|
عطبرة دفء المراسي و المطبخ السياسي 2
|
لكم العتبى حتى ترضوا أيها المناضلون من أهل عطبرة ، أولئك الذين لم نأت على ذكرهم و تفضل الأخ عادل عبد العاطي و ذكرهم و قامت الدكتورة بيان بذكر البعض الآخر فلهما شكري و تقديري، و أنا أضيف موسى متى ، و محمد السيد الصواردابي و محمد كبج و محمد الحسن عبد الله و حسن علي عبيدي و د. عبد الغفار. التحية و الإجلال لمدرسة الدايات بعطبرة ، التي تخرج منها عشرات المئات من الدايات اللائي حملن حقائبهن و إنطلقن للقرى و الأرياف ، يمددن هذا الوطن الحدادي مدادي بأجيال من أبناء السودان ، فيهم من تبوأ ما تبوأ و فيهم من أثرى الساحات المختلفة بفنه و أدبه. هؤلاء الدايات ، الجنديات المجهولات ، اللائي كانت رواتبهن لا تكفي دفع تكاليف مشوار رايح جاي لمحل ( النفساء ) ، فكانت تغطية حق الولادة إما بفخذ من خروف السماية أو يتوقف على أريحية أهل النفساء ، و ظلمهن الكثيرون حين كانوا يقولون شاتمين ( يلعن أبو الداية السحبت رجلك ) ، فنحن نشهد بأنهن مباركات و ما ( قصرن تب )، ينطلقن في عز البرد و لفح الهجير ، راجلات ، راكبات على ظهور الحمير ، و قاطعات للنيل بالمراكب ، في رحلات لا يقدر عليها أي طبيب توليد الآن و إن دفعوا له أضعاف راتبه. مختلف تماما ليل عطبرة عن نهارها. أمسيات عطبرة مختلفة تماما عن نهاراتها الحارة ، ففي الليل تنساب أصوات متناغمة لا تهدأ و لا تفتر ، فقلما تمر أمسية دون حفل زواج ، و العطبراوي يلعلع بصوته الذي شرفنا في الشرق الأوروبي بفوزه بجائزة أحسن نشيد و أقوى صوت ، و من بعيد تأتيك أصوات فرق الجاز ، و النوبة و المدائح و موسيقى القرب ، و الليالي السياسية ، فعمال عطبرة يدمنون السياسة إدمانهم لقزقزة التسالي و ( الجرم ) في دار الرياضة و السينما. أول سيرك شاهدته في حياتي ، شاهدته و أنا طفل في عطبرة ، كنت منبهرا بهذا الإبداع الهندي ، و كنت أسأل شقيقي : كيف أتوا بكل هذه الأدوات و الحيوانات من الهند إلى عطبرة ؟ إلى الآن نقول : إنت قايلني هندي ؟ و هم يعملون في صمت من وقتها إلى أن فاجأوا العالم بقنبلة نووية و وادي سيلكون يضارع عباقرة مخترعي الويندوز و اللينكس . كل المكايد السياسة التي كانت تذخر بها أروقة و دهاليز السياسة في الخرطوم ، كانت تنساب إلى عطبرة ، فتدخل في تجاويف المطبخ السياسي العطبراوي ، فتنصهر في بوتقة واحدة تسمى ( مصالح العمال ). الكل يختلف و لكن مصلحة العمال كانت أولوية ملحة دائما. لذا قاتل كل الساسة في عطبرة من أجل قضية العمال ، فإنتقلت العدوى لكل العمال بالسودان ، فكانت بهذا منارة و شعلة و رائدة. عندما نجح إنقلاب الشيوعيين ، خرجت جماهير الشيوعيين تهتف ( شيوعيون طبقيون ) ، لم تعترضها أي من جماهير الأحزاب الأخرى و لم تصطدم بهم ، ليقينهم بأن سحابة أي حزب ستمطر أنى و حيث شاءت و لكن خراجها سيدخل خزينة العمال. إنه فهم حقيقي للديموقراطية التي نستجديها الآن و نناديها. و عندما إنكفأ الإنقلاب و حدث ما حدث ، لم يحدث لشيوعيي عطبرة ما حدث لغيرهم بالمدن الأخرى ، نعم تم إعتقالهم ، و لكن لم تحدث أي حالة تشفي. أذكر أن أستاذي سيد الطاهر ، رحمه الله حيا و ميتا ، كان قد تم إعتقاله ، و أتوا به للملازم عثمان جعفر ( الآن لواء دكتور و مدير شرطة الخرطوم ) ، و كنا دفعة ، و قام الأستاذ سيد الطاهر بتدريسنا الأدب الإنجليزي ، أتوا به ، فكان عثمان جعفر محرجا للغاية و عامله معاملة أبوية هو و من معه ، و قال لي : هذا أصعب موقف مر بي في حياتي ، أن يكون التلميذ هو سجان أستاذه الذي يعزه و يحترمه. إلى ليل عطبرة ، أضافت قصة أبو جنزير مسحة غموض ، تذكرك بها الآن الأفلام التي تتحدث عن قصص الرعب في الإجرام المتسلسل ، كالمجرم المتخصص في الإغتصاب ، أو الإغتصاب مع تشويه الجثة ، أو إغتيال المومسات فقط ، يعني تخصص في نوع واحد من الجريمة يؤديها بطريقة واحدة و متشابهة. و بالرغم من معرفتي لمحمد عبد الجبار الملقب بمحمد عوارة ، فقد كان يعمل مراسلة بالسكة حديد في نفس الورشة التي يعمل بها والدي رحمه الله ، و كان يأتينا في المنزل بعجلته التي بدون رفارف ، و يقوم بتغيير أوراق الصحف إلى جنيهات ثم يعيدها إلى سيرتها الأولى ، و إبتلاع الأمواس ، و كان محبوبا من كل الناس ، رجل لا يعرف غير الإضحاك و ممازحة الناس ، فتراه ينظم صفوف الناس في دار الرياضة و المستشفى ، و يدخل على ( أجعص جعيص ) في مكتبه و يتوسط لكل الناس ، فكيف يعقل أن يكون رجل بهذه الأخلاقيات سفاحا يحمل جنزيرا و مخدرا و يقوم بتشويه الناس ليلا بعد تخديرهم؟ هناك حلقة مفقودة في قضيته ، و لا ندري إلى الآن حقيقة الأمر. و للذين لا يدرون فإن الرجل بطل قومي ، كرمته عطبرة أيام الحكم العسكري لأنه دخل وسط حريق كبير في مستودع لبراميل المحروقات و أخرج كل البراميل فإحترق الرجل و تشوه تماما في جسمه و نجا من الموت. فرجل كهذا لا يعقل أن يكون مجرما ، و لكن فوجئت عطبرة بأنه هو المجرم حين تم إعتقاله ، و تم الإفراج عنه أيام نميري ، ثم تم إعتقاله لأنه شتم نظام النميري عيانا بيانا في إحدى القهاوي بعطبرة ، فأودع سجن الدامر ، ثم غيبه الزمن. فله الرحمة حيا و ميتا. في عز أيام الرعب الجنزيري ، كانت المدينة تعيش ليلها بشكل عادي ، و تتناقل قصصا حقيقية و مختلقة عنه ، يتحاوم الناس في أمن و أمان ، و بوليس السواري يجوب المدينة على ظهور الخيل و سياطهم ( تجر بالواطة ). كانت تبهرني أيام المولد في ميدان المولد الشهير. عندما دخلت ديزني لاند في أورلاندو بأمريكا لأول مرة ، تذكرت ذلكم الميدان رغم ضآلة حجم المقارنة بين هذا و ذاك ، و لكنه الفرح الذي كان ينتابني أيام المولد ، فقامت نفسي الأمارة بإدمان ذلك الميدان بزخمه الفرائحي ، فأيقظتْ عبث الطفولة بداخلي ، فطفقت أجوب أرجاء ديزني و كأنني سأجد مكانا آكل فيه السلات ، أو محلا صغيرا سأجد فيه عروسة مولد أو ميزانا أكتال به سمسمية أو حمصية أو هريسة. لا تزال فاكهة اليوسف أفندي في المولد تراوح أنفي ، و أصوات المدائح تستيقظ في ذاكرتي كلما إستمعت لمدائح شيخنا الفاضل عبد الرحيم البرعي. نهارات عطبرة ، إلياذة أخرى مصغرة ، لوحة تمتزج فيها أنماط شتى من الفنون في آن واحد. فوسط المدينة ، سوق يختلط فيه حابل تجار عطبرة بنابل اليمانية في سوق العيش و مطاعمهم ، و محطة ود الريح العامرة ، و ضجيج طاحونة الشوش في أم بكول ، و صفارات الورش و أصوات قطارات الوردية ، و أصوات الجلالات لمستجدي سلاح المدفعية ، ثم مكلية ، التي كانت عبارة عن صورة مصغرة لنشرة الأخبار الإقتصادية ، فقد ( تشيل حال أي تاجر ) يقصر معها ، و تعرف خبايا مخازنهم من أصحاب الكارو حاملي و كاتمي أسرار التجار. مكلية كانت مصنفة بأنها مريضة عقليا ، و لكن تتحدث معها ، فتبهرك بمعلوماتها ، و لكنها سرعان ما تنتابها حالة من الهياج ، و عندها لا بد من الإنسحاب. لم يكن ينافسها و يضيق عليها الخناق إلا مختارات ، رحمهم الله جميعا. مختارات كان مغرما بها ، فيطاردها دون كلل أو ملل يبثها نجواه و هي سعيدة بهذا الإهتمام ، و رغم مرضها العقلي ، لم يتأثر الأنثى فيها بهذا المرض فكانت تتدلل عليه و تتمنع. كان هذا يحدث يوميا ، نقف لنشاهده عندما نكون مفلسين و لا نجد ( حق السينما ) ، فنكتفي بالغنيمة بمسلسل مكلية و مختارات. لا يضارع خراب سوبافي تاريخنا الحديث إلا خراب عطبرة. فعطبرة التي كانت مقصد الناس من كل حدب و صوب ، يسميها البعض الآن المدينة الكئيبة. جناينها تحولت إلى أسوار من الطوب ، مات فيها التناغم الشعبي ، تم قتل شيء ما في دواخل إنسان عطبرة ، فيعيش الآن على سنام الماضي يجتره و يقصع جرته. و إلى جزء رابع. أنبشوا ذاكرتكم أبناء مدينتي الفاضلة.
|
|
|
|
|
|
|
|
|