أغنية الحقيبة: بداية أم نهاية محتومة للأغنية في السودان؟

Quote: أغنية الحقيبة: بداية أم نهاية محتومة للأغنية في السودان؟ نزار محجوب عتيق اشارة مهمة هذا المقال هو بالأصل تلخيص لمخطط بحث (آمل في انجازه يوما) حول "مقارنة الصورة الشعرية لشعراء الحقيبة: سيد عبدالعزيز وأبو صلاح تحديدا، وشعراء الأغنية الحديثة: حسين بازرعة واسحق الحلنقي نموذجا". أغنيات الحقيبة كتاب ضخم يحتوي على مئات إن لم تكن آلاف الأغاني، ساهم فيها الكثير من المبدعين: شعراء، ملحنين ومغنيين، استطاع بعضا من هذه الأعمال أن يظل ذا وجود مميز وفاعل في وجدان الأجيال اللاحقة زمنيا وما زال، وانا هنا لا أهدف الى توهم خلق موقفين من الحقيبة: الأول "محب مغال" والثاني "كاره مفرط" لهذه الأعمال ثم رسم موقف ثالث وسطي/توفيقي من جانبي والأطمئنان الى سلامته، بقدر ما أحاول فهم واقع ماثل نلمح أثره دونما مجهود، وبمعنى آخر الاجابة على سؤال: لماذا ظلت بعض هذه الأعمال تعيش بيننا حتى الآن بكل هذه التأثير؟ وقبل الإجابة سأحاول أن أحدد الفترة الزمنية لأغنية الحقيبة، وهو ليس بالضرورة تحديدا تأريخيا بقدر ما هو تبيان وضعيتها في تاريخ تطور الأغنية نفسها في السودان. فالحقيبة جاءت كتطور طبيعي من مرحلة محمد ودالفكي والطمبارة، الى مرحلة تفعيل أولئك الطمبارة من الهمهمة الصوتية الى ترديد أنغام وكلمات بلحن موسيقي محدد وواضح، ونهايتها لم تكن بإدخال الآلآت الموسيقية ولكنها بظهور الكاشف ومحاولاته في إسناد وخلق دور لتلك الآلآت/الأوركسترا فيما بعد، وهذا افتراض أعمل على توثيقه من خلال البحث المشار اليه أعلاه. ما يجب ملاحظته والتذكير به فقط أن هذه الفترة من ناحية التاريخ العام للسودان هي فترة الاستعمار البريطاني للسودان من جانب وهي فترة شهدت تصاعد النضال ضد ذلك النظام من جانب آخر، كما ان هذه الفترة شهدت محاولات اقامة مجتمع مدني وترسيخ للدولة كمفهوم وأداة، وليس هنا مقام انهاك القارئ بتفاصيل الصراع الاجتماعي/السياسي في السودان وأثره على الأغنية، ولكنه فقط توضيح كان لابد منه فمعذرة. أعود الى سؤالي الأساس حول اغنيات الحقيبة اعلاه، ثمة عدة اسباب في تقديري ادت الى ذلك: أولا: الظرف الاجتماعي الذي انتجت من خلاله تلك الأعمال على مستوى البنية لم يتغير كثيرا، فشكليا، صحيح اصبحت كثير من مظاهر الحرمان الفعلي للالتقاء بين الجنسين غير موجودة، ولكن موضوعيا لازالت كثيرا من محدداته قائمة وثابتة، لذلك فالتغني لمفاهيم حول الحرمان والهجران أو المحبوب المتوهم (بضم الميم وفتح الهاء) ...الخ يلقى كثيرا من الرواج والقبول. ثانيا: شعريا هذه الاغاني كتبت من اجل الغناء، لذلك جاءت معبرة جدا عن حالات انفعالية الطرب هو محركها ودافعها الرئيس، في فترة تاريخية كان الغناء في بيوت الافراح تحديدا هو المتنفس الاساسي لكل الانفعالات. وبالتأكيد، فإن لشعراء الحقيبة تأتيرا هاما وملحوظا على شعراء أغنية ما بعد الحقيبة، من خلال أساليب رسم الصور الشعرية متعددة الأبعاد لغة ودلالة، وفي تقديري أن ذلك التأثير استمر حتى فترة متقدمة من تاريخ الأغنية، على الرغم أننا نلحظ أن الانفصال في الدلالة قد تم في مرحلة قبل ذلك لانه يرتبط كثير بضرورات التغيير والتطور الاجتماعي. ثالثا: موسيقيا، وبالرغم عن جمال الحان أغنيات الحقيبة، الا انها جاءت بسيطة، وهذه البساطة مرجعها في تقديري بساطة الالات الموسيقية المتاحة وقتها لتنفيذ هذه الالحان، وهذا هو ذات السبب وراء بقائها – اي تلك الالحان -، لأن ذلك ييسر من عملية ترديد المتلقي لها دونما عناء، ونتيجة لتلك البساطة اللحنية ظلت هذه الالحان مفتوحة دوما للاضافة اليها من ناحيتي الموسيقى والاداء. رابعا: عندما تقرأ في أسباب نظم كثير من الأغنيات (كما ورد في بعض دوواين الشعراء وبعض اللقاءات الاعلامية)، تجد أن نسبة مقدرة منها نظمت شعرا وصيغت لحنا وأداءا آنيا في " بيوت الأفراح" لإفتنان مبدعيها لحظتها بفتاة ما أو حسناء كما يقولون ، لذلك فالفضاء العام لمثل هذه الأغاني هو، بالضرورة، فضاء فرح (بكسر الراء)، ولما كان أن لازالت المناسبات الخاصة باجمالها هي مسرح استماعنا للأغاني بالأساس، فهذا الفضاء المفرح له كثير من التأثير. خامسا: الأعمال التي وصلت الينا أو تحديدا تلك التي لازالت ذات وجود واضح، تم ذلك بعامل اساسي وهو الإنتقاء والإختيار، وهو نفسه يتحدد بمحددات أساسية كالرؤية الذاتية لمن يقوم بالأختيار والخلفية الموسيقية/المعرفية له، ظروف التطور الإجتماعي والغناء السودان لحظتها ....الخ. المدهش حقا أن أجيال ما بعد الحقيبة ومن تلاهم أسسوا لما يمكن أن أسميه مرجعيات سماعية لأغنيات الحقيبة جعلتها تبدو وكأنها خاصتهم، بمعنى أنني عندما استمع الى اغنيتي "ام در واعوده" و"نعيم الدنيا"، مثلا، فمرجعيتي السماعية لها عبدالعزيز محمد داؤد وليس كرومه، و "وصف الخنتيلة" عبدالكريم الكابلي وليس عمر البنا، و "انت بدر السما" ابراهيم الكاشف وليس سرور وهكذا. وحتى عندما تم توزيع مثل هذه الأغاني موسيقيا، تم التعامل مع نسختها من خلال مرجعياتها السماعية التي أشرت اليها وليس من اصولها، لذلك فأنا اعتقد أن تلك الأجيال ساهمت في ترسيخ أغنية الحقيبة اكثر من فنانيها الأصل بالرغم عن ذلك لابد وألا نغفل دور الأذاعة السودانية بعد تأسيسهاعام 1940 ومساعدتها لذلك الجيل). ما ما أود أن أخلص له في هذا العرض السريع، أن أغنيات الحقيبة كانت انجازا وتطورا هائلا في مسيرة الأغنية السودانية، ساهمت الأجيال التالية لمبدعيها في ترسيخ هذه الآغنية، ورغم ذلك، لا يجب أن ننظر اليها بأنها قمة ما ابدعته العقلية الغنائية السودانية لأن في ذلك تحميلها بما لا تحتمل، وكما ذكر الاستاذ فالح عبدالجبار في كتابه معالم العقلانية والخرافة في الفكر السياسي العربي ص 12 " ...فالحديث يتخذ اسلحة له من التقليدي نفسه ليحطم التقليدي ذاته ويتحرر من سطوته". نزار عتيق