|
مرض اعتلال الضمير الجماعي السوداني!!!
|
مرض اعتلال الضمير الجماعي السوداني!!!
نظرت الي الفتاة الشرق أوسطية ذات الاربعة عشر ربيعا بعينيها الواسعتين من خلف نظارتها الطبية الاقرب الى الطابع الرجولي و اجابت على سؤالي بتحدٍ واضح " نعم أكذب لأن الكل يكذبون..." و اردفت قائلة " أنا متأكدة انك أيضا تكذب في الكثير من الاحايين...". هذا الحديث دار بيني كطبيب في مستشفى الامراض العصبية للاطفال و اليافعين الكائن في الضاحية الجنوبية من مدينة لاهاي و بين مريضتي اعلاها و التي ادخلت الى القسم المغلق للاطفال بعد ان كانت تعالج من انهيار عصبي حاد و امتناع عن الاكل و الشرب مما شككنا في انها تعاني من مرض الانوريكسيا نيرفوزا (ما يعني بايجاز الامتناع عن الاكل للاحتفاظ بجسد نحيل يضاهي عارضات الازياء و لكنه يشتط الى درجة فظيعة يمكن ان يموت ازائها المريض) و هو مرض معروف و منتشر لدي الاناث لحد ما في سنوات البلوغ في أوروبا.
الواقع انه و بعد جلسات علاجية استمرت الى عدة اشهر تبين أن المريضة لديها اشكالات اسرية معقدة حيث أن الأم في شجار دائم مع الأب و كون الاسرة ببناتها الثلاث حضرت الى أوروبا بقصد نيل اللجوء السياسي هروبا من اضطهادات متعددة في البلد الام، كما ان الضغوط المتعددة على الاسرة و عدم الاستقرار النفسي للام ادى بالاطفال الثلاثة الى مصحات متعددة للامراض النفسية.. مريضتى تبين ان لها عدة تشخيصات طبية و منها اعتلال في تطور الضمير الامر الذي يصور لها ان الكذب و الايقاع بين الاخرين بتلفيق المواقف أمر طبيعي و عادي. ذلك السلوك كانت تمارسه لحماية نفسها كاصغر طفلة بصورة تلقائية داخل اسرتها للهرب من العقاب القاسي و الابتعاد عن المشاكل قدر الامكان، كما ان عملية الكذب و المراوغة تمر خلال العملية التربوية دون توجيه او تقويم من الاهل المشغولين بمشاكلهم الخاصة.
في محاضرة تابعتها بعد ذلك للبروفسير فيرهاي استاذ الطب النفسي بجامعة اراسموس في روتردام قدم لنا مقارنات متعددة كي يقرب لنا افتراضية تكوين الضمير و تعقيدات هذه المسألة في النفس البشرية، كان يسأل ماذا كنت ستفعل لو سقطت محفظة من رجل أمامك !!! ويمضي مضيفا تعقيدات للمسألة و ماذا اذا وجدت محفظة فقط و لم ترى ممن سقطت!!! و ما هو موقفك اذا كانت المحفظة تحتوي على 5 الف يورو!! و ماذا لو كنت حينها مطاردا من قبل البنك أو الدائنين و هذا المبلغ سيحل لك المشكلة!! و تمضي التعقيدات قدما ماذا لو أن المال سقط من مجرمين اثناء تبادلهم لطلقات نارية!!!
الاجابات على كل هذه الاسئلة كانت متعددة من قبل الاطباء الحضور و دار نقاش ممتع حول المسألة و تباينت الآراء، و قدم الرجل اضافات عميقة حول الواعز الاخلاقي أو الديني و دور الاسرة و المجتمع في اعلاء قيم الضمير و تكوينه و كيف انه من ثم تتكون المفاهيم المجتمعية التي تحدد الخطاء من الصواب، وكيف انها في تغير و تبدل مستمر حسب تطور المجتمعات و رفاهيتها و حساسيتها الاخلاقية التي تزداد أو تنقص حسب احساسها بالخطاء و الصواب و القانوني و غير القانوني و الحرام والحلال.... الى غيرها من الثنائيات.
ساهمت ظروف عودتي المتواترة للسودان خلال الستة سنوات الاخيرة ان اشهد حوداثا متعددة، منها اغتيال الشيخ ياسين على ايدي الجيش الاسرائيلي و مقتل الطفل محمد الدرة من قبل نفس الجيش، و عدوان هذا الاخير ايضا على قطاع غزة الذي راح ضحيته ما يقارب الـمأتين من الفلسطينيين، و شاهدت بام عيني خروج الكثيرين في مظاهرات عفوية للتضامن مع ضحايا تلك الاعتداءات.
الامر الى هنا يبدو عاديا و يعكس روحا تضامنية عالية مع مآسي الاخرين و تماهيا مع آلام بشر في بلد آخر تعصف بهم المصائب و تدك دورهم ادوات الظلم. بعيد و قبيل تلك الاحداث مرت على السودان مصائب تشيب لها الولدان و اهتز لها العالم مثل حرب الجنوب و حرب دارفور و تقاطر الحيوف و المظالم الذي ادى الى فرار مئات الالاف من السودانيين و تشردهم إلى البلدان المجاورة يوغندا تشاد اريتريا و من استراليا جنوبا إلى كندا شمالا، و قد راح ضحية لهذه الحروب و ما يقارب الـ 3 مليون مواطن العدد الذي كان يمثل في مرحلة ما عشر سكان هذا الوطن المنكوب، طيلة هذه الفترة لم اشاهد مظاهرات او احتجاجات عفوية بتلك الاحجام التي شاهدتها تضامنا مع قضية تبعد عنّا آلاف الاميال، كما أنني لم أحس أن لدي السودانيين بصفة عامة احساس حقيقي بحجم المأساة الحادثة و لا نقاشا حقيقيا حولها و لا ضرورة انهائها. و الامر بالطبع لا يتصل بهذه الحكومة أو تلك، بل أن الاشكال اعمق جذورا من ذلك و قد أوضحته اتفاقية نيفاشا للسلام لكي ذي عقل، حيث سلم الجيش الشعبي المارق (على حد تعبير الحكومات المتعددة) 4 آلاف اسير لحكومة السودان المركزية بينما لم يكن لحكومة السودان اسيرا واحدا بعد 22 عاما من الحرب حيث برزت الحقيقة المؤسفة ان الجيش السوداني و منذ زمن النميري كان يقضي على الاسرى حتى لا يرهق بتكاليف اعاشتهم.
في وجهة نظري أن هناك اعتلالا حقيقيا في تطور الضمير الجمعي السوداني، الذي يرى ان هناك بشر هم احق بالحياة من غيرهم، بشر يستحقون الخروج من أجلهم في المظاهرات و التنديدات و بشر اقل قيمة يستحقون عدم المبالاة، و حتى يكون التقييم أكثر عدلا، فالامر يتعدى الذوات الشمالية أو الجنوبية أو الغربية أو الشرقية في السودان الامر الذي دأبنا على سماعه مؤخرا. الامر يتعلق بثقافة المركز السياسي السوداني غض النظر عن من هم على رأسه من دناقلة جعليين زغاوة شوايقة، حلفاويين، فعلى ايدي خليل ابراهيم أبيد آلاف الجنوبيين، و على ايدي الشماليين من حكومة عبود رحل الاف الحلفاويين من ديارهم دون تعويضات تذكر و قضى الالاف منهم جراء الملاريا في خشم القربة، و هو مرض لم يكن يعرفونه في شمال الوطن، ايضا أرتكبت الحكومة الحالية جرائم في الشرق و الشمال مثل مجزرة بورتسودان و مجزرة كجبار، كما شردت في بواكير قدومها الى السلطة مئات الآلاف من ابناء السودان الأكفاء بمفاهيم الولاء السياسي و الديني، كما ارتكبت الحكومة الديمقراطية مذابح مثل مذبحة جودة، و ارتكبت الحكومة الديمقراطية ايضا خطاء قابيل عندما سلحت بعض القبائل في غرب السودان و تركت الاخرى مما ادى الى اختلال في القوى تعاني منه تلك المناطق الى الان. و بالطبع فإن الاعتلال مستمر على جميع الاصعدة الى الآن فالحركة الشعبية التي تزعم انها تدافع عن المهمشين، اعتصمت عن السلطة لاعتبارات سياسية لأكثر من شهرين و لم تبتعد من السلطة من اجل دارفور اسبوعا واحدا.
قد يقول البعض ان الحكومة في السودان هي التي تحشد الحشود و تجبر الناس على الخروج، و بالطبع فقد ناقشت البعض ممن خرجوا بصورة عفوية وواجهتم بالسؤال لماذا لاولئك و اهل البيت في السودان اولى بالمعروف و التعاطف، ولكن القشة التي قصمت ظهر بعيري و حدت بي لكتابة هذا المقال هو خروج نفر غير يسير من السودانيين في هولندا لمناصرة البشير ضد المحكمة الجنائية الدولية و لسخرية القدر فإن معظمهم من اللاجئين السياسيين الذين فروا من جحيم نظامه في التسعينيات، و البعض قدم من مدن بعيدة بدعم من جهات معلومة للوقوف مع ما يسمونه رمز الدولة، الم يكن الاحرى بهؤلاء الوقوف مع الضحايا بدلا من الوقوف مع الجلادين، هل لو وقفنا جميعا وقفة اخلاقية ضد الحرب هل كان لتصل هذه الدرجة من العنف، ما هو اقسى مصير يمكن أن يلاقيه البشير ان القي القبض عليه، اليس هو سجنا مريحا و انسانيا يستغفر فيه ربه عن دماء 2 مليون من السودانيين ازهقت ارواحهم في عهده، بينما ارحم مصير يمكن ان يجده ضحاياه هو اطراف مبتورة جراء القصف العشوائي، او نزوح جماعي الى دول مجاورة تعاني الفقر اساسا، من هو الاولى بالمساندة، اطاغية جبار و متعنت أم اكثرمن مليوني مشرد و ثلاثمائة الف قتيل في دارفور او على حد زعم البشير 11 الفا منهم كان الرقم يغير شيئا من حجم المعاناة الانسانية.
السؤال هل هذا الاعتلال في الضمير امر اصيل في الذات السودانية ام هو أمر عارض، و شخصيا اعتقد انه أمر مستجد، فلقد انبأتنا الثقافة الشعبية السودانية الشفهية عن انشغال السودانيين ابان سموهم الانساني في الخمسينات و الستينات من القرن الماضي بهموم الاخرين بغض النظر عن اعراقهم و اديانهم، و اهتمامهم بحركات التحرر الوطني و مآلات نيكروما و جيفارا و دول آسيا البعيدة، و حتى أغاني البنات كانت تحمل تلك المضامين " يا جنى الماو ماو"، " يلا لي سوريا ياشباب كوريا". و رائعة الكابلي آسيا و افريقيا. كل ذلك يعكس ان هناك تدهورا مريعا لم يصب اقتصاد البلاد فحسب بل اصاب انسانها و ضميره و حسه الوطني في مقتل، نحن الآن في مفترق طرق حقيقي و في وطن يقارب على التفتت فهلا استلهمنا عميق القيم الانسانية الذي لا مراء انه كامن فينا، لنقول لكل من اوصلنا الى هذا الدرك ...... كفانا!!!
[email protected] أمجد إبراهيم سلمان 5 مايو 2009
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
مرض اعتلال الضمير الجماعي السوداني!!! | Amjad ibrahim | 05-05-09, 00:43 AM |
Re: مرض اعتلال الضمير الجماعي السوداني!!! | salah ismail | 05-05-09, 01:36 AM |
Re: مرض اعتلال الضمير الجماعي السوداني!!! | Amjad ibrahim | 05-05-09, 11:45 AM |
Re: مرض اعتلال الضمير الجماعي السوداني!!! | Amjad ibrahim | 05-05-09, 04:42 PM |
Re: مرض اعتلال الضمير الجماعي السوداني!!! | عبدالمجيد صالح | 05-05-09, 05:23 PM |
Re: مرض اعتلال الضمير الجماعي السوداني!!! | Amjad ibrahim | 05-05-09, 11:16 PM |
Re: مرض اعتلال الضمير الجماعي السوداني!!! | Amjad ibrahim | 05-06-09, 01:07 PM |
Re: مرض اعتلال الضمير الجماعي السوداني!!! | طلعت الطيب | 05-06-09, 04:00 PM |
Re: مرض اعتلال الضمير الجماعي السوداني!!! | AnwarKing | 05-06-09, 06:14 PM |
Re: مرض اعتلال الضمير الجماعي السوداني!!! | Amjad ibrahim | 05-06-09, 11:00 PM |
Re: مرض اعتلال الضمير الجماعي السوداني!!! | Amjad ibrahim | 05-07-09, 06:26 PM |
Re: مرض اعتلال الضمير الجماعي السوداني!!! | AnwarKing | 05-07-09, 10:18 PM |
Re: مرض اعتلال الضمير الجماعي السوداني!!! | AnwarKing | 05-07-09, 10:22 PM |
Re: مرض اعتلال الضمير الجماعي السوداني!!! | amin siddig | 05-09-09, 08:00 PM |
Re: مرض اعتلال الضمير الجماعي السوداني!!! | AnwarKing | 05-21-09, 07:03 PM |
Re: مرض اعتلال الضمير الجماعي السوداني!!! | AnwarKing | 06-09-09, 07:03 PM |
Re: مرض اعتلال الضمير الجماعي السوداني!!! | بشري الطيب | 06-09-09, 07:56 PM |
Re: مرض اعتلال الضمير الجماعي السوداني!!! | Amjad ibrahim | 06-10-09, 07:48 AM |
|
|
|