورة النفل
    يا الهيبة الكست الحفل
    ثم التفت إلى أحمد وقال له: يا جنا ما تقوم تاخد ليك عرضة!!.
    الشاهد أن موقف الجمهوريين، من الفنون والآداب، يقوم على إدخال الفكر في العمل، وفق العمل بقاعدة: الواجب المباشر، حسب حكم الوقت.. فالوسائل التي تسوق إلى الله، وإخصاب الحياة، عديدة، ولكن بعضها أقرب من بعض، في الإفضاء، لما هو مطلوب، يقول تعالى: "أولئك الذين يدعون، يبتغون إلى ربهم الوسيلة، أيهم أقرب، يرجون رحمته، ويخافون عذابه، إن عذاب ربك كان محذورا".. فالوسائل ليست متساوية، فبعضها أقرب من بعض في الإفضاء إلى النتائج المطلوبة.. فالصلاة من المؤكد، أقرب من وسيلة الفن، في الإفضاء إلى كمال الحياة، فالأولى تقديمها، وتقديم كل ما يعين عليها، وعدم الانشغال عنها في حضرتيها: حضرة الإحرام، وحضرة السلام، بما يلهي عنها.. ومن ما يلهي عنها، ما أسماه د. النور باللهو البرىء!!.
    يبدو أن دكتور النور يعتبر عدم حضور الجمهوريين لحفلات الأعراس، منقصة كبيرة في حقهم، ودليل واضح على الانعزال، وعدم مجاراة العصر، ولذلك ذكر الموضوع في عدة مواضع في حلقاته!!.
    قبل أيام كان أحد الأخوان، ويدعى عبد الرحمن الفكي مختار، قد حضر زواج أحد أقاربه.. فسأله احد الأخوان: يا عبد الرحمن هل حضرت الحفلة؟ رد عبد الرحمن: حضرتها والله.. الأخ: كيف كانت؟ عبد الرحمن: لكن ما شفتها!! الأخ: يا عبد الرحمن كيف حضرتها وما شفتها!؟ عبد الرحمن: كنت نايم لحد ما انتهت!! وعبد الرحمن هذا قبل أن يلتزم كان "فتوة" مشهوراً، وكان مدمن حفلات، وقد قال إنهم كانوا في الغالب ينتهون من الحفلات عند صلاة الصبح، ثم يذهبون فيشربون الشاي في القهاوي، قبل عودتهم للمنازل ليناموا.
    في الواقع أنا مندهش، لاهتمام د. النور بالحفلات هذا، وإلى تغير الموازين عنده، إلى حد أنه لا يرى سبباً موضوعياً، لعدم ارتياد الجمهوريين لحفلات الأعراس، ويعطيها هذه القيمة، الإيجابية، التي تظهر من حديثه، مع أن الموضوع بديهي..
    أولاً: كون الحفلات لهواً بريئاً، أمر فيه نظر..
    ثانياً: حتى اللهو البرىء ليس مطلوباً بالنسبة للسالك، وليس هو من قيم الحياة العليا، وانما هو من قيم الحباة الدنيا ـ حياة الحيوان في الإنسان ـ يقول تعالى: "وما هذه الحياة الدنيا إلا لعب ولهو، وإن الدار الآخرة لهي الحيوان، لو كانوا يعلمون".. ويقول: "قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة، والله خير الرازقين".. ونحن لنا للحياة واللهو عودة..
    ثالثاً: الفكرة الجمهورية، مهتمة اهتماماً كبيراً، بتحرير المرأة، ونيلها لحقوقها، وعندها أن ذلك يقتضي أن ينظر إلى المرأة كانسان، وليس كجنس.. ولكي تنال المرأة حقوقها، عليها أن تحرص على إنسانيتها وأن تتصرف كإنسان، وليس كأنثى.. وأن تعرف أن قيمتها الحقيقية إنما هي في إنسانيتها، في عقلها وخلقها، وليست في جسدها وأنوثتها.. والحفلات، مكان تبتذل فيه إنسانية المرأة، وتتصرف كأنثى، وينظر إليها كذلك، وقد جاء في وصية الأستاذ محمود للنساء في هذا الصدد، قوله: "أعلمن أن جمالكن، في المكان الأول، ليس في جمال أجسامكن، وإنما في كمال عقولكن، وخلقكن، ودينكن.. فكن عوَّالات على هذه.. ولتطالع هذه الكمالات منكن من تلقين من الرجال من الوهلة الأولى للقائكن بهم".. وقال: "أسفرن ولا تبرجن.. فإن التبرج دليل على خفة العقل، ورقة الدين، وسوء الخلق.. ولا تستحق المتبرجة أن تتمتع بحرية السفور".. والحفلات مكان للتبرج، بل والمبالغة في التبرج.. ولكن يبدو أن معايير النور في هذا الجانب قد اختلت كثيراً.. وأوضح دليل على هذا الخلل، موقفه من الشاعرة الأندلسية، ولَّادة بنت المستكفي، وإشادته بأكثر المواقف عندها، التي تدل على التبذل، وقد جاء ذلك في قوله: "ولا غرابة إذاً، أن أرسلت ولَّادة بنت المستكفي، تلك الصيحة الفيمنيستية Feminist الجريئة، في ذلك الزمان المبكر، حين قالت:
    أنا والله أصلح للمعالي
    وأمشي مِشيتي وأتيه تيها
    وأُمْكن عاشقي من صحن خدِّي
    وأعطي قبلتي من يشتهيها
    فولَّادة لم تعد ترى في تلك اللحظة، من الإشراق الوعيوي، أن في أنوثتها ما يحول بينها وبين طلب المعالي"!! 4 المشكلة ليست في ولَّادة ، وإنما المشكلة في موازين القيم عند النور، والتي أصبحت ترى، في قول ولَّادة هذا، الشديد الابتذال، أنه "إشراق وعيوي"!! هل المرأة التي تقول: "وأُمْكن عاشقي من صحن خدِّي وأعطي قبلتي من يشتهيها" امرأة حرة كريمة!؟ هل هذه هي المعالي، التي تصلح لها المرأة!؟ المشكلة ليست في الأنوثة، وإنما المشكلة في ابتذال الأنوثة، وإرخاص الذات، وبذلها لمن يشتهيها، والتباهي بهذا الإرخاص، وتمجيد النور له.. المشكلة في وهم المرأة، بأن قيمتها في أنوثتها، وليست في إنسانيتها، وجعل الأنوثة السبيل للمعالي، كما تقول ولَّادة.. وقد ظل الرجال عبر التاريخ وإلى اليوم يوهمون النساء أن قيمتهن، إنما هي في جمالهن الحسِّي، في أنوثتهن، واستجابة النساء لهذا الإيهام، هي مما أقعد المرأة عن المعالي الحقيقية، حيث قيمتها في إنسانيتها، في عقلها وخلقها.. تغذية هذا الوهم، عند المرأة، هو الذي جعلها أكبر من استضعف في الأرض، ولا يزال.. ولا سبيل لحرية المرأة الحقيقية، إلا إذا ثارت ضد هذا الوهم، واستيقنت أن قيمتها في إنسانيتها، والتي لا تختلف فيها عن الرجل في شىء، وليس في أنوثتها، ومن أجل ذلك جاءت وصية الأستاذ محمود للنساء والتي أوردناها أعلاه، فما تحتاجه المرأة هو الوعي بإنسانيتها وليس الوعي بأنوثتها.. وفق معايير النور هذه ، شىء طبيعي أن يرى في من يدعون للعفة، وحشمة النساء، ويلتزمون بلبس الثوب السوداني الأبيض، ويدعون له، ويقولون الزي عنوان عقل المرأة وخلقها، طبيعي أن يرى فيهم التزمت، بل والتخلف!! كما أنه طبيعي أن ينعي عليهم أنهم لا يرتادون حفلات الأعراس، ويرى في ذلك عزلة وتزمتاً.
    رابعاً: الجمهوريون أصحاب دعوة لمشروع في الزواج، يستهدف تحقيق كرامة المرأة، وتبسيط الزواج، بحيث يكون أمراً ميسوراً لكل الشبان والشابات، هذا المشروع، هو مشروع "خطوة نحو الزواج في الإسلام" والمهر فيه، كان جنيهاً واحداً فقط.. والحفل هو جلسة العقد فقط.. فمن غير المعقول أن يدعو الجمهوريون لهذا المشروع، ثم يرتادون حفلات الأعراس التي يعترضون عليها، ويرون فيها أنها عقبة كبيرة، حالت دون الشباب والزواج، لما يصرف فيها من أموال باهظة.
    إن خلل الميزان عند النور، هو الذي جعله يصف تجربة البعث الإسلامي الأولى بالتزمت، والقيود، والهيمنة على الخيارات، وذلك حيث يقول: "العودة المطلوبة، هي عودة إلى روح الحضارة الإسلامية، وليست عودة إلى حالة البعث الأولى، بكل تزمتها وقيودها، وهيمنتها على خيارات الفرد والجماعة، فتلك حالة لن تعود أبداً" هل كانت هنالك قيود، وهيمنة على خيارات الفرد، والجماعة الإيجابية، في البعث الإسلامي الأول!؟ اللهم لا!! البعث الإسلامي الأول أخذ الصالح، من تراث الجاهلية، مثل الكرم مثلاً، وربطه بقيم الدين، ورعاه.. أما الطالح، من أعراف الجاهلية، مثل الحروب القبلية الدامية، ووأد البنات، وعبادة الأصنام، والميسر، والربا.. إلخ فقد حجرها الإسلام، وهذا هو الوضع الطبيعي للدين، فهو إنما يجىء ليوجه خيارات الفرد، والجماعة، التوجيه الإيجابي، الذي تقتضيه المرحلة، بما يزيد من تحقيق إنسانية الإنسان، وهذا ما فعله الإسلام، في مرحلة البعث الأول.. ولا يمكن أن يوجد أي مجتمع، دون قيود على خيارات الفرد، والجماعة.. كان ينبغي أن تورد نموذجاً لهذا التزمت، والهيمنةعلى الخيارات، الذي تعترض عليه حتى يكون للقارىء تصور محدد لما تريد أن تقول.
    وبلغ خلل الميزان، مداه، عند النور عندما جعل للجمهوريين من صفات التزمت، ما لا يجده المرء عند الوهابية، والأخوان المسلمين!! فهو يقول: "ولكن حين يقتربون كثيراً يجدون مجتمعاً جمهورياً فيه الكثير من صفات التزمت التي ربما لا يجدها المرء حتى عند غلاة معارضي الفكرة الجمهورية من السلفيين من أخوان مسلمين ووهابية"!! هكذا! جعل الالتزام تزمتاً!! بنفسك قلت إن الجمهوريين ليست عندهم كشوفات قيد.. يستطيع من شاء أن يدخل، ومن شاء أن يخرج.. ولا أحد داخل التنظيم يلزم بشىء، إنما الأمر كله يقوم على الالتزام الشخصي، وفق القناعة الشخصية، وليست فيه أي وصاية على الآخرين.. هذا، في حين أن تزمت الوهابية، والأخوان المسلمين، هو تزمت تجاه الآخرين!! وهذا التزمت في حق الآخرين، عند الفرق المتطرفة، من الجماعتين، يصل حد التكفير والقتل.. وكل صور القتل، والعنف، والارهاب، الذي يجري، في العالم، باسم الإسلام، يرجع إلى فكر الوهابية، والأخوان المسلمين.. الوهابية، والأخوان المسلمون، يتوسعون في الدنيا، ومطايبها، وملذاتها، في المأكل الفاخر، والسكن الفاخر، والملبس الفاخر.. وفي تعدد الزوجات، وبعضهم لا مانع عندهم، مما أسميته أنت اللهو البرىء، وهم لا يعنيهم كيف يعيش الآخرون، ولا حتى أن يكون توسعهم في الدنيا هذا، على حساب الآخرين هؤلاء، وهذا أمر شديد الوضوح في السعودية، وفي السودان.. فهم دائماً يضيقون على الآخرين، ويوسعون على أنفسهم.
    أما الوهابية بالذات، فقد بلغ بهم التزمت في معاملة المرأة، أن جعلوا لها من الزي، ما يكاد يلغي وجودها، ويلغي إنسانيتها إلغاءً، وحرموها من معظم حقوقها، فإذا كان هؤلاء، في نظر النور، أقل تزمتاً من الجمهوريين، الذين قدموا النماذج الرفيعة للمرأة الإنسان، يصبح خلل الميزان عند النور لايحتاج إلى دليل..
    وبسبب الوصاية على دين الله، وعلى خلق الله، قام الأخوان المسلمون بانقلابهم في السودان، وحكموا حكمهم الذي لا نزال نعيش فيه، فقتلوا مئات الآلاف في الشمال والجنوب بسبب تزمتهم الديني، في فهم الجهاد، وصادروا حريات الناس، وشددوا عليهم التضييق في معاشهم، وفي نفس الوقت كانوا هم يتوسعون في الدنيا، بغير الحق، ويتبارون في تعدد الزوجات، إلى خلاف ذلك من صور البذخ المعروفة، وصور التعنت والتضييق على الشعب، المعروفة أيضاً.. كل هذا والجمهوريون أكثر تزمتاً، من الوهابية والأخوان المسلمين!؟.
    في الوقت الذي يقوم فيه فهم الوهابية، والأخوان المسلمين للدين، وتطبيقهم الفعلي، على الوصاية على الآخرين، إلى حد مصادرة حياتهم، وأقواتهم، وحرياتهم، والتضييق عليهم في كل شىء، وفي نفس الوقت، التوسيع على النفس، في كل شىء من ملاذ الدنيا، فان فكر الجمهوريين وتطبيقهم الفعلي، يقوم على رفع الوصاية عن الناس، إلى الحد الذي يكون فيه مجرد وجود رغبة داخلية في النفس، في السيطرة على الآخرين، دليل على نقص العبودية، ودليل على ضعف التحقيق في الدين.. في الوقت الذي كانوا فيه هم يتوسعون في الدنيا على حساب الآخرين، كان الجمهوريون يأكلون في منزل الأستاذ "الكسرة بأم شعيفة" ويحرصون على عدم الإسراف في الماء، في الوضوء، لأن هنالك من يحتاجه للشرب، في غرب السودان.. القاعدة عند الجمهوريين هي: أن تكون نفسك منك في تعب، والناس منك في راحة.. وعلى العكس، القاعدة عند الوهابية، والأخوان المسلمين، عملياً هي: أن تكون نفسك منك في راحة، والناس منك في تعب.. في الوقت الذي كانت تدور فيه الأحاديث، عن القيادي، الذي صنع لابنته حذاء من ذهب، كان الأخ الباقر الفضل جلبابه واحد، ولم يُر قط متسخاً.. شعار الجمهوريين: ساووا الناس في الفقر، إلى أن يتساووا في الغنى.. وعمل الآخرين، وليس شعارهم، العمل على الثراء، والثراء الفاحش، على حساب الآخرين.. الجمهوريون، في سبيل تحقيق إنسانيتهم، وقيمهم الدينية، يعملون على حمل الآخرين على أعناقهم.. وغيرهم، في سبيل الدنيا، لا يمانعون من امتطاء رقاب الآخرين، بل وربما الصعود على جثثهم.. الجمهوريون دعاة لإخصاب الحياة، وتحقيق الرفاهية، شريطة أن يكون ذلك لكل الناس.. أما قبل ذلك، فالقاعدة قول المعصوم: "يا آل محمد، أول من يجوع، وآخر من يشبع.." وهي قاعدة ليست مفروضة على أحد، وإنما يلتزمها من يلتزمها،عن قناعة، وعن مشهد، وليس مجرد ادعاء.. عند الجمهوريين: الدنيا مطية الآخرة.. وعند الآخرين: الآخرة مطية الدنيا..
    فمرحباً بتزمت الجمهوريين.. ومبروك على النور سعة الوهابية، والأخوان المسلمين.. و"قل كل يعمل على شاكلته، فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا".

                  

10-06-2005, 03:34 PM

Omer Abdalla
<aOmer Abdalla
تاريخ التسجيل: 01-03-2003
مجموع المشاركات: 3083

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الأستاذ خالد الحاج: الفكرة الجمهورية والبراغماتية (Re: Omer Abdalla)


    تعقيباً على دكتور النور حمد
    الفكرة الجمهورية والبراغماتية (13)
    الحياة .. وتجليات الحياة
    خالد الحاج عبد المحمود

    زعم د. النور محمد حمد، أن "مدخل التسليك، الذي صممه الأستاذ محمود محمد طه، ورعاه بنفسه، كان مدخلاًً محاطاًً بإطار محكم من العزلة، عن حياة المجتمع العريض"!! وقد رأينا، كم هي هائلة المفارقة في هذا القول.. ولكن المفارقة التي هي أكبر بكثير، من هذه المفارقة، هي زعم النور، بأن التجربة التسليكية التي رعاها الأستاذ، بنفسه، حالت دون الجمهوريين "والتمتع بما تهبه الحياة في تجلياتها المختلفة"!! .. وأنها أدت إلى ابتعاد الجمهوريين "عن ممارسة سائر صور الحياة الطبيعية التي يمارسها بنو البشر، دون أن يحسوا بأي شعور بالذنب، حين يمارسونها" !! وهو يقول، عن الحياة في التجربة التسليكية المعنية: "لا فن، ولا رياضة، ولا موسيقى، ولا ترويح، ولا نزهة، ولا ولا!!"!! شدة المبالغة هذه، دليل واضح على البعد الشديد، عن الموضوعية . فمزاعم النور، لا يمكن أن تنطبق حرفياً، إلا على من هم أموات، الموت الحسي.. .. ولقد سبق لنا أن قمنا بالرد على بعض جوانب، هذه المزاعم .. ونحن هنا بصدد الرد، على الجانب المتعلق بالحياة، فحديث النور في هذا الجانب، يشكل أكبر، وأوضح جوانب المفارقة، في كتابة النور، هذه الغريبة جداً .. ولقد سبق لنا أن أوضحنا، منذ البداية، عدم الوضوح وعدم التحديد في تعامل النور مع المفاهيم .. وهو كالعهد به، لم يورد أي شئ عن مفهوم الحياة عند الجمهوريين، ولاحتى عنده هو!! ولقد كان الأولى به، أن يورد مفهوم الحياة، عند الجمهوريين ـ وهو مفهوم واضح ومحدد ـ ثم بعد ذلك يعرض رأيه حول هذا المفهوم، وحول الحياة التي قامت عليه، ليرى القارئ هل ما يدعو له الجمهوريون، ويعيشونه، هو الحياة، أم الحياة هي ما يريد أن يصرفهم النور إليه!!
    فعلينا نحن، أن نوضح ماتركه النور، من مفهوم الحياة، والمنهاج الذي يؤدي إليها.

    ماهي الحياة؟
    أصل الحياة، في الإسلام، كما يدعو له الأستاذ محمود محمد طه، هو حياة الله تعالى .. . فهو وحده تعالى، الحي بذاته .. . وكل من عداه، قيوميته به تعالى، ويستمد حياته منه.. فأصل الحياة، ومصدرها، في الإسلام، واحد هو الله تعالى .. وحياة كل حي من المخلوقات، هي عبارة عن تجلي الله عليه، باسمه الحي.. وهذا التجلي، لا يكون إلا حسب استعداد الحي لتلقي الحياة، المفاضة منه تعالى.. ولذلك، الحياة مستويات ودرجات متفاوتة، تفاوتاً كبيراً .. فهي تبدأ من حياة حيوان الخلية الواحدة وتنتهي عند حياة، الله تعالى، في إطلاقه!! فكل حي يبرز إلى موقعه، في سلم الحياة، حسب استعداد المحل عنده للتلقي .. وكل مستوى من مستويات الحياة، له من أسباب الحياة في الشريعة، ما يناسبه ويكون به قوام حياته.. ويكفي أن نشير هنا، أنه قد مر على الحياة في الأرض وقت، كان فيه الأكسجين، هو أكبر خطر يهددها ثم أصبح الأكسجين لاحقاً، العامل الأساسي لقيام الحياة في الشريعة!! وبالطبع تعبير الحياة عن نفسها، يختلف باختلاف مستويات الأحياء، حسب مواقعهم في سلم الحياة.
    فبداية الحياة، بالمعنى الاصطلاحي، هي بروز المادة العضوية، من المادة غيرالعضوية .. وبذلك برزت ثنائية الجسد، والروح، أو الكثيف، واللطيف .. وبتطور الحياة، أخذ الكثيف يلطف، واللطيف يزداد لطافة .. وأصبحت حركة التطور كلها، بالنسبة للحياة هي عبارة عن زيادة، في اللطافة .. وقد كان الحي الأول، يحس بجلده كله، وقد دفعته إرادة الحياة بدافع الخوف، عن طريق اللذة والألم إلى الفرار من ما يؤلم إلى مايلذ .. وقد أدى صراع الحياة إلى ظهور الحواس، إلى أن اكتملت بالحواس الخمسة عند الحيوانات العليا.. وقد اتسعت الحياة، بظهور هذه الحواس، وتعمقت . ثم في قفزة ظهر العقل، كتتويج للحواس.. وبدخول العقل في المسرح، ظهرت حياة الإنسان، وبذلك تم أكبر تحول في تاريخ الحياة .. وأصبحت الحياة، حياة فكر وشعور .. والفكر، هو رأس الرمح، في تطور حياة الإنسان.. وبظهور العقل، وظهور المجتمع، وحتى تصبح حياة المجتمع ممكنة، أمر العقل بترويض اندفاعات الشهوة الحيوانية، عند الإنسان .. فدخلت القيمة في الحياة الإنسانية وبذلك تميزت عن حياة الحيوان.. . فالعقل، والقيمة، هما العنصران الأساسيان، اللذان تتميز بهما حياة الإنسان عن حياة الحيوان، ولذلك هما المعيار، الذي به يقاس كمال الحياة، عند الإنسان .. ولم تتخلص حياة الإنسان من حياة الحيوان بصورة كاملة، وانما ظل الحيوان، رابضاً، داخل الانسان وأصبح على الوافد الجديد ـ العقل ـ أن يروضه، ويهذبه أو قل "يؤنسنه" .. وبذلك بدأت مسيرة الإنسان، نحو تحقيق حياة الإنسانية، مبتعداًً عن الحيوانية .. وكل مشقة يتحملها في هذا الاتجاه، انما هي منزلة قرب من إنسانيته، تمثل في حد ذاتها، منزلة بعد عن حيوانيته.
    فبالتجافي عن اللذة الحرام العاجلة، استجابة لما أوجب المجتمع وما أوجب الشارع، في القانون، وفي الدين، وابتغاء اللذة الحلال الآجلة، قوي عقل الإنسان، وقويت إرادته .. قوي عقله لحاجته للتمييز بين ما ينبغي، وما لا ينبغي، وقويت إرادته لحاجته للسيطرة على دواعي نفسه في الاندفاع نحو اللذة الحاضرة، كما هو شأن الحيوان، الذي لا يزال داخله.. وبهذا الصنيع انكبتت رغائب، أصبح بها الإنسان منقسماً، بين عقل كابت، ورغائب مكبوته.. وبالكبت اتخذ الإنسان الخطوة الأولى في سيره إلى مقام إنسانيته.. وستكون الخطوة الثانية هي فض الكبت .. . ولقد وقع الكبت بين عقل المعاش، وعقل المعاد .. وعقل المعاد هو الطبقات التي تلي عقل المعاش فيما بينه وبين سويداء القلب.. وطبقات العقل سبعة، تطابق النفوس السبعة .. وسبب الكبت الخوف، ولا يكون التحرر منه إلا عن طريق العلم الذي به يتم التحرر من الخوف .. فلقد كان الانقسام في جميع أطواره بدافع الخوف.. فلولا الخوف لما ظهرت الحياة في المكان الأول، ولولاه ماترقت الحياة، بظهور العقل في المكان الثاني .. ومع ذلك فإن الحياة، لن تبلغ كمالها، إلا إذا تحررت من الخوف.

    الحياة الدنيا والحياة العليا:
    يتضح مما تقدم، أن الحياة تقع في مستويين: الحياة الدنيا وهي حياة الحيوان في الإنسان .. والحياة العليا، وهي حياة الإنسان.. وهذه الحياة الثانية، هي" الفطرة" .. فطرة الله التي فطر الناس عليها.. يقول الأستاذ محمود عن الحياتين: "وما حياة الحيوان إلا الخطوة الأولى، في السير إلى حياة الإنسان .. .حياة الإنسان عالمة، وحياة الحيوان جاهلة .. وحياة الإنسان هي الحياة الاخرى، وحياة الحيوان هي الحياة الدنيا .. للحياة الأخرى عقل المعاد.. وللحياة الدنيا عقل المعاش، وانما جاء الدين ليهذب عقل المعاش، ليرتفع إلى عقل المعاد.. ولما كانت حياة الإنسان عالمة، كانت أيضاً طائعة لله، ومؤمنة به".. وهكذا، ترتبط حياة الإنسان بالعلم، وبالطاعة لله، وهذا خلاف ما تكون عليه الحياة الدنيا .. ويقول الأستاذ محمود: "الإسلام يقسم الحياة إلى درجتين، بينهما اختلاف مقدار، لا اختلاف نوع: الحياة الدنيا والحياة العليا .. أما الحياة الدنيا فهي حيوانية، وأما الحياة العليا فهي إنسانية .. فالإنسان ما دامت مسيطرة عليه، صفات الحيوان، خضع لها، أو قاومها، فهو في الحياة الدنيا .. فإذا تخلص من حياة الحيوان، بفضل الله، ثم بفضل المجاهدة المستمرة، لدواعي هذه الصفات، فقد أصبح في الحياة الأخرى، أو الدار الآخرة، كما يرد عنها التعبير في بعض الأحيان" .. ويقول: "فالإسلام، انما يميز بين قيم الحياة، ويجعل وكده تسيير الناس إلى الحياة الإنسانية بتزهيدهم ،وإزعاجهم عن الحياة الحيوانية" .. والتخلص من الصفات الحيوانية عندنا، بالصورة التي تفضي إلى حياتنا الإنسانية، لا يتم بصورة تلقائية، وإنما هو يحتاج إلى مجهود، في الفكر وفي العمل .. كما يحتاج إلى منهاج، يوجه الفكر، ويوجه العمل .. وهذا المنهاج هو ماتدعو له الفكرة الجمهورية، في دعوتها لطريق محمد، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم .. .. وهذا المنهاج هو ما يقوم عليه العمل، عند الجمهوريين، وهو ما قامت عليه التجربة التسليكية، التى يتحدث عنها النور، تحت رعاية المرشد .. وهذا المنهاج ـ منهاج السنة ـ يقوم في كل تفاصيله على ترويض الفكر، وتهذيبه وتحريره، حتى يقوى، ويستحصد، ويستطيع أن يقود النفس، ويهذبها، ويخلصها من نوازع الحيوانية .. فللفكر الدور الأساسي في تحقيق الحياة الإنسانية، ولذلك سميت: حياة الفكر والشعور .. ونحن بالطبع هنا لا نملك أن نفصل في المنهاج، ونبين كيف يتسامى بالحياة في المراقي، المختلفة .. فليراجع ذلك، من شاء، في كتب الفكرة الجمهورية الأساسية.
    المهم أن نقرر هنا، أن الفكرة تتحدث عن مستويين من الحياة، بصورة واضحة لا لبس فيها .. هما: الحياة الدنيا، والحياة العليا.. وتعتبر أن الحياة العليا ـ حياة الانسان، وحدها هي الحياة، ولذلك تدعو لها، وتنفر، وتزهد في الحياة الدنيا ـ حياة الحيوان .. فكان على د. النور أن يبرز هذا الأمر، ثم يناقشه، وهذا هو الحد الأدنى من الموضوعية .
    التخلص من النزعات الحيوانية، في حياتنا، وسيلته الفكر، المروض، وهذا الفكر يقوم على معرفة عيوب السلوك للتخلص منها.. وجماع عيوب السلوك اتباع هوى النفس .. فالعقل الذي يتخلص من هوى النفس ـ العقل المتحرر من الرغبة، هو الذي تقوم عليه الحياة الإنسانية، وهو عقل المعاد.
    هنالك دراسات عصرية، قيمة، عن السلوك الحيواني عند الإنسان، نذكر منها الدراسة الممتعة، لعالم الحيوان: دزمون مورس Dezman Moris التي وردت، في كتابه "القرد العاري" "The Naked Ape" وكذلك، لنفس الكاتب، "حديقة الحيوان الانساني" "The Human Zoo" .
    والحياة الانسانية، تقوم على الحرية، وهي القيمة الأساسية، التي تميز بها الإنسان، عن الحيوان، وعن المَلَك .. وأما الأخلاق، فما هي إلا حسن التصرف في الحرية .. ومجال الحرية الفردية كله، يقوم على تسليم الإرادة البشرية الحادثة، للإرادة الإلهية القديمة .. وهذا هو الإسلام .. فتحقيق إنسانية الإنسان، إنما يتحقق بإقامة العلاقة بيننا وبين الله، وهذا هو معني الحياة، في هذا المستوى .. الحياة، هنا هي وصل حياة الإنسان، بمصدرها ـ الله ـ لتلقي المزيد من الحياة .. وعلى ذلك، فإن الموت الحقيقي، هو الغفلة عن الله والجهل به تعالي، وهذا هو موت القلوب، وهو الموت الأعظم .. يقول الأستاذ محمود: "هذا هو البعث الأعظم ـ بعث موتي القلوب .. وهو الموت الأعظم عند الله .. قال تعالى: (أو من كان ميتاً فأحييناه، وجعلنا له نوراًً يمشي به في الناس، كمن مثله في الظلمات، ليس بخارج منها ؟؟ كذلك زين للكافرين ماكانوا يعملون) قوله (أو من كان ميتاً) بالجهل بالله .. (فأحييناه) بالعلم بالله .. يعني أومن كان ميت القلب بظلام الكفر، فبعثنا قلبه وأحييناه بنور الإيمان، كمن هو في ظلمات الجهالات يتخبط فيها على غير هدى" .. فالموت هو الجهل بالله .. والحياة هي العلم بالله .. فالسير إلى الله تعالى هو عمل في تلقي الحياة الباقية، وترقٍ في مدارجها .. وهذا السير، انما هو تقريب الصفات من الصفات . تقريب صفات العبد، من صفات الرب.. فليس بيننا وبين الله تعالى، مسافات نقطعها، انما هي حجب نرفعها .. والفكر هو وسيلة رفع هذه الحجب .. وأعلى الصفات الحياة، وجميع الصفات متعلقة بها.. فالله تعالى: حي، عالم، مريد، قادر، سميع، بصير، متكلم .. وقد خلق الإنسان، وجعل له هذه الصفات .. غير أن صفاته تعالى في مطلق الكمال، وصفات العبد في طرف النقص .. ولقد دعينا للتخلق بأخلاق الله، قال تعالى: "كونوا ربانيين، بما كنتم تعلمون الكتاب، وبما كنتم تدرسون" .. وقال المعصوم: "تخلقوا بأخلاق الله، إن ربي على صراط مستقيم".. والتخلق بأخلاق الله هو عمل في التزام العبودية، وأدبها .. والحجب التي بيننا، وبين الله، تقع في مستويين: مستوى حجب الظلمات ـ وهي شهوات الجسد .. ومستوى حجب الأنوار، حجب العقول .. ولا دخول في الحياة الإنسانية، إلا بعد تجاوز حجب الظلمات ـ وهي منطقة الحياة الحيوانية .. وذلك باخضاع رغائب النفس للعقل، فلا تعبر عن نفسها إلا في إطر شريعة تراعي جانب الله، وجانب الآخرين من البشر في نفس الوقت .. هذه لمحة عن الحياة في الفكرة الجمهورية .. وهذه الحياة هي الغاية ـ غاية الوجود كله .. وهي التي جعل الله تعالى، بها الإنسان خليفته ـ وذلك، دون سائر خلق الله.

    الحياة هي الغاية:
    الشئ الوحيد، الذي هو غاية في ذاته، هو الحياة .. فكل ماعداها هو وسيلة لها.. والحياة، هذه، هي مشروع يبدأ من مجرد محاولة التخلص من صفات الحيوان، والدخول في حياة الإنسان، ثم هي تتسامى، منفتحة على الإطلاق، في سير سرمدي لا نهاية له .. فالحياة الكاملة هي تكليفنا الأساسي، والسبيل إليها هو التوحيد .. والتوحيد هو صفة الموحِّد "بكسر الحاء" .. والتوحيد، يبدأ بتوحيد ثالوث "الفكر" وهو الفكر، والقول، والعمل .. وهذه الوحدة هي وسيلة، واسلة للوحدة الكبرى ـ لوحدة ثالوث "الحياة" ـ وهو العقل والقلب والجسد ـ وهذا هو نهاية المطاف (وليس للمطاف نهاية) ولكنه غاية الغايات، ونهاية النهايات .. وهو جماع التكليف الديني، في جميع أكوان وجود الإنسان .. في هذه الحياة الدنيا، وفي حياة البرزخ، وفي النار، وفي الجنة .. بل الحياة الكاملة ليست تكليفنا الديني فحسب، وانما هي القدر المقدور لنا .. فإن الانسان مكتوب عليه الحرية، ومكتوب له الكمال .. فهذه الحياة هي أصل الإنسان الذي منه صدر، يقول تعالى: "ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم".. هذا في عالم الملكوت .. وإلى هذا الأصل يعود الإنسان، فيحقق ماكان في الملكوت، في الملك، وهذا عليه حتم مقضي.. يقول تعالى: "كما بدأنا أول خلق نعيده، وعداً علينا، إنا كنا فاعلين" .. وهذا هو معنى السير إلى الله وهو ـ كما قلنا ـ تقريب الصفات من الصفات .. تقريب صفات العبد، من صفات الرب، عملاً بقوله تعالى: "كونوا ربانيين، بما كنتم تعلمون الكتاب، وبما كنتم تدرسون" وقول المعصوم "تخلفوا باخلاق الله، إن ربي على صراط مستقيم ".. وأخلاق الله المعنية، هي القرآن بين دفتي المصحف، وقد جسدها المعصوم، في اللحم، والدم، ولذلك أصبحت حياته، مفتاح مغاليق القرآن .. وهذا يعني أن حياته صلى الله عليه وسلم هي نموذج الحياة الإنسانية، الذي جعله الله تعالى وسيلة لكل فرد بشري، يطمح إلى تكميل حياته، وتحقيق إنسانيته .. . فلا سبيل لتحقيق الحياة، بالمعنى الذي نتحدث عنه إلا باتباع النبي الكريم، في سنته ـ في عبادته وفيما يطاق من عادته.
    وهذه الصفات التي ذكرناها، هي ما يعرف بالصفات النفسية السبعة وهي التي يراد التخلق بها، وقد جاء القرآن ليعرف بهذه الصفات الإلهية، حتى تدركها العقول، وليختط لها طريق السير الذي به يتم تأديب العقول، حتى تقوم هي بدورها في تأديب النفوس .. . والأدب جماعة، أدب العبودية، ويبدأ بالعمل على التخلص من وهم الإرادة المتوهم، بتسليمها لصاحب الإرادة الحقيقية، فتصير إرادتنا من إرادته وعلمنا من علمه، وحياتنا من حياته، .. فالعبودية لله، هي الحياة به تعالى، وهذه هي الحياة .. هذه هي الحياة التي يفضي اليها منهج التوحيد .. . والفرق بينها وبين حياة الحيوان، أن حياة الحيوان حياة ناقصة، وهي حياة مفقودة بالموت الحسى .. أما حياة الإنسان، فهي حياة تسير في طريق الكمال، وهي تزيد بالموت الحسى .. وذلك لأن الموت الحسي، بالنسبة للعارف، زيادة قرب من الله، وهذا القرب هو الحياة .

    الفكر هو طريق الحياة:
    واضح مما تقدم، أن الحياة في الفكرة الجمهورية، ليست هي مجرد العيش.. بل الفرق بين الحياة، والعيش، جد كبير .. فليس كل من هو عائش حي، وما أكثر أموات الأحياء.. والفكرة في جوهرها، دعوة، وبشارة، بالبعث ـ بعث موتى القلوب، وهذا هو الموت الحقيقي عند الله، والبعث منه، هو البعث الحقيقي .. وفي إطار الحضارة الغربية، السائدة، اليوم فان أسباب العيش قد توسعت، بصورة لم تحدث في التاريخ، وينتظر، بعون الله، وفضله أن يكون هذا الواقع الجديد، البناء التحتي، لبعث حياتي عظيم، وذلك بنفخ الروح في الهيكل المادي للحضارة .. ولا سبيل لذلك إلا سبيل الإسلام، وكما تبشر به الفكرة الجمهورية .. فالحياة، وفق قيم الحضارة الغربية السائدة ليست حياة، وذلك لأنها تقوم على بعد واحد، كما يقول هربرت ماركوز، وغيره، من المفكرين الغربيين .. ولأنها تقلص الشخصية البشرية، إلى إطار من الحياة، يتشكل كله، حول الملكية .. ونحن لا نستطيع هنا، أن نفصل في هذا الأمر، ولذلك نحيل القارئ للتحليل الرائع، لنمط الحياة الذي تقوم عليه الحضارة الغربية، الوارد، في كتابات إريك فروم، خصوصاً كتابه: To have or to be ـ أعتقد أن هنالك ترجمة عربية للكتاب ..
    مانريد أن نؤكده هنا، هو أن الفكر، هو طريق الحياة الإنسانية، ولاسبيل، لها بغيره .. والفكر المعني، ليس هو كل فكر، وانما هو الفكر الحر، الدقيق، المروض المؤدب .. والفكر موءوف بآفات لاحصر لها، وسببها جميعاً الخوف .. وقد ذكرنا أنه لا سبيل لكمال الحياة، إلا بالتخلص من الخوف، البدائي العنصري .. فالخوف هو الذي أزعجنا من العيش، في اللحظة الحاضرة ـ حيث الحياة الحقيقية وجعل بندول فكرنا متأرجحاً، بين الماضي والمستقبل.. والماضي قد انقضى، والمستقبل لم يحن حينه، ونحن لن نغير فيهما شيئاً .. والمنهاج، في التجربة التسليكية، كله، سواء كان في العبادة، أو المعاملة، يقوم على الرياضة والمران على تقليل الذبذبة بين الماضي والمستقبل .. ومحاولة العيش في اللحظة الحاضرة، وهذا ما يعرف بـ" أدب الوقت" .. وهو كله عمل في وصل الحياة بمصدرها، لتلقي المزيد منها.
    فعن طريق الفكر، يتم رفع الحجب التي بيننا وبين الله، فنتلقى عنه تعالى، العلم، والحياة .. والحياة تعمق وتتسع بحسب تحرر الفكر، ودقته، وهذا يتم وفق تصور محدد، ومنهج مرسوم لرياضة العقول، عن طريق التسامي في التقوى، من مستوى المؤمن العادي، والورع وصاحب اليمين، والبر، والمقرب.. . والمقرب هو من يكون حضوره مع الله، أكثر من غفلته عنه، وهذا الحضور يشكل مستوى الحياة عنده .. وعن المقربين وحياة المقربين، جاء من أقوال الأستاذ محمود: "والمقربون هم الذين يكونون عند ربهم، غالب أحوالهم فهم علماء قد وسع العلم عليهم، ما ضيق الجهل على سواهم، فأصبحوا، بفضل الله، ثم بفضل سعة علمهم، رحماء، طيبين، متسامحين، محبين للأشياء، والأحياء، في سلام مع ربهم، ومع أنفسهم ومع الناس .. .يدعون الرضا بالله والمصالحة مع الناس وينشرون الحب، والسلام، والمسرة، بين الناس، كما ينشر الزهر العطر، وكما تنشر الشمس النور، والحرارة الدفء .. . هؤلاء هم ملح الأرض، عرفوا أو لم يعرفوا .. وتقوى هؤلاء هي عمل، أو ترك للعمل، ابتغاء وجه الله ، وزمنهم فكر متصل .. فجميع أوقاتهم معمورة بالفكر، والعمل وفكرهم ليس تعملاً، وانما أصبح طبيعة، تنبع فيهم المعاني، والمعارف كما ينبع الماء النمير من العين الثرة، وقد تطهرت من أوساخها وأوضارها . وعبادة المقربين الاستقامة .. والاستقامة أن تكون على السراط المستقيم في الفكر، والقول والعمل، فلا تميل يسرة , ولا يمنة"!! هذا نموذج الحياة الذي تدعو له الفكرة الجمهورية، والذي استهدفته التجربة التسليكية، عند الجمهوريين، وسارت في طريقه، تحت رعاية وإرشاد المرشد، الأستاذ محمود محمد طه.. وهذه الحياة رغم أنها منفتحة على الإطلاق، إلا أنها تبدأ من بدايات بسيطة، في العمل في ما لا تصح العبادة إلا به، وفق منهاج السنة، في تقليد المعصوم ثم تتدرج، عن طريق ادخال الفكر، في العمل متسامية على نفسها، مسترشدة ومهتدية بحياة أعظم حياة، تجسدت في الأرض .. حياة محمد النبي الكريم، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم .. والفكرة الجمهورية، تبشر بكمال الحياة، على الأرض، بظهور الحاسة السادسة، والحاسة السابعة: "وانما نرد، بظهور الحاسة السابعة، مورد الحياة الكاملة .. وليس للحياة الكاملة نهاية كمال، وانما كمالها دائما نسبي" .. وفي سبيل تحقيق هذه الحياة، جاء المنهاج، الذي يوقظ الفكر، ويحرره، حتى يوجه العمل، والترك للعمل، ليكون كله في سبيل مرضاة الله "فإن كل عمل، نعمله ،أو ندعه، لا يكون اعتبار مرضاة الله فيه هو دافعنا للعمل، أو الترك، فهو باطل".. ومن هاهنا يجئ الموقف، مما أسماه د. النور باللهو البرئ .. فهذا اللهو ليس حياة، وانما هو انصراف عن الحياة .. .أو قل هو حياة، في مستوى الحياة الدنيا ـ حياة "القرد العارى"!! فلم يكن اللهو، في أي يوم من الأيام، وهو لن يكون، من أغراض الدين .. أغراض الحياة الإنسانية .. فعندما يتأذن الله، ستكون الكثير من صور، ما أسماه النور باللهو البري، من وسائل السير إلى الله، ووقتها لن تكون لهواً، فاللهو غفلة عن الله، وهو بما هو كذلك، نقص في الحياة .. ولقد وردت كلمة "لهو" ومشتقاتها عديد المرات، في القرآن الكريم، وليس فيها ولاحالة واحدة لا تدين اللهو وتنفر عنه.. وأينما وردت كلمة "لهو" في القرآن، مرتبطة بالحياة فهي، دائماً تكون الحياة الدنيا!! فضروب التسلية، واللهو، التي انتشرت في الحياة العصرية، هي قتل للوقت وهي على ذلك قتل للحياة!! وقد تفطن لذلك، حتى بعض المفكرين العلمانيين فها هو إريك فروم، مثلاًً يقول: "لقد أصبحنا أناساً، يكونون سعداء بقتل الزمن الذي عملنا جاهدين على توفيره"!!.
    فالتجربة التسليكية، التي قامت عليها حياة الجمهوريين هي تجربة لا مثيل لها على الإطلاق في معرفة الحياة، ومعرفة السبيل إلى تحقيقها، والترقي في مراقيها، بل هي التجربة الوحيدة الموجودة على الأرض، في هذا الصدد، وما دونها، هو ليس حياة، وانما هو "عيش" والعقل الذي يقوم عليه هذا العيش هو عقل "المعاش" .. والحياة ـ حياة الانسان ـ لاتقوم إلا على عقل المعاد .. أما عن الاستمتاع فيكفي أن نقول إن من عاشوا التجربة، هم إلى اليوم، يتذوقون حلاوتها، ويحنون إليها، ويجترون ذكراها، فيترنمون مع الأخ العوض مصطفى:
    "يكفيني أني عشتُ زماناً كان له معنًى ومذاق
    يكفيني أني كنتُ جليسك رغم شعور الابن العاق"
    إذا كان ماينقص حياتنا هو اللهو البرىء , فهي إذاً لاينقصها شئ!! ولكننا كسالكين، نعلم أننا ينقصنا الكثير، من ما هو أهم وأكثر ضرورة للنهوض بحياتنا، في مراقي الحياة، التي تفتح ذهننا عليها.
                  

10-10-2005, 09:23 PM

تاج السر حسن

تاريخ التسجيل: 03-23-2004
مجموع المشاركات: 0

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الأستاذ خالد الحاج: الفكرة الجمهورية والبراغماتية (Re: Omer Abdalla)

    الموضوع المطروح على هذا البوست أحد أهم المواضيع التى كنت أتابعها، وقلت لنفسى لو كنت موجودا لما سمحت له أن (يغطس).
    فهو غذاء روحى ، وعبارات تهدى للتواضع وأختلاف وكأنه أتفاق ، لأنه يرتفع عن الصغائر ويتناول الدقائق وألأصول والحقائق.
    ويجعل كل قول بعده (مسيخا)، فهل يعقل أن أبحث عنه وأجده فى القاع؟؟
                  

10-11-2005, 11:02 AM

أبوبكر حسن خليفة حسن

تاريخ التسجيل: 09-30-2005
مجموع المشاركات: 198

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الأستاذ خالد الحاج: الفكرة الجمهورية والبراغماتية (Re: تاج السر حسن)

    وقفة قصيرة مع بعض ما كتب أستاذنا خالد الحاج ...
    الأخ الأستاذ الفاضل عمر عبد الله ...

    الشكر موصول لك وأنت تضع هذا الخيط الفكري الدقيق والخطير بين يدي قراء وأعضاء المنبر العام .. وأقصد بالدقيق تناول معضلات ومسائل الفلسفة المعقدة مع اطروحات الفكرة أو الفطرة أو أن شئت قلت الدين , وأقصد بالخطير احتمالية بروز نبرة غير محببة تودي إلى أعاصير مماثلة للتي حدثت هذه الأيام .. تحول بين المتلقي والصواب , ولا يفهم من هذا روح وصايا فالكل راشد ولله الحمد , غير أن آية إبراهيمية طافت حولي (الآن) منطقها " اللهم لا تجعلنا فتنة للذين كفروا " وبالرغم من أنني لست أحد أفراد الحركة أو الحزب أو التنظيم فيما سبق.. وذلك بسبب حجاب السن أو غيره .
    غير أنني على قناعة تامة أن الأزمة التي تواجهها البشرية عامة و"الأمة الإسلامية" على وجه الخصوص لا مخرج منها اليوم.. إلا بالإسلام ووفق الفهم الذي يزيل التعارض ما بين الدين والعلم , والنقل والعقل , وحاجة الفرد للحرية الفردية المطلقة , وحاجة الجماعة للعدالة الاجتماعية الشاملة . ولا يوجد ذلك وغيره من حاجات الوقت ـ حسب علمي ـ إلا في الفكرة التي طرحها صاحبها كقطعة الفولاذ بعد أن عاشها على أكمل وأصدق وجه في اللحم والدم إلى أن ذهب إلى سبيله راضيا بما كان.. يوم أن تبسم ( في وجه الشناق ) ...
    وليعذرني الأخوة الكرام لتلك المقدمة وأنا حديث عهد بهذا المنبر ! غير أنني أحببت أن أبين ملاحظة ( على بساطتها ) في الطرح الذي قدمه أستاذي خالد الحاج ...وهي تتمثل في الفصل الحاد بين الفكر الديني وبقية العلوم والفلسفات الأخرى.. فعند الأستاذ خالد الحاج الفصل قاسي جدا ! وفي تقديري أن هذا الأمر ناشئ من موقف الأستاذ خالد الحاج من الفكرة وصاحبها حيث يرى أن الباطل لا يأتيها من بين يديها ولا من خلفها .. والرؤية هنا أيضا صحيحة حين يكون التطابق بين الفكرة والإسلام أمر حتمي .. وهو بدون أدنى شك أمر حتمي .. ولكن .. بعد ذلك تبقى من مساحة لا بد لها من أن تمتلئ .. فإن تمتلئ بالتعدد خير من أن تمتلئ بالرأي الواحد الذي لا يقبل التصحيح والتراجع , ولا يتم ذلك إلا بعد أن توجد مساحة لإعمال العقل في نصوص الفكرة بمقتضى العقل , وقطعا لا يتأتى هذا الأمر لغير المؤمنين بها .. ليس لأنها فكر كهنوتي مغلق ! بل لأنها سير سلوكي فردي مآله الحرية الفردية المطلقة .. وفي ظني هذا هو الأمر الذي جعل د. النور محمد حمد بهذه الجراءة التي إن دلت على شيء فإنما تدل على أنه صاحب مشرب أو منحى (فردي) نبعه العالي ومصبه في نفس الوقت ( الفكرة ) .
    بهذا يصبح ليس من اللائق محاولة إخراج من يختلفون معنا في فهم بعض النصوص من دائرة رحابة الفكرة .. التي هي الإسلام والأمر فيه سعة كما قال المعصوم عليه أفضل الصلاة والسلام لذاك الأعرابي " قد حجرت واسعا ", كما أن المعصوم نفسه عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم قد أقر أهل الاختلاف في حديث بني قريظة المشهور ولم يخطي أيّا من الطرفين والقول واحد .
    وقد قال العنبري كل مجتهد مصيب حين قال الجمهور لكل مجتهد نصيب . والأمر عند الجاحظية وغيرهم من أهل النظر متعلق بالوسع أو ( الطاقة ) فكل من أفرغ الوسع يكون الحكم بالنسبة إليه متعلق ذاك الوسع " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " .. ومن مدخل السعة في الدين يكون الوسع الذي أشارت له عبارة الأستاذ الأكبر محمود محمد طه فيما دار من خلاف بين علي ومعاوية . كما أن الدكتور النور حمد قد لخص منطلقاته ـ عند طرحه لهذا الموضوع ـ بصورة أساسية من تلك المقولة وهي : " موضوع علي ومعاوية يحتاج إلى فكر يغطس الزانة ويطفح المسحانة " وقد قال الدكتور النور حمد توكأت على تلك عبارة ... وبالفعل جعل منها الدكتور منطلق وعصا يتوكأ عليها ويحتفظ بها طيلة المساحة الشاسعة التي قطعتها تلك المقالات الممتعة والعجيبة في نفس الوقت !
    وبعد ذلك لعل الطرف الدقيق من الدين أو التوحيد نفسه يقلل أو يزيل اعتبارات الموت وما بعد الموت .. وقد ذكر الأستاذ محمود على لسان علي كرم الله وجه أنه قال : ( لو رفع حجاب الموت لما ازددت يقينا ) !! والأمر أوضح فيما نقل العدول أن الأستاذ قد تحدث ( عن الحق الذي في الإلحاد !! ) وهمًّ بكتابة ذلك في إحدى طبعات طريق محمد .. غير أنه عدل عن ذلك لأمر متعلق بحال المخاطبين في ذلك الوقت !! كما أن النفي المطلق عند فلاسفة البراغماتيين ليس بباطل من كل الوجوه لقول الفكرة العتيد أن الباطل المحض لا يدخل الوجود .. والأمر متعلق بمسألة التوحيد ذاتها .. فنفي النافي المطلق للمطلق إثبات حيث الروح المنفوخ فينا هو الذي يقوم بالنفي . بل الإلحاد معرفة ناقصة و " لا إله " نصف الحقيقة وجزء من العلم 0
    أما غير ذلك فقل " إن كل من في السماوات والأرض إلا أتى الرحمن عبدا " .. وكما أن الباطل المحض لا يدخل الوجود فالفكرة حصرت الاختلاف مطلق الاختلاف في "اختلاف المقدار"..
    ولعل أخطر كلمة ـ بالنسبة لي ـ نسبت إلى دكتور النور حمد هي : " رغم خلافي الفكري العميق مع طرح الإسلاميين في السودان إلا أنني أرى أهمية منازلتهم لحركة التمرد وتبديد الزخم السياسي والعسكري والإعلامي الذي ما كسبته حركة التمرد في الماضي إلا بسبب ضعف حكومات الشمال السابقة " !! جريدة الحياة12/6/1999م حيث مدادها يقطر منه نقطة دم ـ فيما يبدو ـ ونسأل الله أن يكون دم الحقيقة !! الذي بموجبه تصان الدماء وتحصن الأرواح إلى يوم الدين0 كما جاءت الإشارة بذلك في سورة الكهف 0
    وكتب الله لنا ولكم الحضور ,,,

    أبوبكر حسن رفاعة
                  

10-11-2005, 01:57 PM

عاطف عمر
<aعاطف عمر
تاريخ التسجيل: 11-26-2004
مجموع المشاركات: 11152

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الأستاذ خالد الحاج: الفكرة الجمهورية والبراغماتية (Re: أبوبكر حسن خليفة حسن)

    أرجو أن يسمح لي الأخ عمر بالترحيب في هذا المقام بالأخ أبو بكر حسن خليفة

    الذي أرى أنه إضافة واعية لهذا المنبر .
    هو لا يحتاج مني لتزكية فعطاؤه الفكري ماثل للقراء .
    قد يكون لنا تحفظ ورأى آخر فيما ذهب إليه . لكن نثبت له صفاء الفكر ووضوح الكلمة وتهذيبها .
    تابعت بعض ما كتب في موقع أبناء مدينة رفاعة، وغازلتني في أوقات كثيرة رغبة التداخل معه.
    لكن الأيام بصروفها المختلفة حرمتني من تلك المتعة .

    أكرر ترحابي بأبي بكر
    وشكري للأخ عمر

    على الهامش

    رأيت الأخ د. النور متداخلاً في بوست للأخ د. ياسر الشريف
    أرجو أن يكون ظرفه قد سمح لنسمع تعقيبه على آراء أستاذنا خالد الحاج
                  

10-11-2005, 01:26 PM

فتح العليم عبدالحي

تاريخ التسجيل: 08-07-2005
مجموع المشاركات: 0

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الأستاذ خالد الحاج: الفكرة الجمهورية والبراغماتية (Re: تاج السر حسن)

    العزيز ابوبكر حسن
    عليك السلام
    يحتاج الناس ان يعيدو الحوار حول افكار الاستاذ مره اخري ويستانفوا التعريف بها ليس المهم ان نقبل بها اولا لكن المهم ان تاخذ حظها من الحوار والنقاش حتي يقبلها من يقبلها علي بينه ويرفضها من يرفضها علي ذات البينه فالامر عندي ان الرجل لم ياخذ حظه كاملا في الدفع عن افكاره رحمه الله واحسن اليه
    افكر في زيارة الاستاذ خالد الحاج للحوار معه قد يكون هذا في رمضان اوعقب العيد حسبما تيسر ارجو ان التقيك ان شاء الله
                  

10-11-2005, 03:36 PM

أبوبكر حسن خليفة حسن

تاريخ التسجيل: 09-30-2005
مجموع المشاركات: 198

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الأستاذ خالد الحاج: الفكرة الجمهورية والبراغماتية (Re: Omer Abdalla)

    الأخ العزيز..
    فتح العليم .. فتح الله لنا ولك دروب الحق واليقين ,,,

    لا شك عندي الفكرة جوبهت ( وما زالت ) بكل الأسلحة المتاحة والممكنة .. المشروع منها وغير المشروع , وكان أعظم تلك الأسلحة .. استخدام الجهل والتزييف وعادة يؤتى المرء مما يجهل . في الوقت الذي الحكم فيه عن الشيء فرع عن تصوره أو كما ينبغي أن يكون معرفة عن ذاك التصور كما قال أبو الحسن النيسابوري في مسائل الخلاف . وفي نفس الوقت نحن " أهل مكة " المفترض فينا أن نكون أدرى بشعابها ؟! غير أن أهل القديم وجماعات النصب والاحتيال باسم الدين ! كانوا دائما ما يحولون بين الناس وبين الفكرة خصوصا هؤلاء الدعاة كانوا يتظاهرون بحب الشريعة والدعوة ( المخلصة ) لتحكيم الدين !! أما اليوم فقد أنكشف للناس زيفهم ورفع عنهم الغطاء فبدت عوراتهم المغلظة طالما ظنوا إخفاءها عن الناس , وكشف العورة تمثل عندي في زيف الفكر وعدم مقدرته على مواجهة الواقع , وزيف الأخلاق لدعاة الفكر السلفي حين وصلوا للحكم يوم وصلوا إليه ..
    وعذرا أن تقدمت خطوتين عند غياب أهل العرفان ..
    وأما بخصوص قولك : (( ان الرجل لم ياخذ حظه كاملا في الدفع عن افكاره رحمه الله واحسن اليه )) أوافقك فيما ترمي إليه .. وأما الحقيقة عندي فما زال الرجل ينافح عن فكرة بالفكرة التي بدأ الوجود يناجيها وله أنين !!
    وفي الختام لك سعادتي ووافر حبي فيما طلبت غير أنني ـ الآن ـ في القصيم فبلغ تحياتي للأستاذ خالد الحاج وحتما سوف نلتقي عند المشيئة والسلام ,,,

    أبوبكرحسن رفاعة
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de