ممثلات السودان..ومغنياته ..ان بعد اليتم ..زهرا

Quote: دمعة تحشد الآن سطوتها في الدواخل ، قافزا بحزني المخبأ في نسيج هذا الليل الكئيب ، قافزا علي الباب الخلفي للأوتوبيس " 14 " ناويا أن الوذ بحزني ذاك الكثيف ألوذ بالصديق صلاح الزين هاربا من هاجس هذا الفقد العظيم ، أنحشر داخل الأتوبيس ، كنت قد نسيت تماما أن هذا المشوار الذي بيني وبين صلاح الذين وبحرص مفلس حذر من مغبة اهدار القليل من النقود التي أملك ، كنت قد نسيت أن رقم هذا الأتوبيس " 14 " يكلف خمسين قرشا هو مبلغ في مقام الخسارة تجاه هذا المشوار ، من حيث أسكن في منطقة تسمي " عبد الرسول " لا أعرف من هو عبد الرسول ؟ إلي " رابعة العدوية " حيث يكن صلاح الآن مؤقتا ها نحن كلنا قد دخلنا الآن في معية ما يسمي بالكائنات المؤقتة في عالم لا يخصنا في شي كان من الممكن أن أحمل حزني هذا المتعب علي الأقدام ولكنها قد أصابها نوع من ذلك التعب المتحالف مع الحزن ، نسيت أن أختار رقما آخر من تلك الأتوبيسات المرقمة يكلفني نصف المبلغ ، لكن يبدو أن الحزن ينسي هذه الاستراتيجية الحاذقة في الصرف وهي حساسية جديدة تعلمتها في هذه المدينة القاهرة . المشوار بين " عبد الرسول " و " رابعة العدوية " قصير جدا يمكنني جدا أن اقطعه بالأرجل ولكنني كنت أخاف من خطواتي التي تعلمت دائما أن تجادل وتكثف أحزاني وأفراحي أدخل الأتوبيس ، أنتمي لدمعتي المحتشدة في الدواخل وأراها نعمات هارون في صفاء دمعتي تمنح شارع " 57 " في العمارات تمنحه دفقه من الجمال وهي آتية من دكان أحمد اليماني متجهة إلي قسم المسرح بالمعهد العالي للموسيقي والمسرح ، أراها بثوب مورد وبريق في العيون وبسمة لها من بياض الحليب علائق ، أراها وهي توزع ضحكتها العذبة مستميلة الشاعر خالد عبد الله كي يتخلى عن بخله المعتاد تجاه قراءة قصائده ونحن جلوس علي تلك الكراسي المتناثرة علي خشبة مسرح تاجوج بالمعهد دائما ما تنتمي نعمات هارون إلي عذوبة القصيدة فهاهي تعلن بشفافية عن طربها وخالد عبد الله يدخل مجبرا عوالم قصيدته تلك التي تتباهي بهذا المدخل العذب : " من براءتها تاخد الفراشات طرحته " أراها تكثف نشاطها المكتسب من مهنة التدريس في تفاصيل تجمع الفنانين التقدميين أراها علي خشبة المسرح تتلمس توهجها كممثلة في مسرحية " اللوحة " للكاتب الأنجليزي " هارولد بنتر " التي أخرجها الصديق حاتم محمد صالح من ضمن عروض الأسبوع الثالث لجماعة السديم المسرحية ، هاهي تقف أمام المخرج المميز والشاعر قاسم ابوزيد كشريك حميم في هذا العرض أراها تحلل رؤيتها الإخراجية لمسرحية " فاندوليز " للكاتب الأسباني الذي يكتب بالفرنسية وأهم دعامات مسرح اللامعقول " فرناندو اربال " وهذه المسرحية هي مشروع تخرجها في قسم المسرح ، اراها وهي تحاول فك الاشتباك الحميم بين الممثلين في دفعتها تجاه خلاف عبثي عميق في حوار هذه المسرحية ، تقول أحدي شخصيات المسرحية " المهم معرفة من أين تأتي الرياح " وتقول شخصية أخري " " لا " المهم معرفة إلي أين تذهب الرياح ويحتدم الصراع تجاه هاتين الجملتين العميقتين ونعمات هارون لا تملك إلا أن تمنح حيويتها المؤكدة لتفعيل هذا النقاش الحميم ، اراها تسرب إلي اركان النقاش وللنداوة جرأة في الرأي من خلال وضوح عباراتها المنتقاة بحذر أليف تعلمته من مهنة التدريس ، تلك المهنة التي لها علائق وثيقة بفن الكلام كما فن التمثيل أراها تهمس في أذن المخرجة والممثلة الاستاذة " تماضر شيخ الدين " للاقتراب من شخصية " هند " التي تؤديها في مسرحية " حفلة علي الخازوق " للكاتب المصري عبد الرحمن محفوظ وهي مشروع تخرج الأستاذة " تماضر شيخ الدين " اراها تهمس في أذنها وحين أحتج أنا كمساعد مخرج علي هذا الهمس ، تواجهني نعمات بوجه يعلن عن كرنفال من المداعبة وتقول لي " مالك بتتكلم عن سر النوع " كانت نعمات تبحث وبهمة عالية عن تفاصيل الأنوثة الصاخبة في شخصية " هند " كانت تبحث عن مفاتيح الشخصية التعبيرية أراها وهي تشاكس " مصطفي سيد أحمد " محرضه اياه علي الغناء والكل يهرب من ملل الظهيرة في كافتيريا المعهد فإذا بذلك الملل يعلن انتحاره أمام عذوبة الغناء الذي أمتد حتى غروب الشمس ، نعمات دائما ما تمنح الرونق للأشياء كما يقول الشاعر أمل دنقل – أراها تقف أمامي علي خشبة المسرح في دور السيدة العجوز في مسرحية الشهاب للكاتب " فردريش دورنمات " ترجمة الكاتب أنيس منصوركمشروع تخرج للأستاذ الطيب ابراهيم بانقا وأحس بتلك الألفة تجتاحني ألفة الشريك الحميم في عرض مسرحي هي الفة تذهب نحو المطلق في المتعة أراها جالسة علي احدي نوافذ بص المعهد الأزرق اللون ساهمة وراء موجتها الخصوصية ، تحدق في البعيد ووجهها يعلن عن حب عميق للحياة أراها وهي تجادل الشاعر الصديق الأستاذ " محمد محي الدين " حول أهمية الاحتفال باليوم العالمي للمرأة ومحمد محي الدين يتفادى جديتها حول الموضوع مقترحا أن يخص يوما عالمي أيضا للرجل فتقذفه بصندوق برنجى فارغ وتمضي تاركة ألفتها في المكان أراها ..وأراها .. نعمات هارون منتمية للحياة أراها .... وها نذا أحفر عميقا في ذاكرتي لاجدنى وقد تخطي الأتوبيس " 14 " المحطة التي يجب أن أتركه فيها – رابعة العدوية – وأنزل منه في شارع " خضر التوني " مكتوب علي أن امشي بحزني الكثيف راجعا راجلا إلي رابعة العدوية لا مناص من أن تجادل خطواتي حزني حتى أصل إي الشقة التي يقيم فيها صديقي " صلاح الزين " في طريقي إلي هناك مستقلا خلو الشارع وأتحالف مع نسيج عميق وقد طفرت دموعي من داخلي إلي وجهي . الأستاذة نعمات هارون ترحل هكذا فجأة عن هذه الدنيا ، هكذا فجأة كانت قد وصلت إلي مطار الخرطوم أتية من بورتسودان تحمل طموحها العلمي بتحضير دبلوم عال في كلية الدراسات الانسانية بجامعة السودان للعلوم والتكنلوجيا ولكن تفيض روحها المتوثبة دائما نحو الحياة ، أن نعمات هارون لا تشبه الموت في شي. حين وصلت شقة صلاح الزين وجدت معه الأخ يوسف السوس الذي جاء من أفغانستان حيث يعمل في مكاتب الأمم المتحدة بدمشق وبكل ذلك الحزن أعلنت نبأ رحيل نعمات هارون ، هرب من أمامي صلاح الزين نحو البلكونة ودخل يوسف الحمام ولكنه حين عاد كان يمسح دموعه بطرف جلبابه وكان يبكي بصوت مكتوم وعميق الحزن وعرفت أنه تربطه بنعمات صلات قربي وصداقه وحاولنا أن نلملم تفاصيل تلك الليلة بمشقة لأن يوسف كان يكرر دائما ومن بين دموعه وصوت بكائه العميق هذه المقولة " الرباطاب فقدت امرأة نادرة " وداعا نعمات هارون ولأستاذي هاشم صديق عميق التعازي لغياب هذا الحضور الجميل .