|
Re: ملف الأديب الراحل / أحمد الطيب زين العابدين (Re: عبد القادر الرفاعي)
|
] لولا أنه ليبرالى .. لم يكن احمد الطيب سعيدا بهذا المثقف (الأسطى) الذي يجيد تخصصه
يتمتع بقدرة لاتبارى في ابتكار المصطلحات الفكاهية الساخرة
بقلم : محمد عثمان مكي
- أنه مثقف رائع ... لو لا انه ليبرالي التفكير.. هكذا غمغمت لنفسي متأسيا بالحكمة المصرية الخالدة( الحلو ما يكملش)؛ فقد كنا في السبعينات في القرن الماضي حيث شكلت شعارات الثورية الشمولية جداراً سميكاً قادراً على حجب كل أضواء التنوير والعقلانية ... وحيث لم تكن اليبراليه دليلا على تفتيح العقل والسماحة تجاه الآخرين ، بل كان لها معنى آخر هو انعدام المبدئية والتردد والفوضى الفكرية ... الخ.
ولكن .......... لنبدأ القصة من أولها .. في نهاية السبعينات تم قبول طلبي لتدريس علم الفلسفة في كلية الفنون الجميلة والتطبيقية . ذهبت لاستلام العمل - ولم أكن اعرف أي شخص من العاملين في الكلية. وكان أول من قابلته أستاذا لم يرحب بي كثيرا (علمت فيما بعد انه من الصنف الذي كان الطلاب يطلقون عليه لقب الديناصورات)، كان رده جافا وعدوانياً: اذهب إلى قسم الدراسات الاجتماعية، ستجد شخصاً لابد أن يعجبك، فهو مثقفاتي يجيد الكلام ، ونحن كما ترى كلية عملية !) . ذهبت إلى قسم الدراسات الاجتماعية والذي لم يكن أكثر من غرفة صفيره جداً (يبدو إنها كانت في يوم من الأيام مخزنا لأدوات الرسم) . سألت عن رئيس بقسم المثقافتي) . . وجدته، صافحني بابتسامة واسعة، مقدما نفسه: احمد الطيب زين العابدين.. وأنا أمد يدي لمصافحتة ، تأكدت من أن عدد أصدقائي قد زاد واحداً. وكان هذا مكسباً.. كان بشوشاً ، لصوته رنين متميز ومحبب ، ضحكته مجلجلة، يتمتع بقدرة لا تبارى في ابتكار المصطلحات الفكاهية الساحرة التي ما أن تستطعم حلاوتها ، حتى تحس مباشرة بطعم مر لاذع للسخرية الناقدة التي يستنبطها المصطلح.
كان احمد الطيب فنانا تشكيلياً، ناقد فنياً، قاصاً ، مؤرخاً ... وفوق كل هذا وذاك مفكراً ليبرالياً ... يناقش، ينتقد، يهاجم، يسخر - ولكنه ابداً لم يدع احتكار المعرفة، لم يرفض لفكر الآخر المناقض له ، بل كان دائما يدعو للتعايش معه. لم تعجبني ليبرالية احمد الطيب في ذلك الوقت ، بالطبع السبب لم يكن كامنا في مفهوم اليرالية نفسه، بقدر ما كان نتاجا لخاصية في سباق استيعابي الخاص لمراحل تطوير الفكر الإنساني (هذا بالطبع موضوع آخر ومعقد ليس هذا مكانه - ولكن المهم فيه ، أن ليبرالية احمد الطيب كانت امتيازاً ، كنا محرومين من القدرة على تقويمه بصورة ايجابية).
أحمد الطيب زين العابدين هو مؤسس قسم الدراسات الاجتماعية في كلية الفنون الجميلة ( فلسفة، تاريخ ،فنون، علم جمال، علم نفس، ...) يل وأتجرأ على القول بأنه احد المناضلين القلائل في جبهة تخليص المثقف السوداني من أسر عقلية (الأسطوات) التي غرستها وبعمق الفلسفة الإنجليزية التجريبية في رؤوس مثقفينا من خلال المناهج الدراسية،منذ مرحلة الأساس وحتى الدراسات العليا. لم يكن احمد الطيب سعيداً بهذا المثقف ( الأسطى) الذي يجيد تخصصه، ولكنه يجهل علاقة هذا التخصص بباقي مجالات الحياة الأخرى. واختار أحمد الطيب ميدانا لمعركته ... كلية الفنون الجميلة والتطبيقية.
كانت الكلية – مثلها مثل المؤسسات الأكادمية وغير الأكاديمية الأخرى في البلاد – ترفع راية التخصص الضيق المعزول عن باقي المعارف الإنسانية. وكان شعار العداء للعلم الإنسانية يعلن عن نفسه بلا حياء وبتبجح . الفنان... هذا الكائن نصف المقدس، ليس له سلاح سوى الفرشاة أو الإزميل، وهو أصلاً موهوب ... لماذا تزعجه بخطرات أرسطو وكانط وهيجل وغيرهم .. هل حاول احدهم أن يرسم؟ وحتى الفنانين أنفسهم ... ماذا يهم منهم غير لوحاتهم ... ثم ها..ها.. ها .. سمعتكم تحاضرون عن كافكا وديستيوفسكي وغيرهم من الأدباء ... لم يبق لا أن تدرسوهم الاقتصاد السياسي .. أيها المثقفاتية، اتركوا الفنانين في حالهم... هكذا لخص أحد الديناصورات الرؤية (العلمية) الرسمية في الكلية . وسط هذه الأجواء كان أحمد الطيب بثبات وصبر وجلد ، أساسا جديداً للفنان المثقف المرتبط بعصره وكل العصور السالفة بل واللاحقة . كان يلاحق الأكاديميين والمثقفين للعمل معه في الكلية لتدريس العلوم الاجتماعية المختلفة، ويعمل على مكتبة الكلية البائسة بجلب المزيد من الكتب في مختلف المصادر حتى الشخصية، وهو أول من أدخل في الكلية نظام كتاب البحوث والدراسات، بل وجعل منها شرطاً أساسيا للحصول على شهادة التخرج (والتي ارتقت بفضل قسمه هذا من مجرد الدبلوم إلى شهادة البكالوريوس).
كنت أقوم بالتدريس في أخرى، لم أجد فيها تلك الأجواء التي وفرها أحمد الطيب إلى كليته. ولذلك كنت أفرغ سريعاً من عملي في تلك الكلية لأذهب إلى كلية الفنون لأقضي أكبر وقت ممكن في مكتب رئيس القسم ، تلك الغرفة الضيقة المعتمة (ليس بها نوافذ) والتي تتحول في كثير من الأحيان إلى صالون فكري، أو قاعه للمحاضرات واسعة بفضل رحابة صدر صاحبنا. كنت حينها ضد التفكير الليبرالي، ومن أنصار(الفكر الوحيد السليم) ، ولكنني كنت أرى في نفسي نزوعا كامنا( يشوبه التوجس) نحو احترام الرأي الآخر، بل وإمكانية أن تتسلل منه آراء سليمة تهدد احتكار (الفكر الوحيد السليم) للمعرفة. وهذا ما حبب إلى المناكفة مع ذلك الليبرالي المتمرد على كل شئ . وكثيراً ما كان يداعبني بسخريته اللاذعة: (ياخي أنا عندي مشكلة . عاوزك تديني روشتة ماركسية قوية أحل بيها مشكلتي) .. لم أكن أرى في هذه المداعبات أي نوع من خشونة؛ إذ كان احمد نفسه دارسا للماركسية، معجبا بثرائها الفسلفي وإمكانياتها الضخمة في رؤية الواقع ، وإمكانية المساعدة في تغييره ، ولكنه لم ير فيها نهاية المطاف للفكر الإنساني، وعند هذه الملاحظة الأخيرة كنا نختلف في ذلك الوقت .
كان معجبا إعجابا شديداً بالمفكر الماركسي/ الفرويدي أريك فروم ، وكنت في ذلك الوقت - لسوء الحظ أترجم كتابا لفيلسوف سوفيتي يمرمط فيه فروم ويكيل له ما قدره الله عليه من اتهامات بالذاتية و التحريضية و(الليبرالية) و العمالة ... الخ، القائمة إياها. وكنت أتبنى مواقف الفيلسوف السوفيتي. تناقشنا في هذا الأمر كثيراً، و لكن جملة قالها أحمد الطيب أبت أن تترك ذاكرتي على الإطلاق : (شوف طالما أنت بتفكر بطريقة علمية وموضوعية، لا بد في يوم من الأيام ستعيد تقويمك لأريك فروم ولهذا الفيلسوف السوفيتي الجربان).
وقد كان ... صحيح أن مراجعتنا لبعض ما كنا نعتقده في الماضي لا تعني التنكر لذلك التراث الفلسفي و الفكري الضخم الذي كنا نقتات عليه والذي أوصلنا إلى ما نحن عليه الآن ... وصحيح أيضا أن كل ما كان يقال سابقا من نقد ضد الأحادية والجمود، ليس كله سليماً وموضوعياً. فالحياة أكثر تعقيداً من هذا التبسيط المخل. ولكن الصحيح أيضا و المهم هو أن تراثنا الفكري المعاصر يتكون من منابع ومجهودات متعددة، و بمساهمة من رموز مستنيرة من أفراد من مجتمعنا قد تكون ضحية للطابع الأساسي الأحادي الحاد للصراع بين قوى الاستنارة وقوى التخلف. وقد أهملت القوى السياسية في كل من الجبهتين جيشها الاحتياطي من المثقفين، لان المثقف يطبعه ينفر من الصرامة التنظيمية والتي - وإن كانت ضرورية في المراحل السابقة لتطورنا الاجتماعي- إلا إنها لم تعد الآن الوسيلة المناسبة لإدارة الصراع في الحياة.
أحمد الطيب زين العابدين، رمز من رموزنا الثقافية، لكل منا حق الاتفاق معه أو مخالفته، ولكل منا حق تقويمه بالصورة التي يراها. ولكن كل هذا لا يلغى حقيقة مساهماته الثرية في مجالات التشكيل و النقد الفني والقصة والسودانوية (والتي تجلت الآن، في الدعوة السائدة حالياً لاحترام التعددية الثقافية في بلادنا والعمل على خلق وحدة تعمل على أساس قانون التعددية). وفوق كل هذا وذاك، رحابة صدره و احتماله للآخرين وعدم أنفته من الاستفادة من كل منبع فكري يصادفه ... باختصار ليبراليته، و التي لم أرتح لها سابقاً، ولكنني أعتبرها الآن من أجمل خصائص هذا الشخص النبيل.
تحية لذكرى أحمد الطيب الصديق العزيز.
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
ملف الأديب الراحل / أحمد الطيب زين العابدين | عبد القادر الرفاعي | 02-15-09, 03:42 PM |
Re: ملف الأديب الراحل / أحمد الطيب زين العابدين | عبد القادر الرفاعي | 02-15-09, 03:57 PM |
Re: ملف الأديب الراحل / أحمد الطيب زين العابدين | عبد القادر الرفاعي | 02-15-09, 04:21 PM |
Re: ملف الأديب الراحل / أحمد الطيب زين العابدين | عبد القادر الرفاعي | 02-15-09, 04:32 PM |
Re: ملف الأديب الراحل / أحمد الطيب زين العابدين | عبد القادر الرفاعي | 02-16-09, 11:44 AM |
Re: ملف الأديب الراحل / أحمد الطيب زين العابدين | عبد القادر الرفاعي | 02-16-09, 11:50 AM |
Re: ملف الأديب الراحل / أحمد الطيب زين العابدين | عبد القادر الرفاعي | 02-16-09, 11:55 AM |
Re: ملف الأديب الراحل / أحمد الطيب زين العابدين | عبد القادر الرفاعي | 02-20-09, 05:52 AM |
Re: ملف الأديب الراحل / أحمد الطيب زين العابدين | عبد القادر الرفاعي | 02-20-09, 12:28 PM |
Re: ملف الأديب الراحل / أحمد الطيب زين العابدين | عبد القادر الرفاعي | 02-20-09, 12:55 PM |
Re: ملف الأديب الراحل / أحمد الطيب زين العابدين | عبد القادر الرفاعي | 02-23-09, 09:30 PM |
Re: ملف الأديب الراحل / أحمد الطيب زين العابدين | عبد القادر الرفاعي | 02-23-09, 09:38 PM |
Re: ملف الأديب الراحل / أحمد الطيب زين العابدين | عبد القادر الرفاعي | 02-23-09, 09:58 PM |
Re: ملف الأديب الراحل / أحمد الطيب زين العابدين | Mohamed Elgadi | 02-16-09, 12:02 PM |
Re: ملف الأديب الراحل / أحمد الطيب زين العابدين | Abdlaziz Eisa | 02-16-09, 12:42 PM |
Re: ملف الأديب الراحل / أحمد الطيب زين العابدين | Sabri Elshareef | 02-16-09, 12:58 PM |
تحياتي ... | سيف اليزل الماحي | 02-16-09, 02:05 PM |
صاحب السودانوية | Elbagir Osman | 02-20-09, 05:57 AM |
Re: صاحب السودانوية | kh_abboud | 02-20-09, 07:46 AM |
Re: صاحب السودانوية | الطيب شيقوق | 02-23-09, 10:06 PM |
Re: صاحب السودانوية | عبد القادر الرفاعي | 02-23-09, 10:16 PM |
Re: صاحب السودانوية | عبد القادر الرفاعي | 02-24-09, 05:48 AM |
Re: صاحب السودانوية | Emad Abdulla | 02-24-09, 06:56 AM |
Re: صاحب السودانوية | Seif Elyazal Burae | 03-06-09, 02:21 AM |
Re: صاحب السودانوية | عبدالله الشقليني | 03-06-09, 06:20 AM |
Re: صاحب السودانوية | Mamoun Ahmed | 03-06-09, 10:52 AM |
Re: صاحب السودانوية | محمد سنى دفع الله | 03-06-09, 11:38 AM |
Re: صاحب السودانوية | shahto | 03-06-09, 12:34 PM |
|
|
|