وثيقة آن آوان التغيير!! للأستاذ الراحل الخاتم عدلان

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-05-2024, 03:09 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة د.امجد إبراهيم سلمان(Amjad ibrahim)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
12-17-2005, 04:59 AM

Amjad ibrahim
<aAmjad ibrahim
تاريخ التسجيل: 12-24-2002
مجموع المشاركات: 2933

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وثيقة آن آوان التغيير!! للأستاذ الراحل الخاتم عدلان (Re: Amjad ibrahim)



    2- لمـــحــات من سـِــيرة الحزب :

    في أغسطس 1993، بَـلغَ الحزب الشيــوعي الســـوداني عامـه السابع والأربعين على ثرى الســـودان . وعندما يقف الشيوعيّون السودانيون في هذه النقطة، ويرجعوا بأبصارهم الى الوراء ، ويتأمّلوا مسيرتهم هذه، الطويلة بمقاييس السياسة السودانية، فإنّهم لايجدون فيها ما يُخـجِل أو يشين . بل يجدون فيها ، على العكس، الكثير الذي يملأ الجوانح بالفخر والنفوس بالرِّضـا . ويُمكن لكل مراقبٍ نزيه أن يؤكّد ،دون أن يخشى التحيُّز أو المبالغة، أنّ الشيوعيين السودانيين لم يتخلّفوا عن أيَّة معركة خاضها الشَّعبُ من أجل التقدّم والديمقراطية طوال هذه العقود ، إن لم يكونوا القادة الذين لا تلين لهم قناة في هذه المعارك . وقد استهلّوا مسيرتهم ودشـّنوا تاريخهم بالنضال ضد المجلس الإستشاري عام 1946 وضد الجمعية التشريعية عام 1948 . لقد شاركوا في تفجير الغضب الشعبي ضد تلك المؤسسات الإستعمارية ، وتقدّموا الصفوف وجادوا بالتضحيات وقدّموا الشـُّهداء . واستطاع الشّعبُ بِفضلٍ من ذلك الدّور وبِفضلِ إرادته الغلآبة ، من هزيمة تلك المؤسّـسات وتخطِّيـها . وقد شاركَ الشيوعيون ،من خلال علاقات حميمة بالجماهير، في بثِّ الدعوة الى استقلال كامل ونظيف، خالٍ من الإرتباطات العسكرية والأحلاف والمشاريع الإستعمارية المشبوهة. إســتقلال يكون بوّابة يلجُ منها السودان الى القرن العشرين، ويبني اقتصاده المتقدّم ، ونظامه الديمقراطي الرّاسخ ، ونهضته الوطنية الشامخة . ويُحِقِّق وحدة الشعب ويُلـِهمُ كلَّ نضالاته اللآحقة .

    في خِضم ذلك النضال، أدخل الشيوعيون أساليب جديدة في العمل السياسي الجماهيري في السودان . أقاموا الليالي السياسية الحاشدة والتي صارت ،فيما بعد، منابر أساسية للتعليم السياسي والتعبئة الشعبية . وأصدروا البيان السياسي المطبوع بإسلوبه الجديد المُتميِّز ، ورسالته السياسية الواضحة . وسـَــيَّروا المظاهرات الشعبية لإظهار قوّة الجماهير ، لها هيَ نفسها أوّلاً ، ولأعدائها بعد ذلك . ولِخدمة أهداف سياسية واجتماعية محدّدة ؛ وبشعاراتٍ تضيف الى المضمون المحدّد ، القوّة والحيوية والتعليم . ولعِبـوا من خلال كل ذلك وغيره، دوراً ،لايُمكن أن ينكره إلاّ مُغرض، في تحقيق الإستقلال والدعوة الى تعميقه بتحقيق الإستقلال الإقتصادي باعتباره وسيلة التحرّر الحقيقية .

    وأثناء الفترة القصيرة للحُكم الوطني الديمقراطي بعد الإستقلال، دعا الشيوعيــُّون بأصواتٍ مُجلجِلة موسومةٍ بصفاء الرؤية وبُعد النظر، الى وُحدة الصّف الوطني في مواجهة القوى الرّجعيـّة والذيول الإستعمارية ؛ وكادت دعوتهم تلك أن تُكَـلَّل بالظّفَر بفضِّ الائتلاف بين حِزبَيْ الأُمّة والشّعب الديمقراطي ، وإقامة تحالف وطني واسع وتكوين حكومة للوحدة الوطنية . ولكن القُوى الرّجعية في حزب الأمّة ، وفي قيادة الجيش، وبِتشــجيعٍ وتحريض من قوى أجنبية ، إسـتَبَقتْ هذه الخطوة الهامّة ونفَّذتْ إنقلاب 17نوفمبر بقيادة جنرالات الجيش في صبيحة اليوم الذي كان من المُقرَّر أن يُعقَد فيه البرلمان .

    يحفظ التاريخ للشيوعيين السودانيين أنّهم نَـبَّهوا الى وقوع ذلك الإنقلاب مُبكِّــراً ، وكتبَ عبدالخالق محجوب مقالاً لهذا الغرض يوم 9نوفمبر فاضحاً التدابير الخفية للإعداد للإنقلاب العسكري، ومُفصِحاً عن مقدرة متميِّزة للإلمام بدقائق السياسية السودانية ؛ واتِّجاهات السياسة العالمية مع مَلـَـكة التقييم الصائب واليقظة المسؤولة . وعندما وَقَعَ الإنقلاب ، كان الشيوعيُّون أوّل القوى السياسية التى أعلنتْ معارضتها له . وطوال ستِّ سنوات ، كانوا في طليعة القتال من أجل الإطاحة به واستعادة الديمقراطية . وبالإضافة الى صمودهم في وجه الملاحقة والإعتقال والسـجن ، فقد قدّمــوا للجماهير، القيادة السياسية المُلهَمة ؛ إذ طرحوا في منتصف عام 1961 الإضراب السياسي العام باعتباره الأداة التى تؤدِّي الى إسقاط النظام . ولم يبخلوا بشيئ ، ولم يتردّدوا في الإقدام على أيِّ تضحية . وابتدعوا أساليب العمل السِّرِّي التى تُـــعتَمد في مواجهة الهجمات . ولعبوا بكلِّ ذلك دوراً رائداً وأساسياً في تفجير ثورة أكتوبر 1964 . وقد شَـهِد لهم الشعبُ نفسه ، بهذا الدَّور المتميِّز في إسقاط حكومة عبـود وعودة الديمقراطية ، عندما طوَّق أعناقهم بثقةٍ نادرة في حكومة أكتوبر الأولى ، وفي الإنتخابات الأولى عام 1965 ، إذ كسِـبوا إحدى عشرة دائرة من دوائر الخرِّيـــجين الخمس عشرة ، وفاز عبدالخالق محجوب ، السكرتير العا للحزب، في الإنتخابات التكميلية لدائرة الأزهري بالذّات ، بعد تنصيب الأخير رئيساً لمجلس السيادة .

    طِوال الفترة الممتدة من ثورة أكتوبر وحتى انقلاب مايو 1969، ورغم حلِّ حزبهم في هذه الأثناء، ورغم كلّ أعمال القمع التى تعرّضوا لها، عمِلَ الشيوعيون على تعميق شعارات التغيير والتقدُّم ، ونجحــوا كثيراً في ذلك . كما استطاعوا ،بفضلِ تحالفاتهم الواسعة من أجل الديمقراطية، وبِفضلِ أساليبهم المرِنة ، أن يمنعوا الرِّدَّة عن ثورة أكتوبر من أن تصبح رِدَّة شاملة ، فاحتفظت الجماهير بمنظّماتها التى كان الرَّجعيُّون مُصَـمِّمين على سحقِـها جميعاً .

    ويُعتبر إنقلاب مايو ، من أقسى الإمتحانات في تاريخ الحزب الشيوعي ؛ وإذا اتّفق الناس أو اختلفوا، فَثـَـمَّة شيئ لا شكّ فيه ، وهو : أنّ تلك المواقف كانت محكومة بالمبادئ ،وبعيدة عن كلّ انتهازية سياسية، ومُـتَّسِمة بروح الصِّدام دفاعاً عن قِـيَم الديمقراطية والتقدّم . ومن الحقائق المشهودة، أنّ الحزبَ قد رفضَ كل إغراءات السُــلطة وامتيازاتها ، ولفظَ بحزمٍ أولــئك الذين رأى في تصرُّفاتهم تهافتاً على المصالح الشخصية، أو تغليباً للإعتبارات التكتيكية على حساب الشعب وديمقراطية الحُكم وسعادة الجماهير . وأُجـْــبِرَ الحزبُ ، ساعة الإقتضاء، أن يُحارب السـُّلطة المايوية بسلاحها ذاته – سلاح الإنقلاب العسكري- أعطــى موافقته ، بصرف النظر عن كون تلك الموافقة صريحة أو ضِـمنية ، لتفجير حركة 19يوليو 1971، علـَّه بذلك ، يفتح الباب لحُكم الجبهة الوطنية الديمقراطية ، وإنجاز مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية ، ومُـفَضـِّلاً ، في كلِّ الأحوال، مواجهـة كل احتمالات الهزيمة على الأستسلام دون قِتال . نقــول ذلك دون أن نُغلِق الباب أمام تقييم شامل لتلك الفترة المضطّربة ، يستنـد على الكشف المأمول عن كلِّ الحقائق .

    تُعتَبر مواقف أســتشــهاد عبدالخالق محجوب والشفيع أحمد الشيخ وجوزيف قرنق وبابكر النـُّور وهاشم العطا ومحمد أحمد الرَّيح ورفقائهم العسكريين جميعاً ، مناراتٌ عالية، ليس في تاريخ الحزب وحده، بل في تاريخ الشعب كذلك . فقد أوضح أولـئك الرجال الأفذاذ ، أنّهم قادرون على الذهاب الى آخر المدى في الدَّفاع عن المبادئ التى آمـنوا بها ، وعن مصالح الشـَّعب كما تَـصـَـوَّروها . وفي مواقفهم تلك، لم يكونوا يُعبِّرون عن صلابة الحزب وكفى، بل كانوا يُعبِّرون عن صلابة الشعب وشـرفِـه. ورغم الضّربة القاسية التى وُجِّهت للحزب بعد رِدَّة 22يوليو1971 ، والتى تركت آثاراً غائرة على كل مسيرته اللاّحقة ؛ ورغم التّوجُّهات الشرسـة من قِبَل السُّـلطة ومن قِبَلِ القوى التى كانت تقف ورائِـها محليّاً وإقليميّاً وعالميـّاً ، لاقتلاعه من الجذور، إلاّ أنّ الحزب تمكّن من مواصلة نضاله ضد سُــلطة مايو، ومَـدَّ يده لكل قُوى المعارضة ، والتى لم تكُن تخفي نواياها العدوانية تجاهه ، وذلك لتوحيد النضـال من أجل الإطاحة بحُكم الفرد واستعادة الحُكم الديمقراطي وفتح النوافذ من جديد لتطوُّر السودان . وقد كان ثمرة ذلك ما تحقَّق في انتفاضة أبريل 1985 رغم كل ما أحاط بها من ظروف ومُلابسات عرقلت وصولها الى أهدافها .

    طِوال السنوات الأربع التى أعقبت الإنتفاضة ، طرح الحزبُ شــِـعار وُحدة قوى الإنتفاضة لإعطائها محتواها الإجتماعي وتجسيدها السياسي . وقد استطاع الحزبُ المُـثخَن الجراح والمـُــثقـل بقيود السـِّــرية الطويلة الفادحة ، أن يحتـلَّ مكانته في بانوراما السياسة الســــودانية . وإذ كانت تلك المكانة صغيرة وثانوية، فقد كانت على الأقل مُســتقرة . وقد تحقَّق له ذلك بفضلِ تاريخـه ونضاله ، وبِفضلِ برنامجه الديمقراطي الواقعي، وبِفضلِ تكتيكاتِه المَرِنـة ، التى أجبرت القوى السياسية الأساسية على قبولِـه والتعامل معـه ، وهيَ التى كانت ترفضُ ذلك رفضاً مُطلَقاً وقاطعاً ؛ وربما تبـيَّن لهذه القوى أنّه لا يُمثـِّلُ تهديداً حقيقياً لها ! كما كان يفعل في الماضي ، وهذا أمرٌ سنبـحثـه في موضعِه . المـُـهم أنّ الحزب الشيوعي الســـوداني، صار رقماً مُعتَرفاً به في السياسة الســـودانية .

    عندما انقضـَّت الجبهة الإسلامية القومية على السُـلطة في 30يونيو 1989 لم يتوانَ الحزب عن الإنخراط في القتال ضدَّها في إطار التجمـُّع الوطني الديمقراطي، الذي استطاع ان يوحِّد أوسع معارضة سياسية في تاريخ البلاد . ولَعبَ الحزب دوراً متميِّزاً، ومايزال، ســواء في تجميع القوى، أو في صياغة الميثاق، أو في النضال اليومي ضد السُـلطة ،رغم نقائصه، أو في عمل التجمُّع الخارجي ، السياسي والإعلامي وغيره .

    هذه اللَّـمـَـحات الخاطفة ، والتى لم يُقصَد منها بالطبع، التأريــخُ للحزب الشيوعي الســـوداني، توَضـِّح بجلاءٍ أنّ هذا الحزب ظلّ جزءاً أصيلاً من نضال الشعب الســوداني ، وفصـيلة متقدّمة في مسيرة هذا الشعب العملاق . لم يكُن نَـبتاً شيطانيّاً ، ولا كياناً مُصطَنعاً ولا مقولة مُلَـفَّقة . بل استدعاه الواقع إستدعاء . إستدعتـه المهام الوطنية التى كانت مطروحة أمام الشعب، والتناقضات المستعصية التى كانت تنتظر الحل ، والآمال المشروعة في الديمقراطية والتقدّم والإشتراكية ، التى لم يتحرّك بها وجدان الشعب السوداني فحسب، بل انداحت دوائرها لتُغطِّي كل القارّات ، وتأخذ بِشِـغاف أفئدةِ الشـــِّعوب .

    وفي حقيقة الأمر فإنّ الدُّور الذي لعبَه الحزب الشيوعي الســوداني في بلادنا، يتخطّى مستوى النضال السياسي المباشر الى مستويات الفكر النظري ، والخَلق الفنِّي والأدبي والثقافي . فلقد حاول الحزب ،بقدر ما توفَّر له من مقدرات، أن يجعل الممارسة الحزبية ممارسة عملية ، مُخضعاً إيّاها لرؤية متكاملة ، ومشروع متعدّد الجوانب. وقد شـَرَع عبدالخالق محجوب منذ 1954، ولم يكُن حينها قد تعدّى السابعة والعشرين من العُمر، يكتُب في الصُّحُف السيـَّارة ، وفي الوثائق الحِزبية والمطبوعات الجماهيرية، عن النظرية التى تُـنَــسِّــق الوِجدان ، وتُفـَـسـِّر ظواهر الوجود ، وتعطي الإنسان رسالة نبيلة في الحياة . ويُنادي بأهمِّية إخضاع ظاهرة الإستعمار للتحليل الإقتصادي ، وبمحاكمة الحضارة الغربية انطلاقاً من تناقضــاتها العميقة والفاجعة، إذ تُنادي نظريَّاً بِقـِــيَمِ الخير والجمال والعدل ، وتدوس على نفس هذه القِيَــم بالنَّعالِ في ممارساتها العلمية . وفي حين كان المثقـَّفون في ذلك العهد ينظرون إليه في إعجاب ويقرأونه بإنبـهار ، كان الرَّجعيـُّون ينظرون إليه في ريبةٍ مُختَلطةٍ بالعجب .

    شَـرَعَ الحزب وِفقَ مقتضيات النظرية الماركسية التي تبنـَّاها، في إخضاع المجتمع للتحليل الطبقي، وإرجاع مواقف القوى السياسية المختلفة الى منشــأها الطبقي وربطها بمصالحها الطبقية والفئوية . كما شـرعَ في صياغة برنامج سياسي متكامل على هذا الأساس . وإنّه لَـمِن الأمور البالغة الدلالة ، أنّ القوى الإجتماعية والدوائر الأكاديمية التى كانت تصرخ في وجوه الشيوعيين مُنكِــرة إمـَّا وجود الطبقات في الســوداني، أو عدم صلاحية المعيار الطبقي في الحُكم على المواقف السياسية والإقتصادية ؛ تلجــأ الآن إلى مقـــولات الصراع الطبــقي ، ومعاييــر المصلحة الطبقيــة في اتـِّخاذ المواقف السياسية أو تحلـيلــها !! ولا يُقَـلِّل من أهمية هذه الظاهرة، أنّ البعض يلجأون إليها ضِمـناً وليس صراحة .

    وتُعتَبر " وثيقة الماركسية وقضايا الثورة الســـودانية" مَـعلماً بارزاً في الحياة الفكرية في الســـودان ؛ إذ حـاولت الخروج من إطار الآراء المُسـبَقة والمفاهيم العامّة إلى الدراســة الباطنية للمجتمع الســوداني ، ومعرفة المواقع الحقيقية للطبقات المختلفة ، وأوزان ونفــوذ هذه الطبقات في المجتمع ، ومواقفها من مُـختَــلف القضايا المتعلِّقة بتقدّم البلاد ، وبناء إستراتيــجيــة الحزب وتاكتيكاته على أساس هذه المُعـطيات ؛ ومحاولة إنهاء غُـربة الماركسية بِـجـعلها جزء من النسيج الحي للبنية الإجتماعية والسياسية للبلاد . ومهما كانت الآراء حول الإستنتجاجات التى توصـَّلت إليها الوثيقة نفسها ، إلاّ أنـَّها اختطَّت منهجاً في معالجة القضايا السياسية والإقتصادية والإجتماعية ، لايُمكن لأحدٍ أن يتجاهله بعدها . وقد سَـبَـقتْ هذه الوثيقــة ، وأعقبتـها، وثائق أخرى سارت على نفس النهـج ، منها وثيقة " سبيل الســودان نحو تعزيز الإستقلال والديمقراطية والسـِّلم" المُجازَة في المؤتمر الثالث للحزب في فبراير 1956 . ووثيقة " إصلاح الخطأ في العمل بين الجماهير " والتى كتبها عبدالخالق في معتَقـَلِه في " الشـجرة " عام 1971 ؛ وغيرها من الوثائق الحزبية الهامـَّـة ، التى تُعتَبـرُ معالمَ فكرية في تاريخ الحزب ، ودلائل على قُدرتـِه على التقييم السياسي والفكري ، وموقعـه المستقل نسبيــَّـاً . ولولا اســلوب الإخراج الذي جعل كثيراً من تلك الوثائق في غير متناول الجماهير وحصرها في نطاق عضـــوية الحزب، لكانَ الاثر الفكري والسياسي أبعد مدى بكثير ممّـا حدث بالفعل .

    بالإضافة للتنظير السياسي، فقد لعبَ الشـــيوعيـُّون دوراً عظيما بِـحَـق، في تنظيم الجماهير . فهُم الذين بادروا ببناء نقابات العمَّال ، بدءاً بنقابة السـِّكة حديد ، وتـَـوَّجوا ذلك الجهد ببناء الإتحاد العام لنقابات عُمـَّال الســودان . وشاركوا في بناء إتحادات الطلاّب ، وذلك منذ مؤتمر الطلبة عام 1948 وانتهاءاً باتحاد طُلاّب جامعة الخرطوم ، والإتحادات الطُلاّبية الأخرى. وبادروا ببناء إتحاد المزراعين وســاهموا بدورٍ بارز في بناء نقابات المِهَـنيين والموظّفين واتحاداتهم . وكانوا أوّل حزبٍ سياسي شاركتْ كوادره في بناء حركة النســاء والشـباب، وهي حركة اجتماعية سياسية ذات توجـُّـهات وطنية وتقدُّمية .

    على الصـّعيد الثقافي، نستطيع القول أنّ الآمال الواسعة التى فجّرتها احتمالات المستقبل الإشتراكي بالنسبة للإنسانية جمعاء، وبالنسبة للسودان على وجه الخصوص، قد ألهَمـتْ أجيالاً من المبدعين في مجالات الشـِّعر والقصـّة والمســرح وغيرها ، فأنتجـوا أبرز الأعمال في تاريخ الثقافة الســودانية ، وأنشــأوا حركة ثقافية نشـِــطة، تشابكت روافدها في المجرى العام للحِسِّ الثقافي والتقدُّم الإجتماعي ، دون أن يُملي عليها الحزبُ أهدافها ، ودون أن تصبح هيَ بوقاً سياسياً لـه . ولكنّ الإرتباطات غير المباشرة ، كانت هناك على الدوام، كما أنّ انتماء كثير من المبدعين الى الحزب الشيوعي، كان أمراً معروفاً .

    واختصاراً نقول: إنّ الحركة السياسية والإجتماعية والثقافية في الســودان، قد طرأتْ عليها تطوُّرات هامة بِفِعلِ ظهور الحزب الشيوعي الســـوداني . وقد تمكّن الحزبُ من فرضِ وجودِه على المسرح السياسي رغم ضراوة وشراسة المقاومة التى ووجـِه بها في كثير من المنعطفات . ونادراً مــا نَـجِدُ قوَّة سياسية مسؤولة ، تتجاهل ردود فعل الحزب ، عندما تضعُ برامجها أو تُحَدّد مواقفها . ويُمثـِّل كل هذا ، مجالاً خِصـباً للبحث النزيـــه . ومـا أشـِـرنا إليه في هذه الأسطر السابقة، وبهذه الصورة الخاطفة، ليس قليلاً بالنسبة الى حزبٍ يحمل مواصفات الحزب الشيوعي . ولم نورِده نحن إلاّ بِقـَصدِ إثبات مـَـا نعتبره الحقيق في حقِّ حزبٍ إمتنــع على الدوام عن الإنخراط في مديح الذّات . وقد شـِـئنا أن نُثبِتْ أيضاً، أنّ التضحيات الجسيمة لم تكن عبثاً ، وأنّ الجهــود العظيمة التى بذلتها أجيال الحزب، لم تكن عملاً لا طائل من ورائه، وأنّ الدِّماء الذكيـّة التى جادَ بها قادتُه ومناضلوه لم تضـِع هدراً . وقد أوردناها ، كذلك، كمحطّة أساسية للعبور الى تقييم شامل لِرسالة الحزب ولِمصــيره ؛ ومن نافلة القول، أنّ الحزب السياسي – أيَّ حزب – لا يُـقَـيَّمُ فقط في ضوء إنجازاته المُحـَــقَّـقة ، بل كذلك في ضوء الأهداف والخطط التى طرحــها وسعى نحو تنفـيذها ، ومآل تلك الخُطط في الحاضر والمستقبل ، ومعناها وجدواها بالنسبة لِلناس الذين وُجـِّــهتْ إليهم ، وقَـصَـدتْ إلى إعادة صيـاغة شـروط حياتهم . وكلّ ذلك على خلفيـّةٍ من تطوُّراتٍ عاصفة ، إجتاحتْ هذا الكوكب من أقصاه إلى أقصـاه ، وقَلـَبتْ الآيديولوجيـّات والبرامج والخُطط رأساً على عقب .

    تترتَّب على هذا التقييم الشامل، نتائج عملية تتعلّق بالحزب، بِـوجودِه وفِكــرِه، باستراتيــجيـَّته وتاكتيكِه، ببرنامجـِه ولائحتـِـه ، بوسائلِـه وأســاليبـه ؛ وبالقوى الإجتماعية التى يتوَجـَّـه إليها . وعلى هذا التقيـيـم أن يُجـيبَ على أسئلةٍ أســاسية ، منــها مـَــا يلي :-

    هل استطاع الحزب الشيوعي السوداني أن يُحـَـقِّـقَ الأهداف التى نشـأ من أجلها ؟ هل يستطيع الآن تحقيق تلك الاهداف ؟ هل إحتفـظت هذه الأهداف بقيمـَـتها ذاتها طِــوال هذه العقـــود ؟ وهل بإمكانــنا إزاء هذه التطـوُّرات التى عصفت بالكوكب أن نتظاهـر بأنّ شيئاً لم يحدُثْ وأنـَّـنا نســتطيع أن نواصل السـَّير كما فعـلنا في الماضي ؟؟

    أســئـلة تُحيـِّر الألباب ، وتمسك بالرِّقاب ، وتُؤرِّق الضمائر ، ولا يستطيع أن يتجاهلها إلاّ أولـــئك " المعصومون من الإهتزازات " والذين لا نحنُ منهم ولا هُمْ مِــنـَّا ..



    2- تحويل الحزب الشــيوعي إلى قوة إجتماعية كُبرى وإلى حزب على النِّطاق الوطني
    إنّ أهمّ الوثائق التى أصدرها الحزب الشيوعي الســـوداني، توضِّح أنّ مُؤسـِّسيــه لم يدُر بخلدهم أن يكون الحزب حَـلَـقة صغيرة منطوية على ذاتها ، أو تـيـّاراً ثانوياً على هامش الحياة السياسية في البلاد . فقد شرعَ أؤلــئك المؤسـِّـسون في تكوين الحزب، وأمامهم أكبر المعارك وأعظمها شـأناً، معركة الإســتقلال الوطني . وكانت قضيـة توحيد القوى السياسية الوطنية ، هيَ القضيــة الأولى التى كانت تشغل أذهانهم وقتها . كان أولــئك المُؤسـِّسون يفكِّرون في حِزبهم كأداة هامّة في تحقيق الإستقلال، أي كانو يُفكـِّرون فيه كمنظّمة وطنية ، ســياسيـَّاً وتنظيمــيَّاً . وقد طُرِحت في دورة اللَّجنة المركزية في مارس 1953 قضيـّة بناء الحزب على النطاق الوطني ، لِـيَـصبح حزباً شعبيـَّـاً . وأُنشـِـئتْ في العام نفسـه " الجبهة المعادية للإستعمار " بإعتبارها شكلاً من أشــكال الوجود الوطني للحزب . وقد نجحتْ بالفعل في الوصول إلى مواقع إجتماعية ، وأماكن جغرافية ، ما كان من الميسور للحزب أن يصـلها بصفـته حزباً شـــيوعيـَّاً . فضَـمَّت شخصيات وقوى وطنية مؤثـِّرة ، وتكوَّنت لِجانها في قُرى وأقاليم بعيــدة . ولكن تجربـتها ، مع ذلك، تعثَّرت وانطوت لأسبابٍ سنتعرّضُ لها لاحقاً. لكنـّـنا نكتفي هنا بالإشارة إلى أنّ وُجود الحزب على النطاق الوطني العام، كان همـَّاً باكراً و مُلـِــحَّاً من هموم قيادته . وفي المؤتمر الثالث في فبراير 1956 كان الشـِّعار الأساسي الذي خرج به الشيــوعيـون هو " تحويل الحزب الى قوة إجتماعية كُبرى " قــوّة تؤثِّر ثأثيراً بارزاً على منحَى تطوُّر الســودان ، وتُساهم في تعزيز الديمقراطية ، وتعطي الاستقلال أبعاده الإجتماعية والإقتصادية . وتابعت اللجنة المركزية نفس القضية في دورتها في يناير 1963، إذ نادت بوضع الترتيبات اللاّزمة لتأهيل الحزب لاستقبال التطوُّرات المرتقبة في الحياة السياسية بعد نشوب المعارك الجماهيرية ضد النظام الدكتاتوري العسكري ، وظهور بوادر إنهيار ذلك النظام . وقد شهِدتْ هذه الفترة عُدّة خطوات ؛ منها : مشروع تكوين الحزب الإشتراكي، لتوحيد قُوى اليسار والتقدُّم، وهو ما عُرِفَ في تاريخ الحزب بالإتجاه اليميني ، وتمّ التراجع عنه بإعتباره تذويباً عمليّـاً للحزب الشيوعي . وكان من المهام الأساسية التى ركَّـز عليها المؤتمر الرابع للحزب ، هيَ: " تحويل الحزب إلى قوّة جماهيرية تتصدّى لمَـهام التغيير والتقدُّم " . وعَبـَّرت وثيقة المؤتمر " الماركسية وقضايا الثورة الســـودانية " عن أهميـّة هذه القضيــة في نضال الحزب بالعبارات التالية :-

    [ وعبرَ هذه الســنوات وخلال ظروفها المختلفة، صعوداً وهبوطاً في حركة الجماهير الثورية ، ظلَّ الحزب يســتكشف الوسائل والطُّرق المختلفة لِـيُحَـقِّـق شــعار المؤتمر الثالث لتحويل ذاتـه إلى قــوَّة إجتماعية كُبرى . وإنّ كافّة مشاريع العمل بين الجماهير ، والصراع ضد الإتِّجاهات المنعزلة والجامدة ، كانت تســتوحي ذلك الهدف ] .
    واضح إذن من كلِّ مـَــا ســَبَق ، أنّ قضية تحويل الحزب إلى قوّة إجتماعية كُبرى، وإلى حزب جماهيري فاعل على النطاق الوطني، إحتلـَّت مكانة جوهرية في أدبـِه وفي نشــاطِه ، وهذا أمرٌ مفهـوم، لأنّ الحزب كان يضع نَصْبَ عينيه ، ومنذ البداية ، قضية الوصول على السـُّــلطة ، وتغيير المجتمع وِفق برنامج متكامل يبدأ بمرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية وينتهي ببناء المجتمع الشــيوعي .

    إنّ الملامح العامة للصيغة التى وضعها الحزب ليتحوَّل عن طريقها إلى قوة إجتماعية كُبرى، وإلى حزب جماهيري على النطاق الوطني، يُمكن رسمها على النحو التالي :-

    */ تأهيل الحزب لنفسـِه بترقية إلمـامـه بالماركسية اللينينية والتعامل معها كمُرشد للعمل ، وليس كنصوص جامدة أو أقوال مُـقدّسة ، والاهتــداء بها في دراسة المجتمع الســـوداني ، واكتشــاف الصيغة المحددة والخاصة لقوانين تطــوُّرِه . ولا يتمُّ ذلك إلاّ بجذب خبرة المُثـَقَّفين إلى صفوف الحزب ، وإغناء حياته الداخلية واتِّســـاعها للصراع الفكري الخَـلاّق .

    */ تدعيم مواقع الحزب وسط الطبقة العاملة ، وجعله الحزب الأوّل في صفوفها ، من حيث النفوذ السياسي والوجود التنظيمي . والبدء بجذبِ الطّلائع العمّالية إلى صفوف الحزب، وتدريبها ، ورفع مقدرتها النضالية والقيادية ، وتأهيل الطبقة العاملة نفســها خطوة إثرَ خطوة ، لتحتلُّ الدور القيادي في المجتمع. ليس عن طريق الفرضِ والإملاء ، بل عن طريق الوعي والإقتناع بالضرورة التاريخية التى تؤهـِّلها وحدها لذلك الدّور .

    */ تمديد تنظيمات الحزب لتُغطـِّي كل أنحاء الوطن . وذلك بإعتماد أشكال تنظيمية مرِنة ، تستجيب لمقتضيات التطور غير المتوازن للمجتمع الســوداني ؛ وخلق الكوادر الشيوعية المحلية التى لا تشعر نحوها الجماهير بالتعالي ، كما يحدُث غالباً في حالة الكوادر المجلوبة من الحواضر والمُدُن .

    */ بناء الجبهة الوطنية الديمُـقراطية ، كحركةٍ جامعة ، متعددة الأشكال والصُّوَر ، لِتُعبِّـــرَ عن تحالف العمّال والمزارعين والمثقفين والرأسمالية الوطنية . ولِتُــنجِز مهام الثورة الوطنية الديمُقراطية . وتفتح الآفاق للتطوُّر الإشتراكي ، وتحتلُّ الطبقة العاملة المكان القيادي في الجبهة الوطنية الديمُقراطية (قيادة هذه القُوى، تكمُن بين جماهير الطبقة العاملة ) كما جاء في وثيقة الماركسية وقضايا الثورة الســـودانية . ويحتلّ الحزب الشــيوعي المكان القيادي وسط الطبقة العاملة . ويصبح دور الحزب ، بالتالي، في قيادة الدولة والمجتمع واضحاً . فما دامت قيادة الطبقة العاملة للتحالف تتخطـَّى مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية ، لِتشمل المرحلة الإشتراكية ، بل المراحل الأولى لبناء المجتمع الشــيوعي، فإنّ المشروع المتكامل للحزب الشــيوعي بأبعاده السـياسية ، الإجتماعية ، والثقافية ، يكون واضحاً هوَ الآخر .

    ويُمكِننا عند هذه النقطة أن نتســـاءل :
    هل حقَّـق الحزب الشــيوعي شــعاره الأساسي في التحوُّل إلى قوة إجتماعية كُبرى ، وإلى حزبٍ جماهيري مــؤثـِّر وفعـَّال على النطاق الوطني ؟؟
    ولا نتردّد في الإجابة بالنَّــفي .

    لقد فشلَ الحزب في تحقيق ذلك الشـعار بالصورة التى تصـوَّرها مـؤسـِّــسوه ، وبالكيفية التى تؤهـِّله ليطمح طموحاً عقلانيـّاً في الإستــيلاء على الســُــلطة وتنفـيذ البرنامج المُـشــار إليه . لقد ذكرتْ وثائق الحزب في تقييم الأداء الحِزبي ، عند التحضير لثورة أكتوبر ، أنّ عدد أعضائه لم يكن يتعدّى بضع مئات وهوَ يواجـه الأحزاب السياسية . وهذا نفســه يُمكن أن يُقال عن الحزب بعد إحدى وعشرين سـنة ، وهو يواجه إنتفاضة أبريل ؛ كما يُمكن أن يُقال عنه حالياً ، وهو يُصارع الدكتاتورية العسكرية الثالثة . وقد حكى لي أحد قادة الحزب ، أنّـه مرّت عليهم لحظات أثناء دكتاتورية نميري ، كانوا يشعرون فيها أنّ وجود الحزب يتمثـّل فقط في وجود الأعضاء الخمسة لسكرتارية اللجنة المركزية ! ليست في حالة نشاط مشترك، بل كلٍّ على حِدة !! وإذا كان ذلك يُعبِّر عن الصلابة وقوة الإرادة والإستماتة في التمسـُّك والدفاع عن وجود الحزب ، فهو يُعبـِّر في نفس الوقت عن انكماش الحزب وتحوُّله في ذهن ذلك الشخص القيادي إلى قبضــة يد واحدة . ويُعبـِّر بعض القادة حالياً عن إســتهانة ظاهرة بأنّ عشرات الآلاف من أعضاء الحزب قد تركوا صفوفه أو جمـَّدوا نشاطهم أو خَفـَّضــــوه . ولا نحتاج إلى القول أنّ حزباً بهذا الحجم ، لايُمكن أن تُســاوره الآمال بتغطية السـّاحة الوطنية ؛ خاصـّة إذا كانت مُتَّســِـعة ومتنوِّعة ، إتِّـســاع وتـنـوُّع الســـــودان .

    إنّ أهمّ الأسباب التى أعاقت نمو الحزب وحالتْ بينه وبين صيرورته قــوّة إجتماعية كُبرى، وحِـزباً جماهيريا على النطاق الوطني – في اعتقــادنا - هي التـالية :-

    **/ القمع الشـّرس الذي وُوجـِــه به الحزب منذ تأسيسه وحتى اليوم . فَطِوال سبعة وأربعين عاماً ، لم ينعم الحزب بوجود قانوني إلاّ لخمســــة أعوام تقريباً . ولم تكتَفِ الحكومات العسكرية طوال سبعة وعشرين عاما بالقمع القانوني، بل استخدمت ضدّه العنف دون تردُّد ، وباستمرار . وإذا كانت الأحزاب الأخرى قد تعرَّضت أثناء الدكتاتورية العسكرية للقمع القانوني ، والعنف أحياناً ، فإنّ نصيبها من ذلك لا يُمكن أن يُقارَن بما وقَعَ على الحزب الشـــيوعي ، ســواء بالإعتبارات النسبيَّة أو المُطلقة . أمـّا في فترة الإستعمار، وفي سـنينــه العشر الأخيرة ، وفترات الحُكم الديمقراطي، فقد تَوجـَّه القمع بأشكاله القانونية المختلفة أســاساً ، إلى الحزب الشـــيوعي. وإزاء هذا القمع الشـرس والمتواصل، إضـطـرَّ الحزب الشــيوعي إلى الحياة السـِّــرِّية المُطلقة وما يُصاحبها من أمراض الحَـلَـقية والإنكماش والإحجام ، ومن الإنفـلاق أمام الجديد وأمام الجماهير . وقد وَجَدتْ عناصر مؤثـِّرة ، كثيرة ، أنّ الحياة السـِّــرِّية لا تُناسبها ولا تتَّســع لها . كما وجدت عناصر أخرى، أنّ الأبواب أمامها مُغلـَـقة .

    **/ واقع تطوُّر بــلادنا المُـتـَّسِم بكون القطاع الحديث الذي يمـور بالنشاط والحيوية ، قِـطاعاً ضعيفاً نسبيـَّاً ، مع اتـِّـســاع القطاع التقليدي الذي يضمُّ الأغلبية السـاحقة للسـكان ، ويمـثـِّل قوة جذب هائلة إلى الوراء . وفي مثل هذا الواقع، يكون من العســير بناء تنظيم وطني حديث يتخطـَّى الإنتماءات القَبَـلية والطائفية والعِرقيــة والنِّــزاعات الإقليمية .

    **/ قيام الحزب على أساس الماركسية اللِّينينية ، يتطلـَّب من المرء ليـكون عضــواً من أعضائه ، أن يتوصـَّل لِـتَبـَـنِّي موقف فلسفي متكامل من الوجود . موقف يصف نفسه بأنّه استــوعب أعظم مــا توصلت إليه البشرية في مجالات و حقول العلم و الفلسفة و الاقتصاد و الاجتماع و الثقافة، و تخطاها تخطيا جدليا. إن مثل ذلك الانتماء لم يكن في متناول الأغلبية الساحقة من شعبنا، لا تاريخيا و لا معرفيا. و هو ليس في متناولها الآن أو في المستقبل المنظور. و أنه لطموح غير عقلاني أن نحاول بناء حزب من الفلاسفة في مجتمع أمي.

    **/ الموقف الفلسفي المادي للماركسية، و الذي لا يمكن التوفيق بينه و بين التصورات الدينية حول الكون و الخلق إلا بمعجزة، قد سهل مهمة أعدائه في إنشاء حائط أصم بينه و بين أغلبية الشعب. إن تركيز القوى التقليدية و الرجعية، بمكر و خبث على هذا الجانب، قد وضع عقبات كئود بين الحزب و الجماهير، و ذلك في وسط اجتماعي يمثل الدين نسيجه المعرفي، و القيمي و الأخلاقي، و قد تعرض الحزب لحملات بالغة العنف و الفظاظة، اعتمدت على الترويج الخبيث لمواقف عملية مزعومة، يقفها ضد الدين، و قد تصدى الحزب بفعالية لا تنكر في التصدي لتلك الحملات، و لكن المأساة التي صاغها التاريخ، و طوق بها الحزب، هي أن الأغلبية الساحقة من الجماهير كانت تقف خارج دائرة البث الفعال التي يغطيها الحزب بأقواله و أفعاله، سواء بفعل الأمية السياسية و الثقافية، أو العزلة الجغرافية، أو محدودية أداة البث ذاتها. هذا في الوقت الذي كان خطاب القوى الرجعية و اصلا لكل أقسام الجماهير، ولكل أنحاء القطر. و تستطيع أن تقول أن جيل المؤسسين و على رأسهم عبد الخالق محجوب، كان واعيا تماما بهذا الضعف الخطير في صلة الحزب بوطنه، و بشعبه، و بواقعه. و قد أشار عبد الخالق محجوب في حسرة، إلى أن الحزب ما يزال غريبا فكريا عن المجتمع، إذا كان في استطاعة القوى الرجعية أن تحاصره و تحله بالاستناد إلى حادثة مشبوهة، كحادثة معهد المعلمين العالي عام 1965، و التي فجرها طالب صغير، باع نفسه و ضميره، و استغلتها قوى لم تتعامل مع الدين إلا كذريعة لتحقيق مرام سياسية و معادية للديمقراطية و التقدم.

    **/ تضاف إلى شمولية الانتماء الفلسفي، شمولية الموقف و البرنامج السياسي، و قد تمثل ذلك في برنامج الحزب الذي يغطي ثلاث مراحل، ويطرحها جميعا للتنفيذ، و هي مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية، ثم الاشتراكية، فالشيوعية. و قد جاء ذلك في برنامج الحزب حيث قال " إن الحزب الشيوعي بطبيعته هذه، يهدف إلى تغيير المجتمع السوداني بإنجاز الثورة الوطنية الديمقراطية، و السير بالبلاد نحو الاشتراكية فالشيوعية".

    و لا ينظر الحزب إلى مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية و المطروحة للإنجاز تلك، إلا كمرحلة إعداد للاشتراكية، وهي بالتالي مرتبطة بتلك المرحلة و مفضية إليها. بل إن كثيرا من المهام الأساسية لهذه المرحلة لا يمكن فهمها إلا في إطار الانتقال اللاحق على الاشتراكية. فقيادة الطبقة العاملة لمرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية تمليها ضرورة الانتقال الحاسم إلى الاشتراكية, كما أن الاشتراكية نفسها ليست سوى تحضير طويل للمجتمع الشيوعي، الذي تمثل هي مرحلته الدنيا.

    برنامج الحزب – إذا- وثيقة مترابطة، متكاملة إنه حلقات يمسك بعضها برقاب بعض. و لذلك فإن الشخص الراغب في نيل عضوية الحزب مطالب بتبني مشروع سياسي متكامل، يغطي الحاضر، و كل المستقبل، و يسعى نحو إقامة نظام اجتماعي، ليس لهذا الجيل وحده، و لا للجيل الذي يليه، بل للمجتمع الإنساني ككل، منذ اللحظة الحاضرة، و إلى الأبد. و إذا وضعنا في الاعتبار طبيعة قانون التطور الاجتماعي، فان مثل هذا المشروع لا يمكن أن يوصف بأنه مشروع علمي، و هذا ما ناقشناه في الورقة الأولى. و لكن الذي يهمنا هنا على وجه التحديد هو أن ترابط حلقات برنامج الحزب الشيوعي، يجعل من العسير جدا على المرء، أن يختار حلقة دون الحلقتين الأخريين، فإذا كان مقتنعا مثلا ببرنامج الحزب في مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية، أو ببعض القضايا الأساسية في ذلك البرنامج، أي أنه يلتقي مع الحزب في مرحلة تاريخية متكاملة، فانه سيحجم عن التقدم لعضوية الحزب لأنه لا يستطيع أن يعرّف نفسه تعريفا شيوعيا يقتضي منه أكثر من ذلك بكثير. و قد رأينا كيف كان الحزب في غير متناول جماهير القطاع التقليدي، و ها نحن نرى كيف صار الحزب بطبيعة برنامجه هذا في غير متناول أقسام واسعة من جماهير القطاع الحديث نفسه، و باستطاعة الحزب أن يكون في متناول هذه الجماهير لو اقتصر في خطابه على مرحلة تاريخية واحدة، يراها و يدركها، و تراها و تدركها مع الجماهير الواسعة، و تنخرط على هذا الأساس في النضال من أجل تحقيقها، و ما دامت هذه المرحلة في اتجاه التطور التاريخي العام، فإن الأجيال القادمة، و التي تصاغ المشاريع الشمولية من أجلها، لن تخسر شيئا، بل ستتسلم الراية من نقطة متقدمة، و لن يخسر المستقبل الإنساني شيئا، بل سيكف عن الضغط بثقله على الحضر، مفتتا بعده قوى التقدم الماثلة، التي تؤدي اختلافاتها حوله على حجب اتفاقها حول واجبات الحاضر، و عرقلة وحدتها لإنجاز هذه الواجبات. و من الواضح أن خدمة المستقبل الإنساني ككل لا تتم إلا بالتعامل معه في نسبيته، و ليس في إطلاقه، و رسم أهداف قريبة، مرئية بوضوح، و قابلة للتحقيق، و عندما يتم تحقيقها فإنها تتحول إلى نقطة انطلاق جديدة لأهداف أبعد، تحققها أجيال لاحقة.

    طرح الحزب الشيوعي نفسه للمجتمع السوداني باعتباره حزب الطبقة العاملة. يعبر عن مصالحها أولا و قبل كل شيء، و يجعل تلك المصالح البعيدة و القريبة، معيارا لصحة المواقف و سداد السياسات، و يتوجه إليها بكل جهده و اهتمامه لتوعيتها برسالتها التاريخية، و إعدادها لقيادة المجتمع. و هذا لم يمنعه بالطبع من التوجه إلى الطبقات و الفئات الأخرى من مثقفين و مزارعين و برجوازية صغيرة ووطنية. و لكنه كان يطلب من أبناء تلك الطبقات، الذين يلجون صفوفه، أن يتخلوا عن التعبير عن مصالح طبقاتهم، و الانحياز بالكامل لمصالح الطبقة العاملة. و هم بالتالي لا يلجون أبواب إلا بمقدار إيمانهم بعدم مشروعية مصالح الطبقات التي ينتمون إليها. أو على الأقل على قدر إيمانهم بأن مصالح طبقاتهم تلك، ليست سوى مصالح عابرة سيتخطاها التاريخ في نهاية المطاف، و بالطبع فإن تخلي المرء عن مصالحه الخاصة أو الطبقية، حتى و لو على نطاق المستوى النظري الخالص، أمر ينطوي على الكثير من النبل، و لكنه في الحقيقة لا يجذب سوى أقلية ضئيلة من أبناء تلك الطبقات. و يصدق هذا خاصة في ظل أوضاع لا "تنحاز " فيها الطبقة العاملة نفسها إلى "فكرها و مصالحها"! و ربما كانت مقولة الانحياز إلى فكر و مصالح الطبقة العاملة ستكتسب أبعادا هامة لو أن التاريخ صدق النبوءة الماركسية الأساسية حول الاستقطاب الاجتماعي الشامل بين البروليتاريا من جانب، و البرجوازية من الجانب الآخر. ذلك الاستقطاب، الذي لا تجد إزاءه الطبقات الوسيطة سوى الانحياز إلى هذا الجانب أو ذاك، مع غلبة تيار المنحازين على البروليتاريا، لان خلاص المجتمع سيتم على يديها، و لأن البرجوازية تعاني حينها سكرات الموت. و للأسف الشديد فإن التطور الاجتماعي لم يسر في تلك الوجهة. بل حدث العكس تقريبا. فقد تنامت الطبقات الوسطى على حساب البروليتاريا أساسا، و على حساب البرجوازية كذلك، و أصبحت تشكل الأغلبية الساحقة في كل المجتمعات الرأسمالية المتقدمة. و بانتصار الثورة العلمية التكنولوجية في تلك المجتمعات حدثت تطورات عاصفة حولت البروليتاريا -أي الطبقة العاملة الصناعية- إلى قوة هامشية تتراوح بين 10 و 15% من مجموع السكان. و تحول إنتاج الثروة القومية بصورة حاسمة من اليد إلى الدماغ. و أصبحت المعرفة و المعلومة و الفكرة، و التصميمات الذهنية، هي أداة الإنتاج الأساسية. و هذه تمتلكها الطبقات الجديدة، والفئات الجديدة، التي ولدتها الثورة العلمية التكنولوجية. و قد أصبحت هذه الفئات و الطبقات هي المنتجة الأساسية للثروة، و أصبحت هي الوحيدة القادرة على قيادة المجتمع. لقد تضاءل دور البروليتاريا و جاء عهد "الكومنتاريا" كما سماها ألفن توفلر في كتابه (power shift)، التي تمتلك وسائل إنتاجها بامتلاكها للمعرفة، و هي أدوات إنتاج لا تستطيع البرجوازية نفسها أن تجردها منها، و هذه ظاهرة جديدة لم يعرف ماركس و لم ينظّر لها.

    إن كل الدلائل تشير إلـى أن وجهـة التطـور التاريخي ستحكم على البروليتاريا بالاضمحلال المستمر. ومن الناحية الأخرى فإن العملية الإنتاجية في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة، وبفضل نضال المنتجين، وبفضل المساومة التاريخية التي ارتضتها البرجوازية، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، أصبحت أكثر ديمقراطية لاشتراك العاملين أنفسهم في رسم أهدافها بهذا القدر أو ذاك، وباستقلال الإدارة النسبي عن ملكية وسائل الإنتاج، وباشتراك أعداد متزايدة في ملكية وسائل الإنتاج نفسها، وإن بأقدار متفاوتة. وقد كان هذا جزء من عملية شاملة توسعت فيها الديمقراطية لتشمل جل خلايا المجتمع. وقد ترسخت الحقوق والضمانات الاجتماعية. وبالرغم من أن ملكية وسائل الإنتاج ظلت مطلقة من الناحية القانونية، إلا أنها قد أحيطت بقيود اجتماعية كثيرة من الناحية الفعلية. وقد تم كل ذلك على حساب البرجوازية. على حساب سيادتها المطلقة على المجتمع، وتحديدها القاطع التام لأهداف العملية الإنتاجية.
    هذه الظواهر كلها محصورة الآن في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة. وربما تغري هذا الحقيقة البعض ليزعموا أنها لا تخصنا في مجتمعات العالم الثالث المتخلفة. ولكن مثل هذا الزعم سيكون خاطئا. فالذي حكم باضمحلال البروليتاريا في المجتمعات الصناعية المتقدمة سيحكم باضمحلالها أيضا في بلداننا ومجتمعاتنا، عندما تأخذ بأسباب التقدم على أساس منجزات الثورة العلمية التكنولوجية المعاصرة، وليس على أساس معطيات الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، وهي معطيات عفى عليها الزمن. وليس مكتوبا على مجتمعاتنا أن تترسم خطى المجتمعات المتقدمة، وقع الحافر على الحافر، بل يمكنها، ويتوجب عليها، أن تحول الفارق الزمني والحضاري إلى صالحها، فتقطع بالطائرة المسافات التي قطعتها تلك المجتمعات بالقطار. وهذا لا يتأتى إلا بتخطي مرحلة الصناعية التقليدية التي ربطت إنتاج القيمة الزائدة بالإنتاج اليدوي أساسا، والاتجاه إلى التغليب التدريجي للإنتاج الفكري المستند على المعرفة والمعلومة والوسائل التكنولوجية الحديثة.
    إن مآلات ومصائر الطبقة العاملة هامة جدا بالنسبة لحزب كحزبنا. فمشروع حزبنا قائم بجوهره على صيرورة الطبقة العاملة، القوة الأساسية القائدة في المجتمع. وهذا الموقع لن يتحقق لها إلا إذا صارت المنتج الأساسي لثروة المجتمع، وتحققت لها الغلبة العددية. ولكن هذه الأهداف التي هي أهدافنا لم تعد أهدافا للتاريخ. فقد كف التأريخ عن السير في هذا الاتجاه.

    إن كل هذه المعطيات تجبرنا على النزول على أرض الواقع، وتحملنا على الكف عن التعامل مع الطبقة العاملة كمقولة ذهنية خيالية، وكمستودع خيالي لكل ما هو خير ونبيل، والتعامل معها كما هي في الواقع، دون مديح كاذب أو هجاء مغرض، دون أنوار باهرة أو طلال قاتمة، وتحدد مكانها ومكانتها، وفق معطيات موضوعية، ومقدمات حقيقية، فالطبقة العاملة جزء من المنتجين، ولكنه ليس الجزء الأساسي. ومع أخذ المجتمعات بمنجزات الثورة العلمية التكنولوجية ستتأكد هذه الحقيقة اكثر فأكثر والطبقة العاملة في بلادنا ضئيلة الوزن بالقياس إلى مجموع السكان وهي محصورة في قطاع حديث محدود وهي غير نقية في تكوينها الطبقي، لأن عددا كبيرا من أبنائها يجمع في الانخراط بين العمل المأجور والاحتفاظ بالملكية الصغيرة، كما أن جزءا كبيرا من العمال ينضم إليها في هذا الموسم ويهجرها في الموسم الذي يليه. ومعنى ذلك أن موقعها في الإنتاج ليس المحدد الوحيد لأيديولوجيتها، هذا إذا كان الموقع في الإنتاج محددا وحيدا لأيديولوجية الطبقات، وهو قول بعيد جدا عن الحقيقة. ومن هنا يصعب الحديث عن أيديولوجية للطبقة العاملة السودانية إلا إذا تعاطينا مع التلفيق، وحددنا بصورة مسبقة وتحكمية، أن الماركسية اللينينية هي تلك الأيديولوجية وعلى الطبقة العاملة أن تتبناها رغم أنفها وفي هذا الحالة لا يكون هناك أي فرق بين أن تتبنى هذا الأيديولوجية أو ترفضها، لأننا لم نضع أي اعتبار لهذا القبول أو الرفض، في وصف الماركسية بأنها أيديولوجية الطبقة العاملة. ونحن قد فعلنا ذلك وما زلنا نفعله، ولكن الوصاية المبثوثة في هذا القول لم تعد محتملة اليوم. فالوعي الديمقراطي قد تنامى بصورة تجعل مثل هذه الادعاءات فادحة الثمن على المروجين لها.

    يضاف إلى ذلك التناقض الأساسي في بلادنا وفي بلدان العالم الثالث على وجه العموم ( والذي أصبح اليوم عالما ثانيا) ليس هو التناقض بين الطبقة العاملة والبرجوازية، بل هو التناقض بين المجتمع ككل والشرائح الطفيلية السائدة والحاكمة ؛ بين المجتمع ككل والتخلف؛ بين المجتمع ككل ودوائر الاستغلال الإمبريالي. وستشترك مختلف الفئات والطبقات بأدوار متفاوتة في المعركة الطويلة والشرسة ضد الفئات الطفيلية الحاكمة والسائدة، أو تلك التي يولدها باستمرار تطور المجتمع، وضد التخلف، وضد الاستغلال الإمبريالي. وستلعب الطبقة العاملة دورها في تلك المعركة، ولكن ذك الدور لن يكون الأساسي في الغالب، وذلك بحكم وزنها السياسي والاقتصادي والثقافي والبشري. وغالبا ما يذهب الدور الأساسي بصورة تدريجية، ولكنها مؤكدة ووطيدة، إلى الفئات المرتبطة بالثورة العلمية التكنولوجية من المثقفين والفنيين والتقنيين والطلاب. وسيكون محتوى هذه العملية كلها محتوى ديمقراطيا عميقا، على كل المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وسيكون أعداؤها الأساسيون هم دعاة الدكتاتورية بكل صورة وأشكالها، بما في ذلك دعاة "دكتاتورية البروليتاريا". إن أحدا لا يمكن أن ينكر الدور الهام الذي ستلعبه الطبقة العاملة في تطور المجتمع وترسيخ الديمقراطية، وهي لها إرث مجيد في ذلك. ولكن الزعم بأنها وحدها تملك المفاتيح السحرية للأبواب المفضية إلى التحرر الإنساني الشامل، زعم لم يؤكده الواقع، ولم يشهد له التأريخ.

    إن أزمة المشروع الماركسي تتمثل في هذه النقطة بالذات. فقد راهن هذا المشروع على حصان بدأ جامحا ولكنه أصيب بالوهن في منتصف الطريق. ولعله سيكون من المفيد أن نتذكر أن تعلق ماركس بالبروليتاريا كان في أساسه تعلقا رومانسيا، لفتى لم يتعد العشرين إلا قليلا عندما كان يبحث عن العدالة المطلقة، فاستعار دون أن يعي مفهوم المسيح المخلص، وأصبغه على طبقة أثارت شفقته، واستفز شفاؤها حسه العميق بالعدالة. وقد ظل ماركس في سن نضجه وشيخوخته، أمينا أمانة مدهشة، لمشروع كان قد صاغه في صباه. إن الذي يقرأ نصوصه حول العمال الفرنسيين، والعمال المهاجرين الألمان "الذين يشع النبل من أجسادهم" سيدرك بسهولة ما يرمي إليه. وإن المطلع على أعمال ماركس لن يجد في ترشيحه للبروليتاريا لقيادة التأريخ الإنساني سوى أسباب واهية.

    إن الحزب الشيوعي السوداني قد بذل جهدا كبيرا ومتصلا لتأكيد هويته "البروليتارية"، "وترقية" تكوينه البروليتاري، وقد ذلك، في نظرنا، إلى سيادة اهتمامات ضيقة، وغذى روح الانتظار الحالم لتلك اللحظة التي تنمو وتنضج وتسود فيها الطبقة العاملة. وقد ذلك إلى غربة الشيوعيين عن واقعهم غير البروليتاري أساسا، فأعرضوا عن الانخراط اليومي الحميم في معركة الواقع وتوجيهه وفق منطقه الخاص وليس وفق تصورات ذهنية غير واقعية. وقد أدى البحث عن "الهوية البروليتارية" إلى نشوء عدم الحساسية تجاه الفئات والطبقات الأخرى، وأنشأ جدارا من الاستعلاء والغربة بين الحزب وبين العناصر الراغبة في الانضمام إليه من تلك الفئات والطبقات. وقد تأثر المثقفون خاصة بهذه الاتجاهات. كما أن النقاء البروليتاري قد تطابق في كثير من الأحيان مع التعصب والحمو، واحتقار الرأي الآخر، وقمعه، باعتباره يمثل "فكرا غريبا" عن أيديولوجية الطبقة العاملة. لقد كانت هذه التهمة فادحة بالفعل، فالتعبير عن "أفكار غريبة" يعني الوكالة الفكرية عن طبقات أخرى، وتمثيل مصالحها، غير المشروعة، داخل الحزب، وهو عمل يمكن أن يوصم بالخيانة. وفي حالة براءة الشخص من تهمة الخيانة فإنه في هذه الحالة لن يكون بريئا من الجهل، ولا من عدم نضوج الانتماء البروليتاري. وتكون مجهوداته السابقة كلها في "التثقيف الماركسي" قد ضاعت هباء.
    إن الجو الفكري الخانق في الحزب الشيوعي، والخوف الشديد من أي خلاف في الرأي، والإحجام عن التعبير عن أية أفكار غير مألوفة، وغير مقبولة للقيادة، والإحجام حتى عن استخدام مفردات لغوية جديدة، ومحاربة بروز خطاب خاص لأي عضو من أعضاء الحزب، إذ يشجع الجميع على التحدث بنفس اللغة، ترجع أسبابه إلى هذا الخطر الماثل المتعلق بالخروج من ملة البروليتاريا. وهذا الخوف يشمل البروليتاريين أنفسهم داخل الحزب. فالخيانة الطبقية تشمل أيضا خيانة الذات.

    وللتحلل من هذا العبء الفادح، والخوف المقيم، تُركت مسألة التعبير عن أيديولوجية البروليتاريا لقساوسة أيديولوجيين، لمفوضين من طراز سوسلوف. وقد أدى هذا إلى خنق الفكر داخل الأحزاب الشيوعية، وتفريخ روبوتات بدلا من أفراد. وربما لا يكون هذا قد تحقق بكامله في جميع الأحزاب. ولكنه اتجاه قوي لا يستطيع أن ينكره أحد.
    4.المركزية "الديمقراطية"... داء الحزب العضال:
    العوامل التي عددناها، والتي أعاقت نمو الحزب، ذات طابع خارجي، براني، أي أنها تختص أساسا بعلاقة الحزب بالمجتمع، أو الطبقات أو الفئات المختلفة. ولكن ثمة عقبة ذاتية، داخل الحزب ذاته، تعيق نموه وتحبط تطوره. وهي تتمثل في المبدأ التنظيمي الذي يحكم حياته الداخلية والمسمى المركزية "الديمقراطية". فسيادة هذا المبدأ هي المسؤولة عن عقم حياة الحزب الداخلية، وضيقه بالخلاف في الرأي، وتبرمه باستقلال الفرد ونمو شخصيته المستقلة، وتوخيه للطاعة المطلقة في كوادره واعتبارها شرطا أساسيا للترقي الحزبي. وهي المسؤولة عن ظهور الشيخوخة المبكرة في هيئات الحزب القيادية.
    وعلى كثرة ما قيل في هذا المبدأ من مدائح، وما دبج في الدفاع عنه من مقالات وكتب، فإن الحجج التي تسنده لا تخرج عن اثنين:
    1- ضمان وحدة الحزب والوقوف في وجه أية محاولات تكتلية أو انقسامية، وسحقها في مهدها.
    2- إقامة نظام طاعة حديدي يزعم أنه يرتفع بفعالية الحزب إلى الدرجة القصوى.
    وإذا افترضنا أن مبدأ "المركزية الديمقراطية" يؤدي بالفعل إلى تحقيق هذين الهدفين، فإنه يحققهما، في رأينا، بثمن فادح يملي علينا الإقلاع عن تبني هذا المبدأ، ونبدأ بتمييز أساسي، ربما لا يوافق عليه البعض، وهو أن هذا المبدأ لينيني وليس ماركسيا، فقد أملاه في رأينا واقع القمع القيصري الفظيع، وواقع الإمبراطورية الروسية المترامية الأطراف، ومستوى الثقافة التنظيمية التي كانت سائدة في تلك السنوات الباكرة من القرن العـشرين. في تلك الظروف كان واجبا على الحزب الثوري، لكي يكون موجودا، ولكي يكون فعالا، أن يقوم على المركزية الصارمة، وربما المطلقة. وأن يستند على حكمة ورجاحة عقل القيادة، بل عبقريتها إذا شئت، في رسم كل سياساته وتحديد كل خطواته. وربما يجد البعض تبريرا كافيا للقول بأن الحزب البلشفي، لو لم يكن قائما على هذه المركزية الصارمة لما نجح في استلام السلطة. وذلك من واقع التأريخ الرسمي للحزب. ولكن الباحث المدقق سيعثر على حقيقة مدهشة، وهي أن الحزب البلشفي لم ينتصر إلا بتكسيره الحـازم لمبدأ المركزية المطلقة. وهذا أمر سنعالجه في موضع آخر.

    المهم أننا لو سلمنا جدلا بأن المركزية المطلقة كان لها ما يبررها في بداية القرن، في بلاد مثل روسيا، فإنها حاليا قد فقدت أي مبرر تأريخي. ويبدو لنا أن الذي فكر في الجمع بين المركزية والديمقراطية قد اتخذ الأول كنقطة انطلاق وأضاف إليها الثانية كمسوغ لقبولها ليس غير. وذلك لسبب بسيط وهو أن الديمقراطية تحتوي على مركزيتها الخاصة. فخضوع الأقلية لرأي الأغلبية مبدأ ديمقراطي معروف، يضمن وحدة المنظمة المعنية، ويجسد إرادتها. يضاف إليه مبدأ التمثيل "Representation" الذي يؤدي نفس المهمة على المستويات الأعلى فالأعلى. وتكمل البناء الديمقراطي، وترتقي بالفعالية الحزبية، مبادئ أخرى صاغها الفكر السياسـي الديمقراطي عبر القرون. مثل التوزيع الأفقي للسلطة الحزبية، التخصـص، الاعتبارات الفئوية والجغرافية، العرقية والقومية، المؤتمرات المنتظمة للصحافة الحزبية... الخ.

    وبما تشيعه الديمقراطية الحزبية من رضـى عام وسط الحزب وهيئاته، فإنها ترفع فعاليته إلى الحد الأقصـى. وهكذا فإن وحدة الحزب وفعاليته يمكن ضمانها باعتماد الديموقراطية وحدها كمبدأ تنظيمي. ولكن هذه الديمقراطية المكتفية بذاتها عندما تلحق كرديف ثانوي لمركب "المركزية الديمقراطية" وتستخدم كمسوغ لقبول المركزية المطلقة، وكطلاء سكري لجرعتها المريرة، فإن نهايتها تكون قد حلت. وبالفعل فإن ممارسة الأحزاب الشيوعية تشهد أن الديمقراطية قد تمت التضحية بها على الدوام، لصالح مخدومتها المبجلة: المركزية المطلقة. فعلى مستوى الحزب، صارت القيادات الحزبية العليا تفرض هيمنتها على كل عضويتها، وتحتفظ لنفسها بسلطات تظل تتسع باستمرار، وتتطور في أثناء ذلك آليات تنظيمية تسحق كل نزعة مستقلة.

    وعلى مستوى الطبقة العاملة، وبفضل نفس المبدأ، تحولت المؤسسات التي أنشأتها لخدمتها إلى مؤسسات سيدة، ومتعالية عليها. وعلى مستوى المجتمع ككل، صارت السياسات البيروقراطية المتنزلة من سماوات السلطة أوامر إلهية لا تقبل الأخذ والرد.
    إن النغمة السائدة حاليا هي إرجاع كل الشرور العظيمة، والجرائم المرعبة التي ارتكبت أثناء عقود التجربة الاشتراكية التي سقطت، إرجاعها إلى الظاهرة الستالينية دون توضيح حقيقة أن الظاهرة الستالينينة نفسها هي الابنة الشرعية للمركزية الديمقراطية. فعن طريق مبدأ الطغيان القيادي، صعد جوزيف ستالين، إلى السكرتارية المركزية للحزب الشيوعي، ولم يكن في مقدور مؤسس الحزب نفسه، فلاديمير ايليتش أن يزيحه من موقعه ذاك رغم محاولاته المستميتة، و "تآمره" مع مجموعة تروتسكي، وتحضيره لقضية شيوعي جورجيا الذين اضطهدهم ستالين، لتفجيرها داخل المؤتمر. لم يفلح في ذلك لأنه كان بفعل المرض قد فقد السلطة الحزبية. وعندما حدث ذلك فإن العبقرية السياسية، والنفوذ المعنوي الهائل، لم تعد تجدي فتيلا. وهذا هو أسطع مثال على أن المركزية "الديمقراطية" هي مبدأ الحماية المطلقة للقيادة في مواجهة قاعدتها بالذات. فعندما تصل القيادة إلى مراكزها السماوية عن طريق آليات المركزية "الديمقراطية"، فغن شيئا أقل من زلزال لن يزيحها من أماكنها. هذا مع الاعتبار الكافي لكون ممثليها كأفراد يمكن أن يزاحوا عن طريق الموت أو العجز الكلي، أو التـآمر!

    وحتى لا نتهم بالتحامل على المركزية "الديمقراطية" دعونا نأخذها في صورتها المثالية، ونفرض أن التنظيم القائم على أساسها قد طبقها تطبيقا كاملا. فهيئاته من القاعدة إلى القمة هيئات منتخبة، ويسود فيها مبدأ خضوع الأقلية لرأي الأغلبية، وتخضع الهيئات الدنيا للعليا، وتعقد مؤتمرات الحزب بصورة منتظمة، وتقرر برامجه ولوائحه في هذه المؤتمرات، وتصدر مجلاته الداخلية تحمل الآراء المختلفة والمتصارعة لأعضائه، وتصدر مجلاته وصحفه الجماهيرية لتحمل تصوراته الموحدة إلى الشعب، هل ينتفي حينها طغيان القيادة واستئثارها بصلاحيات شبه مطلقة؟
    أعتقد أن الإجابة بالنفي. وذلك لسبب محدد هو أن إجراءات انتخاب اللجنة المركزية، وكل الهيئات القيادية التابعة لها هي إجراءات غير ديمقراطية. فاللجنة المركزية السابقة، أو مكتبها السياسي بالأحرى، هي التي تقدم قائمة الترشيحات للجنة المركزية الجديدة. وما دامت هي القائمة الوحيدة فإنها ستفوز في جميع الحالات، وفي ضوء القانون اللائحي بمنع التكتل والاتصالات الجانبية، فإنه يستحيل عمليا تبلور أية مجموعة، بمعزل عن المجموعة القائدة، تستطيع أن تقدم قائمة بديلة، ويبقى من حق الأفراد، إذا احتملوا الهمهمات الساخرة والنظرات القاسية، أن يتقدموا بترشيحات فردية، وحظها من النجاح يكاد يكون صفرا.

    ولكن حتى إذا فازت فإنها لا تؤثر على تركيبة القيادة، ولا يبقى أمام المعارضين للترشيحات الجديدة سوى الامتناع عن التصويت، وهو حق العاجز، الذي لا يقدم ولا يؤخر و بمجرد انتخاب اللجنة المركزية فإن هيئات الحزب القيادية كلها يكون أمرها قد حسم. واللجنة المركزية، والمكتب السياسي، والهيئات المحيطة بهما، هي التي تحدد سياسات الحزب، ومواقفه العملية، وهي التي تحكمه حكما صارما.
    ويتم التركيز دائما على أن إجازة البرنامج السياسي هي الأمر الأهم. وأن العضوية عندما تجيز ذلك البرنامج فإنما ترسم للقيادة اتجاهها، وتحدد لها دورها. وهذا صحيح نظريا. ولكن عمومية البرنامج نفسه، تسمح بسياسات وتفسيرات متعددة، وربما متناقضة. ولذلك لا يمكن الاحتجاج به. وما يقال عن الوحدة حول البرنامج، يقال بصحة أكثر حول الأيديولوجية.
    إن المركزية الديمقراطية تنادي بحق الأقلية في الاحتفاظ برأيها والدعوة إليه من داخل المنابر الحزبية، ولكنها في واقع الأمر تجعل وجود أقلية داخل الحزب أمرا مستحيلا، فتكوين أقلية حزبية يقع مباشرة تحت طائلة المبدأ اللائحي القائل بتحريم التكتل والاتصالات الجانبية، ولا توجد الأقلية بالتالي إلا كأفراد منعزلين، لا يلتقون إلا كمتآمرين. وذلك هو السر في أن الأقليات لا تتكون داخل الحزب الشيوعي إلا عشية الانقسام، وتشهد على ذلك ظاهرة المناشفة والبلاشفة في روسيا، والمجموعات التي ظلت تنسلخ على الدوام من الأحزاب الشيوعية على طول الدنيا وعرضها. إن الحديث عن إمكانية وجود أقلية داخل إطار المركزية "الديمقراطية" ليست سوى واحدة من إستهبالات الفكر السياسي والتنظيمي الأكثر مرارة والأكثر إثارة للهزء. وإذا كانت الأقلية لا توجد داخل الحزب، فإن الرأي الآخر لا يوجد بالتالي، بالنسبة للمجتمع، حيث يفترض أن يعبر عضو الحزب عن رأي الحزب بصرف النظر عن وجهة نظره الشخصية.

    وعندما تستند القيادة إلى مبدأ خضوع الهيئات الدنيا للهيئات العليا فإنها ستتمكن من فرض رأيها على مجموع الحزب حتى إذا كانت كل الهيئات الدنيا تعارض هذا الرأي. وإذا كان هذا المبدأ هاما لفعالية أي تنظيم سياسي فإن الضمانات الكفيلة بعدم طغيان القيادة لم توضح مطلقا.
    ها نحن قد افترضنا هنا حالة مثالية لتطبيق المركزية "الديمقراطية" وأوضحنا أنها مركزية وحسب، وليست ديمقراطية على الإطلاق. ولكن الواقع غالبا ما يكون بعيدا جدا عن المثال. فمؤتمرات الحزب لا تعقد بنفس الانتظام الذي تنص عليه اللائحة. فالحزب الشيوعي السوفيتي لم يعقد مؤتمرا خلال ثلاثة عشرة سنة، مـن 1939 إلى 1952. وقد كان هذا الحزب – وقتها – في السلطة، وكان يحكم شعبا خاض لست سنوات حربا عالمية. والحزب الشيوعي السوداني لم يعقد مؤتمرا طوال ربع قرن. إن هذا يوضح أن المركزية يمكن أن تستغني عن خدمات الديمقراطية، في أي وقت، ودون أن تخشى الحساب. وحتى عندما تعقد المؤتمرات فإنها غالبا ما تتحول إلى ساحة لتمجيد القيادة، وإظهار الإجماع أمام المجتمع والعالم، وليس منابرا لحوار المثمر البناء واختـلاف الآراء. إن مؤتمر الحزب الشيوعي الروماني قد انتخـب نيكولاي شاوشيسكو أمينا عاما للحزب بالإجماع، وذلك قبل أيام فقط من محاكمته وإعدامه!!
    وغالبا ما لا تخضع الوثائق التي يخرج بها المؤتمر لحوار جدي قبل المؤتمر أو أثناء انعقاده. فوثيقة الماركسية وقضايا الثورة السودانية على سبيل المثال، تمت قراءتها على الأعـضاء أثنـاء المؤتـمر الرابع، وهي كتاب. وتمت تعبئة الحزب حولها بعد انفضاض المؤتمر واستمرت التعبئة لأكثر من عام.

    نخلص إلى أن الحـزب القـائم على المركزيـة "الديمقراطية" كما أثبتت تجارب الأحـزاب الشيوعية دون استثناء، هو حـزب غير ديمقراطي. وإذا كانت ثمة ديمقراطية داخله، فهي من نصيب القيادة وحدها، في حين تتجه المركزية إلى إخضاع القاعدة وتأديب المارقين.
    إن المبادرة في مثل هذا الحزب تأتي دوما من القيادة وحدها. ويصبح التلقي والتنفيذ هو القدر الذي لا مفـر منه بالنسبة للقاعدة. فالمركزية المطلقة هي الأداة الفعالـة لخلق قاعدة حزبيـة سـلبية، عديمة الإرادة، مغتربة داخل حزبها الذي جاء ليجتث الاغتراب مـن كل المجتمع، وممزقة لا تدري ما تفعل. ولا نعدو الحق إذا قلنا أن العلاقة بين القيادة والقاعدة مأزومة دائما ومريضة. فالقيادة تنزل رؤيتها دائما في شكل توجيهات، وتتوقع من القاعدة أن ترفع لها الشواهد والبراهين التي تؤكد لها صحة تلك التوجيهات وتقمع وتحجب ما عداها. وإن القاعدة تنتظر رأي "الحزب" في كل صغيرة وكبيرة، معتقدة أن الحزب هو هيئاته القيادية، وبين هذه وتلك، يوجد الجهاز الحزبي المتخصص في تنزيل التوجيهات ورفع التأكيدات.

    وبالتدريج، وبفعل هذه الآلية، وبفعل الدوافع والنوازع الإنسانية، البالغة التعقيد، وبفعل تأثيرات السلطة الحزبية، أو السلطة السياسية إذا وجدت، يتحول رأي الحزب وتوجيهاته إلى أوامر أوتوقراطية غير قابلة للمراجعة. وتتحول تأكيدات القاعدة إلى مديح وثناء وعبادة. فعبادة الفرد ليست سوى عبادة القيادة. وليست سوى الثمرة السامة للمركزية "الديمقراطية" وإذا كانت تخلق، على مستوى القيادة، طغاة، قساة القلوب، مثل ستالين وشاوشيسكو، أو تسمح لهم بالصعود، فإنها على مستوى القاعدة تخلق جيشا كاملا من المداحين، والكذابين، وماسحي الجوخ المزيفين والمزيفين والمزيفين. هؤلاء هم الذين سيحتلون تدريجيا أهم الوظائف الحزبية، ويفرضون سيطرتهم الكاملة على جهاز الحزب، ويسخرونه في عمليات القمع القاسية، وعمليات الافتراء الخبيثة والتي يوجهونها ضد أشرف وأنظف العناصر الحزبية، هذه العناصر التي تستفزهم استفزازا لا يحتمل بمحض نبلها واستقامتها وصدقها، واستماتتها في الدفاع عن القضية النبيلة التي أنشئ الحزب أساسا من أجلها. وهنا يصبح الحزب مريضا مرضا لا شفاء منه، مغتربا عن ذاته، وعن رسالته، وعن مجتمعه. وبدلا من أن يكون منقذا للمجتمع يتحول إلى خطر ماحق يتهدده. إنه يغرق بالكامل في مرحلة انحطاطه ولن يشفى إلا باستئصال تام لأورامه الخبيثة.

    ويمكن للحزب أن يقاوم هذه الاتجاهات التي أشرنا غليها، من التعبير عن نفسها بالكامل، ما دام في صفوف المعارضة. ولكنه لايستطيع مقاومتها مطلقا إذا استولى على السلطة. وتجربة الأحزاب الشيوعية في ما كان يعرف بالمعسكر الاشتراكي خير شاهد على ذلك. فالظاهرة الستالينية هي القاعدة وليس الاستثناء في جميع هذه التجارب. وبانتقال الحزب إلى السلطة ينتقل مبدأ المركزية "الديمقراطية" ليشمل المجتمع ككل. وتنتقل ظواهرها السالبة من حيزها الحزبي المحدود إلى الحيز الوطني العام. كما أنها تصبح أكثر تفاقما وعمقا وعقما أيضا.

    إن منع تكوين الديمقراطية، ومسايسة الرأي الآخر، ومصادرة الديمقراطية، وإنشاء بنية سيكولوجية متينة لدي عضو الحزب، تخشى الاختلاف، والاستقلال والتميز خشيتها للمرض، هي ظواهر كفيلة بإحباط وسحق تطور أي حزب أو منظمة. ولا غرو، فذلك يمثل الإلغاء العملي لفعالية قانون التناقض الماركسي والذي هو القوة الدافعة لكل تطور. فهذا القانون القائم على وحدة وصراع الأضداد قد أبطل فعله داخل الحزب بالتركيز الوحيد الجانب – المرضي أحيانا- على الوحدة، وعلى حساب الصراع. وأنه لمن المفارقات الأليمة في تأريخ الفكر السياسي والتنظيمي أن يبادر الداعون إلى نظرية ما، والمؤمنون بصحتها وصوابها، إلى إلغاء جوهرها حينما يشرعون في تطبيقها. خاصة وأن تلك النظرية تصر على وحدة الفكر والتطبيق، وتعتقد أن حقيقتها لا تتكشف إلا في وحدتهما. وللأسف الشديد فإن هذا هو بالضبط ما حدث، بل أن أكثر ما يثير القيادات الحزبية ويفجر غضبها هو القدح في مبدأ المركزية الديمقراطية الذي أدى إلى كل هذه النتائج السالبة. ولا يحدث هذا إلا لأن هذا المبدأ يتعلق بالسلطة الحزبية وبحماية المواقع القيادية.

    ويمكن للبعض أن يقول أن تجربة الحزب الشيوعي السوداني تثبت أن المركزية الديمقراطية لا تؤدي بالضرورة إلى الظواهر التي أشرنا إليها. ولكننا لا نرى أي أساس لهذا القول، ولهذا الاستثناء. وفي حقيقة الأمر فإن الأدب الحزبي يفيض بالحديث عن المركزية "الديمقراطية" وقد تحولت إلى مركزية بيروقراطية، وأفسدت حياة الحزب الداخلية، وأعاقت نموه وتطوره. فقد جاء في وثيقة إصلاح الخطأ في العمل بين الجماهير ما يلي:
    " إن بعض الرفاق يدوسون على هذا المبدأ؛ أي المركزية الديمقراطية، الذي لن يستقيم الحزب الشيوعي بدون تطبيقه. إنهم يضعون السلطة التنظيمية محل الصراع الفكري والإقناع، أنهم لا يحترمون رأي الأقلية، إنهم لا يناقشون سياسة الحزب، بقدر ما يصدرون الأوامر العسكرية. ساعد على نمو هذا الاتجاه انعدام الديمقراطية في بلادنا وظروف الضغط والاضطهاد التي يعيشها الحزب"
    وتتحدث وثيقة الماركسية وقضايا الثورة السودانية عن أن العجز في استقبال الطلائع وتحويل الحزب الشيوعي إلى قوة جماهيرية بعد ثورة أكتوبر 1964 ، لا ترجع أسبابه إلى عجز في النشاط الجماهيري، لآن الحزب قد جذب الآلاف من خيرة ممثلي الشعب نحوه، ولكن العجز يرجع إلى "عقم الحياة الداخلية، وإلى الخلل الناتج عن ضعف مبادئ المركزية الديمقراطية".
    وتتحدث وثائق الحزب الأساسية عن ظواهر الوصاية المفروضة على فرع الحزب، وعدم إشراك العضوية إشراكا نشطا في حياة الحزب الداخلية، وعن روح الحلقية الضيقة، وسيادة البيروقراطية والانغلاق الذي يصعب كسره لاستقبال الجديد، وما يصاحب ذلك من انصراف العضوية الجديدة عن الحزب وانكماشه وتقلصه في الوقت الذي تتوفر فيه كل الشروط الموضوعية لنموه. وتنعى وثيقة الماركسية وقضايا الثورة السودانية ضعف الديمقراطية في الحزب بالكلمات التالية:
    "إن هذا الأساس لتنمية الديمقراطية في حزبنا ضعيف، ومهزوز جدا. فما زال فرع الحزب الشيوعي يتلقى التوجيهات المفصلة، ويجري تدخل في حياته بحجة أن الفروع لا تستطيع العمل وحدها".

    هذه نصوص واضحة جدا في دلالتها على أن الممارسة الديمقراطية معدومة على مستوى قاعدة الحزب، وقد أوضحنا أنها معدومة – خاصة- على مستوى قيادته. ولا يمكن تجاهل الأسباب المعقدة التي تجعل تطبيق الديمقراطية في مجتمع مثل مجتمعنا أمرا صعبا جدا. ولا شك أن الفكر الديمقراطي مطالب بترسيخ أسسه في كل المؤسسات الاجتماعية والسياسية. ولا يتم ذلك إلا بصراع شرس ضد كل إرث الوصاية والأبوية والطغيان، المتجسد في مؤسسات تبدأ بالعائلة وتصل إلى الدولة. ولا يتم في الأحزاب الكبرى إلا بإقصاء الطائفة وتحجيم دورها السياسي. ولا يتم داخل حزبنا إلا بإلغاء مبدأ المركزية "الديمقراطية" الذي ينصب قيادة طائفية جديدة تربطها الولاءات الشخصية وروح العصبية.
    ويجب الإشارة إلى أن الوثائق المشار إليها تعتقد أن الخلل يتمثل في تطبيق مبدأ المركزية "الديمقراطية" بينما نعتقد نحن أن الخلل يتمثل في المبدأ نفسه. فيما عدى ذلك فالاتفاق جوهري، لأن ما تحذر منه هذه الوثائق وترفضه هو ضمور الديمقراطية ومصادرتها لصالح المركزية. وهذا ليس أمرا عارضا بل هو من طبيعة المبدأ نفسه الذي تصاغ على أساسه البنية الحزبية كلها. وهو ليس أمرا عارضا لأن جميع الأحزاب الشيوعية المحكومة بهذا المبدأ اتسمت ممارستها بالمركزية المطلقة وصادرت الديمقراطية ولم تتنازل إلا مجبرة وفي ظروف استثنائية مكنت عضوية هذه الأحزاب بمغالبة قيادتها واسترجعت حقوقها عنوة واقتدارا وبوضع اليد.

    خلاصة القول أن المركزية الديمقراطية مبدأ لا يصلح لحزب يرغب أن يكون ديمقراطيا، وأن يشيع الديمقراطية وسط أعضائه خاصة، ووسط المجتمع بشكل عام. ومن المفارقات أن قيادة حزبنا تقبل الديمقراطية الليبرالية كنظام سياسة للمجتمع وتعمل لها وتناضل من أجلها، بينما تعض بالنواجذ على نظام حزبي هو أبعد ما يكون عن الديمقراطية ويكون ادعاء الحزب هنا بأنه سيكون أمينا على الممارسة الديمقراطية في المجتمع، بينما يقمعها داخل صفوفه، إدعاء بلا أساس. ويكون قبوله المعلن للديمقراطية نوعا من النفاق. وبالطبع فإن هذا القول ينطبق على المجتمعات التي تسودها الديمقراطية كنظام للحكم والحياة، وهو ما نعتبره الوضع الطبيعي لكل مجتمع في هذا العصر. أما إذا كان يسود المجتمع حكم دكتاتوري أو فاشي، كما هو الحال في بلادنا اليوم، فإن شكلا من أشكال المركزية القوية لا مفر منه. إذ أن وظائف ديمقراطية معينة لا يمكن ممارستها تحت ظل حكم دكتاتوري، يصادر حرية التعبير والتنظيم والصحافة، ويلجأ لكل وسائل القمع. حينها يصبح وجود الحزب كله في خطر وتصبح السرية، وليس العقلانية، هي التي تحكم حياته. إن عضوية الحزب تقبل هذا الوضع باعتباره ضرورة موضوعية لا مفر منها، وباعتباره وضعا مؤقتا يزول بزوال ظروفه. وما دامت طبيعة النظام الدكتاتوري، ودرجة القمع التي سيتعرض لها الحزب، لا يمكن تحديدها بصورة مسبقة، فإن على قيادة الحزب أن تحدد في كل حالة درجة المركزية التي تقتضيها الظروف وأن تشتد قبضتها وترتخي حسب الضرورة – فإذا كان ضروريا تعليق مبدأ الانتخاب، فيجب ألا يطبق ذلك بصورة عمياء، أو لفترة أطول مما يجب. وقد حدث إبان دكتاتورية نميري أن رفع ضمن بنود أخرى في اللائحة، بند انتخاب الفروع لمكاتبها القائدة، وطبق على جميع الفروع دون استثناء، مع أن فروع الطلاب وفروع الخارج، وفروع المعتقلات، وكثير من المدن الإقليمية، وكل القرى، وبعض المصانع والمؤسسات، كانت تسمح ظروفها بانتخاب القيادات، وذلك لجو الحرية النسبية التي فشلت الدكتاتورية في مصادرتها. ولكن ضعف الفكر الديمقراطي داخل الحزب لم يحمل أحدا على التفكير في استثناء هذه القطاعات والمناطق من الوطأة الخانقة للتحكمية المركزية. كما أنه سوغ للقيادة العليا للحزب التي ترسم سياسة الحزب وتتخذ كل القرارات الهامة، ألا تفكر مطلقا في تجديد شرعيتها وتقديم حسابها لجمهورها.

    والخطير في الأمر أن هذه النزعات التحكمية، وما تولده من أساليب وعادات وأمزجة، ستجعل غياب الديمقراطية هو القاعدة وليس الاستثناء. وما دامت مصادرة الحقوق الأساسية للأعضاء لم تملها ضرورة خارجية قاهرة تزول بزوالها، فإنها ستخلق كوادرها وشخصياتها التي ستدافع عنها بعد زوال الظروف التي استدعت مصادرة الديمقراطية في الحزب ككل وفي المجتمع.
    إن الحزب ليكون ديمقراطيا يجب أن يقوم على الديمقراطية وحدها. فهي بالنسبة للحزب، لصحته ونموه وتطوره، ضرورية ضرورة الماء والهواء. وهي الشرط الذي لا غنى عنه لنيل موافقة المجتمع المعاصر على تسليم السلطة لحزب من الأحزاب. فالحزب الذي لا يقوم على بناؤه على الديمقراطية ليس مؤتمنا على نظام سياسي ديمقراطي. ففاقد الشيء لا يعطيه. إن الحزب القائم على المركزية الديمقراطية لن يولد، مهما فعل ، نظاما سياسيا مخالفا لما شهدته بلدان شرق أوربا والاتحاد السوفيتي، وغيرها من البلدان ذات التجارب الشبيهة، وتراكم الفكر الديمقراطي، وتجارب الأحزاب الديمقراطية في العالم كتاب مفتوح نأخذ منه، ونضيف إليه.
                  

العنوان الكاتب Date
وثيقة آن آوان التغيير!! للأستاذ الراحل الخاتم عدلان Amjad ibrahim12-16-05, 10:49 PM
  Re: وثيقة آن آوان التغيير!! للأستاذ الراحل الخاتم عدلان Amjad ibrahim12-17-05, 04:59 AM
  Re: وثيقة آن آوان التغيير!! للأستاذ الراحل الخاتم عدلان بهاء بكري12-18-05, 10:44 AM
  Re: وثيقة آن آوان التغيير!! للأستاذ الراحل الخاتم عدلان Amjad ibrahim12-18-05, 05:25 PM
  Re: وثيقة آن آوان التغيير!! للأستاذ الراحل الخاتم عدلان Amjad ibrahim12-20-05, 01:39 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de