مأساة تموز او في التناص بين اليوت وبدر شاكر السياب

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-27-2024, 05:41 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة عبد المنعم عجب الفيا(agab Alfaya & عجب الفيا )
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
12-22-2005, 11:00 PM

Agab Alfaya
<aAgab Alfaya
تاريخ التسجيل: 02-11-2003
مجموع المشاركات: 5015

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: معاوية محمد نور واليوت (Re: Agab Alfaya)

    التعريف بالشاعر اليوت في العالم العربي*



    اليوت ومعاوية محمد نور :

    يكاد يجمع الدارسون العرب على أن اليوت لم يعرف في العالم العربي إلا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية . ويرجعون الفضل في ذلك إلى كتابات الأديب الدكتور لويس عوض التي بدأ في نشرها بالصحف المصرية في النصف الثاني من الأربعينات وذلك بعد عودته من جامعة كمبريدج مع نشوب الحرب .

    والحقيقة أن هنالك أديب وناقد عربي رائد يعد أول من لفت الأنظار في العالم العربي إلى تى . اس اليوت وأول من حاول تطبيق نظرياته النقدية الحديثة على الشعر العربي وذلك منذ بداية الثلاثينات أي في ذات الوقت الذي بدأ فيه القارئ الإنجليزي يتعرف على شعر اليوت ومذهبه النقدى الجديد .

    ذلك الرائد هو الأديب والناقد السوداني معاوية محمد نور الذي لا يذكره الباحثون إلا نادرا . ولعل الكثيرين لا يعرفون عنه شيئا . وربما يرجع السبب في ذلك إلى وفاته باكرا . ولعل معاويه نور كما يقول عنـه الدكتـور الشاعـر محمد عبد الحي هو أول ناقد عربي ذكر تي . اس اليوت والشعر الإنجليزي – آنذاك – شعر ت . أ . هيوم وعزرا باوند و د . هـ لورنس وأديث سيتويل . وأول من أنتقد من وجهة نظر هذا الشعر واسسه النقدية شعر كبار الرومانتيكين العرب أمثال على محمود طه وإبراهيم ناجي وهم في أوج سيطرتهم على الذوق الأدبـي للعصر " . (1)

    وقد أشار معاويه إلى اسم اليوت لأول مرة في مقالة نقدية له حول شعر عبـاس محمـود العقـاد ، نشـرت بجريـدة ( الجهـاد ) المصريـة بتاريـخ 3 مـايو 1933م بعنوان " القالب في شعر العقاد " . وهو يقصد بالقالب هنا الشكل الشعري أو الصياغة الشعرية التي عمادها الصنعة المحكمة والإحساس المرهف بكيمياء اللغة والتي يرى فيها خاصية يكاد ينفرد بها شعر العقاد دون سواه من معاصريه من الشعراء .

    ووردت الإشارة إلى اسم اليوت في هذه المقالة في سياق الحديث عن ميزة التيار الشعري الجديد الذي برز في انجلترا بتأثير من اليوت : " انما القالب الجديد لا يترك شاردة ولا واردة في معنى أو لفظ إلا ويأتي بها في مكانها من الوضع وترتيبها من النسيج الفني حتى انك لتجد الجمل الاعتراضية في شعر عظام الشعراء أمثال : تى . اس . اليوت وبراوينج واندادهم لها قيمة الشعر مع أنها حتى في الكتابة الفكرية مجرد تحديد وتوضيح " . (2)

    ولا تقف أهمية هذه المقالة الرائدة على أنها أتت بذكر اليوت لأول مرة في اللغة العربية وإنما تتعدى ذلك إلى كونها أول تجربة رائدة في تطبيق نظريات اليوت النقدية على الشعر العربي في الثلاثينات . فنجد معاوية في هذه المقالة يقيم شعر العقاد من خلال معالجته لنظرية ( المعادل الموضوعي ) ونظرية تيار الشعور أو الوعى إلى جانب الافادة مـن مفهوم ( موسيقى الشعر ) عند اليوت .

    فإذا كان بعض معاصري العقاد من النقاد يرى أن شعره فكر كله ومنطق وخـال مـن العاطفـة والإحساس ، فإن معاوية من خـلال توظيفـه لنظـرية ( المعادل الموضوعي ) يحتج عليهم بأن ليس مهمة الشعر إثارة العاطفة وإنما ترجمة العاطفة والإحساس إلى فكر ومنطق : " .. فات هؤلاء ان أقصى ما يرتجيه الشاعر أن يترجم العاطفة والإحساس إلى لغة الفكر والمنطق " ذلك " أن العاطفة لا يمكن أن يعبر عنها بعاطفة وإنما سبيل التعبير عنها هو اللفظ ، واللفظ أداة الفكر لا أداة العاطفة . ويجب أن نزيد على هذا غرض الشعر الصحيح هو إثارة عاطفتك – لأن خبر موت أحد أقاربك يثير عاطفتك وليس هنالك من يقول أن هذا الخبر شعر وإنما غرضه الأسمى هو إرضاء وتهدئـة العاطفـة المفكرة " . (3)

    ويذهب معاوية أكثر من ذلك في تأكيد دور الفكر في الشعر ويجعل له دورا حاسما في موسيقى الشعر إذ يرى أن موسيقى الشعر ليست موسيقة لفظية وإنما موسيقى فكرية أيضا . " .. أن موسيقى الشعر الجيد ليست هي موسيقى لفظية فحسب ، وإنما هي موسيقى فكرية أولا وأخيرا ، يلمحها الذهن ويرتاح إليها التفكير الشاعر الدقيق ، في تقسيم الفكرة وتسلسل الإحساس واصطحاب اللفظ الموفق والعبارة الدقيقة في المعنى ، المنسجمة في اللون والصورة مع لون الإحساس وصورة الفكرة " . (4)

    ولا يخلو وصف معاوية لموسيقى الشعر بأنها ( موسيقى فكرية ) من أصداء وصف الناقد الإنجليزي الشهير أ . أ . ريتشاردز ، أحد أقطاب ما عرف بالنقد الأمريكي الجديد أو النقد العملي ( التطبيقي ) الذي راج في الثلاثينات وذلك حينما وصف قصيدة ( الأرض الخراب ) بأنها " موسيقى أفكار " .

    ويصف معاوية الموسيقى التي تعتمد على رنين الألفاظ فقـط بأنهـا موسيقى رخيصة " .. بعض هؤلاء النقاد يعتقد أن الشعر كل الشعر بما يكون في سهولة الأداء وموسيقى اللفظ . ويعنى بسهولة الأداء وموسيقى اللفظ أن يكون معنى الشعر في سطحه وأن تكون الموسيقى من النوع الذي يقول ( أنا موسيقى ) لرخص عنصرها ولرنينها الذي تعرفه الأذن أول ما تعرف الرنين " . ويضرب مثالا على رخص هذه الموسيقى اللفظية بشعر آدجار آلان بو وشوتيريان ويقول عنهما أنهما " أعظم الشعراء الذين أجادوا الموسيقى اللفظية في شعرهم مع أنهم لا يذكـرون الآن إلا لنقد موسيقاهـم اللفظيـة وتوضيـح قيمة الموسيقى الشعريـة الحقـة " . (6)

    هذا أبرز ما ورد عن اليوت وعن مذهبه الشعري الجديد في مقالة ( القالب في شعر العقاد ) وهو يكشف مدى إدراك معاوية نور الواعي والمبصر ومدى استيعابه العميق والمبكر لتيارات الحداثة الشعرية في وقت لم تكن فيه هذه التيارات معروفة على نحو كاف حتى في أوربا نفسها .

    أما المقالة الثانية التي ذكر فيها معاوية اسم تي . أس اليوت فهي مقالة نشرت في جزئيـن بمجلـة ( الرسالـة ) المصريـة بتاريخ 15-22 أكتوبر سنة 1934م تحت عنوان ( أصدقائي الشعراء ، هذا لا يؤدى ا ) أنتقد فيها معاوية شعراء الحركة الرومانسية العرب – آنذاك – الذين كانوا يسيطرون على الذوق الأدبي ، انتقادا لاذعا ، وعاب عليهم تمسكهم بالأساليب والموضوعات الشعرية البالية وانغلاق افقهم الشعري على مظاهر الطبيعة التقليدية وحثهم فيها على الالتفات إلى مظاهر الحياة الحديثة وتياراتها الفكرية والإلمام بوعي العصر وتمثل ذلك كله في تجاربهم وعوالمهم الشعرية .

    وقد جاء ذكر اليوت في هذه المقالة في سياق حديث معاوية للشعراء الرومانسيين العرب للإفادة من أساليب شعراء الحداثة في أوربا أمثال ت . س . اليوت و د. هـ لورنس و ت. أ هيولم : " أولئك الشعراء الذين نراهم جاهدين يفتشون عن الله ، ويبحثون في الجنس ونشوة العفاف الروحي ، ثم يعود كل منهم وحقيبة وعيهم ملأى بالأحاسيس المختلفة والأفكار المريرة أو العذبة ، ملأى بالثعابين التي تبرق كاللؤلؤ وبالسلام الذي تعقبه أشد فترات الحرب تمزيقا للأجسام والأرواح وبالذهول الذي يسمو إلى طبقات السماء ، وبالسخر الذي : يرى القمر في أمسية حب أشبه ببالون يلعب به صغار الأطفال . ويرى : المساء ينام كرجل عليل ينتظر مبضع الجراح .. وربما يرى : في أنامل الحبيب أقطارا متسعة ولو أنها بادية التناقض أو بأحاسيس متناقضة بعيدة ، حالكـة الظلمـة أو شديـدة الوهج " . (7)

    يشير معاوية هنا إلى بالقمر الذي يشبه بالون لعب الأطفال إلى قول الشاعر الإنجليزي ت . أ هيولم في قصيدته : " لدى المرسى " :



    لدى المرسى الهادئ عند منتصف الليل
    مشتبكا في حبال أعلى السارية
    تدلى القمر
    إن ما بدا نائيا جدا
    ليس غير بالون طفل منسي بعد اللعب



    أما اشارة معاوية إلى : " المساء الذي ينام كرجل عليل ينتظر مبضع الجراح "
    اشارة الي قول تي . اس اليـوت الـوارد فـي قصيدتـه الشـهيرة The love song of J. Alfred Profrouk ( أغنية العاشق جي . الفريد بروفروك ) حيث يقول :

    Let us go then, you and I,
    When the evening is spread out against the sky
    Like a patient etherized upon a table;

    هيا بنا نتمشى سويا
    حيث المساء ممد على السماء
    كما يتمدد مريض مخدر على منضدة


    وهذا " تشبيه يفرغ المساء مما أرتبط به من جماليات عاطفية تعلقت به في الشعر الرومانتيكي . ومادته مستمدة من جوانب غير مطروقة في تجارب ذلك الشعر " . (

    ولعل معاوية ساق هذا التشبيه للتدليل على ضرورة تفاعل الشعراء العرب في ذلك الوقت مع اشكالات الحياة وقضاياها العملية . عوضا عن الانغلاق في العوالم الرومانسية الحالمة . وهو الأمر الذي دفعه إلى انتقاد رموز الحركة الرومانسية وتحديدا إبراهيم ناجى وعلى محمود طه بالرغم من صداقة الاثنين له وبالرغم من أن كلا منهما قد أهداه نسخة من ديوانـه ليلـة صـدوره وهما ديوان ( الملاح التائه ) لعلى محمود طه وديوان ( وراء الغمـام ) لإبراهيـم ناجـى : " وهما لاشك ينتظران المديح والثناء من صديق يجلس معهما ويأنس إلى صحبتهما غير أن الموضوع في رأينا قد تعدى أخيرا هذين الأديبين إلى ما هو أخطر وأبعد شأنا ، تعداه إلى الحديث عن طبيعة الشعر والكتابة ، وأن الأقلام قد خطرت في هذا الطريق بكلام تعد معظمه خطرا على الحركة الأدبية في مصر ، وفهم الفنون الأدبية على الوجه الذي يفهم منها في الجيل الحاضر . ولهذا رغبنا في كتابة هذه الكلمة لا لنمدح أو نذم ، ولكن لندلى برأي في الشعر كما نقروءه ونفهمه ، وكما ننتظر من الكتاب والقراء أن يقرأوه ويفهموه " . (9)

    وأول ما يأخذه معاوية على هذين الشاعرين هو أن ديوان ( وراء الغمام ) لإبراهيم ناجى ، يكاد ينحصر في الحـب ومطالبـه ، وأن موضوعـات علـى محمود طه في ديوانه ( الملاح التائه ) تكاد تنحصر في النظم عن مظاهر الطبيعة .

    وهو يرى أن ذلك ( الشيء ) الذي يسمى شعرا – هو خلاف الكلام الحسن عن الأشياء العادية : " أنه يتطلب شاعرا يأكل كبقية الناس ولا شك ويحب مثلهم ، ولكن نظره وأحاسيسه والتفاتات ذهنه وقفزات وعيه نحو هذه الأشياء العادية غير عادى .. فالحب يصبح موضوعا جديرا بالشعر حينما يكشف لنا الشاعر معنى ونغما وراء مظاهره المعروفة ومصاحباته العادية .. أما الشاعر الذي يبدى ويعيد في الحديث عن ملذاته وآلامه وحسراته التي يثيرها شخص المحبوب أو ذكراه فحسب ، مهما اختلفت القافية وتعدد الإيقاع ، لا يعدو أن يكون إنسانا لم تتسع أنانيته إلى أكثر من حاجاته البسيطة المتعارفة " . (10)

    أن كثرة استعمال ( الشعريات ) مثل الشعر والشعور والزهور والألحان والطيور والأقمار والآكام لا تجعل من أي إنسان شاعر كما يرى معاوية بل " أن مثل هذا الشعر ليوحي إلى القارئ الدقيق الحس كراهة الآكام والزهور والبحار والأنغام وما إليها من هذه النغمة المبتذلة الكثيرة التكرار التـي لا تحـس معهـا واقعـة حـال صحيحة أو شعور مباشر " . (11)

    ففي الطبيعة .. أشياء أخرى خلاف البحر والشواطئ " أدق وربما كانت ألصق بحياتنا وأجدر بالتفات الشاعر . فالحجر الصلد الذي يقف في طريقك ، والشارع الذي تصقله مصلحة التنظيم حيث جماعة المهندسين ، والفأر الهارب من سفينة خربة ، والذباب الذي يطن على جبة عفنة ، قطعة الحديد التي أكلها الصدأ والخشب الذي نأكل عليه والنمل وضجيج الترام وصوت الباخرة وخلافها من المظاهر .. هي أجزاء حية في الطبيعة . والالتفات إليها في وضع جديد أتى به نظام حياتنا الراهنة وحضارتنا المعاصرة ، لأدل على فهم الطبيعة من آلاف القصائد عن البحر والشفق والنجوم ا " . (12)

    فهو يرى أن الثقافة ووعى العصر الذي نعيش فيه لابد منهما لأي فنان يكتب ليقرأه الجيل الذي يعيش بينه . و " الشاعر العصري سواء في مصر أو في الصين الذي لا تثيره تيارات الفكر المعاصر واكتشافاته ومتاعبه والذي ليس له وجدان يتغير ويتفاعل بما يسمع ويقرأ ويفكر ويشاهد من عيوب في نظام حياتنا الحاضرة أو نشوز في أنغام فكرنا المعاصر أو فراغ في إنسان بادئ الامتلاء أو أغنية في زوايا بيتنا المعنوي ليس له ، بل لنا الحق في ألا نعده في عداد الشعراء المخلصين " . (13)

    " ويبدو لي من قراءة هؤلاء الشعراء والحديث معهم أن ليس في حياتهم الفكرية والشعرية أي شئ يشبه الصحارى العارية الجرداء ، أو الظلمات الحالكة ، أو البريق الخاطف أو الحيرة الشاعرة أو أي اشتغال جدي بناحية من نواحي حياتنا الراهنة .

    " إن نظرة واحدة إلى حيث يتقاطع شارع عماد الدين بشارع فؤاد الأول مثلا في أي مساء لحرية بأن تبعث في الفنان أحاسيس وأفكارا تصلح لأن تكون قصيدة جيدة " . (14)

    وباختصار فإن " الفنان الذي لم يحس بقبس أو لمحة أو ناحية من تيار وعى Stream of consciousness كامل يمكنه من رؤية التشابه في أشياء ومظاهر بادية الاختلاف ، أو بالعناصر والقوى والفكر التي تذهب جميعا لاخراج فكرة أو مظهر عادى مما نراه في حياتنا اليومية ، .. ليس له ذلك الإحساس الناقد القدير على التكوين والتخيل الذي يجبـر القـارئ علـى الإنصـات له والاستماع لنغمته " .(15)

    لقد حرصنا على إيراد الاستشهادات التي تمثل الأفكار المحورية في هذه المقالة الرائدة ذات القمة التاريخية الخاصة . فهي من ناحية تكشف للقارئ ليس الاتصال الباكر لمعاوية بتيارات الحداثة الأدبية التي لم تكن معروفة حتى في بلدانها وحسب وإنما تكشف عن عمق إدارة معاوية ووعيه النافذ بضرورة التغيير والتجديد . ومن ناحية أخرى تكاد تمثل هذه المقالة بما حوته من أفكار وآراء جديدة وجريئة ( مانفيستو ) لحركة الحداثة الأدبية في العالم العربي صدر قبل أوانه بنحو عشرين سنة أو يزيد . بدليل أنه لم يتنبه الأدباء والشعراء العرب إلى ضرورة الانفتاح على تيارات الحداثة والإفادة منها إلا بعد نهاية النصف الثاني من القرن العشرين .

    ولعل مصطلح ( تيار الوعي ) Stream consciousness الذي أشار إليه قبل قليل ، يرد في هذه المقالة لأول مرة في اللغة العربية . ويعد تكنيك تيار الوعي من أبرز الخصائص الأسلوبية التي أدخلها تي . اس اليوت على الشعر . وكان معاوية نور قد سبق أن تعرض لشرح مفهوم هذا المصطلح في مقدمة كتبها لقصة قصيرة نشرت له بجريدة ( مصر ) بتاريخ 11 نوفمبر 1931م بعنوان ( المكان – قصة تحليلية ) وجاء في هذه المقدمة : " حينما فرغت من كتابة هذه القصة رأيت واجبا على أن أعين القارئ العربي على فهمها لأن هذا الضرب من التأليف القصصي حديث العهد حتى في أوربا نفسها وهو آخر طور من تطورات القصة التحليلية .. وقد انتشر هذا النوع في أوربا منذ عشر سنوات تقريبا حينما أخرج مارسيل بروست الفرنسي روائعه القصصية كما عرف في أتمه وأحسنه عند كاترين مانسفيلد وفرجينا ولف " . (16)

    ويعرف معاوية في تلك المقدمة تكنيك تيار الوعي بقوله : " أن هذا الأسلوب الفني " ليست مهمته تصوير المجتمع ولا النقد الاجتماعي ، وليس من مهمته أن يحكى حكاية ، وإنما يتناول التفاعلات الداخلية في عملية الإحساس والتفكير عند شخص من الأشخاص ويربط كل ذلك بموسيقى الروح واتجـاه الوعي " إنه " يعرض الجانب الغامض في تسلسل الاحساسات واضطراب الميول والأفكار وتضادها في لحظة واحدة من الزمان عند شخص ما . كما أنه يصور ما يثيره شئ تافه من ملابسات الحياة في عملية الوعي وتداعى الخواطر ، وقفز الخيال ، وتموجات الصور الفكرية . ويمزج ذلك بنوع من الشاعرية والغموض العاطفي ، فيخرج كل ذلك تحفة فنية حقا " . (17)

    وبالرغم أن الباحث والشاعر الدكتور محمد عبد الحي يرى أن معاوية نور في نقده لشعراء الحركة الرومانسيين العرب ، (1 قد وقع على كتاب ناقد جامعة كمبيردج ف . ر. ليفيز : ( اتجاهات جديدة في الشعر الإنجليزي ) New bearings in English poetry الذي نشر سنة 1932م – أي قبل سنة من نشر مقالة معاوية ، إلا أن عبد الحي يخلص إلى أن معاوية كان أصيلا في إطلاعه وتقييمه لتيارات الحداثة الشعرية ولم يكتفي فقط بترديد الآراء التي أوردها ليفيز في كتابه ويدلل على ذلك بأن معاوية أورد أفكارا ونماذج من قصائد هؤلاء الشعراء لم يشر إليها ليفيز في كتابه ومن ذلك تشبيه اليوت للمساء بمريض مخدر مستلقى على منضدة طبيب جراح في قصيدة ( أغنية حب الفريد جي . بروفروك ) وكذلك تشبيه الشاعر ت . أ . هيولم للقمر ببالون يلعب به الأطفال في قصيدته ( لدى المرسى) . حيث لم يتطرق إلى هذين التشبيهين في كتابه ولم يناقشهما .

    اليوت وسلامة موسى :-

    بعد عام تقريبا من نشر مقالات معاوية التي أشار فيها إلى اليوت ومذهبه في الشعر الجديد ، وتحديدا في سنة 1933م أصدر الأستاذ سلامة موسى ، أحد أعمدة التنوير في العالم العربي في القرن العشرين كتابا بعنوان " الأدب الإنجليزي الحديث " تضمن عرضا لأبرز رموز التجديد في الأدب الإنجليزي من أمثال برنارددشو و هـ . ج. ولز و د. هـ. لورنس وجيمس جويس وغيرهم . إلا أن الكتاب قد خلا تماما من أية اشارة إلى اليوت رغم احتفاله بالتجديد وعناصر التجديد في الآداب عموما . وكان واضحا أن الأستاذ سلامة موسى لم يكـن علـى معرفة باليوت وربما لم يكن قد سمع به عند صدور الكتاب لأول مرة في 1933م .

    ولم يتنبه سلامه موسى إلى أهمية اليوت إلا في سنة 1948م عندما عاد وأصدر الطبعة الثانية من الكتاب وزاد فيها ثلاثة فصول جديدة ، فصل عن الدوس هكسلى وآخر عن ت . س . اليوت وثالث عن الشاعر اودن . وبدأ حديثه في الفصل الخاص باليوت وكأنه يعتذر عن اغفاله له في الطبعة الأولـي مـن الكتاب حيث يقول : " اكتب هذا الفصل في سنة 1948م عن هذا الشاعر الذي لم يكن بارزا في وجداني في سنة 1933م حينما خرجت الطبعة الأولي من هذا الكتاب " . (19)

    ويبدو أن سلامة موسى لم يكتب عن اليوت إلا بعد أن أطلع على ما كتبه لويس عوض في مقالته الضافية عـن اليـوت التـي نشرها سنة 1946م بمجلة ( الكاتب المصري ) والتي سيأتي الحديث عنها أكثر تفصيلا أدناه . ذلك أن جل ما ذكره سلامه موسى عن اليوت وشعره لا يعدو أن يكون ترديدا لما أورده لويس عوض في مقالته المذكورة . وأغلب الظن أن الأستاذ سلامة موسى حتى وهو يكتب عن اليوت في سنة 1948م لم يطلع على قصيدة ( الأرض الخراب ) أشهر قصائد اليوت . فهو يتحدث عن ( الأرض الخراب ) ويقول أنها صدرت سنة 1925م ويورد أبياتا طويلة باللغة الإنجليزية ويأتي بترجمة مقابلة لها إلى العربية ويقول : أنظر إلى قوله في ( الأرض الخراب ) . بينما في الحقيقة أن القصيدة التي يتحدث عنها والأبيات التي أوردها هـي من قصيـدة ( الرجال الجوف ) وليست ( الأرض الخراب ) . والتاريخ الـذي أورده هـو تاريـخ صدور قصيدة ( الرجـال الجوف ) وليس ( الأرض الخراب ) . (20)

    أن الخطأ في حد ذاته ليس عيبا خاصة في تلك الفترة المبكرة ولكن العيب كل العيب في إغفال تصحيح هذا الخطأ في الطبعات اللاحقة للكتاب . و يتحمل الناشر وأصحاب امتياز حقوق نشر أثار سلامة مسؤولية تكرار هذا الخطأ في الطبعة الثالثة الصادرة في 1978م . فالواجب كان يحتم عليهم إزالة هذا الخطأ حتى لا يشوش على ثقة القارئ في أحد أهم من حملوا لواء التنوير ووهبوا حياتهم ثمنا له .

    أليوت ولويس عوض

    بالرغم من إشارات معاوية نور الرائدة إلى تجربة اليوت الشعرية في أوائل الثلاثينات ومحاولته تطبيق اطروحات اليوت النقدية لتقد شعراء الحركـة الرومانسية العربية ، إلا أن ت . س . اليوت لم يعرف في العالم العربي على نطاق واسع إلا بعد نحو عشرين سنة . وذلك بعد أن عاد الأديب والناقد المصري الدكتور لويس عوض من جامعة كمبريدج إلى مصر عند نشـوب الحـرب العالميـة الثانيـة ليدرس الأدب الإنجليزي بجامعة فؤاد الأول ( القاهـرة ) حيث نشر مقالته الشهيرة عن أليوت سنة 1946 وذلك بمجلة ( الكاتـب المصري ) التي كان يرأس تحريرها آنذاك الدكتور طه حسين . ونشرت المقالة فيما بعد في كتاب ( في الأدب الإنجليزي الحديث ) والذي صدرت طبعنه الأولى سنة 1950م .

    ويرى محمد عبد الحي أن مقالة لويس عوض التي يصفها بوضوح الفكر والأسلوب ، أول محاولة جادة وحقيقية للتعريف باليوت " كتبت بروح تبشيرية منحتها قوة ، لمست وترا مشدودا في وجدان جيل من الشعراء الشبان الذين كانوا يبحثون عن أنغام جديدة تعيد للشعر حيويته بعد أن أحسوا أن أنغام الرومانتيكية قد وهنت ولم تعد تقوى على حمل تجـارب العصر " . (21)

    إلا أن جوهر مقالة لويس عوض ، حسب عبد الحي ، ينحصر في موقفه الذي يتراوح بين الإعجاب والرفض في آن واحد معا . فهو معجب أشد الإعجاب بأسلوب اليوت الشعري الحداثي الذي يصفه بأنه نقطة تحول في تاريخ الشعر الإنجليزي والعالمي ومعجبا بثقافته الموسوعية وموهبته النقدية الفذة ، لكنه رافض لآرائه الفكرية التي يصفها بالرجعية وبأنها ثورة على ثورتين لا على ثـورة واحدة . فهو يصف اليوت بأنه منحاز للأستقراطية ناقم على الرأسمالية وحضارة الآله التي يرى فيها سبب شقاء البشرية .، لكنه رافض في ذات الوقت لثورة 1917م ويرى أن إحلال الشيوعية محل الفردية كالاستجارة من الرمضاء بالنار . لذلك فهو يصفه بأنه " مفكر طبقي ، يندب طبقته التي اختفت وتختفي مع زبد القرون وبأنه روح هائم عبر القرون وعبقري ولد بعد جيله بأجيال ، فزمانه الطبيعي هو العصور الوسطي وبيئته الطبيعية هي حضارة الإقطاع ، وهو نهاية مدنية بائدة ونرجو لها أن تبيد " . (22)

    ويرى عبد الحي في هذا الحكم القاسي على موقف اليوت الفكري بأنه محاولة لتبرير تأثر لويس عوض وجيله بأسلوب اليوت الشعري من جهة وبالفكر الماركسي من جهـة أخري . وتطمع هذه المحاولة في الجمع بين النقيضين إلى قبول اليوت فنيا ورفضه فكريا . " وقد كان لهذه المحاولة للجمع بين الشكل الفني لاليوت والمضمون الثوري تأثير كبير على جيل كامل من الشعراء الجدد في العالم العربي " . (23)

    وموقف لويس عوض التراوح بين الرفض والقبـول لاليـوت ، حسب عبد الحي ، هو انعكاس لموقف الشعراء الشباب التقدميين المنتمين إلى اليسار الماركسي من أمثال ، ستيفن سبندر ، سيسيل داى لويس ولوى ماكنيس وأودن الذين امتزجت أفكارهم الثورية الماركسية باكتشافات علم النفس المحدث وتقاليد الفلسفة الإنجليزية التي تشربوا بها في جامعة اكسفورد . وقد حاول الشاعر والناقد سيسيل داى لويس في مقالة له بعنوان " الثوريون والشعر " نشرت سنة 1936م التبرير لفكرة قبول اليوت فنيا ورفضه فكريا بقوله : " مدخلنا لقبول قصيدة ما هو جودتها ، وأعنى بذلك ، الجودة الفنية ، فالقصيدة ذات الصياغة الرديئة مثل المنزل ذي المعمار الركيك ، لا يشفع له أن بنى هيكله معماري وعامل لهما وعـى طبقي . فالقصيدة أيضا قد يتفوق في نظمها برجوازي رجعي ، ولكنها تظل لجودتها ذات فائدة للشاعر الثوري . و ( الأرض الخراب ) قصيدة من هـذا النوع . فالقصيدة الجيدة الصنع لابد أن تكون ذات فائدة ، فهي تطلعنا على طبيعة تفكير فئة من الناس ، قلت أو كثرت " . (24)

    وكان داى لويس قد أصدر سنة 1934م عن جامعة اكسفورد كتاب ( أمل الشعر ) يقول عنه عبد الحي أنه كتاب صغير الحجم ، قرأه لويس عوض سنة 1938م في سنته الأولي في كمبريدج وأعتبره مانفيستو الشعراء الشباب الذين جمعوا بين الماركسية والتأثر بأسلوب اليوت الشعري .

    وقد تركت هذه النظرة التوفيقية القائمة على قبول اليوت فنيا ورفضه فكريا أثرها على رواد الشعر الحديث في العالم العربي من أمثال بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي وأدونيس وصلاح أحمد إبراهيم ، وغيرهم من الشعراء الذين ارتبطوا بدرجات متفاوتة بالفكر اليساري وبالبحث عن أساليب جديدة للتعبير الشعري . وقد وجد هؤلاء الشعراء ، كما يقول محمد عبد الحي حلا مريحا لبعض الوقت ، في معادلة لويس عوض وسيسيل داى لويس في التعبير عن الآراء التقدمية التي يؤمنون بها .

    ويعدد لويس عوض في مقالته أهم الخصائص الفنية التي تميز شعر اليوت على مستوى الشكل والمضمون . فمن حيث الشكل يرصد عدة ظواهر أسلوبية تميز طريقة الكتابة الشعرية وهي :

    1- إذا كان الشعر التقليدي في السابق يقوم على التتابع المنطقي فـي أي جـزء من أجزاء السياق وفي السياق كله وما خرج على ذلك يعد هذيان محموم أو ترهات مجنون . فشعر اليوت والشعر الحديث عموما لا يقوم على التتابع المنطقي بقدر ما يقوم على تدافع العواطف والذكريات بلا ترابط منطقي بين أجزاء السياق .

    ويرجع الدكتور لويس عوض هذه الظاهرة إلى سببين : الأول إنها نتيجة من نتائج الثورة على العقل التي عمت أوربا في فترة ما بين الحربين بعد أن ثبت للأوربيين إفلاس العلم وعجزه عن تحقيق التقدم والسلام المنشود للإنسانية . والثاني تأثر الشعر بفن السينما الذي يقوم على الانتقال المفاجئ من منظر إلى آخر دون اعتبار لصلات الزمان أو المكان أو التسلسل المنطقي في عملية الانتقال هذه والاعتماد التام على وحدة الفيلم في مجموعه .

    2- استخدام ما يعرف بتيار الوعي أو ما أسـماه لـويس عـوض ، بالتداعـي اللامترابط في التعبير عن التجارب الشخصية ، فاليوت " يحشو شعره باختبارات شخصية لا يشاركه فيها إنسان ، وهو لا يمهد لهذه الاختبارات الشخصية بل يدمجها في السياق إدماجا دون رابط .. " ويفسر لويس خاصية التداعي الحر للذكريات في الشعر الحديث إلى انسحاب الفنان الفرد المشفق على فرديته منهزما أما القوى الحضارية الجديدة التي تسحق الفردية سحقا وإصراره على إعـلان اختياره الشخصي .. فهي بمثابة احتجاج على روح المجموع التي انتشرت بمجـيء الانقـلاب الصناعي .

    3- استخدام الصور الشعرية والتشبيهات المستمدة من منجزات الحضارة الآلية والعزوف عن التشبيهات المستمدة من مظاهر الطبيعة التقليدية . ومن الأمثلة التي يوردها على ذلك تشبيه اليوت للمساء بمريض يرقد مخدر على منضدة جراح الذي سبق أن أشار إليه معاوية محمد نور في إحدى مقالاته الرائدة .

    4- الإفادة من تقاليد المدرسة الرمزية في فرنسا لا سيما أشعار لافورج ورامبو وفاليري الأمر الذي زاد من غموض الشعر الحديث على حد تعبير لويس عوض .

    5- استلهام التراث القديم عن طريق اقتباس إشارات وتضمينات من الديانات والأساطير القديمة لمختلف الشعوب .

    هذا من حيث الظواهر الأسلوبية التي تميز شعر اليـوت حسـب الدكتـور لويس عوض . أما من حيث المضمون والرؤية الشعرية فيخلص إلى أن اليوت شاعر حزين ومتشائم . غير أنه يرى أن تشاؤمه كان في البداية ممزوج بشيء من الميل إلى الدعابة والسخرية وحزنه كان خاليا من المرارة ولكن نشوب الحرب العالمية الأولي أدخله في أزمة روحية حادة أفقدته الثقة في الحياة وفي الحضارة . ويدلل على ذلك بقصائد : ( الأرض الخراب ) و ( الرجال الجوف ) ويرى فيهما ابلغ رثاء للعالم وللحضارة للإنسانية ويصفهما بأنهما " أشبه بقداس كئيب في كاتدرائية فخمة خربة " . ويرى أن شعر اليوت في فترة ما بين الحربين شعر الكارثة " فالمحن تكسر روح الإنسان واليوت شاعر عامر بإنسانيته وفنه منصرف إلى استنباط الرموز الصالحة للتعبير عن جد الحياة الإنسانية " .

    ولعل في ذلك ما يفسر النزعة الصوفية التي يحاول اليوت التعبير عنها في قصائده . غير أن لويس عوض يرى أن تصوف اليوت تصوف غير أصيل . أنه تصوف " مستعار من تأملات الغير وليس تصوفا صادقا مبنيا على الاختيار المباشر .. فهو ثمرة اجتهاد المفكر في اختراق حجب الغيب أكثر من إشراق الصوفي في ساعة الوجد " ودليله على ذلك أن اليوت غاضب ويائس وحزين والصوفية الحقة تتناقض مع كل هذه العواطف الكدرة إذ أنها تقوم على الاندماج في الكل والاتحاد مع سر الكون وسقوط الغشاء الذي يعوق الحواس من التغلغل وراء الظواهر " . واليوت في نظره لم يصل قط إلى الصفاء الأبدي أو النرفانا بلغة الهنود ، لذا فهو ليس شاعر صوفي بل شاعر ديني على طريقة خاصة ، أو شاعر مسيحي كنسي .

    وما قاله لويس عوض عن صوفية اليوت بصدق على كثير من الشعراء العرب الذين تأثروا بنزعته الصوفية التأملية من أمثال أدونيس ويوسف الخال وخليل حاوى وصلاح عبد الصبور ومحمد عبد الحي . فهؤلاء الشعراء ليسوا بمتصوفة وإنما يتمثلون أساليب المتصوفة وتأملاتهم للتعبير عن رؤاهم الشعرية .

    لم يكتف لويس عوض بالتبشير بالاسلوب الشعري لأليوت بل قرر أن يخوض بنفسه تجربة الكتابة على هذا النمط الجديد فأصدر سنة 1947م أي بعد سنة من نشر مقالته التبشيرية ، مجموعة قصائد تحت عنوان ( بلوتو لانـد وقصائـد أخرى ) . نظمت هذه القصائد في الثلاثة سنوات التي قضاها بجامعة كامبريدج ما بين 1938م و 1940 قبل أن يعود إلى مصر عند نشوب الحرب العالمية الثانية . وعلى الرغم من أنه يقر بأنه ليس بشاعر إلا أنه يقول أن الغرض من شعر الديوان هو فتح الباب أمام الشعراء العرب الشباب للتجريب والخروج على عمود الشعري العربي الذي لم يعد قادرا على استيعاب الأساليب الحديثة في الكتابة الشعرية في نظره .

    لذلك فالسمة المميزة لقصائد الديوان هي الخروج على العروض الخليلي . فقد تراوحت ما بين الشعر المرسل وهو الشعر المتحرر من القافية المحتفظ بالوزن والشعر المنثور وهو المتحرر من القافية والوزن معا على حسب تعريف لويس عوض . إضافة إلى قوله أنه ابتكر وزنا جديدا على أوزان الخليل الستة عشر هو وزن ( فاعلن ، فاعلـن ، فاعلـن ، ) . وإدخاله لغة الكلام أو اللهجة الدارجة في النظم والاعتماد على وحدة القصيدة أو تسلسل المعنى في كل أجزاء القصيدة بديلا عن وحدة البيت . وإجمالا يمكن القول أن قصائد الديوان حوت كل الخصائص الأسلوبية والبنيوية للقصيدة الحديثة على الرغم من ضعف قيمتها الفنية لافتقار صاحبها للموهبة الشعرية .

    إلا أن القيمة التاريخية والأدبية الحقة لهذا الديوان تكمن في المقدمة التي أستهل بها لويس عوض الديوان والتي أختار لها عنوانـا اسـتفزازيا تحريضيا هو : ( حطموا عمود الشعر ) . فقد كانت هذه المقدمة بمثابة مانيفستو أو بيان تأسيس لحركة الشعر الحديث التي انطلقت في العالم العربي في نفس سنة صدور الديوان . ولعل أهم الأفكار التي وردت في هذا ( البيان ) دعوة جيله من الشعراء الشباب آنذاك إلى كسر عمود الشعر العربي والخروج عن الأوزان الخليلة وتجاوز التعريف التقليدي للشعر بأنه هو الكلام الموزن المقفى وكذلك تجاوز المفهوم القديم للغة الشعر واستخدام لغة الكلام والمفردات المستحدثة في الكتابة الشعرية . ولم يكتف بالدعوة إلى كسر عمود الشعر وعمود اللغة وحسب بل دعي إلى " كسر رقبة البلاغة " التقليدية .

    ومن الأسباب التي يوردها لويس عوض لدعوته الشعراء إلى تحطيم عمود الشعر العربي ، هي زعمه أن الشعر العربي ( التقليدي ) قد مات بموت أحمد شوقي في 1932م . وأن الجيل الجديد جيل مختلف عن جيل شوقي ولم يعد الشعر العربي بشكله القديم يستوعب همومه وتطلعاته . ويصف هذا الجيل الذي ينتمي إليه بأنه أكثر إحساسا بالشـعر مـن جيـل شوقـي ويعـدد حيثيـات هـذا الاختلاف بقوله : " .. إن جيلنا يحس الشعر أكثر مما أحسه جيل شوقي ، فجيلنا معذب ، وجيلنا ثائر وجيلنا عاش في الأرض الخراب التي انجلت عنها الحربان ورقص حول شجرة الصبار ، وجيلنا لم يولد بباب أحد ، وجيلنا يقرأ فاليري و ت . س . اليوت ولا يقرأ البحتري وأبا تمام ، وجيلنا يكسب قوته بعرق جبينه ، ويكافح الاستعباد والاستبداد ولا يشترى القيان من سوق النخاسة كما كانوا يفعلون وجيلنا عزيز لا يعفر الجباه لأحد ، وجيلنا سخي يتسع قلبه للإنسانيـة جمعاء " . (25)

    ولقد لقى الديوان ردود فعل متباينة . فقد قوبل بصمت شامل من الصحافة باستثناء مقال " طويل شجاع كتبه الدكتور حسين مؤنس في جريدة البلاغ يحي فيه الديوان تحية غير ممنونة – بسبب دعوته للتجريب " وفي جامعة القاهرة تجاوب معه بعض الطلاب الذين صار لهم شأن في دنيا الأدب منهم صلاح عبد الصبور وفاروق خورشيد . كما قوبل ببعض الرضا من الدكتور طه حسين وبعدم الرضا من الأستاذ العقاد " .(26)

    وبعد مضى أكثر من نصف قرن على صدور الديوان يعيد صاحبه النظر إليه بحكمة الشيوخ ويقول عنه بأنه كان " من آثار عبوديتي للشاعر ت . اس . اليوت أيام شبابي " . بينما يصف المقدمة الملتهبة للديوان بأنها كتبت في درجة حرارة مرتفعـة " لأنهـا كتبت في مناخ الدعوة للثورة على جمود العهد البائد وفساده والدعوة للخروج من القديم . ولذا فهي وثيقة تاريخية بغض النظر عن صحة مضامينها أو عـدم صحتها . إذ أنها تصور مناخ تلك الفترة ( 1945 – 1952 ) المشبع بالثورة والتحدي في الأدب والفن والفكـر الفلسفي والسياسـة والاقتصاد والقيم الاجتماعية والأخلاقية " . (27)



    ________________

    * فصل من كتاب تحت الطبع : " تاثير اليوت علي القصيدة العربية الحديثة
    ** نشرت بمجلة كتابات سودانية

    الهوامش والمصادر:

    1- معاوية نور ونقد الرومانتيكين العرب في الثلاثينات – د. محمد عبد الحي – مجلة الدوحة – السنة الرابعة العدد 40 – أبريل 1979م .

    2- القالب في شعر العقاد – معاوية محمد نور – جريدة الجهاد – العدد 590 – 3 مايو 1933م – نقلا عن – مؤلفات معاوية محمد نور – إعداد الرشيد عثمان خالد – دار الخرطوم للطباعة والنشر – ص 216 .

    3- المصدر السابق

    4- المصدر السابق

    5- المصدر السابق

    6- المصدر السابق

    7- أصدقائي الشعراء : هذا لا يؤدى – معاوية محمد نور – مجلة الرسالة العدد 67/68 – 15 و 22 أكتوبر سنة 1934م – نقلا عن من آثار معاوية محمد نور – جمع د. الطاهر محمد على البشير – الدار السودانية الطبعة الأولي 1970م – ص 257 .

    8- معاوية نور ونقد الرومانتيكين العرب في الثلاثينات – سبق ذكره .

    9- أصدقائي الشعراء هذا لا يؤدى ا سبق ذكره

    10- المصدر السابق

    11- المصدر السابق

    12- المصدر السابق

    13- المصدر السابق

    14- المصدر السابق

    15- المصدر السابق

    16- المكان – قصة تحليلية – معاوية محمد نور – جريدة مصر – العدد 10324 – 11 نوفمبر 1931 – نقلا عن - مؤلفات معاوية محمد نور – إعداد الرشيد عثمان خالد – سبق ذكره .

    17- المصدر السابق .

    18- الأدب الإنجليزي الحديث – سلامة موسى – سلامه موسى للنشر والتوزيع – الطبعة الأولي 1933م – الطبعة الثالثة 1978م ص 147 .

    19- معاوية نور ونقد الرومانتيكيين العرب في الثلاثينات – ومحمد عبد الحـي – سبق ذكره .
    20- د. محمد احمد البدوي - اوتار شرقية علي القيثار الغربي .

    21- في الأدب الإنجليزي الحديث – د. لويس عوض – الطبعة الأولي 1950م الطبعة الثانية 1987م – الهيئة المصرية للكتاب – ص 286 .

    22- معاوية نور ونقد الرومانتيكيين العرب في الثلاثينات – د. محمد عبد الحي سبق ذكـره .

    23- المصدر السابق .

    24- بلوتولاند – د. لويس عوض – الهيئة المصرية العامة للكتاب 1989م ( الطبعة الأولي 1947م ) ص 10

    25- المصدر السابق ص 137 .

    26- المصدر السابق ص 148 ، 141 .













    (عدل بواسطة Agab Alfaya on 12-22-2005, 11:02 PM)

                  

العنوان الكاتب Date
مأساة تموز او في التناص بين اليوت وبدر شاكر السياب Agab Alfaya12-16-05, 08:53 PM
  Re: مأساة تموز او في التناص بين اليوت وبدر شاكر السياب Sidig Rahama Elnour12-17-05, 01:56 AM
    Re: مأساة تموز او في التناص بين اليوت وبدر شاكر السياب Agab Alfaya12-17-05, 12:22 PM
  Re:مفتاح قصيدة الارض الخراب Agab Alfaya12-17-05, 09:14 PM
  Re: التناص بين اليوت وصلاح عبد الصبور Agab Alfaya12-19-05, 01:11 PM
  Re: التناص بين اليوت وصلاح عبد الصبور وعبدالمنعم الفيا Agab Alfaya12-19-05, 01:16 PM
  Re: معاوية محمد نور واليوت Agab Alfaya12-22-05, 11:00 PM
  Re: مأساة تموز او في التناص بين اليوت وبدر شاكر السياب عجب الفيا01-25-06, 02:01 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de