حوار مع الشاعر سركون بولص

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-21-2024, 08:06 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف العام (2003م)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
09-12-2003, 12:21 PM

هدهد

تاريخ التسجيل: 02-19-2003
مجموع المشاركات: 0

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حوار مع الشاعر سركون بولص (Re: هدهد)


    بقية الحوار

    * هل تنطبق هذه المقولة على اختيار كل القصائد في المجموعة ؟

    - انا أختار القصائد لتشكل كتابا وليست مجموعة قصائد،وأنا أكتب كتابا له بداية ونهاية وتجد هذا في الكتاب الثاني "الحياة قرب الأكروبول" فالكتاب الثالث "الأول والتالي" يبدأ من الطفولة وينتهي في نيويورك وهو يضم سبعة أجزاء وهذا ينطبق على كتاب "الحياة قرب الاكروبول" فكل البلدان التي عشت فيها والمدن التي تعرفت عليها والنساء التي شكت تجربتي تقولب نفسها كي تتخذ هذه الأشكال وفي النهاية تصب في نوع نهائي هو الكتابة.

    * في نصوص «الوصول الى مدينة اين » تقنيات في الكتابة تكاد أن تتشابه.. كيف تصف تلك التقنيات ؟

    -هذا الكتاب حاولت أن أجمع فيه جوهر الأصوات المتعددة التي كنت أكتب فيها منذ بدء الستينات بكتاب جاء في الثمانينات أي بعد نشر الكثير من القصائد في المجلات العربية غير أني لم أجمع منها سوى النزر اليسير وركزت بدل ذلك على ما أسميه بالقصائد التفجيرية، لأني أردت أن يكون الكتاب الأول مركزا على النثر بصورة كاملة دون أي تشبث بقصائد الوزن التقليدية كما كانت تكتب من قبل الرواد وان تكون قطيعة مطلقة من حيث الصوت ومن حيث الايقاع النثري الخالص مع الشعر السائد. وأنا حين أنظر الى كل ذلك من خلال هذه المسافة الزمنية أجد أن الجنون العاطفي والايقاعي الذي يصل أحيانا الى حد اللاوعي والاستغراق به في هذه القصائد هو دليل على ما كنت أعانيه عندما جئت الى الولايات المتحدة من بيروت وهو دليل على حيرتي إزاء هذا العالم الشاسع الوحشي الذي وجدت نفسي فيه وكيف يمكن لي أن أعبر عما كنت أعيشه وباي سبل. كانت هناك ضرورة قصوى أن أجد أشكالا أخرى لتقمص التجربة الامريكية كامتداد لتجربتي في الستينات في كل من بغداد وبيروت وهكذا جاء كتاب "الوصول الى مدينة اين" وهو يعبر عن اللامكان الذي كنت أقف فيه آنذاك.

    * في المجموعة الأولى نلاحظ أن القصيدة تتكون من مقاطع قصيرة حيث تعتمد التقطيع، في حين نلاحظ في المجموعة الثانية "الحياة قرب الأكروبول " ان القصيدة تتكون من جمل طويلة وأحيانا تكون مقطعا كاملا فكيف وصلت الى مثل هذه التقنية ؟

    - هذا سؤال رائع، بالطبع هناك قصيدة الضربة، منها مثلا قصيدة الجلاد في الكتاب الأول التي تتكون من ثلاثة أسطر وهي عن الطاغية الذي مازال شبحه يلاحقنا حتى الآن وهذه قصيدة كاملة

    وهناك قصائد أخرى من هذا النوع في الكتاب، إنها القصيدة الشرسة والصوت الذي يواجه الموضوع مباشرة ويطلق سهمه نحو الهدف. ويضاف الى ذلك القصائد العنيفة أي تجربة قصائد النثر التي يمكن لها أن تدخل اللاوعي بشكل عاصف حيث تدوخ اللغة العربية وتبدو أجنبية. واللغة من الممكن ان تغرب بهذه الطريقة. وفي الشعر الحديث إذا درسنا صناعة الحداثة نجد أن تغريب اللغة هو أول الأفعال لفصلها وقطعها عما سبقها بحيث تقف وحدها بلباس أجنبي لتبدو لغة أخرى، ومن هنا تبدأ هذه الصناعة. لذا فإن لغة كتاب "الوصول الى مدينة أين" هي اللغة التي غربت نفسها قصدا لأن الهدف في كل الكتاب هو أن تقف على حدة من جميع ما هو سائد وهذا هو فعل الثورية الحقيقي العنيف الذي ربما فاق الحدود في رأيي. بينما في الكتاب الثاني وجدت نفسي أكثر هدوءا وأتعمق في التجربة الحياتية حيث إن الصوت شكل نوعا من الجملة المطولة التي لا تقف عند حد في حين كانت الجملة بالكتاب الأول عنيفة وشرسة. بينما أصبحت في "الحياة قرب الأكروبول" أكثر امتدادا لتنال مدى أبعد.

    * هل جاء اختيار الجملة الطويلة ضمن خطة واعية أم أملتها التجربة الخاصة ؟

    - دون أي شك جاءت ضمن اختيارات واعية جدا وأنا واع جدا لعملية كتابة القصيدة، ففي الكتاب الثالث «الأول والتالي » تخلصت من أشياء كثيرة كانت موجودة في الكتابين الأولين، وجرت فيه - أي الكتاب الثالث - عملية تركيز مكثفة حيث أن الوعي يبرز أكثر في كل كلمة. لذلك جاءت القصائد أقصر والديمومة تنال القصيدة بأكملها. ففي القصائد الأخيرة نجد ديمومة الصوت التي بدأت في الكتاب الأول بشكل عنيف كما قلت ومن ثم تطورت وهدأت ونضجت أكثر في الكتاب الثاني حيث تنفرش على الساحة الأصوات والايقاعات وتعطيك خلفية كاملة ومطلقة وبتفاصيل حقيقية تعتمد مرجعيا على التجربة الحياتية مثل الحياة في اليونان والتي استمرت - تلك التجربة الاغريقية - في الكتاب الثالث وثمة قسم كامل لقصائد اليونان في "الأول والتالي" متطورة تقنيا الى حد أن تتخذ القصيدة مشاهد العالم الحقيقي والتعابير والأشكال والايقاعات التي يستنبطها الشاعر من ذلك العالم.

    * من أين تستمد الايقاع ؟ وأنت تؤكد أن التفعيلة تجعل من القصيدة ذات تركيب أفقي وذات شكل هندسي من الممكن أن تتصوره قبل كتابة القصيدة، فأين تجربة محمود درويش الذي حاول أن يطوع التفعيلة ويمنح القصيدة أفقا مفتوحا من حيث الايقاع ؟

    - إن البحور العربية تفرض على الشاعر العربي - أي قبل أن يكتب قصيدة - أن يمشي عبر الصفحة بشكل معين ودون حرية مطلقة، أي أن الشاعر مهما برع في السيطرة والسيادة على الوزن هناك دائما الايقاع الهندسي الذي تفرضه شكلية البحر المختار لكتابة القصيدة. واذا قررنا أن نكتب على إيقاع بحر الكامل مثلا لوجدنا أنفسنا مجبرين على اختيار كلمات معينة ومطولة تتوافق مع متفاعلن ومستفعلن. أي أن مجزوءات هذين الشكلين اللذين يؤلفان بحر الكامل سيفرضان علينا دائما طوال القصيدة أن نتقيد بالكلمات التي تنبني أو تنصب في هذين الصوتين، فـ(متفاعلن) يقابلها (متفجر) لذلك ستكون كل قصيدة تكتب على بحر الكامل ستكون على الاطلاق مؤلفة من كلمات يكون الجزء الأساسي منها مشددا حيث لا تكون ثلاثية أو رباعية وانما من كلمات خماسية وسداسية وأكثر.

    * يعتبر بحر الكامل من البحور التي تمتاز بالتعقيد فهو يجمع بين بحر الوجز والسريع والمتدارك، وثمة عدد قليل من شعراء التفعيلة الذين لجأوا الى استخدامه مثل أدونيس ومحمود درويش.

    - إذا كان الأمر يتعلق بشاعر سيد على وزنه وسيد على قصيدته قد يكون مختلفا، فشعراء مثل أدونيس ومحمود درويش هؤلاء يعرفون كيف يمسكون بالتيار وكيف يسيطرون على الدفق. وأنا أتكلم عن أشياء مسبقة عن السيادة ومطلقة بالنسبة لأي شاعر يكتب بالوزن، أي ما أسميه بالقصيدة الأفقية إذ يكون من الصعب كسر السطوح التعبيرية والايقاعية فيها وأحيانا يكون صعبا بشكل استحالي، وعندما يتعلق الأمر بالنثر وأنا أتحدث عن سيد نثره وسيد الايقاعات وهذا لا ينطبق على جميع الشعراء وانما ينطبق على قلة حيث يمكنك ان تخلق في النثر إيقاعات حقيقية وحرة تضرب في مجالات لا يمكن للقصيدة الموزونة أن تطرقها.

    * كيف يمكن تحديد هذه الايقاعات ؟ وما هي إيقاعات القصيدة التي تكتبها؟

    - عندما نتحدث عن الايقاع الموزون والايقاع النثري فإننا نتحدث عن شيئين مختلفين،ذلك لأن الأذن العربية لفرط تعاملها مع الوزن قد صارت مخدرة وتعترف بإيقاعات خاصة معينة تنتج نوعا من الطرب وهي الايقاعات التي تحتويها البحور العربية. لذا يبدو أن الأذن العربية تحتاج الى وقت طويل كي تتعود على ايقاعات النثر، وقصيدة النثر لا تعتمد على الايقاع فحسب بل هي تعتمد على أشياء كثيرة فالإيقاع هو عنصر واحد. وهو في قصائد معينة يتبع دائما الثيمة والموضوع والشكل والأشكال الشعرية الأخرى التي لا تمتلكها قصيدة الوزن بكل بساطة لذا فإن التعقيد في هذا النوع من الشعر - شعر النثر - هو من أول الشروط الشعرية التي يتبعها الشاعر.

    * نلاحظ أن تجربة جيل البيكنس الامريكي استفادت من إيقاعات معينة مثل الجاز حتى عندما نقرأ نثر جاك كورياك نجد إيقاعات الجاز حاضرة في نثره.

    - دون أي شك هناك إيقاعات الجاز والبلوز والايقاعات التي استقاها والت ويتمن من التوراة، إضافة الى الايقاعات التي استوحاها واستنبطها ألن غينيسبرغ من ويتمن نفسه ومن الشعر العبراني. واستنبط جاك كيرواك ايقاعات من موسيقى البلوز ومن ما يسمى بالبيب بوب في الجاز وايقاع الهايكو الياباني فهي تقنيات واشكال ساهمت في الخلق الشعري الحديث ما بعد إليوت والتي شكلت ما يسمى بما بعد الحداثة كحركة.

    * إذا أردنا أن نتحدث عن قصيدة النثر العربية فهل تمكنت من خلق إيقاعات موسيقية أخرى غير مصادر الموسيقى العربية التقليدية المتمثلة ببحور الخليل ؟

    -إن قصيدة النثر العربية الحاضرة هي قصيدة مغامرة انطلقت من عدم الاقتناع بايقاعات القصيدة التقليدية وايقاعاتها مستمدة من شكل القصيدة ومن التجربة الموجودة فيها. لذلك فإن الايقاعات غير ثابتة وغير ممكن أن تكون مقننة في قصيدة النثر، فكل قصيدة لها إيقاعها الخاص يضاف الى ذلك أن كل قصيدة لشاعر معين تمتلك إيقاعه الشخص الذي يدل عليه وهذا الشيء الذي لا يمكن لقصيدة الوزن أن تفعله على الاطلاق. بينما في قصيدة النثر ليس ثمة ما يقيد الشاعر سوى تجربته الخاصة وديمومة الصوت الذي تشتمل عليه القصيدة والتفاصيل الأخرى التي ليس لها أية نهاية والتي تنضاف الى مسألة الايقاع. فالإيقاع ليسر منفصلا في هذه الحالة عن التراكيب الأخرى في قصيدة النثر.

    * لنعد مرة ثانية الى تجربتك في الكتابة، في كتابك الأول «الوصول الى مدينة أين» نجد أنه يعتمد على الصورة حيث يبدو كل سطر صورة، في حين نلاحظ أنك تحاول أن تتخلص من الصورة في كتابك الثاني «الحياة قرب الأكروبول» وتلجأ الى السرد.

    - هذا صحيح ففي الكتاب الأول كان اعتمادي على الصورة بشكل مبالغ فيه، ذلك لآني كنت منذهلا بالصورة في ذلك الوقت، وبصورة مبسطة أكثر كانت الصورة المكثفة بالنسبة لي آنذاك هي جواز المرور الى عالم اللاوعي وكنت مندهشا وأفكر صوريا الى أن تجاوزت هذا الموضوع ووجدت نفسي في الكتاب الثاني اتخلص من الصورة قدر الامكان، وأبسطها حيث أن الصورة تخدم شيئا آخر هو الحالة أو المشهد الشعري الداخلي الذي ينظر اليه كمرجع للخارج أي في الحياة المدرة والمتدفقة. فالصورة كانت في الكتابب الأول سوريالية وحاولت أن أتخلص من آثار التصوير المباشر في الكتاب الثاني والثالث.

    * في الكتاب الأول تلجأ كثيرا الى أدوات وحروف التشبيه هل كان هذا لضرورة فنية ؟

    - لقصيدة النثر تقنيات وأساليب تعتمد كثيرا على المقابلة وعلى تقابل الأشياء وتصادمها، لذلك فالصدام بين الأشياء والصور هو الذي يخلق الوديان الكلامية في الكتاب الأول.

    * في «الأول والتالي » يبدو أنك تحررت كثيرا من أدوات التشبيه.

    - أنا في الكتاب الثالث أكاد لا أشبه الا بطريقة غير مباشرة. وهذا يعني أن عملية التشبيه تطورت الى حد أنها نفت نفسها فصار التقديم أو التجسيد هو الذي يحظى باهتمامي وهناك قصيدة في "الأول والتالي" تتكون من اكثر من عشرين مقطعا عنوانها «تجاسيم» وهذه الكلمة اخترعتها وتفهم بمعنى "التجسيد" للحالات، فصار التجسيد بدلا من التقابل الصوري واللجوء الى أدوات التشبيه.

    * مفردة «العالم» نكاد نجدها تقريبا في كل نصوصك الشعرية فلماذا هذا الاصرار على هذه المفردة ؟

    - منذ وقت طويل وعند بداية مسيرتي تأثرت بفكرة جاء بها فيلسوف ألماني اسمه ليبيتن وهي فكرة عن المونولودجيا أي أن العالم يتكون من وحدات شكلية سماها بالمونادات فكر شيء هو موناد، فالقنينة هي موناد والعين موناد والكأس موناد وكذلك الشعر والقمر والمصباح والنجوم. وهذه الفكرة تطورت الآن في الوقت الحاضر بالفيزياء الحديثة خصوصا في فيزياء اللايقين عند هاينزبورغ حيث أن هذا العالم لا قيمة ولا معنى له على الاطلاق، لم يكن هناك من يسمونه بالرقيب اي المشاهد الذي يقف في مكان ما من الكون ويقول هذا الشيء المعلق في الفضاء اسمه نجمة وذاك اسمه قمر وهذه هي مجرد اسماء ووحدات أو مونادات بالكون وهذه ببساطة فكرة الفيزياء الحديثة وأنا مؤمن بها ومنذ شبابي سيطرت على هذه الفكرة. وأغلب القصائد التي كتبتها مليئة بالعشرات وربما بالمئات من الوحدات الموجودة واقعيا في العالم التي تتركب مع بعضها البعض لتكون عالما كاملا مستقلا بحيث أن هذه الوحدات والمونادات تتصادم مع بعضها في حقل ميدان من الطاقة حيث تكون القصيدة في النهاية ميدانا حيا من الطاقة الفيزيائية وهذه الطاقة تقرر شكل القصيدة.

    * في المجموعات الأول نواك مشغولا بالفكرة كثيرا وربما هذا ما يفسرا للجوء الى الصورة في حين نشاهد في المجموعتين الثانية والثالثة ميلا نحو الحسية واستفادة من فنون الكتابة الأخرى كالرواية والمقالة.

    - ان قصيدة النثر هي التي تستغل وتغرف من كل الروافد ومن كل الانهار ومن طرائق الكتابة المقالية وتغرف من الكتابة الدينية ومن النص الصوفي ومن العلم ومن السينما والباليه والرقص وربما هذا الذي يشكل ايقاع قصيدة النثر. فالشاعر عندما يكتب يكتب بكل حواسه وبكل سعرفته ولا يكتب مثل الشاعر التقليدي الذي يحاول ان يطربنا ويهزنا أو يحاول أن يقنعنا بفكرة سياسية أو أيديولوجية، فالشاعر الآن الذي يقف في مركز الكون وفي مركز التجربة الحياتية حينما يكتب تكون السياسة والايديولوجية والموسيقى وكل الفنون مصبوبة في نظرة ورؤيا وفي موقف حسي وهدفه في النهاية ان يدخلك في هذا الحقل من الطاقة الحية وفي هذه العاطفة المطلقة كما قال عزرا باوند انه "لا شيء غير العاطفة ". والعاطفة هنا بمعنى (Passion) الوجد الوجودي والكوني فالشاعر هو كائن يحترق كي تبرز هذه الطاقة ولكي يكون وقودا لهذه العاطفة ولهذا الوجد. وانا لا أجد أي شيء يمكنه أن يقنعني بأن قصيدة النثر مجرد شكليات أو مجرد تقنيات أو ضرورة تاريخية كما يتحدث عنها النقاد أو كتقليد سخيف لقصيدة الغرب. فهذه القصيدة هي الضرورة وكان الشاعر العربي يتطور نحوها على الاطلاق منذ القرآن الكريم. وتكاد أن تكون كل الكتب الدينية مكتوبة بالنثر وهي الكتب التي مازالت تهز البشر.

    * في كتاب " الأول والتالي " ثمة استفادة من الشعر العربي القديم وحضور لشخصية النابغة الذبياني وللشاعر عمرو ابن أبي ربيعة، فهل تطمح في خلق علائق جديدة مع شخصيات من الشعر العربي القديم ؟

    - أحيانا أجد نفسي أفكر بشروط زمانية معينة وتعطيني حسا ثابتا لتواريخ معينة، وأحيانا ارتبط مع التاريخ والتراث بشكل اعتباطي وليس شرطيا أبدا. وهكذا يحدث أن أجد نفسي أتحدث وأعيش جوا خاصا يربطني بشاعر معين قرأته في فترة ما وبقي جزء من شعره يغذيني في الحاضر. إن بضعة أبيات للنابغة الذبياني قد بقيت في ذهني وهي تتحدث عن الكواكب وعن السهر والأرق في عهد الملك النعمان بن المنذر عندما كان النابهة شاعر البلاط بالحيرة. وجدت نفسي ذات ليلة في سان فرانسسكو أرفا في ليلة مليئة بالنجوم، وكنت قريبا من البحر ومن الحس التاريخي وبصورة غير واعية أحسست بارتباطي بهذا الشاعر.

    وحدث ان اكتشفت أن الأزمنة كلها متداخلة، وان الذبياني الذي عبر عن هذه الحالة موجود في كل الأزمنة، ومن بينها الزمان الذي أعيش، والذي ولدت فيه قصيدة " كواكب الذبياني" وبشكل واع ربطت الذبياني بمدينة سان فرانسسكو وبليلة معينة من أوا خر القرن العشرين وبليلة لا أعرف بأي تاريخ كتب عنها الشاعر الذبياني.

    وأما بالنسبة للشاعر عمرو بن أبي ربيعة الذي أعده من أعظم شعراء الغزل في العالم وهو من أندر الشعراء الذين استعملوا السرد الزماني لخلق جو معين فيه حركة وطاقة، وينوع من التلاعب والضحك وجدت نفسي أشكو له عن حالتي مع الحب والغزل والمرأة حيث كتبت له مرثية. والمرثية هنا فيها من اللعب لأنها ليست بمرثية على الاطلاق، لأنني أرثي لما أقول للموضوع الذي هو جرأة المرأة الحديثة التي تجرك للسرير بحيث تقطع امكانية الغزل كما كان الأمر في حياة وزمن عمرو بن أبي ربيعة. وأسمي هذه العلاقة مع التراث أحيانا بالعلاقة الشرطية وأحيانا بالعكسية والتي تتميز في بعض الأوقات باللعب وعدم الجدية، وبالترابط الحي الانساني وليس بتجربة الكتابة فقط.

    *هل تفكر بإعادة مثل هذا اللعب مع شاعر عربي قديم آخر؟

    - لدي الآن قصيدة عنوانها " الى امرىء القيس في طريقه الى الجحيم " وهي قصيدة أجري فيها حوارا مع امرىء القيس، وبالطبع في أمريكا وفي حالة معينة كانت تشبا حالة امرىء القيس عندما كان يهرب من المنذر بن ماء السماء الذي قتل أبده وحدث أن ذلك الزرد المسموم المشهور قد أهدي من قبل ملك الروم آنذاك الى امرىء القيس الذي كان سبب موته. جعلتني هذه القصة وقراءة معلقته ذات ليلة أحس به حيا ضمن إطار تجاوز الأزمنة وتداخلها، وأتحاور معه ليس كشخص وانما من خلال كوة الظل الشعري الذي نسميه امرأ القيس الشاعر. وعليك أن لا تنسى أن الشعراء حتى لو عاشوا في نهاية القرن العشرين فهم مسكونون بالأجداد والأشباح والأطياف الشعرية والتاريخية وهذا الأمر يردنا الى المونادات أو الوحدات الوجودية.

    * قيل عنك أنك كنت تقطع نهر دجلة سباحة من أجل اللقاء مع الكاتب الراحل جبرا ابراهيم جبرا.

    - «يضحك» ان جبرا كان بالنسبة لي ولشباب آخرين أبا حقيقيا. وكنت أسبح وأعبر جسر الجمهورية كل يومين أو ثلاثة من الاسبوع، كان بالنسبة لنا أيضا مصدر رزق حيث كان ينشر لي ولرهط من الشعراء المفلسين من بينهم جان دمو الذين كانوا يتوافدون يوميا على مكتب جبرا ابراهيم جبرا في مجلة،" العاملون بالنفط ".

    وكان جبرا أبا روحيا بالنسبة لي وكنت أتحدث معه لأنه كان واحدا من العقول النيرة التي استطيع أن أتحدث معها عن اكتشافاتي في الأدب العالمي التي كنت أقرأه بنهم وكنت مذهولا بالأدب الغربي. وكان جبرا ابراهيم جبرا الكاتب والمترجم والشاعر شخصية فذة، كأنه واحد من شخصيات النهضة الأوروبية العظيمة كدافنشي، التي لها إحاطة بالعلم والأدب والفن والتيارات الفكرية الأخرى، إنه ليس شاعرا أو كاتبا فقط وانما هو بالنسبة لي كان شخصية عالمية. وانا عرفته عندما اكتشفت انه يحرر مجلة «العاملون بالنفط» وكنت آنذاك في كركوك وعرفت أن المجلة تدفع مكافأة مالية كانت متواضعة غير أنها بالنسبة لي آنذاك غير متواضعة، فالدنانير الثلاثة أو الخمسة التي تدفعها كانت كافية لليلتين أو ثلاث في حانة مع عشرة شعراء مفلسين.

    * هل ساهمت تلك العلاقة مع جبرا في ترسيخ عملية الترجمة لديك ؟

    - كان جبرا بالنسبة لي المثال العظيم وهو الذي قام بترجمة شكسبير وآخرين وكنت معجبا بترجماته لشكسبير فهو كان مثالا للمترجم الحق. وأقول لك قصة أنه عندما تركت بغداد للذهاب الى بيروت والتقيت بجبرا ابراهيم جبرا في مكتبه ببغداد في كرادة مريم أعطاني مخطوطة الملك لير مطبوعة على الآلة الكاتبة كي أوصلها الى يوسف الخال ببيروت لغرض نشرها في دار النهار. وكان جبرا لا يعرف وأقول هذا للمرة الأولى بأنني كنت ماشيا عبر الصحراء على الأقدام وكان يعتقد بأني ذاهب كأي مسافر بالطائرة أو بالسيارة الى بيروت، ولم يدر بخاطره هذا الأمر حتى وفاته. ولم أقل له بأني حملت مخطوطة الملك لير معي في حقيبتي عبر الصحراء وفي أحقر الفنادق بحلب وحمص ودمشق وعبر الحدود السورية اللبنانية ومع مهربين مغامرين حتى وصلت بيروت وسلمت مخطوطة الملك لير الى يوسف الخال ونشرتها دار النهار.

    * انت تقول انك تكاد تمارس الترجمة يوميا وترجمت العديد من النصوص، ما هو اثر الترجمة على نصك الشعري؟

    - التأثير كان كبيرا جدا. والترجمة فن قائم بذاته وأنا عندما اترجم - خصوصا الشعر - أقوم بكتابة النص من جديد باللغة العربية محاولا أن أجد الصوت الكافل كما ينبغي أن يكون بالعربية لذلك الشاعر المترجم. وهذا امتحان قاس جدا، والترجمة اليومية المستمرة هي نوع من التمرين بالنسبة لي. وهذا التمرين هو ممارسة اللغة لكي أجد البدائل في العربية لأقصى وأدق التعابير في اللغة الانجليزية. والتحدي هو أن تجد في اللغة العربية التعابير الدقيقة والتراكيب المعقدة التي تجدها أحيانا عند كبار الشعراء. فمثلا أحيانا أقوم بترجمة أبيات من جحيم دانتي لأني أحب أن أترجم لنفسي المقاطع الصعبة لأمتحن اللغة العربية وأتساءل هل يمكن لهذه اللغة أن تعبر عن هذا الشيء أو ذاك كما أجده باللغة الانجليزية لأحد أعظم شعراء اللغة الايطالية. ويقود هذا التمرين أحيانا الى تجاوز نفسك واللغة لاختراع نوع جديد من التراكيب الشعرية وكل هذا طبعا يؤثر في النهاية علي كشاعر عندما أكتب.

    * الشاعر الامريكي ميروين مهووس بالترجمة، وقد تلقي نصيحة من الشاعر عذرا باوند في بداياته الشعرية الذي حثه على الترجمة، واكتشف الشاعر ميروين أن لغته قبل القيام بالترجمة كان فقيرة وخالية من الدلالات، فهل توفر لديك نفس الاكتشاف بعد ممارسة الترجمة ؟


    - عندما ترجم عزرا باوند للشعر الصيني أحدث ثورة كبيرة في اللغة الانجليزية على الاطلاق وما زالت أصداؤها تتردد حتى الآن، وفي كتابه " Cathay " الذي ترجم فيه لأربع عشرة قصيدة صينية معروفة،عن الحرب وظهر في عام 1915 حين كانت الحرب العالمية الأولى جارية أثر في الشعر الانجليزي بعمق، لأنه قدم التراكيب أو " Ideographs " الصينية، أي وحدات الفكر والتعبير بها في اللغة الصينية. وعندما وجد لها باوند البديل باللغة الانجليزية أحدث ثورة ومن هذه الثورة خرج شعراء مثل غيري سنايدر، الذي لولا تأثره بالشعر الصيني والياباني لما كتب كما يكتب الان وغيره من الشعراء من بينهم ميروين الذي هو مترجم عظيم، وعاش طوال حياته من الترجمة، وقدم العديد من شعراء الأسبانية والفرنسية والبروفانسية الى قراء اللغة الانجليزية. فالترجمة هي نوع من التلقيح، وهي نوع من الجسور التي تمتد عبر اللغات، وتجعل جميع اللغات والكتابات في النهاية تتشارك وتتداخل وتتلاحم لتخلق شيئا جديدا.

    * هل تنصح الشعراء الشباب بالترجمة ؟

    - أنا أنصح كل شاعر أن يعرف لغة أخرى بشكل جيد وممتاز اذا أمكن وأن يحاول الترجمة حتى لو كان ذلك من أجل لذته الخاصة كتمرين
                  

العنوان الكاتب Date
حوار مع الشاعر سركون بولص هدهد09-12-03, 12:18 PM
  Re: حوار مع الشاعر سركون بولص هدهد09-12-03, 12:21 PM
    Re: حوار مع الشاعر سركون بولص هدهد09-13-03, 01:18 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de