|
Re: ومع ذلك - د. عبدالله علي ابراهيم (Re: Agab Alfaya)
|
ومع ذلك
هويتنا: جعجعة قضاعة وكشكشة ربيعة
د. عبد الله علي ابراهيم
كنت قد إقترحت يوماً في ندوة بدار النشر بجامعة الخرطوم في آخر الثمانينات مفهوماً سميته "التوسع في العروبة". وقلت بهذا المفهوم في معارضة من قالوا بأن عروبتنا مجرد خديعة أو فرية طال سجننا فيها ووجب علينا خلعها وإكتشاف أصلنا في افريقيا. وأضفت قائلاً أنه لم يحدث أن التحم السودان بالعرب التحاماً وثيقاً خلال القرون العشرة من مجئ الأخيرين هنا مثل ما نفعل منذ السبعينات بالهجرة الكبري الي الجزيرة العربية والخليج. وكانت الهجرة الأولي طلباً لذهب وادي العلاقي وكانت الثانية هي حمي ذهب العرب الأسود. وما بين الهجرتين كانت علاقة السودان بالعرب شاحبة أبقت علي أكثرها مصر بأشكال شتي منها الغليظ والسمح. وقلت للندوة أن الهوية ليست وعياً جزافياً أو إعتباطياً لأنها تستمد مددها الكبير من إقتصاد ما. وأقتصادنا منذ السبعينات رهين الهجرة الي بلاد العرب. وقد سماه الدكتور عبدالسلام سيدأحمد بإقتصاد المغتربين. وأحتلت فيه تحويلات المغتربين وما تزال أكبر قسط في الدخل القومي.
آثار هذه الدورة الثانية من التحامنا بالعرب مشاهدة غير أنها لا تحظي بدرس جدي من منظري الهوية. فمن بين مشاكلنا التعليمية المتجددة مسالة الشهادة العربية التي تتحفظ عليها جامعاتنا و"تفتلها" بسعر صرف متدن. وقرأت أعظم دفاع عن المواطنة من والد مهاجر يعتقد أن تبخيس شهادة أولادهم وبناتهم خرق لحقوقهم كمواطنين دافعي ضرائب. وقبل ايام قرأت تحليلاً لنتائج إنتخابات جامعة الخرطوم نسب كثرة أصوات المتشددين الأسلاميين الي طلاب الشهادة العربية الذين جاءوا من بيئات مدرسية مفرغة من السياسة. وكنت قد قرأت تحليلاً غاية في الذكاء للدكتورة فيكتوريا بارنال في مجلة "الدراسات المقارنة في المجتمع والتاريخ" (1994) وضحت فيه أثر إقتصاد المغتربين الغالب في الصحوة الإسلامية منذ السبعينات.
خطر لي مفهوم التوسع في العروبة أول مرة وأنا أقرأ عموداً لحبيبنا (جد) الطيب محمد الطيب طمأن به المغتربين أن كلمة "زول" هي كلمة عربية فصحي وليست أثراً من "رطانات" السودان كما زعم لهم عرب العقالات. وقلت في نفسي أن المرء ليتوسع في الشيء إذا عقد المقارنات وأخسأ المنكرين وبرهن أنه أصل فيه. فالذي يقول أن "زول" كلمة عربية إنما طلب صفاء اللغة وتوثيق شجرة نسبه في العروبة. ولم يكن لتقع هذه المقارنة والتحقيق والتوثيق لهذه الجمهرة الواسعة من السودانيين لو لم نبلغ ديار العرب العاربة ونتدافع بهم ومعهم و"نجارطهم" في أمر هويتنا في إطار إقتصاد الإغتراب. وربما أرد الصيت الواسع للمرحوم البروفسير عبدالله الطيب علي عهده الأخير الي أنه كان بإحسانه المعروف للعربية يخزي العرب الهازئة ويشهد لنا.
ومن افضل ما قرأته في باب التوسع في العروبة هو ما كتبه الأستاذ عبدالمنعم عجب الفيا (الصحافي الدولي 10-9-2001). فقد قال أنه أملي يوماً علي سكرتيره العربي في المهجر خطاباً. ثم لما قرأه وجده كتب "رغم ذلك" ك "رقم ذلك" لأن نطقه، كسوداني لسان أمه العربية، يقلب "الغين" الي "قاف". وقاد هذا الأستفزاز عجب الفيا الي مبحث طويل في ظاهرة قلب الحروف في العربية قديماً وحديثاً لكي يبرهن أننا لسنا "الوحيدين بين العرب" الذين ينطقون الغين قافأ. وذكر من تراث العرب كنعنة قبيلة تميم التي تقلب الهمزة الي عين، وكشكشة قبيلة ربيعة التي تقلب الكاف شيناً، وجعجعة قضاعة الذين يقلبون الياء جيماً. وقال أننا مثل قضاعة (التي هي من تميم) في قولنا "مسيد" ل "مسجد". وتوقف عجب الفيا عند قلب الغين قافاً. وقال أن أحوال نطق القاف مختلف عليها بين العرب. فأهل مصر ينطقونه همزة أو الفاً وبعض صعيد مصر وفلسطين ينطقونه مثلنا. وأهل الخليج ينطقونه جيماً. وختم مرافعته قائلاً "أننا لسنا الشعب الوحيد بين الشعوب العربية الذي ينطق القاف أشبه بالغين". بل وذهب الي القول أن نطقنا هذا هو النطق العربي الأصلي لهذا الحرف كما ورد في كتاب للدكتور ابراهيم أنيس العضو المؤسس للمجمع اللغوي بالقاهرة. وعلق عجب الفيا قائلاً أن نطقنا للقاف هو بالتالي "سجية في اللسان العربي". وذيل عجب الفيا مقاله بجملة مراجع شملت لسان العرب والصاحبي والسيوطي.
ولا أعرف بياناً ابلغ من قول عجب الفيا أسند به مقولتي عن التوسع في العروبة. فهو ليس عربياً بالسجية فحسب بل هو ساهر ليله علي المعاجم يشهدها صدق عروبته التي إزدري بها مروؤس له في موقع من مواقع إقتصاد المغتربين.
* جريدة الصحافة - 15/5/2004
|
|
|
|
|
|
|
|
|