السلفيون العرب ومأساة غزة

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-03-2024, 09:08 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الاول للعام 2009م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
01-06-2009, 01:23 PM

adil amin
<aadil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 36972

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السلفيون العرب ومأساة غزة (Re: adil amin)

    مشكلة الشرق الاوسط
    محمود محمد طه


    محمود محمد طه
    رئيس الحزب الجمهورى

    يقدم


    مُشكلة الشََّرق الأوسط
    تحليل سياسي
    استقراء تاريخي
    حل علمي




    ام درمان – سودان
    اكتوبر 1967م – رجب 1387 هـ



    الإهداء

    إذا كنت مؤمنا باللّه، ثم بكرامة الإنسان – كرامة الفكر – فإن هذا الكتاب لك.. وإن لم تك مؤمنا فمن الخير لك أن تؤمن، بل لا بد لك من أن تؤمن وسيكون هذا الكتاب لك.

    بسم الله الرحمن الرحيم
    (ومن يبتغ غير الاسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)
    صدق الله العظيم


    مقدمة

    إنّ الهزيمة العسكرية التي منيت بها الجيوش العربية في صحراء سيناء في مستهل يونيو الماضى لهى هزيمة لا ضريب لها في تاريخ العرب القديم ولا الحديث .. وبحسبك منها أنّها هزيمة عرّضت العرب لزراية الأعداء، وإشفاق الأصدقاء، وأنت لا تجد بين قرنى زراية العدو وإشفاق الصديق موضع كرامة لنفس الكريم.
    ومع ذلك فان هذه الهزيمة ليست نهاية الدنيا.. انما هى نهاية عهد، وبداية عهد.. هى بداية عهد يدخل به العرب التاريخ الحديث كما دخل أوائلهم التاريخ القديم، وهو مدخل سيؤرخ تحولا في مجرى تطور الحياة البشرية على هذا الكوكب أكبر، بما لا يقاس، من ذلك التحول الذي صحب دخول أوائلهم التاريخ القديم، وذلك قبل ما يشارف الأربعة عشر قرنا من الزمان.
    أنّ العبرة البالغة التي انفرجت عنها أذيال الحرب العالمية الثانية تجد تعبيرها في الحقيقة الكبرى وهى أن القافلة البشرية، في كل صقع من أصقاع هذا الكوكب، قد أقتلعت خيامها، وأخذت في السير، وهى، في كل خطوة من خطوات هذا السير، تصنع التاريخ وتصنعه على هدى جديد، فبعد أن كان التاريخ يمليه في أغلب الأحيان على تلاميذه ومسجليه الملوك، والسلاطين، وقواد الجيوش، ودهاقن السياسة، وأرباب الثروة، وهم يتصرفون في مصير الانسان، أصبح يمليه عليهم الآن رجل الشارع العادى، المغمور، وهو يبحث عن كرامة الانسان حيث وجد الانسان.
    والعرب اليوم – شأنهم في ذلك شأن البشرية التي تعمر هذا الكوكب – يقفون في مفترق الطرق.. فهم اما أن يدخلوا التاريخ الجديد بفكر جديد، كما دخل أوائلهم التاريخ بفكر كان على عهدهم جديدا، أو أن يخرجوا من التاريخ، كما خرجت شعوب من قبل، طال عليها الأمد، ففقدت حيويتها، وعجزت عن المواءمة بينها وبين بيئتها.
    انّ الأخطاء العسكرية، والسياسية، والفكرية، التي اتسمت بها مواقف العرب في أعوام 1948، 1956، 1967، اذا اٌخذت في حد ذاتها، تشكل نذيرا خطيرا بسوء المنقلب، ولكنها، لحسن الحظ، لا يمكن أن تؤخذ بمعزل عن السلسلة التي هى حلقة فيها، وهى، في ذلك، حلقة لا تمثل داء الأمّة العربية، وانما تمثل أعراض ذلك الداء.
    وهذه الأخطاء البشعة، التي هى أقرب الى نزوات المراهقين منها الى أفكار الرجال الأسوياء هى التي تدلنا، أبلغ الدلالة، على ان العرب يواجهون اليوم تحدي التاريخ وانهم يقفون بذلك على مفترق الطرق، وليس هناك طويل وقت ليصرف في المحاولات التي لا تتسم بميسم الحذق، والذكاء. فأن علينا ان ندخل التاريخ منذ اليوم كما دخله أوائلنا، أو أن نخـرج من التاريخ، لبقية التاريخ.
    وأوائلنا! هل دخلوا التاريخ كعرب؟؟ كلا! وألف كلا!.. انما دخلوه بعد أن منّ الله عليهم فأصبحوا مسلمين.. وعلمهم الاسلام ما طامن من غلوائهم، ومن اعتزازهم بعنصرهم، فقال: ((الناس لآدم، وآدم من تراب، انّ أكرمكم عند اللّه أتقاكم)) وقال: ((ليس لعربى فضل على عجمى الا بالتقوى)) وقال: ((يا أيها الناس انّا خلقناكم من ذكر وانثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل، لتعارفوا، انّ أكرمكم عند اللّه أتقاكم، ان الله عليم خبير)).
    ها هنا أصل الداء! ان العرب يريدون أن يقيسوا قامتهم، كعرب، الى تحديات عصرهم الحاضر، وليس لقامتهم تلك، ههنا، غناء، فان تحديات العصر ارتفعت الى صراع الأفكار والمذاهب، وخلفت وراءها، بأمد بعيد، العنصريات..
    ليت شعرى! متى يخرج العرب من التيه الذي يضربون فيه الآن؟ متى يعلم العرب أنهم مسلمون، وأنّهم ورثة المصحف الشريف، وأنهم، من ثم، أصحاب رسالة كتب الله على نفسه ألا ينجى الانسانية بمفازتها الا بها؟
    انا زعيم بأنّ الهزيمة المنكرة التي تعرضنا لها أخيرا في ميداني الحرب والسياسة انما جاءت بصورة حادة لأن اللّه قد كلمنا بحوادث عام 1948 فلم نفهم، ثم كلمنا بحوادث 1956 فلم نفهم، وها قد كلمنا بحوادث 1967 بصورة بليغة، وفصيحة، واني لأرجو أن نفهم الآن عن ربنا فهما يغنينا عن اعادة كلامه علينا بهذا الاسلوب مرة رابعة.
    وما ينبغى أن نفهمه عن اللّه، من كلامه هذا هو أنّ العرب لن ينتصروا على عدوٍ الا اذا رجعوا اليه تعالى – اذا انتصر الناس بغير طريق الاسلام فان العرب لن ينتصروا بغير طريق الاسلام – ذلك بأنّ الدلائل تدلّ على أنّ موعود اللّه قد دنى، وأظلّ الناس أوانه... موعوده حيث يقول، تبارك من قائل، ((هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى باللّه شهيدا)). وفى وقتنا الحاضر فان الآية التي صدرنا بها هذا السفر تبحث عن ظهـورها، وهى تبحث عن ظهورها عند العرب أولاً، ريثما تبحث عن ظهورها على الأرض كلها، وتلك الآية هى قوله تعالى:
    ((ومن يبتـغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه، وهو، في الآخرة، من الخاسرين)) وقد ابتغى العرب غير الاسلام، والتمسوا النصر عند غير اللّه، فما نجعت حيلة، ولا أسعف صديق، فانقلبـوا في الآخـرة خاسرين، وقـد أنى لهـم أن يفهمـوا، وأن يتعظـوا، وأن يرجعـوا الى دينهـم، والى ربهـم.
    ان اللّه غيور على العرب في القرن العشرين، كما كان غيورا عليهم في القرن السابع، فهو قد حمّلهم رسالة الاسلام يومئذ فلقحوا بها المدنية الفارسية في الشرق، والمدنية الرومانية اليونانية في الغرب، وهو سيحمّلهم رسالة الاسلام اليوم ليلقحوا بها المدنية الشيوعية في الشرق، والمدنية الرأسمالية في الغرب.
    ان العرب سيدخلون التاريخ كما دخله أوائلهم، وبأفضل مما دخله أوائلهم، وهم في يومهم هذا كأمسهم ذاك، لن يدخلوا التاريخ كعرب، وانما سيدخلونه كمسلمين، يحملون رسالة الاسلام – رسالة السلام – الى عالم لا تتجسد حاجته في شئ كما تتجسد في ابتغاء السلام – وهذا العالم هو أيضا يقف اليوم في مفترق الطرق، وليس هناك طويل وقت ليصرف في المحاولات القواصر.. فان أمام الانسانية اليوم احدى اثنتين: اما أن تسلك الطريق الصاعد الى درجات السلام فتعيش عيشة الانسان، أو أن تسلك الطريق الهابط الى دركات الحرب فتعيش عيشة الحيوان، أم هل عساها أن لا تظفر حتى بعيشة الحيوان؟؟
    الهزيمة الأخيرة، رغم بشاعتها، هى هدية اللّه للعرب!! هى نعمة في ثوب نقمة!! سيجد العرب الآن أنفسهم مضطرين ليجلسوا، وليفكروا في أخطائهم الكثيرة، وسيحدثون توبة نصوحا، بها تتم، ان شاء اللّه، رجعتهم الى اللّه، ورضاهم به، وتقبلهم عنايته.. فانه رب ضارّة نافعة، ولو قد خيّر العرب لاختاروا أن ينتصروا على دولة اسرائيل، وأن يلقوا بها في البحر، ونحن نفضل لهم هذه الهزيمة، لان النصر، بالطريقة التي تروقهم، كان سيمد لهم في الضلال، ويباعد بينهم وبين رسالتهم، ويصرف نظرهم عن عدوهم الحق، فان دولة اسرائيل ليست عدوة العرب.. وانما العرب أعداء أنفسهم بما انصرفوا عن اللّه، وبما التمسوا العز والنصر – عند غير اللّه، وبما استطابوا من اضطجاع في مراقد الجهل والغفلة. ومن يدري فقد تكون دولة اسرائيل صديقا في ثياب عدو؟ قد تكون بمثابة الكرباج الذي يوقظ العرب من هذا الغطيط الثقيل الذي لبث أحقابا طوالا؟
    كما قلنا، فان هزائم العرب أمام دولة اسرائيل ليست الداء، وانما هى أعراض الداء.. هى كالألم يشكوه المريض.. فليس الألم هو المرض، وانما هو دلالة عليه.. وكما أنّ الطبيب الماهر لا يسكن الألم بتخدير المريض، الا اذا زاد عن طوق الاحتمال، وانما يسترشد به الى جذور الداء، ليطب له طبا شافيا وافيا، فكذلك نحن، لا نريد أن نخدر الألم، وانما نريد ان نسترشد به الى تشخيص أصل الداء الذي نهك جسم الأمّة العربية طوال هذه الحقب السوالف من تاريخها الطويل.
    ان كتابنا هذا لن يكون، اذن وصفة لدواء يخدر المرض، وانما سيكون، بعون اللّه وتوفيقه، وصفة لدواء يجتث المرض من جذوره. وعند اللّه نلتمس التسديد الى التي هى أقوم، في الفكر، والقول، والعمل.
    الفصل الاول


    صور الأشياء

    هناك ثلاثة أمور لا بد من استيقانها:-
    * أولها أنّ حكم الوقت يقضى على هذه البشرية، التي تعمر هذا الكوكب، في هذا العصـر، أن تتوحّد.
    * وثانيها أن هذه البشرية، لكى تتوحد، لا بد لها من السلام.
    * وثالثها انها، من أجل السلام، لا بدّ لها من المدنية التي تنشر حكم القانون العادل.

    * فأما الأول فلأنّ التقدم التكنولوجى في وسايل نقل الناس، والأشياء، والأخبار، قد ألغى الزمان والمكان، أو كاد، وقد توحد هذا الكوكب، وأصبح أى جزء من أجزائه على مدى ساعات، وتقل هذه الساعات كل يوم جديد. ووحدة هذا الكوكب المكانية تواجه البشرية اليوم ببيئة مكانية جديدة، وهذه المواجهة تشكل تحدّيا على مدى لم يسبق للبشرية أن عرفته في تاريخها الماضى، ذلك أنه مطلوب اليها ان توائم، مواءمة تامّة، بين حياتها وبين بيئتها هذه الجديدة، بأن تحدث وحدة تامّة، تنصهر فيها عناصرها المختلفة، وألوانها المختلفة، وعقائدها المختلفة، ولغاتها المختلفة أيضا، أو، ان عجزت عن ذلك، فقد مضت سنة الأوّلين بالأحياء الذين عجزوا عن أن يوائموا بين حياتهم وبين بيئتهم.
    ان العلم التجريبى الحاضر قد خدم البشرية عل هذا الكوكب خدمات لا تحصى، ولكن هناك خدمة لم نتفطّن، الى الآن، الى حقيقة عظمتها، وتلك هى أنّه باطلاقه للطاقة الذرية، بتفتيته للذرّة، قد لفت نظرنا الى أنّ البيئة التي عاش فيها الأحياء قبلنا، ونعيش فيها نحن اليوم، ليست في حقيقتها ماديّة، وانما هى روحية ذات مظهر مادّى.. بل أنّ المادة كما نعرفها ونألفها، ليست هناك، وانما هى وهم من أوهام الحواس، وعندما ردّها العلم الحديث الى أصولها الاولية أنقلبت الى طاقة تدفع وتجذب في الفضاء، والعلم الحديث قد عرف خصائص هذه الطاقة، ولكنه عجز عن معرفة كنهها، ووقف عند عتبة الكنه عاجزا لا يبدى، ولا يعيد، ولا يدّعى، لانه أحق من يفهـم أن ّ مقامـه عنـد هـذه العتبـة، وأنـه لا يستقيـم، مـع كرامـة نفسـه عنـده، أن يدّعى لها ما لا يكون أبـدا.
    البيئة التي نعيش فيها الآن، اذن، قد برهن العلم المادى التجريبى الحديث نفسه على أنها ليست مادية وانما المادة مظهر لشئ وراء المادة وهذا الشئ الذي وراء المادة يعبّر الاسلام، عن أدنى منازله من المادة، بالروح، أو ان شئت التعبير الحديث، قل بالفكر.. فالبيئة التي نعيش فيها فكرية، تجسدت فيها الأفكار، فاتخذت مظهرا نسميه نحن المادة. ومن ثمّ فالوحدة البشرية التي تطلب البيئة الجديدة الى الانسانية تحقيقها انما سبيلها الفكر.. فالناس يختلفون في اللون، وفى الاقليم، وفى اللغة، وفى العنصر، وفى العقيدة، ولكنّهم، كلهم، يلتقون في العقل. فان الانسان في أدنى مراتبه من منازل الحيوان، قد تميّز عنه بالعقل، وهو لا يدخل حظيرة الانسانية الا به – فيما عدا حالات العلّة الطارئة.. والقول المشهور بأنّ الانسان حيوان ناطق قول لا يروقني فان كل الحيوانات ناطقة، بل أنّ كل الأشياء ناطقة، والقول الذي يروقني حقا هو أنّ الانسان حيوان مفكر.. فليس هناك انسان لا يفكر – في الحالات السوّية – وان كان هناك اناس قليلو التفكير.. وآفة التفكير في شيئين: في قلته وفى التوائه..
    والانسان كحيوان مفكر هو أيضا حيوان كسول في ذلك، فهو لا يريد أن يفكر، وهو ان فكّر انما يجعل فكره خادما لهوى نفسه، ومن ثمّ يجئ التواء تفكيره.. وأندر شئ في الوجود التفكير المستقيم، ذلك بأنّ التفكير المستقيم لا يتبع هوى النفس وانما يحمل هوى النفس على اتباعه، وهو بذلك التزام يطلب مظهره في وحدة القول، ووحدة العمل، وتلك مسئولية لا ينهض بأعبائها غير الرجال، والناس، كل الناس، لا يريدون أن يكونوا رجالا، فهم قد طاب لهم التقلب في مهاد الطفولة، ولن يدرجوا منها الى مناشط الرجولة تحت حوافز أقلّ الحاحا من حوافز التحدي التي تواجههم بها هذه البيئة الكوكبية الجديدة.
    ومفترق الطرق الذي قلنا أنّ البشرية تقف عنده اليوم، انما هو مفترق طريقين، ان أردت الدقّة... هما طريقا الرجولة والطفولة، فان أصرّت البشرية الحاضرة على التشبث بطفولتها فان منطق البيئة الكوكبية الموحّدة الحاضرة سيلفظها، وسيجئ لفظه اياها في صورة انقراضها لتخلى مكانها لفصيلة جديدة تنهض بالتزامات البيئة الجديدة، وان شبت البشرية الحاضرة عن طفولتها، ودرجت في مدارج رجولتها، فانها تكون قد أصبحت فصيلة جديدة يهديها اللّه سبل السلام بسلامة قلوبها وصفاء عقولها – برجولتها.
    * وأما الثاني فان السلام مقدّمة للفكر ونتيجة.. فهو كمقدّمة انما يمليه الخوف من الحرب، وذلك أمر قد توفر الآن، وتوفر بما يكفى، والسلام في هذا المستوى ليس سلاما وانما هو ضرب من الحرب، كأنّ الناس فيه من خوف الحرب في حرب.. وهو مع ذلك، ضروري لنصل الى السلام السليم الذي يكون نتيجة للتفكير المستقيم.
    * واما الثالث فان القانون العادل لا يجئ الا عن التفكير المستقيم، وهو لا يطبق، ولا ينفذ، الا بالعمل وفق التفكير المستقيم، لا يجئ بالتمنّى، وانما يجئ نتيجة العيش وفق منهاج لم يتوفر على تقديمه، في أوجه، فكر، ولا فلسفة، ولا دين، كما توفر الاسلام.


    الوحدة

    وحكم الوقت الذي يقضى على البشرية أن تتوحد في يومنا هذا لا يحتاج ادراكه الى كبير ذكاء، بل أنّ البشرية قد شعرت به، وأخذت تستجيب له بعمل لا ينقصه الحماس، وان نقصته دقّة الادراك، وها قد بلغت البشرية اليوم مرحلة الثنائية، وهى أدنى منازل التعدد من مقام الوحدة، ومن غير أدنى شك ان القافلة البشرية في سيرها الطويل من التعدد الى الوحدة لم تنزل منزلة الثنائية هذه الا في هذه الايام التي تلت الحرب العالمية الثانية. فانه قد خرجت البشرية بعد هذه الحرب منقسمة الى كتلتين اثنتين: الكتلة الشرقية، وهى الدول الشيوعية بزعامة روسيا، والكتلة الغربية، وهى الدول الرأسمالية بزعامة أمريكا وقد برز أخيرا ما سمى بالعالم الثالث، أو دول الحياد الايجابى، ولدى النظرة الأولى قد يشكك الحديث عن العالم الثالث هذا في صحة انقسام العالم الى كتلتين اثنتين، كما سبق أن قررنا، ولكن، اذا دققنا النظر، يظهر لنا جليّا أن ليس هناك عالم ثالث، وليس هناك دول محايدة، بله أن تكون محايدة حيادا ايجابيا.. وما تسمى بدول الحياد الايجابى في طليعتها يوغسلافيا، والهند، ومصر، ونظرة بسيطة تريك أن يوغسلافيا دولة شيوعية صرفة، وأن الهند دولة رأسمالية، وأن مصر أخذت تسير أخيرا في ركب الشيوعية، وأن نظاما واحدا لا يمكن أن يضم هذه الدول، ويصمد للامتحان، حتى في حالة السلام، وأما في حالة الحرب فان دولة في عالم اليوم لا تستطيع أن تقف على الحياد، ثم يحترم الفريقان المتحاربان حيادها، الا اذا كان دخولها الحرب لا يخدم غرضا لا يهمهما، وما هكذا مصر، ولا أى دولة من دول الشرق الأوسط، مثلا.. هذا فيما يخص الحياد، وأما الحياد الايجابى فكيف يكون محايدا حيادا ايجابيا من لا يملك فكرة ايجابية تعصمه عن السير في ركاب الشيوعية كما تفعل يوغسلافيا، أو في ركاب الرأسمالية كما تفعل الهند أو عن الخط ذات الشمال وذات اليمين كما تفعل مصر؟ اذن فالتقرير العلمى الصحيح هو أن العالم قد برز بعد الحرب العالمية الثانية مقسوما الى كتلتين.. ليس هذا فحسب بل أنّ الكتلتين ظلتا على مدى النيف والعشرين سنة الماضية، ولا تزالان، كفرسى رهان، تحاول كل منها بسط نفوذها على العالم بأكمله، ونحن لا نحتاج، في أمر الشيوعية، الى كثير تذكير بهذه المحاولة، ذلك أنّ الشيوعية بطبيعتها دعوة الى ثورة عالمية، ترمى بكل الأساليب التي لديها، لتبسط نفوذها على العالم، وان كانت أساليبها المفضّلة هى الثورة والحرب.
    وأمّا الرأسمالية فهى صاحبة السيطرة الاستعمارية التقليدية المعروفة على العالم، وقد أصبحت سيطرتها تنازع كل يوم، بفضل اللّه، ثمّ بفضل يقظة الشعوب المستعمَرة، والشعوب الأخرى الصغيرة التي لا مطمع لها في استعمار أحد، ولا تحب أن ترى غيرها يستعمر الآخرين، وما من شك أن الصراع بين الكتلتين قد لعب دورا رئيسيا في هزيمة الاستعمار الرأسمالى، وفى اضطراره ليتوارى خلف صور مختلفة تقوم على الحيلة، والخدعة، أكثر مما تقوم على القوّة التي طالما لجأ اليها في الماضى. والناس كثيرا ما يتحدثون عن الاستعمار القديم، والاستعمار الجديد، وهم يعنون بالاستعمار القديم الاستعمار الغربى المباشر، الذي عرف قبل منازعة الشعوب له، وذلك في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ويعنون بالاستعمار الجديد الاستعمار الغربى أيضا، ولكن في الصور التي اضطرته مقاومة الشعوب له أن يتخفى وراءها. وفى الحق أنّ الاستعمار القديم لم يكن جامدا على صورة واحدة وانما كان متطورا وملتمسا للأساليب التي تغنيه عن الاعتماد على القوة دائما، وكل ما يمكن أن يقال هنا هو أنّ تطوره قد كان بطيئا فيما مضى لأنّ المعارضة له من الداخل قد كانت قليلة، وعندما اشتدت المعارضة اضطر هو للاسراع في التماس الثياب التي يستر بها عريه عن أعين الأذكياء من الناس. وقد ظنه بعض الناس، لفرط ما يغير من ثيابه، ويفتن في التغيير، استعمارا جديدا، وما هو بذاك.
    وغرض الاستعمار الغربى الاستغلال الاقتصادى، وقد ظهر قبيل ظهور الآلة، ولكنه قوى وانتشر، وتنظم مع ظهور الثورة الصناعية. ذلك بأنّ الصناعة بالآلة كانت تحتاج المادة الخام وتحتاج المجال لتسويق الادوات المصنوعة، وقد بدأ الاستعمار كعمل تجاري في أسواق مفتوحة، ثمّ الجأته المنافسة الى احتكار الأسواق، فدخل النفوذ السياسي بالحكم المباشر في الميدان، وكان لا بد من أجل بسط النفوذ السياسي من العمل العسكري.
    وهكـذا ظهر الاستعمار وأصبح حملة عسكرية لهزيمة المنافس أو لهزيمة الحكومات الوطنية، ثم حكما سياسيا مباشرا، غرضه تنظيم البلاد المستعمرة لتكون أرضها مزرعة للمادة الخام، وبشريتها سوقا مستهلكة للبضائع المصنوعة. ومع أنّ الاستعمار بدأ بالحملة المسلّحة الا أنّه لم يشأ أن يعتمد على السلاح في طول بقائه، فجنح الى الحيلة، وذلك ببث أفكاره، وتعاليمه، وثقافته، واسلوب حياته، وعاداته بين المستَعمرين، فكأنّه لم يكتف باستعمار الظاهر فأراد أن يزحف الى الباطن، لم يكتف باستعمار الأجساد بتسخيرها بالخوف، فأراد أن يستعمر العقول بتسخيرها بالثقافة، التي تجعل الناس مشدودين اليه، يتخذون حكامه، ومفكريه، أساتذة، ومثلا يحتذى.. وهو لم يكن يعلّم المستعمَرين الا بالقدر الذي يجعلهم مقدّرين لاستاذيته، ومفتونين بأساليب معيشته، ومتعاونين معه لاطالة مدته، ومن لطف اللّه على الناس أن جعل الذين يخرجون الاستعمار من بلادهم هم الذين تعلموا ثقافته، وأفكاره، ولكنهم لم يقفوا في تعلمها عند الحد الذي كان يريد لهم ألا يتعدوه.. ومع ذلك فان فكرة الاستعمار في التركيز على استعمار العقول لم تخطئ تماما، فهم في كل بلد قد خلقوا فريقا ممن قـد استعمروا عقولهم مقيمين على الولاء لسادتهم، وأساتذتهم الذين قد مكّنوا لهم من الخيرات مما جعلهم أجانب عن بني جلدتهم. فالاستعمار القديم يتلوّن ويتفاوت في تلوّنه بين الفتح العسكري والاستعمار الثقافى وبين الحكم السياسي المباشر والحكم عن طريق الحكومات الوطنيات يقوم عليها الذين كان قد استعمر عقولهم، ومن هؤلاء من بلغ استعمار العقول بهم مبلغا جعلهم يحاربون الاستعمار بأقوالهم، ويمكنون له باعمالهم، وهم لا يعلمون. وغرض الاستعمار الغربى من كل هذا التلون انما هو الاستغلال الاقتصادى.. ومع ذلك فان هناك استعمارا جديدا لم يتفطّن له الناس، لأنّهـم لم يعرفوه، ولم يألفوه، وانما هم مشغولون عنه بالاستعمار الغربى، الذي عرفوه وأصابهم منه من الشر ما شغلهم عن كل ما عداه، وما جعلهم لا يصرفون كلمة الاستعمار، حين يسمعونها، الا اليه.. هذا الاستعمار الجديد هو الاستعمار الشيوعى الذي يسعى جاهدا اليوم لبسط نفوذه على العالم.. وهو استعمار يسعى من الوهلة الاولى الى استعمار العقول بأفكار هى غاية في السوء، وغاية في الخطورة، وليس غرضه المباشر الاستغلال الاقتصادى، وانما غرضه المباشر النهى، والأمر، والسيطرة، والاستغلال الاقتصادى يجئ من بعد ذلك بالتبعية.. ويخطئ كثيرا من يظن أنّ المادة هى أقصى ما تطلب النفس البشرية.. ذلك بأنّ التذاذ النفس البشرية بالسلطة يفوق التذاذها بالثروة.. بل أنّ السعى وراء الثراء انما يحفذه ما يكفله الثراء للثري من نفوذ سياسي ومن جاه أدبى ولقد أصاب في هذا الباب الشاعر الذي قال:
    يقولون سعـدُ شكّت الجـن قلبه * ولكنّ سـعـدا لم يبـايع أبا بكرِ
    لقد صبرت عن لذة العيش أنفسُ * وما صبرتْ عن لذة النهى والأمرِ
    ومما لبس أمر الشيوعية على الناس، وأذهلهم عن خطرها تلبسها بالدعوة الى الاشتراكية، والاشتراكية حبيبة الى كل النفوس الحرّة، وما ينبغى أن يعرف بوضوح هو أنّ الشيوعية، ونعني بها هنا الماركسية اللينينية، ليست هى الاشتراكية، وانما هى مدرسة من مدارس الاشتراكية، لها حسناتها وعليها سيّئاتها، والأمر المحقق هو أنّ كارل ماركس لم يكن أوّل اشتراكى، ولن يكون آخر اشتراكى.. والماركسية اللينينية خطأها أكبر من صوابها، وهى اذا ما حللت الى عواملها الأوّلية يتضح أنّها دين ودولة.. فهى تحاول أن تقيـم دولتها، اقتصاديا، على الاشتراكية، وسياسيا، على الدكتاتورية، وان كانت يطيب لها أن تسمى الدكتاتورية، مغالطة، ديمقراطية، ولكن هذا لا ينطلى الا على البسطاء، وهؤلاء لحسن التوفيق، يقلون كل يوم.. وأما دينها فهو انكارها الأديان.. فانها قد اتخذت من انكار الأديان دينا، ومن انكار الالوهية الهاً.. و ماركس ولينين و استالين و ماوتسى تونغ ليسوا آلهة دينها، وانما هم أنبياؤها، ولكنها اولتهم من التقديس ما ألحقهم بالآلهة.. وهذه الردة الى الوثنيات الاوليات هى التي جعلت استعمار الشيوعية لعقول من يتورطون فيها أسوأ، بما لا يقاس، من استعمار الافكار الغربية لعقول من يتعرضون لها.. وليس ههنا مجال حديثنا عن الشيوعية فأن لنا موعدا بذلك صدوركتابناعن ((الاسلام ديمقراطى اشتراكى)) الذي هو الآن تحت الاعداد، وما يهمنا هنا هو التنبيه الى خطر الاستعمار الشيوعى وهو ما يجب ان نصرف له عبارة ((الاستعمار الجديد)) التي نطلقها خطأ اليوم على تلون ((الاستعمار القديم)).


    الثنائيـة

    قلنا ان القافلة البشرية قد نزلت منذ نيف وعشرين سنة بمنزلة الثنائية، وهو أمر لم يتفق لها من قبل في سيرها الطويل، وقلنا أنّ منزلة الثنائية هى أدنى منازل السير من مقام الوحدة، ولن تلبث البشرية طويلا في هذه المنزلة لأنّ تحديات البيئة الجديدة تحفزها حفزا الى مواصلة السير الى مقام الوحدة حيث يتم التناسق، والتواؤم، بين البيئة الموحَدة مكاناً، والانسانية الموحَدة فكرا، فيحل بذلك في الأرض السلام، كان ذلك بفضل اللّه، على الانسانية ضربة لازب ولقد أسلفنا القول الى أنّ منزلة الثنائية التي نزلت بها القافلة البشرية منذ نيف وعشرين سنة تمثل أحد معسكريها الشيوعية بقيادة الاتحاد السوفيتى، وتمثل المعسكر الثاني الرأسمالية بقيادة أمريكا.. ويحلم كل من الاتحاد السوفيتى وأمريكا انه سيقود القافلة البشرية، الى مقام الوحدة، وهيهات!! ذلك بأنّ البشرية لن تحقق وحدتها الا عن طريق الفكر الحر، وليس للفكر الحر كبير كرامة في أى من المعسكرين، على تفاوت بينهما في ذلك.. ويحاول كل من المعسكرين الآن تحقيق حلمه في قيادة القافلة البشرية، ويحتدم الصراع بينهما في تلك المحاولة، والاسلوب المحبب للشيوعية في الصراع هو الثورة والعنف والاسلوب المحبب للرأسمالية هو الحرب.. الحرب في مقابلة الثورة وفى مقابلة العنف.. ولكن هناك اعتبارات جدّت في تجارب البشرية جعلت الحرب غير ذات موضوع، ذلك بأنه قد ظهر جليّا أنها لا تحل مشكلة، في عالم اليوم، وانما تعقد المشاكل. ودلّت تجربة بريطانيا أنّ من يكسب الحرب قد يخسر السلام فكأنه حارب لغير هدف.. هذا ولقد كانت الحرب العالمية الثانية بالأسلحة التقليدية، ولم تستعمل الأسلحة الحديثة الا في صورة القنبلة الذرّية التي أسقطت على هوريشيما فكانت بها نهاية الحرب على الفور، وذلك لما أحدثت من أضرار لا قبل للبشرية بمثلها، هذا مع أنّ هذه القنبلة، بالنسبة لما جدّ بعدها من أسلحة ذرّية وهايدروجينية كأنّها لعبة الاطفال.. مما وكّد في الأذهان أنّ الحرب اذا نشبت بالأسلحة الحديثة، فلن يكون فيها منهزم ومنتصر وانما سيتم بها تحطيم الحضارة الحاضرة تحطيما تاما، ومن يدرى، فقد يتم بها تحطيم الحياة البشرية على هذا الكوكب برمته؟؟ وأمر هام يضاف الى كل أولئك وهو أن هناك توازنا في القوى بين الكتلتين يجعل كل منها تخشى عواقب الحرب ضد الأخرى ويمكن القول، على التحقيق، بأن السلام الحاضر، غيـر الطبيعى، الذي تعيش في ظله البشرية اليوم انما يرجع الفضل فيه، بعد اللّه، الى توازن القوى بين الكتلتين..
    ولما كانت الشيوعية اليوم تعيش متنازعة بين خوفها من الحرب العالمية وبين ولائها لمذهبيتها في الثورة والعنف، فقد هدتها الحيلة الى أن تقسم برنامجها لغزو العالم واخضاعه الى مرحلتين.. فأما المرحلة الأولى فغرضها اخلال توازن القوى القائم بين الكتلتين اليوم، وترجيح كفتها هى على كفّة الرأسمالية الغربية، وسلاح هذه المرحلة المهارة الدبلوماسية باستعراض المذهبية بصورة جذّابة، وباستعراض التقدم العلمى، والفنى، والتكنولوجى، في ميدان اختراع الآلة، ووسائل الحرب، من الأسلحة الرهيبة الحديثة وسلاحها أيضا الدجل، والخداع، وتضليل الشعوب، واستغلال عواطفها نحو السلام، وخوفها من الحرب، وسلاحها الارجاف، وتشويه الحقائق، ورشوة الكتّاب، والعلماء، أو ارهابهم، وشراء الصحف، والسيطرة على المطابع وتبني التكتلات الاقليمية واطارة الشعارات البرّاقة، الجوفاء، المحبوكة، المسبوكة، التي تخدع السطحيين المتحذلقين، انصاف المثـقـفين، فيظنوا أنّهم حين يرددوا هذه العبارات في الكتابة وفى النقاش انما يدخلون في زمرة المثـقـفين المفكرين الأحرار، وهكذا يستعيضون عن التفكير السليم الحر الذي يعوزهم بالعبارات الجوفاء التي يأخذونها تلقينا ممن يظنونهم سادتهم، وأساتذتهم، ويظلون يرددونها في الصحف، وعلى حيطان المنازل، وفى الأحاديث، وفى شتّى المجالات حتى تشيع بين طبقات الشعب، وتعمل عملها في التضليل المنظّم. وأمّا المرحلة الثانية فغرضها انهاء المؤامرة الكبرى المدبرة لاغتيال حرية البشرية، وهى تبدأ حين يصبح، بفضل نجاح المرحلة الاولى، واضحا جليّا أنّ كفة الشيوعية قد رجحت بكفّة الرأسمالية بصورة تجعل المغامرة المسلّحة ضد الدول الغربية تنتهى بهزيمة الغرب، من غير أن تخرج منها الشيوعية الدولية محطمة تحطيماً يعجـزها عـن الإنتشاء بنتائج النصـر.
    فالمرحلة الاولى، وتسمى بالحرب الباردة، مقدمة للمرحلة الثانية وهى الحرب الساخنة، وما يقال عن أساليب الشيوعية في الحرب الباردة يقال قريب منه عن أساليب الرأسمالية فيها، وكل مشاكل العالم اليوم، في كل دولة من دوله، سواء كانت في داخليتها أو مع جيرانها، وسواء كانت هذه المشاكل دبلوماسية، أو سياسية، أو اقتصادية، أو حربية، فان مردها الى هذه الحرب الباردة، فانقسام ألمانيا، وانقسام برلين، وانقسام وحرب كوريا، وانقسام وحرب فيتنام، ومشاكل كوبا، ومشاكل الكنغو، والأخطار التي تهدد نيجريا، كلها وغيرها يمكنك أن تضعها عند عتبة دار هذه الحرب الباردة، وحين تدخل مصلحة دولة صغيرة في حلبة هذه الحرب الباردة، تهدر هذه المصلحة، ولا تعار أدنى اهتمام، وتصبح هذه الدولة الصغيرة كالنملة تحت أقدام الفيَلة المتصارعة، لا تبالى الفيَلة بمصيرها. وهذا يوجب على كل زعيم، يستحق لقبه، من زعماء الدول الصغيرة أن يسير مفتوح الذهن ليكسب لأمته مكانا تحت الشمس من غير أن يجرّها الى حلبة هذه الحرب المجنونة.. فاذا كان هذا الزعيم زعيما عربيا مسلما فقد وجب عليه، زيادة عمّا تقدّم، ان يرتفع بامته الى مستوى النزاع المذهبى ليشارك فيه بوصفه صاحب رسالة هى أوْلى بغد الانسانية على هذا الكوكب من الشيوعية، ومن الرأسمالية الغربية بآماد بعيدة. والمشاركة في النزاع المذهبى تلقى على الزعيم المسلم واجبين: أولهما الا ينضوى الى كتلة من الكتلتين المتنازعتين حتى لا يضيع وقته في صراع لا مستقبل له، وثانيهما ان يحافظ، بكل ما اُوتى من ذكاء، ونفوذ، على توازن القوى الحاضر، ولا يعمل أى عمل من شأنه أن يخل به، حتى ولو كان هذا العمل سيعود على بلده بكسب اقليمى.. فاذا توفر على هذين الواجبين، فأوفى بهما، فقد تفرغ لواجبه الأساسى.. وهو بعث الكتلة الثالثة بين الكتلتين، وهى كتلة تجمع في جهاز واحد بين الاشتراكية والديمقراطية، وذلك أمر لا تطيقه الشيوعية من جانبها، ولا الرأسمالية من جانبها الآخر، ثم هو أمر لا يتحقق السلام على هذا الكوكب الا به، لأن قانون العدل الموزون لا ينبني الا على المساواة الاقتصادية، والمساواة السياسية، فالمساواة الاجتماعية في آن معاً.. وأنت لا تظفر بابتغاء هذا العدل الموزون في غير الاسلام، وأما في الاسلام فان أدنى مراتبه العدل، وأوسطها التسامح، وأعلاها المحبة: ((ان اللّه يأمر بالعدل والاحسان وايتاء ذى القربى)) والقربى هنا تعني الرحم الموصول بآدم وحواء. ونحن لن نبحث، في سِفرنا هذا، مقدرة الاسلام على الجمع، في تشريعه، بين الاشتراكية والديمقراطية، في حين تعجز عن هذا الجمع الرأسمالية الغربية، والشيوعية الماركسية اللينينية، عجزا تاماً، وسنترك هذه الدراسة المستفيضة للسفر الذي هو الآن تحت الاعداد باسم ((الاسلام ديمقراطى اشتراكى)).
    وثنائية الكتلة الشرقية والكتلة الغربية لم تظهر بعد نهاية الحرب مباشرة، وبكل قسماتها، وذلك أمر بديهى، لأن الاتحاد السوفيتى، أثناء الحرب ضـد المحور، قـد كان حليفا للدول الغربية، ومع أنّ طبيعة الانقسام موجودة الا أنّ ظهورها العملى اقتضى بعض الوقت، وبعض العوامل. فمن ذلك مثلا أنّ الحلفاء كانوا قد أقدموا على احتلال ايران بصورة مؤقتة لضمان وصول الامدادات الى الروس، وعندما انتهت الحرب تباطأت القوات الروسية في الجلاء عن المناطق الايرانية التي تحتلها، فلم يرق هذا التباطؤ الدول الغربية حيث أنّ ايران ((تشغل مركزا هاما في الاقتصاديات والاستراتيجية البريطانية)) وذلك لقربها من العراق، والقسم الخاضع لبريطانيا من ساحل الخليج، حيث منشآت الشركة البريطانية، ومنابع البترول. فمارس الغرب بعض الضغط على الروس لينسحبوا من ايران، ولكنهم لم يفعلوا الا بعد أن اضطرت ايران الى عقد اتفاق تجاري معهم بشأن استنباط البترول في المناطق الشمالية.
    ثم تداعت سلسلة من حوادث المواجهة بين الاتحاد السوفيتى والدول الغربية يحفزها احتمال نشوب حرب جديدة بين الشيوعية والرأسمالية، وقد أوضح الأمريكيون هذه المواجهة بقولهم ((لقد وقفت قوة كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى وجها لوجه في الشرق الأوسط ولهذا الالتقاء مغزاه بالنسبة لصراع المصالح بين الدولتين والذي يمتد، بدرجات متفاوتة، خلال العالم، ونتيجة لهـذا لا يمكن فصل الأمن في الشرق الأوسط عـن مشكلة الأمن العالمية التي تواجه الولايات المتحدة، ولكنه عنصر هام في تلك المشكلة))
    وعدم بروز الانقسام بين الكتلتين في وقت مبكر يفسر لنا، مع عوامل أخرى، وقوف الاتحاد السوفيتى مع الولايات المتحدة صفا واحدا في جميع المراحل التي عارضها العرب في قضية فلسطين في الامم المتحدة، والتي بدأت منذ أبريل من عام 1947، ومن ذلك مشروع التقسيم، وفى هذا يحدثنا الاستاذ خيري حمّاد، مؤلف ((قضايانا في الامم المتحدة)) فيقول في صفحة 156 ((وتعاقب المتكلمون في الجلسات التي استمرت عدة أيام. وكان من أوّلهم الممثل الأمريكى الذي تباكى على حالة اليهود وما يعانونه من اضطهاد، ومنّ على العرب بما لهم من دول مستقلة أصبحت أعضاء في الامم المتحدة، وقال ان حكومته تؤيد مشروع الأكثرية، وان كانت تطالب ببعض التعديلات عليه لصالح العرب ليكون أكثر واقعية. وتحدث المندوب السوفياتى، ولأول مرّة يتفق والمندوب الأمريكى على اتجاه واحد، فعرض ما عاناه اليهود من آلام على أيدى النازية، وأشار الى استحالة الاتفاق والتفاهم بين العرب واليهود، وانتهى الى القول بأنّ حكومته تؤيد مشروع الأكثرية.
    ((وتعاقب الوفود على الكلام. وبان ضعف العرب في المنطقة الدولية لا بالنسبة الى حقهم، فقد كان هذا الحق صارخا في وضوحه، وانما بالنسبة الى نفوذهم، أمام النفوذ الأمريكى والسوفياتى مجتمعين، لا سيما وأنّ أمريكا قد أعلنت جهارا أنها ستكافح وتناضل لاقرار التقسيم واقامة الدولة اليهودية، مما دفع ظفر اللّه خان مندوب الباكستان الى الوقوف ليحذر أمريكا من هذا الموقف الذي سيقضى على كل ما لها من صداقات بين العرب والمسلمين. وتحدث المندوبون العرب فناشدوا الضمير العالمى العدل والحق وأن يرعوى عن ارتكاب أبشع جريمة في حق الأوطان والحقوق الانسانية، وأن لا يسير في ركاب الصهيونية التي تريد تسخيره لخدمة أغراضها، ولكنهم لم يشددوا في هجومهم على الاستعمار نفسه الذي كان أساس القضية وخالقها، بل حصروا نطاق هجومهم في الصهيونية)).
    كان ذلك في سبتمبر من عام 1947 وهو، كما هو واضح، تاريخ مبكر بالنسبة لفترة ما بعد الحرب التي أنتهت في أواخر عام 1945، ولذلك لم تظهر القسمة بين الكتلتين بصورة واضحة، كما أصبحت فيما بعـد، وقـد يظن انسان أنّ قضية العرب في فلسطين، في الأمم المتحدة، أصبحت أقوى حيـن وقفت الى جانبها روسيا، بعـد أن كانت تقف فيها الى جانب اسرائيل، في فجر تاريخها، ومثل هذا القول من أصدق الدلائل على سطحية التفكير عند من لا يستطيعون الوصول الى جذور المشاكل العالمية.. فان مفتاح معالم السياسة الدولية، في وقتنا الحاضر، كله في هذا الصراع بين الكتلتين، وكل سياسي تغيب عنه هذه الحقيقة لا تجئ أفكاره السياسية الا فجّة، ضحلة، متهالكة..
    الفصل الثاني


    قضية فلسطين

    أما قضية فلسطين فاننا سنعالجها في فصل لاحق، ولكننا نحب أن نقول هنا انها، في اطارها العام، كانت موضع التقاء سياسة الدول الكبرى، كما ظهر ذلك في الفصل الأول، وقد كانت المواجهة الاولى بين العرب واليهود، وذلك في 15 مايو 1948، على هذا الاساس، ثم استمرت المواجهة الى أن فرضت الهدنة بين الفريقين، وذلك في منتصف عام 1949، والأمر على ما هو عليه.. ثم حدث شئ هام، في تاريخ الدول العربية المعاصرة، أخرج قضية فلسطين، من هذا الاطار، الى وضع جديد، ذلك الشئ الهام هو تأميم قناة السويس عام 1956.


    تأميم قناة السويس

    أول ما تجب الاشارة اليه أننا لسنا ضد التأميم، اذا اتخذ وسائله الصحائح، ولكننا ضده اذا جاء عن طريق خاطئ، ولقد سبق لنا أن قررنا انه، في يومنا هذا الذي نعيش فيه، يجب على كل زعيم ماهر، من زعماء الدول الصغيرة، أن يكسب لاُمته مكانا ً تحت الشمس، وهو مفتوح العينين الى دقائق الحرب الباردة، حتى لا يزج بأمته في حلبتها وهو لا يشعر.. وهذه المهارة المطلوبة لم يوفق اليها السيد جمال عبد الناصر حين أقدم على تأميم قناة السويس بصورة فيها من التحدي للغرب ما لا يقوى عليه من الدول الصغيرة الا دولة تأوى الى ركن شديد.. وقد كان السيد جمـال عبد الناصر ياوى الى روسيا، ينتظـر منها الحماية، والمساندة.. وقد كان الغرب يدرك ذلك.. ويدرك أمراً آخر، لعله لم يخطر للسيد جمال على بال.. وهـو أن نفوذ الاتحاد السوفيتى سيحل محل نفوذه هـو، في المنطقة العربية، التي أخذ جمال عبد الناصر يجليه عنها، في عداوة وقطيعة.. ان أسوأ ما يمكن أن يقال عن القوانين الوضعية هو أنّها انما سنّها القوى ليحفظ بها حقه، وفرض، بالقوّة، رعايتها على الضعيف.. ومع هذا، ورغم هذا، فان كل القوانين أفضل من قانون الغابة. فليس للضعيف مصلحة في قانون الغابة على الاطلاق وقد يكون له في كثير من القوانين الناقصة، المعيبة، مصالح جليلة، ولذلك فانّ تحدي القوانين الجائرة، باللجوء الى القوة، من جانب الضعيف، الذي لا ينهض بقضيته، فيه، من قصر النظر، ما يوجب أشدّ التعنيف ذلك بأنه يعطي القوى الفرصة لينقل التقاضى من ساحة المحكمة الى ساحة الحرب، وهو عمل فيه نكسة من مقام الانسانية الى مقام الحيوانية، وانما يقع وزره، وغرمه، في آنٍ معا، على الضعيف أكثر مما يقع على القوى.
    ولنفرض أنّ قانون شركة قناة السويس كان من هذا النوع المعيب من القوانين فان التزام مصر بالوفاء به، وهى في تلك الحالة من الضعف أمام الدول الغربية، كان لمصلحة مصر بصورة لا يحتاج ادراكها الى كبير ذكاء. لا سيما وأن مدة امتياز الشركة قد اوشكت على النهاية.. فانه مما هو معلوم ان شركة قد تأسست باسم ((الشركة العالمية لقناة السويس البحرية)) بموجب فرمان الامتياز المؤرخ 30 نوفمبر 1854، ثم تايّد هذا الفرمان بعقد الامتياز المؤرّخ في 5 يناير 1856 وكلاهما من والى مصر، يومئذٍ، محمد سعيد باشا، وقد نصّ في الفرمان الأول، ((مادة 3)) على ما يلى:-
    ((مدة الامتياز تسع وتسعون سنة تبتدئ من التاريخ الذي تفتتح فيه قناة البحرين)).
    وفى ((المادة 10)) ورد الآتى:-
    ((عند انتهاء الامتياز تحل الحكومة المصرية محل الشركة.. وتنتفع بكافة حقوقها دون تحفّظ، وتستولى على قناة البحرين وجميع المنشآت التابعة لها، ويحدد مقدار التعويض الذي يمنح الى الشركة مقابل تنازلها عن المهمات والأشياء المنقولة باتفاق ودّى، أو بطريق التحكيم)).
    وقد تم الافتتاح على يد اسماعيل باشا في اكتوبر من عام 1869، فتكون، على ذلك، نهاية مدة الامتياز اكتوبر عام 1968، تعود بعدها ملكيتها لمصر، بصورة قانونية، وتلقائية، ولا يبقى على مصر، بعد ذلك، الا مراعاة حرية الملاحة، وذلك وفق النظام الذي قررته معاهدة قناة السويس في عام 1888 ((معاهدة القسطنطينية)) وذلك أمر لم تجد فيه مصر مشقّة، وهى، على كل حال، قد التزمت به للامم المتحدة في تصريح لها في شهر مايو عام 1957، وذلك حين وعدت ((أن تسمح بحرية الملاحة، وأن تكفلها لجميع الدول دائما ودون توقف، في حدود المبادئ التي نصّت عليها معاهدة القسطنطينية، ووفق شروطها)).
    لقد كان، اذن، من الميسور على السيد جمال عبد الناصر، من غير ابداء الشعور بالمرارة، ومن غير تحد، ولا خصومة، ان يدعو شركة قناة السويس الى الدخول في مفاوضة بغرض تاميم قناة السويس، على أساس تعويض الشركة، عن المدة المتبقية لها من الامتياز. أو ان تعذّر الاتفاق على ذلك، وهو أغلب الظن سيتعذّر، لقد كان الانتظار الى نهاية مدة الامتياز، تهاية عام 1968، أفضل، وأعود بالخير على مصر، وعلى الدول العربية، من تأميم يدخلها جميعها في حلبة الحرب الباردة.


    العدوان الثلاثي الأول

    ذلك بان كل ما لقى العرب، وما يلقون، الى اليوم، انما مردّه الى أنهم قد أصبحوا، من جرّاء قصر النظر في تأميم قناة السويس، غرضا من أغراض الحرب الباردة بين الكتلة الشرقية والكتلة الغربية. ولقد خرجت قضية فلسطين من أطارها القديم الذي كانت عليه أعوام 1947، 1948، 1949 حيث كانت روسيا تقف مع أمريكا في صف واحد ضد العرب، الى وضع جديد، أصبحت فيه تحتل زاوية صغيرة من مسرح الحوادث. بل لقد أصبحت دولة اسرائيل والدول العربية مخالب قطط لخدمة أغراض الكبار، فاسرائيل تستغلها الدول الغربية لخدمة أغراضها في المنطقة، والدول العربية يستغلها الاتحاد السوفيتى في خدمة أغراضه في المنطقة. مع اختلاف بينهما في ذلك، حيث أنّ مصالح دولة اسرائيل مخدومة اثناء استغلال الغرب اياها في خدمة أغراضه في منطقة الشرق الاوسط، بينما مصالح العرب مهدرة، بل أنّ ضررا قد جلب، أثناء استغلال الشرق اياهم في خدمة أغراضه في منطقة الشرق الاوسط.
    والسبب في هذا الاختلاف ذكاء الاسرائيليين وغفلة العرب. فان الاسرائليين قد أدركوا أن ليس هناك صداقة بين الدول، وانما هناك مصالح مشتركة، اذا التقت عبر عنها بالصداقة، وأدرك معناها الاذكياء، ولذلك، فعندما التقت مصالح الغرب بمصالح اسرائيل في المنطقة، أصبح النفع متبادلا، وأصبحت اسرائيل تستغل الدول الغربية، كما تستغلها الدول الغربية،.. ولكن العرب لفرط غفلتهم، وسذاجتهم السياسية، ظنوا أن ليس للاتحاد السوفيتى أغراض في منطقة الشرق الاوسط، وانما هى الصداقة، والنخوة، والمروءة.. ولذلك فقد استغلوا أشنع استغلال، وهم في غفلتهم وسذاجتهم، يتغنون بصداقة الاتحاد السوفيتى البريئة من كل غرض، والصحيحة من كل مرض. ولو قد كان للعرب حظ من البصر بخفايا الأمور لاختلف حالهم، من جميع الوجوه، عمّا هو عليه اليوم.
    ومهما يكن من الأمر فأن تأميم قناة السويس بالصورة التي جرى بها قد وجه لطمة مهينة الى كبرياء الغرب، والى هيبته، والى مصالحه ولما كان قد بدا له ان كل اولئك تخف به كفته هو، وتثقل به كفة خصمه في صراع توازن القوى، في حلبة الحرب الباردة، فانه قد فقد صوابه، وأقدم على حبك مؤامرة العدوان الثلاثي الاول.
    ((يعاقبوننا (الامريكان والانجليز) بقطع ال 70 مليون دولار على خمس سنوات، يعاقبوننا بتعطيل رفع مستوانا، ويقولون في جرائدهم ان الشعب المصري يعرف أنّ جمال عبد الناصر ضده ولا يعرفون أنني أرفض لأنّ الشعب المصري لا يوافق على طلباتهم)). هكذا افتتح السيد جمال عبد الناصر خطابه الذي ألقاه في مؤتمر الاسكندرية الشعبى في مساء يوم 26 يوليو من عام 1956، ثم استطرد في ذلك الى ان قال ((هذه القناة ملك لمصر فهى شركة مساهمة مصرية، حفرت بواسطة المصريين، 120 ألف مصري ماتوا أثاء حفرها. هذه الشركة التي مقرها باريس مغتصبة مثل دلسبس ومثل بلاك عندما جاء. سنبني السد العالى وسنحصل على حقوقنا، سنبنيه كما نريد، وسنصمم على هذا، 35 مليون جنيه كل عام تأخذها شركة القناة، فلنأخذها نحن)) وبلاك هذا الذي ورد ذكره في الفقرة الماضية قد كان مدير البنك الدولى وقد تحدث عنه السيد جمال عبد الناصر في خطابه الآنف الذكر على النحو الآتى:-
    ((ولمّا قررنا تأجيل مشروع السد العالى تكلموا هم وطلبوا التنفيذ لما وصل بلاك مدير البنك وقال اننا بنك دولى وليس بنكا سياسيا وليس لى دعوة بأمريكا ولا أقول الا الرأى الذي أؤمن به، فقلت له ان مجلس الادارة يتكون من الدول فهو على هذا الاساس بنك سياسي. وكنت أنظر الى مستر بلاك وأتصور ان الذي يجلس أمامى فرديناند دلسبس. عادت بى الذاكرة الى الكلام الذي كنا نقرأه عام 1854 عندما وصل الى مصر وذهب الى الخديوى وقال له نريد حفر قناة السويس الذي سيفيدك، وهو مشروع ضخم سيعيد لمصر الكثير. وكان كل بلاك ما يقعد يتكلم أحس بالعقد في كلامه ويعود بى التفكير الى دلسبس. وقلت له أننا لا نريد ان نعيد كرومر آخر الى مصر فأرجوك في كلامك معى ان تضع هذا الاعتبار في نفسك، لدينا عقدة من كرومر ومن دلسبس)) وبعد خطاب السيد جمال عبد الناصر هذا أخذ كبار الكتّاب والمتخصصين يجلون للناس الجوانب المختلفة لقضية التأميم وقد قال الدكتور مصطفى الحنفاوى في ذلك كلمة تحت عنوان ((سلام العالم في تأميم الشركة المنحلّة)) نقتطف منها مقدمتها، قال ((يحدثنا التاريخ دائما عن أخلد أيامه وأعظم رجاله، ويقص علينا سير الشعوب الجديرة بالحياة والمجد. وتظل جلائل الأعمال ناطقة بفضل أصحابها حتى تشهد لهم يوم الحساب.
    ((وفى تاريخ العالم الحديث نقطة تحوّل كبرى مكتوبة في جبين الدهر بأحرف من ذهب وكلمات من نور، في هذا السجل الخالد كلمات مدوّية:
    ((مصر الثورة – مصر الجمهورية – جمال عبد الناصر – 26 يوليو 1956. ولقد طوى الرئيس بقراره التاريخى صفحات سوداء سلخت من حياة العالم سبعة قرون وسبعة أعوام.
    ((فى سنة 1249 ميلادية، كتب الغرب اول وثيقة سياسية في تاريخ قناة السويس، اثر هزيمته في الحرب الصليبية، وهى وثيقة تنطق بأن المشروع حينما نبت في العقلية الغربية، لم يستهدف عمارة الأرض أو سعادة بني الانسان، فصاحب تلك الوثيقة يقول في تعصب جنوني ان السبيل الوحيد للقضاء على دولة المسلمين، وطاب له ان يسميهم الكفار، وهو قيام دولة اوربية باحتلال مصر: على ان تتكتل اوروبا كلها وراء المحتل الذي يشق قناة ببرزخ السويس تصير ملكا مشتركا للعالم المسيحى ويبدد به شمل المسلمين)) هذا بعض ما قاله الدكتور مصطفى الحنفاوى، وقال غيره كثير من كبار الكتاب، ورجال الاختصاص مما نشرته وزارة الارشاد القومى في كتيب خاص باسم ((أضواء على قناة السويس)). ففى مثل هذا الجو النفسى والفكري (ان صح أنّ فيه فكرا) تمت مباشرة تأميم قناة السويس.. وذلك جو اتسم بالمرض، لا بالصحة النفسية.. ((العقد النفسية)) تعطى تعبيرا صحيحا عن ذلك الجو، وقد عبّر عنها السيد جمال عبد الناصر في خطابه الذي سلفت الاشارة اليه، وذلك حين قال ((وكان كل بلاك ما يقعد يتكلم أحس بالعقد في كلامه، ويعود بى التفكير الى دلسبس وقلت له أننا لا نريد ان نعيد كرومر آخر الى مصر، فأرجوك في كلامك معى ان تضع هذا الاعتبار في نفسك، لدينا عقدة من كرومر ومن دلسبس)) والرجال الكبار لا يفكرون بالعقد النفسية، وانما يحاولون التخلص من العقد النفسية ليصفو لهم الفكر، لئلا تضار مصالح أقوامهم، وأى خير يمكن ان ينتظر من تصرف زعيم معقد نفسيا؟
    ومهما يكن من الامر فان هذه المواجهة المريضة قد بعثت تصرفا مريضا، اذ ازداد التوتر بين بريطانيا وفرنسا من جهة، ومصر من جهة أخرى، فبيتتا أمرا، وأعلنتا غيره، حين رفعتا المشكلة الى مجلس الأمن، باعتبارهما من حملة الاسهم الرئيسيين، وكان ذلك في شهر سبتمبر، وقد طلبتا اليه ان يبحث ((الموقف الذي خلقته الحكومة المصرية، نتيجة تصرفها من جانبها هى وحدها، تصرفاً أدى الى أنهاء نظام العمل الدولى لقناة السويس، وهو النظام الذي أكدته معاهدة قناة السويس في عام 1888 (معاهدة القسطنطينية).)) وانما وضعتا القضية بهذه الصورة لتبررا العدوان المبيت باعتباره دفاعا عن حق دولى استباحته الحكومة المصرية، ولتجدا ذريعة لدولة اسرائيل للتدخل، لأنّ مصر، بما تعتبر نفسها في حالة حرب معها، وهو اعتبار لا يجد عندهم ما يبرره، ستمنعها حق المرور بالقناة، ومن غير أدنى ريب، فان الدولتين قد اوعزتا، من هذا المنطلق، الى دولة اسرائيل ان تبدأ العمل المسلح ضد مصر. وكذلك عبرت القوات الاسرائيلية الحدود المصرية في طريقها الى شبه جزيرة سيناء، وسارت في اتجاه قناة السويس وذلك في يوم 29 اكتوبر من عام 1956، وفى اليوم التالى أخطرت بريطانيا وفرنسا مجلس الأمن بأنهما قد ناشدتا مصر واسرائيل ايقاف العدوان في سيناء، كما طلبتا من مصر السماح للقوات البريطانية والفرنسية باحتلال المواقع الرئيسية في منطقة السويس، وقد صرحتا أن هدفهما من ذلك هو، ((فصل الجيوش المتحاربة بعضها من بعض، وضمان حرية العبور في قناة السويس)) كما أنذرتا بأنه في حالة عدم الاستجابة لمطلبهما فانهما على استعداد للتدخل.
    ولما كانت الدولتان الاوربيتان لم تقدما على هذه الاجراءات في مجلس الأمن الا من قبيل ذرّ الرماد في العيون، لتغطية العدوان المبيت فقط، فانهما قد عارضتا كل اتجاه الى حلول تنبع من داخل المجلس، حتى أنهما قد عارضتا، وأسقطتا، قرارا تقدمت به أمريكا الى مجلس الأمن يطالب بجلاء القوات الاسرائيلية عن الأراضى المصرية فورا، ومعارضتهما انما تعني استعمال حق((الفيـتو)). وكان من ضمن قرار أمريكا، هذا الذي اُسقط، الا تتدخل أية دولة أخرى، أو تسهم، في تلك العمليات الحربية التي شرعت فيها دولة اسرائيل ضد مصر، لئلا تزداد وتنتشر، وبالطبع فان في مثل هذا القرار، لو اُتخذ من جانب مجلس الأمن، قضاء على مؤامرة العدوان المبيتة، ومن أجل ذلك استعمل حق ((الفيتـو)) في اسقاطه. ولقد اقترحت في مجلس الامن، في تلك الايام، اجراءات أخرى كانت تجد المعارضة من الدولتين، مما اضطر معه مجلس الامن، ان يطلب عقد دورة استثنائية للجمعية العامة لبحث هذه المشكلة. ولقد عارضت بريطانيا وفرنسا دعوة الجمعية العامة وشرعتا من توهما في عملياتهما الحربية ضد مصر ابتغاء احتلال قناة السويس.
    وفى ليلة 1/2 نوفمبر وافقت الجمعية العامة، بأغلبية كبيرة، على قرار تقدمت به الولايات المتحدة يقضى بايقاف اطلاق النار، ويوصى بامتناع جميع الدول الاعضاء في الامم المتحدة عن تقديم أية معدات حربية في تلك المنطقة، ومع ذلك استمر القتال، واستمرت قوات اسرائيل تتقدم، كما اخذت القوات البريطانية والفرنسية تواصل دك منشآت القناة وسفنها بقاذفات القنابل الثقيلة.
    هنا تدخل الاتحاد السوفيتى فوجه انذارا بانه سيعمل منفردا لايقاف هذا العدوان البشع، وذلك باطلاق الصواريخ الموجهة من الأرض على قواعد الدول المعتدية، ان لم تنصع هذه الدول لقرار ايقاف اطلاق النار، وتسحب قواتها من الأرض المصرية على الفور.. ولم يكن الانذار الروسى، يومئذٍٍ، قد تعرض الى ما تعرض اليه فيما بعد في مواجهة كوبا المشهورة.. كان يومئذٍ يحمل وزنا كبيرا، ولذلك فقد اصاب دوائر الغرب الذعر عند سماعه، فنشطت الولايات المتحدة، ونشط الرأى العام الغربى، يزيد كل منهما من ضغطه على بريطانيا وفرنسا حتى استجابتا لرغبة الامم المتحدة فأوقفتا اطلاق النار، وشرعتا في سحب قواتهما من أرض مصر وذلك في شهر ديسمبر من عام 1956، وقد حذت حذوهما دولة اسرائيل، بيد أنها تلكأت في سحب قواتها، ففى حين تم سحب القوات البريطانية، والفرنسية، من الأراضى المصرية، قبل نهاية شهر ديسمبر، فان القوات الاسرائيلية لم تنسحب تماما الا بعد ذلك بمدة طويلة. والا بعد أن اتخذت الجمعية العامة عدة قرارات تطالب بسرعة الانسحاب.
    وفى أثناء جلاء القوات المعتدية كانت القوة الدولية، التي تشكلت بناء على القرار الذي اتخذته بتشكيلها الجمعية العامة، تتخذ موقعها في منطقة القناة. وقبل حلول شهر مارس من عام 1957، كانت القوة الدولية قد احتلت مواقعها في قطاع غزّة، في الجانب المصري على الحدود المصرية الاسرائيلية، وعلى طول خليج العقبة. وقد رفضت اسرائيل ان تسمح لقوات الأمم المتحدة باحتلال بعض المواقع على خط الحدود داخل أراضيها.
    وقد خولت قوة الطوارئ الدولية التابعة للامم المتحدة، وهذا هو الاسم الذي اصبحت تعرف به هذه القوة الدولية المشكلة من قوات عسكرية من عشر دول، السلطة الكاملة في حفظ الامن والنظام في تلك المنطقة.
    ولقد تدخلت أمريكا لايقاف عدوان حليفتيها لاسباب عدة، منها ان العدوان لم يكن له من الاسباب ما يكفى لتبريره في نظر الرأى العام البريطاني، والفرنسى، والامريكى. بله الرأى العام العالمى. ومنها ان أمريكا لم تكن تعرف يومئذٍ حقيقة القوة السوفيتية، وهى لم تكن بعد قد تكشّفت عما تكشّفت عنه فيما بعد من الوهن، وذلك في المواجهة الكوبية المشهورة، فظنت أمريكا ان روسيا قد تعني التهديد، وانها قد تنفذه، وان تنفيذه قد يجر الى حرب عالمية شاملة لا تؤمن عواقبها.. ومنها ان امريكا كانت تسعى لتوكيد زعامتها على الكتلة الغربية، والى ترسيخ قواعد تلك الزعامة، وذلك بجلاء بريطانيا، وفرنسا من مواقعهما منها.. لاسيما وانهما قد امكنتا من نفسيهما باقدامهما على تلك المؤامرة الضعيفة الحبكة.


    العدوان الثلاثي الثاني

    والعدوان الثلاثي الثاني الذي جرى في الخامس من يونيو عام 1967 يرجع سببه أيضا الى قصر النظر في تأميم قناة السويس فهو لا يختلف، لا في دوافعه، ولا في أهدافه عن العدوان الثلاثي الاول، الذي دبّر في في التاسع والعشرين من اكتوبر عام 1956، وان اختلف عنه في جودة حبكته، وفى مهارة اخراجه.. وقد تولت امريكا بنفسها حبكته واخراجه، بعد ان ظهر لها، بتجربة كوبا المشهورة، ان الاتحاد السوفيتى يخشى الحرب أشد الخشية، وان تهديداته الكثيرة ليس لها، لدى التحليل الاخير، أية قيمة عملية يحسب لها حساب. وقد أعان أمريكا على النجاح في اتقان وضع خطة هذا العدوان وتنفيذها العرب أنفسهم وذلك بغفلة زعمائهم وبقلة حنكة هؤلاء الزعماء السياسية والدبلوماسية، والعسكرية.

    قلّة حنكة الزعماء العرب السياسية

    وقلة حنكة الزعماء العرب لا يعييك التماسها أنّى اتجهت.. في أقوالهم وفى أفعالهم، وخطاب السيد جمال عبد الناصر الاخير الذي ألقاه بعد الهزيمة، بمناسبة العيد الخامس عشر لثورة الجيش المصري وحده يطفح بالأخطاء التي تدل على قلّة حنكة السيد جمال وهو يعتبر زعيم الزعماء العرب.. قال السيد جمال في معرض الرد على تساؤل من تساءل لماذا انصاع لنصيحة الرئيس الامريكى فلم يبادر باطلاق النار؟ قال ((المسألة الثالثة اننا بتحركنا وأخذْنا المبادرة لدفع الخطر عن سوريا كنا ندرك أننا، خصوصا من وجهة النظر الدولية، لن نبدأ بالضربة الاولى في معركتنا المسلحة. ولو كنا فعلنا ذلك لكنا قد عرَضنا أنفسنا لعواقب وخيمة تزيد عما كان في مقدورنا احتماله. ولقد كان اول ما سوف نواجهه هو عمل عسكري أمريكى مباشر ضدنا يجد الحجة والعذر من أننا أطلقنا الرصاصة الاولى في المعركة. وأريد في هذا الصدد أن ألفت نظركم الى نقطة هامة. أول نقطة التحذيرات الامريكية ويمكن قرأتم عن هذه التحذيرات الامريكية في الصحف ولكن مستشار الرئيس الامريكى جونسون طلب سفيرنا في وقت متأخر من الليل في واشنطن وقاله انه فيه معلومات عند اسرائيل انكم حاتهجموا. وقال ان ده يعرضنا لوضع خطير وناشدنا ضبط النفس)) وفى موضع آخر من هذا الخطاب نفسه يقول السيد جمال ((فى هذا الاجتماع محدش أبدا اتكلم على الهجوم على اسرائيل مكنش في ابدا اى فكرة ان احنا حنقوم بعمل هجومى على اسرائيل. وزى ما وضحت من الاول اللى كان باين من كل تحليلاتنا أن أى عمل هجومى على اسرائيل حيعرضنا لمخاطر كبيرة اول هذه المخاطر هجوم أمريكى علينا نظرا للتصريحات اللى أعلنتها أمريكا وقالت فيها انها تضمن حدود الدول في هذه المنطقة وكان باين لينا ان امريكا لما تقول انها تضمن حدود الدول في هذه المنطقة ولا تسمح بأى تغييرات في هذه المنطقة مكنش أمريكا تقصد بهذا أبدأً الدول العربية ولكن امريكا كانت تقصد بهذا اسرائيل كانت تقصد انه اذا حصل عدوان على اسرائيل ان أمريكا حتنفذ التصريح اللى قاله الرئيس كنيدى قبل كده ان أمريكا تضمن للجميع الحدود في هذه المنطقة على هذا الاساس مكنش في ابدا أى بحث عن موضوع البدء بالهجوم على اسرائيل ولكن عمليتنا كلها في القيادة المشتركة كانت عملية دفاعية وكان حشدنا في تقديرنا في هـذا الوقت هـى عملية ردع حتى لا تقـوم اسرائيـل بالعـدوان على سـوريا)).
    هـذا وذاك هو ما قاله السيد جمال عبد الناصر في هذا الخطاب الذي ألقاه بعد الهزيمة بمناسبة العيد الخامس عشر لثورة الجيش المصرى، ونحن نرجو أن يتعمق القراء هذه الاقوال، وبخاصة قوله، ((كنا ندرك اننا، خصوصا من وجهة النظر الدولية، لن نبدأ بالضربة الاولى في معركتنا المسلحة. ولو كنا قد فعلنا ذلك لكنا قد عرضنا أنفسنا لعواقب وخيمة تزيد عمّا كان في مقدورنا احتماله. ولقد كان اول ما سوف نواجهه هو عمل عسكري أمريكى مباشر ضدنا يجد الحجة والعذر من أننا أطلقنا الرصاصة الاولى في المعركة)) لماذا؟ يحدثنا السيد جمال فيقول ((نظرا للتصريحات اللى اعلنتها امريكا وقالت فيها انها تضمن حدود الدول في هذه المنطقة وكان باين لينا ان امريكا لما تقول انها تضمن حدود الدول في هذه المنطقة ولا تسمح بأى تغييرات في هذه المنطقة مكنش امريكا تقصد بهذا أبداً الدول العربية ولكن امريكا كانت تقصد بهذا اسرائيل كانت تقصد انه اذا حصل عدوان على اسرائيل أن أمريكا حاتنفذ التصريح)).
    والسؤال الآن هو، أليس غرض العرب المعلن على العالم دائما، والقائم خلف عدم الاعتراف باسرائيل، وعدم الصلح معها، وعدم التفاوض معها، هو ان يمحو العرب دولة اسرائيل من الوجود في أرض فلسطين؟ فاذا كنا نحترم ضمان امريكا لحدود اسرائيل او كنا نخاف امريكا الى حد نشعر معه اننا اذا خالفناها نكون ((قد عرضنا انفسنا لعواقب وخيمة تزيد عما كان في مقدورنا احتماله)) فهل ننتظر يوما تتخلّى فيه امريكا عن هذا الضمان لحدود اسرائيل؟ أم هل ننتظر يوما يكون لنا فيه من القوة العسكرية والسياسية والدبلوماسية ما يمكننا من مناهضة امريكا ومن تحدي ضماناتها لحدود اسرائيل؟ ام أن ضمان امريكا لحدود اسرائيل لا يكون ملزما لامريكا الا اذا كنا نحن البادئين بالهجوم على اسرائيل، فنحن اذن ننتظر ان تبدأنا اسرائيل بالهجوم لنقوم بمباشرة محوها من الوجود في فلسطين، ونحن في عذر مديد أمام امريكا؟ فاذا كان التصريح الذي أشار اليه السيد جمال عبد الناصر، والذي ظهر انه يخشاه كل هذه الخشية، لم يكن جديدا من جانب امريكا، وانما يرجع الى العام 1950، أفليس من الحق ان نتساءل هل كان السيد جمال عبد الناصر فعلا يعنى التهديد الذي يذيعه على العرب كل عام مرة أو مرتين ضد دولة اسرائيل؟ أم هل كان يريد به الى بسط زعامته على العرب، وذلك باشاعة جو الخوف حولهم، واستغلال روح القطيـع فيهـم؟.
    ولقد يظن ظان من أشياع السيد جمال عبد الناصر انه انما قصد عدم البدء بالهجوم على اسرائيل في الوقت الحاضر فقط، وهو وقت لم يكتمل فيه استعداد العرب للقيام بمباشرة محو اسرائيل من الوجود الفلسطينى، وانما اضطروا للتحركات العسكرية لان اسرائيل أصبحت مهددة لسوريا بالغزو، فكان غرضهم من ثم غرضاً دفاعيا لا هجوميا ً.. قد يقول أحد الاشياع هذا القول ونحن لا نملك الا ان ندعوه الى ان يقرأ تصريح السيد جمال عبد الناصر الذي ادلى به يوم 29 من شهر مايو من عام 1967، أى قبل بدء العدوان بأقل من اسبوع، وذلك حيث قال، ((اذا هاجمتنا اسرائيل في أى مكان فسوف نهاجمها في كل مكان وسوف نقوم بتدميرها تدميرا كاملاً ولن تكون المعركة محدودة)) قال السيد جمال قوله هذا وهو يتحدث عن انسحاب قوة الطوارئ الدولية، وعن اعادة السيطرة المصرية على خليج العقبة، ثم استرسل في القول فتحدث عن ظروف العمل العربى منذ عام 1956، واهتم بالذات بموضوع قوات الطوارئ الدولية، وخليج العقبة، وحملات التشكيك التي وجهت الى الجمهورية العربية المتحدة، وقال، ((لقد قلت دائما اذا أردنا اخراج قوات الطوارئ الدولية فانها تخرج في نصف ساعة وهذا ما حدث)).
    ((وكان اعتقادنا دائما ان موضوع خليج العقبة هو موضوع حرب شاملة، لا نواجهها الا اذا كنا على استعداد لها ولا نتحدث عنها الا اذا كنا على استعداد للمواجهة)).
    ((ولقد كانت الجمهورية العربية المتحدة تستعد وتنتظر)) وقال السيد جمال عبد الناصر ان الانتظار وصل مداه بالتهديد الاسرائيلى الذي وجه الى سوريا.
    فقد كانت مصر اذن مستعدة ((لحرب شاملة)) حين طلبت من السكرتير العام لهيئة الامم ان يسحب قوات الطوارئ الدولية وحين باشرت السيطرة على خليج العقبة وقفلته في وجه الملاحة الاسرائيلية.
    ثم ان السيد جمال عبد الناصر يحدثنا عن هذا التهديد الذي صدر عن دولة اسرائيل ضد سوريا، وذلك في خطابه الذي ألقاه بمناسبة الاحتفال بالعيد الخامس عشر لثورة الجيش المصري فيقول، ((المسألة الاولى التي يجب ان تكون واضحة أمامنا جميعا اننا لم نكن البادئين بتأزيم الموقف في الشرق الاوسط. كلنا نعرف ان هذه الازمة بدأت بمحاولة اسرائيل غزو سوريا. من المؤكد لنا جميعا ان اسرائيل في هذه المحاولة مكنش بتعمل لحسابها وانما كانت تعمل ايضا لحساب القوى التي ضاقت ذرعا بحركة الثورة العربية)).
    هذا هو الموقف كما يراه السيد جمال ويصوره للشعوب العربية، ولكن امريكا تراه بصورة اخرى، وعندما تنقل رأيها للسيد جمال يرد عليها بخلاف ما يكلم العرب. ففى مذكرة من حكومة الولايات المتحدة الى حكومة الجمهورية العربية المتحدة عن حالة التوتر في منطقة الشرق الاوسط مؤرخة 23 مايو 1967 قالت حكومة الولايات المتحدة ان ثلاثـة امـور تسبب لهـا قلقا خاصاً: ((أولها أعمال الارهاب المستمرة التي تجري ضد اسرائيل بموافقة سوريا، والتي تقوم، في بعض الحالات على الاقل، من الاراضى السورية، وهذا يتنافى مباشرة مع اتفاقات الهدنة العامة التي تنادى الدول الموقعة عليهـا ان تضمن الا يرتكـب عمل شبيه باعمال الحرب، او من أعمال العـدوان، من ارض احدى هذه الدول ضد الطرف الآخر او ضد المدنيين في أرض يسيطر عليها هذا الطرف الآخر. ونحن نعتقد ان اتفاقات الهدنة العامة ما زالت تشكل القاعدة المثلى لأن تسود الاحوال السلمية على امتداد الحدود، ونحن نأمل ان تشاركنا الجمهورية العربية المتحدة، هى والحكومات الاخرى، في مناشدة كل أطراف اتفاقات الهدنة ان تحترم مواد هذه الاتفاقات بحذافيرها)).
    والهدنة التي تشير اليها مذكرة حكومة الولايات المتحدة هذه هى الهدنة التي اجريت اتفاقاتها في منتصف عام 1949 تحت رعاية الامم المتحدة ووقعتها كل الدول المعنية وهى مصر، وسوريا، ولبنان، والاردن، واسرلئيل.
    فماذا قال السيد جمال فيالرد عل هذه المذكرة؟ في جواب له مؤرخ 2 يونيو عام 1967 الى الرئيس جونسون قال ((ولقد اشرتم في رسالتكم الى نقطتين: أولاهما ما اشرتم اليه من اننا ينبغى ان ننحى الماضى جانبا، وان نعمل على انقاذ الشرق الاوسط، بل والعالم كله، بتجنب الاعمال العسكرية.. فبالنسبة لهذه النقطة اود ان أشير الى ان سياسة الجمهورية المتحدة لا تكتفى باتخاذ السلام العالمى هدفا، بل اننا، في سبيل هذا الهدف، نأخذ دورا ايجابيا لا أرى الاستطراد في بيانه تجنبا للوقوع في دائرة التمجيد الذاتى، أما بالنسبة للقيام بتجنب الاعمال العسكرية فيكفى ان اكرر ما سبق ان اعلنت من ان كافة ما قمنا به هى اجراءات فرضتها قوى العدوان، ومع ذلك فان قواتنا لم تبدأ باى عدوان، ولكننا بلا شك سندافع ضد أى عدوان يقع علينا، او على أى بلد عربى بكل ما نملك من قدرات وامكانيات)).
    ((وثانيهما: هو ما اشرتم اليه من ان مشاكل العصر لا يمكن حلها عن طريق اختراق الحدود بين الدول بواسطة الرجال والسلاح، وأنا اتفق معك في هذا الرأى، ومع ذلك فينبغى ان ننظر في كيفية تطبيق هذا المبدأ على كل حالة، فاذا كان قصدكم هو عبور بعض أفراد شعب فلسطين خطوط الهدنه فأننى اود هنا ان اشير الى ضرورة بحث هذا الجانب في نطاق النظرة الشاملة لقضية شعب فلسطين، وهنا ايضا اتساءل عن مدى قدرة أية حكومة في ان تسيطر على مشاعر أكثر من مليون فلسطينى فات ما يقرب من العشرين عاما دون أن تهتم العائلة الدولية - ومسئوليتها هنا مسئولية لا يمكن الفرار منها – باعادتهم الى وطنهم وتكتفى الجمعية العامة للامم المتحدة في كل دور من أدوار انعقادها بتأكيد هذا الحق. ان ما يقوم به بعض أفراد الشعب الفلسطينى من عبور خطوط الهدنة ان هو في الواقع الا مظهر من مظاهر الغضب الذي أصبح – عن حق – يتملك هذا الشعب أزاء الأنكار الكامل لحقوقه من جانب العائلة الدولية ومن جانب القوى التي تقف مع اسرائيل وتعاونها ماديا وادبياً)).
    ((وفى الواقع اننا مهما حاولنا ان نفصل بين جوانب المشكلة فلا بد ان نعود في النهاية الى جوهرها وأصلها الذي يتمثل في حق شعب فلسطين في ان يعود الى بلاده ومسئولية العائلة الدولية في ان تكفل له ممارسة هذا الحق)).
    هذا ما قاله السيد جمال عبد الناصر في الرد على الرئيس جونسون، وفى هذا القول تضليل، وفيه التواء.. ولقد يظهر التضليل في هذا التنصل من أعمال الفدائيين العرب، وجعل نشاطهم في التسلل، والارهاب، والتخريب داخل اسرائيل كانما هو تعبير عن غضبة شعب خرج عن سيطرة الحكومات العربية.. ((وهنا أيضا أتساءل عن مقدرة أية حكومة في ان تسيطر على مشاعر اكثر من مليون فلسطينى فات ما يقرب من العشرين عاما دون أن تهتم العائلة الدولية – ومسؤليتها هنا مسئولية لا يمكن الفرار منها – باعادتهم الى وطنهم)) كما ورد في هذا الخطاب.. هذا في الوقت الذي يعلم فيه العالم اجمع ان عمل الفدائيين في اسرائيل انما هو عمل منظم تشرف عليه منظمة التحرير الفلسطينية وهى منظمة رسمية، تجد الاعتراف و التأييد و المعونة من الحكومات ومن الشعوب العربية، و يعتبر عمل الفدائيين العرب الذي يقومون به في داخل اسرائيل طليعة الغزو العربى الذي ستباشره الجيوش العربية بغرض محو اسرائيل من الوجود. فاذا ما تحدث عنهم السيد جمال بالصورة التي وردت في خطابه هذا فانه يكون قد عزلهم عن الخطه المتكاملة للعمل الحربى الموحد، و يكون بذلك قد انصرف، في الخارج، عن المواجهه الحربيه لاسرائيل التي يحدث بها، في الداخل، الشعوب العربيه دائما.. و يكون قد مارس تضليلا، بل كذبا لا يليق بزعيم يتولى الحديث باسم العرب كلهم، ذلك بان مثل هذا المسلك يقلل من الاحترام الذي يجب ان يلقاه العرب في الدوائر العالميه، و لدى مختلف الحكومات.
    ويظهر الالتواء في هذا النكول عن مواجهة الاتهام الامريكى بتفنيد في مستواه، او بالاعتراف به، و الدفاع عنه بجراءة و صدق.. ذلك بأن الاتهام الامريكى يقول ((اولها اعمال الارهاب المستمرة التي تجري ضد اسرائيل بموافقة سوريا، والتي تقوم، في بعض الحالات على الاقل، من الاراضى السورية ألخ ألخ،)) وواضح ان أهم عبارة في حديث امريكا هذا هى عبارة ((بموافقة سوريا)) فهل من الصدق والرجولة ان يكون ردنا على هذا الاتهام أن سوريا لم تكن راضية عن أعمال الفدائيين العرب، ولكنها عاجزة عن ((السيطرة على مشاعر أكثر من مليون فلسطينى الخ الخ)) كما يفهم من رد السيد جمال عبد الناصر؟ وهل تعتذر حكومة عن مخالفة رعاية الحقوق الواجبة الرعاية بتقصيرها عن السيطرة على مايجري في أرضها؟


    عدم صدق الزعماء العرب

    الحق ان وصف زعماء العرب بقلّة الحنكة السياسية اقل مما يجب في حقهم. فأن هناك ما هو أخطر من ذلك.. هناك ان جمال عبد الناصر، على الاقل، يتحدث بلسانين.. لسان للشعوب العربية في الداخل، ولسان للرجال المسئولين في الخارج، ولا نحتاج لالتماس البرهان على ذلك للبحث في مكان جديد، غير جوابه للرئيس الامريكى جونسون الذي نحن بصدده الآن.
    فاقرأوا ان شئتم قوله منه ((وفى الواقع اننا مهما حاولنا ان نفصل في جوانب المشكلة فلا بد ان نعود في النهاية الى جوهرها وأصلها الذي يتمثل في حق شعب فلسطين في أن يعود الى بلاده ومسئولية العائلة الدولية في أن تكفل له ممارسة هذا الحق)).
    فاما الشعوب العربية كلها فأنها قـد فهمـت عـن السيد جمال عبد الناصر، وعلى طـول المـدى، ان مشكلة فلسطين انما ((جوهرها وأصلها)) وجود دولة اسرائيل غير الشرعى في ارض لا شبهة حق لها فيها. وان حل هذه المشكلة انما هو باقتلاع دولة اسرائيل من جذورها، والقذف باليهود في البحر ليعودوا من حيث أتوا، لتخلو الارض الفلسطينية العربية لاهلها العرب. وهذا حل لا يمكن ان يكون إلا بالحرب وبحد السلاح!!
    واما الرجال الرسميون في الخارج فان السيد جمال يخبرهم ان مشكلة فلسطين ((جوهرها وأصلها)) حق شعب فلسطين في ان يعود الى بلاده، ثم هو يجعل تمكين شعب فلسطين من ممارسة هذا الحق مسئولية العائلة الدولية.. ومعلوم ان العائلة الدولية قد اعطت دولة اسرائيل وجودها الشرعى، وذلك باقرار مبدأ التقسيم عام 1947، ومعلوم أيضا ان العرب قد رفضوا ولا يزالون يرفضون، مبدأ التقسيم هذا.. فماذا عسى يعنى السيد جمال بهذا القول؟ هل يعنى، او يمكن أن يعنى، ان مسئولية العائلة الدولية ان تمحو اسرائيل من الوجود الفلسطينى، ثم تعيد شعب فلسطين الى تلك الارض ليمارس حق البقاء فيها، واسرائيل نفسها عضو في العائلة الدولية منذ عام 1949؟ أم انه يعنى بمسئولية العائلة الدولية في اعادة شعب فلسطين الى أرضه تنفيذ مبدأ التقسيم، وهو مبدأ، كما قلنا، رفضه العرب، ولا يزالون يرفضونه، والسيد جمال في طليعتهم في ذلك؟ أم ان هـذا قول قيل من أجـل الظهـور بمظهـر المعقولية امام الرجال المسئولين في الخارج، مع الحرص على الظهور بمظهر الثورة والتحدي، امام الشعوب العربية في الداخل؟
    والسيد جمال في جوابه للرئيس جونسون يقول ((اولاهما ما اشرتم اليه من اننا ينبغى ان ننحى الماضى جانبا وان نعمل على انقاذ الشرق الاوسط، بل والعالم كله، بتجنب الاعمال العسكرية، فبالنسبة لهذه النقطة اود ان اشير الى ان سياسة الجمهورية العربية المتحدة لا تكتفى باتخاذ السلام العالمى هدفا، بل اننا، في سبيل هذا الهدف، نأخذ دورًا ايجابياً لا ارى الاستطراد في بيانه تجنباً للوقوع في دائرة التمجيد الذاتى)) هذا ما قاله السيد جمال للرئيس جونسون وان المرء ليحار كبف يجوز ان يقول مثل هذا القول رجل بنى مجده السياسي على معاداة اسرائيل، وهو لا يكاد يطلق تصريحا سياسيا، او يلقى خطاباً قومياً الا يتوجه اليها بالوعيد بحرب قريبة تلقى بها في البحر؟ أليس واجب الزعامة، والرجولة، والوضوح، والصدق مع نفسه ومع شعبه كان يوجب على السيد جمال عبد الناصر ان يقول للرئيس جونسون بدلا من القول السالف الذكر.. قولا مثل هذا؟ ((اولاهما: ما أشرتم اليه من اننا ينبغى ان ننحى الماضى جانبا وان نعمل على انقاذ الشرق الاوسط، بل والعالم كله، بتجنب الاعمال العسكرية، فاني ما أدري هل نملك، انا وانت، ان ننحى الماضى جانبا وقد ارتكبت فيه من الاخطاء ما سلبت الحقوق من ذوى الحقوق ونحلتها غير أهلها؟ وهل نملك، أنا وأنت، ان نجود، وان نتجاوز عن حقوق لا ينام عن نشدانها أصحابها الشرعيون؟ وما ادري ايضا كيف يمكن تجنب الاعمال العسكرية في وقت لا تبدو لنا فيه بارقة أمل في تطبيق العدالة؟ أليست الاعمال العسكرية هى، في جميع حقب التاريخ، الاسلوب الذي يلجأ اليه طلاب الحقوق المهدرة كلما أدركهم اليأس من عدالة الضمير البشرى؟ اننى، يا سيدي الرئيس، استطيع ان أعدك بشئ واحد هو السعى الى رد حقوق شعب فلسطين الى أهلها بأساليب السلم حيث أمكنتنى الفرصة من ذلك – فان العدالة هى وحدها القادرة على ان تغنينا عن اللجأ الى الاعمال العسكرية، وهى من ثم وحدها القادرة على انقاذ الشرق الاوسط وانقاذ العالم كله من شرور ما يتهدده من حروب)).
    الا ترون ان مثل هذا القول يكون أقرب الى طبيعة تفكير السيد جمال عبد الناصر الذي يعلنه على العرب في الداخل في كل مناسبة؟


    قلّة حنكة الزعماء العرب الدبلوماسية

    واما قلة حنكة زعماء العرب الدبلوماسية فهى أيضا بادية، وما يحوجنا التماسها الى كبير عناء. وما الفشل الذي منى به العرب في الدورة الاستثنائية للجمعية العامة ببعيد.. ومن طبيعة ضعف التفكير السياسي ان يورث ضعفا في المقدرة الدبلوماسية، اذ ما الدبلوماسية، في حقيقتها الا النهج الذي به يتم توضيح السياسة الخارجية بغية ان يكسب لها التأييد.
    ويمكن ان يلتمس الضعف الدبلوماسي حتى في جواب السيد جمال عبد الناصر للرئيس جونسون هذا الذي لا نزال بصدده، قال: ((اود ان اشير الى ان سياسة الجمهورية العربية المتحدة لا تكتفى باتخاذ السلام العالمى هدفا، بل اننا، في سبيل هذا الهدف، نأخذ دوراً ايجابياً لا ارى الاستطراد في بيانه تجنبا للوقوع في دائرة التمجيد الذاتى)) فمنذا الذي يسلم للسيد جمال بان سياسته تأخذ دوراً ايجابياً في النظرة الى السلام العالمى مما يغنيه عن الاستطراد في البيان؟ أليس مما يعرفه العالم عن السيد جمال استعراضاته العسكرية، كل عام مرة أو مرتين، وخطبه المشهورة في تهديد اسرائيل؟ أليس مما يعرفه العالم عن السيد جمال يقود العرب في طريق الحرب لاسترداد أرض فلسطين، ولمحو دولة اسرائيل من الوجود؟ فاذا كان من يقف مثل هذا الموقف في نظر العالم لا تحتاج سياسته لتوضيح وشرح وتبرير فمنذا الذي يحتاجه؟ أم هل يظن بالعالم ان ينظر الى دولة اسرائيل كما ينظر اليها العرب؟ او يظن به ان ينظر الى حق شعب فلسطين، في فلسطين، كما ينظر اليه العرب؟
    إن ضعف الدبلوماسية العربية يمكن، بإيجاز، أن يلتمس في ضعف الإدراك العام للقضية العربية، وفى العجز عن النظر الى الامور من وجهة النظر المعارضة.


    قلة حنكة الزعماء العرب العسكرية

    واما قلة حنكة زعماء العرب العسكرية فهى تتحدث عن نفسها بهزائم عام 1948 و1956 و1967 ويكفى فيها ان الاخطاء العسكرية في صحراء سيناء عام 1956 تكررت بحزافيرها في هزيمة عام 1967، وما دمنا بصدد عدم حنكة زعماء العرب فمن الخير ان نخصص الفصل المقبل للنظر في بعض الاخطاء التي يرجع اليها السبب في هزيمة العرب.
    الفصل الثالث


    أخطاء الزعماء العرب

    وما دمنا نتحدث عن غفلة القيادة العربية في ميادين السياسة والحرب فلعل من الخير ان نستعرض بعض أخطاء الزعماء العرب مما يؤيد القول بقلة حنكة هؤلاء الزعماء، ومما يوجب المحاسبة التامّة، بغية تصحيح الاوضاع، وبغية اقلاع الشعوب عن السير خلف زعامات ليس لها من الزعامة الا المظهر الكاذب، والا الثرثرة الرعناء، التي لا تنم على عقل ولا خلق.. مما كبّد الامة العربية خسائر في السمعة، والانفس، والاموال من العسير تعويضها.. ومن المؤسف حقا ان كثيرا من هذه الاخطاء لا تزال خافية على هؤلاء الزعماء وعلى كثير من حملة الاقلام العرب. وأسوأ هذه الاخطاء فكرة القومية العربية.


    القومية العربية

    وخطأ دعوة القومية العربية لا يجئ فقط من كون القومية دعوة عنصرية، وانما يجئ أيضا من كون وقتنا الحاضر وقتا ارتفع فيه الصراع الى مستوى المذهبيات والافكار. ولما استشعر العرب هبوب رياح الافكار لم يزدادوا هدى، وانما ازدادوا ضلالاً، فزعموا ان العنصرية العربية ليست فكرة عنصرية، وانما هى دعوة الى وحدة الثقافة والتاريخ واللغة. وزادوا، فزعموا ان هناك اشتراكية عربية تطبقها القومية العربية على العرب، وارتفع بذلك صوت السيد جمال عبد الناصر، في كل تصريحاته وكل خطبه. وانما هى الشيوعية الماركسية ينقلها السيد جمال عبد الناصر عن السيد يوسيب بروز تيتو في يوغسلافيا ليطبقها على العرب في مصر، وليدعو الى تطبيقها، تحت اسم الثورة العربية، والتقدمية العربية، على حد تعبيره، والقومية العربية في بلاد العرب الاخرى.
    والقومية العربية ليست فكرة حديثة برزت مع أيام السيد جمال، وانما هى حركة قديمة انبعثت في اوائل هذا القرن ضد السيطرة العثمانية في سوريا، وضد سياسة التتريك، وهى سياسة العنصرية التركية، التي كانت تميل الدولة العثمانية الى اتباعها في البلاد العربية، ثم ضد الفرنسيين، بعد اقامة الانتداب الفرنسى سنة 1919. ويحدثنا الدكتور فليب حتّى في كتابه ((تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين)) الجزء الثاني الصفحة 353 طبعة ((دار الثقافة بيروت)) فيقول تحت عنوان ((والقومية والنضال من أجل الاستقلال)) ما يلى:- ((بدأت هذه اليقظة القومية العربية حركة فكرية خالصة، مركزة على درس لغة العرب وتاريخهم وادبهم، وكان روادها في الغالب من المفكرين السوريين، وبنوع خاص، من نصارى لبنان الذين تثـقفوا في الجامعة الامريكية في بيروت. فهؤلاء هم الذين شرعوا في تطويع العربية الفصحى لتغدوا أداة جديدة صالحة للتعبير عن الفكر الحديث. على ان القومية العربية ومما استتبعته من تشديد عل الشئون المدنية والقيم المادية، جرت في اتجاه معاكس لارفع المثل، وأعز التقاليد الاسلامية، التي لا تقر ولو مبدئيا بأية رابطة غير رابطة الدين، ثم ان اختيار الشعوب الناطقة بالعربية لهذا الطراز الجديد من القومية، وثورة الحسين شريف مكة سنة 1916 على الاتراك العثمانيين، صدّعا البقية الباقية من الامل بقيام وحدة اسلامية شاملة، واقاما في مكانها وحدة عربية جامعة، اساسها اللغة والثقافة العلمانية لا العقيدة الدينية الخالصة)).
    فالقومية العربية دعوة الى تكتل العنصر العربى في مواجهة العثمانيين اولا ثمّ الفرنسيين، فيما بعد، وهى تقوم على ((اتجاه معاكس لارفع المثل، واعز التقاليد الاسلامية)) فهى دعوة عنصرية بلا فلسفة، ولقد استعار لها السوريون حين نشأت الافكار الغربية. ((وقد غدت لبنان أسرع استجابة الى المؤثرات المسيحية الغربية، بعد نزوح الالوف من ابنائه الى العالم الجديد)).
    وفى أيامنا الحاضرة استعار لها السيد جمال عبد الناصر الافكار الشيوعية وسماها ((الاشتراكية العربية)) وزعم انها فلسفة القومية العربية، وكل هذا باطل، والحق ان ليس للعرب فلسفة الا فلسفة تقوم على أديم الاسلام، فاذا زعم دعاة القومية العربية لها انها وحدة الثقافة ووحدة التاريخ ووحدة اللغة فقد وجب ان يذكروا ان العرب لم يكونوا شيئا مذكورا قبل الاسلام، فهم لم يكن لهم ثقافة، ولم يدخلوا التاريخ قبل ان يكونوا مسلمين، و كانت لغتهم لهجات قبلية متفرقة لم تتوحد الا بعد ان جاء القرآن بلغة قريش فوحدها – فالاسلام هو الذي أعطى العرب الثقافة، وهو الذي أعطاهم اللغة، وهو الذي جعل لهم تاريخا يذكر، اذا ذكرت تواريخ الامم، وأمجادها، فاذا نصح العرب ناصح بان يلتمسوا العزّة عند غير الله بالاسلام اليه، فهو ناصح ((متهم النصيحة، اشأم الطلعة، مزور في الكلام)).
    هذا وستكون لنا عودة للكلام عن القومية العربية فيما بعد، فلنكتف هنا بهذا القدر مما يؤكد خطأها في الاذهان، ويهدى المفتونين بها الى مظان الهدى.


    ما يسمى بالنظم الثورية العربية

    فى البلاد العربية اليوم حكومات تسمى نفسها قيادات ثورية، وتسمى الحكومات التي ليست على شاكلتها رجعية.. فالقيادات الثورية هى الحكومات العسكرية التي تبنت دعوة القومية العربية، ودعوة ما أسمته بالاشتراكية العربية، وهذه القيادات الثورية، أو قل الحكومات العسكرية، كانت في غالبها الاعم نتيجة انقلابات عسكرية قام بها ضباط من الشباب الثائرين الذين آذى نفوسهم الفساد الذي كانت حكومات العهود الماضية تتمرّغ فيه، وتجره على شعوبها، فأرادوا بالانقلابات العسكرية تسلم السلطة لاصلاح الفساد، واسعاد العباد. وقد تم لهم تسلم السلطة ولكنهم عجزوا عن اصلاح الفساد، وذلك لانهم ظنوا ان سبب الفساد قد كان الحكام التقليديين، فهو يزول بزوالهم. وفاتهم ان يعلموا ان جذور الفساد أعمق من ذلك، وان ازالة الفساد تقتضى عملا علميا شاملا يحتاج الى عمق في الفكر، وقوة في الادراك، وسعة في الثقافة.. وتلك أمور لم يكن حظهم فيها موفورا، فهم لم يكونوا يملكون غير حسن النية، وحسن النية وحده لا يكفى لاسعاد الشعوب، أو السير بها في طريق السعادة.. فانه قد قيل ان الطريق الى النار محفوف بالنوايا الحسنة.
    وقد سبق للحزب الجمهوري ان نبه قادة ثورة الجيش المصري الى ذلك في ابان حركتهم وكان ذلك في جواب ارسل للسيد محمد نجيب بتاريخ 18 أغسطس عام 1952 ولم يكن قد مضى على ثورتهم الشهر بعد، ولقد جاء في ذلك الخطاب قولنا ((والفساد في مصر ليس سببه الملك، وليس سببه الساسة، والاعوان الذين تعاونوا مع الملك، بل ان الملك وأعوانه هم أنفسهم ضحايا لا يملكون ان يمتنعوا على الفساد، فاذا كنت تريد أسباب الفساد فالتمسها في هذه الحياة المصرية، في جميع طبقاتها، وفى جميع أقاليمها، تلك الحياة التي أقامت أخلاقها اما على قشور الاسلام او على قشور المدنية الغربية، أو على مزاج منهما، وانت لن تصلح مصر، أو تدفع عنها الفساد، الا اذا رددتها الى أصول الاخلاق، حيث يكون ضمير كل رجل عليه رقيبا)) هذا ماجاء في ذلك الخطاب، الى جملة آراء أخرى أخرى تنفذ الى جذور المشكلة، ولكن الضباط المصريين كانوا منتشين بظفرهم بالملك الى حد لم يترك لهم مجالا لسماع نصائح الناصحين. والآن، وبعد مضى خمس عشرة سنة من توليهم الحكم، نسمع، في اعقاب هزيمة عام 1967، كما كنا نسمع في اعقاب هزيمة 1948، على عهد الملك فاروق، ان اسباب الهزيمة الخيانة في صفوف المسئولين في قمة المسئولية.. والاتجاه اليوم، كما كان بالامس، الى ازالة المسئولين هؤلاء واستبدالهم بمسئولين جدد، من غير ادراك، ولا تصور، لجذور الفساد والخيانة، وتظل بذلك مشاكل العرب تدور في حلقة مفرغة تكرر نفسها كل حين. وزعماء ((النظم التقدمية))، كما يطيب لهم ان يسموا أنفسهم، لا يفكرون، ولا يحبون المفكرين، وانما قامت نظمهم ((التقدمية)) على تكميم الافواه ومحاربة حرية الفكر.
    الدكتاتورية العسكرية

    ((النظم التقدمية)) نظم دكتاتورية عسكرية. ومع أن أسلوب الحكم الدكتاتوري أسلوب سئ، من حيث هو، فان أسوأه ما كان منه دكتاتوريا مسيطرا عليه الجيش.. ذلك بان تربية الجيش بطبيعتها لا تؤهل رجاله ليكونوا حكاما مدنيين، يتجاوبون مع طبيعة المدنيين، في الاسترسال والحرية، وانما هم ينشأون على الضبط والربط والطاعة العمياء.
    ثم ان الجيش في الاوضاع الصحيحة، يجب الا يكون له تدخل في السياسة، لان السياسة تفسده، وتصرفه عن تجويد فنه العسكري، وتجعله، بما يظن لنفسه من حق في التطلع الى السلطة السياسية، يرى نفسه حاكما على الشعب، وانه، من ثم، من حقه الاستمتاع بامتياز الحاكم وهو عندهم الترف والدعة.
    ثم ان الدكتاتور العسكري، وهو قد وصل الى السلطة بفضل اخوانه الضباط، وابنائه الجنود، لا بد ان يرى حقهم عليه مما يوجب تمييزهم عن بقية الشعب.. وهناك أمر هام وهو أن هذا الدكتاتور العسكري، زيادة على ما تقدم، لا بد ان يرى انه مما يؤمنه ضد الانقلابات العسكرية ان يرضى اخوانه الضباط باعطائهم من الامتيازات ما يلهيهم عن التطلع الى منافسته، وما يجعلهم اعوانا له ضد كل محاولة تستهدف انهاء حكمه، سواء كانت هذه المحاولة من الشعب عامة، او من أفراد مغامرين.. هذا، على أيسر التقدير، ما يكون في بداية أى حكم عسكري.. فاذا أتفق للدكتاتور العسكري، وقليلا ما يتفق، ان يكسب حب شعبه، وان يصبح، من ثم اعتماده على حماية الجيش اياه أقل، في اخريات الايام، مما كان عليه في أولياتها، فانه يصعب عليه ان يسحب امتيازات الجيش التي تكون قد اصبحت يومئذٍ حقاً مكتسبا ومسلما به.. والامتيازات تفسد الجيش، كما يفسد الترف أخلاق الرجال في جميع الاماكن وجميع الازمان.. وأسوأ من هذا! فان الشعب لا بد ان يدرك ان هذه الامتيازات، من الدكتاتور العسكري لبقية رجال الجيش، انما هى بمثابة رشوة، ولمثل هذا الشعور سود العواقب على اخلاق الشعب وقيمه..
    والحكم الدكتاتورى، سواء كان من ملك وارث للعرش عن آبائه، ويجمع في يديه السلطات، أو من متسلط، مستبد مطلق، انما يفسد الشعب بما يفرض عليه من وصاية تحول بينه وبين ممارسة حقه في حكم نفسه كما يفعل الرجال الراشدون.. وأسوأ من ذلك!! قد يكون المتسلط – وهذا هو الغالب الاعم – جاهلا بأساليب الحكم الصالح، وخائفا من انتقاض الشعب عليه، فهو لذلك يعتمد على الارهاب، والبطش، والتجسس الذي يحصى على الشعب كل كبيرة وصغيرة، وينشر عدم الثقة بين أبنائه.. فمثل هذا الحكم انما يربى المواطنين تربية العبيد لا تربية الاحرار.. وأنت لن تجد العبد يدفع عن حوزة ما يدفع الحر.. وجميع العرب بين تربية تشرف عليها الدكتاتورية العسكرية، وهى التي تسمى نفسها ((بالتقدمية)) و((بالثورية)) وبين تربية تشرف عليها الدكتاتورية المدنية، وهى التي تسميها الدكتاتورية العسكرية ((بالرجعية العربية)).. والشعوب العربية، بين هؤلاء واولئك، مفروضة عليها الوصاية، من قادة قصّر، هم، في أنفسهم، بحاجة الى أوصياء..
    ونحن لن نتحدث هنا عن قصور القيادات المدنية بين العرب، لان هذه القيادات ليس لها كبير أثر في الحوادث العنيفة التي تعرضت لها البلاد العربية في الآونة الاخيرة، وانما سنتحدث عن القيادات العسكرية، وبوجه خاص عن القيادة المصرية – قيادة جمال عبد الناصر – لانها فرضت زعامتها على العرب كلهم – بالترغيب وبالترهيب – حتى اصبحوا تبعا لها، فقادتهم من هزيمة الى هزيمة، وجرت عليهم من العار ما ان خزيه ليبقى على صفحات التاريخ، الى نهاية التاريخ.


    الشيوعيون يورطون جمال عبد الناصر في الاخطاء

    يحدثنا السيد جمال عبد الناصر من خطابه الذي ألقاه بمناسبة العيد الخامس عشر لثورة الجيش المصري بالملك فاروق فيقول ((من المؤكد لنا جميعا ان اسرائيل في هذه المحاولة مكنتش بتعمل لحسابها وانما كانت تعمل ايضا لحساب القوى التي ضاقت ذرعا بحركة الثورة العربية))، ويحدثنا المستشار الصحفى للسيد جمال عبد الناصر، السيد محمد حسنين هيكل في مقالة له بعنوان ((ماذا تريد أمريكا منا؟)) نشرت بالاهرام يوم 4/ 8 / 1967، فيقول ((الهدف الاول: تريد به الولايات المتحدة ان تحطم النظم الثورية في العالم العربى اليوم وفى مقدمتها النظام الثوري المصري – وباعتبار ان هذه الانظمة هى الخطر على مصالح الاستعمار القديم الذي ورثته الولايات المتحدة الامريكية، والاستعمار الجديد الذي تمثله هى اليوم)).
    وتحدثنا الهيئة البرلمانية للحزب الشيوعى السوداني في كتيب لها أصدرته في يونيو عام 1967 باسم ((العدوان الانجلو أمريكى الاسرائيلى)) فتقول، ((ان تواطؤ أمريكا وبريطانيا في العدوان الاخير يجب النظر اليه من زاويتين لتظهر أبعاده الحقيقية: -
    أولا – هدف التواطؤ وهو كما أسلفنا القضاء على النظم التقدمية في العالم العربى وبصفة خاصة في مصر)).
    هذه النظرة الخاطئة مصدرها الشيوعيون في روسيا وخارجها، وقد تورط في الاخذ بها السيد جمال عبد الناصر فأنطلق في الطريق الخطأ، وأصبح يصدر في تصرفه مع الدول الغربية عن عقدة من يشعر انه مضطهد، وانه مقصود بالعداوة، ولقد ظهرت هذه العقدة في خطاب الاستقالة المشهور، الذي ألقاه السيد جمال عبد الناصر في مساء يوم 8/6/1967 وذلك حيث يقول ((لقد قررت ان أتنحى تماما ونهائيا عن أى منصب رسمى، وأى دور سياسي، وان أعود الى صفوف الجماهير أودى واجبى معها كأى مواطن آخر)). لماذا؟ أسمعوا! ((ان قوى الاستعمار تتصور ان جمال عبد الناصر هو عدوها واريد ان يكون واضحا أمامهم انها الامة العربية كلها وليس جمال عبد الناصر.
    ((والقوى المعادية لحركة القومية العربية تصورها دائما بانها امبراطورية لعبد الناصر وليس ذلك صحيحا لأن أمل الوحدة بدأ قبل جمال عبد الناصر وسوف يبقى بعد جمال عبد الناصر))
    هذا هو السبب الذي من أجله استقال السيد جمال عبد الناصر من منصبه في زعامة الامة العربية!! فهل سمع الناس بزعيم يستقيل من أجل اعتبار أعدائه، وأعداء أمته، أياه؟؟ اللهم لا!! الا ان يكون زعيما يعيش في عقول أعدائه، قبل ان يعيش في عقله هو، أو، بالاقل في عقل أمته.. وذلك شأن الزعماء الذين يتصرفون عن عقد نفسية، لا عن فكر سليم.. هذا اذا لم نقل شيئا عن توقيت الاستقالة نفسها.. ذلك بأنها قد أذيعت، و شغلت بها الامة العربية، ولا تزال النيران تطلق، والعدو يتقدم في جبهة سوريا..
    وامتدادا لتلك النظرة الخاطئة التي يروج لها الشيوعيون، وانطلاقا منها يرى الشيوعيون ان التحول في علاقات السيد جمال عبد الناصر مع الدول الغربية يرجع الى قرارات يوليو عام 1661، وشيوعيو السودان، في كتاب هيئتهم البرلمانية الذي سبقت الاشارة اليه، يحدثوننا تحت عنوان ((الخلفية التاريخية للتآمر الاستعمارى)) فيقولون، ((كانت قرارات يوليو 1961 التاريخية ايذانا بدخول الثورة العربية مرحلة جديدة في تطورها، هى مرحلة التحول الاجتماعى، فقد وضعت تلك القرارات الثورة العربية وجها لوجه مع الاقطاع ورأس المال، وفتحت الطريق أمام الصراع الحاسم بين شقى الرحى في المجتمع المصرى: الطبقات الطفيلية المستغِلة من جهة، والجماهير العاملة من جهة أخرى)) والشيوعيون يعتبرون ان عملا نحو الاشتركية لا يمكن ان يتم، في عالم اليوم الا اذا ((وضعت الشعوب العربية وجها لوجه امام الاستعمار الحديث باعتباره المعوق الاساسى لعملية التقدم الاجتماعى)) ولعمر الحق ان الاستعمار ليعوق التقدم الاجتماعى ولكن يجب ان نكون دقيقين في فهم مقاصد الشيوعية من هذه العبارة.. فالشيوعيون يعتقدون ان الاشتراكية هى الماركسية، وانك لن تستطيع أن تكون اشتراكيا الا اذا صرت ماركسيا.. والحق ان الماركسية اللينينية انما هى مدرسة من مدارس الاشتراكية، وجدت فرصة التطبيق في روسيا، وهى مدرسة لها من الانحرافات، عن سواء الاشتراكية، ما يوجب على الناس ان يأخذوها بحذر شديد، حتى يتقوا تلك الانحرافات الخطيرة، وسنترك تفصيل تلك الانحرافات لكتابنا الذي يجري الآن اعداده باسم ((الاسلام ديمقراطى اشتراكى)) ونكتفى هنا بأن نقرر ان الدول الصغيرة، في يومنا الحاضر، يمكن ان تكون اشتراكية بدون ان تكسب عداوة الغرب، بل انها قد تجد معاونة الغرب في سبيل اشتراكيتها، اذا كانت تدرك الخطر الذي تتعرض له من تضليل الاتحاد السوفيتى أياها، فتبذل مجهودا ذكيا في ان تصبح اشتركية غير تابعة للاتحاد السوفيتى.. بمعنى آخر، اذا كان زعماؤها من الذكاء، وسعة الادراك للصراع العالمى، بحيث لا يورطون بلادهم في ميدان الحرب الباردة الناشبة بين الكتلة الشرقية والكتلة الغربية.. فلقد كانت يوغسلافيا، وهى دولة شيوعية، تتلقى معونة امريكية عند ما كانت تناصب استالين العداء، وترفض ان تخضع للاتحاد السوفيتى، أو تسير في ركابه.. واليوم عندما أعلنت رومانيا، وهى دولة شيوعية، استقلالها عن الاتحاد السوفيتى، أخذ الغرب يتسامح معها، ويشجعها، ولاول مرة، منذ نشأة هيئة الامم، أمكن ان يكون للجمعية رئيس شيوعى، هو وزير خارجية رومانيا.
    ولو قد كان للسيد جمال عبد الناصر من الوعى السياسي وسلامة التفكير، والمقدرة القيادية بالمستوى المطلوب لامكن ان يصبح اشتراكيا من غير ان يكسب عدواة الغرب بالصورة التي جرها على البلاد العربية اليوم.. بل لامكن، في الظرف العالمى الحاضر، ان يصبح اشتراكيا بمعاونة، وبصداقة، من الشرق والغرب في آن معاً.
    ومن أجل هذه الاعتبارات فان التحول لم يحصل بقرارات يوليو 1961، وانما حصل بقرارات 26 يوليو عام 1956، وذلك بالهيئة غير المسئولة التي بها باشر السيد جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس، وعن ذلك أسلفنا التفصيل..
    ان الشيوعيين ليَضلون عن الحق، وُيضلون: هم يضلون عن الحق لقصورهم عن التفكير الدقيق، ولتورطهم في الغرض دائما، والغرض مرض كما يقولون.. وهو مرض فكري ومرض خلقى.. وهم يُضلون كل من يتعرض لهم، او يتعرضون له، ولقد أضلوا السيد جمال عبد الناصر ولا يزالون يباشرون اضلاله، وعن طريقه يضلون العرب جميعا، ومع ذلك، او لعله من اجل ذلك، يحدثنا السيد هيكل في جريدة الاهرام الصادرة يوم 25/8/1967 فيقول ((الحقيقة الاولى – ان الصداقة العربية – السوفيتية، وازالة العوائق المصنوعة التي كانت تعترض سبيلها تعتبر من أهم المنجزات التي حققتها حركة الثورة العربية المعاصرة)).
    فالعرب يعتبرونها صداقة مع الاتحاد السوفيتى! ليس هذا فحسب، بل ليعتبرونها، كما يخبرنا السيد هيكل، ((من أهم المنجزات التي حققتها حركة الثورة العربية المعاصرة)) وفى الحق ان حركة الثورة العربية المعاصرة لم تنجز شيئا وانما نصب الروس لها شركاً فمشت اليه مغمضة العينين، وورطت معها العرب جميعا، فهم اليوم يستغلهم الاتحاد السوفيتى أشنع الاستغلال، ويظنون ان لهم ارادة ((اننا نحتفل اليوم بانتصار القومية العربية، وفى نفس الوقت نشعر ان القومية العربية أصبحت لها ارادة نافذة تقاتل في سبيل وجودها وفى سبيل كيانها، فقد مرت القومية العربية بمراحل متعددة، اذ بدأت تجابه الضغط والسيطرة الاجنبية وكانت تحاول دائما ان تتحرر من السيطرة الاجنبية لتكون لها مشيئتها الخاصة وارادتها الحرة، ولكن السيطرة والاستعمار كانا دائما يعملان ما في وسعهما بكل الطرق وبكل الوسائل للقضاء على يقظة القومية العربية. ثم تطورت هذه القومية من مرحلة الجمود الى مرحلة كفاح الاستعمار كافحت وقاتلت واستطاعت ان تنهى سيطرة الاستعمار)) هذا ما قاله السيد جمال عبد الناصر في يوم 26 /2/1958 في احتفالات اعلان الوحدة بين مصر وسوريا. وقد فشلت هذه الوحدة وانتقضت بعد تجربة اربعة أعوام، ولكن فشلها لم ينبه السيد جمال عبد الناصر الى ان افكاره اوهام، وأعماله القائمة عليها سلسلة اخطاء، وان غفلته عن حقيقة نوايا الاتحاد السوفيتى، وتوهمه أياه صديقاً للعرب، قد جرت على العرب من المآسى ما سيقترن باسم جمال عبد الناصر لبقية تاريخ العرب.. اما عن وهم جمال الذي يسميه ((ارادة القومية العربية)) فيكفى ان العرب اليوم لا يخاطبون في مصيرهم، وانما يخاطبون في ذلك زعماء الاتحاد السوفيتى، فلكأنهم هم الاوصياء على العرب، وقد اصبح العالم يعرف اليوم ان السلام لا يستقر في الشرق الاوسط اذا لم ترض عنه روسيا.

    عداوة الغرب للعرب ليس سببها الاشتراكية

    وفيصل القول ان عداء الغرب للعرب اليوم ليس سببه ان بعض الدول العربية، مثل مصر، ارادت ان تصبح اشتراكية، وانما سببه ان مصر، حين ارادت ان تصبح اشتراكية، لم تعرف كيف تصبح اشتراكية بدون ان تصبح ماركسية، وخاضعة للنفوذ الروسى. بمعنى آخر بدون ان تدخل في حلبة الحرب الباردة، وتصبح عظم نزاع بين الكتلة الشرقية والكتلة الغربية. وهو ما تحدثنا عنه عند الحديث عن تاميم قناة السويس.


    كبش الفداء

    والنظم الثورية، في مصر وفى غيرها، راضية عن نفسها، ويزيد شعورها بالرضا كلما فكرت في ان الاستعمار الغربى يخشاها ويعتبرها عدوا عنيدا. وهى لذلك لا تمارس نقدا ذاتيا ولا تقبل من غيرها غير الثناء، وقد أنشات، وربت طائفة من المطبلين المسبحين بحمدها، تستعين بهم على تنويم الشعوب، وتغفيلها. فان حصلت غلطة جلى مما لا يمكن تغطيته، او تبريره، بحثت لها عن كبش فداء حملته المسئولية، وذهبت في طريقها، تفتن في اصطناع المجد الزائف، بارتكاب الاخطاء البشعة التي لا يعود وبالها الا على الشعوب العربية اما هى فانها لا تفكر الا في استمرار زعامتها. عن هذا الكبرياء الكاذب حدث ما حدث عقب العدوان الثلاثي الاول، ذلك بانه عندما اوقف تدخل مجلس الامن، والجمعية العامة، وتهديد الاتحاد السوفيتى، وضغط امريكا على حلفائها ذلك العدوان قبل ان يبلغ اهدافه ادعى المصريون انهم هزموا الاستعمار الغربى، هذا بالرغم من الحقائق العسكرية الدامغة التي تؤكد هزيمتهم هم، حين لم يكن انسحابهم في الميدان الا جرياً، مخلّفين ورائهم السلاح، والعتاد، بصورة لا يرضاها الفن العسكري، ولقد كان من الممكن للعالم كله ان يعقل انسحابهم ذلك، وبتلك الصورة، امام قوى العدوان الثلاثي الهائلة لوانهم اعترفوا بالهزيمة العسكرية في صحراء سيناء يومئذٍ، ولكنهم لم يفعلوا، وانما ذهبوا يتغنون ببطولتهم في نصر لم يحرزوه، وطفقوا على تلك النشوة الكاذبة طوال عشر سنوات، ذهلوا خلالها، وقد ذهل معهم العرب، عن حقيقة امرهم، وعن مقدرة عدوهم، وقد فوتت عليهم هذه النشوة الكاذبة الاعتبار بالدرس الذي جرى للجيش في صحراء سيناء في شتاء عام 1956 فلم يستفيدوا من التجربة، وكل تجربة لا تورث حكمة تكرر نفسها، وهذا بعينه هو الذي جعل انسحاب الجيش المصري في صحراء سيناء اثناء العدوان الثلاثي الثاني في يونيو من عام 1967 اعادة لانسحابه في نوفمبر من عام 1956، مع اختلافين اثنين: أولهما ان انسحاب يونيو خلف وراءه من عدد القتلى، والجرحى، والاسرى، ومن كثرة الاسلحة، ما لم يخلفه انسحاب نوفمبر. وثانيهما ان احداً من الناس لا يعذر القادة المصريين، عسكريين، وسياسيين، في انسحاب يونيو بقدر ما كان يمكن ان يعذرهم في انسحاب نوفمبر، لو انهم واجهوه بالاعتراف الذي يليق بكبار الرجال.


    خطب جمال من أسباب هزيمة العرب

    وعن طبيعة هذه النظم الثورية كان يصدر السيد جمال عبد الناصر في خطبه واستعراضاته المشهورة. ويمكن القول، وبكل تأكيد، ان خطب السيد جمال عبد الناصر هى التي جرت على العرب الهزيمة العسكرية، والهزيمة السياسية، والهزيمة الدبلوماسية.. فقد كان، في كل عام، حين يحتفل بثورة الجيش المصري على نظام الملك فاروق، يستعرض أسلحته البحرية، والجوية، والارضية، بما في ذلك الصواريخ الموجهة من الارض، المصنوعة في روسيا (وجميع اسلحته الثقيلة مصنوعة في روسيا) ثم يخطب على مسمع العالم كله متوعدا اسرائيل برميها في البحر، ومخبرا العالم واياها، انه ليس بينه وبين تنفيذ وعيده عليها الا ان يفرغ من تصفية الصفوف العربية مما أسماه الرجعية العربية وعنده انما تكون تصفيتها بتصدير ((النظم الثورية)) الى شعوبها.. وكانت اسرائيل، في صمت وفى ذكاء، وفى دهاء، تفزع الى اصدقائها (وهم يتزايدون عقب كل استعراض من استعراضات جمال عبد الناصر) تبين لهم مبلغ الخطر الذي يتعرض له كيانها، وهى دولة صغيرة لا يكاد يبلغ عدد سكانها المليونين مثلاً، تحيط بها دول عربية يبلغ تعداد سكانها المائة مليون، كلها لها عدو، ويستعرض زعيمها اسلحته على مستوى من الكفاءة، والكفاية، يقلق بالها، ويجعلها غير مطمئنة على سلامتها، فيفعل قولها هذا فعله في استدرار العطف من الرأى العام العالمى، ويكسب لها الى حظيرة الصداقة، أصدقاء جددا، ممن لم يكونوا يعيرون هذه القضية الاسرائيلية كبير اهتمام من قبل.. ويترجم كل هذا العطف، وعقب كل استعراض من استعراضات جمال، الى مزيد من هجرة الشباب اليهودي الى فلسطين، والى مزيد من تصدير المال والسلاح والعتاد اليها، وأهم من كل اولئك يبعث هذا الشعور بالخطر المزيد من تصميم الشباب الاسرائيلى، من الجنسين، على النصر، ومن ثم الاقبال على التدريب على حياة الجندية، وعلى استعمال جميع الاسلحة الحديثة بمهارة واقتدار. كل هذا يجرى في اسرائيل في صمت، والعرب يصفقون ويهتفون لخطب جمال عبد الناصر، في مطلع كل عام، ثم ينصرفون ليستمعوا في بقية العام الى الاذاعات وهى تضللهم عن حقيقة أمرهم ـ وتلهيهم بالخطب العنترية الجوفاء، وبالاناشيد الفارغة.
    ويحدثنا في هذا الباب السيد جمال نفسه في خطابه الذي ألقاه في العيد الخامس عشر من أعياد ثورة الجيش المصري فيقول: ((من سنتين جالى يقابلنى وكيل الخارجية الامريكية ومعاه رسالة من جونسون وقالى بما انكم ما قبلتوش الحاجات اللى احنا طلبناها منكم قبل كده، حق التفتيش وانا قلت لكم القصة دى قبل كدة انهم طلبوا حق التفتيش بالنسبة للاعمال الذرية حق التفتيش بالنسبة للصواريخ وتحديد الجيش المصري بحد معين واحنا كنا رفضنا هذا وقلنا لا يحق لامريكا ان يكون لها حق التفتيش.
    ((جالى تالبوت وكيل وزارة الخارجية الامريكية وقالى بما انكم رفضتم هذا فاحنا شايفين اننا في حل ندى اسرائيل ما تطلبه من السلاح. وانكم اذا شهرتم بنا وقلتم ان احنا بندى اسرائيل سلاح حنديها سلاح اكثر فانا قلت له وانتم اذا اديتم اسرائيل سلاح احنا ايضا نشتري سلاح ولا يمكن ان احنا نترك العملية بهذا الشكل.
    فى الوقت ده هم قرروا انهم يدوا اسرائيل اعداد من الدبابات واعداد من الطيارات يمكن اعلنوا هم في الاعداد الاعلنوها شئ، الشئ الادوه لاسرائيل شئ آخر ده كان تهديد من أمريكا وكان تهديد واضح انهم حايدوا اسرائيل ويساعدوا اسرائيل ويعاونوا اسرائيل اذا لم نقبل نحن حق التفتيش ونقبل طلباتهم في تحديد الجيش المصري بعدد معين وسلاح معين)).
    هذا ما قاله السيد جمال عبد الناصر، وهو، في حد ذاته، كاف في الدلالة على مستوى الفهم الذي يوجه مصير العرب في الآونة الحاضرة.
    غرور الزعامة

    ان السيد جمال يريدنا ان نعرف انه قال لامريكا ((لا)) عندما طلبت حق التفتيش، ولكنه لا يحدثنا ولا يريدنا ان نعرف لماذا طلبت امريكا حق التفتيش؟ ولماذا طالبت امريكا بتحديد الجيش المصرى؟
    لقد قال بعض الخبراء العسكريين، قبيل الهزيمة التي حلت بالجيوش العربية، وبعيد اندلاع النار، ان الجيش المصري العامل يقدر بمائة وستين الف جندي، وان الجيش الإسرائيلي العامل يقدر بستين الف جندي، ولكن الاسرائيليين في ظرف ثلاثة او أربعة أيام يمكن ان يرفعوا الجيش الى مليون جندي، وذلك لانهم كانوا يمرنون، ويسرحون، كل شاب وشابة قادر على حمل السلاح على مدى العشرين سنة التي هى عمر دولة اسرائيل. وكان يجري كل هذا الاعداد، في التمرين، و التسريح، والتسليح في صمت شديد، في الوقت الذي فيه تجري تلك الجلبة و ((المفاشرة)) والمباهاة الفارغة، كل عام مرة، أو مرتين، في مصر.. مما جعل العالم يعتقد ان الجيش المصري هو أقوى جيش في العصر الحاضر في الشرق الاوسط، وان اليهود في دولة اسرائيل، يتعرضون لخطر حقيقى اذا ما نشبت الحرب بينهم وبين العرب، وهذا هو السبب الذي جعل امريكا تطالب بحق التفتيش!


    الرضا عن النفس وتحقير شأن العدو

    وزيادة على ان خطب جمال عبد الناصر قوت اسرائيل وأكسبتها عطف العالم، وجرّت على العرب الزراية، والخزى في كل المجالات، فانها ايضاً غفلت العرب عن حقيقة أمرهم، وحقيقة أمر عدوهم وجعلتهم راضين عن انفسهم كل الرضا.. ولماذا لا؟ أليسوا قد أمموا قناة السويس؟ أليسوا قد هزموا الاستعمار الغربى في عدوان عام 1956؟ أليسوا قد اسقطوا حكومة ايدن في بريطانيا؟ أليسوا قد اكتسبوا صداقة الاتحاد السوفيتى العظيم والدول الاشتراكية التي تدور في فلك الاتحاد السوفيتى؟ فماذا عسى تكون اسرائيل بازائهم؟ وكذلك تورط العرب في خطا لا يتورط فيه عادة الا الاغبياء، وذلك هو الرضا عن النفس والتقليل من شأن العدو.. فقد درج الاذاعيون، والكتاب، والشعراء والصحفيون على تسمية اسرائيل ((بدويلة العصابات الصهيونية)) أو كما يطيب لبعضهم ان يردد ((دولة كل فاجر وفاجرة)) وهم لا يعرفون لها أى فضيلة ولا أى حق في البقاء، أو شبهة حق، في أرض فلسطين، حتى ولو كان هذا الحق باطلاً قائماً في اذهان الاسرائيليين مما يوجب التصحيح. هم لا يعرفون لها غير انها قامت لخدمة أغراض الاستعمار الغربى في الشرق الاوسط.. فلا حظ لها من وجودها، ومن جهود ابنائها غير ذلك.. وفاتهم ان أبسط الذكاء يقضى عليك، لكى تتمكن من عدوك، ان تعرف نفسيته، وطبيعة تفكيره، وحقيقة دوافعه، ومدى تصميمه على الاستقتال في سبيل الاستجابة لتلك الدوافع. اليست صحائف التاريخ مليئة بهزائم الاغبياء الذين يعظمون من شأن أنفسهم ـ ويقللون من شأن عدوهم؟


    المفارقة بين القول والعمل

    ومن أشنع ما يبدو من الزعامات العربية، وفى مقدمتهم الزعامة المصرية المفارقة الكبيرة بين القول والعمل: فالزعماء العرب لا يعنون ما يقولون، ولا يشعرون بضرورة مطابقة ما يقولون لما يعملون.. والشعوب العربية، لغلبة الجهل عليها، وقوة روح التبعية فيها، ولقلة المعلومات الوافية عندها، لا تستطيع محاسبة زعمائها، ثم ان الزعماء، في غالب البلاد العربية، حكام مستبدون لا يستمدون تأييدهم من الشعوب وانما يفرضون أنفسهم أوصياء على الشعوب. وحيث وجدت أوضاعا ديمقراطية، كما هى عندنا في السودان، وجدتها قائمة على تبعية غير واعية تقوم على التكتيل الطائفى الدينى، او السياسي.. وكلاهما يفوت على الناس فرص الوعى والمراقبة، وفى جميع البلاد العربية تجد السلطة قد نظمت وسائل الاعلام، لا لتوصيل المعلومات الصحيحة للشعوب، وانما لالهاء الشعوب عن المعلومات الصحيحة، وصرفها عنها بالخطب الجوفاء، والاناشيد التافهة.. واما الاخبار الصحيحة والتعليقات الواعية فلا تكاد تظفر بها.. والحوادث التي تجري في البلاد العربية، مما ليس للحكومات فيه هوى، فلا مكان لها في الاذاعات. حتى انك تستطيع ان تسمع ما يجري في بلادك من اذاعات العالم الخارجى، بما فيها اذاعة اسـرائيـل، وقـد تسمعـها معتـدلة اعتـدالاً تطمئـن اليـه نفسـك، وانـت علـى كـل حال لا تملك الا ان تسمعها.


    الزعماء العرب هم سبب هزيمة العرب

    والآن فان خزى الهزيمة الذي جلل الشعوب العربية يبوء به الزعماء.. ونصيب السيد جمال عبد الناصر منه نصيب الاسد، ولكن السيد جمال مشغول بتبرير نفسه في نظر الشعوب ليخرج من هذه النكبة النكراء بزعامته وقد كتب لها عمر جديد.. وهيهات!! فان التاريخ وراءه وستطلع الشعوب على الحقائق قريبا، ويومها قد يكون الحساب عسيرا.
    ان اعمال جمال عبد الناصر الآن، وكتابات محمد حسنين هيكل جميعها، تستهدف تبرير زعامة جمال بايجاد كباش الفداء الذين يحملون وزر الهزيمة، ثم يمضى جمال زعيما كما كان.. فان جاز هذا التضليل فان العرب مقبلون على نكبة رابعة، ما من ذلك بد.. ولكن هذا التضليل لن يتم، ولن يجوز، لان جمال عبد الناصر قد أنى له ان يذهب.. وهو ذاهب، ما في ذلك ريب، مهما شق هذا الامر على الشيوعية الدولية، ومهما حاولت هذه الشيوعية ان تضلل الشعوب العربية عن حقيقة قصور زعامة جمال عبد الناصر.. جمال ذاهب لان حكم الوقت الحاضر يتطلب ذلك.. فلا بد من الاسلام لحل مشكلة البشرية منذ اليوم، وذلك أمر سنوضحه في موضعه من هذا الكتاب، وجمال عبد الناصر، و هو داعى، ومفلسف القومية العربية، يقف اليوم كأكبر عقبة في سبيل عودة الاسلام الى الامة العربية – ذلك بان باطل القومية العربية يشبه الحق، ولا يسهل كشفه ولا الاحتراز منه وجمال بنى مجده، وبطولته، وشعبيته على باطل القومية العربية، ومن أجل ذلك اصبح ذهابه ضرورة تمليها مصلحة العرب خاصة، في المكان الاول ومصلحة البشرية عامة، في المكان الثاني. فليذهب، وليبارك الله له وللعرب في ذهابه وفى عواقب ذهابه.. فقد كان حسن النية ولكن حسن النية وحده لا يكفى لاسعاد الشعوب. ولا بد من سعة الثقافة، ودقة الفكر، وقوة الخلق.

    الفصل الرابع


    الغفلـة

    نعيد في مستهل هذا الفصل ما سبق ان قررناه وهو ان الذي يحقر من شأن عدوه ويعظم من شأن نفسه غبى أحمق، وهو يستحق الهزيمة، وسيلقى الخزى. ولقد درج الزعماء العرب على تجنيد وسائل الاعلام في بلادهم للتحقير والتقليل من شان دولة اسرائيل بصورة متصلة وملحة.. فهى عندهم دويلة العصابات الصهيونية، وهى دويلة شذاذ الآفاق، وهى دويلة لا نصيب لها من قيامها في أرض فلسطين غير خدمة أغراض الاستعمار، وهى دويلة لا تعيش الا على الشحذة، والاستجداء. وهكذا الى آخر هذه العبارات التي لا تدل على ذكاء، ولا على خلق، ولا على بصر بالامور.
    ولقد دخلنا مع دولة اسرائيل في صراع مسلح ثلاث مرات في عشرين سنة، فلم نخرج من ايتها الا بالخزى، ولقد خرجت دائماً بما يزيد في رقعتها، ويؤمن من وجودها.. حتى اذا كانت الحرب الاخيرة الحقت بنا هزيمة عسكرية وهزيمة دبلوماسية.. وكان كسبها في المجال الدبلوماسي عظيما حقا، ذلك بأنها كسبت عطف الرأى العام العالمى، وكسبت اعجاب الشعوب.
    ومن عجب انك لا تجد عند زعماء العرب، عقب كل هزيمة، الا المعاذير.. المعاذير ان سبب هزيمتنا خيانة داخلية في الصف العربى، وان سبب هزيمتنا تدخل الاستعمار لمعاونة اسرائيل، او ان سبب هزيمتنا ان اسرائيل استدرجت العرب الى الدخول في حرب لم يكونوا قد استعدوا لها، كما قال السيد اسماعيل الازهري في خطاب ألقاه عقب عودته من القاهرة بعد لقائه مع زعماء القومية العربية، جمال والاتاسى، وبومدين، وعارف، في يوليو من هذا العام.
    ولقد بلغ السوء بزعمائنا حدا جعلهم يعتذرون بالقدر، ونحن جميعا نعلم انهم لم يتخذوا من الاحتياطات الواجب عليهم اتخاذها ما يسوغ لهم الاعتذار بالقدر. فهذا السيد جمال يقول من خطابه الذي ألقاه على الشعوب العربية بمناسبة العيد الخامس عشر لثورة الجيش المصرى.. ((بعدين المسألة السادسة. بعد ما حدث انه من الضروري ان نسلم بأمانة، وكرامة، ان المعركة المسلحة لم تسر كما كنا نتوقع وكما كنا نتمنى، ولقد جاءت مصداقاً للحكمة القائلة بأنه لا يغنى حذر من قدر)).
    والامر الذي نعرفه لم يكن هناك حذر، وانما كانت هناك غفلة، وغباء، ورضاء عن النفس، واستصغار لأمر العدو. ولقد ((كنا نتوقع)) ما لا نستحق، ((وكنا نتمنى)) ما لا يكون أبدا.. تمنى العاجز، المغرور، الذي لا يقوم بواجبه ويتمنى على الله الاماني.
    ألم يأن لهذه الشعوب العربية المنكوبة ان تعلم ان زعماءها يضللونها عن حقيقة واقعها ليظلوا زعماء؟ ألم يان لهذه الشعوب ان تشعر هؤلاء الزعماء انها انما تنتظر منهم نتائج لا معاذير؟
    بلى!! قد أنى!! وأول ما تبدأ به هذه الشعوب هو ان تصل الى المعلومات الوافية، وان تعلم حقيقة أعدائها، وحقيقة نفسها، وحقيقة التحدي الذي تواجهها بها الحياة المعاصرة، وان تحذف من هذه المعلومات المبالغات، من طرفى التقليل والتهويل، حتى تتضح الرؤيا، وحتى يرى الناس البصيرة، ويضعوا أقدامهم على سواء السبيل.
    ونحن الجمهوريين، اسهاما منا في رد الشعوب العربية الى سواء السبيل ليضطلعوا بدورهم في التاريخ المعاصر رأينا ان نخرج هذا السفر وسيكون نحونا فيه نحو من يدرس الحقائق على هدى مستبصر، ثم يسير في دروب الحياة مفتوح العينين، يعرف ما يأتى وما يدع من امره ان شاء الله وعلى الله قصد السبيل.


    اليهود في التاريخ

    ما عرف التاريخ عنصرية كعنصرية اليهود في تماسكها، واستعصائها على التطور، واكتفائها بنفسها، ولعل أهم أسباب صلابة هذه العنصرية قيامها على عوامل دينية، فانه قد ورد في التوراة ان اليهود ((شعب الله المختار)) وهم، فيما ينتظرون من موعود الله، انهم رغم التشريد والسبى، سيعود لهم السلطان على كل الخلائق، فهم ينتظرون تحقيق موعود الله أياهم طال الزمن أم قصر.
    وقد وردت التوصية في التلمود تقول ((أيها اليهودي، اعتزل باقى الامم، وابق على شخصيتك بينها، واعلم انك انت الوحيد عند الله.. آمن بالنصر على العالم أجمع. آمن بان كل شئ سيخضع لك.. فاستغل.. وعش.. وانظر.. وانتظر)) والتلمود هذا هو كتاب وضعه حكماء صهيون استنادا على فهمهم للتوراة، وهو يحوى معتقدات وعواطف، وآمال، وقصص، وتقاليد، وقواعد دينية، ووصايا سلوكية يسترشد بها اليهود فيما بينهم، وفيما بينهم وبين الغرباء.
    وعندنا نحن المسلمين ان الله فضل بنى اسرائيل على العالمين وفى ذلك يقول الله تعالى من سورة البقرة، ((يا بنى اسرائيل اذكروا نعمتى التي أنعمت عليكم واني فضلتكم على العالمين)) ولكنا فهمنا ولم يفهموا!! فهمنا انهم انما فضلوا على عالمى زمانهم وذلك لظهور دين التوحيد فيهم يومئذٍ... وفهمنا ايضاً ان التفضيل مشروط بالاستمرار على الطاعة لله.. وفهموا انهم انما فضلوا تفضيلا مطلقا، لانهم من طينة غير طينة بقية البشر وانه تفضيل غير مشروط بشرط على الاطلاق. ومن أجل ذلك تورطوا فيما حدثنا عنهم به القرآن، وذلك من سورة المائدة، ((وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه، قل فلم يعذبكم بذنوبكم؟ بل انتم بشر ممن خلق، يغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء ولله ملك السموات والارض وما بينهما واليه المصير)).
    فليس للخلق مع الله نسب الا نسب الطاعة.. فمن أقام عليها فهو القريب، ومن أحدث فيها أمراً فهو البعيد.. واليهود: وهم العبرانيون، شعب سامى، ويقال ان جدهم الاول، ابراهيم الخليل، نبى الله وأبا الانبياء، قد كان في أول أمره في بلاد الرافدين، وكان يدعو الى دين التوحيد، وقد جرى له مع قومه من جراء دعوته هذه، ومن جراء تسفيهه لعبادتهم ولآلهتهم ما أوجب هجره اياهم، وهجرته الى سوريا الجنوبية. وكانت تسمى كنعان فأقام فيها، وكان معه في هجرته تلك قليل ممن آمن له، ومنهم زوجته وابنة عمه سارة التي ولدت له، بعد يأس، أبنه اسحق، وكان له، قبل اسحق، اسماعيل من جارية سارة، هاجر المصرية، ولقد أقام ابراهيم اسماعيل وأمه هاجر بالحجاز، في موضع الكعبة، وأقام اسحق وأمه سارة معه بسوريا.. ثم ان اسحق خلف يعقوب، وأخا له أكبر منه، يقال له عيسو، ولقد وقع الاصطفاء على يعقوب ليكون صاحب الشأن تفضيلا له على أخيه عيسو، وقد سمى يومئذٍ اسرائيل، واليه يرجع نسب بنى اسرائيل، فهو أبوهم.
    كان ليعقوب اثنا عشر ولداً، وكان يوسف الصدّيق الحادى عشر بينهم. وهو الى ذلك الابن الاكبر لراحيل، زوجة يعقوب الثانية، التي كان يؤثرها بحبه، وليوسف أخ شقيق يدعى بنيامين.. وكان أخوة يوسف العشرة لابيه أبناء خالته في نفس الامر، ولقد تخلصوا منه بدافع الغيرة، كما هو وارد عندنا في القرآن. ولقد بيع في مصر، وارتفع شأنه في الدولة المصرية حتى أصبح وزيرا للملك، اليه يرجع الامر في خزائن الارض المصرية. وفى احدى سنى القحط التي جعلت مصر منتجعا لجيرانها تم الاتصال بين يوسف واخوته، وانتهى به الامر الى ترحيلهم وترحيل والديه الى مصر، ومن يومئذٍ بدأت علاقة بنى اسرائيل بارض مصر، بعد ان لبثوا بأرض سوريا زمناً قد لا يتجاوز المئتى سنة، من لدن هجرة جدهم ابى الانبياء اليها.
    ولقد كان ابراهيم الخليل معاصراً لحمورابى صاحب الشريعة المشهور في بابل، وكان ذلك حوالى الالفى سنة قبل الميلاد، وكان يعقوب حفيد ابراهيم الاول، ولقد نزح بأبنائه الى مصر بفعل القحط الذي ألم بأرض سوريا كما قلنا آنفاً.. ويمكن ان نقرر ان نزوح بنى اسرائيل من أرض سوريا الجنوبية الى مصر قد كان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر قبل الميلاد.. وقد جرى ذلك في زمن لم يكن فيه دين التوحيد معروفاً في مصر، وان لم يكن فرعون ذلك الزمن معبوداً بالصورة التي أصبح يطالب بها، فيما بعد، فرعون عهد موسى. ولقد يخبرنا القرآن على لسان يوسف الصديق، عندما امتحنه الفتيان اللذان كانا سجينين معه، ((قال لا يأتيكما طعام ترزقانه الا نبأتكما بتأويله قبل ان يأتيكما، ذلكما مما علمنى ربى، اني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون * واتبعت ملة آبائى ابراهيم، واسحق، ويعقوب، ما كان لنا ان نشرك بالله من شئ، ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس، ولكن اكثر الناس لا يشكرون)).
    فلقد كان بنو اسرائيل على دين التوحيد في مصر، وكانوا من ثم يتعرضون لالوان الاضطهاد والاستعباد، في بلد يدعى ملوكه الربوبية.. ولقد يحدثنا القرآن عن فرعون موسى ((فحشر فنادى * فقال أنا ربكم الاعلى)) ثم هو قد قال لموسى عندما دعاه الى توحيد الله فيما يقص علينا القرآن ((قال لئن اتخذت الها غيري لاجعلنك من المسجونين)) وبلغ من تعذيبه بنى اسرائيل ان كان يذبح أبناءهم الذكور ويستبقى الاناث.. ((واذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب، يذبحون أبناءكم، ويستحيون نساءكم، وفى ذلكم بلاء من ربكم عظيم)) ولقد عاش بنو اسرائيل في الوان العذاب بين عهدى يوسف وموسى، وهى حقبة تنيف على الخمسمائة سنة وفى قمة هذا العذاب، وهذا الاضطهاد، ولد موسى الكليم. ونجى من القتل الذي كان حظ الاطفال الذكور من اترابه بحيلة انتهت به الى ان ينشأ في بيت فرعون نفسه، كما هو وارد في القرآن.
    ثم انه ارسل، حين بلغ أشده، الى فرعون، وارسل معه ردئا له، أخوه هارون. قال تعالى في ارسالهما، ((فأتياه فقولا انا رسولا ربك، فارسل معنا بنى اسرائيل، ولا تعذبهم. قد جئناك بآية من ربك، والسلام على من اتبع الهدى)). وقد خرج موسى بعد لاى شديد، ببنى اسرائيل في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، فتكون مدة اقامتهم بمصر قد نيفت على الخمسة قرون، وقد بلغت عدتهم يومئذٍ ما يقرب من المليون نفس، بعد ان كانوا، في اول عهدهم بمصر، لا يكادون يبلغون المائة.


    الخروج من مصر

    وخرج موسى بجمعهم يريد أرض فلسطين – سوريا الجنوبية – لانه مكتوب عندهم في التوراة ان الله قد وعدها أباهم ابراهيم لتكون لذريته من بعده، والقرآن يحدثنا في هذا المعنى فيقول ((واذ قال موسى لقومه يا قومى اذكروا نعمة الله عليكم اذ جعل فيكم أنبياء، وجعلكم ملوكاً، وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين ٭ يا قومى ادخلوا الارض المقدسة التي كتب الله لكم، ولا ترتدوا على ادباركم، فتنقلبوا خاسرين * قالوا يا موسى ان فيها قوماً جبارين وانا لن ندخلها حتى يخرجوا منها، فان يخرجوا منها فانا داخلون * قال رجلان من الذين يخافون، أنعم الله عليهما، ادخلوا عليهم الباب، فاذا دخلتموه فأنكم غالبون، وعلى الله فتوكلوا ان كنتم مؤمنين * قالوا يا موسى انا لن ندخاها ابداً ما داموا فيها، فاذهب أنت وربك فقاتلا انا ههنا قاعدون * قال رب اني لا أملك الا نفسى، وأخى، فأفرق بيننا وبين القوم الفاسقين * قال فأنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الارض، فلا تأس على القوم الفاسقين)).
    فظلوا في صحراء سيناء أربعين سنة يتيهون في الارض، مات خلالها هارون، ثم مات موسى، وأقام الله، على بنى اسرائيل، مقام موسى، فتاه يوشع ابن نون، وآتاه النبوة، وأمره ان يقود بنى اسرائيل ضد عدوهم في أرض فلسطين.. وكان قد نشأ في الصحراء جيل جديد منهم، فساروا مع نبيهم ضد عدوهم ففتح الله عليهم ارض فلسطين، وبدأ من يومئذ عهدهم بها وكان ذلك في منتصف القرن الثالث عشر قبل الميلاد.
    فتح فلسطين

    ولم يكن الفتح ميسورا، وقد بدأوا بفتح المرتفعات الوسطى، واستقروا فيها بعض الوقت، وكان يسيطر على البلاد الساحلية في تلك الآونة الفلسطينيون، وهم احدى المجموعات الخمس لشعوب البحر الذين وفدوا من منطقة بحر أيجة، فهم وافدون أيضا، شأنهم في ذلك شان بنى اسرائيل. وكان الكنعانيون يشكلون معظم السكان على ذلك العهد. ثم توسع الفلسطينيون فتوغلوا في الداخل، واستولوا على عدد من المدن الكنعانية، الى ما كان عندهم من أرض الساحل، وقد امتد الساحل الذي استولوا عليه بصورة دائمة من غـزة حتى جنوبى يافا. وكانت ذروة قوة الفلسطينيين في النصف الثاني للقرن الحادى عشر قبل الميلاد حيث هزموا بنى اسرلئيل، في بعض ملاحمهم معهم، وأخذوا منهم تابوت العهد، وحملوه الى احدى مدنهم المحصنة، وقد كانت لهم خمس مدن نظمت بشكل ممالك مدن، وظلت لهم الغلبة على بنى اسرائيل الى ان ظهر فيهم نبى لهم يقال له صموئيل، فطلبوا اليه ان يعين لهم ملكاً يقاتلون معه عدوهم ويحدثنا القرآن في ذلك فيقول ((ألم تر الى الملأ من بنى اسرائيل، من بعد موسى اذ قالوا لنبى لهم أبعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله. قال هل عسيتم ان كتب عليكم القتال الا تقاتلوا؟ قالوا وما لنا الا نقاتل في سبيل الله وقد اُخرجنا من ديارنا وأبنائنا؟ فلما كُتب عليهم القتال تولوا، الا قليلا منهم، والله عليم بالظالمين؟)) ثم ان نبيهم هذا قال لهم ان الله بعث لكم طالوت ملكاً، فقبلوه بعد لجاجة، وما كادوا يفعلون، وساروا معه للقاء عدوهم، فقص الله علينا من أخبارهم في سورة البقرة. ((ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا افرغ علينا صبرا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين * فهزموهم باذن الله، وقتل داود جالوت، وآتاه الله الملك، والحكمة وعلمه مما يشاء، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض، ولكن الله ذو فضلٍ على العالمين)). وكان داود شابا حدثا، يومئذٍ، وكان دقيق القامة، نحيل الجسم، شديد الاسر. واما جالوت فقد كان ملك الفلسطينيين، وكان عملاقا رهيبا، مدججا بالسلاح، فخذله الله وأسلمه الى داود فقتله. وفى تلك الموقعة جرح طالوت ملك بنى اسرائيل جرحاً بلغياً لم يلبث ان قضى عليه، فخلفه على بنى اسرائيل داود ملكاً نبياً، كما قال تعالى عنه ((وقتل داود جالوت، وآتاه الله الملك، والحكمة، وعلمه مما يشاء)).


    مملكة اليهود

    وكان عهد داود (نحو 1004 – 963 قبل الميلاد) هو عهد تأسيس مملكة بنى اسرائيل. ويبدو ان الموقعة التي قتل فيها داود جالوت الفلسطينى لم تكن حاسمة في نصرة بنى اسرائيل وهزيمة الفلسطينيين وانما بدأ بها التحول الحقيقى في ميزان القوى بين الشعبين المتنازعين، وبدأت الدولة تدال لبنى اسرائيل من عدوهم. ويحدثنا الدكتور فيليب حتّى في كتابه ((تاريخ سورية ولبنان وفلسطين)) الجزء الاول صفحة 203 فيقول، ((وقد بدأ حكمه تحت سيادة الفلسطينيين ولكنه نجح في النهاية ليس في تحقيق الاستقلال فحسب بل أيضاً في توسيع حدود المملكة الى أبعد مما بلغته في أى وقت آخر. قام داود بسلسلة من العمليات الحربية أدت الى التخلص من نير الفلسطينيين وجعل آدوم ومؤاب وعمون تحت حكمه وحققت له ما هو أغرب من ذلك وهو حكم سوريا المجوفة الآرمية حتى حدود مملكة حمأة كما يظن، ووصلت جنوده الى دمشق، وكانت المملكة التي أسسها أقوى دولة محلية ظهرت في فلسطين في أى عصر)).
    ويقال ان عدد بنى اسرائيل على عهد داود كان نحو الستمائة أو السبعمائة ألف نفس، وانتقى داود حصن أورشليم ليكون عاصمة له، وفى هذه المدينة أقام قصره الملكى، وقد بناه من الحجارة وخشب الارز المجلوب من لبنان، وأقام الى جانب قصره معبداً وطنياً لقومه في هذه العاصمة الجديدة، ((وهكذا جعل اليهودية الديانة الرسمية في الدولة الموحدة. وأصبح داود الملك الثاني بالنسبة للعبرانيين)) وهم بنو اسرائيل.
    ثم لم يلبث داود ان لحق بربه بعد ان وطد اكناف المملكة، وخلفه على عرشه أبنه سليمان الحكيم، وقد كان كوالده ملكاً نبياً، ((وورث سليمان داود، وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير، وأوتينا من كل شئ، ان هذا لهو الفضل المبين * وحشر لسليمان جنوده من الجن والانس والطير فهم يوزعون)).
    ولقد وصلت المملكة في عهد سليمان (963 – 923 قبل الميلاد) ذروة عالية من المجد، والقوة، والعمران. وبنى سليمان في أورشليم الهيكل المشهور باسمه. وفى ذلك يقول الدكتور فليب حتّى من كتابه آنف الذكر، ((وكان الهيكل الذي بناه أكثر أهمية من الناحية القومية. ويعتقد ان موقعه هو الموقع الذي فيه قبة الصخرة اليوم. وقد بنى هيكل سليمان في الاصل ليكون معبداً ملكياً ملحقاً بالقصر واستغرق بناؤه سبع سنوات فقط، ولكنه أصبح فيما بعد مركزاً عاما لعبادة العبرانيين)).


    .....
    تعقيب
    ونواصل لاحاقا حتى لا يحسب علينا العالم والعرب هؤلاء المتنطعين في القضائيات السودانية...العاجزين عن الفكر والعاطلين عن السياسة...
                  

العنوان الكاتب Date
السلفيون العرب ومأساة غزة adil amin01-05-09, 01:20 PM
  Re: السلفيون العرب ومأساة غزة adil amin01-06-09, 01:23 PM
  Re: السلفيون العرب ومأساة غزة محمد على النقرو01-06-09, 07:19 PM
    Re: السلفيون العرب ومأساة غزة adil amin01-07-09, 12:36 PM
      Re: السلفيون العرب ومأساة غزة adil amin01-07-09, 12:39 PM
  Re: السلفيون العرب ومأساة غزة ahmed haneen01-08-09, 06:46 AM
    Re: السلفيون العرب ومأساة غزة adil amin01-08-09, 12:13 PM
      Re: السلفيون العرب ومأساة غزة adil amin01-08-09, 12:14 PM
        Re: السلفيون العرب ومأساة غزة adil amin01-09-09, 03:40 PM
          Re: السلفيون العرب ومأساة غزة adil amin01-09-09, 03:42 PM
            Re: السلفيون العرب ومأساة غزة adil amin01-11-09, 12:27 PM
              Re: السلفيون العرب ومأساة غزة adil amin01-13-09, 12:36 PM
                Re: السلفيون العرب ومأساة غزة adil amin01-14-09, 01:06 PM
                  Re: السلفيون العرب ومأساة غزة adil amin01-15-09, 09:18 AM
                    Re: السلفيون العرب ومأساة غزة adil amin01-20-09, 12:41 PM
                      Re: السلفيون العرب ومأساة غزة adil amin01-21-09, 01:30 PM
                        Re: السلفيون العرب ومأساة غزة adil amin01-21-09, 01:41 PM
                          Re: السلفيون العرب ومأساة غزة Haydar Badawi Sadig01-21-09, 08:22 PM
                            Re: السلفيون العرب ومأساة غزة adil amin01-23-09, 03:07 PM
                              Re: السلفيون العرب ومأساة غزة adil amin01-23-09, 03:10 PM
                                Re: السلفيون العرب ومأساة غزة Haydar Badawi Sadig01-23-09, 04:22 PM
                                  Re: السلفيون العرب ومأساة غزة adil amin01-28-09, 11:42 AM
                                    Re: السلفيون العرب ومأساة غزة adil amin01-28-09, 11:44 AM
                                      Re: السلفيون العرب ومأساة غزة adil amin01-29-09, 08:38 AM
                                        Re: السلفيون العرب ومأساة غزة adil amin01-31-09, 12:49 PM
                                          Re: السلفيون العرب ومأساة غزة adil amin02-02-09, 01:28 PM
                                            Re: السلفيون العرب ومأساة غزة adil amin02-03-09, 12:23 PM
                                              Re: السلفيون العرب ومأساة غزة Abdlaziz Eisa02-03-09, 12:46 PM
                                                Re: السلفيون العرب ومأساة غزة adil amin02-04-09, 12:04 PM
                                                  Re: السلفيون العرب ومأساة غزة adil amin02-05-09, 11:57 AM
                                                    Re: السلفيون العرب ومأساة غزة adil amin02-12-09, 01:06 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de