|
ملف الشاعر الراحل / عبد الرحيم أبوذكرى
|
مواصلة لهذه السلسلة من الملفات الهادفة إلى توثيق الثقافة الوطنية ، يسرني أن أنشر على المنبر العام لسودانيزأونلاين هذا الملف عن الشاعر الراحل عبد الرحيم أبوذكرى ( وقد سبق نشر الأجزاء الرئيسية منه في جريدة (الميدان) في 6 نوفمبر 2007م) .
إلى صاحب "الرحيل في الليل" الشاعر عبد الرحيم أبو ذكرى (1-2)
أقفرت أنت وهن منك أواهل
بقلم : د. عبد القادر الرفاعي
كان الشاعر جيلي عبد الرحمن ينادى الشاعر عبد الرحيم أبوذكرى كلما التقاه "أبوذكرى السكرة" و "أبوذكرى والتاريخ" . وكان هذا كافيا ليعرف السامع مدى المحبة والود الذي يكنه له الراحل جيلي.. كان أبو ذكرى من طراز نادر، فمنذ الصغر وهو يقدم على ما لا يقدم عليه الكثير من أقرانه، فقد أمضى جل عمره في القراءة والاطلاع .. أقصد انه كان قارئاً ممتازاً ومحبا للمعرفة والعلم ومتطلعا إلى آفاق بعيدة قلما كانت تخطر على أقرانه، ويدرك هذه الحقيقة أصدقاؤه الذين عايشوه، فلم يكن أبوذكرى بلا أصدقاء بل كان أصدقاؤه من المثقفين المرموقين مثله فبادلهم صدقا بصدق وحبا بحب، ووفاءً بوفاء... اسألوا عنه الأحياء منهم ومن تبقى منهم يصارع الأيام. وأنى لأذكر ذلك اللقاء الهام الذي أجرته مجلة "عزة" الناطقة بلسان الاتحاد العام للطلاب السودانيين في الاتحاد السوفيتي مع جيلي عبد الرحمن (أجرى اللقاء الشهيد المهندس أبوبكر محي الدين راسخ، و عبد الفتاح الطالب بمعهد علوم البترول "جوبكن" ) ؛ إذ أجاب جيلي على أحد أسئلتهم عن الشعراء محمد المكي إبراهيم وكجراى وتاج السر الحسن؛ فقال جيلي عنهم آراء نيرة تليق بدورهم وبإبداعهم، ولكنه أضاف: " أبو ذكرى أشعرنا جميعا " ..وكرر جيلي نفس الإجابة وهو يرد على أسئلة المرحوم فاروق مصطفى رفعت، مدير تحرير جريدة ١٤ أكتوبر اليمنية في عدن؛ والمقابلتان منشورتان في اﻟﻤﺠلتين المشار إليهما في سبتمبر ١٩٨٤ م.
الجيل الجديد في السودان بما فيه جيلا مايو ويونيو 1989م ، لا يعرف عن أبوذكرى الشاعر والمثقف والمترجم والوطني الغيور على شعبنا، بل هو معروف(ربما مؤخراً) بالطريقة الفاجعة التي أنهى بها حياته.. ولا شك أنها محنة كبيرة للتاريخ والسياسة والثقافة والعقل والوعي أن يغيب هذا الإنسان الرفيع قرابة عقدين تقريبا، فلا يجد أية التفاتة أو تنويه سوى شذرات هنا وهناك انتهت بما كتبه عنه الكاتب الأديب والحقوقي الشاب والمربى / محمد احمد يحي محمد احمد : "أبوذكرى اخذ زهور حياته ورحل".
إن هذا التجاهل الذي لاقاه بعده جيلي عبد الرحمن وكجراى وعلى عبد القيوم وعمر الدوش ومحمد عبد الحي وغيرهم، يصور واقع البلاد المهيمن على الحياة السياسية والفكرية والثقافية السودانية وجمودها المروع ويعكس ، الأزمة الحادة في علاقة المثقف السوداني بالسياسة والسلطة في الزمن الشمولي القاهر.
قلة نادرة من المثقفين والمفكرين كان لها هذا الثراء والتنوع في حياتها الفكرية والثقافية كما كان لأبوذكرى؛ وفى مقدمة هذه الصفوة نخبة من مثقفي اليسار السوداني من جيل الاستقلال وجيل ثورة أكتوبر ١٩٦٤ م، حتى مايو اتولد ، وبعده يونيو، مما أدى إلى عدم الاحتفاء بالديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية. والى صعود وتنوع أساليب القهر وتقطيع شرايين التواصل بين الأجيال. كانت فجيعة أبوذكرى كبيرة بالانتقال والصعود المفاجئ لانقلابي مايو ١٩٦٩ م إلى الحكم وكان تبنيهم للمراهقة السياسية في إعلان مبادئ الاشتراكية والعدل الاجتماعي شعارات جوفاء وأداة لقهر القوى السياسية على طريقة تلك الأيام التي تميزت بالغليان الذي ينتهي بالصلف ثم الاحتكار وبعد ذلك تستحيل الحياة إلى سجون ومعتقلات وإعدامات وتشويه للمبادئ المضيئة التي استخدمت لخداع الجماهير.
ثمة رحيل يبدو فاجعا ومحزنا وبالطبع ليس طبيعياً، ألا أن التاريخ سرعان ما يقتحم وجوها بارزة منه ويحقنها بدلالات تخرجها من مجراها العادي ليضعها على مستوى الرمزية والخلود.
وفاة الشاعر أبوذكرى عن عمر يناهز السادسة والأربعين تتحمل التوصيل الرمزي المومى إليه، والتاريخ الذي نشير إليه هاهنا يطاول في إضاءة الزمن الكبير لحياتنا بعد الاستقلال، الحافل بوقائع وأهوال كبرى والزمن الصغير المتعلق بسيرة وحياة أبوذكرى وبمساره الأدبي والفكري والثقافي والمتجسد خصوصا في ذائقته الفكرية ومهارته الشعرية . على أن ما يلفت النظر في ذلك كله يعود إلى الزمنين التاريخين هذين كما أنشأهما وتمثلهما وتعهدهما أبو ذكرى بالذات، وبطريقة وعبارات خاصة جداً أثارت وتثير جدلاً وتقويمات شتى لحياته العامرة بالنبوغ والانجاز والأحزان.
إن من المؤكد أن أبوذكرى من رواد التجديد في السودان، وحين انتصرت ثورة أكتوبر 1964م ، كان أبوذكرى في الحادية والعشرين من عمره... هل تأثر أبو ذكرى بانتصار الشعب حين حسم الموقف لصالح الديمقراطية ؟ ليس هذا بمستبعد، مع أن فكرة التنوير لم تكن بنفس الصعوبة - في مجتمعنا- وقد مضى على ثورة أكتوبر ما يزيد عن الأربعة عقود الآن.
كانت السياسة والفكر والإبداع متروكة لاجتهادات المفكرين والمبدعين ، ومنهم الشعراء، الذين كانوا يكتسبون مصداقيتهم واحترامهم من انجازاتهم الأدبية واتساع إنتاجهم وعملهم، ومن شهادة الجمهور لهم بالمرجعية الثقافية والفنية.. هو جمهور يتكون من زملائهم ومن تلاميذهم ومن رجال الثقافة والناس العاديين بشكل عام. وهو نوع من الانتخاب الطبيعي لا يستطيع أحد أن يتدخل فيه أو يفرضه على الناس.
لكن أبوذكرى اصطدم أول ما أصطدم بمصادرة الديمقراطية التي كان حل الحزب الشيوعي السوداني في ١٩٦٥ م أبشع ثمارها المّرة؛ ولعل قصيدة (أمير المؤمنين) التي كتبها أبوذكرى كانت تعبيراً عن أزمته وأزمة اﻟﻤﺠتمع الذي انتصر فيه شعب السودان للحرية وقدم الشهداء قرباناً لها... (راجع كتاب محمد احمد يحي عن أبوذكرى) .. ثم جاءت الكارثة الكبرى.
|
|
|
|
|
|
|
|
|