|
|
 مصطفى سيد احمد : سيمفونية ونهر حكايا
|
مصطفى سيد احمد:
سيمفونية ونهرحكايا
غنى أغنيته الأخيرة, حمل عوده وألحانه, باغتنا يوما ورحل إلى البعيد البعيد… كما الطيور المها جرة الـ"مابتعرف ليها مرسى ولا في إيدا جواز سفر". ودعناه بالغناء والأناشيد والمواكب التي زلزلت أرض الخرطوم وشقت سماء ليلها الحالك الحزين, ثم انتظرناه بعدها لحنا وأغنية تنهض شامخة ذات صباح بين ضفاف النيل. لحظتها هل قال فيه شاعرنا محمد عبد الحي :
بلبل غنى صبيات الحمى
ذات يوم بالغرام
هل ترى يجدي الكلام
أم أنه محض خيال من عندي؟ أظنه محض خيال لأن التاريخ مختلف رغم تشابه السياق. وعلى أية حال فما أجدى الكلام دوما عن مصطفى سيد احمد, هذه العبقرية الموسيقية الفذة التي فجرت في بلادنا أنهرا وشلالات من الألحان والغناء الجميل, وخلفت لنا إرثا موسيقيا جديرا بالدراسة والتأمل والتمثل به والنهل من ينبوعه الصافي الرقراق. غالبتني هذه الرغبة الجامحة في الكتابة عنه عقب تناولى لجانب من تراثه وكنت قد شاركت زميلي وصديقي الأستاذين حمزة سليمان وميوم ألير الحديث إلى جمهرة من الحضور والمهتمين في مسرح المركز الثقافي السوداني في أبوظبي عن ملامح القصصية والحوار والدراما في تراث وتجربة الغناء في السودان.
ففي رحلة الانتقال الطويل وتراكم التجربة الموسيقية وقفزاتها وتطوراتها من تراث:
"ضامر قوامك لان
قلبك قسى وجافيت
ليه ياجدي الغزلان؟
كم ليك محب تعبان
درب العشق ساهل
ودرب الوصال صعبان"
أقصد رحلة الانتقال هذه من الوصفية إلى التجريد باتجاه آفاق جديدة والتطور الموسيقي النوعي في تجربة أغنية وسط السودان, كانت عناصر القص والحكي والحوار والدراما تتناثر هنا وهناك بين ثنايا الأغنية ونصوصها الشعرية. على أني ما زلت على قناعة راسخة بأن حظ الأغاني المنتمية للثقافات الإفريقية السودانية أوفر من حظ أغاني الثقافة السائدة ذات الصبغة العربية الإسلامية. وفي ذلك أستند على حقيقة أن عنصر القص والحوار والدراما يمثل مكونا أساسيا من مكونات التراث الشفوي في الثقافات الإفريقية بوجه عام. وفي ظني أيضا أن شاعرنا الكبير اللماح محمد المكي ابراهيم قد أصاب مقتلا بملاحظته الذكية وتعليقه عن" حنبلية" الثقافة العربية الإسلامية, وهي حنبلية ورثتها واستمدتها من عوامل تاريخية ثقافية لعبت فيها الصحراء والقيم والتقاليد والأعراف الاجتماعية والدينية المحافظة دورا كبيرا. ضمن ذلك وتأكيدا له كان أستاذنا ميوم قد أسهم بتقديم نماذج من تجربة فرقة " كواتو" الموسيقية الغنائية وبين كم هي غنية نصوص الأغنية الإفريقية بهذه العناصر وكيف أنها تشكل إحدى قسماتها ومكوناتها الرئيسية.
عودة إلى وسط السودان, نجد أن هذه العناصر قد تناثرت في نصوص العديد من الأغاني. غير أن مصطفى سيد احمد يمثل الركيزة الأهم في هذه التجربة. والسبب هو أنه كان على وعي نظري بأهمية هذه العناصر وبدأ يطبق هذا الوعي ويترجمه عمليا وموسيقيا فيما خلفه لنا من تراث عريض. وقبله وفي موازاته كان قد أسهم عدد من الشعراء والملحنين والمغنين في اجتراح رؤى حداثية واتجاهات جديدة لتطور الأغنية. من أبرز هؤلاء على سبيل المثال وليس الحصر, محمد الأمين ومحمد وردي وعبد الكريم الكابلي وشرحبيل أحمد وأبوعركي البخيت. ومن الشعراء إسماعيل حسن وهاشم صديق وعمر الطيب الدوش ومحجوب شريف, وصولا إلى جيل وتجارب عقد الجلاد وحنان النيل وآمال النور وساورا وهرامبي الموسيقيتين وغيرها. وكان الاتجاه الرئيسي والقاسم المشترك بين كل هذه التجارب هو التمرد على الوصفية والبعد الأحادي لتراث الأغنية التي اكتسبت معظم خصائصها من خصائص وسمات القصيدة العربية الكلاسيكية التي يمثل الغزل أحد أهم أبوابها وموضوعاتها.
بفضل هذه التجارب ومع توفر جملة عوامل موضوعية وذاتية أبرزها تأثير معهد الموسيقى والمسرح في نشر ثقافة وخبرات ومهارات موسيقية جديدة, بروز جيل جديد من الموسيقيين يحمل رؤى ويتمتع بقدرات موسيقية عملية ووعي نظري غير مسبوق, تعاون شعراء وملحنين ومغنين متعددي الرؤى والقدرات إضافة إلى تشوق الذوق الموسيقي العام نفسه للجديد, اتجهت الأغنية باتجاه تكامل العناصر التشكيلية على ذلك النحو الذي كان قد حلم وبشر به الدكتور حسن موسى في مجال الدراما. من هنا وفي هذه اللحظة بالذات ولدت أغنيات " ماما ييه " و" مسدار أبو السرة لليانكي" ," حجة آمنة" وغيرها. وبين هذه تربعت أغنية " عم عبد الرحيم " للفنان مصطفى سيد احمد. هذه هي لحظة تطور نوعي رأسي جديد في مسار أغنية وسط السودان. وهي لحظة ما كان لها أن تتحقق لولا أن توفرت لها كل العوامل الموضوعية والذاتية اللازمة وتكاملت فيها رؤى الملحنين والموسيقيين مع جيل من الشعراء ولجوا إلى الشعر الغنائي من باب القصة والدراما أو كتبوه من دوافع شعرية تتكئ فيها القصيدة على وسادة الدراما والقصة والحوار. أشير هنا تحديدا إلى علاقات ذلك التعاون الشعري الموسيقي التي ربطت ما بين أزهري الحاج وعاطف خيري والصادق الرضي ويحيي فضل الله وقاسم أبوزيد ومحمد الحسن سالم حميد ومحمد طه القدال ودكتور بشرى الفاضل ومصطفى سيد احمد, وبين كابلي والدوش في أغنية " سعاد" والسماني لوال وديرك الفريد في قيادة فرقة " كواتو" الموسيقية وتصميماتها الحركية وأدائها الغنائي الذي لا تخفى فيه عناصر الدراما.
وإذا كانت الأغنية قد مضت أكثر فأكثر باتجاه القصة والدراما والحوار واستشعرت حساسية موسيقية جديدة, فإن علينا أن نذكر أول من نذكر مصطفى سيد احمد ومشروعه الموسيقي العملاق الذي افتتحه بأغنيته " عم عبد الرحيم" التي سوف نفرد لها مساحة خاصة من الحديث, تستحقها عن جدارة.
عبد الجبار عبد الله
[email protected]
|
|
 
|
|
|
|
|
| |
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست