الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة"

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-03-2024, 01:57 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الرابع للعام 2008م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
11-29-2008, 01:24 PM

adil amin
<aadil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 36971

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" (Re: adil amin)

    قالت له: لكنني أخبرتك بالعهد والقسم الذي قيّدني به أبي. وأنا لست طامعة بالبيت.
    قال بسخرية: لست طامعة بالبيت؟‍ أفتظنين أن بإمكانك أن تخدعينا بمثل هذا القول ؟ أنت غير طامعة ببيت يقدّر ثمنه بعشرات الألوف من الدنانير؟‍
    قالت له: أنت تدري أنني لم أكن طامعة يوماً بمال أو أي شيء يا ناظم. لكنني لا أقدر أن أحنت بعهدي وبقسمي على كتاب الله.
    فهب وافقا وقال بحدّة: الآن توضح كل شيء. المسألة كلّها أنك راغبة في الاحتفاظ بالبيت يا مليكة. وما تقولينه ليس سوى حجّة. واعلمي أن هذا هو رأينا جميعا .
    تطلعت مليكة إلى القط ناظم وقد غشي وجهها الأسى.
    - كيف فعلت بي ذلك يا ناظم؟ كيف طاوعك قلبك على أن تفعل بي ذلك؟‍‍‍‍!
    ويا للحزن الذي دهمها ذلك اليوم! أمن المعقول أن يظن بها إخوتها وأخواتها الظنون؟! ولم يغمض لها جفن حتى الصباح. وحاولت أن تهوّن على نفسها باتهامه بالكذب. لكن زيارة نظيمة لها بعد أيام بدّدت شكوكها.
    رمقت مليكة القطة نظيمة في اشمئزاز فشردت عيناها.
    - كيف ارتضيت بذلك يا نظيمة؟
    كانت تعتقد أنها آخر شخص يمكن أن يوافق على إيذائها. فهي تعلم كم تحبها! قالت لها: جئت لأحادثك بشأن الوصية يا أختي مليكة.
    قالت لها في مرارة: وهل أنت بحاجة إلى ثمن البيت أيضا يا نظيمة؟
    فقالت: ليست المسألة مسألة حاجتي إلى ثمن البيت يا أختي مليكة. لكنني لا أريدك أن تندمي على موقفك هذا.
    فقالت لها: ولماذا أندم؟ هل أنا الذي اضطررت أبي الى كتابة الوصية؟ أنتم تعرفون زهدي في كل شيء.
    فقالت: ولأننا نعرفك يا أختي مليكة لا نريدك أن تخطئي بحق نفسك كما أخطأ أبونا في حقنا فتندمي فيما بعد على موقفك غير العقلاني.
    قالت لها: فهل كسر العهد الذي ارتبطت به تجاه أبي هو الموقف العقلاني يا نظيمة؟ وهل الحنث بالقسم على كتاب الله هو الموقف العقلاني؟
    فقالت: ولكن هناك أمور أهمّ من هذه يا أختي مليكة. فإخوانك بحاجة إلى المال. وثمن البيت اليوم يقدّر بالآلاف المؤلفة بعد أن تغيّر وضع شارعنا وصار من الشوارع التجارية المهمة. فلابد لك أن تساعديهم.
    فقالت لها: ليتني أقدر على ذلك يا نظيمة. لكنني أخاف عقاب الله في الآخرة. ولا أريد أن يتعذب أبي في تربته.
    فقالت: للضرورة أحكام يا أختي مليكة. ولاشك أن الشرع يسمح لك في مثل هذه الحالة بالحنث باليمين. وأبونا المرحوم لن يتعذب في تربته لأنه سيفهم دوافعك للتنازل عن الوصية.
    فقالت لها: إذن سأستشير الشرع وأعمل بحكمه يا نظمية.
    قلّبت مليكة عينيها الكدرتين في وجوه القطط ووجهها ينضح بالمرارة فراحت تهز ذيولها بعنف.
    - ونفذت وعدي واستشرت الشرع فأكد لي اعتقادي. فماذا كنتم تريدونني أن أفعل بعد؟! هل يتوجب علي أن أحنت بقسمي على كتاب الله لأُرضيكم؟!
    رنت مليكة إلى القطة عزيزة ووجهها يطفح بالألم.
    - حتى زوجك حسين وهو الغريب بيننا لم يرحمني من ضغوطه يا عزيزة.
    فلقد زارها وقال لها باستخذاء: جئت لأوضح لك موقفنا من الوصية يا أخت مليكة وأنا متأكد أنك ستفهميننا وتعذريننا.
    فقالت له: أنا أفهم موقفكم يا أبا علي وأعذركم عليه.
    فقال: هذا هو المتوقع منك يا أخت مليكة. فكل من يعرفك يضرب المثل برجاحة عقلك. فمن الذي يمكنه أن يقدّر ظروفنا أكثر منك؟ فنحن المعلمين تحلّ علينا الصدقة.
    قالت له: لكل نصيبه في الحياة يا أبا علي .
    فقال: نحن محرومون حتى من الأحلام البسيطة يا أخت مليكة. ومن أحلامنا شراء بيت يظلّلنا سقفه. وكان أملنا أن يتحقق هذا الحلم بما تناله عزيزة من إرث أبيها. وإذا بنا نفاجأ بأنه أوصى بالبيت لك وحدك وحرم أبناءه وبناته. وبالطبع هذا لا يرضيك.
    قالت له: أنا معك في كل ما قلته يا أبا علي . وأنا لا يهون عليّ ذلك. لكنني أفهمتهم بالعهد الذي ربطني به أبي وبقسمي على كتاب الله.
    فقال: لكنك تعرفين يا أخت مليكة أن الظروف غير الاعتيادية تحل الشخص من قسمه. وهذا ما يؤكده الشرع.
    فقالت له: لكنني استشرت الشرع فأكد لي خلاف ما تقول يا أبا علي .
    فقال: ومن استشرت يا أخت مليكة؟
    فقالت له: استشرت إمام مسجدنا الشيخ عباس .
    فقال: الناس مغشوشون بالشيخ عباس يا أخت مليكة فهو لا يفهم شيئاً في الشرع. وأنا مستعد أن أصحبك إلى الشيخ جمعة إمام مسجد الشهداء ليؤكد لك بطلان كلامه.
    فقالت له: لا داعي لأن تتعب نفسك معي يا أبا علي. فلست راغبة في استشارة إمام آخر.
    فتفجر غضبه فجأة وهتف وهو ينهض: اظهري على حقيقتك أيتها المنافقة. فأنت تريدين امتلاك البيت وحرمان أخواتك وإخوانك من حقّهم. وهم الذين يتصورون أنك تحبينهم . كنت تخدعينهم طوال هذه السنين وتمثلين عليهم.
    سال خيطان من الدمع على وجنتي مليكة وهي تتطلع إلى القطة عزيزة فهاجت وراحت تتقلب على الأرض بعنف وتهرّ هريرا عاليا.
    - أنت لا ذنب لك يا عزيزة فيما فعله بي حسين. وأنا أدرى كم آذاك موقفه مني.
    ولقد فوجئت بها تقتحم عليها الدار وهي شاحبة الوجه زائغة العينين. وألقت بنفسها على كتفها وهي تطلق العنان لدموعها وتشهق شهيقا عالياً. فارتاعت لذلك وسألتها جزعة: ماذا بك يا عزيزة اسم الله عليك؟ هل حدث لأحدكم مكروه؟!
    قفالت من بين زفراتها: لن أشارك بعد اليوم في الضغط عليك يا أختي مليكة وليطلقني حسين إذا أراد.
    فسألتها جزعة: ولماذا يطلقك ؟! وماذا فعلت؟
    فقالت: إنه رمى عليّ يمين الطلاق إن قمت بزيارتك.
    قالت لها بارتياع: فكيف حضرت إذن لزيارتي يا عزيزة؟
    قالت في هياج: ليفعل ما يشاء فأنا لم أعد أصبر على ما نفعله فيك يا أختي مليكة. إنه ظلم. نحن ظلمناك ظلماً عظيما يا أختي مليكة. كل ذلك من أجل الطمع. وسيحاسبنا الله على ذلك حساباً عسيرا.
    قالت لها في ارتياع: وأنا يا عزيزة؟! ألم تفكري بما سيصيبني من حزن لو طلقك بسببي؟! ألا تعلمين أنك تحكمين عليّ بالعذاب لو حصل لك ذلك؟!يجب ألا تفكري بزيارتي مرة أخرى يا عزيزة إن كنت تحبينني. أبدا.. أبدا.
    قبّلت مليكة القطة عزيزة وقد طافت على ثغرها بسمة حزينة.
    - ما أطيب قلبك يا عزيزة. وما أشبه أخلاقك بأخلاق مالك.
    تحولت مليكة إلى القط مالك وحدّقت فيه بشغف فحنى رأسه بحزن.
    - لا تحزن يا مالك. لا تحزن يا أخي العزيز. أنا أقدّر ظروفك وأدري أن حسنية هي الملومة.
    فلقد ضاعت عليها فرصة عظيمة لكسب المال. وكم حلمت بتلك الفرصة. وما كان أمرّ خيبتها وهي تصغي إلى المحامي يتلو الوصية. وقد عجزت عن كتم خيبتها فقالت محتجة: "لكن هذا ظلم. كيف يحرم الأب أبناءه من نصيبهم في التركة؟".
    ولقد توقعت أن تبذل كل ما في وسعها لإبطال الوصية. وزارتها بعد أيام وقالت: جئت أتأسف لك يا مليكة عما قلته أمام المحامي. وأنا متأكدة أنك غير موافقة على الوصية. فأنت تخافين الله. والوصية فيها إجحاف وظلم.
    فقالت لها: أنت تعرفين بالظروف التي جعلت أبي يوصي لي بالبيت ياحسنية. فهو أراد أن يضمن لي مستقبلي.
    فقالت: لكنه ضمن لك مستقبلك يا مليكة. إنه أورثك تقاعده فلا أحد يشاركك فيه. فمالك موظف وناظم صاحب محلّ ونظيمة طبيبة وعزيزة معلمة. ولا حق لهم جميعا بالتقاعد.
    فقالت لها: ولكنه قيّدني بالقسم على كتاب الله يا حسنية.
    فقالت: على كل حال نحن نأمل خيرا على يديك يا مليكة .
    وعاودت زيارتها بعد أسبوع. قالت لها: أكيد أنك نويت التنازل عن الوصية يا مليكة.
    فقالت لها: إنني فكرت بذلك فعلاً يا حسنية لكنني لا أقدر على الإساءة إلى أبي في تربته وهو الذي أحبني طول عمره.
    فانفجرت تصيح في تهكم: وهل تصدقين أن أباك أحبّك لشخصك؟ إنه لم يكن يحب غير نفسه. وكان يعدكم جميعا عبيدا له . واتخذك أنت خادمة خصوصية حين لم يقدر أن يفعل ذلك مع أمك. وهو كتب البيت باسمك ليكافئك على خدمتك له لا أكثر. وسيحاسبه الله يوم القيامة حسابا عسيرا على ظلمه لأبنائه.
    فصاحت بها: أخرجي أيتها الحسودة. أنت التي سيحاسبها الله حساباً عسيراً جزاء ما فعلته بأخي مالك.
    رنت مليكة إلى القط مالك وابتسامة حزينة تفترش وجهها.
    - أنا عذرتك من كل قلبي على احتجابك عني يا أخي مالك فلا تحزن.
    وكانت تدرك أنه يتعذب بسبب ذلك عذابا أليما. وقد فوجئت به يوما يهل عليها ووجهه ينضح بالحزن. قال ورأسه منكّس إلى الأرض: فليسامحنا الله على ما نفعله فيك يا أختي مليكة. الله يلعن الطمع وهو أصل بلاء البشر .
    قالت له: أنا أعرف ظروفكم يا مالك وأعذركم.
    فقال: لكنني لا أعذر نفسي يا أختي مليكة. وضميري يعذبني ليل نهار على ما نمارس من ضغوط عليك.
    قالت له: أنا سامحتكم يا مالك فأنتم أحبابي.
    فقال: إذا كنت أنت سامحتنا يا أختي مليكة فهل سيسامحنا الله؟ أهكذا نجازي أُمّنا؟ أهكذا نجازي الأخت التي رعت كل واحد منّا منذ كان طفلا حتى صار شاباً؟!
    وما راعها إلاّ ودمعتان تنحدران على خدّيه. هتفت وهي تدق على صدرها: اسم الله عليك يا مالك. أنا التي يجب أن تدعو الله أن يسامحها على ما سببته لكم من أذى. هل من المعقول أن يأتي عليّ يوم أراك فيه تبكي بسببي يا مالك؟!
    قال وهو يهز رأسه: الأطفال هم الذين يكسرون ظهري يا أختي مليكة. فحسنية هددتني بهجر البيت والأطفال إذا لم أشارك في الضغوط عليك. لكنني لم أعد قادرا على الصبر على ما نفعله فيك . سأقف إلى جانبك ولتفعل حسنية ما تشاء.
    فهتفت في جزع: وتخرب بيتك يا مالك؟! ومن سيرعى أطفالك؟! هل ستترك وظيفتك لتجلس في البيت وترعاهم؟!
    فقال: ليكن. كفاني تخاذلا أمام حسنية.
    فقالت له متوسلة: وأنا يا مالك؟ كيف سأحتمل خراب بيت أخي؟!
    فصمت طويلاً وهو مطرق ثم هز رأسه وقال: الله يرحمك يا أبي. أنت ضيعت فرص الزواج علي مليكة وبددت حياتها. ولولاك لكان لها بيتها الخاص ولما حدثت لها هذه المشكلة. أنت سيّرت حياتنا على هواك يا أبي .
    تطلعت مليكة إلى القط بابا وقد تعكر وجهها.
    - أنظر ماذا فعلت بي يا أبي. ألم أقل لك إن وصيتك ستؤذيني كثيرا؟!
    كانت تدرك ذلك منذ البداية. ومكثت أسابيع تقاوم رغبته حتى اضطرت أخيراً إلى الإذعان. وكان منذ لازم فراش المرض يطلق تأوهات موجعة كلما وقعت عيناه عليها. ولم تكن تقهم مغزى تأوهاته. وكانت تعزوها إلى آلام مرضه. وسألته مرة: لماذا تتأوه هكذا يا أبي؟! هل تثقل عليك أوجاع المرض إلى هذه الدرجة؟!
    فنظر إليها طويلاً ثم انفجر باكياً. فافترسها جزع عظيم. وعكفت على يديه تغسلهما بدموعها. وهدأ بكاؤه أخيراً فقال وهو ينشج: ليس ما أقاسي منه أوجاع المرض يا مليكة.. إنها أوجاع ضميري.
    قالت له بعجب: لماذا أوجاع ضميرك يا أبي؟ كنت طول عمرك تسير بما يرضي الله.
    فقال: أنا لا أخاف غضب الله عليّ بسبب عملي يا مليكة. إنني عشت طول عمري موظفاً نزيهاً وعادلاً ولم أعاقب يوماً أحد موظفيي إلا بالحق. لكنني أخشى عقاب الله على ما ألحقته بك من أذى يا مليكة.
    قالت له في عجب: وأي أذى ألحقته بي يا أبي؟! كنت طول عمرك تحبني من كل قلبك.
    فعادت الدموع تنهل من عينيه ثم قال: لكنني جنيت عليك بحبي يا مليكة. إنني حجبت عنك الحياة الزوجية وفوّت عليك فرص تكوين عائلتك وبيتك الخاص بك.
    قبلت جبينه وقالت له: ومن قال لك يا أبي إنني كنت سأسعد في بيتي الخاص كما سعدت في بيتنا معك ومع إخوتي وأخواتي؟
    فتأوه وأطلق الحسرات وعاد يقول بصوته المكلوم: إنني ظلمتك يا مليكة. ومهما تقولين من كلام فلن يهّون من شعوري بالذنب. كان يجب عليّ ألاّ أقف عائقاً في طريق زواجك. وفوق ذلك حرمتك من إكمال تعليمك. ولو أكملت تعليمك لصرت موظفة شأنك شأن أخواتك.
    قالت له: أقسم بالله العظيم يا أبي إنني لم أحلم يوما بسعادة تفوق ما نعمت به من سعادة في بيتنا. فكن مطمئن الضمير.
    فقال متوجعا: ولكن ماذا سيكون حالك من بعدي يا مليكة؟ من الذي سيرعاك حينما يتقدم بك العمر؟!
    فقالت له: وهل نسيت إخوتي وأخواتي يا أبي؟!
    فقال بحزن: سينشغلون عنك يا مليكة.
    قالت له: لا يا أبي.. لا. لا تقل ذلك عن إخوتي. وإذا كنت تحبني فلا تعاود التفكير في ذلك.
    رنت مليكة إلى القط بابا بعتاب.
    - أنت وعدتني ألاّ تفكر في هذا الأمر مرة أخرى يا أبي. لكنك لم تف بوعدك. فأنت ظللت تفكر فيه على الدوام.
    وفوجئت به يوما يقول لها: يا ابنتي العزيزة. ألا تحبين أن ارقد قرير العين في قبري؟!
    قالت له: اسم الله عليك يا أبي. إن شاء الله عمرك طويل.
    فقال: الحياة والموت بيد الله عزّ وجل يا مليكة. لكنني أحدس بأن أيامي باتت معدودة. وأريد أن أطمئن عليك لكي أرقد في تربتي قرير العين.
    قالت له: اسم الله عليك يا أبي. ستنام في تربتك قرير العين حينما يختارك الله إلى جواره. ولا تقلق عليّ فلي من إخوتي أكبر سند. ولن أكون وحيدة من بعدك.
    فقال: أدعو الله أن يكونوا عند حسن ظنك فعلاً يا مليكة. ولكن لا يعلم بالغيب إلا الله. وأنا أريد أن أطمئن عليك وأنا في قبري. وبإمكانك أن تساعديني في ذلك.
    قالت له في عجب: وكيف لي أن أساعدك في ذلك يا أبي؟!
    فقال: توافقين على أن أورثك هذا البيت فيكون لك سقف يظلّلك من بعدي ويبعدك عن العوز.
    فهتفت في جزع: مستحيل.. مستحيل يا أبي. كيف تريدني أن أغمظ حقوق إخوتي وأخواتي؟
    فقال: أنت لن تغمطي حق أحد يا مليكة. فأنت أحق الجميع بهذا البيت الذي خدمته وخدمت كل من عاش فيه منذ كنت صبية.
    فقالت له: لا يا أبي.. لا. لا تجعلني أخطئ بحق نفسي وأحرم إخواني وأخواتي من حقوقهم. ثم أنني سأكون في حمايتهم وسيقومون برعايتي ولن يتخلوا عني فهم يحبونني.
    فقال لها: ليس هناك عاصم من طمع الدنيا يا مليكة. والنفس البشرية جبلت على الطمع وحب الذات. فلا يغرنك ما تشهدينه من محبة أخواتك وإخوتك مادمت لم تمسّي مصالحهم.
    فقالت له في إصرار: مستحيل.. مستحيل يا أبي.
    افترش الحزن وجه مليكة وهي تسمر عينيها على وجه القط بابا.
    - ألم أرفض طلبك في إصرار يا أبي؟
    ولقد ظلت أسابيع تصم أذنيها عن توسلاته حتى انهارت عزيمتها. فقد كانت تراه يتعذب عذاباً منكراً بسبب إصرارها. وخشيت أن تكون سبباً في موته . وما أن أذعنت لرغبته حتى جعلها تقسم على كتاب الله ألاّ تغيّر وصيته لأي سبب من الأسباب.
    نقلت مليكة عينيها الحزينتين في وجوه القطط والدموع تتسابق على وجنتها. فهرّت هريراً قوياً وأشرعت مخالبها في وجه بعضها بعضا.
    - كيف طاوعتكم قلوبكم على إيذائي وأنا أُمّكم التي أحبتكم أكثر من نفسها؟
    ولم يخطر على بالها أبداً أنهم قد ائتمروا بها. وتلاحقت الأيام دون أن يطرق بابها أحد منهم. ولم تدرك مغزى ذلك. ثم زارتها حسنية وواجهتها بالحقيقة. قالت لها بتشفّ: هل رأيت ماذا كانت نتيجة عنادك يا مليكة؟
    فقالت لها: أفهمتك يا حسنية أنني ملتزمة بميثاق أبي لا أكثر.
    فقالت بهزء: لكن خدعتك هذه لم يعد يصدقها أحد.
    فقالت لها: الله يساعد أخي مالك عليك. ولن أقول لك أكثر من هذا.
    فقالت بسخرية: وهل مثلك الذي يتألم لحال مالك؟! كنت دائما تغشينه وتغشينني. والحمد لله الذي كشف زيفك للجميع. فأنت لا تحبين مالك ولا أيّ واحد من إخوتك وأخواتك. أنت تحبين نفسك فقط.
    قالت لها: أنت معذورة على لسانك الزفر يا حسنية. فالله خلقك بهذا اللسان.. ومعذورة أيضاً على حبّك الجنوني للمال فأنت ذقت مرارة الفقر في بيت أهلك .
    فقالت بسخرية : وهل كان أبوك الموظف غنيا ؟ أسكتي ولا تفضحي أهلك . ونفاقك انكشف للجميع. وجئت أخبرك بأن أخوتك وأخواتك اتفقوا على أن ينبذوك حتى تعيدي إليهم حقوقهم. وإذا ظللت متمسكة بعنادك فسيقيم ناظم الدعوى في المحكمة لإبطال وصية عمي المجنون.
    فشبت النار في جوفها وصرخت فيها باهتياج: أخرجي.. أخرجي وإلاّ قطعت لك لسانك.
    فولّت هاربة. وانهارت على الأرض ولم تعد تعي شيئاً.
    تطلعت مليكة إلى القطط وقد فار الحزن في وجهها.
    - كيف طاوعتكم قلوبكم على أن تفعلوا بي ذلك يا أحبابي؟!
    ويا لمرارة الأيام التي عصفت بها. كانت تمضي يومها في تفقد الغرف واحدة بعد الأخرى وهي تسترجع ذكريات أصحابها. وكان يومها أطول من أسبوع. وجرّبت أن تنشغل بقراءة مجلاّتها الأثيرة. لكنها لم تكن تعي حرفاً مما تقرأ. وكانت أشباح إخوتها وأخواتها تتقافز بين السطور. وكان الليل يرعبها. فقد كانت عيناها المفتوحتان تتسمّران في السقف.
    تدفقت دموع مليكة فهاجت القطط وأخذ يعضّ بعضها بعضا وهي تهر هريرا قويا .
    - ماذا فعلتم بي يا أحبابي؟! ماذا فعلتم بي؟
    وأخيراً تهاوت إرادتها. وفي تلك الليلة ألمّ بها ذلك الكابوس الفظيع. فقد انتصب شبح الأب بجوار سريرها وقد تفجر وجهه أسى . سألته فزعة: ما بالك حزيناً هكذا يا أبي؟
    فقال بتهكّم مرّ: أتسألينني عن حالي يا مليكة وأنت عزمت على الغدر بي؟!
    قالت له باكية: لكنني لم أعد قادرة على مقاومة ضغوطهم يا أبي.
    فقال باستنكار: وهل مثل مليكة ذات الشكيمة القوّية تستسلم للضغوط وتغدر بأبيها؟!
    قالت له وهي تبكي: أعصابي تلفت يا أبي وصارت حالي حال الضيم.
    فانفجر يبكي بحرقة. وتوسلت إليه أن يكفّ عن بكائه لكنه تمادى فيه. وقال بصوته الجريح: كيف لا أبكي يا مليكة وأنا أتوقع ما سينزل بي من عذاب؟! فأنا المسؤول عن قسمك على كتاب الله. وستحنثين بقسمك فينالني بلاء عظيم.
    ثم هبّت من نومها مرعوبة وجسدها يتصبب عرقا.
    شردت أنظار مليكة ووجهها يطفح بالحزن.
    - الحمد لله الذي جنّبني الوقوع في خطأ عظيم وحماني من الضغوط.
    فلقد استعادت تصميمها عند الصباح. وإذا كانت مشيئة الله ألا تكتحل عيناها برؤية أحبابها فلا رادّ لمشيئته. وعليها أن تصبر حتى لو استحالت حياتها إلى صحراء مقفرة. ولقد استحالت حياتها إلى صحراء مقفرة فعلا. كانت تقضي يومها هائمة بين غرف الدار وصور حياتها الغابرة تحاصره في كل مكان0
    تشبثت الابتسامة بشفتي مليكة وهي ترمق القطط بحبّ.
    - الله لا يحجب رحمته عن عباده يا أحبابي. وهو هداني إلى التغلّب على وحدتي ووحشتي.
    فحينما عادت ذلك الصباح من تبضعها من بقالة المحلة تبعها قط قذر الفروة بائس المنظر. وتعثرت به أكثر من مرة. وعند باب الدار تأملته وهو يرفع رأسه ويموء متوسلا فرقّ له قلبها .
    صافحت مليكة وجه القط بابا بنظرات رقيقة.
    - لا أدري كيف غلبتني أيها القط بابا. فأنا لم أحبب القطط يوما.
    وأدخلته البيت وغسلت له فروته وقدّمت له الطعام. وفي خلال أيام تبدّي بمظهر جديد. وتنامت ألفتها له يوماً بعد يوم. وتبدد شيء من وحشتها. وذكرّها وجهه الوقور بأبيها فأخذت تناديه بالقط بابا.
    التفتت مليكة إلى القط بابا وابتسامة صغيرة تترنح على شفتيها.
    - شكراً لك أيها القط بابا. فأنت الذي أوحيت لي بأن أسترد أفراد عائلتي.
    فلقد خطر لها أن تبحث له عن أليفة. وعثرت على قطة جميلة راقها منظرها فأحضرتها إلى البيت. وسرعان ما ألفا بعضهما بعضا.
    ابتسمت مليكة وهي ترنو إليهما بامتنان.
    - أنا أشكركما إذ هديتماني إلى جمع أفراد عائلتي أيها القط بابا وأيتها القطة ماما.
    فقد تخيرّت من القطط الضالة ما يشكّل كل أفراد عائلتها. ومنذ ذلك اليوم لم تعد تعرف للوحشة معنى.
    تأملت مليكة القطط وقد افترشت وجهها بسمة سعيدة.
    - أنا أشكركم كثيراً يا أحبابي. أنتم بددتم عني وحدتي ووحشتي.
    تقافزت القطط فوق بعضها بعضاً في مرح. وسرعان ما غام وجه مليكة ثانية.
    - ولكن ماذا سيحدث لنا يا أحبابي عندما يحضر الدلاّل بعد قليل ويطردنا من البيت؟ هل ستعودون أنتم إلى التشرد وأعود أنا إلى وحدتي ووحشتي؟ ماذا سنفعل وقد رفضت أم كريم كل توسلاتي؟!
    وكم بذلت من جهد لإقناع ام كريم. قالت لها: اطلبي ما تشائين من أجر للغرفة يا أم كريم بشرط أن تسمحي لي بالاحتفاظ بقططي.
    فقالت: أنا لا أوافق على شرطك حتى لو دفعت لي عشرات الدنانير.
    فقالت لها متوسلة: لكنها قطط لطيفة يا أمّ كريم ولن تزعجك أبداً.
    فقالت باستنكار: كيف أُدخل هذا القطيع من القطط في بيتي؟! الناس يحتفظون بقطة أو قطتين لا بسبع قطط.
    تأملت مليكة القطط وغيمة من الحزن تظلل وجهها.
    - صّدقوني يا أحبابي.. بذلت المستحيل مع أم كريم لكنني فشلت. وبحثت عن نزل آخر فلم أوفق.
    تلاحقت دموع مليكة فهرّت القطط هريراً عاليا.
    - الله كتب علينا التشرد يا أحبابي. فأنا أيضاً سأعيش في بيت أم كريم مستوحشة.
    سرحت عينا مليكة وهي مظلمة الوجه. وراحت القطط تتقافز في عنف.
    - قوموا يا أحبابي لنودّع بيتنا قبل أن يحضر الدلاّل.
    نهضت مليكة فتسابقت القطط وراءها. وتوقفت عند غرفة الأب. وطوّفت عيناها في أرجائها. والتفتت إلى القط بابا وقد أشرق وجهها.
    - ما كان أعظم سعادتي معك يا أبي!
    ضحكت ضحكة صافية وهي تسترجع تلك الحادثة في ذهنها. فقد انتظرته على الغداء ذلك اليوم كعادتها لكنه لم يحضر إلاّ عند المساء. وحينما رأى الصحون معدّة على المائدة سألها بانزعاج: ألم تتغدي بعد يا مليكة؟
    فقالت له: لا يا ابي فانا في انتظارك.
    فقال بارتباك: الحقيقة يا مليكة أنني تغديت. كان عندي اجتماع طارئ مع الموظفين وتغدينا معا. وكان يجب عليّ أن أتلقن لك وأخبرك لكن العمل شغلني فنسيت.
    وطوال المساء بدا وكأنه لا يدري كيف يتخفف من حرجه. فخطر لها أن تغتنم الفرصة وتفاتحه بقضية الموظف رشيد الحسوّن. وكانت زوجته قد زارتها وتوسطت لديها لرفع عقوبة أوقعها الأب عليه. وكانت تعلم أنه صارم مع موظفيه وأنه لا يسامحهم على إهمال أو تقصير. وتفوق في صرامته هذه على جميع مدراء الأفسام في وزارة المالية . وقد قال لها ناظم يوماً: " أبي لا يغفر لأحد الخروج على نظامه ودكتاتوريته.. لا في البيت ولا في العمل. لذلك يسميه موظفوه .. السيف".
    أصغى إليها وهو مطرق. وظل صامتا دقائق. ثم رفع رأسه وقال باسما: " كنت أخشى أن يكتشف موظفيي يوماً كيف يلوون ذراعي يا مليكة. وها قد فعلو. غداً سأصدر أمراً برفع العقوبة عن رشيد الحسون".
    ربتت مليكة على القط بابا بلطف فهز ذيله مسرورا.
    سارت مليكة في بطء والقطط تسير من حولها. وتوقفت عند غرفة الأولاد. والتفتت إلى القط مالك وهي ضاحكة العينين.
    - هل تتذكر يا مالك تلك الحادثة التي أغضبت فيها أباك؟! كانت تلك المرّة الوحيدة التي غضب فيها منك.
    فلقد مرّ بغرفة الأولاد في جولته التفتيشية فإذا بجدرانها مليئة برسوم غريبة. وكتب تحتها: " الدين ممنوع والعنب مرفوع". وكانت قد راقبت مالك وهو يخط تلك الرسوم على جدران الغرفة باهتمام. وسألته أين تعلّمها فأجابها إنه رآها مرسومة على واجهة دكان عطار المحلة. وقد سألها كيف يمكن أن يمنع الدين وكيف يمكن أن يكون العنب مرفوعاً فعجزت عن الجواب. وغضب الأب غضباً شديداً لمرأى تلك الرسوم. وهتف بمالك: " لماذا فعلت ذلك يا مالك؟ أنت أتلفت جدران الغرفة ". فانكمش مالك في موضعه وهو يرتعد فرقا. فخمد غضب الأب في الحال وقال له برقّة: لا تفعل ذلك مرة أخرى يا ملك. فجدران الغرفة ليست كسبّورة الصف.
    ماء القط ناظم بقوة فالتفتت إليه مليكة وابتسامة وضيئة تفترش وجهها.
    - أنا أعلم يا ناظم أنها غرفتك أيضاً وليست غرفة مالك وحده. وما أكثر ما أتعبته معك. وما أكثر ما أحرجته مع أبيك.
    هرّ القط ناظم باحتجاج فضحكت مليكة ضحكة رقيقة.
                  

العنوان الكاتب Date
الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" adil amin11-29-08, 01:20 PM
  Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" adil amin11-29-08, 01:22 PM
    Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" adil amin11-29-08, 01:24 PM
      Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" adil amin11-29-08, 01:25 PM
        Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" adil amin11-30-08, 08:30 AM
          Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" adil amin11-30-08, 11:56 AM
  Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" محمد الطيب يوسف12-03-08, 12:40 PM
    Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" adil amin12-04-08, 11:54 AM
    Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" adil amin12-04-08, 11:58 AM
      Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" adil amin12-06-08, 09:23 AM
        Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" adil amin12-06-08, 09:25 AM
          Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" adil amin12-07-08, 09:49 AM
            Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" adil amin12-11-08, 09:37 AM
              Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" adil amin12-12-08, 01:02 PM
                Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" adil amin12-12-08, 01:24 PM
                  Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" adil amin12-12-08, 01:26 PM
                    Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" adil amin12-13-08, 02:10 PM
                      Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" adil amin12-14-08, 11:24 AM
                        Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" adil amin12-18-08, 10:44 AM
                          Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" adil amin12-22-08, 01:37 PM
                            Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" adil amin12-22-08, 01:39 PM
                              Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" adil amin12-22-08, 01:40 PM
                                Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" adil amin12-22-08, 01:42 PM
                                  Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" adil amin12-22-08, 01:44 PM
                                    Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" adil amin12-22-08, 01:53 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de