الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة"

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-02-2024, 08:10 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الرابع للعام 2008م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
12-18-2008, 10:44 AM

adil amin
<aadil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 36971

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" (Re: adil amin)

    الفصل العاشر

    كانت العصافير تملأ الجو تغريداً في ذلك الصباح البهيج في مباني جامعة الخرطوم العتيدة.. صابر وهند يسيران في أروقة كلية القانون والسعادة لا تسعها انتهاء المشوار الطويل وبرزت مشاريع والعمل والزواج أمامهما طريق ممتد في معالم لا نهائية.. جلسا في الكافتريا الهادئة يحتسيان عصير الليمون ويتسامران في المواضيع التي تهم كل خطيبين.. حدقت هند في قطعة الثلج التي كانت تدور في كوبها مع اهتزاز يدها المستمر
    - أنتهت أيام الدراسة السعيدة يا صابر..
    وجه إليها صابر نظرة حب عميقة، إنها ابنة عمه وزواجه منها أضحى من البديهيات التي لا تقبل الجدل.. منذ أن انتشله عمه عبد اللطيف من قريتهم الكئيبة لم يعد مرة أخرى ولم تجدي توسلات أمه آنذاك بالعودة معها.. كان يرسل خطابات من حين إلى آخر، صابر إنسان طموح.. لكن طموحه من ذلك النوع الخطر الذي يجعلك تتخلى عن كل شيء يربط بالماضي.. إن قريته كانت بمثابة الشوكة في أحلامه الوردية التي ظل يخطط لها وينسق لها سنين عديدة.. كثيراً ما كانت هند تناوشه بتذكيره لأهله وأسرته في القرية فيبين الامتعاض على وجهه ويعاتبها على ذلك..
    - نعم مرت الأيام كالخيال والأحلام.
    هند التي يعرفها جيداً تطرقت إلى الموضوع الذي يكره سماعه.
    - هل ستعود إلى أهلك في طيبة ؟!
    نظر إليها في عتاب.
    - لم يعد لي أهل غيركم.. لك أن تتصوري إذا كنت لازلت هنا ماذا كنت أفعل الآن؟!
    ضحكت هند وهي تتخيل صابر يعمل في المزرعة أو يدفع أمامه قطيع من الأغنام إلى المراعي جوار البلدة.
    - ولم تأتي أمك ثانية منذ أن رفضت الرجوع معها.
    - أرجوك يا هند، دعك من هذا .. أنا صابر صهر المستشار عبد اللطيف، لا داعي تذكريني بأشياء عفى عليها الزمن.
    انفقا الساعات يتحدثان في مشاريع زواجهما المرتقب، سيفتح مكتب محاماة مستغلاً نفوذ عمه الجبار حتى يصبح محامي كبير يشار له بالبنان ثم ينجبا أطفال أصحاء متعافين يقومان بتربيتهم بالطريقة الحديثة، تعلم اللغة الانجليزية في الثالثة واللغة الفرنسية في الخامسة، سبحا في أحلامها طويلاً حتى تعالى آذان الظهر، نهض متجهين إلى مسجد الجامعة لأداء الصلاة مع بقية أفراد تنظيمهم، كان انضمام صابر إلى هذا التنظيم اليميني لشيء في فؤاد أم موسى.. في سبيل طموحاته المريضة ألقى جانباً كل ثقافته الاشتراكية التي تلقاها في سنين طفولته الأولى على يد المرحوم ود الزين، عندما كان ود الزين يقوم بتعليم أهل البلدة من جميع الفئات مبادئ الأفكار الاشتراكية، كانت اشتراكية ود الزين صوفية نابعة من وحي الآية الكريمة (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون).. لا زال صابر يذكر أن ود الزين لا تفوته صلاة في المسجد، كان لكلامه مفعول السحر في نفوس أهل البلدة اللذين يكنون له كل احترام.. أفزع صابر خاطر آخر.. تذكر عندما عاد عثمان ود البشير بعد أن تخرج من جامعة الخرطوم، جاء وهو يرتدي ملابس التخريج الغريبة التي جعلته أشبه بالخفاش، كانت مثار ضحك أهل القرية والأدهى من ذلك أن كلاب أبيه الجزار لم تعرفه فأخذت تطارده وتعوي خلفه وهو يجري ويتعثر وينظر إلى الجميع في إزدراء، تعثر وسقط على التراب وعضه أحد الكلاب في مكان حساس جعله يتلقى علاج السعر المؤلم في مستشفى المدينة، ومنذ تلك الحادثة لم يعد ابداً إلى البلدة.. وأصبحت قضية يتداولها أهل البلدة على كالأساطير.. صابر لا يريد أن يلقي هذا المصير البشع. آثر أن يسدل الستار على الماضي الذي راح وانطوى.. لا بد أنهم في القرية قد نسوا صابر وبدأوا يتداولون أسطورة جديدة.

    * * *

    هروب محاسن مع كمال كانت الأسطورة الجديدة التي لاكتها السنة أهل القرية، كان أكثر الناس تأزماً محمد أحمد " ما فتئ أطفال القرية يطاردونه عند عودته من الخمارة التي تقع على هوامش البلدة، يتعلقون بملابسه ويقذفونه بالحجارة وهو يترنح ويصيحون خلفه" أين ذهبت ابنتك يا سكير؟! . لم يكن ينقذه منهم إلا زينب التي كانت تطارد الأولاد وتبعدهم وتأخذ بيده توصله إلى البيت وتستمر في الدفاع عنه أمام ملكة التي تصب كل لعناتها عليه وتنعيه بأنه السبب في هروب محاسن. أما شريف المسكين فقد آثر الصمت الرهيب الذي يبعث الرعب في قلب أمه ملكة، كانت تحس بأن شريف يخبئ أمر ما.. سر لا يريد إطلاعها عليه، في ذات مرة استيقظت ملكة من نومها مذعورة تبكي نهض شريف وجلس جوارها، أخبرته أنها رأت في الحلم أن محاسن ماتت، طيب لها خاطرها وأخبرها بأن محاسن بخير وهذا الأحلام المزعجة ناجمة من الهواجس التي تنتابها، لم يشأ أن يخبرها بهروب محاسن مع كمال وهي تظن أنها غرقت في النيل..
    كما أنه لم يشأ أن يخبرها برسالة كمال التي وصلته بعنوان المدرسة في المدينة المجاورة. الرسالة كانت حافلة بالاعتذار، عرف شريف أنهما تزوجا ويسكنان في أم درمان مع الإخوان الجمهوريين ومرشدهم الجليل الأستاذ محمود محمد طه* .. أخفى شريف كل ذلك عن والدته..

    * * *

    كأن المصائب تتوالى تباعاً، انفتح الباب الخارجي فجأة في تلك الليلة بشدة ودخل محمد أحمد يترنح منهوك القوي وقد غطته الدماء وملابسه ممزقة، نظر إليهما شذراً ثم اندفع نحو فراشه وانكفأ عليه وأخذ يئن. نظرت ملكة إلى زوجها في هلع واستوت جالسة واندفعت نحوه مع ابنها شريف.
    - رباه ! من الذي فعل بك هذا ؟!
    كان يهزى ولا يكاد يعي ما يقول، ركع شريف عند رأس والده وأخذ ينظر إليه في اشفاق، أحضرت ملكة ماء وخرقه أخذت تمسح بها الجروح العميقة التي كانت تغطي جسده.. رفع محمد أحمد عينيه المخمورتين المحمرتين إلى وجه ابنه شريف ثم مد يده الدامية وريت بأصابعه المرتعشة على شعر أبنه وردد في أنين خافت .
    - بارك الله فيك يا ولدي.. تخلى عني الجميع وبقيت أنت يا شريف، لم أغضب عليك قط.. اني راضي عنك تمام الرضا.
    ملأت الدموع عينا شريف ومد يده يطيب على يد والده المضرجة.
    - من فعل بك هذا يا أبي ؟!!
    رد والده في إعياء شديد
    - رجال الأمن الذين حضروا من المدينة.. القصة طويلة يا أبني وشرع يسرد القصة الغريبة.. عندما كان عائداً من الخمارة سمع صراخ زينب تقول أن رجال الأمن أخذوا ابنها معاوية وعندما رأت محمد أحمد اشارت له نحو السيارة نصف النقل حيث تكور ابنها بين أرجلهم.. اندفع محمد أحمد نحو العربة يسب ويلعن قفز اثنان من السيارة وأوسعوه ضرباً بالجنازير والهراوات والقوه على السلك الشائك المحيط بالمزارع، ظل محمد يسرد القصة وشريف يستمع إليه كالمشدوه.
    - أخذ رجال الأمن معاوية، لا زال منظرها وهي تعدو خلف العربة عالق في ذهني حتى الآن.
    - معاوية!! عضو الحزب القومي المحظور.. إلى أين أخذوه يا ترى؟!
    لا أدري يا ولدي تعساً لهم.. دعني أنام في الصباح سأخبرك بكل شيء فإني جد مرهق الآن وأشعر بآلام شديدة.
    نهض شريف من عند والده وقد استغرقته القصة تماماً حتى أنه لم يشعر بوالدته التي نهضت من جوار زوجها المثخن بالجراح واندفعت خارجة تبحث عن زينب.
    ظل شريف ساهراً حتى لحظات السحر الأولى.. كان هذيان والده الجريح يطن في أذنه كوخز الإبر " إنها قادمة .. نورا !! جاءت لتأخذني، اني أراها بضفائرها الطويلة وجسدها الناحل ووجهها الملائكي كم انتظرتك طويلاً.. وداعاً يا ابنائي.. سامحوني.. إن الحياة أشبه بالقطار وها أنا قد وصلت محطتي الأخيرة.." أخذت شريف غفوة، رأى فيها والده يسير بملابس بيضاء مع جمع من أهل البلدة اللذين غرقوا في حادث المركب الشهير، كانت معهم ايضاً ريا ترفل في أثواب كأميرات ألف ليلة وليلة، يتقدمهم ناعي القرية ود مريوم يمتطي حماره الذي كان أبيض اللون.. كان الموكب يشق طريق محفوف بالعصف والريحان وهم يرددون " الحمد لله الذي أورثنا الجنة".
    صحى شريف فجأة على عويل نساء يصم الآذان، جاءت النهاية التي لم يكن يتوقعها، بل كان يرفضها تماماً.. مات محمد أحمد متأثراً بجراحه، يبدو أن الجراح كانت أكثر عمقاً مما يتصور، ظل يدور في ذهنه المشوش سؤال واحد "أحقاً مات أبي؟!".
    كانت ملكة تجلس عن كثب تولول وقد تكوم حولها لفيف من نساء القرية الثاكلات، انزوى وليد وزينب في أقصى فناء المنزل يحملقان في ذهول في أفواج المعزين اللذين امتلأ بهم فناء المنزل.
    خرج شيخ صالح من غرفة الميت بعد أن قام بغسله وأمر الرجال أن يحملوا الجثمان إلى المقابر إلى قبته البيضاء التي تقف شامخة عن أطراف البلدة.
    شيخ صالح الفرقان.. لا أحد يعلم من أين!: ولكنه ظهر يوماً في البلدة.. عدة أساطير أكتنفت ظهور المفاجئ في القرية..
    الرجل الغامض الطويل القامة الذي ينبعث من عينيه ضوء أزرق، يحمل فروة من جلد الكباش على عاتقه، شعره مجدول كالحبال ويسترسل على ظهره، التفت حول عنقه سبحة ذات ألف حبة منظومة من ثمار الهجليج، تتلوى كالثعابين أثناء سيره المتوثب في طرقات البلدة.. قالت جدة شريف لأمه الحرم.. أن ود مريوم شاهده يهبط من السماء عند شجرة الدوم في طرف المقابر، ممطياً فروه من جلد الكباس كأنها بساط الريح كان ذلك أثناء تجواله ليلاً هناك، وشد ما أفزعه ذلك الضوء الأزرق الذي ينبعث من عينيه، كما روت جدة شريف أن الرجل شيد ضريحه عند طرف المقابر من الطين وزينه بجريد النخل. كان نزول هذا الرجل بركة على أهل البلدة، جاء في أيام رجال الحكومة أصحاب البدلات العسكرية المزينة بنياشين والأنواط الممتلئين حماساً.
    حصلت البلدة على معدية حديثة تقلهم إلى البر الشرقي وحصدت القرية محصولاً وفيراً بفضل الطلمبات الحديثة.. كان يأومه الرجال والنساء عند الكرب، يأتيه الرجل ملدوغاً من حية أو عقرب يمسح الرجل على مكان اللسعة ويتلو آيات من الذكر الحكيم فيشفى الرجل. تأتيه المرأة العقيم، يضع يده على رأسها ويذكر اسم الله، والله يفعل ما يشاء وتلد المرأة مولوداً ذكراً أو أنثى، عندما تنتهي أيام النفاس تأتي المرأة بمولودها لينال بركة الشيخ صالح.. وتمتد كراماته في علاج العمى والشلل وامراض المناطق الحارة الأخرى، كان شيخ صالح من أولياء الله الصالحين وطريقته على قدم عيسوى.. فأضحت كرامته على نسق معجزة عيسى عليه السلام. لا أحد يستطيع تقدير عمره الذي قد يمتد ألف عام، قالت ملكة أن حاجة آمنة الأم الكبيرة عندما رأت شيخ صالح في البلدة أصابها فزع شديد، قالت رأته في منامها في الآيام الغابرة في مدينة حلفا القديمة عندما كانت حامل بأبنها الأول محمد أحمد، أخبرها بأن تسمي مولودها محمد أحمد وأن هذا المولود سيرحل عندما يكبر ويقيم في ديار الرياطاب وسيبارك الله فيه وفي ذريته.. كما عرف شريف من والدته أن شيخ صالح هو الذي اسماه شريف.. كثيراً ما يأتي شيخ صالح للغداء معهم، الأولاد يفرحون لزيارته، يتراقصون حوله، يعبثون بأصابعهم الصغيرة في غدائر شعره المجدول كالحبال أو يتحسسون حبات المسيحة الطويلة وهو يبتسم في ود ناثراً ذلك الضوء الأزرق الذي ينبعث من عينيه في أرجاء المنزل.

    * * *

    طافت كل هذه الذكريات الحافلة بالشجن في مخيلة شريف المكلوم وهو يرى شيخ صالح يخرج من الباب إلى المقابر وقد انطفأ ذلك الضوء الأزرق الغامض من عينيه.. في مقابر البلدة تمت الصلاة على الجثمان، أم المصلين الشيخ صالح. ثم أمر بدفن الرجل داخل قبته الجميلة المطلية بالجير الأبيض. بعد انتهاء الدفن، جلس شريف عند قبر والده يبكي بكاءاً حاراً، نعى فيه أشياء كثيرة، ماتت أشياء كثيرة داخله بموت ابيه الذي كان يحبه حباً شديداً نعى في والده بؤس الحال والتردي الذي اطبق عليهم من كل مكان بكى فيه مأساة زينب أم معاوية التي قبعت جواره عند شاهد القبر.

    هرع عدد من رجال البلدة إلى شريف وزينب ليأخذوهم معهم، نهض شريف وتراجع يترنح وتشبثت زينب بشاهد القبر وتركها القوم داخل القبة تنوح وتلعن هذا الزمن الردئ الذي اخذ منها شبابها بموت زوجها ود الزين واخذ منها عقلها بغياب ابنها معاوية …أخر شمعة تضيء بها دروب عمرها، عند طرف القرية التفت شريف إلى القبة البيضاء التي تتلامع مع أشعة الشمس وودع والده الوداع الأخير بنظره تقطر أسى وردد في نفسه المكلومة "آه آه آه مسكين محمد أحمد بنى قبره بنفسه"، طافت الذكريات مرة اخرى بعقل شريف المشوش إلى ذكرى يوم اغبر حضر أحد ضيوف حاج إبراهيم من المدينة ، كان من رجال الدين السلفيين، خطب بعد صلاة المغرب، وقف رجل يخطب في الناس ويندد بالشرك الذي حاق بالبلدة ، الشرك الذي يتمثله ضريح الشيخ / صالح الغرقان الذي يقف في خجل عند طرف المقابر ، استعان الرجل بكل آيات الويل والثبور وعظائم الأمور في بث الرعب في قلوب أهل البلدة البيضاء، اخذ يصرخ بكل ما أوتي من قوة حتى دب الذعر في قلوب بعض ضعاف النفوس وخرجوا بعد الخطبة وحملوا معهم المعاول والفؤوس وتبعهم عدد غير قليل من الأطفال اللذين لم يبلغوا الحلم بعد .. توجهوا نحو الضريح .. هناك وجدوه مستلقيا على الارض شاخصاً ببصرة إلى السماء ، وذلك الضوء الأزرق المنبعث من عينية يشق الفضاء ويمتد إلى مواقع النجوم ، تراجع القوم وقد أوجسوا خيفة لكنهم تماسكوا مرة اخرى اذا كان لازال صدى الخطة المخبفة لرجل المدينة ذو الثوب القصير يتردد في نفوسهم، اندفعوا كالسيل الجارف وانهالوا على الضريح تكسيراً وتحطيماً حتى ساووه بالأرض تماماً .. ظل شيخ صالح راقداً بلا حراك شاخصاً في تأمله الغريب في السماء كأنه لا يسمع ضرب المعاول وهمهمة الرجال والأطفال المذعورين، فاض الدمع من عينية وانطفا الضوء الأزرق.. انسحب الرجال بمعاولهم وأطفالهم دون أن يعيروا أدنى التفات إلى الرجل الراقد عن كثب ، ولم تنتهي تلك الليلة عند ذلك ، مر محمد أحمد مروره المسائي على صديقه شيخ صالح، بهت محمد أحمد عندما لم يجد الضريح قائما، خيل له انه لازال به قليل من السكر ولكنه حدق بكل ما أوتى من قوة .. فعلاً لا يوجد الضريح، لقد اختفى ذلك المعلم الذي يشكل بوصلة لمحمد أحمد في رحله عودته إلى البلدة … لمح محمد أحمد الجسد المسجى جوار الحطام، اندفع نحوه متوجساً قبع جوار الرجل.. وجده يتنفس وردد في نفسه "الحمد لله لا يزال على قيد الحياة "
    - شيخ صالح من فعل هذا ؟ !
    - أراذل القوم والأطفال فعلوها !!
    - تعساً لهم الملاعين .. لا تبتئس يا عزيزي غداً نبني لك قبة اكبر وارحب ونطليها بالجير الأبيض الذي يجعلها تتلامع مع ضوء الشمس والقمر ويراها القاصي والداني.
    - بارك الله فيك يا محمد أحمد .
    ساعد محمد أحمد صديقه على النهوض وقاده وهو يترنح إلى منزلهم .. هناك حكى لأولاده كل شيء عن الفعلة المنكرة التي قام بها ضعاف النفوس في البلدة وفي الصباح حمل محمد أحمد أدوات البناء واخذ معه ابنيه شريف وصابر وأخذ يسير في طرقات القرية وينظر إلى أهلها في احتقار وتحدي ، في المقابر استغرق بناء القبة الجديدة ستة ايام وفي اليوم السابع تم طلبها بالجير وزينها شريف بآيات قرآنية وعاد الشيخ صالح إلى ضريحه الجديد سعيداً ووقفت القبة مرة اخرى شامخة متحدية وأهل القرية ينظرون إليها في ارتباك بعد ان انحسرت أخر جرعة من الهوس شبعهم به رجل المدنية وأوصى محمد ولديه بأن لا تغفل لهم عيناً عن القبة مرة اخرى.. عاد شيخ صالح يمارس تطبيبه لأهل البلدة وعادت المياه إلى مجاريها .
    كل هذه الذكريات ناء بها ذهن شريف المكلوم على فقد أبيه حتى وصل مع المعزيين إلى المنزل والكل يدعو له بالصبر والسلوان وان لله وأنا إليه راجعون ..

    * * *

    مضت الأيام ثقيلة وترك غياب محمد أحمد فراغاً موحشا في المنزل الكئيب الذي خيم عليه الصمت الحزين وقد امتدت أطراف المأساة إلى وليد وزينب اللذان كانا يملان، البيت عبثاً وضجيجاً ، جلسا منزويين في ركن بعيد ، جلس شريف أمام أمه التي كانت تعد له حقيبة السفر .. لقد طفح الكيل ألان وقررت ملكة أن تبدأ معركتها مع الطغيان أخرجت المستندات التي آخذتها خلسة من منزل حاج إبراهيم دستها في الحقيبة، أخبرت ابنها بعنوان عصام في مصنع الأسمنت في عطبره .. كان شريف في طريقه إلى الخرطوم ليعلم صابر وعمه بوفاة محمد أحمد ملكة قد قطعت الأمل في عودة ابنها الضال صابر .

    * * *

    في ذلك الغروب الحزين وقفت ملكة عند الشاطي النيل تودع ابنها شريف الذي كبر ألف عام، اندفع شريف إلى المعدية لنقله إلى البر الشرقي، أخذ شريف يلوح لأمه وهي تلوح له حتى غابت المعدية في الظلام الذي يلف المكان ثم استدارت ممتطية حمارها الهزيل تحت أشجار النخيل المتيبسة .. من خلف الأشجار لمحت زينب المجنونة تجري بين الأشجار تنوح وتندب ابنها الغائب، كان صوتها موحشاً يمزق السكون، اصبح نواح زينب سيموفنية اعتاد سماعها أهل البلدة فظلوا يتحسرون لحالها وعاجزين عن مد يد العون لها، حتى حاج إبراهيم رغم نفوذه الكبير في الحكومة لم يد لها يد العون وهي تنوح عند بابه كل يوم في طريقها إلى المقابر حيث اعتادت النوم جوار قبر محمد أحمد.. اضحى الموتى أجدى من الأحياء وهي لا تشك أبدا من ولاية محمد أحمد وتكن له كل الاحترام والتبجيل ولم تنسى موقفه النبيل وانه فقد حياته من أجلها .. ظلت ملكة تحمل لها الطعام في المقابر وزينب لم تكن يوماً امرأة عادية ، هي و أسرتها الصغيرة تجسد تاريخ السودان الذي لم يكتب ، مات زوجها حتى اقتلع الدكتاتورية الأولى وفقدت ابنها في سبيل اقتلاع الدكتاتورية الثانية والحبل على الجرار ، الجوع والإرهاب والموت هو الثالوث الذين طحنت رحاه هذا الشعب الأصيل.
                  

العنوان الكاتب Date
الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" adil amin11-29-08, 01:20 PM
  Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" adil amin11-29-08, 01:22 PM
    Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" adil amin11-29-08, 01:24 PM
      Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" adil amin11-29-08, 01:25 PM
        Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" adil amin11-30-08, 08:30 AM
          Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" adil amin11-30-08, 11:56 AM
  Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" محمد الطيب يوسف12-03-08, 12:40 PM
    Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" adil amin12-04-08, 11:54 AM
    Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" adil amin12-04-08, 11:58 AM
      Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" adil amin12-06-08, 09:23 AM
        Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" adil amin12-06-08, 09:25 AM
          Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" adil amin12-07-08, 09:49 AM
            Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" adil amin12-11-08, 09:37 AM
              Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" adil amin12-12-08, 01:02 PM
                Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" adil amin12-12-08, 01:24 PM
                  Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" adil amin12-12-08, 01:26 PM
                    Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" adil amin12-13-08, 02:10 PM
                      Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" adil amin12-14-08, 11:24 AM
                        Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" adil amin12-18-08, 10:44 AM
                          Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" adil amin12-22-08, 01:37 PM
                            Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" adil amin12-22-08, 01:39 PM
                              Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" adil amin12-22-08, 01:40 PM
                                Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" adil amin12-22-08, 01:42 PM
                                  Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" adil amin12-22-08, 01:44 PM
                                    Re: الروائي العراقي د.شاكر خصباك...... في "عالم مليكة" adil amin12-22-08, 01:53 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de