مقال لعبد الجبار عبد الله

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-25-2024, 01:07 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف العام (2003م)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
05-24-2003, 07:26 PM

ABUKHALID
<aABUKHALID
تاريخ التسجيل: 07-07-2002
مجموع المشاركات: 1386

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
مقال لعبد الجبار عبد الله




    السودان في متاهته
    من الهوية إلى الوحدة أو وضع العربة أمام الحصان

    بقلم: عبد الجبار عبد الله


    عند ذكر الهوية السودانية ما أشبه حال السودان كله كدولة وشعب وثروات وموارد بشرية ومادية هائلة بذلك المصير المأساوي الفاجع الذي آل إليه "الملك لير" في مسرحية الشاعر الإنجليزي ويليام شكسبير التي تحمل العنوان ذاته. فقد انبنى الحدث الدرامي الرئيس في المسرحية عل مجموعة من الأحداث والعقد الثانوية التي انتهت إلى تبدد المملكة وانهيارها بفعل تأثير النزاعات الداخلية والحيل والمكائد التي قذفت بالملك كرمز سياسي إلى الشارع وحولته إلى ملك طريد مخبول يهيم بوجهه في السهوب والبراري. وفي مكان المملكة المستقرة حلت الحروب والمطامع والشهوانية الجامحة التي لا تقف عند حد. وكانت آفة وتراجيديا "الملك لير" أنه لم يحسن الانتماء والاختيار، وحين أدرك الفخ الذي نصب له كان كل شيء قد انتهى ولم يعد هناك ما يمكن إصلاحه.
    وما سودان اليوم – في وجه من الوجوه- سوى ذاك "الملك لير" الذي أبدعته المخيلة الشكسبيرية الفذة في مطالع القرن السابع عشر (حوالي عام1605) مع اعتبار الظروف والملابسات والمحيط التاريخي والبيئة السياسية للأحداث. أما الأحابيل والمكائد فهي تتبدى هنا منظوراًَ إليها من خلال الواقع السوداني في تلك المنظومة المتكاملة من المفاهيم. والقيم والسياسات التي اتبعتها أنظمة الحكم المتعاقبة منذ استقلال السودان فيما يتعلق بوحدة السودان وهويته فلم يكن حصادها سوى الحطام والهشيم وتيه بلد بكامله في الوهاد والفلوات.
    غير أن الوجه المأساوي حقاً في هذه المقارنة هو أن ذلك المصير الذي آل إليه "الملك لير" لا يعدو في عالم الدراما عن كونه لوناً من ألوان تراجيديا الخيال الفني المبدع وتحليقاته وشطحاته الطليقة الحرة حتى وان استند نسبياً على بعض جوانب الواقع التاريخي. أما مأساتنا نحن كبلد وشعب فهي من طينة الواقعية الملموسة الحارقة لكونها ظلت جرحاً راعشاً ونازفاً تخضبت بدمائه مياه النيل، وأورث غالبية السودانيين غبناً وفقراً وأسىً ظلوا يقتاتونه على امتداد ما يقارب نصف القرن من الزمان وعلى مسرح الحياة الواقعية وليس الخيال.
    وبسبب خيبة القيادة السياسية وعجزها المستمرين منذ عام 1956 فلم تقم وحدة البلاد إلا على أسنة الرماح والسيوف والسهام، وتكرست سمات وقسمات أزمة الهوية Identity Crisis بكامل دلالاتها ومعانيها السياسية والنفسية والأنثروبولوجية.
    وبرغم ما لهذا المفهوم من إحالات ودلالات شتى متباينة في جميع هذه المستويات إلا أن القاسم المشترك والأهم هو الشعور بحالة من العجز والضياع وعدم القدرة على تحديد ماهية الذات والإجابة عن السؤال الوجودي Ontological questionمن أكون؟ أو من أنا؟ وفيما يتصل بمحاولات تحديد الهوية السودانية فقد طرحت الأسئلة حول من نكون: هل نحن عرب أم أفارقة أم هجين بين بين؟ منذ وقت مبكر من بدايات تشكل الفكر السوداني والحركة السياسية الحديثة. وكانت جماعة مدرسة الفجر الأدبية هي أول من أرسى اللبنات الفكرية للاتجاه العروبي للهوية السودانية منذ منتصف عقد الثلاثينيات من القرن الماضي رغم دعوتها لسودنة الادب السوداني ردا على دعوة العروبة القحة لدى ادباء الجيل السابق. لكن وقبل الاستطراد في هذا الباب الذي لن نستخدمه إلا مدخلاً لموضوعنا الرئيس لعله من الأنسب الوقوف أولاً على الهوية نفسها كمفهوم واستجلاء ما تعنيه في السياق النظري العام ثم في ارتباطها المباشر بالصراع الفكري السياسي الذي دار وما يزال يدور حولها في السودان. وضمن ذلك بالطبع سنقف على جانب من التجليات الأدبية والثقافية للمفهوم على واقع الإنتاج الأدبي الثقافي في السودان، على أننا سنتناول في هذا المقال التحليل الفولكلوري نموذجاً.
    في شرحه لكلمة الهوية identity في معناها اللغوي العام يذهب معجم Merriam- webster( [1]) إلى تعريفها من بابين هما هوية الفرد أي مجموع الخواص والصفات الثابتة المميزة لشخصية الفرد، وهوية الجمع وهنا يختلف المعنى بإحالته إلى عناصر التماثل والتماهي الثابتة التي يمكن تمييزها كقاسم مشترك بين حالات تتسم بالتنوع والتعددية. ثم يمضي المعجم خطوة أخرى ليوضح ذلك إيجازاً بتماهي وتماثل الخواص المكونة لشيء ما أو واقع موضوعي. وبالنظر إلى المفاهيم التخصصية الفرعية للمصطلح في حقول البحث الفلسفي والسياسي والأنثروبولوجي وغيرها نجد أن عنصر الثبات constancy هو الذي يشكل القاسم المشترك بينها، والمعنى هنا ثبات خواص الموضوع. وهو عينه المبدأ الذي ارتكز عليه الباحث والمؤرخ السوادني إبراهيم أبو سليم في كتابه في (الشخصية السودانية)( [2]) فبالمنطق ذاته ما كان لإبراهيم أبو سليم أن يفترض وجود شخصية سودانية واحدة ذات هوية جمعية لولا أخذه بعناصر التماثل والتماهي والثبات والصفات المشتركة للشخصية في مستواها الكلي الجمعي، بصرف النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا معه. يمكن القول ايجازاً ودون ما ابتسار للمعنى ان موضوع الصراع الفكري السياسي الذي دار حول الهوية السودانية كانت ولا تزال مادته الرئيسة هي حسم ماهية وانتماء ما يزعم أنه خواص وصفات مادية روحية مشتركة للسودانيين جميعاً، هي التي تشكل هويتهم وشخصيتهم موضوع الصراع والنزاع.
    وبما أن الصراع قد دار أصلاً حول هوية سودانية موحدة لألوان الطيف الثقافي والديني واللغوي والعرقي المميز للشعب السوداني، فقد كان طبيعياً أن تلجأ الأطراف المتنازعة سواء كان بوعي نظري أم بغير ذلك إلى معيار ما محدد للقسمات الحاسمة والغالبة لتلك الهوية. هذا المعيار هو معيار الهويةcriterion of identity وهو بمثابة مقياس تتحدد بموجبه المواصفات والملامح الغالبة على هوية موضوع أو كائن ما ( [3]) هذا على الصعيد النظري العام، أما على صعيد الممارسة فيلزم الوقوف عند أمرين يكمل أحدهما الآخر:
    أ/ الافتراض بأن للسودانيين شخصية واحدة، هوية واحدة، ومن ثم ثقافة واحدة يطلق عليها بملء الفم "الثقافة السودانية".
    ب/ وجود معيار محدد للقسمات والملامح الغالبة لهذه الهوية وثقافتها الحاملة لها والمعبرة عنها وهو هنا المكونات العربية الإسلامية.
    وكلا الافتراضين يليويان عنق الحقيقة ويقفزان قفزاً على الواقع ويختزلانه تلهفاً إلى حالة من الوحدة والتجانس الواهم النقيض للتعددية والتنوع والتباين كسمات أساسية مميزة للمجتمع السوداني وأعراقه وثقافاته ولغاته. ومع صحة القول بأن تمازجاً وتجانساً قد حدث إلىحد ما وكبير في بعض الحالات بين مختلف المجموعات العرقية والثقافية المكونة لنسيج المجتمع السوداني إلا أن الحديث عن "بوتقة الانصهار الثقافي" ليس سوى وهم يداعب خيال أيديولوجيا الهيمنة بينما بقيت قسمات التمايز والاختلاف هي الغالبة وهي التي ظلت تدور حولها الحرب الأهلية منذ قبل الاستقلال وإلى اليوم باستثناء السنوات العشر التي أعقبت اتفاقية أديس أبابا المبرمة في عام 1972. وبمنهج المعيارية هذا مضي المستعربون الذين يتخذون من تعريب وأسلمة السودان قسراً أيديولوجية يحكمون بها البلاد إلى حسم مسألة الهوية لصالح الثقافة العربية والإسلامية وحدها. وعلى نقيض هؤلاء دعا تيار آخر وانطلاقاً من ردة الفعل والدفاع عن الكيان الذاتي أمام مخاطر الاستلاب والهيمنة إلى تغليب العنصر الأفريقي من مكونات الثقافة والمجتمع السوداني. ثار هذا النزاع منذ عشية الاستقلال وما قبلها بقليل غير أنه بلغ مداه وتجاوز ساحة المناظرات الفكرية إثر تحقق الاستقلال وتصاعد المطالب الصريحة بتحديد هوية البلاد والتدافع نحو الانتماء إلى إحدى المنظمتين الاقليميتيين، جامعة الدول العربية اومنظمة الوحدة الأفريقية. ولأسباب تاريخية تعود إلى علاقات الهيمنة وتمركز السلطة السياسية في شمال البلاد فقد كان حماة معيار العروبة مشمرين عن ساعد الجد وكان الأمر محسوماً بالنسبة لهم ولا يقبل المساومات، فلم يترددوا في القفز على الواقع كله وتجاوزه كعقبة لا أكثر وصولاً إلى جامعة الدولة العربية والإعلان الرسمي عن الهوية العربية الإسلامية للبلاد. وفي الجانب الآخر كان هناك ولا يزال بين السياسيين السودانيين من يرى أن السودان أكثر قرباً إلى منظمة الوحدة الأفريقية لغلبة السحنة الأفريقية والوجدان والتكوين الافريقيين على أهله وثقافاتهم. ولم يكتف أصوليو التعريب بتطبيق مبدأ المعيارية وحده على الواقع الثقافي، بل لجأوا لمنطق أخرق آخر هو معيار الأغلبية والأقلية الذي اصبح ذراعاً اخري للهيمنة والقمع ومصادرة الحقوق الثقافية والأساسية للمواطنين.
    هكذا وعلى صهوة الإلغاء والطمس والاستلاب الثقافي تحولت خاصية التنوع في بلادنا من نعمة إلى نقمة ووقود للحرب الأهلية الطاحنة أو إلى غبينة سياسيـــة ثقافية( [4]).
    كانت هذه توطئة عاجلة لابد منها للدخول إلى صلب موضوعنا الرئيس ألا وهو تجليات وانعكاسات هذا الصراع الفكري الاجتماعي حول الهوية على الحقل الثقافي والأدبي، وبتحديد أكثر دقة على حقل الدراسات الفولكلورية التي تسعى لاستكناه وسبر اغوار المكونات المادية والروحية للثقافات الشعبية واستقصاء روافدها ومنابعها الضاربة في جذور المجتمعات، فمن رأيي أن علم الفولكلور يؤدي في حقل الثقافة دوراً شبيهاً ومكملاً لذلك الذي يؤديه علم الآثار Archeology، إذ يبحث كلاهما عميقاً في جذور وتاريخ وحضارات المجتمعات والشعوب. ولذلك فهو علمٌ يعوّل عليه ويعتدُ بتحليلاته واستنتاجاته عندما يصيب التحليل ويتوخى موضوعية البحث العلمي.

    كنت في إيجازي آنفاً للصراع الفكري الاجتماعي المحتدم حول موضوع هوية السودان ووحدته قد تعمدت إرجاء الحديث عن تيار ثالث يتبنى الأفروعربية منهجاً توفيقياً لحل المشكلة. ورأيت أن من الأمثل إرجاء تناول هذا التيار إلى حين الوقوف عند تجليات ومغزى اتجاه الآفروعربية في مجال الدراسات الفولكلورية على نحو ما نجد في تناول البروفيسور سيد حامد حريز الباحث المختص في المجال لأحاجي قبيلة الجعليين، أو حسب العنوان الذي حملته الترجمة إلى اللغة العربية ( الحكاية الشعبية عند الجعليين: تداخل العناصر الأفريقية والعربية الإسلامية)، ( [5]).
    بالعودة إلى تاريخ نشر هذا الكتاب (1991م) لا شك في سبقه وريادته العلمية الأكاديمية في مجال البحث الفولكلوري للموضوع الذي تناول، قياساً إلى شُح ونقص الإسهامات في هذا المجال عموماً رغم الجهد المقدر الذي تبذله شعبة الفولكلور التابعة لمعهد الدراسات الأفريقية والآسيوية بجامعة الخرطوم، وشعبة الفولكلور التابعة لمصلحة الثقافة بوزارة الثقافة والإعلام سابقاً. وللبروفيسور سيد حامد حريز يد طولى ودور لا خلاف عليه في كل هذه الجهود غير أن هذه الدراسة (أحاجي الجعليين) تثير عدة خلافات نظرية مع المؤلف حول المحصلة المعرفية لعملية البحث العلمي والاستنتاجات النهائية التي تصل إليها هذه العملية في علاقاتها بتطبيقاتها العملية، سواء كان على الحقل الثقافي أو المجتمع ككل، سيما وأن لنتائج الأبحاث العلمية ارتباطاً مباشراً بوضع الاستراتيجيات والسياسات العامة في شتى المجالات في أي بلدِ يخطط لحاضره ومستقبله على أساس العلم. وفي بلد كالسودان فإن غياب التخطيط يمثل واحداً من أهم روافد أزماته. وفيما يتصل بوضع استراتيجية ثقافية لبلادنا تقوم على الديمقراطية واحترام الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين والاعتراف بواقع التنوع والتعددية العرقية واللغوية والدينية، فلا ذُخر للسودان سوى باحثيه وعلمائه ومفكريه المتخصصين في علم الثقافة Culturology بأوسع ما يعنيه المصطلح. وضمن السياق ذاته يعلق هذا البلد المنكوب آمالاً كبيرة على الإسهامات والفتوحات المعرفية التي ينهض بها الفولكلوريون والباحثون في مجالات الآثار وتاريخ الحضارات لما لهؤلاء من دورٍ في فتح الكنوز الثقافية المغلقة والمنسية والإطلاع بمهام الحفريات العصية التي تتطلبها أركيولوجيا المعرفة إن دق التعبير. ومن هذا "العشم" الكبير تنبع أهمية الملاحظات والقراءة النقدية للكتاب أعلاه، وهي الملاحظات التي سوف أسعى لإيجاز نقاطها الرئيسة فيما يتبع من بقية هذا المقال.
    صحيح أن الكتاب موضوع هذا الملاحظات كان قد صدر منذ عام 1991م وآثار نقاشاً منذ حينها غير أن ما يبرر فتح المناقشة مجدداً هو أن جرح الهوية والوحدة الوطنية هو جرح قديم متجدد وأن دماء المصادمات الناتجة عنه لا زالت تروي الأرض وأننا الآن في أشد الحاجة ما نكون إلى مراجعة الأفكار والرؤى، ووضع كل ما قيل وكتب حول هذين الموضوعين موضع الفحص والتمحيص والنقد حتى نسهم بذلك في تلمس خطانا ومواقفنا ونحن نأمل في وضع حدٍ للمتاهة والوصول إلى سودان لا نشعر تجاهه كمواطنين بالاغتراب او الغبن إن كانت هذه بعض الأهداف والدوافع الرئيسة التي يمكن أن توحد بين مفكري هذا السودان الذي أعني ومثقفيه وتثير حمية البحث العلمي بينهم.
    المركزية الثقافية وآليات الهيمنة:
    في افتتاحيته للكتاب يستهل الباحث بقوله: "تتضح جلياً الطبيعة التوفيقية syncretist لثقافة الأجزاء العربية الإسلامية من السودان، في العادات والمعتقدات وفي الأدب الشعبي وفي اللهجات العربية التي يتحدثها السودانيون. ثم ينتقل إلى فقرة أخرى ليوضح أسباب اختياره للجعليين ويرد ذلك إلى كون الجعليين هم من أكبر المجموعات العرقية وأكثرها تأثيرا في السودان، فضلاً عن أن ثقافتهم تعكس عمق الثقافة السودانية والتطور التاريخي الذي قطعته لتكتسب طبيعتها المتميزة. تأكيداً لهذه الفكرة يذهب الكاتب في مقدمته إلى أن ( الهدف من هذه الدراسة هو اختبار طبيعة الثقافة السودانية وتطورها من خلال حكايات الجعليين الشعبية). ها هنا وفي هذه المقدمات المنطقية تكمن فجيعة البحث العلمي حين تتساوق خطى الباحثين والمختصين مع خطى غلاة التعريب والأسلمة، وحين يوفر البحث العلمي المسوغات النظرية التي ترتكز عليها أيديولوجية الهيمنة. وكان للبحث أن يستقيم منطقا واستنتاجاً لو أنه لم يقفز تلك القفزة الدراماتيكية المفاجئة من الحديث عن الجزء إلى الحديث عن الكل، من الأجزاء العربية والإسلامية إلى السودان كله ثم إلى الحديث بغتة عن دراسة طبيعة الثقافة السودانية بأسرها عبر حكايات الجعليين (أشير هنا إلى أن كل التشديد أعلاه من عندي). وفي هذا التعميم النظري تطبيق عملي لمعيار الهوية criterion of identity الذي كنت قد تناولته في توطئة هذه الدراسة. رافد هذا المعيار هو النزوع المستمر والراسخ في وعي ولا وعي القيادات الشمالية العربية المسلمة إلى النظر إلى السودان من زاوية واحدة هي اختزاله سياسياً وجغرافياً وعرقياً وثقافياً حتى أن كلمة (السودان) ما عادت تعني شيئاً عندهم أكثر من كونها مجرد مرادف لفظي synonym للجزء العربي الإسلامي منه . وفي الوعي الباطن لهذه القيادات رسخت فكرة (اندياح) المركز على بقية أجزاء قطر الدائرة، وهي فكرة توسعية استعمارية في الأساس كما نعلم إلا أنها تطبق على الواقع السوداني في مستوى أدنى من مستويات التوسع والهيمنة. وإذا ما استخدمنا اللغة الفيزيائية مجازاً فيمكننا الحديث عن ظاهرة نطلق عليها (الإزاحة الثقافية) أي أن الثقافة المهيمنة تزيح كتلة ثقافية أخرى مكافئة لحجمها كثقافة مهيمنة وتحل محلها وتمحو شخصيتها بالكامل. أو دعك من الفيزياء ولنعد تارة أخرى إلى لغة الفولكلور والأنثروبولجيا الثقافية ولنقف عند مفهوم Acculturation أو التثقيف العدائي في مقابله العربي، وهو مفهوم يقوم على استراتيجية القمع والقهر والاستلاب. وهكذا ينزلق البحث من تناول التراث الثقافي المشترك culture co-tradition إلى تعميمات نظرية تصب في النهاية في خدمة التثاقف العدائي. وفي ظني ان هذه القفزة الدراماتيكية المؤسفة في منهجية البحث الاستقرائية، أي – الانتقال من الجزء إلى الكل- تعود إلى ذات المكونات الذهنية النفسية الراسخة في تكوين الكثيرين من المستعربين الشماليين. وبسبب تلك المكونات فقد شق على باحث راسخ القدمين مثل البروفيسور سيد حامد حريز مدرب الباحثين ومعلم الأجيال أن يصمد طويلاً ويثابر على صرامة منهجية البحث ومغالبة الذات في قضية حساسة وعزيزة على النفس مثل هذه فترجل عن الجواد وسهُل عليه إغراء الارتداد إلى منابع وبواعث الوعي الباطن الجمعي فمضى في الاستنتاجات والنهايات المنطقية مضي من يمشي وهو يغط في نوم عميق.
    في كتاب له بعنوان "عالم واحد وأصوات متعددة" ترجمته إلى العربية واعادت طبعه منظمة اليونسكو UNESCO في أواخر الستينيات تناول الباحث الأنثروبولوجي كلود ليفي شتراوس بعمق ظاهرة الاستلاب الثقافي واللغوي الممارس على شعوب العالم وثقافاتها تحت ذريعة "العالمية". ورد ليفي شتراوس مصدر ذلك الخطر إلى مكيدة المركزية الأوروبية Euro-centrism كمفهوم غربي استعماري يهدف إلى طمس هويات وثقافات ولغات كافة الشعوب الواقعة خارج هذا المركز وابتلاعها باسم العالمية. كما دق ذلك الباحث ناقوس خطر الهيمنة الثقافية التي سوف تكبد البشرية خسائر فادحة جراء انحسار الثقافات واللغات والانسياق على خطى التبعية الثقافية واللغوية للغرب. ولا غرو أن دافع ذلك الباحث الأنثروبولوجي الرصين دفاعاً مستميتاً عن خصوصية الثقافات الوطنية ودورها في الإثراء الروحي والفكري والجمالي للثقافة الإنسانية (العالمية) حين تكون هذه الأخيرة ممثلة لأصوات شعوب العالم وتراثها وإبداعاتها في شتى المجالات أصالة وليس عن طريق الوكالة. كانت منظمة اليونسكو قد رأت أهمية خاصة لذلك الكتاب فقررت إعادة طبعه وترجمته إلى مختلف لغات العالم، وهي تستشعر منذ ستينيات القرن الماضي خطراًَ ثقافياً مدلهماً يحيق بثقافات الشعوب خارج دائرة المركز الأوروبي أو (الغربي) المسيطر عسكرياً واقتصادياً وتكنولوجياً. هذا ومن أسف أن سياساتنا واستراتيجياتنا الثقافية الرسمية لا تكتفي ببلاهتها وغفلتها إزاء كل هذا الخطر رغم طوفان العولمة الذي يهدد باكتساح كل شيء أمامه واختزال أصوات العالم كلها في معزوفة لحنية واحدة تمجد أحادية القطب الواحد المسيطر، بل تستلهم هذه القيادات النموذج المعطوب نفسه لتطبقه وتعيد إنتاجه وتشغيله على نطاق أضيق ومحلي ولعله من الاحرى القول انها تستنهض تراث القمع والاستبداد الكامن في التراث العربي الاسلامي نفسه وتعمل على إعادة توظيفه. وفي هجير العولمة ولظاها وثمارها المريرة التي تعد بها فقراء العالم من أمثالنا يجد السودانيون أنفسهم تحت لظي هجيرين المركز الأوروبي الغاشم في الخارج واستراتيجية القمع الثقافي في الداخل.. ويا لهما من كرباجين! ذات مسرحية قال ذلك "الخليل" الساخر في كوميدية حمدنا الله عبد القادر "خطوبة سهير" التي قُدمت على خشبة المسرح القومي في أواخر الستينيات: "كُرباج برة وكُرباج جوة"، وفي ظني أنها لا تزال رغم اختلاف المقام من أطرف وابلغ ما يصف سوء حالنا الراهن ! كانت تلك جملة اعتراضية طويلة نعود منها تارة أخرى لقراءتنا لكتاب "أحاجي الجعليين" ونسأل: أي صوت علمي هذا الذي يساعد على إخراس كل الأصوات الثقافية في بلادنا... وأي علم هذا الذي يعين الحكومات الغاشمة على إجادة حمل الكرباج ضد مواطنيها؟
    لقد عنّ لي ماقلته عن علاقة الباحث بالمنهج ومادة البحث وفي البال أن افتتاحية الكتاب ومقدمته وخاتمته هي من بين آخر ما يكتب، وأن الباحث قد حزم أمتعته وأدواته وذهب إلى دار الجعليين لكي يدرس أحاجيهم ويحللها في سياقها الفولكلوري والتاريخي والثقافي، وقد أبلى في كل ذلك بلاءً حسناً لو أنه لم يجعل منه مدخلاً للتعميم النظري المخل الذي أضرَّ بأصل الدراسة واستنتاجاتها النهائية التي تصب في خانة الدفاع النظري عن مفهوم المركزية وتكريس استراتيجية النفي.
    جلسة تحت شجرة الجنس الآري
    صحيح أن الباحث قد أورد في صفحة 20 من الكتاب إشارة بعض المؤلفين إلى أن الجعليين يدعون أنهم عرب خُلّص وأنهم ميالون إلى تجاهل العنصر الأفريقي المؤكد لذاتيتهم العرقية اعتماداً على كتاب بيتر هولت المعنون Modern History of Sudan الصادر في 1961. وصحيح أنه وصفهم برغم ذلك بأنهم نوبة مستعربون. غير أنه سبق ذلك بمقدمة أخرى تتناقض وهذا الوصف لقسم من الجعليين ما انفك الباحث عن تسميتهم بـ الجعليين الخُلَّص، في إشارة منه إلى نقاء دمهم وأصولهم الأثنولوجية. استسمح القارئ عذراً للإكثار من الاستشهاد بما ورد في الكتاب من أفكار رئيسة لابد من الوقوف عندها، والعذر أن تلك الأفكار هي المادة التي نناقشها أصلاً. يقول المؤلف: وبالرغم من أن الدراسة تركز في المقام الأول على حكايات الجعليين الخلَّص (أولاد عرمان) فقد استعانت بعدد غير قليل من أخباريي المجموعات الجعلية بمعناها الواسع ( [6]) ومما يثير الدهشة في هذه الجملة عدم احتراز المؤلف أو تحفظه بأدنى درجة من الدرجات تجاه استخدام هذا الاصطلاح الدارج المترع بالدلالات وظلال المعاني المشبوهة، والمثير للحساسية العرقية ليس بين قبيلة الجعليين وسائر المجموعات العرقية الأخرى فحسب، بل بين الجعليين أنفسهم. فبهذا الاقرار النظري يرتقي الوعي الدارج إلى مستوى المعرفة والنظرية أو تنحدر النظرية إلى مستوى الوعي الدارج وفي كلتا الحالتين فقد نظر الباحث إلى الجعليين باعتبارهم رتباً ومقامات، أعلاهم من حافظ على دمائه نقية خالصة، وأدناهم من "دخله العرق" و "العرق دساس" كما يُقال في الثقافة الشعبية المستعربة فتلوثت دماؤهم واختلطت بالدم الأفريقي. وكان في وسع الباحث حفظ المسافة ما بين علم دراسة السلالات ومناهجه وبين اعتقاد "أولاد عرمان" الدارج بأصولهم وجذورهم لو أنه تقيد بما يلزم التقيد به. لكن ونتيجة لذلك التشويش الاصطلاحي الذي حدث ما عدنا نحن ولا الباحث ندري أين يكون موضع "أولاد عرمان" من جملة إعراب النتائج والمحصلة النهائية للبحث، ومن التصنيف الإثنولوجي النوبي العربي للجعليين ككل. وكم كان الحذر ضرورياً ولازما سداً للذرائع ودرءاً للشبهات حول ما يعيد إلى الذاكرة الإنسانية أصداء نظريات (نقاء الدم) Purity of blood والشك في وجود رائحة معادل سوداني لنزعة (الجنس الآري) التي تقشعر لها ابدان الالمان حتى اليوم خوفاً وانكسافا من ذلك التاريخ المخزي الأسيف .
    الآفروعربية او نظرية الغش الثقافي :
    وهل غادر الشعراء من متردم؟ وأعني بهؤلاء نقاد السودان ومثقفيه النجب الفصاح، عبد الله بولا وعبد الله علي إبراهيم ورفيقهما حسن موسى الذين تكاد تكون إسهاماتهم الفارعة الممتدة قد قتلت هذا الجانب بحثاً ولم تترك فيه حجراً ليقلب. ولكن نذكِّر بأن في الفولكلور أيضاً منعرج آخر على (درب اللوى) لابد من المرور عبره والتعريج عليه، ليس من أجل البكاء والوقوف على الاطلال وإنما توسيعاً لدائرة المحاورة حول كافة جيوب ومفاصل الغش الثقافي والكشف عنها أينما وجدت وتلونت وتكيفت كما تفعل الحرباء . فخلال تحليله لأحاجي الجعليين امسك الباحث ببعض الخيوط التي ترد بعض الأحاجي على نحوٍ مباشر إلى "ألف ليلة وليلة" كمرجع للأحاجي العربية. كما أمسك بخيوط أخرى ترد بعض أحاجي الجعليين إلى مصادرها الأفريقية، لاسيما تلك التي تحظى بانتشار واسع في الثقافة العربية الإسلامية مثل حجوة "فاطمة أم زُمام" و "الذئب والأولاد". وقال إن هذه الأخيرة تنتشر بين مجموعات السوتو suto والتونقا Tonga واللامبا Lamba والأيبو IBO والهوسا والكانوري وغيرها من المجموعات الأفريقية.( [7]) ومهد الباحث لهذه الاستنتاجات بسرد تاريخي مطول للتداخلات العرقية والثقافية للجعليين بالمجموعات العربية والأفريقية وعلاقات قديمة ربطت بينهم كذلك وأوربا.وكل هذا وارد ولا غبار عليه .
    خلاصة القول أن البحث خرج من كل ذلك باستنتاجات أساسية نوجزها فيما يلي دون اخلال بمعناها أو سياقها:
    1/ توحي الأحاجي بتعددية الاتصالات والعلاقات التي شهدها الجزء الشمالي من السودان منذ عهود ما قبل التاريخ، علماً بأن أغلب هذه الاتصالات قد جرت في إطار قارة أفريقيا التي لا يمكن تقسيمها تعسفاً بالصحراء.
    2/ بدأت المجموعات العربية والمحلية في التوحد والتطابق وتعززت العلاقات فيما بينها. وهكذا أعد مسرح التعايش والتوافق وانعكست ثمرة التحولات الثقافية التي حولت الجعليين إلى مجموعة أفريقية عربية إسلامية.
    3/ توضح العديد من الأحاجي التطور التاريخي لثقافة الجعليين إلى ثقافة عربية إسلامية ( [8]) .
    يلاحظ والتشديد أعلاه من عندي – كاتب المقال- أن هذه الدراسة تشي في ثناياها وتضاعيفها وفي مقدماتها المنطقية ونهاياتها بولع وحنين لا يخفيان لتلك اللحظة الماضوية البعيدة في أغوار التاريخ التي أمكن فيها لعربي الشمال المسلم طي بعض المسافة ما بين الغابة والصحراء وتلقيح رموز ثقافته الوافدة وتجذيرها في تربة الثقافة الأفريقية الأصيلة، فكان النتاج ذلك الكائن الخلاسي الهجين الذي انتجته الثقافة السنارية ذات يوم.
    وفي هذا الحنين تتردد أصداء لحن فولوكلوري يشاطر عبد الحي ( الشاعر محمد عبد الحي) تغنيه وحلمه ب(العودة إلى سنار) حيث تم ذلك اللقاء الاستثنائي الذي لم تشأ له الظروف الموضوعية أن يتكرر ويستمر في صيرورة سرمدية لا تنقطع كما يتصور الحالمون باستدعاء نموذج الدولة السنارية. لكن وبرغم الحل التوفيقي الانتقائي الذي تطرحه الأفروعربية لمشكلة الهوية، تظل هذه المدرسة ورديفتها (الغابة والصحراء) في مجال الأدب حاملة لتناقضاتها الداخلية الكامنة فيها. وداخل هذه التناقضات يتم فرز ما هو رئيس وما هو ثانوي من رموز ومكونات ذلك الهجين الثقافي الذي تحسم الغلبة فيه في النهاية لصالح الثقافة المسيطرة تاريخياً بحكم أن ذلك التناقض لا تقرر نتائجه في حقل الثقافة وحدها، ولكونه يرتبط بعلاقات الهيمنة والسيطرة في المستويات الاقتصادية والسياسية والسلطوية بوجه عام . يلزم القول هناإن للغة العربية وللثقافة العربية الإسلامية من الطاقة والرصيد الحضاري ما يؤهلهما للعب دور أكثر إيجابية في مسار تطور الثقافات السودانية وبناء علاقات التبادل والندية فيما بينها لو أنهما تحررتا من تشبثهما التاريخي بأهداب السلطة، ولو أنهما كفتا عن أن تكونا أدوات للقمع والقهر الثقافي. غني عن القول إن تحريراً كهذا يتطلب تفكيك منظومة وترسانة علاقات السيطرة كلها بما فيها علاقات السيطرة الثقافية. وبذلك تستعيد الثقافة العربية الإسلامية واللغة العربية عافيتمها وتفتحان الطريق أمام نمو كل ثقافي متعدد الأصوات يمكن أن نطلق عليه في مجموعه حينها "ثقافة سودانية". تماماً كما نطلق لفظ المعزوفة السيمفونية على ذلك الأداء الموسيقى الأوركسترالي الذي يوحد ما بين درجات صوتية ولحنية متباينة، بل ومتناقضة في بعض الأحيان.
    وعلى نقيض تكريس علاقات السيطرة عبر عملية التوليف والهجين الثقافي نجد تحليلاً وفهماً آخر لدى فرانسيس دينج في تحليله لأحاجي قبيلة الدينكا التي ينتمي إليها. ( [9]) فلدى فرانسيس نقفُ على فهم مفتوح البصيرة والذهن للسياق الاجتماعي الثقافي الذي تدور فيه أحاجي الدينكا بصفتهم مجموعة عرقية ثقافية ذات صوت ولونية أفريقية متميزة. ومع أن فرانسيس تناول بإسهاب علاقات التأثير والتبادل ما بين الدينكا وغيرهم، وبرع في تحليل نموذج "تهاما" من بين الأحاجي الواردة في الكتاب وما ترمز إليه من موتيفات وتاثيرات تبادل مع الثقافة العربية لا تخفى، إلا أن ذلك لم يعم بصيرته ولم يدفعه للاعتقاد أو توهم اندغام الرموز الثقافية لقبيلة الدينكا وذوبانها في جسد الثقافة العربية. أكثر من ذلك فقد ظل فرانسيس دينج دائماً، ومنذ كتابه بالغ الأهمية في كل هذه المناقشة (Dynamics of Identification) ( [10]) على موقفه وثباته في تبديد أسطورة التكوين الخلاسي الهجين لـ "الثقافة السودانية" ونزع أقنعة الزيف والخداع عن وجهها الاستعلائي الصلف . ففي كلمة له ألقاها في نـدوة (السودان الثقافة والتنمية) التي عقدت في مدينة القاهرة في أغسطس 1999م أكد فرانسيس على وحدويته كسوداني وبيَّن أن نزعة التعصب العرقي والثقافي تعد مكوناً تاريخياً من مكونات وديناميات التصور السوداني للعرق والثقافة. وقال ان ذلك التعصب ظل متبادلاً ما بين الشمال والجنوب، غير أن الفارق يظل نوعياً بين شطري القطر من حيث الحدة والدرجة التي يمارسها بها الشمال على الجنوب. وابلغ ما وصف به فرانسيس سياسات الأسلمة والتعريب التي تتبناها الحكومات الشمالية إزاء الجنوب. إنها تقوم على ثلاثة أركان نوجزها فيما يلي:-
    1/ افتراض وجود فراغ ثقافي حضاري في الجنوب يجب ملؤه.
    2/ الارتقاء الروحي بإنسان الجنوب البدائي المتخلف إلى مصاف القيم الروحية للثقافة العربية الإسلامية.
    3/ الشوفينية الثقافية والعرقية وممارسة الهيمنة الثقافية على الجنوب. ( [11])
    ولم يختتم فرانسيس كلمته قبل أن يبدد الأوهام ويبين أن علاقة الجنوب ثقافيا بالشمال ظلت على الدوام علاقة دفاع عن الذات ومناهضة لهيمنة الشمال ولخطر استيعاب ثقافاته وقولبتها عربياً وإسلامياً. وفي معرض ذلك قال فرانسيس قولته: "لا تحلو لنا رغبتهم في تطوير ثقافتنا إلى ثقافة عربية" ( [12]).
    وبعد : فما الذي تبقى من ثمار الوعد ومخاض الحمل الخلاسي الكاذب؟
    العربة أمام الحصان
    عند التحليل النهائي والاخير يمتطي غلاة التعريب وعشاق الهيمنة والخلاسية صهوة جواد واحد، ولكل بالطبع ميكانيزماته ومناهجه وطرائقه في عملية توحيد الثقافات السودانية والذاتية السودانية عبر سيادة المكونات العربية الإسلامية. لكن وبرغم ذلك تمثل الأفروعربية خطوة على طريق الحد من غلواء الانتماء العربي والتخفيف من وطأة الأحادية والشوفينية الثقافية والاعتراف بالملمح الأفريقي. لا انزلق للقول بأن الأفروعربية مضت خطوة واحدة باتجاه الاعتراف بوجود كيانات ومجموعات عرقية ثقافية مستقلة بذاتها موضوعياً ولا تتحدد هويتها من منظور علاقتها بالثقافة المسيطرة. لكنها مضت إلى ما لم تجرؤ عليه مدرسة الفجر باستدعائها الصريح ما هو مطموس ومقموع في السلوك اليومي لعلاقات السيطرة.
    وسواء أن كان المدخل إلى وحدة السودان من باب ملامحه العربية أم الأفريقية أم الإثنين معاً فإن مدخلاً كهذا لا يعني سوى المضي شوطاً أبعد في المتاهة لكونه يضع الأمور رأساً على عقب ويقدم العربة على الحصان بسعيه لحل المشكلة في نتائجها لا اسبابها . فالأصل في أزمة الهوية والثقافة هو الصراع السياسي الاجتماعي حول حقّ المواطنة بمفهومه الحقوقي السياسي، وهو ما يجب تسويته سياسياً عبر دستور ديموقراطي يُقر الحقوق والحريات الأساسية والعامة لكافة المواطنين، ولا تكون المواطنة فيه رهناً لانتماء الفرد الديني أو العرقي أو الثقافي أو خاضعة للون أو الجنس أو المعتقد السياسي.
    عندها وضمن هذا السياق سوف يتبلور مفهوم جديد للهوية والحقوق الثقافية ومسألة اللغة وعلاقات الثقافات مع بعضها البعض، ويتوفر مناخُ صحي ومعافي لتطور الثقافات واللغات وازدهارها أو اضمحلالها وفقاً للقوانين الداخلية الخاصة التي تحكم مساراتها وتطورها.
    إيجازا فإن الطريق إلى الوحدة واحترام التعدد والتنوع الثقافي والاعتراف به كحق من الحقوق الأساسية لا يبدأ من الثقافة رغم وجودها واهميتها كعامل وإنما بهدم الأساس الاجتماعي والحقوقي والسياسي الذي تقوم عليه علاقات الهيمنة والسيطرة، تماماً كما أن الطريق إلى ديموقراطية الثقافة هو سيادة الثقافة الديموقراطية في معناها السياسي.



    الهوامش:
    (1) Merriam- Webster online,
    http:// www.m-w.com/dictionary.htm.
    (2) الدكتور محمد ابراهيم أبوسليم، في الشخصية السودانية، دار جامعة الخرطوم للنشر، 1979.
    (3) أنظر
    The Oxford companion to philosophy, Oxford, 1995.
    أو http://www.xrefer.com
    (4) الدكتور عبد الله علي ابراهيم، الثقافة والديمقراطية في السودان، دار الأمين للنشر والتوزيع، القاهرة 1996، صـ 35- 50.
    (5) البروفيسور سيد حامد حريز، الحكاية الشعبية عند الجعليين: تداخل العناصر الأفريقية والعربية الإسلامية، ترجمة اسماعيل على الفحيل وسليمان محمد ابراهيم، دار الجيل (بيروت)- دار المأمون (الخرطوم) 1991.
    (6) المرجع السابق صـ 9
    · في الأصل كان الدكتور عبد الله علي ابراهيم هو من وصف الأفروعربية بانها نوع من الغش الثقافي. أنظر الثقافة والديمقراطية في السودان، دار الأمين للنشر والتوزيع (القاهرة) 1996، صـ 15_27.
    (7) بروفيسور سيد حامد حريز، الحكاية الشعبية عند الجعليين، تداخل العناصر الافريقية والعربية والإسلامية، ترجمة اسماعيل علي الفحيل وسليمان محمد ابراهيم، دار الجيل (بيروت)، دار المأمون (الخرطوم)، 1991 صـ 114.
    ( لاحظ دكتور فرانسيس دينج هذه الهرمية الثقافية التي ترمي ثقافات الجنوب بالبدائية والتخلف وتدعو إلى تطويرها والارتقاء بها إلى طور ثقافي أعلى هو الثقافة العربية الإسلامية. أنظر كلمته في ندوة السودان: التنمية والثقافة، نحو استراتيجية ثقافة، القاهرة 4-6 أغسطس 1999، مركز الدراسات السودانية، القاهرة، صـ 5-12.
    (9) Dr Francis M. Deng, Dinka Folk Tales, African stories from the Sudan, Holmes and Mier, 1974, London.
    (10) Francis M. Deng, Dynamics of Identification A Basis for National Integration in the Sudan Khartoum University Press, 1974.
    (11) أوراق ندوة السودان: الثقافة والتنمية، أغسطس 1999، القاهرة، مركز الدراسات السودانية صـ 5-12.
    (12) المصدر نفسه.

    عناوين إضافية :
    - يمتطي دعاة التعريب وعشاق الهجنة والخلاسية صهوة جواد واحد
    - القول بوجود هوية ثقافية واحدة لجميع السودانيين خطأ ومغالطة للواقع
    - الطريق إلي ديمقراطية الثقافة يبدأ بهدم الأساس الاجتماعي والحقوقي والسياسي الذي تقوم عليه علاقات الهيمنة والسيطرة
    - الحل هو الوحدة السياسية في إطار التنوع العرقي والديني والثقافي
                  

العنوان الكاتب Date
مقال لعبد الجبار عبد الله ABUKHALID05-24-03, 07:26 PM
  التحايا لعبد الجبار خالد العبيد05-25-03, 09:02 AM
    Re: التحايا لعبد الجبار ABUKHALID05-25-03, 08:47 PM
      Re: التحايا لعبد الجبار هدهد05-27-03, 02:22 AM
  Re: مقال لعبد الجبار عبد الله Bushra Elfadil05-27-03, 09:04 PM
    Re: مقال لعبد الجبار عبد الله ABUKHALID05-27-03, 09:20 PM
  Re: مقال لعبد الجبار عبد الله محمد الواثق05-27-03, 10:38 PM
  Re: مقال لعبد الجبار عبد الله محمد الواثق06-20-03, 10:17 PM
    Re: مقال لعبد الجبار عبد الله أبكر آدم إسماعيل06-30-03, 04:35 AM
  Re: مقال لعبد الجبار عبد الله محمد الواثق07-03-03, 10:32 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de