مشروعات للحزب الشيوعي..........بقلم / المنصور جعفر

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-02-2024, 08:05 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثاني للعام 2008م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
04-15-2008, 08:54 PM

عاطف مكاوى
<aعاطف مكاوى
تاريخ التسجيل: 03-29-2008
مجموع المشاركات: 18633

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مشروعات للحزب الشيوعي..........بقلم / المنصور جعفر (Re: عاطف مكاوى)


    المساهمة الثالثة :

    المنصور جعفر
    [email protected]

    42مسألة إنتقادية لمشروع التقرير السياسي

    موقع الكاتب: http://www.rezgar.com/m.asp?i=1248

    تقديم :

    أُنجز مشروع التقرير السياسي بنضال فذ وجهد نبيل وتضحيات جمة وأحضر لأعضاء الحزب الشيوعي السوداني لهدف تمحيصه ونقده -قبل عرضه على الهيئات المختصة بتقديمه إلى المؤتمر الخامس للحزب، ولكن في حضور مشروع التقرير مثل كل عمل أو تقرير عن عمل، جاء مشروع التقرير حاوياً موجبات متنوعة وسلبيات عددا.

    لزيادة تقويم هذا التقرير وبالأحرى تغييره يركز هذا العرض النقدى على كشف سلبية بعض النقاط في مشروع التقرير التي تفسد عملية حشده وتحريكه للإمكانات النظرية والعملية في الحزب الشيوعي السوداني لتحقيق أهدافه الإستراتيجية والتكتيكية ولصياغة برنامجه المرحلي حسب تناسب قواه الذاتية والظروف الموضوعية المحيطة به، لا لتبديله بحزب آخر.

    لذا تبدو أهمية إنتقاد وضرورة تصحيح مشروع التقرير وتكريبه وعلاج نقاط ضعفه لخطورة إفسادها إمكانات التناسق والتماسك النظري والعملي لمثل هذه التقارير (التاريخية) التي تعتبر في تاريخ الأحزاب الشيوعية جمعاً حساساً يلم وينظم -ويصيغ بحسابيته الطبقية وبفنه السياسي والإجتماعي وبثقافته وتأثيلات عطفه وبلاغته الموضوعية واللغوية- أهم المحاور والإشارات في مجال القراءة الثورية الطبقية لأحداث التاريخ، وكيفية التغيير الموضوعي لإنتاج وقائعه مستقبلاً بل وفتح مجرى التاريخ نفسه بإزالة قوى ومصالح الفئات الرأسمالية وشبه الإقطاعية المسيطرة على المجتمع والإنتقال من حالة تفاقم عوائقها وتناقضاتها إلى حال تعزيز حلف قوى ومصالح الطبقة العاملة وعموم الكادحين والمهمشين وبناءهم إمكانات التقدم الإجتماعي المنسق بنضال حزبهم والطبقة العاملة، وذلك لنقل بنية المجتمع القديم المتهالك في السودان وتحويل عناصر تلك البنية المنهارة وطبيعة حركتها من حال النقص في ضرورات حياة الناس وتكالبهم عليها إلى حال الإشتراكية بينهم في وسائل وجهود وثمرات إنتاج هذه الضرورات وفي شيء معتبر من كمالاتها وزينتها.

    ويتناول هذا الإنتقاد مشروع التقرير ونقاطه الضعيفة بشكل مقتضب يشمل كل من:

    1- الطبيعة العامة لبنية وهيكل مشروع التقرير،

    2- بعض النقاط التي تفسد تناسق الحزب وتناسق التقرير،

    3- بعض المؤشرات العامة المتصلة بالموضوع.


    1- في الطبيعة العامة لبنية وهيكل مشروع التقرير:

    1- في المستوى التنظيمي لعمل مشروع التقرير السياسي:

    أ- أثر التفكيك والتشتت في تكوين أعمال اللجان ونتائجها:

    أتي التقرير وكل عمل اللجنة متصلاً بحالة التفكيك الزماني والموضوعي لأوضاع الحزب و"المناقشة العامة" لها وطبيعة فصل وتشتيت عناصرها الموضوعية والعضوية الفاعلة فيها وتوزيعها في لجان مختلفة تكرس بطبيعة تكوينها الأفقي المتعدد إختلافات أعضاء الحزب أو تتجاوزها بشكل سياسي لصالح مشروع تصفية وجود الحزب الشيوعي السوداني أو تقليل فاعليته بدعوى تجديده: فمثلما فصلت سياسات إسرائيل الحالية موضوع السلام العادل وشتته إلى لجان أفقية منفصلة قطرياً ومجزاة في صورها التنظيمية والموضوعية، مما حول أزمة الحقوق الإنسانية والفلسطينية إلى كسور وبواقي، كذلك حدث على ذات النسق التفتيتي تجديد [عمل] الحزب إذ جاء التشكيل الأفقي للجان المناقشة والتنظيم والبرنامج واللائحة والمؤتمر وتأقيت أعمالها مُحداً لإمكانات تنسيق ومراجعة أعمالها رأسياً من الخلايا إلى الفروع والمناطق إلى اللجنة المركزية وسكرتاريتها ثم المؤتمر فجاءت إمكانات عرض ونقد أعمالها مختلفةً عن إمكانات تنظيم هيئات الحزب داخل السودان وخارجه.

    ب- فوقية تكوين وعمل وعرض نتائج العمل وقبولها ونفي إمكانات تصحيحها:

    إعتماد عمل اللجنة من إجتماع فوقي مركزي ديمقراطي بصورة سبقت إمكانات نقد وتصحيح هذا العمل في قواعد الحزب ويقطع الطريق على فوائد عرضه وإصلاحه أو تغييره، حيث جاءت ثنائية العرض والقبول بين اللجنة والمركز خالية من قواعد الترشيح والإنتخاب لعمل اللجنة وجاءت تماماً مثل "إتفاق نيفاشا" لا مجال لتعديل نتائج عملها إلا بثمن باهظ كالمدفوع بؤساً ودماً في شرق وغرب وجنوب ووسط وشمال السودان.

    ج‌- التعامل غير الموضوعي مع الإختلافات التنظيمية والموضوعية في الأراء ومصادرها:

    وردت إلى اللجنة أراء مختلفة قامت بفرزها دون أن تذكر المعايير الموضوعية التي تعاملت بها في فرز الأراء وتغليب رأي معين على رأي مخالف له!؟ فمن غير المنطقي القبول بمعيار العدد وميكانيكيته لتحديد موضوعية رأي، كذلك من الصعب في ضوء الحيثيات السالفة والحاضرة التي قدمتها اللجنة التكهن بالمعيار الموضوعي الذي إعتمدته معها اللجنة المركزية في المفاضلة بين أراء الوحدات وأراء الأفراد، ورأي مناطق الهامش والحرب ورأي مناطق المركز والسلام. وفي ظل غياب أو تغييب هذه المعايير الموضوعية، تبدو السعة في إمكان اللجنة لإنتقاد عملها أكبر من تقريظ المركز له.

    2- في بعض الجوانب السياسية لمقدمة مشروع التقرير:

    أ‌- تقويم المجهول وتعويم عملة الموجود:

    ذكرت لجنة تسيير المناقشة إن المواضيع الآتي ذكرها في الفقرة التالية لم تعط حقها في "المناقشة العامة" وهي: ((

    أ/ التجارب الأشتراكية القائمة ( المحوران الأول والثاني ).
    ب/ التصور حول " الدول الاشتراكية ".
    ج/ الاشتراكية والدين .
    د/ الجانب الفكري والفلسفي في مواضيع محاور المناقشة العامة .
    هـ/ مسألة هامة وهي اسم الحزب : فهو نقطة ضعف المناقشة العامة

    السؤال هنا: ليس كيف قامت اللجنة بتلخيص أراء هيئات الحزب أو بعض (سمناراته) وإسهامات أعضائه حول هذه المواضيع، أو عن معيار المفاضلة بين الأراء المختلفة دون إقحام التقديرات الخاصة بعضوي اللجنة أو بمن إستعانا بهم؟ مما تقل إجاباته أهمية عن الجواب على السؤال عن كيفية قبول سكرتارية اللجنة المركزية لإصدار تلخيص يفتقر حسب تقريره إلى حسم الجانب الفكري والفلسفي لطبيعة الحزب بل ولإسمه؟ ولأي مدى بالإمكان ان يوضع إسم الحزب الشيوعي على عمل مضني كهذا يتجاوز طبيعة وجود الحزب؟ وكيف لسكرتارية اللجنة المركزية للحزب تمرير ذلك ثم القفز بصورة محسوبة أو غير محسوبة على تنظيم الحزب والإنقلاب على طبيعة وجوده، بتقرير تغيير كينونته، بطي عمل مفتوح الإصطلاحات تقوم به لجنة فوقية قبل عقد إئتمار الحزب؟؟!!

    إن التحضير الجيد للمؤتمر والتغييرات في الحزب يتطلب عرض حيثيات موضوعية متكاملة مركزة في قائمتين أو ثلاثة لمجموعة موحدة من المسائل تطرح كل قائمة (كتيب) إجابات متناسقة مفصلة على تلك المسائل بداية من تحديد طبيعة المصالح والصراعات الدولية ثم طبيعة الوضع الوطني فيها بداية من مؤشرات تحليل القوى الطبقية ومصالحها الآجلة والعاجلة، وطبيعة صراعات تحقيقها، والخطوط العامة لبرامجها في إطار دستور الحزب وشرعيته. فبمثل هذه القوائم المنظمة لتنوع الأراء - بالإضافة لوقائع الصراع الطبقي بأشكاله المتنوعة في المجتمع- ينظم الصراع الطبقي- الفكري داخل الحزب في ظل مواثيقه وعهوده وأطره العامة الأممية والوطنية وتجلياتها في المدينة والريف وليس بتقرير وإعتماد فوقي لعملية تعويم وجود الحزب وفلسفته وتنظيمه العام قبل أن يفتي أصحاب الحق في حقهم، وقبل أن يعقد الحزب إئتماره.

    ب- مشروع التقرير بين التفرد والإنجاز، والنتيجة الآجلة له: خطوة واحدة إلى الأمام وعشرة خطوات إلى الخلف:

    قررت مقدمة مشروع االتقرير السياسي البعد به عن مسائل كثيرة أولها حسب ترتيبه:
    1- ((البعد عن التصدي لطرح مهام برنامجية في التقرير العام. فهذه مكانها الطبيعي المناسب هو مشروع البرنامج....)). ولكن السطر التالي لما سبق ذكره في مقدمة المشروع ذكر ان ((التقرير العام يركّز الأساس النظري والوجهة العامة لبرنامج الحزب وأساليب عمله استناداً إلى الدراسة الانتقادية لما هو واقع)). وبطبيعة السياق النضالي لتكوين عمل اللجنة الموقرة فإن التركيز وال تأسيس كان نبيلاً في عموياته ولكنه يتجاوز النواقص التي أوردتها اللجنة في عرضها لعمل أو حصيلة "المناقشة العامة" حيث نبهت اللجنة الموقرة إلى ماتبلور في المناقشة العامة من نواقص فكرية وفلسفية ونقطة ضعف مركزية حول إسم و[طبيعة] الحزب (الشيوعي).

    2- تجاوز الأسلوب السوفيتي ...[في إعداد التقارير الذي يغلب فيه تفصيل أمور الصراع العالمي] ورغم هذا الميثاق والعهد إتبع مشروع التقرير نفس خطى السوفييت في حركة التقارير السياسية الشاملة سائراً مثلهم وفقاً للأسلوب الموضوعي ومقتضياته في بداية أعماله من الوضع العالمي والإنتقال من صراعاته ومؤثراته إلى عرض طبيعة الوضع الوطني فيه ثم الوضع الفكري والحزبي في هذه الصراعات الوطنية والعالمية، بل حاول مشروع التقرير حل الأزمة الكبرى مقترحاً جهة تقدمية وإشتراكية للحزب تراوح في وصفها بين "النهضة" و"الثورة" وربط فيها مسائل "الإصلاح الوطني" و"التغيير الثوري" بجملة تأجيلية عامة مفتوحة هي: (إجراء المزيد من الدراسات الباطنية) بينما قام مشروعه للتغيير تبعاً لهذا الخط وفي كثير من فقراته –دون دراسة- بحصر قضايا الهامش في تشاورات آجلة مبهمة مع (طلائع) تلك المناطق في الحزب وغيره وبآمال مستقبلية لتكوين وعقد "المؤتمر الجامع" وحله أزمات الصراع الطبقي في السودان!

    فحص عام لموضوعية إبعاد التقرير عن أصول وقضايا البرنامج وعن الأسلوب الموضوعي للتقارير في إتحاد السوفييت:
    1- هذا التذبذب في الإصطلاحات بل وفي طبيعة إنجاز التقرير أشارت اللجنة الموقرة لتسيير المناقشة العامة إلى اسبابه (والإسم الأصح للجنة هو لجنة حصر أو ضبط المناقشة العامة) وقد ورد رأيها بوضوح شديد في مقدمة تقرير إنجاز أعمالها وفي بعض جوانب المشروع الذي قدمته لإنجاز التقرير السياسي حيث أشارت مباشرة إلى نقص المناقشة العامة وبشكل غير مباشر إلى الأخطاء [القاتلة] في تنظيمها مما يكشفه تقرير الاجتماع المشترك بين سكرتارية اللجنة المركزية ولجنة تسيير المناقشة العامة (2/8/2007) حيث جاء في محضر رصد وقائع الإجتماع على لسان كل من "عباس" و"صلاح": الآتي:
    (( عباس : لم أعاصر اللجنة لكن ما وصلنا منها أفادنا بأنه تجرى المناقشة بصورة أحسن . طريقة فتح المناقشة : بدأت قبل 1995 عند تحديد المحاور وتكوين اللجنة. نستفيد من ذلك مستقبلاً، تحدد وقت ، ومحاور ... الخ . مرت المناقشة بمراحل اختلفت في الطريقة والمحتوى . موضوع الاسم : فرض نفسه بطريقة فتح المناقشة وأصبحنا ملزمين به كمحور لابد أن نركز على الحيثيات لتغييره وإلا سبب ذلك هزة في المؤتمر الخامس .
    صلاح : الاسم يحتاج لمناقشة عميقة ولا نستعجل ذلك . وبإمكان حسمه في المؤتمر القادم،..... ))

    2 - رغم هذا النقص الخطير في نوع الكيان (المطلوب) من تلك "المناقشة العامة" وهذا الإختلاف العميق في التعامل معه أنجزت اللجنة الموقرة أعمالها بمنطق إكمال النقص وتجاوز السلبيات وهو منهج عملي مفيد لم يصلح في التاريخ و لا يصلح ممارسةً لحل صراع طبقي-فكري مثل ضرورة أو طبيعة وجود حزب شيوعي ، أو حتى حزب إشتراكي، وذلك مهما كان لأطراف هذه اللجنة من قيم ذاتية تعصمهم من الميل إلى هذا الرأي أو ذاك في تحديد النواقص وسدها، لذا فإن عملية عرض هذا التقرير لكافة الهيئات الحزبية وأعضاء الحزب وأصدقاءه لإبداء رأيهم فيه ولكن بعد قبول السكرتارية العامة له تبدو مسألة عرضه للمناقشة مسألة نقيضة لبعض قيم الديمقراطية الليبرالية، ولكينونة الحرية والنظام في قيم الديمقراطية المركزية في الحزب الشيوعي بتراتبها الرأسي مثلما هي تقيضة أيضاً لقيم الديمقراطية الشعبية بتكوينها الأفقي الطبقي والفئوي الإجتماعي وتراتبها الرأسي من القاعدة إلى القمة.

    3- ولكن إنجاز مشروع التقرير بما في الإنجاز من تضحيات وبطولات يعد بلا شك مأثرة وخطوة كبرى متقدمة نحو المؤتمر العام الخامس الحزب في وقت أقعدت التناقضات بعض همة العمل في الحزب، لكن الظروف التي قسرت على إنجاز مشروع التقرير بهذه الصورة التي تحل فيها اللجنة محل الحزب ومؤتمره تقود بخطوات سريعة إلى تصفية كامل وجود الحزب الشيوعي أو فرط وحدته بصورة رسمية بداية من عقد المؤتمر الخامس، وتأسيس حزب أخر ليحل محله، تحت مسميات وشعارات إصلاحية أو جذرية تعود بالنضال الطبقي إلى مرحلة الماركسية قبل اللينينية في عصر تتأزم فيه الإمبريالية بين حاجتها لزيادة الأرباح وزيادة معدلات الفقر والدمار الذي تنشره بمحاولات سيطرتها على المجتمعات (الأسواق) حيث يشتد هجومها المتنوع على موارد حياة الشعوب ووسائل عيشها وإنتاجها مضعفة قواها المنتجة بكل كياناتها النقابية وأحزابها الشيوعية وتنظيماتها التقدمية الإجتماعية، ومفتتة مجتمعاتها ودولها تارة بالشروط المالية الدولية الممركزة للموارد والمحددة لوجوه صرفها وتارة أخرى بالشروط المالية الدولية لتوزيع تلك الموارد ومركزتها في أقاليم الدولة، مع ما يرافق تلك الشروط القابضة والباسطة من ضغوط وإستضعافات وتفتيتات مباشرة وغير مباشرة.

    4 - مع تبشير متفائل ووعد من لا يملك بحدوث إصلاح آخر في المؤتمر السادس- إن بقى الحزب- فإن الطبيعة العامة لمشروع التقرير السياسي المقدم إلى المؤتمر الخامس للحزب الشيوعي السوداني، إجتهدت الحفاظ على طبيعة ماركسية وتقدمية ما في الكيان الذي ترومه، ولكنها فصلت تلك الطبيعة من المصدر الرئيس لتطورها المنظوم وهو النهج اللينيني في التنظيم السياسي وفي الصراع الطبقي بأشكاله.
    ولم يكتف مشروع التقرير بذلك الفصل، بل قاتل المشروع جميع النقاط الحيوية في نهج لينين: "الإمبريالية" و"حزب النضال الجديد" (الثوري الأممي والطبقي العمالي) "الثورة والدولة" ...إلخ . ففي تقوية لعمليات القضاء على الشيوعية في العالم وقع مشروع التقرير السياسي في سهولة كشط موضوعيات الجزء السوفييتي من عملية الثورة الإشتراكية العالمية، والإنسلاخ عنه وعنها متبرئاً منها كليةً إلى حالة لاماركسية لالينينية حصرت جذور ونتائج النضال الأممي الشيوعي في روسيا بإصطلاحات "النهج السوفييتي" و"النهج الإستاليني" مع عجز مشروع التقرير في إشاناته لتنوعات وتذبذبات ذاك النضال الشيوعي عن تقديم تحليل جدلي لسيرورة تكون الأزمات الطبقية التي أنتجت وجود وتطور وتقدم السوفييت ثم أنتجت تأزمهم ووفاة وقتل إتحادهم بالصور التاريخية المتنوعة لتكون وتبلور تلك الأزمات وأشكالها الوطنية والقومية ومسآئلها الإقتصادية الزراعية والصناعية والخدمية والصراعات السياسية-الإدارية والثقافية لفئاتها المجتمعية حيث تحددت بكل تلك الأزمات والمسآئل المواشجات المحلية والأممية والدولية للنضال الشيوعي الذي أسس وبنى الإتحاد السوفييتي.

    فدون تحليل مادي جدلي تاريخي كفى مشروع التقرير السياسي نفسه خيرات وشرور الصراع الفكري ونقد تجليات الماركسية- اللينينية بسرد مشوه نسبياً لأحداث حياة ذلك الحزب الشيوعي والإتحاد الإشتراكي للجمهوريات السوفييتة الذي نقل مجتمعاتها من غياهب التاريخ ومجاهله إلى مشارق الحضارة الإشتراكية والتفتح العلمي والإنساني في زمن وجيز -أقل بكثير من عمر إستقلال بلادنا.

    فبدلاً للقرآءة المادية التاريخية الجدلية لأحوال النضال الشيوعي والماركسية-اللينينية في صورها الموجبة وفي صورها السالبة وفرز أسبابها بواسطة عامل موضوعي كالتطور الجدلي لأحوال الإنتاج والإستهلاك وتناسب حاجات مستوياته وقطاعاته وعلاقاته وقواه وتأثيرها المتنوع على حركة تأسيس ونمو وتأزم ووفاة إتحاد السوفييت، فإن مشروع التقرير تجاوز كل ذلك وقام متجرداً من (لو) بقراءة سطحية ظالمة سماها "موضوعية" لأحداث التاريخ السوفييتي عمم نتيجتها، ثم بخفة خالف نهجه المحاذر من (لو) في تناوله الجزء السوداني من عملية الثورة الإشتراكية في العالم مطفياً أخطاء الحزب وقيادته التاريخية وقياداته المنقسمة مغبشاً نقاط مراق ومعارج التطور الإجتماعي متجاهلاً العوامل الذاتية في حزبنا لمدارك هذا التطور وإنحداره، مستعينا في هذا الغباش بمفردات لوم و(لو) و(لكن) و(قد كان) مواشجة بشكل إستبرائي لمفردات من نوع: "القوى التقليدية" و"الطائفية" و"النظم الديكتاتورية" (المدنية) منها و(العسكرية) و"الإتجاهات التصفوية" [اليسارية] يحملها كل مسؤولية الفشل في تثوير حزبنا ومجتمعنا ناسياً رغم الصدق في إشاراته هذه تفريد أخطائنا بشكل صريح ونسى إنه - أي مشروع التقرير- يسير بهذا التغبيش في ركاب تيارات تصفوية يسارية ويمينية أو يعتلي ظهرها قائداً لطروحها كما النملة على ظهر الفيل تعتقد إنها توجهه وتقوده.

    5 - العداء للنضال الشيوعي كرسته قوى الحداثة والتقدم الأصلمنشفية بريادة العلماء فيورباخ وماخ ودوهرنج، وبرودون ولوبان ثم كاوتسكي التي إتهمت من موقع (إشتراكي) أعمال ماركس وإنجلز مرة بالتجاوز والقفز فوق مقتضيات الواقع و(حقائقه) ومرة بالعصبية والجمود، ومرات بالتفاوت والتذبذب بين الإقتصادية والإجتماعية، ومرات أخرى بالنزعة الإرادوية والتسييرة في المعرفة والعلوم، وغير ذلك من تهم جددتها بأشكال تنظيمية (تروتسكية) أعمال قوى المناشفة والرجعية في روسيا قبل بداية الثورة الإشتراكية ثم بعدها مطلقة نفس الإتهامات والتشنيعات ضد النضالات الشيوعية بقيادة لينين وإستالين مما إنكشف لؤمه في التآمرات والإنقلابات التي سبقت (المؤتمر) العشرين وتلك التي تلته مما كللته جيوش خروتشوف في أوربا وقوات مصر في اليمن قبل تبلور الأمر بكل نجاحاته وإخفاقاته كأزمة قاتلة لتقدم ولوجود السوفييت، بعد نجاحهم المذهل في معارك البناء والدفاع والبناء الجديد خلال عقود النضال الإستاليني الثلاث.

    6- الضعف الأكبر في سياسة مشروع التقرير السياسي هو محاولته التغلب على التناقضات الطبقية في المستويات الدولية والمستويات الوطنية-المحلية المواشجة لها بعملية لغة سياسية تحاول تقليل الإفراط والغلو في التنظير الثوري دون ممارسة مُرَشِدَة، مثلما تحاول أن تحد من تعامل تنظيرات الحزب المفككة والمتناقضة مع إصطلاحات موضوعات الإقتصاد والصراع الطبقي والتناقض الدولي والمحلي رامية لتبديل كل ذلك بجمع عبارات ليبرالية منبتة ومفردات عائمة موضوعياً عن التجديد والإصلاح والنهضة مع عملية التخلص من جذور الإستالينية (مثل ماذا؟) دون التخلص من التملك الخاص لوسائل الإٌنتاج الإجتماعية! وإهمال مفردات الفهم المادي للجدل والجدلي للمادة والفهم المادي للتاريخ والتاريخي للمادة في صورتها الطبيعية الخام أو في الصورة الإجتماعية للطبيعة، وهي مفردات إصطلاحات ضابطة لسياق التفكير االعلمي الإجتماعي وثوريته، لا يفيد تبديلها بجمع ملتبس أو متراوح لمفردات مثل ("الثورة" و"النهضة") و("الطبقة العاملة" و"العاملين")ا تلتبس معانيها وتقف دالاتها ضد بعضها في ظروف الصراع الطبقي وإختلاف المصالح فيه.

    7- التجديد الموضوعي لأوضاع وقوى الثورة الإشتراكية في العالم والسودان يحتاج إلى تفعيل الفهوم العلمية المادية والتاريخية بمنطق جدلي ثوري ومواشجة ملائمة في عدده ونوعها لقيم الموضوعية والتغيير الحذري والنقد والنقد الذاتي في التفكير وفي الممارسة، وهو ما يتصل في مارسته بعملية إزالة التناقضات بين الطبيعة الملحة لحاجات الجماهير المستغلة والمهمشة في المدن والأرياف، وطبيعة التعقيد والطول والإختصار والقصر الذي تستغرقه عملية تنظيم وتكريب الشروط الذاتية في داخل الحزب وفي عملية حشده وتنظيمه وقيادته قوى الجماهير وضفر نضال طلائعها في المدينة والريف ضد نظم وممارسات وحكومات وصور وشخوص الإستغلال والتهميش ، وهو بدوره موصول نجاح الحزب في التدمير الجزئي أو التدمير الشمولي لأصول ومؤسسات التملك الخاص لموارد ووسائل الإنتاج الإجتماعي وتأسيس المقومات الموضوعية لإشتراك الناس في تولي أمور وسائل إنتاج حاجات عيشهم وحياتهم وسيطرتهم على تنظيم جهود وثمرات كدحهم، إشتراكية علمية متقدمة على إمكانات تفاقم تناقضاتها. قد يعزز هذا النظر إنه قبل حوالى مائة سنة في بلاد ضنكة متخلفة جداً نجحت قلة طليعية من العمال الروس بقيادة لينين وبدعم كادحي قوميات الشرق المهمشة بقيادة إستالين للحزب في مناطقهم في إسقاط حلف نظامي الإقطاع والرأسمالية بضربة سياسية واحدة منظمة متنوعة الذبذبات نجحت في بناء نظام فعال لحرية الكادحين والتقدم الإجتماعي المتناسق (نسبية) إستغرق التغلب الإمبريالي على قشور ذلك النظام مع زياد حسناته وتفاقم تناقضاته حوالى 80 عاماً حسوما! فأين نحن من ذلك من تطور تلك البلاد بفضل النظام الماركسي-اللينيني ولو في صورته الإستالينية وفي سياقه السوفييتي عامة؟

    ان التحدي العام في بلادنا المثقلة بالثروات المادية والبشرية وبالمظالم الجذرية والسطحية، يتجاوز بتعقد مهامه الإستغراق في تقاش نظري حول جدل "الإشتراكية العلمية" و"الإشتراكية الفعلية" التي جسدت كممارسة، والفروق الموضوعية بين النظرية والممارسة، وبين دور الأفراد والقادة في التاريخ ودور الطلائع والجماهير، ومفارقات الأوضاع الداخلية والخارجية وضروراتهم، فتلك مسائل مفيدة لتقوية الفعل الثوري، ولكن التحدي الأهم في السودان هو إنشاء الدولة الديمقراطية الشعبية أولاً أو على الأقل نابضها الحزب الشيوعي الماركسي- اللينيني ثم يترك تقويم مهمة سيرها والحفاظ عليها أو عليه بمواجهة عوامل البقاء والفناء لمقاليد المجتمع والتاريخ وظروفه،

    هذا القول بترك المسألة للظروف يناسب طبيعة مشروع التقرير وإتجاه صياغته لـــ "أسس برنامج الحزب" رغم وجود لجنة مستقلة لصوغ البرنامج، وإذ يتخلص مشروع التقرير بأدب جم وصياغة لطيفة من فهم الضرورة والحتمية التاريخية لفعل قوانين الطبيعة ولفعل قوانين الثورة الإجتماعية، جاعلاً القول بهما نوعاً من الكفر بما يشير له بعبارة "حقيقة الماركسية" التي يتصورها مشروع تقرير لجنة صياغة المناقشة العامة مزيجاً من الإصلاحية والتجريب! حيث يوجب مشروع التقرير إستئصال التفكير الماركسي اللينيني من جذوره حسب اللغة الإستصالية للتقرير التي لم تطرح إستئصال الظلم الرأسمالي الطبقي والإقليمي من جذوره مثلما لم تطرح إستئصال الإسلام السياسي من جذوره، ولعل تطفيف كيل وموازين مشروع التقرير لهذه المسائل إن لم يعتورني خطأ في رصد مفارقاتها وتناقضاتها وحساب تبخيساتها كان بمنطق: أسد عليا وفي الحروب الفكرية نعامة فتخاء تنفر من صفير الصافر.

    ت- فقر الطبيعة الطبقية والإقليمية لمشروع التقرير السياسي:

    حالة تكسر وتدمير الإتحاد السوفييتي العظيم وكواكبه وحالة البؤس والقنوط من كل قيمة موجبة في الماركسية-اللينينية فرضت في مشروع التقرير الأـسلوب المذعور من تخديم الماركسية اللينينية في قرآءة وفرز وتحليل طبيعة عناصر قوى الإنتاج وحركة وإتجاهات وصراعات قطاعاتها المتنوعة والمختلفة في المجتمع، وأعتقد إن هذا الذعر أفقر طروح مشروع التقرير السياسي وجعلها بالخطأ تتصور إمكانات أكبر للإصلاح الإجتماعي العفوي والتجريب عن إمكانات التغيير الثوري المنظوم، وبذلك فإن مشروع التقرير في خضم (تأسيسه) لبرنامج جديد للحزب، أو لبرنامج حزب جديد جرد الحزب الشيوعي السوداني والثورة الإشتراكية في السودان بمقدماتها الثورية الوطنية الديمقراطية من الإمكانات الموضوعية لبناء ركائزها في قلب حركة التطور والرقي الإجتماعي.
    3- خلاصة إنتقادية عامة لبنية وهيكل مشروع التقرير:

    من النقاط السابقة (أ) ، (ب)، (ت) التي ركزت على إنتقاد بعض الجوانب التنظيمية والسياسية لمقدمة مشروع التقريرالسياسي بالإمكان القول إن الطبيعة العامة لمقدمات التقرير مع تجاهلها أبجديات الإقتصاد السياسي وجدليات الطبيعة والتاريخ والضرورات الطبقية والإقليمية والأممية لتغيير نظام التملك الرأسمالي الخاص لوسائل وجهود وثمرات الإنتاج بما فيه من إستغلال وتهميش وإضرار بالإنسان والبيئة فإن بنية مشروع التقرير إعتورت بأخطاء جد جسيمة جمعت في أخف تقدير لها بين تدمير تنظيم الحزب الشيوعي، وتدمير العناصر الموضوعية للنظرية الماركسية-اللينينية، وقطع السياق الثوري الإشتراكي للتغيير الإجتماعي والتطور والرقي الوطني الديمقراطي، وتبديله بآمال خلب في التجريب والإصلاح الردفعلي وفي المؤتمر الجامع وإستلهام التراث، بل والعمل على إستئصال شأفة الشيوعية بدعوى محاربة الإستالينية وتبني الإنفتاح الفكري على حساب الإنتظام الفكري والحديث عن تغيير الحزب والبلاد بلا خريطة طبقية موضوعية أو صلات أو دوائر كهربية محسوبة ومحركات ناظمة !! هباء منثوراً وقاعاً صفصفا، تجديد كوقعة الجمل في البحر.

    2- نماذج لبعض النقاط التي تفسد تناسق الحزب أو تناسق مشروع التقرير السياسي:

    تعتني هذه الفقرة بإيراد عينات مباشرة من مشروع التقرير السياسي المقدم من لجنة تسيير أو ضبط أو تلخيص أو صياغة إجراء "المناقشة العامة" وتضع وشج كل عينة من مشروع التقرير السياسي تعليقاً أو إنتقاداً بسيطاً لتلك العينة موصول بكينونة طبقية لمسائل الماركسية اللينينية أو المركز والهامش وعلاقات النضال الحزبي الشيوعي والدولة والثورة والتوسع العددي والنوعي في الأزمة الإمبريالية، وذلك لتبيين وجود ومدى التافر بين العينة المعروضة والسياق التاريخي للنضال الحزب الشيوعي أو بين العينة المعروضة وسياق مشروع التقرير السياسي، وذلك بإيجاز في العرض تحتمه الطبيعة الزمانية والتنظيمية لطرح هذا الإنتقاد.

    1- الخط التنظيمي:
    يقول مشروع التقرير: ))فان مشروع التقرير العام للمؤتمر الخامس يسعى لمعالجة المتغيرات الأساسية في الوضع العالمي والإقليمي، وفي الواقع السوداني، ويطرح المهام التي تواجه العمل الثوري في الفترة القادمة. ويحدد بدقة التصور للأفق الاشتراكي، كما يطرح قضية تأهيل الحزب فكرياً وسياسياً وتنظيمياً ليجدد نفسه ويواكب هذه المتغيرات، ويواصل مشواره في البناء استناداً إلى أفكار ومفاهيم الخط التنظيمي.(( ولا شك في إن القيام بكل هذه المهام النبيلة، يتطلب تحديد ما سماه المشروع "الخط التنظيمي"، حيث إن مقدمة المشروع أقرت بالفراغ الذي تركته عملية تصميم أو تداعي المناقشة العامة في الجوانب الآتية:
    أ/ التجارب الأشتراكية القائمة ( المحوران الأول والثاني ).
    ب/ التصور حول " الدول الاشتراكية ".
    ج/ الاشتراكية والدين .
    د/ الجانب الفكري والفلسفي في مواضيع محاور المناقشة العامة .
    هـ/ .... اسم الحزب : فهو نقطة ضعف المناقشة العامة......

    وفي ظل غيبة هذه العناصرالضرورة لبلورة وقسط وعدل أي خط تنظيمي وتفعيله تنشأ أسئلة ضرورة لإيضاح طبيعة وجود هذا الخط:

    1- كيف تكون وتحدد هذا "الخط التنظيمي" خارج مناطق وفروع الحزب، وخارج اللجنة المركزية، وخارج مؤتمر الحزب؟

    2- أتكفي الأماني والأفكار العفوية والشعارات في هذا المشروع لتكوين خط تنظيمي لنضال أي حزب يروم التقدم الإجتماعي؟

    3- أبإمكان مجتمع التقدم من حالة نقص ضرورات عيشه وحياته إلى حال الكفاية منها دون تحديد طبيعة ومصالح كل طبقة إجتماعية فيه وفرز موقعها في نطاق عمليات المركزة والتهميش المحلية والدولية؟

    4- هل بالإمكان مع إستمرار نفس الظروف الطبقية والدولية التي سببت لثلاث مرات فشل الديمقراطية ليبرالية أن تنجحها هذه المرة في حل الأزمات الرئيسة لحياة المجتمعات المستغلة والمهمشة في السودان، وقد سيطر الإسلام السياسي على إقتصاد البلاد؟

    5- ماهي علاقة هذا الخط بالحد من مسألة التملك الخاص لوسائل وجهود وثمرات الإنتاج في العالم وفي السودان؟

    2- كيفية إنتقاء رأي معين من مصادر متعارضة؟

    حدد مشروع التقرير السياسي بأن مصادره هي: ((

    1 - كتيبات الحوار الداخلي والسمنارات التي تضمنت آراء الزملاء والهيئات والفروع لتجديد الحزب.
    2- تقرير المؤتمر الرابع "الماركسية وقضايا الثورة السودانية"
    3- الدراسات التي أعدتها لجنة إعداد مشروع البرنامج الذي سيقدم للمؤتمر الخامس.
    4- دورات اللجنة المركزية ( وبصفة خاصة دورة أغسطس 2001).
    5- مطبوعات حزبية متنوعة (حول البرنامج، قضايا ما بعد المؤتمر، لمحات من تاريخ الحزب الشيوعي السوداني، الخطابات الداخلية التي أصدرها مركز الحزب خلال السنوات الماضية .. الخ). ))

    ويلاحظ تجاهل مشروع التقرير لأن كل هذه المصادر الوارفة تحتوي تناقضات حادة في قراءة الواقع الدولي والسوداني والحزبي، كما إن كثير منها متصل بإنقسامات حزبية في حساب وتفسير نظريات النضال الشيوعي وممارساته مثلما كانت هذه المصادر مواشجة لكافة تفرقات وإنقسامات الحزب القديمة والجديدة وتشتتاته سواء إلى جهة سلطة "التقدم الإجتماعي" أو إلى جهة سلطة السوق. وإضافة إلى ظروفها التاريخية فإن هذه المصادر في إفراداتها وفي زرافتها وجملتها - في ظروف تشدد المركزية الديمقراطية- تبقى مجرد تصورات لقادة الحزب وبعض كوادره، ومع كامل التقدير والإحترام الرفاقي والشخصي لمسيرة بذلهم ونضالهم وفداءهم، ولأخطاءهم، إلا ان السير بمنوال مشروع التقرير في التعامل المجحف مع تاريخ النضال الشيوعي في روسيا يتيح القول في هذا الصدد إن هذه المصادر مع الظروف المحيطة بها أسهمت في إنتاج كثير من السلبيات السابقة والسلبيات الحاضرة في الحزب الشيوعي السوداني وفي الحياة السياسية السودانية والإقليمية والدولية وذلك بقدر أكبر من إسهامها في إنتاج الموجبات التي نتمتع بثمارها الآن. ولعل هذا التقدير الإنتقادي خاطيء ولكنه يبقى موضوعياً ما لم يقدم مشروع التقرير إيضاحاً وتفسيراً للمفارقة والإختلاف والتناقض بين تشدده بل وإجحافه في تقويم النضال الشيوعي في تاريخ روسيا وبلاد العالم وتساهله في تقويم النضال الشيوعي في السودان بكل نجاحاته وإخفاقاته؟ وحتى ظهور ذلك الإيضاح والتفسير، فإن طبيعة ثقة اللجنة في حيوية تلك المصادر تبقى غريبة فهي ذات المصادر التي لم يترك مشروع التقرير صفحة فيه إلا وهاجم أصولها وفروعها ومياهها وظلالها وميل أغصانها وهفيفها وتغريد عصافيرها بل ولعن بصورة عملية كينونة الشمس والهواء والأرض التي أنبتتها.

    وبطبيعة التناقضات الرئيسة والتناقضات الثانوية في هذه المصادر سواء بظروف إنتاجها أو بظروف ممارستها أو بظروف إنتقاد حزبها ونظريته وتنظيمه ونتائج عمله وإختلاف الظروف في مراحل إنتاجها وتفسيرها والإستعانة بها ينشأ سؤال بسيط عن طبيعة المعايير التي إعتمدها مشروع التقرير في فرز المحتويات المتناقضة في هذه المصادر أو طريقة تغليبه وإنتقاءه لبعضها دون بعضها الآخر أو معيار مشروع التقرير في جمع المحتويات المتوافقة ورصها، أو طبيعة المعايير والأدوات النظرية التي خدمها في ضفر بعض آراءالمصادر ببعضها الآخر طالما أن الحزب -حاضراً- مجرد نادي سياسي بلا نظام محكم الأصل والوسيلة والغاية أو وزن نظري آيديولوجي ودون إنتماء طبقي يركز عليه تصوراته وممارساته وطالما بقى الحزب حاضراً في الصراع الطبقي العالمي والوطني والإقليمي بلا كينونة ثورية إجتماعية واضحة ضد مسألة التملك الخاص لوسائل الإنتاج والطبيعة الرأسمالية لتنظيم جهود هذا الإنتاج وتوزيع ثمراته.

    جملةً: هذه المصادر وريفة متنوعة الأصول والمعاني وحمالة أوجه كلام كثير فكيف تجاوز التقرير الحزب في تقرير معانيها ومصيره؟

    3- النظرة الإنتقادية إذا ما جاوزت حدها:
    طرح مشروع التقرير السياسي أهمية نقاط من نوع "الإنتقاد" و"الدراسة" و"التغيير والتحول الإشتراكي" و"نبذ الطليعية والإستالينية" وقد أورد المشروع ذلك الطرح في صيغة حوت العبارات الآتية حسب صوغه وترتيبه: ((
    سيادة النظرة الانتقادية التي لا يتطور العمل بدونها.
    تطوير الدراسة الباطنية للمجتمع السوداني
    ا لتغيير الاجتماعي والتحول الاشتراكي في الماركسية، نبذ أفكار الطليعية والموروث الإستاليني،
    علاقة الحزب الشيوعي بالطبقة العاملة وحركة الشباب والنساء وقضايا التعليم العالي والعام والملامح والأساليب الجديدة الملائمة للعمل بين الطلاب، والأوضاع السياسية والاجتماعية في جنوب الوطن بعد نيفاشا وآفاق الوحدة والعمل الديمقراطي في الجنوب، والتحالفات الديمقراطية ضد الاحتكارات في البلدان الصناعية المتطورة، والمنبر العالمي لمناهضة الوجه المتوحش للعولمة، وتجربة التجمع الوطني الديمقراطي وتجربة مجد، وجبهة حقوق الإنسان وقضايا التضامن ))

    لا شك في إن النظرة الإنتقادية المتناسقة في أصولها وتكوينها وممارستها وتقويمها قد تمثل دور النابط والموجه لأي حركة تغيير، ولكنها تخالف هذه الطبيعة وتتجاوز فوائد تكوينها إذا ما تكونت دون دراسة وافية للعناصر والعوامل الموضوعية والذاتية للكيان أو الفعل المنتقد، بينما يوضح مشروع التقرير نقص وقصور المناقشة العامة في مختلف الجهات، موضحاً سعي لجنته أو صائغيه لتجاوز هذا النقص وإكماله نجده قد باشر مهمة الإنتقاد قبل أي دراسة أو بالتوفر على رأي دون آخر دون معيار موضوعي، ومع النظر إلى تحول مهمة المشروع من تسيير أو ضبط المناقشة العامة إلى تغيير المجتمع والإشتراكية ونبذ المبادرة والطليعية والإستالينية! بالإمكان النظر إلى سعي مشروع التقرير للقيام بتغييرات تتجاوز مهمة لجنة إعداده حيث يقوم بتجريد الإشتراكية في الحزب الشيوعي من الماركسية-اللينينية، وتجريد الحزب الشيوعي نفسه من تنظير الماديتين التاريخية والجدلية وكل مسائل اللينينية، ويتمادى في عزل وفي حرف نضال الحزب عن "رفض الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج الإجتماعية" ويشطب بشكل سياسي دقيق عنصر "الثورة" من حياته وأهدافه، حاصراً "الطبقية العمالية" في كينونة الحزب بدعوى تساويها وهي نبت القضية الجذرية في التاريخ الإجتماعي مع باقي القضايا الناتجة من ظلامات الإستغلال الطبقي والتهميش الإقليمي والعنصري، يبدل الأساسي بالثانوي ويمحق حضور الثانوي نفسه بوعود دراسات مؤجلة!

    من جديد تبقى هذه الطروح فقيرة بل مضاعفة للفقر الظاهري والبنيوي في كثير من مجتمعات السودان في ظل غياب دراسة عامة لحالة لإقتصاد السياسي في السودان وطبيعة عدد ونوع وتناسب إنتاجه وتنظيمه ومستوياته وعلاقاته وطبقاته وأصوله وحركته ومئآلاته، مع الحاجات الضرورية لحياة الإنسان بحرية وكرامة، ففي ظل تغييب هذه الدراسة العامة السهلة في حزب يعج بعلماء الإقتصاد السياسي ومثقفيه، يضحى الحديث عن الإنتقاد والدراسة والتغيير وكينونة الحزب ثم تطوير علاقاته وتأثيراته مجرد دعم لإعادة إنتاج أزمة النظام الرأسمالي في السودان والعالم تحت ستار تجديد الحزب أو تحويره إلى حزب لا شيوعي يتسامى عن الصراع الطبقي بمحاولة تحقيق مصالح جميع الطبقات في مجتمع تمركز رأسمالي طائفي قائم على الإستغلال والتهميش والإستعمار الحديث والإستعمار الداخلي.

    وإن كان لسكرتارية لجنة الحزب المركزية تقريظ جهود لجنة تسيير "المناقشة العامة" وبذلها ونضالها وإجتهادها في سد النواقص الخطيرة التي إعتورت إنطلاق وسير وتلخيص تلك المناقشة المتفاوتة الخالية من المعايير النظرية والعملية المتناسقة، فبإمكان بعض أعضاء اللجنة إدراك بعض أخطاء عملهم بهذه الطريقة التي يسبق الفعل فيها النظر، ويبدأ الهدم فيها دون دراسة البدائل.
    4- الأزمة الطبقية في تبديل إصطلاح "المرحلة التاريخية" بمفردة "العصر" :

    في احد وعود التأجيل يصر مشروع التقرير السياسي في توكيد حالة التعويم الآيديولوجي – التنظيمي للحزب الشيوعي السوداني ففي معمعان نيته الطيبة في إصلاح أو في تغيير الحزب بالإمكان النظر إلى عباراته الآتية: (( يأتي التقرير – إلى جانب المادة الواردة في كتيبات الحوار الداخلي – نتاجاً لعمل وجهد جماعيين يغطيان الأطر والمحاور الثلاثة: متغيرات العصر والوضع العالمي الراهن ومتغيرات المجتمع السوداني وتأهيل الحزب فكرياً وتنظيمياً وسياسياً لمهامه. وبطبيعة الحال ستظل هذه المحاور والأطر مفتوحة للتطوير النظري والفكري أمام العقل الجمعي للحزب بعد المؤتمر بمختلف الأشكال والأساليب الواجب ابتداعها: مركز دراسات ودوريات فكرية وورش عمل تتمتع بإدارات ذات استقلال واسع وتصبح سمة ثابتة في حياة الحزب ونشاطه.(( وقد كان إسم "قضايا العصر" عنواناً لعمل قدمه "السكرتير السياسي" كصيغة منفردة منه لتوجيه (تجديد برنامج الحزب) وبعد زمن طويل غبشت فيه هذه الموجهات الفردية نظر الحزب وسممت جسده إنتقد "السكرتير السياسي" الطريقة الإنفرادية لطرحه تلك الموجهات خارج الأطر النظامية المألوفة في الحزب، دون أن ينتقد مضمونها.

    وضد تلك (الموجهات) وإستمرار السير على نهجها في الهيئة المتصلة بتسيير "المناقشة العامة" أوضحت بشكل مفصل في عشرات من الأعمال الحزبية والجماهيرية والمقالات أخطاء وأخطار هذا الأسلوب التجريبي. وغير ما كان طي إجتماعاته فقد نشر بعض هذه الإعمال في صحيفة "الخرطوم" الغراء في عهدها القاهري (1995) ثم بتعديل في المجلة الفكرية الوارفة للحزب الشيوعي اللبناني "الطريق" بعنوان قريب لـ "ما هو التحليل المختلف لرأس المال؟ وماهو التحليل المختلف لقضايا الثورة في السودان؟" (1996) وكذلك في عمل مُصدر بنشرة الحزب الشيوعي السوداني (قضايا سودانية) (1996) وقد كان بعنوان "نحو موجهات أخرى لتجديد البرنامج" وكذا في صحيفة "الزمان" العراقية اللندنية الغراء أخر القرن العشرين، وفي بعض السوانح التي سمحت بها إمكانات النشر في "الديمقراطي" www.d-a.org.uk صحيفة التحالف الديمقراطي وفي صحيفة "الميدان" الغراء وفي علمها الخفاق www.midan.net في شبكة التواصل العالمية وكذا في موقعي المتواضع بذات الشبكة الكريمة على الصفحات الجهيرة الساطعة لـ"الحوار المتمدن": المنصور جعفر http://www.rezgar.com/m.asp?i=1248 وفي منطقة المقالات في الموقع الرحب الوارف سودانيز أون لاين www.sudaneseonline.com ففي جميع هذه الأعمال والجهات المتنوعة وضحت بهذه الأعمال وبالتفصيل الموضوعي المناسب في عدده ونوعه ومقامه الأخطاء الرئيسة في هذه الموجهات وأسسها وحيثياتها مبيناً كثيراً من القصور واللبس فيها والطبيعة الإنسحابية والرجعية لها، والآثار الفادحة التي تلحقها أخطالها بالحزب والوطن. وكان ذلك في نطاق إمكاناتي وفي سياق تيار عام لرفضها في الوحدة البريطانية للحزب (الفرع) لدرجة إنها تمتعت بتأييد صوتين صريحين فقط ورفضها بقية الأعضاء بتقدير رافض لطبيعتها.

    كذلك تم تناول نفس الموضوع ( خطأ الموجهات والحاجة لموجهات أكثر إشتراكية وديمقراطية) ورفض أقانيمه والتحذير من عشواءه وأخطاءه وأخطاره على الحزب والوطن والعالم في المحاضرة القيمة التي قدمها الزميل الأستاذ أحمد الحاج في لندن (2000) في إطار الجهود الثقافية والإعلامية للحزب الشيوعي السوداني في بريطانيا، مما قرظه العامة والكافة وتلجلج في تقديره بعض الكوادر والقادة.
    وكذلك عرض ذات لون الرفض ضمن سياقات أممية أخرى. وغير ذلك كثير مما لم يصل إلى لجنة تسيير المناقشة العامة نتيجة (ظروف الإتصال الحزبي) وتشابك وإختلاف علاقات الأفراد والهيئات بصور حميدة و بصور ضارة، أو وصل إلى علم اللجنة ولكنها أغمضته في تلخيصها كما أغمضت إسهامي "نحو موجهات أخرى لتجديد البرنامج" موردة عنوانه فقط في تلخيصها لإسهامات النقاش العام دون أن تورد سطراً واحداً من الإسهام نفسه !؟

    ان إختلاف ظروف نشر وجمع وعرض جميع الإسهامات بعضها في كتب حزبية وبعضها رأي في إجتماع إذا ما ربط مع تفاوت عناية الهيئات بتقديم بعضها وتأخير بعضها لا يعني بأي حال ان الإسهامات التي نحت إلى جهة الحزب اللاشيوعي هي الصحيحة والموضوعيةً، لمجرد أن مفتتحها الرسمي هو سكرتير الحزب أو شخصية قيادية فيه وإذ قام هذا الإنتقاد بذكر لمصادر وأعمال أخرى ضدها فلتوضيح الضعف النظري والعملي لما يعتقد معدي مشروع التقرير وصائغيه إنه على نقصه يمثل فاتحة خير لنمو وتطور الحزب بينما هو - بعلمهم أو دونه- مجرد تصفية باردة وإغتيال بطيء لوجود الحزب الشيوعي السوداني، خطوة خطوة.

    من أهم هذه الخطى النظرية والعملية لقتل الحزب هي إطفاء إصطلاح "المرحلة التاريخية" المضبوط بالمعايير الإقتصادية الإجتماعية المادية لحركة سير وقراءة التاريخ وأهمها طبيعة النظام الإقتصادي لعيش وحياة الناس، حيث بدأ حذف إصطلاح "المرحلة التاريخية" من التداول وهو عملة الحزب وعصب حياته ووضعت مكانه مفردة "العصر" وهي مفردة سائبة مسيبة إذ قيل عصر الكهرباء، وعصر الحروب العالمية أو الأهلية، وعصر الصواريخ، وعصر النفط، وعصر السرعة وعصر الدولار، وعصر الإتصالات، وعصر الديون، وعصر المجاعات، ...إلخ، فهي الزمان بلا ضابط موضوعي لعياره، وهي غور في التاريخ بلا بوصلة، ستين داهية !

    وفي كثير من الأحيان فإن إنتقاء مفردة لغوية في ظرف طبقي معين قد يشير بلون الإنتقاء إلى فكرة وطريقة تفكير بل وإلى طبيعة أو منظومة إصطفاف الأفكار في الذهن وإلى طبيعة تواجدها في المجتمع وفي العالم المحيط بكل ما فيه من صراع طبقي المصالح وغلبة وسطوة لوسائط التعليم والإعلام الإمبريالية التقعيد والتمركز والتمويل. وقد يسهل بطول وتسدس هذا الإستنتاج صرف سمة الموضوعية عنه، إلا أن تتعزز هذه المفردة بعبارات وأعمال وتصريحات وموجهات تثبت الطبيعة العامة لها في نطاق الصراع الفكري-الطبقي.

    في إنصراف مشروع التقرير السياسي عن (ثوابت) الوضع الطبقي في مجتمعات السودان وهرولته من مظالمها إلى حديث (المتغيرات) وتقلباتها دون قسط وعدل بينهما يدعي التقرير في سياق هذه الهرولة والمعاصرة (( تأهيل الحزب فكرياً وتنظيمياً وسياسياً لمهامه)) ! ولكن إزاء هذا الإدعاء فبالإمكان السؤال عن كيفية قيام التقرير بعملية تأهيل الحزب فكراً وتنظيماً وسياسةً لمهامه بينما يقوم نفس التقرير بتعويم وخصخصة أصول وتاريخ وكينونة الحزب ومستقبله وطرد عموم نظريته وممارسته بكل نواقصها لصالح فهوم وأساليب نهج التجريب والتعلم بنهج المحاولة العملية الذي وضح لينين ضعفه في كتاب: "المادية ونهج التجريب"، مبيناً فضل النظرية الموجهة والخارطة الفكرية والخطة في ضبط الأعمال. كذلك عدت إحدى مواد كلية التربية: نهج التجريب والمحاولة الفردية والبداية العشواء [وبذهن خال من الأسبقيات] عدته أفشل الأساليب في التعليم والتعلم.

    وختماً لهذه الفقرة، لابد من تمحيص المعنى الذي قصدته العبارة (( تأهيل الحزب فكرياً وتنظيمياً وسياسياً لمهامه)) بمفردة "مهامه" ( أي مهمات الحزب الـ..)، فما دامت نظرية وطبيعة الحزب مغبشة مغيبة، ونقاشه مرتبك، وتصوراته مجزأة متنافرة ومشروعات نضاله مؤجلة بقيام "المؤتمر الجامع" وبإنعقاد دراسات، وبخضرة شجرة الحياة بعيداً عن فهوم تنسيق الأفكار والجهود، وتصعيد النضالات الحاضرة في المدينة والريف وتنسيقها تنسيق االبستاني الفنان للأشجار والأعشاب والأزهار حدائقاً غلبا، فكيف لأي حزب بعد كل ما قام به هذا التقرير من تجريد علني وباطني لأصوله وعناصر حياته أن يتقدم لتحقيق أي مهمات سواء كانت هذه المهمات مهمات متناقضة لحزب إشتراكي أو كانت مهمات ذربة متآلفة ومتناسقة في عناصرها الطبقية وهيكلها التراتبي وبنيتها النضالية الثورية كما هي مهمات أي حزب شيوعي؟

    فإذا كان التقرير مسبقاً قد نبذ وبشكل موارب قيم اللينينية ورفض مهماتها الطبقية والتنظيمية فكيف له أن يؤهل حزباً لها؟ ولماذا؟

    5 - تجاوز الإختلافات الموضوعية بين مراحل نمو وتأزم ووفاة الإتحاد الإشتراكي للجمهوريات السوفييتة:
    بدلاً من تلخيص الدراسات الموضوعية في صدد تاريخ الإتحاد السوفييتي والتطور المحلي والدولي للتناسب والتنافر بين قوى وعلاقات إنتاجه ثم تأزمها، والأسباب الإجتماعية والثقافية القومية التي غذت تشكيلاته الإقتصادية وسيرورته السياسية إنشغل مشروع التقرير عن ذلك بتحليل ووصف ردود الفعل على تأزم وإحتضار وقتل إتحاد السوفييت، ثم تناول بعض مظاهر الأزمة والإحتضار كسبب لها، ثم أقر بعدم إكتمال دراسة الموضوع الذي توصل فيه التقرير إلى نتائج قاطعة لعلها هي التي دفعته- بكل إطمئنان- للقول الجزاف بأن ما سماه (إنعدام الديمقراطية) هو سبب تفاقم الأخطاء! حيث يقول التقرير: ((...هناك المنبهرون بالتجربة السوفيتية للدرجة التي يستبعدون معها كلية وجود أية أسباب داخلية للإنهيار. ويعزون بالتالي ما حدث من انهيار للتآمر والضغوط الخارجية وخيانة بعض القادة السوفييت. وبطبيعة الحال ما كان بإمكان تآمر وضغوط الامبريالية، وسباق التسلح الذي كان يمتص ثلث الدخل القومي السوفيتي سنوياً، ونشاط أعداء الاشتراكية داخلياً ان ينجح في مرماه لو لا وجود أخطاء داخلية في تجربة النمط السوفيتي. وهناك التقويم الذي يروّجِ له مفكرو الامبريالية الذين طووا جميع الصفحات وزعموا... إلخ.))

    وبعد نقد ضعيف للتصورات والأفكار الإمبريالية في هذا الشأن يضيف مشروع التقرير تصوراً (ديمقراطياً) لتفاقم أسباب الأزمة في ما سماه (التجربة) الإشتراكية السوفيتية، مغبشاً إنها نضال تحددت مساراته بحتميات التاريخ وليس برغبات بعض القادة فيه، يقول التقرير:
    (( ان البحث والتقصي سيستمر لسنوات عديدة في التجربة الاشتراكية السوفيتية، للوقوف على مجمل العوامل الداخلية والخارجية التي أودت بها للانهيار. وهناك حالياً رؤية جديدة لأسباب الانهيار عبّرت عن نفسها في عدد من المؤلفات الحديثة، وعموماً الموضوع برمته يحتاج منا لتمحيص شديد خاصة ونحن لم نلامس تلك التجربة بعمق. ولكن ما بالإمكان قوله بكل اطمئنان، إن انهيار التجربة الاشتراكية السوفيتية جاء نتيجة لانعدام الديمقراطية الذي قاد لتفاقم أخطاء لا مفر منها مع تجربة جديدة. إن ما انهار حقيقة هو النموذج الإستاليني للاشتراكية وليس الحلم الاشتراكي والنظرية الاشتراكية التي تحتاج طبعاً للتجديد الثوري الجذري بما يجعلها قادرة على تقديم بديل اشتراكي علمي، واقعي وديمقراطي. غير ان تزامن التصدع والانهيار في بلدان اشتراكية عديدة، وفي نماذج التطور اللاراسمالي المترسم خطى النمط السوفيتي في انحاء مختلفة من العالم، كفيل بان يلفت الانتباه لوجود سلبيات وأخطاء داخلية مشتركة في تلك التجارب مهدت الطريق للهزيمة وقادت لها.))

    بهذه الإشارات نلمح ثلاث أسباب هي: التآمر والحصار والعدوان الإمبريالي، والإنفاق العسكري، وإنعدام الديمقراطية [ أي الديمقراطية السياسية بطبيعة تقدير مشروع التقرير] والأول أي الحصر والعدوان مما لا يوجد إختلاف عليه إلا إنه كان مقرراً بشكل ديمقراطي في دوله وبلاده، فكيف تكون الديمقراطية الليبرالية (سلطة وديكتاتورية حرية رأس المال في التملك) صالحة في تقريرها العدوان على السوفييت بل وتشكيل منظومات الإستعمار القديم لموارد المجتمعات والشعوب وكل نظام الإستعمار الحديث لكل دول العالم غير الإشتراكية، بينما يطلب التقرير إستنساخها في الإتحاد السوفييتي حيث جرى قمع رأس المال والقوى المطالبة بحريته أي بحرية قيام قلة في المجتمع بتملك وتعظيم إستغلال وسائل الإنتاج والعيش الضرورة لحياة غالبية البشر تستغلهم وتستلبهم وتهمشهم.

    كان من الأجدى للتقرير ذات الدفاع المجيد عن الحريات العامة وحقوق الإنتقاد والديمقراطية لكن في سياق تنظيم إشتراكي للمجتمع والدولة يمنع شعبياً وقانوياً هدمه لحساب بناء رأسمالي لعلاقات تبادل المنافع بين الناس، تماماً مثلما يُحرِم النظام الرأسمالي نفسه تغيير أسسه السياسية (حرية التملك) أو مثلما يحرم النظام الليبرالي تغيير أسسه الرأسمالية (حرية السوق) على حساب حرية وكرامة أغلبية مجتمعاته المستلبة وعلى حساب حرية وكرامة أغلبية مجتمعات ودول العالم المخضعة له بآليات الإستعمار قديمه وحديثه. ففي الطبيعة الإجتماعية لاتوجد ديمقراطية واحدة كجنة لحرية كل الطبقات فكل لون من الديمقراطية يعلي أو يقصي مصالح طبقية معينة، يعتني بها أو يطفي أرآءها وهو مما لم يهتم به مشروع التقرير في عرضه للتطورات والتراجعات في أوضاع النضالات والدول الإشتراكية.

    ان إهمال مشروع التقرير العام لسمة الإيجاب اللازمة لموضوعية أي فحص وإنتقاد يشكل إهمالاً جسيماً لموضوعية النظر بصورة إنتقادية موجبة إلى وقائع وكليات النضالات الشيوعية في روسيا والجمهوريات السوفييتية سابقاً، وفي الصين وكوريا وكوبا وفيتنام ونيبال والفليبين والهند، وفي جنوب أفريقيا وأنجولا وموزمبيق وإثيوبيا وإرتريا وغينيا بيساو، وكذلك في دول التحول الإشتراكي في جنوب أمريكا، وفي تحولات بعض دول أوربا البحر الأبيض المتوسط، وفي داخل الدول (= الولايات) المتحدة الأمريكية، حيث بإمكان النظر البسيط إن يستضيء بأشعة حركة النضال الإشتراكي الاممي التي بلورتها الثورة الإشتراكية الأولى في التاريخ والعالم وسطوعها في حركة تراكم الثورة العالمية، فهي رغم تباين ديمقراطياتها وظروفها وتمثلاتها لم تزل بحيوية أحزابها وشعوبها وعنفوانها تعاظم عملية التمثيل الضوئي لقيم الإشتراكية الوضائة وإتقادها ضد أصول ومظالم رأس المال وتشكيلته الإمبريالية في عملية عالمية للثورة لم تزل توكد بتواصل نضالاتها ضد خصخصة موارد الشعوب وإعتقال إمكانات تقدمها لم تزل هذه العملية الثورية الأممية توكد حيوية ودفق ونماء عناصر وكليات المادية التاريخية والمادية الجدلية والماركسية-اللينينية والحزب الجديد في نوعه الثوري الشيوعي النضالي العمالي إضافة لتوكيدها صحة الأصل والأفق الأممي والإنساني لحركة النضال الشيوعي كعلم نظري تطبيقي منظوم لحرية الطبقة العاملة كأساس لإلغاء نظام الإستغلال والتهميش الطبقي بكل عنصرياته وبداية تشكيل كينونة الإنسان والعالم الجديد ووضع السطر الأول في التاريخ الحقيقي للإنسانية بعد ألوف السنين من التأريخ الطبقي الساحق لنشوء وتطور الإنسان.

    لا يغيب هذا النظر نقد التصور المحاسبي المالي لتأزم وإحتضار إتحاد السوفييت بدعوى توجيه موارد المجتمع إلى الدفاع فقد كان الإقتصاد العسكري في الإتحاد السوفييتي مستقلاً بكامله عن الإقتصاد المدني، وكان الإقتصادان لحد كبير متمايزان عن أسلوب التقييم النقودي لتبادلات المنافع السائد في الدول الرأسمالية صغيرها وكبيرها، حيث كانت تبادلات القيم تتم وفق معاملات إدارية تنظمها، لذا فمن قبيل مجاراة الثورة المضادة القول بمثل هذه الأسباب القائمة على حساب الميزانية، صحيح إن التعاملات النقودية قللت وحدت كثيراً في عهد قيادة إستالين للإتحاد السوفييتي مما وفر إمكانات مادية وبشرية كبرى فيه للبناء والدفاع والنصر ولبناء ما بعد الحرب بكل مساكنه ومرافقه ومحطاته الذرية والفضائية ومعوناته، إلا إن إرجاع التقويم النقودي للمنافع في المجتمع على يد المناشفة الجدد بعد (وفاة) إستالين 1954 والإنقلاب الأبيض لعقد المؤتمر العشرين للحزب السوفييتي في فبراير 1956(دون مؤتمرات تحضير) قاد لبلورة وزيادة التمايزات بين الطبيعة الإجتماعية الإدارية لعلاقات الإنتاج والطبيعة المالية النقودية التجارية لعلاقات الإستهلاك مما مايز بين الدولة والمجتمع وسمم نمو الإشتراكية رأسياً وأفقياً مما أوضحت كثير من تفاصيله في كتابات وأعمال أخرى ، وحال التمايز بين العلاقات الإجتماعية الإدارية للانتاج والعلاقات المالية النقودية التجارية وتسميماته هو نفس الحال السائد حاضراً في روسيا والجمهوريات السوفييتية السابقة بعد حوالى عشرين سنة من عودة الديمقراطية الليبرالية إليها، يزيد فيها تفاقم الأزمات دون مخرج إجتماعي متناسق سوى الإشتراكية. فرغم ما يسمى (عودة الديمقراطية) وإستمرارها لعشرين سنة فإن تلك الجمهوريات لم تحقق في أي من مجالات الحياة المادية والثقافية 10% مما حققته فيها في نفس العدد من السنوات إبان عهد البناء الإستاليني العظيم.

    إذن بالإمكان إفتراض إن موضوعات الحرية والكرامة الطبقية والإجتماعية تختلف في جوانب كبرى من طبيعتها عن الطبيعة الليبرالية للديمقراطية أو عن الثقافة الديمقراطية السائدة على المجتمع، مما تناوله كثيراً المرحوم د. جعفر محمد علي بخيت (1933- 1976) في تنظيراته العلمإدارية لأمور الديمقراطية الشعبية والحكم الشعبي المحلي والإقليمي وإتحاد جمهوريات السودان، وتشكيلها القاعدي لأسس الإتحاد والتطور الإشتراكي في السودان قبل أن تقوم مركزية الدولة السودانية ومركزية البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بالقضاء على مشروعه، وتحطيم صحته. ولكن من الضروري تعزيز هذا الإفتراض بتمحيصين مواشجين لبعضهما: 1- تمحيص ظاهرة الإستعمار والطبيعة السياسية لأصوله الطبقية و2- تمحيص ظاهرة تدهور شروط الحياة في الدول الديمقراطية، بل وإنهيار كثير من النظم الديمقراطية في أفريقيا وآسيا وحتى في أوربا الحاضرة (الدولة البوليسية، ومظاهر تجريد المجتمعات من حقوقها، والنزعة الفاشية) وبتعزيز التمحيص للإفتراض الأول تسهل الممايزة بين تنوع فهوم الديمقراطية ونسبيتها الطبقية في السياسة الإجتماعية وفي السياسة الرأسمالية، وبين تنوع حاجات وحقوق الطبقات والفئات المُستغَلة والمُهمشة في الحرية والكرامة.
    لقد إعتنيت لأكثر من ربع قرن وفي سياق تقدمي بشيء كثير من أدبيات وأمور الثقافة والفلسفة والتاريخ وأسس الإقتصاد السياسي وتاريخ الإشتراكية في أوربا وفي الإتحاد السوفييتي بالذات، ونشرت في ذلك وفيما يواشجه كتيبين ومئات مقالات وما لم أنشره من كتب يجاوز عدده آلاف الصفحات وأكثر من المعلومات والنظرات والمراجع، و كان إعدادي التقارير في هيئات العمل السياسي يلاقي التقريظ والإشادة دون أن إهتمام مؤسسي منتظم متناسق بتطوير هذه الإسهامات -إلا شذرات من بعض الأساتذة الأجلاء وبعض الرفاق أو ممن تجتمع فيهما هاتين الصفتين- مع قدر من الجهد الذاتي أصر على تمحيصه وتنميته تدقيقاً وتنويعاً وتأثيلا، ولي معه إسهامات متواضعة داخل الحزب وخارجه في مجالات النضال التعاوني والشبابي والنسوي والثقافي والفني والـ.. والدولي وفي حقوق الإنسان وفي مسالك إخوان الصفا ورفاقياتهم الغابرة والحاضرة، والآن إذ ينجلي محك الصراع وينفتح ميدانه الكريم الأشرف، بين جهات نظر كثيرة بينها قوى ومفاهيم الشيوعية و قوى ومفاهيم الخراب، تضحى ضرورة لحرية وكرامة مجتمعاتنا تعزيز التوكيد الإنتقادي الموجب لقيم الإشتراكية العلمية والآيديولوجيا الثورية والممارسة النضالية المعززة للتطور الإشتراكي والتقدم الإجتماعي في سياق دولة ديمقراطية شعبية تنفي في دواخلها إمكانات الإستغلال والتهميش بإلغاء إمكانات تركيز ملكية وسائل الإنتاج والعيش في يد قلة من الناس تطفف مكاييل منافعها وتبخس الناس أشياءهم وأعمالهم وتكنز بإحتكارها وسائل عيشهم حريتهم وكرامتهم فدون الإشتراكية والديمقراطية الشعبية ، لا يوجد طريق ثالث بإمكانه أن يحقق في الحاضر أسساً مادية ونظرية متناسقة لحرية وكرامة الإنسان في المستقبل.

    ومن الخبرة المعينة المتنوعة المعززة لقيم العدل والسلام والمحبة والرفق والتعاضد والإخاء الإنساني التي أنضجت بعض دراستي ونشاطي يتعزز إعقادي كل يوم بأن التغيير والتحول الى الإشتراكية في مجتمع تسوده الرأسمالية المحلية أو العالمية ليس بالإمكان أن يتم بسلاسة البيع والشراء في مجتمع تجاري بل إن ذلك التنوع يحتوي ضمن تناقضات مصالحه الجذرية وصراعاته السياسية معارك عسكرية وحروب وإجراءات إحتراسية ووقائية وإجراءات إحترازية ومقالع ومضافر لا يتمناها المرء ولكن حتماً تفرضها تناقضات المصالح، فلم يحدث في التاريخ البشري مجال موضوعي لتلافي هذه النوع من التصادمات منذ معارك البداوة القديمة بكل إستعباداتها الأولية وليس نهاية بحروب الحضارة الإستعبادية القديمة والإقطاعية والرأسمالية الإستعمارية وحتى معارك ثورة أكتوبر وحروب التحرير الشعبية، وحروب الإستقلال والإنفصال وما بينهم من تمردات وعصيانات ومسيرات وتظاهرات عنفية، يحكم توليدها وتطورها طبيعة العنف البنيوي والظاهري الذي تمارسه نظم الإستغلال، ومقادير حرمان وقهر وإستلاب الناس لذلك تبقى الدعوات إلى السلام وحقوق الإنسان مجرد أماني يرتكز تحقيقها ورسوخه على طبيعة التعامل الرأسمالي معها في جهة القوى الطبقية المُسَتَغَلة والمُهَمَشَة إقتصاداً وثقافة، وعلى المستوى المحلي والمستوى الدولي للقوة النوعية للنظام الديمقراطي الشعبي وصلابة ومرونة كينوناته الإشتراكية.

    من هذه التقديم بالإمكان النظر إلى التاريخ الطبقي للعنف في شسوع القارة الأوربية والآسيوية ومُحركاته ومُثبطاته العامة والخاصة ومن ثم تقدير الطبيعة الطبقية العامة لتنوعات وتطورات العنف في الإتحاد السوفييتي في مراحل ولادته وشبابه وفي مراحل تسممه وإحتضاره وإغتياله، أما الميل لإصدار أحكام مثالية عامة بصدد إجراء طبقي إقتصادي معين ذي سمة سياسية مدينية أو سياسية عسكرية، فليس من المناسب إيراده في أي مشروع تقرير سياسي يفترض قيامه على تحليل العناصر الأساسية وحساب دواعيها التاريخية وردود الفعل التي واجهتها قبل وسمها بالقبح أو بالجمال السياسي، ولكن مشروع تقرير لجنة تسيير المناقشة العامة يسير مسالماً أو متسالماً في مجرى ذرف الدموع على أعداء الثورة الإشتراكية لا بصفتهم بشراً راحوا ضحية التناقضات الطبقية العنيفة بل يبكي عليهم كأنما هم أصحاب حق وليسوا خصوماً في معارك تأهبوا لها بكل قدراتهم العسكرية، وفي هذا السياق نجد التقرير يصف سياسات البناء الإشتراكي في عهد ولادة وتفتح الإتحاد السوفييتي بمفردات إشخاصية وعنفية وتشددية وعنادية من نوع "ضرب" و"فرض" و"أعطى" و"تجاوز" التي لو طبقناها على أي حاكم أو بشر لما سلم أحد من غلها خاصة مع علم التقرير مقدماً أن إيراد هذه التشانيع المسبقة في سياق يتحدث عن الدراسة والسلام والحرية ومحبة الأعداء وقبول الآخر حتى لو كان مستغلاً للناس مفقراً لهم، فإيراد هذه الهتافات العدائية أمر يستدعي مشاعراً وعواطفا مضادة قد تؤثر على تقويم هذه الإجراءات في إطار قوانين الطبيعة والتاريخ المادية والإجتماعية، وللقاريء الكريم أن يحكم من أسلوب مفردات التعبير على قدر الموضوعية والتاريخية في التقرير، وفق إن مبادئ الموضوعية والتاريخية تقلل إعتبار تأثير الأشخاص والقادة وتعلي قيمة الجدل الطبقي بأشكاله، وعدا ذلك تخليط.

    وقد حدث هذا التخليط بمحاكمة فظة ظالمة لقيام الأفكار العدالية والتقدمية الاولى في صيغتها الماركسية-اللينينية ونضالها الشيوعي الماثل في ثورة أكتوبر الإشتراكية العظمى بقيام مشروع التقرير السياسي بمهاجمة إجراءات ولادة الإتحاد السوفييتي وشموخ شعوبه من مزابل الحضارة والتاريخ ناسباً إياها لشخص واحد يتمادي المشروع مع الدعاية السائدة في العالم في غمض نضالاته ومحق أمجاده وهو بطل مجيد من أبطال الشيوعية وقائد عظيم من قادة نضالها في روسيا والعالم ضد التنظير الفارغ والإستغلال والتهميش وأشكال الإستعمار والأمية والجهل والتخلف والامراض والأوبئة والتشتت والفقر والعدوان، وعلى بلورته وإثراءه الماركسية-الينينية وتقديمه موسعات وملخصات هامة فيها أضحت الآن من بديهيات العلوم الإجتماعية ساهم إستالين بتميز حكمه في إنتقال روسيا القديمة وإقطاعاتها من حالة البؤس والهوان إلى أمجاد البناء والإنتصارات الكبرى حتى تركها حين وفاته 1954 أعدل وأقوى دولة في العالم دون إستعمار وإستغلال وتهميش أو شركات وتجارة وتمويلات وبنوك دولية، وبتضامن لحد التضحية مع نضالات شعوب أوربا والصين والهند ضد النازية والفاشية والإستعمار ودعم غزير لحركة التحرر الوطني في آفريقيا وغيرها ومساندة مخلصة للدول المستقلة حديثاً وصداقة مع الشعوب كانت ذات مصانع وبعثات وفنون ورياضيات ومكتبات وأشعار وآداب وترجمات ثرة، وأضاف لنضال الشيوعية العالمي والروسي إشتراك فعال في تأسيس الأمم المتحدة ومواثيقها وهيئاتها وفي شرعات حقوق الإنسان ودعم وتوطيد الأمن والسلام العالمي، وفي تكريس حضور الإشتراكية فى النطاق الدولي عزيزة مرفرفة، لكن إجراءات ولادة أو تبلور الشيوعية والإتحاد السوفييتي وشموخه وإنتصاراته في تلك المرحلة بخست وأختصرت بمشروع التقرير السياسي فى مجموعة العبارات المجحفة الآتية: ((
    - ضرب مصالح البرجوازية في المدينة والريف.
    - فرض المزارع الجماعية والتعاونية في الريف السوفيتي بالقوة والقسر.
    - إعطاء الأسبقية للصناعة الثقيلة.
    - تجاوز أسس الحل الماركسي الديمقراطي للمسألة القومية وفرض اتحاد فدرالي لقوميات وشعوب الامبراطورية القيصرية. ))

    إن كثير من الأخطاء شابت هذه الصياغة التي تشبه إتهامات أمن الدولة الرأسمالية للشيوعيين بتهديد السلام الإجتماعي، وفي تلافيف كل فقرة منها قراءآت مغرضة ومغالطات تاريخية بل وتخرصات عمياء، ولكنها مع ذلك إنطلقت دون تحليل ودون دراسة متكاملة لإصدار أحكام ظالمة وبشعة سجلها مشروع التقرير بقوله(وهكذا قطع إستالين الطريق أمام تصحيح المسار، وتخطى القوانين الموضوعية الماثلة وقتها للتطور الاقتصادي والاجتماعي وقفز فوقها. ثم أقدم على ضرب واحتواء المعارضة العمالية والحزبية لسياساته بفرض تعميمات نظرية مغلوطة على غرار: " تنامي شراسة العدو الطبقي كلما تصاعد البناء الاشتراكي"، وجرى اتخاذ مثل هذه التعميمات النظرية تكأة لتصفية الخصوم السياسيين داخل الحزب نفسه بوصفهم امتداداً للعدو الطبقي. وضرب الديمقراطية وفرض الشمولية والدولة البوليسية ومن ثم سلب حق العاملين في الإضراب وحوّل النقابات والسوفيتيات إلى تنظيمات سلطوية.)

    وهكذا بعد أن سجل مشروع تقرير لجنة تسيير المناقشة العام بكل هذه الخفة ان القائد الشيوعي النبيل إستالين قد قفز وقطع ونط وتخطى وضرب وإحتوى وصفي وضرب وفرض وسلب وحول، ينطلق من هذا اللوم الشخصي الذي يعف عنه في السودان إلى تحليل وتقويم آخر يصر مشروع التقرير على موضوعيته يتعلق بالمسألة القومية في تلك البلاد شبه البلقانية، وكيف إن تأسيس الإتحاد السوفييتي نفسه كان جريمة إستالينية ولم يكن حلاً ماركسيا-لينينياً ديمقراطياً لمسألتي الإستعمار والإقطاع القيصري والأجنبي في تلك البلاد الواسعة المتداخلة والثرية والقاسية الطبيعة، لم يذكر التقرير مراحل تكون وتأزم الإتحاد وأسبابه الموضوعية في تناسبات قوى ومصالح وعلاقات الإنتاج، والطبيعة المركزية والامركزية لجدلها المحلي والدولي ومصالحها ومعاركها التكاتيكية والإستراتيجية بل ترك تقويم هذا كله وتقويم المناقشة العامة لقضاياه السودانية بمركزها وهامشها إلى القول المتواضع المزيف بعبارات من نوع: "لكن هذه الحقيقة..."! يقول :

    (( لكن هذه الحقيقة يجب أن لا تحجب عنا أنه ونقيضاً للطرح الماركسي بالحل الديمقراطي للمسألة القومية اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وثقافياً، وكفالة حق تقرير المصير كحق ديمقراطي أصيل، فرضت الإستالينية اتحاداً فدرالياً لا مكان فيه لحق تقرير المصير إلا بصورة شكلية وبعد انجاز التحول الاشتراكي! ومهّد هذا الطريق لتنامي شوفينية القومية الروسية الأكبر وإلى تعقيدات خطيرة في المسألة القومية.)) وبعد هذا التجريم المتأخر لوجود الإتحاد السوفييتي، مما يشابه في مضمون حيثياته كثير من المواقف التاريخية لحزبنا حول الوضع في جنوب السودان ودون ذلك في شرق السودان وغربه، يندفع مشروع التقرير في تجريماته القومية، متجاوزاً جدلية الموقف الشيوعي ضد العصبية القومية (الشوفينية) وضد الإنمساخ والتذويب، وقافزاً على حقيقة ضجر كثير من الأوربيين الروس من سياسات إستالين القومية لتحميلها إياهم قسطاً كبيراً من عبء تنمية وتقدم مجتمعات القوقاز، كما تنسى أحكام مشروع التقرير حال النفور (القومي) المثلث والمتقاقم قبل الثورة وفي سنواتها الاولى بين مجتمعات الأرثوذدكس واليهود والمسلمين وكذلك بين القوميات الروسية والتركية والصينية والأوزبكية إلخ وتداخلها في رقعات جغرافية واحدة حتى كفل لها تأسيس الإتحاد ونموه إمكانات تعامل وتطور عظمى خاصة في مرحلة سيطرة التنظيم الإجتماعي الإداري على عمليات الإنتاج والتوزيع العام لموارده ووسائله وجهوده وثمراته، قبل مرحلة التقويم النقوددي للمنافع والتكالب الذي أيقظه على إمتلاك المارد والتفرد بها مما أزم الإتحاد وسممه.

    بعيداً عن ذلك يخلط مشروع التقرير لسبب ما بين الحقيقة والزيف ويخلط الثورة والثورة المضادة ويغافل نفسه عن إدراك جدلية العلاقة بين الأزمات القومية والأزمات الدولبة في تلك الظروف من الصراع الطبقي الدولي على ضفاف الحروب العالمية إذ يقول( وتحركت الجيوش والدبابات السوفيتية مرات عديدة لسحق وتنكيس رايات الانتفاضات الشعبية التي رمت للإصلاح والديمقراطية وتقويم سلبيات النمط السوفيتي في تلك البلدان.)) ولكن بعد هذه الفتوح السياسية والقومية يتحفنا مشروع هذا التقرير بصراحة لم يمارس مثلها جهة حزبنا، قال: (( طمس النظرة الانتقادية التي لا يتم إصلاح الخطأ وتصحيح المسار بدونها، بل أيضاً إلى رفضها كلية ومحاربتها.)) ثم يعمد المشروع الى الخروج من هذه الكشوف بفتح رباني يدير به دفة الإشتراكية العلمية من حال الثورة والتقدم في النضال إلى حالة رجعية يعيد بها المشروع الإصطفافات الثورية إلى حالة ما قبل لينين في العالم وهنري كورييل ومارسيل إسرائيل وعبده دهب وزكي مراد وحسن فؤاد في مصر وحالة ما قبل عبد الخالق محجوب في السودان وفهد في العراق، حالة البحث عن سياق تنظيمي طبقي طليعي منظم ومصادم يقول: (( صفوة القول ان النمط السوفيتي الذي جرى تسويقه بوصفه تجسيداً حياً للماركسية بلحمها ودمها، اكتنفته أخطاء عديدة. وان الذي قاد للإنهيار في نهاية المطاف لم يكن الماركسية، بل كان الابتعاد عن بعض مبادئها الأساسية. فالماركسية في جوهرها منهج علمي يتم الاسترشاد به في الوصول للقوانين التي تحكم التغيير الاجتماعي في هذا الواقع أو ذاك. انها نظرية تتنافى تماماً مع الأحادية والنمط الواحد والنموذج الصالح لكل زمان ومكان. ان فشل واخفاق مشروع تاريخي كان يدعي الانتساب للماركسية لا يعني ان الماركسية قد عفا عليها الزمن وتجاوزها. ))

    ويمكن ملاحظة عبارة (صفوة القول) التي يفتتح بها مشروع التقرير حكمه رغم إن نقاشه غير مكتمل لا في عدده ولا في نوعه، متباعد مفكك، دون تمحيص نوعي وتنظيمي لمصادره، ودون معلومات صحيحة ودون تحليل موضوعي، وفوق ذلك به تناقضات لم يتواضع في تقديمها وهي تناقضات تشل كثير من فقراته ومن المهم إزاحتها بالنقاشا قبل الوصول إلى "صفوة القول" ولعل هذا التعالي والحكم المسبق يجعل مشروع التقرير مائلاً إلى أن يساوي بين ما يسميه "الماركسية" وحالة التشتت الفكري والتنظيمي والسياسي ولعل ذلك بإتجاهه إلى التجاوب مع بعض المفاهيم العامة للثقافة الطبقية السائدة كمفهوم (تحقيق مصلحة جميع الطبقات) رغم إن ذلك متعذر بأسباب بنيوية ومنطقية تتصل بوجود هذه الطبقات في نظام إنتاج يكون الأرباح الرأسمالية بإستغلال وتهميش وإستضعاف الناس !

    في مثال جديد لخطاً وإنحياز بعض معلومات مشروع التقرير في صدد الصراعات الأساسية التي شكلت تاريخ الإتحاد السوفييتي إغفاله ذكر الخصائص الموضوعية لمرحلة إستالين حيث كانت هي مرحلة البناء والدفاع وإعادة البناء وإنها تكونت تاريخيا كنتيجة جدلية للصراع النسبي بين مرحلتين أساسيتين هما مرحلة "شيوعية الحرب" ومرحلة شيوعية السوق "النيب"، اللتين تميزتا بطبيعة مؤقتة جهة التحديات العامة التي واجهت بقاء عملية التغيير الإشتراكي. كذلك أغمض مشروع التقرير ذكر إتصال طبيعة هذه التغييرات بحالة حروب المقاومة والتدخل التي شنها الحرس والجيش القيصري، ثم جيوش وعملاء الـ14 دولة التي هبت لقمع الثورة الإشتراكية في روسيا قبل أن تردها قوى الكادحين والعمال وتهزمها وبذات العنف والقوة العسكرية والإجراءات الدموية.

    كذلك في تقديره أحوال تلك المرحلة نسى مشروع التقرير أن يذكر تآمرات المناشفة ومحاولاتهم الإنقلابية ضد لينين ثم ضد إستالين قبل وبعد الثورة وفي خضم بناء الإتحاد السوفييتي ومعاركه الدفاعية الدولية ضد القيصرية والتدخل والنازية والفاشية الدولية. ولعل وقوع مشروع التقرير في هذه الأخطاء يأتي من نسيانه إن قيمة إستالين تتمثل في ربطه بين تطور قوى الإنتاج والتغيير الجذري لعلاقاته، ومن تصور مشروع التقرير إن النضال العسكري السياسي كان يمارس في جهة الشر الإستالينية دون جهة الطيبة والخير والمحبة والسلام والحرية المضادة للشيوعية والسوفييت بقيادة تروتسكي وبعض أحباره، مما تجلى بعد (وفاة) إستالين وظهر بالإنقلاب والتآمر الكبير الذي أنتج "المؤتمر العشرين" (فبراير 1956) وعقده بعد مرحلة تصفية تدريجية لكثير من كوادر مراحل البناء والنصر، ضداً للتقاليد التنظيمية والسياسية للحزب الماركسي اللينيني! وقد تمت تلك التصفية مثلما هي الآن داخل الحزب الشيوعي السوداني تحت شعارات الإصلاح والتجديد والإنفتاح و الحرب على الإستالينية، وهي الحرب التي تمثلت مفاعيلها في ثلاث عمليات رجعية إقتصادية سياسية كبرى وهي:

    1- تفعيل النقود كمعيار ومقياس للمنافع الإجتماعية،

    2- إحياء قوى التعاملات المالية في المدينة والريف،

    3 - مواشجة شوفينيات القوى الصهيونية والقومية الروسية، مع قمع الكوادر الماركسية- اللينينية بإسم إجتثاث الإستالينية.
    مرة أخرى يمكن شرح طبيعة وأبعاد التأثيرات السلب لهذه السياسات ضد تناسق العلاقات الإقتصادية الإجتماعية بمباعدتها وفصمها تطور قوى الإنتاج عن تغيير علاقات الإنتاج، وعزله بذلك عمليات الإنتاج عن تطور عمليات الإستهلاك وتسميمها بهذا الفصم لأسس وأحوال التناسق البنيوي والظاهري للحزب الشيوعي ولإتحاد الجمهوريات الإشتراكية السوفييتية رأسياً وأفقيا وتسبيبها بهذا الإنفصام والتناقض تأزم الحزب والإتحاد السوفييتي وإحتضاره مسهلة مع الحصار الدولي محاولات إغتيال الحزب والإتحاد وتصفية وجودهما وآثاره في حركة النضال الشيوعي بكل تمثلاتها الضوئية في حركات التحرر الوطني وفي حركات التحرر الإجتماعي في العالم.
    لكن برؤية مشروع التقرير السياسي نراه يقفز على موضوعية هذه الأمور ويحيل الأمر إلى قصة بوليسية، ومجموعة من ردود الأفعال الشخصية مثل التي تقدم في هيئات وأضابير الحزب الشيوعي السوداني عن أسباب هزيمة المشروع النضالي لـ25 مايو 1969 من داخله ومن خارجه ومثل التي تقدم في هيئات وأضابير الحزب ومنشوراته عن أسباب الهزيمة الداخلية والخارجية لهبة 19 يوليو 1971 الثورية المجيدة المفعمة بدماء الجسارة والبطولة والفداء. فرغم الإختلاف البين في طبيعة وظروف الجهة المنتصرة في هذه الصراعات إلا إن التبريرات الإفرادية والشخصية تعلو بنفس الوتيرة على الملاحظات والفروض والتحليلات والتمحيصات والإستنتاجات الموضوعية فعلى ذات نسق القصص البوليسية وبطولات المغامرات المحتفية بأدوار الأفراد وذكاءهم الخاص يقول مشروع التقرير: (( ثم هبت قوى الحرس القديم المنتفعة بسلبيات النظام (النومنكلاتورا)، مستفيدة من بقاء أركان وركائز النظام دون تغيير، لإلغاء إصلاحات المؤتمر العشرين على ضعفها وهشاشتها. فكانت المحاولة الانقلابية للإطاحة بخرتشوف عام 1957، ثم كانت المحاولة الانقلابية الناجحة التي أطاحت به في اكتوبر 1964))
    فمع التحليل البوليسي اللا طبقي واللاسياسي يضيف مشروع التقرير السياسي إلى قرآئه ومتلقييه في مؤتمر الحزب ...... القادم معلومات مغرضة ومشوهة عن طبيعة الصراع في المجتمع والحزب السوفييتي آنذاك الزمان التليد للصراع الطبقي والحروب الباردة ضد الشيوعية والسوفييت.

    ومع إنسياق المشروع في إدارة معاركه بالعواطف يتحدث عن فشل الإصلاحات والتجديدات المجافية لتناسق علاقات الإنتاج وعلاقات الإستهلاك مرجعاً أسبابها إلى ما سماه بسهولة "ركائز النظام السوفييتي"! مما يدفع وبحسب منطق تسبيبه السوفييتي لأزمات تسمم وتأزم وإحتضار وإغتيال الإتحاد السوفييتي إلى سؤآل مماثل له في الطبيعة يكشف ضعف المنطق الذي خدمه التقرير في القطع بأسباب (الإنهيار)! وقوام االسؤآل هو معرفة: الكيفية التي يسبب بها مشروع التقرير حالات فشل وإنهيار الديمقراطيات الليبرالية في كثير من بلاد أفريقيا وآسيا وأمريكا االجنوبية ولمرات كثيرة؟
    وحسب منطق مشروع التقرير ووفقاً له قد تبدو طبيعة الإجابة على السؤآل السابق غريبة عليه: فالإجابة المماثلة منطقاً لإجابته على المسالة السوفييتية وموتها بسبب سوفييتيتها تبدو في صورة مماثلة لمنطقه هذا على النحو الآتي: إن فشل الديمقراطيات الليبرالية في أفريقيا وأمريكا الجنوبية وآسيا يرد إلى ركائز الديمقراطية الليبرالية (= حرية تملك رأس المال والسوق لوسائل عيش وحياة الناس)!!
    بعد هذه المقاربة والمماثلة فلأي إنسان تأمل التنافر العميق والبنيوي بين سياق الجوابين رغم وحدة منطقهما. وهو الأمر الذي يدل على خطأ هذا المنطق الشكلي الذي خدمه مشروع التقرير لإدانة وجود الإتحاد السوفييتي بل ووجود الشيوعية. فسياق إجابة مشروع التقرير على المسألة السوفييتية هي تحميل أسباب ضعفها إلى ما سماه (إنعدام الديمقراطية وغلط ركائز النظام السوفييتي) بينما في ناحية أخرى إختبارية لمدى موضوعية مثل هذا التسبيب، تقوم على السؤآل والجواب على سبب فشل الديمقراطية الليبرالية في تحقيق نظام عادل لحرية وكرامة الإنسان في بلادنا وفي العالم دون إستغلال وتهميش أو إستعمار قديم أو حديث ؟ فنجد إن سياق السؤآل والجواب -رغم وحدة بنيته ومنطقه مع سؤآل وجواب مشروع التقرير- يناقض موضوعية إجابة مشروع التقرير عن سبب تسمم السوفييت بل ويضادها ويناقضها وينفيها جملةً وتفصيلاً . أن يكون الداء هو الدواء!
    فبذات المنطق الشكلي للتسبيب وبذات السياقة الذاتية التعميمية لجواب مشروع التقرير على المسألة السوفييتية نجد ان الجواب على مسألة أو أسباب فشل "الديمقراطية الليبرالية" في بلادنا المهمشة بل وإنهيارها مرات عددا مع رخاء مجتمعاتها الإوربية والأمريكية يرجع لسبب من تطفيف وإجحاف وتبخيس التقسيم الرأسمالي الدولي لموارد ووسائل وجهود وثمرات الإنتاج العالمي والعملية التمركزية والتهميشية لنشاط الإستعمار التقليدي والإستعمار الحديث القائمة على الركيزة الأساس للنظام الديمقراطي الليبرالي في حيازة منافع الطبيعة والإجتماع البشري، الماثلة في حرية التملك رأس المال بصورة مفردة خاصة لوسائل الإنتاج الإجتماعية ولوسائط تقسيم جهود المجتمع في الإنتاج وتوزيع ثمرات هذا الجهود بين القوى الضرورية لعملية الإنتاج، والطبقة المالكة لوسائله والمسيطرة على تقاسيمه.

    وفي هذا التناقض البنيوي القائم في كينونة مشروع التقرير المضادة للشيوعية والسوفييت بإسم كيان مستقبلي (جديد) يرومه مشروع التقرير السياسي للجنة المناقشة العامة لابد لنجاح تمحيصه من الخروج من شوشرة أي إمكانية لنشوء إعتقاد زيف بأن (التجديد) يجمع بين محاسن ما يشير إليه مشروع التقرير بـشكل موجب بإسم "الإشتراكية" ومايشير إليه من عناصر موجبة في "الديمقراطية الليبرالية" وإن هذا الإنتقاد لمشروع التقرير يتجه ضد ذلك كمجرد تباين أو إختلاف معرفي، أو محاججة إثبات (= سفسطة)، أو فلسفة مثالية تدور حول عناصرها لا تريد علماً مؤثراً وتغييراً إجتماعياً! وكذلك لمنع فهم هذا التناقض بين الإنتقاد ومشروع التقرير في صورة خلافات شخصية أو حتى عده تطاولاً من كائن ضعيف مثلي على إحترام أعمال لجنة قيادية ذات كوادر عليا مجيدة التاريخ.
    لذا فإن البحث التاريخي في طبيعة وسيرورة هذا التناقض بين الإنتقاد وبين مشروع التقرير السياسي يحسم أي إمكانات لإستضغاره أو لتخديمه ضد السياق الموضوعي لتبلور النضال الشيوعي في العالم والسودان والإصرار على علاج أو تجاوز نواقصه وخساراته وهزائمه، فالدراسة الفلسفية المادية والتاريخية بكينونتها الجدلية وسياقها الإنتقادي التغييري الثوري تمحص كثير من المواضيع والحالات وتوضح ما فيها من عناصر وبنيات القوة، وما فيها من عناصر الضعف وبنياته.
    وللتقدم الجدلي الثوري من المظهر المثالي للإختلاف والتناقض حول موضوع هل (س) داء أو دواء؟ يقوم هذا السؤآل الفيصل:
    إن كانت الديمقراطية هي علاج الداء السوفييتي، فهل تكون الإشتراكية والديمقراطية الشعبية و"الطبيعة السوفييتية" لنظام الحكم الشعبي المحلي هي الجواب المنطقي لإتجاه فشل الديمقراطية محلياً وعالمياً في تحقيق إمكانات متناسقة لحرية وكرامة الإنسان؟
    وهل تمثل الإشتراكية والديمقراطية الشعبية و"الطبيعة السوفييتية" لنظام الحكم الشعبي المحلي مقدمات إجابة منطقية في النطاق السوداني والعالمي لمسألة ضرورة إتحاد المنتجين وإدارة الإنتاج والدولة بعملية تخطيط إجتماعي وطني ديمقراطي لتنظيم بلورة وتوزيع وسائل الإنتاج وجهوده وثمراته توزيعاً متناسباً مع حاجات الناس وقدراتهم وإمكاناتهم ؟

    إن الإجابة بالرفض أو الإجابة بالقبول على أي من السوآلين تعني ان كينونة مشروع التقرير السياسي الذي أعدته لجنة المناقشة العامة لمؤتمر الحزب الـ(......)القادم كينونة عدوة للشيوعية شعاراتها "تنقية الماركسية" أو "نقد الإستالينية" أو "نقض التجربة السوفييتية" [بكل تنوعاتها ومراحلها] و"إصلاح وتجديد الحزب" (= حله)، وذلك لسبب من ان الصيغة العامة التي بلورها مشروع التقرير تفتقر عدداً ونوعاً إلى الحياد الموضوعي جهة المعلومات والدراسات والنقاشات الأساسية مثلما تفتقر المنطق والتحليل والتناسق الموضوعي العام دعك من الرؤية الطبقية الجدلية الثورية الضرورة لوجود وتميز أي نضال شيوعي. وهي بهذا السياق صيغة نقد هدام لأنه لا يحدد بشكل موضوعي الأسباب الإقتصادية الإجتماعية السياسية والثقافية الموضوعية للعلل الطبقية والقومية في النطاقات المحلية والعالمية، ولا يقدم بدائل موضوعية موافقة لمنطق وجود وحركة الطبيعة وتاريخ التطور الإجتماعي وسيرورتهم بجدل تمايز كينونات ومستويات وعلاقات الإنتاج، وعناصر وكينونات ومستويات الصراع الطبقي.

    في مواصلة المشروع الذي أعدته لجنة تسيير المناقشة العامة لقضايا العصر ليكون التقرير السياسي لمؤتمر الحزب يواصل المشروع إغتياله المعنوي لركائز البناء السوفييتي ببكاء على فشل محاولات الإصلاح يفصح بعبارته عن عمق الطبيعة البرجوازية لجهازه المفاهيمي حيث يذكر مشروع تقرير إغتيال الشيوعية ووجود الحزب الشيوعي العبارات الغريبة والمفاهيم الغلط الآتية، يقول: (( كذلك ذهبت أدراج الرياح كل محاولات الإصلاح الأخرى في ظل بقاء ركائز النمط السوفيتي. وكان جوهر تلك المحاولات يرمي إلى معالجة موجات الركود الاقتصادي المصاحبة لنمط رأسمالية الدولة والمركزة الصارمة بفتح هامش ضيق جداً لاقتصاد السوق الذي يحتمه واقع تعدد الانماط الاقتصادية، وبوضع خطط قصيرة المدى تفسح مجالاً لدور المنتجين في التخطيط والإدارة والحوافز المادية في حالة زيادة الانتاجية))

    ومن ملاحظة تراتب وعبارات جُمل المشروع ودراسة طبيعة فرزه وتحليله نقاط موضوعه بإمكان للمنتقد ضمن دراسة مادية تاريخية جدلية النهج لهذه الفقرة من مشروع التقرير أن يجد في كل جملة سياسية من سطوره السالفة أكثر من خطأ في طبيعة إدراك مشروع التقرير لعدد من العناصر والمعلومات والمفاهيم الأساسية في الإقتصاد والسياسة والنضال الشيوعي، وفي طبيعة وضعها في سياق ومنطق طبيعي وتاريخي، وفي موضوعية معرفة تراتباتها وعلاقاتها، وفي الطبيعة المتناقضة لقيام المشروع بفحص وتحليل وجود وحركة عناصر موضوعه (الإصلاحي) وتغير مواقعه وإختلاف جهات تبلور هذه العناصر وحركتها، وكذلك بإمكان تبين تكاثر الأخطاء في طبيعة قيام مشروع التقرير بقرآءة التناقضات الرئيسة والثانوية في موضوع الإصلاح في الإتحاد السوفييتي، وطبيعة تعيين المشروع وتمييزه وإستخلاصه لنقاط ومواقع الحيوية ونقاط ومواقع الجمود في هذا الإتحاد وإصلاحاته التي إهتم بها المشروع، بل وبإمكان للمنتقد حين فحصه ودراسته للفقرة السابقة من مشروع التقرير تقدير كيفية الإعتبار والإستذخار بتاريخ موضوع النضال الشيوعي في روسيا وآثار الإصلاحات الإشتراكية والإصلاحات الرأسمالية فيه، وكذلك بإمكان للمنتقد تقدير كيفية تخديمه لتاريخ مشروع التقرير السياسي نفسه أي تاريخ تناقضاته والإعتبار والإستذخار به وبها في معارك الصراع الطبقي والتغيير الإجتماعي العالمية والمحلية.
    توكيداً لأهمية فحص هذه الفقرة في تقويم موضوعية مشروع التقرير ونظرته للامور الماضية والأمور القادمة مستقبلاً لابد من تمحيص مفرد وجمعي لكل جملة سياسية من الفقرة السابقة بقرآءة طبيعة الهيكل المفاهيمي لتبلورها وتكوينها وطبيعة موقعها وآثارها في سياق مشروع التقرير، وذلك بتحديد عناصرها الشكلية والموضوعية في هذا التمحيص وفحص ومدى تناسقها مع بعضها ومع غيرها من الفقرات ومع السياق العام للتقرير ومع وضعه في الصراعات داخل الحزب والوطن وفي المستوى العالمي الأممي والدولي. وفقاَ لسياق محاولة الإجابة على الأسئلة الآتية:

    1- هل هناك موجات ركود مصاحبة لرأسمالية الدولة والمركزة الصارمة [لتنظيم الإنتاج ]؟

    محاولة الجواب على هذا السؤآل:
    أ- تختلف طبيعة "رأسمالية الدولة" في ناحية ذاتية في كل دولة من حيث العدد ومن حيث النوع، كما تختلف بصورة موضوعية حسب الطبيعة الإقتصادية السياسية لكل دولة توجد فيها هذا النوع من التنظيم الإقتصادي حيث تختلف طبيعة رأسمالية الدولة الإشتراكية في عددها ونوعها وعلاقاتها وتفاعلاتها وآثارها عن رأسمالية الدولة الرأسمالية المركزية وعن رأسمالية الدولة الرأسمالية التابعة.

    ب- في الدول الإشتراكية ذات التخطيط الإستراتيجي العام تقل إمكانات وجود إختلافات وفروق أساسية بين عوامل الإنتاج وحاجات الإستهلاك، حيث يسود التناظم في الإقتصادات الإشتراكية بين جهتي الإنتاج والإستهلاك بفعل التخطيط الإستراتيجي والخطط المتوسطة والأولية التي تتبلور بها الخطة الإستراتيجية وتتحقق .
    وبهذا التخطيط العام لموارد العيش والحياة في المجتمعات الإشتراكية والقيادة المركزية المنسقة والموحدة لعناصره وتفصيلاته والتناظم المضبوط في طول البلاد وعرضها لكياناته وتنسيقه بين الحاجات والقدرات الإجتماعية في ظروف الإدارة الإجتماعية لموارد ومنافع الإقتصاد الإشتراكي تضمحل أسس ومظاهر التفاوتات السلبية في الإقتصادات النقودية الرأسمالية التي تحيا وتعيش بها قواها الطبقية الراسمالية المسيطرة على والمسيرة لموارد ووسائل وجهود وثمرات إنتاج المجتمع لضرورات حياته وعيشه. حيث تنشأ بطبيعة وتناقضات هذه السيطرة وتتفاقم كثير من التمايزات والتفاوتات بين حاجات وقدرات الإنتاج وحاجات وقدرات الإستهلاك.

    ونتيجة لتكون وتزايد هذه التمايزات والتفاوتات تحدث حالات الركود والكساد في المجتمعات الرأسمالية بكل آثارها الإجتماعية والدولية وتتفاقم بضعف طلب الوحدات والناس للبضائع والسلع المعروضة لهم، وهو ضعف بنيوي موصول إقتصاداته الرأسمالية بأسباب مالية مختلفة المظاهر تقود إلى تدهور إمكانات تجديد هذا الطلب أو ذاك أو تعجز عن منع تدهور وتيرته الزمانية أو مقاديره وذلك بفعل حالة تباين بين عملية وهدف زيادة الربح المالي وهو الهدف الإستراتيجي لكل نشاط رأسمالي وتناقض هذا الهدف مع نفسه وآثاره الماثلة في تسبيبه زيادة تكاليف الإنتاج نفسه برفع أسعار مكوناته المادية (الطاقة والمواد والآلات والإدارة) وصولاً لذاك الربح ومن ثم إضعاف هذا الربح والرفع والغلاء لقيمة وقدرة القوى الشرائية لجمهور المنتجين والمستهلكين حائزي النقود وسيلة الإستهلاك مما هو موصول بتخفيض عددهم أو ثبيت عوائدهم المالية، ومن ثم تضييق أو قبض فرص تنوع او زيادة إستهلاكهم خاصة مع تسبيب المنافسة الفردية الرأسمالية العشواء لزيادة شديدة في تنوع عرض عدد البضائع والسلع المستهلكات وإلتهاءها بالتكاثر في إنتاجها وعرضها لدرجة فيض الإنتاج وزيادته على قدرة الإستهلاك أو بصورة أدق زيادة هذا الإنتاج وفيضه بالوسائل والآثار التي يحيا بها وزيادته السرطانية على الإمكانات الملائمة لتصريفه في وقت ملائم لتجديد قدرته الإنتاجية وفق المستوى الربحي المنشود. كذلك تزيد موجات الفيوض والركود في الإقتصادات الرأسمالية بأثر تجمع جهود وقدرات مؤسسات الإنتاج الرأسمالية وميل حاجات ربحها إلى السيطرة (الجماعية) على تطور مستويي الإنتاج والإستهلاك في قطاع معين، مما يؤثر سلباً بذات الأسلوب الفردقبضي والتبخيسي على القدرات والإمكانات الفعلية لجمهور المستهلكين في تنويع خياراتهم أو في حتى زيادة طلبهم القديم، مما يعطل تطور دورة الأرباح والإستثمارات في قطاع إقتصادي أو جزء معين من الجسد الرأسمالي ويقلل إمكانات التنظيم الرأسمالي لموارد العيش والحياة على تجديد وجوده و قدراته وتحقيق أهدافه الربحبة بنفس الأسلوب والإمكانات المادية والبيئية في علاقة تناحرية متفاقمة بآثارها المميتة على جميع وجوه الحياة والبيئة وهو ما يدفع بجدله الطبقي والوطني المادي والثقافي طبيعة تطور المجتمعات البشرية من حالة نقص الضرورات والتكالب المفرد عليها إلى حال أنجع للحياة والبيئة بإشتراك االناس كافة بشكل منظوم حسب حاجاتهم قدراتهم في تملك وسائل إنتاج هذه الضرورات وفي تنظيم مخطط متناسق لجهودهم في الإنتاج وفي توزيع ثمراته بينهم، إشتراكية علمية متقدمة بتنظيم طلائعها وأفكارها ودراساتها وخططها وممارساتها في إرساء إمكانات متناسقة لحرية وكرامة الإنسان تحارب بإستمرار أسس وبنيات ومظاهر الإستغلال والتهميش والإستعمار.

    من هذا التمحيص لبعض خصائص الإقتصادات الرأسمالية في مسآئل الفيض في الإنتاج والركود في التصريف يأتي خطأ سطور مشروع التقرير في تصورها وتصوره وجود "موجات ركود" في الإقتصادات الإشتراكية ذات المركزية الصارمة في تنظيم الإنتاج:
    فبحال نقيض لتصور مشروع التقرير كان وضع العرض والطلب في الإقتصاد الإشتراكي السوفييتي حتى إنعقاد المؤتمر العشرين (1956) وضعاً عادلاً معتدلاً موزوناً حسب طبيعة الظروف المحلية والدولية لإدارة الثورة والدولة بكل صراعاتها وحروبها وحصاراتها. وقد كان ذلك ميزان العدل والقسطاس الإجتماعي نابضاً بدقتين متداغمتين هما: 1- دقة ميزان عوامل وجهود الإنتاج...، و2- دقة ميزانه لعدد ونوع الحاجات الضرورة لحياة المجتمع وسلامة دولته في ظروف الحرب الداخلية والإمبريالية ضد كل من تنظيم وممارسات الثورة الإشتراكية والنضالات الشيبوعية وضد عناصر وكتل الحياة الإشتراكية السوفييتية.

    في خضم تلك الصراعات الضارية كانت حركة الإقتصاد الإشتراكي السوفييتية وتقدمه بقوى مجتمعه من حالة النقص والتكالب والإستغلال والتهميش والإستعمار الداخلي والخارجي الى حال الكفاية النسبية في إنتاج الضرورات وشيئ من الكمالات والعدل في توزيعها الزماني والإقتصادي الإجتماعي حسب الحاجة والقدرة، فبهذا التقدم كان تميز الإقتصاد الإشتراكي القائم آنذاك بنجاح ركائزه وآليات إنتاجه في تكرار معدلات رقيه وتطوره الذاتي والموضوعي، بل وفي إنتظام هذا التكرار وتجدده لحوالى سبعة وعشرين سنة (1927- 1954) كانت مع قدر من الإخفاقات والخسائر الصغيرة والكبيرة هي سنوات نجاح مذهل في التعمير والبناء والدفاع وتحقيق إنتصارات مادية وثقافية توالت بإنتظام بطبيعة التنظيم الإجتماعي المخطط لتنظيم وإدارة أصول وموارد وقدرات ذلك المجتمع السوفييتي وإقتصاده لسد حاجات الناس الأساسية وسد حاجات تطور المجتمع مستقبلاً. حيث كان تشكل ذلك الإقتصاد وسيروة أدآءه وموافاته وتجددها أقرب إلى صفة "النظام" وحتى لصفة "الرتابة" في تكرار إنتظامها. حيث تواتر ذلك الوضع التنموي المتوازن بسبب من إتساق وإنتظام عمل عناصره بالإجتماع والتجميع الحسن لعناصره وأهدافه ووسائله، وإنسجامها الزماني والموضوعي بتركيبة ورؤية وقيادة ممارسة حزبه الطليعي في التقدم إلى تحقيق أصول وأهداف التنظيم الإشتراكي لوسائل وموارد العيش والحياة، وبتوالي توسع إمكانات ذلك الإقتصاد الإشتراكي الوليد المدار بطريقة ديمقراطية شعبية (= سوفييتية) فتحت قدراته ومهماته وآفاقه، بلا تضخم فيه و بلا ركود، حتى أغلقته عن التفتح وردته عن تقدمه، نتائج عملية إستمرار قوى المناشفة داخله وخارجه في مواشجة الإتجاهات الرأسمالية العالمية لتنظيم إقتصادات كل دولة من دول العالم في سياق تمركز رأسمالي عالمي يقوم بتنظيم بنيوي مفرد لموارد العالم وفق مبادئي حرية رأس المال في تملك موارد عيش وحياة المجتمعات، وهي الفكرة الثورية القديمة ضد نظم الإقطاع والطبيعة العنصرية لملكياتها وإقتصاداتها [المعادية لليهود]. وقد كان إستمرار من سميوا فيما بعد بالمناشفة، في التمسك بوصول العالم كله افراداً ومجتمعات إلى حالة الحداثة كأساس للإنتقال من تلك الحالة بالتراكم في عناصرها وتحولاتها إلى حال "الإنسانية" الراقية بحرياتها وإخآءها ومساواتها! فكان إستمرار محاولات مواشجة الرأسمالية في الإتحاد السوفييتي منذ ما قبل تأسيسه، بإعتبار إن هذا اللون من التنظيم التقدمي في تاريخ تطور الحضارة البشرية أفضل درجة وأحسن رقياً في أعداده وأنواع نشاطه من حالة تبعثر وتبدد الموارد بالنظام الإقطاعي، ومن حالة إنفراد مجتمع ما بتسيير موارده بصورة إدارية أو (أنانية) مستقلة عن المستوى العام في العالم لتطور حيازة وتبادل المنافع!!

    فبهذا الموقف التقدمي الحداثي المرتبط فكرة بظروف تقدم علوم الطبيعة والفيزياء والمستوى السائد لتعريف "المادة" ولفلسفة "المظهر والجوهر" و"علاقة السبب والنتيجة"، والمستوى الطبقي القومي والثقافي السياسي لـ"المسألة اليهودية" بكل بؤساءها المهمشين وأثرياءها المتنفذين سواء في أوربا الشرقية الروسية والعثمانية أو في أوربا الغربية واقعين أو محركين لشقي الرحى، نشأ جانب من الإتجاه التقدمي في الحركات الصوفية والعمرانية والنقابية القديمة التي تشظيت بفعل التطور الرأسمالي ونشأت منها كثير من الأفكار الحداثية والقومية والتنظيمات الإشتراكية الديمقراطية، ومن هذا التطور الجدلي المادي والتاريخي تبلور الرأي الذي يتصور إن وجود البناء الوطني هو مجرد نتيجةً لنضال وجهد وبناء دولي أعم، بمنطق "وجود الجزء من وجود الكل" مما جعل تيار هذا الرأي منذ ما قبل قيام الثورة الإشتراكية في تناقض وصدام مع حال الإختلاف والعزوف والنقد ثم (التجديد) أوالإنقسام اللينيني والإستاليني داخل كيـــان وهيئات "حزب العمال الإشتراكي الديمقراطي الروسي" الذي كانت تنبض فيه الحداثة الرأسمالية واليهودية السياسية ضد الإقطاع والعنصرية.

    فضد هذه "النزعة الكوزمبوليتانية" العولمية، وضد هذه "الخطوة الواحدة إلى الأمام وخطوتان إلى الخلف"، التقدمرجعية، إنصرف نشاط لينين وإستالين بغالبية مناصريهم: البلشفيك في هيئة تحرير البرافدا، وفي طلائع شعوب الشرق خروجاً من ذلك الخلاف والتناقض المبدد للجهود إلى تكوين حزب من نوع جديد بسماته الأممية والطبقية العمالية والثورية، مما حتمه إلحاح الظروف الطبقية البائسة لغالبية العمال والفلاحين الروس حيث تنبض الأرثذودكسية السياسية الشعبية بكل نيهاليستياتها والظروف الطبقية والثقافية البائسة لجموع كادحي قوميات الشرق حيث تنبض مصالح قوميات القوقاز والنفط والإسلام السياسي في ثوريته ضد القيصرية.

    ومن ضفر هذه التشكيلة الثورية الجديدة خرج لينين من حالة المراوحة الإشتراكية الديمقراطية بكل إصلاحاتها الديمقراطية التي تبدل الإقطاع بالرأسمالية، فجاء تكوين الحزب الجديد "حزب العمال الإشتراكي الديمقراطي الثوري" (الشيوعي) بلورة لنضالات تاريخية وطوراً أعلى لكثير من الكتابات والكشوف الجديدة في علوم الطبيعة والمادة ووحدة بنيتها وتعدد صور تمثلها وتحولها وفق قوانين عامة مما إتصل بتقدم الثقافة العملية الثورية والفهم اللينيني الجديد لـ"بناء الإشتراكية في كل بلد كضرورة لبناءها وقيامها في العالم" بمنطق بسيط : " ان الكل هو مجموعة أجزاء".

    ولكن رغم نجاح قوى الحزب اللينيني الجديد في إطلاق الثورة الإشتراكية فأن جهود المناشفة ونضالاتهم ضد الشيوعية لم تتوقف وقد كان إرتباط أصول من عرفوا بإسم المنشفيك بالتصور الكلياني العالمي لنمو وسمو الحضارة البشرية إلى مرحلة الإنسانية قد بدأ ظهوره كسياق في التفكير السياسي وتعاظم تاثيره منذ ظروف مرحلة صياغة "برنامج غوتا" (الإشتراكي الديمقراطي) وشروعه في تصحيح وضبط نمو النظام الحديث الذي ولدته الإنقلابات البرجوازية في الثورات الشعبية الإنجليزية والأمريكية والفرنسية، وقد تابع تنمية هذا النسق من التصورات الضبطية كل من كاوتسكي وبيلخانوف وتروتسكي وأتباعهم وذلك بصور مضادة بالتالي والتوالي لوجود عدد من الضرورات الموضوعية في التاريخ والحياة ومنها على خط تابع متصل رفضهم موضوعية وضرورة وجود تنظيم شيوعي، ثم رفضهم ضرورة قيام ثورة إشتراكية، ثم ضرورة بناء وتنظيم مجتمع إشتراكي، وكذا رفضهم ضرورة مضاعفة وسائل تقدم هذا المجتمع، ثم رفضهم ضرورة إنتظام هذا التقدم وتميزه على النطاق الدولي والعالمي، فعدائهم لضرورة الدفاع الديبلوماسي والعسكري والأممي عنه في مواجهة أحلاف وإنتهاكات حروب الإقطاعيين والمرابين والكولاك وطغاة الإقطاع والقبائل والقوميات المهمشة كما تفاقم رفضهم لمواجهة حروب العدوان الرأسمالي لألمانيا النازية بالدعم الأمريكي والرأسمالي العالمي الأول لها، مع رفضهم ضرورة الإسراع في تنمية مهام البناء وتعزيز النصر الإشتراكي في المستويات المحلية والعالمية!

    ولم يكن رفض المناشفة وأحبارهم لإجراءات ولادة وتقدم الشيوعية ولبناء الإتحاد السوفييتي مجرد عناد أو غيرة ومغايرة شخصية ضد نجاحات ماركس وإنجلز ولينين وإستالين بل كان إتصال ونمو هذا الرفض شقاً من نضال تقدمي طويل قديم فات ميقاته حده الموضوعي:
    فقد إستمر نضال أصول المنشفيك وفروعهم لأجل التطور الحديث الحر لإقتصادات دول العالم كوجه طليق للحداثة الإجتماعية لحمته تراكمات فردية للتحول في قدرات وحاجات كل شخص وكل مجتمع ودولة سمواً إلى حين يظهر فيه بشكل سلس تحول ووصول أفراد ومجتمعات العالم بـ(صورة طبيعية) إلى مرحلة ما بعد النقود مع ظهور ووضوح النهاية (الطبيعية) لدور مفاهيم وعمليات الملكية الخاصة في ضبط وتنظيم الإنتاج الإجتماعي، وذلك ببلوغ إقتصادات الأفراد والعالم مرحلة يتحقق فيها إستهلاك (قوى السوق) وتنظيماته ونشاطاته لكافة الإمكانات والقدرات المالية والسياسية المؤثرة لقوى الإقطاع وملكياته في أوربا بينما تدفع هذه التحولات التقدمية في المركز بتطور مجتمعات العالم الآسيوية والأفريقية بكل مواردها النفطية والذهبية وغيرها ناقلة إياها من ضفة التخلف إلى ضفة الحداثة [الرأسمالية] إعتماداً على تقدم التقنيات الإنتاجية وإنتشارها وسيطرتها وهيمنتها على عملية إنتاج وسائل العيش والحياة والتحور (الطبيعي) للنظم الإجتماعية من حال التراتب الإستغلالي إلى حال الإشتراكية المعزز لإمكانات الحرية والإخاء والمساواة والمتعزز بهما تطوراً طبيعياً يبدأ بحل التناقضات البسيطة والأولية ليصفي مسبقاً وجود التناقضات الأكبر دون صراعات أو نزاعات وحروب!!

    ولتجنب الغرق في رصد وتحليل الطبيعة السياسية الطبقية لجمع الحزب الشيوعي بكل لينينيته لعناصر هذا التيار نسرع إلى إختبار موضوعية هذه النزعة المنشفية المذكرة بعناوين وشعارات عجيبة التحقق والفهم مثل : "واقعية بلا ضفاف"!؟ و"إشتراكية بلا ضفاف"! و"رأسمالية بلا إستغلال" !؟ و"ذاكرة بلا أسماء"!؟ و"عمل بلا تنظيم"!؟ و"تنظيم بدون أسبقيات فكرية أو عناصر طليعية"!؟ وأيضاً "خطط دون جهاز تخطيط"!؟ و"سياسة بلا أفكار مسبقة ناظمة أو إرادة موحدة، أو ممارسة مشتركة متناسقة وموحدة"!؟ و حتى "تغيير ثوري إجتماعي دون طبقة عاملة"!؟ و"تنمية بلا هدم"!؟ وحرية لـ(ـكل) الطبقات"!؟ و"ديمقراطية شعبية بدون ديكتاتورية بروليتاريا"!؟ و"تقدم إجتماعي متناسق يستغنى عن التأميم والتخطيط والضبط الحكومي والديمقراطية الشعبية"!؟ وصولاً من هذه العجائب إلى القول بـ"إشتراكية تجدد وتنمي قوى السوق"!؟ وغير ذلك من تهويمات وإشراقات الهندسة الفراغية للأذهان والعقول الخربة، التي تجعل من الصعب تحديد أي أبعاد وعناصر وعلاقات موضوعية للتغيير الإجتماعي من مرحلة الإستغلال إلى مرحلة الحرية والإخاء والمساواة!

    ويفرض هذا الغموض ضرورة تمحيص هذه الفكرة ولو بسؤآل تحديدي متواضع وبسيط عن ما تقصده أو تعنيه هذه الحالة التقدمية المضادة للشيوعية بإصطلاح "الحداثة"؟ وهو سؤآل ينشأ معه سؤال آخر عن قيمة سكوت المنشفية أو أهل الحداثة التقدميين على طبيعة أو واحدية أسلوب تجاوزها أو تجاوزهم أزمات بنيتها الرأسمالية؟ حيث يلتبس أمر الحداثة كحال إنتقال حضاري من آخر مراحل الحيوانية في البشر إلى (أولى) مراحل الإنسانية، بل ويزيد غموض هذه الحداثة مع تنوع سياق عدد ونوع التفاوتات والصراعات الإجتماعية والثقافية في مجتمعات العالم بكل قومياته وثقافاته وأديانه، ومع زيادة تباين المصالح فيه بإختلاف التمثلات الخصوصية والعمومية لحضاراته الإنتاجية بكل مدينياتها وثقافاتها وبمختلف اساليب تحقيق المجتمع المعني لإنتاج إمكانات عيشه وحياته، وزيادة هذا التباين بإتساع وبإجتماع مدى هذا التنوع بتباين مستويات وعلاقات الإنتاج وظرفه المحلية والدولية؟، وكذلك بإختلاف وتباين وصراع وتناقض كثير من أسس وتفاصيل مجتمعاته وطبقاته وثقافاته بعضها إزاء بعض؟ وهو أمر -مع إزدحامه- يتصل في جانب رشيق حاد منه برصد ودراسة تاريخ تطور التنظيرات الليبرالية لا منذ بدايتها الفلسفية بل في مرحلة تبلورها في الفكر الهيجلي ثم تشظيه، أي تاريخ نهاية الفلسفة التقليدية، دراسة نقدية توضح بؤس الفلسفة وموتها إن خرجت على سياقات الطبيعة والتاريخ والمجتمع والعلوم الطبيعية والإجتماعية، وسكتت عن التصريح بأسباب إستغلال وتهميش حرية وكرامة مجتمعات البشر أو قعدت عن تغيير الأوضاع المولدة لعملية إستلاب وعيهم وإغتراب وجودهم عن طبيعة نشاطهم وإنتاجهم وسائل عيشهم وحياتهم، مما يجعل قيم حياتهم حقاً خاصاً لبعض قليل منهم يتكاثر به دون أكثرية مجتمعاتهم.

    إن عملية رصد أو دراسة تبلور وتطور وإنفجار الفكر المثالي إنفجاراً كونياً خيراً دراسةً ثرة قد تتعلق شكلاً بالأسلوب البرجوازي للفلسفة ولتاريخ أو علم الفلسفة والتمظهر اللاموضوعي لعناصره حسب تسلسل زمني يتابع ظهور شخصياته حيث يختلط بهذا المعيار الزماني العمل المتأخر فكراً لواحد من المنظرين والفلاسفة بالعمل المتقدم فكراً في عدد ونوع عناصره وتحليلاته ونتائجه، ويحدث ذلك لمجرد سبقه الزماني! وبذات الأسلوب البرجوازي لأخذ تاريخ الفلسفة كعملية تزمين أعمال فإن المعايير تتنوع زيادة وقلة وقبضاً وبسطاً حسب هوى المتكلم أو المؤرخ في هلام وخلب ثقافي قد يسر بعض الناظرين لا ضابط فيه ولارابط، قصير ومتباعد في نبضه وفي تغييراته، أقرب ما يكون لمتعة ذهنية مجردة يغني فيها كل فيلسوف على ليلاه أو لياليه الفكرية، يراودها ويلثمها ويطارحها كيفما يرى وكيفما تستجيب له، دون نابض موضوعي لهذه العلاقة بينهما أو سياق ناظم لتطورها وبهذا السياق نجد شبه هذه (الفلسفة) في فلسفة لجنة تسيير "المناقشة العامة" في نظرها وتسييرها الفكري لمشروع التقرير السياسي حيث خرجت من السياق المادي الجدلي للتاريخ الإجتماعي والإقتصاد السياسي للتطور العالمي والوطني بهدف تجديد المؤتمر لقوى ونضالات الحزب الشيوعي وإنتقلت من ذلك بمناقشة ناقصة ورؤية غبشاء إلى حالة سياسية بشعة ومؤسفة من الإحباط الطبقي والضياع الفكري كللها قيام مشروع التقرير بمحاولة جادة لتصفية الموضوعية التاريخية لوجود ونشاط النضال الشيوعي نابذاً ضرورة وجوده ووجود التاريخ الأساس لتنظيره وممارسته.

    إن وضع مشروع التقرير بهذه الطريقة في الحساب السياسي يمثل عثرة سير وإلتواء حركة لكن بالإمكان عدل خطوها بإحسان بدايتها وتصحيح سيرها بإنتباه وفحص وتمحيص وضع بعض الجوانب السودانية والعالمية من تاريخ وجدل وجود مظاهر وموضوعات نشوء ووجود الأفكار العامة والإجتماعية، حيث تتضح طبيعة التقدم العددي والنوعي في هذه الأفكار والإتجاه العام لتفاعلاتها وحركتها، وتعذر رجعة التفكير الإجتماعي من مصاف تقدمه إلى وضع إجتماعي متخلف لتنظيم إنتاج ضرورات العيش والحياة ثبت فشله في تحقيق إمكانات مادية وثقافية متناسقة لتحقيق حرية وكرامة مجتمعات الإنسان في كل دول العالم، ومن ذلك حالة الفشل المقيم للتنظيم الرأسمالي بكل تنظيراته وديكتاتورياته الليبرالية والبيروقراطية في تحقيق هذه الحرية والكرامة في مراكزه الإستعمارية أو في نطاقات وهوامش إستغلاله حيث تشكل وقائع الظلم والأزمة البنيوية لنظم حرية السوق حقيقة عارية تماثل بفكاهتها الإنتقادية الحزينة فكاهة قصة "الإمبراطور العاري" ذلك الذي خرج مزهواً للناس يتصور إنه يرتدي ثوباً سماوياً ليس له مثيل في الأرض بين الناس، حسبما أوهمه خاطته نتيجة رعبهم من غضبه عليهم حال تعذُر إجابة طلبه منهم صناعة ثوب بلا مثيل، فما إن خرج للناس عارياً بهذا الثوب حتى تصوروه قد جن ففقد الإمبراطور بهذا الإفراط هيبته بين الناس وحكمه، كذلك فإن رعاية الليبرالية لإستلاب الوعي بعرى الرأسمالية، لاتتطلب أكثر مما قام به مشروع التقرير السياسي إذ خرج للناس عارياً وهو يظن إنه يرتدي ثوباً ماركسياً نقياً شفافاً.

    لقد كانت ظروف العيش والحياة والأفكار الموضوعية المتصلة بتقدم العقلانية والحرية والكرامة في مجتمعات البشر هي البيئة العامة لتطورات الصراع الطبقي الإجتماعي السياسي على تمايز وتعدد أشكاله لحالات عائلية ودينية وقومية، ترتبط عصبياتها بمفاعيل تبلور الملكية الخاصة للأدوات والوسائل الإجتماعية للإنتاج، وذلك منذ إنفطام البشر عن بدائية وبهيمية وضعهم في الطبيعة وتمايز ذهنهم عن مخهم ويدهم، وتمايز عقلهم عن ذهنهم، وحتى تمايز وعيهم بأوليات وسيرورات حياتهم عن العقل، مما يتصل في تبلوره وتكونه بالتمايز القديم لوجود الكينونات والترسبات الخيرة والذهبية لفيوض وجود العقل في العالم منذ أوآئل الحضارة السودانية النوبية القديمة ومواشجتها عناصر وفهوم الإرتباط والتمايز بين العناصر والمجالات الحيوية والرئيسة في الطبيعة الخام بإنتظاماتها وبجدليات الفلك الكون والشمس والكواكب والأرض، وجدل العناصر والتمثلات الحيوية في الطبيعة الإجتماعية والأوضاع المجتمعية للغرس والضرع والولادة والحيازة والتنظيم والحكم والتجدد والخلود، مما وجدت بعض مفرداته وتكثفاته في المدينيات والثقافات التي نشأت زماناً ومناطقاً بعد مدينية وثقافة حضارة "خيم" (= السواد والخصب والفيض) النوبية القديمة ومثلما تبلورت بعدها وفي ذات النطاق الحضاري الإستعبادي ذات الظروف والتناقضات والنظرات والصراعات والقيم والافكار تفتحت آثارها في كل من قندر وحمير ومصر وسومر وبابئيل وأور وبيتئيل أو أورشليم، وآشور وكريت واليونان وفي الهند والصين وكما في شعاب نقادة وتئبيث (طيبة) وحران والحيرة ومكة وأصفهان وبغداد وصقلية وقبرص وقرطبة وقسطنطينبوليس وجنوة والبندقية وفلورنسا.

    ففي كل ناحية من هذه المناطق والظروف التاريخية لطبيعة العيش والحياة فيها وتنظيم حيازة المنافع فيها كان هناك تبلور وتطور ونشاط للقوى العمرانية والصوفية والمندائية والحنيفية واليهودية والمسيحية والإسلامية التي بلورت كثير من القيم الضابطة لمعاملات ذلك التطور الضاري. ومن تكثف حاجات الناس وميلهم إلى الوحدة الإجتماعية والسياسية بعد ألفيات سنين من التكالب والصراعات البدوية والحضربة فجاء تواشج الحضارة والتوحيد ونشاط طوائف البناء والعمل الحرفي والتنوع والتكاثر العام لإنتاجهم ولعدد ونوع حاجاتهم وطلبهم لفوائد سدها في مجالات الهندسة والمعادن والفلك والخيمياء والموازين والميول وإنجازهم فيها تقدمات فكرية وفلسفية وعملية وعلومية إجتماعية ورياضية وطبية وزراعية ومعدنية وجغرافية وتاريخية وآداب متنوعة تجسدت كعروة وثقى حيوية للحركة الثورية آنذاك في بعض جماعات الإسماعيلية والفدائيين (الحشاشين) وفي مدرستهم الرفاقية العظمى في أخوة الصفا وعقدهم فيها أياصر الفلسفة والعلوم بحركة قوى ومصالح وجهود فئات العمل في مختلف المجتمعات بتنوع وإتساق كانت له ككل تنظيم إجتماعي "مركزيته الديمقراطية " االخاصة ناقلين وضع مجتمعات البشر الأفريقية والآسيوية من حالة قرى حضرية لتجمعات البداوة إلى حال حديث للمدينية ، أخذ فيه (إصطلاح) "الخاصة" و(إصطلاح) "العامة"، معاني طبقية محددة، وصل إرتقائها إلى حد الميز والتفريق بين كل من "الثراء" و"الجاه"، وبين كل من "الحكومة" و"الدولة" وبين كل من "النظام السياسي العام" و"الدين"، وبين "الكانزين" و"المستضعفين".
    والأمر الأهم من ذلك في هذه المناقشة الإنتقادية لمشروع التقرير هو وصول جهود تلك الجماعات في مجتمعاتها إلى درجة تحول وإنتقال منظوم من حالة السخط االطبقي القبيلي، القحطاني والشعوبي (الموالي) في قومياته والشيعي السمة وحالة الإحتجاجات الفطيرة فيه على النزوع الإستبدادي (العروبي والتركي- السني) في تلك المناطق المتداخلة وإنتقالهم منه إلى رحاب تكوين جماعات تغيير بل وحركات تحرر منظومة بسمات قومية وطبقية وفكرية متداخلة أسست تفاعلاتها ثورات ودول "الزنج" و"القرامطة" و"الدول الفاطمية" مسهمة في تبلور حركة الفدائيين "الحشاشين" (الإرهابية) التي أخذت لنفسها حق إعدام كثير من قادة الصليبيين وقادة الإستبداد المحلي.

    وقد واشجت هذه التطورات في العالم السوداني الممتد من تخوم الصين إلى تخوم فرنسا ومن تخوم روسيا إلى سواحل أفريقيا الشرقية والغربية والجنوبية تبلور أزمة الإقتصادات الأوربية وإتجاهها بقوانين رد الفعل والحاجة إلى التحرر من الفقر والتكالب ومن المهانة الثقافية إلى الإندفاع في شن الحروب الصليبية وزيادة التداخل مع العالم الجنوبي المتقدم، مما شكل في داخل المجتمعات الأوربية حركات صوفية وعمرانية متقدمة كانت أصلاً في تنظيم إجتماع وحدات سكانها، وفي تقدم إنتاجهم وإقتصاداتها، ومن ثم في كسر حدة إقطاعاتها وتحرك مجتمعاتها بقوة بعد تطور الإنتاج والكشوف والعلوم والفلسفة والتعاملات والثقافة وتحول محاور ونطاقات عيشها وحياتها من المحلية إلى العالمية مُقلعة مُنطلقة بطول جناحي الإنتاج والتوزيع في أفقي الحداثة الجدليين: الإستعماري منهما والتحرري. .

    ومن تلك الحال السودانية التي بدأت تبلور التطور الحضاري والثقافي الذي يخفت فيه دور الأفراد والقادة تواشج تبلور ووجود القوى والمصالح والتنظيمات بتشكلات حديثة في أوربا متصلاً عبر البحر الابيض المتوسط وحدود المناطق العثمانية والأندلسية، بتبلور قوى ومهام النهضة الأوربية التي كان نموها وتفتحها متصلاً في صورة موضوعية بجدل تطور قوى ومهام التنظيمات الصوفية والعمرانية (الماسونية) بمختلف أشكالها وبتنوع وتكثف نشاطاتها في إطار تاريخ حافل بتفاوت الملكيات والحيازات والأعمال وبزيادة تناقض المصالح الطبقية الإقطاعية والتراكمات الرأسمالية الوليدة داخلياً وعالمياً مما نمى جدله بتطور إمكانات الإنتاج والتعامل، وزيادة عدد وتنوع وتقدير الأفراد والمجتمعات للقيم والمصالح المادية والثقافية للتملك النقودي للمنافع وإبتعادهم المتفاوت عن مقومات التملك الإقطاعي لموارد العيش والحياة وإقترابهم إلى نمط تملك فردي مالي للمنافع (أكثر إجتماعية) تمثل بسياقات المراكمة الرأسمالية .

    وقد تطورت هذه الحداثة الإجتماعية لحدود إشتراكية أولية بداية من مسآئل التملك الرأسمالي الوليدة وإتصالها بقضايا حريات وحقوق تموقع الأعمال الحرفية والتجارية وفتح وبداية نشاطها وختامه وطبيعة نشاط أصحابها في العمل، وفي نقل البضائع، وفي تحديد أو زيادة الاسعار والأجور، وفي مقادير دفع طلبات الضرائب ومراسيم الدفع الملكية لإنجاز حرب أو عمل ما، وفي حريتهم في نقاش مواقيتها ومقاديرها وفوائدها وطبيعة صرفها...إلخ مناقشة عامة مصونة من ضغوط الدين والدولة والإقطاع، ومدى إمكان تنظيمهم لجماعات إرتفاقية.معاشية أو مهنية أو علمية أو سياسية وتحديدهم المستقل لأبعاد وجودها ونشاطها.

    فمن هذه المسآئل الثقافية لتنظيم أساليب العيش والحياة زادت وتفاقمت كثرة من الإختلافات والتناقضات المتصلة بإدراك ووجود وتطورت فهوم الحياة الإقتصادية-السياسية وحساب مدى إجتماعيتها، مما صعب التحقق من قيمها وبرامجها وتنمية طبيعة وجودها وحياتها دون كسر أقانيم الحياة المألوفة - في ذلك الزمان الإنتقالي من الإقطاع- بتلك الأوضاع والأفكار القائمة على فهوم مثالية لتراتب وجود عناصر وحياة الإنسان كمفرد بمنطق سكوني وخضوعي ينحو إلى فهوم عنصرية للتراتب الإجتماعي وإلى تغذية دائرية لروح القطيع والإعلاء والسيامة العنصرية للنظام الإقطاعي في أوربا المسيحية-اليهودية مما إحتدمت تناقضاته إلى درجة الثورات والإنقلابات الليبرالية الدموية العنيفة في هولاند وشمال ألمانيا ثم إنجلترا فأمريكا وصولاً إلى الثورة الفرنسية وبإنقلاباتها وحروبها النابليونية حيث إنتصر رأس المال نصراً كبيراً في الفوز بحرية تملكه المفرد للوسائل الإجتماعية للعيش والحياة داخل أوربا وخارجها معمداً بالدم بنوكه وحملاته وشركاته الإستعمارية التي قهرت العالم، ولم تزل.

    من جملة جدل هذه التناقضات والصراعات نرى التواشج بين تبلور التطور الرأسمالي و قيم الإستنارة الإنسانية، التي كانت ضرورة ثقافية لإقناع وإقرار الأفراد والجماعات بحرية وكرامة النشاط الرأسمالي مما أدى بعد تلك المرحلة الدموية إلى تبلور جديد في كينونات الفلسفة المثالية -رغم كل دورانها حول عناصر ذاتها- حيث تحولت تلك الفلسفة المعتنية بالتفكير في طرق التفكير وإنتقلت بشكل نسبي من ذلك المدار الذاتي للتفكير إلى مدار إجتماعي لتقويم أصول ومعاني حرية الإنسان وعلاقه طبائعه الإجتماعية بالطبيعة الأم، وأسباب ومعايير وقيم شقاءه أو سعادته، وطرق توصله أو تحقيقه هذه السعادة زهداً وبساطة أو تكاثراً وصناعة، حيث عززت هذه الإتجاهات (الإجتماعية) في الفلسفة المثالية بشكل نسبي جزءاً كبيراً من عملية القطع العملي والفلسفي مع مظاهر الإقطاع، رغم إن تلك الفلسفة الأصولية المؤسسة لكثير من كوجيطات وأقانيم التفكير السياسي الحديث المعاصر بليبرالياته وشيوعيته لتطورات الزمان الحاضر عجزت عن إمتلاك إمكانية كافية للقطع مع دائرية وإنفصام نظام الحياة الإقطاعي وطبيعة التفكير السائد بتلك الحياة بحكم عدد من الأسباب منها يتصل بتبلور تلك الفلسفة في الظروف الموضوعية العامة لتلك المرحلة الإقتصادية المخالطة بتمويلاتها بين كل من الحروب الدينية والحروب النابليونية، وكذلك بحكم الظروف الذاتية الخاصة لتشكل إحداثيات تلك الفلسفة ونموها في ظروف الصراع الطبقي-القومي وتمثلاته في ألمانيا وعموم أوربا ذاك الزمان وتأثيراته الجدلية على شكل وطبيعة الحكم والتنظيم الإجتماعي والإقتصادي والثقافي وأصوله وصوره السياسية وعلى القدرة الموضوعية الصالحة لنفي تجدد الأسس الفكرية والثقافية لعلاقات الإقطاع القائمة في تقدير الفرد لذاته بصورة ترفعه شكلاً عن كينونته الإجتماعية. وقد شكلت جملة هذا السياق قاعدة فلسفية متخلفة لرفض المناشفة إمكانات بناء الإشتراكية في دولة واحدة في محيط مختلف عنها تخلفاً وتقدماً حسب الحالة العلمية والفلسفية لذاك الزمان، مما سبق إيضاحه. ومن جملة جدل الإتجاهات المبلورة لفلسفة هيجل والمدارس النقيضة لها يلاحظ تنوع الفوارق بينها جهة العلاقة بين الإنسان والوجود، وإمكانات تحول عناصر حياته وتحسنها بتلقاء ذاتها أو بفعل وجهد تنظيمه لهذه العناصر في سعة الوجود العام، ومع هذا الإختلاف القديم في سيادة الإنسان على مصيره وقدرته على تصريف أمور حياته ومسؤوليته عنها يوجد أيضاً الإختلاف في تقدير قيم وطول السياق الزماني لحدوث هذه التحاولات أو لإنجاز هذه التنظيم، كذلك الإختلاف حول أولوياته، ووسائله، وحول الجدوى العامة والنهائية له.

    في خضم تمثيل تناقض البلاشفة والمناشفة لهذا الإختلاف القديم إرتفعت إتهامات الركود ضد الإقتصاد والإتحاد السوفييتي عهدذاك مما إلا يصح إلا إن كان الأمر أمر لغة ودسائس إعلام يساوي بين مفردة "الرتابة" ووحدة الوتيرة في نغمتها الثقافية الإجتماعية ومفردة "الركود" في كينونتها الإقتصادية الرأسمالية المتصلة بـ"الكساد" وبوار السلع وإنخفاض الرباح والعائدات الحقيقية وزيادة الإفلاسات والمخارب الإجتماعية وتصريف أعباءها إجمالاً وبالقطعة من قمة رأس المال ومراكزه إلى قاعدة السوق وهوامشه الداخلية أو الخارجية التي إما ان تضعف بها إلى حد الفقر والإملاق الجوع والموت أو تعيد، مع ضعفها، تصدير هذه الازمة التي رميت عليها ولكن في صورة محملة بأعباء أكثر، تقود في جملة توزعها وتركزها إلى تمايز شديد بين قدرات وإمكانات ومصالح وسرعة دورة التصريف والإستهلاك وسرعة دورة الإنتاج، وسرعة دورة الخدمات المالية والتجارية المواشجة للدورتين السابقتين. وهذا التمايز بين إمكانات ومؤسسات ومصالح وسرعات هذه الدورات الثلاث "الدورة الإنتاجية" ، و"الدورة الإستهلاكية" و"الدورة الخدمية" المالية والسياسية والإجتماعية المواشجة للدورتين السبقتين، يمثل الطبيعة البنية العامة لتكون وتبلور ووجود وتفاقم الأزمة العامة للتنظيم الرأسمالي العالمي لموارد العيش والحياة، وتناقض الطبيعة الإغتيالية والتصادمية البطيئة لإحتضاره مع سرعة تجدد الموارد في البيئة والطبيعة العامة حوله، مما يعرف بـ "أزمة الإنهيار الإمبريالي" أو "أزمة إحتضار النظام الرأسمالي العالمي" وهي أزمة مهولة رغم إن كل شي يصير إلى فناءه، فبضخامة تغلغل النقود في العالم آلآف السنين وتغلغل الرأسمالية في تلافيف الحياة لـثلاثمآئة عام وأكثر فإن إنهيارها لا يحدث بين عشية وضحاها، كبرجي مركز التجارة العالمي مثالاً، بل إن إنهيار التنظيم الإمبريالي لموارد عيش وحياة الناس يحدث بتدرج معاشي تختلف وتائره وسرعاته وخطوطه وموجاته وجهاته وقواته خاصة إذا ما تراجع الذين كان يجب عليهم مقاومتها وزيادة تناقضاتها والثورة عليها إلى دور تقليل وتلطيف هذه التناقضات، بل وتحولوا إلى تثبيط إمكانات هذه المقاومة والثورة وثلمها في جهة المتمسكين بها وتخذيل العاملين على تضييق أسواقها وقبض حرية رساميلها وعلى تنمية إمكانات تدميرها، الأحياء منهم والشهداء .

    ولكن في عناية فقرة مشروع التقرير بالوضع الشيوعي والسوفييتي وإجتهادها للإتعاظ بعوامل قوة وبعوامل ضعف الوضع الشيوعي والسوفييتي تجاهلت نصوص الفقرة تغيرات هذا الوضع وإختلاف مراحله العامة ومراحل حياته من الولادة والطفولة والشباب إلى المرض والوفاة، وإتصال جوانب كبرى من هذ التسلسل بالطبيعة الحضارية والثقافية القديمة لتوالي المراحل التاريخية في كل مجتمع بما في ذلك مجتمعات روسيا القديمة، عاجزاً عن تناول وتحليل موضوعية كيانها العالمي من منظور أزمة إنهيار الرأسمالية العالمية، وهي الأزمة الأعظم في جنبات العالم والتاريخ المعاصر إذ تزيد وخامة عناصرها وآثارها كل يوم من إضطراب جميع النظم البيئية والبشرية.
    حيث تجنب مشروع التقرير في فقراته السوفييتية الإشارة إلى الإتصال الموضوعي -الموازي- بين أزمة التنظيم الرأسمالي العالمي للموارد، وأحوال تقدم النضال الإجتماعي لأجل الحرية والكرامة لكل المجتمعات في العالم، وما تبلور من هذا التناقض المتصل حتى اليوم من تنظير ونضال شيوعي في كيان حزبي جديد معاصر بلينينيته لأوضاع هذه الأزمة التي تحدث بتناقض عملية زيادة الربح مع آثارها في زيادة تكاليف الإنتاج ( الطاقة والمواد والآلات) وتعويض ذلك بإضعاف القوى الشرائية للمنتجين وعموم حائزي النقود غما بتخفيض عددهم وفصلهم من العمل أو تقليل إمكاناتهم مع زيادة تنوع العرض وتعدد المستهلكات وتنافس المؤسسات الرأسمالية في زيادتها أو ميلهم لإحتكارها جماعية مما يخفض الإمكانات الفعلية لتنويع خياراتهم أو لزيادة طلبهم ونشاطهم ويتدنى بها رغم زيادة حاجاتهم وتوفر موارد الإنتاج في المجتمع. وهي الأزمة التي بفضل ثمرات النضال الماركسي اللينيني وتقدم المعرفة الموضوعية بعناصرها أضحى من السهل الإشارة إلى أسبابها ومظاهرها رغم لبوسها دعوات وشعارات متنوعة كان أهمها في سياقات السياسة وفي سياقات الإقتصاد المؤسس لها دعاو وشعارات: "الديمقراطية الليبرالية"، و"الليبرالية"، و"الدولة الفعالة"، و"الإشتراكية الديمقراطية"، و"الإشتراكية الإجتماعية"، و"الإشتراكية المسيحية"، و"التراث"، و"النظام الإسلامي"، و"الإنفتاح"، و"المدنية"، وغير ذلك من أسماء ما أنزل الله بها من سلطان، وهي دعاو وشعارات تتجلي نواقصها الموضوعية وتناقضاتها في كثير من دعاوى مشروع تقرير لجنة تسيير المناقشة العامة خاصة إنتقاداته الليبرالية لعناصر ولادة وبناء النظام الإشتراكي في الإتحاد السوفييتي ونجاحه الكبير في معارك البناء والدفاع والنصر وإعادة البناء وتفوق نجاح ركائزه الجماعية والفردية على نواقص وتكالبات وإستعماريات النظام الليبرالي في مجالات الحياة ونهوضه الكبير في إرساء وتنمية سائل التقدم الإجتماعي في الأرض وفي الفضاء، قبل أن يبدأ تأزم كل هذه النجاحات الكبرى في الحياة مع بداية السياسات التي أعلنت في المؤتمر العشرين (فبراير 1956) الخاصة بالتحول إلى نظام التقويم النقودي للمعاملات [في مجالات الإستهلاك دون مجالات الإنتاج].

    فالمسألة لم تكن حسب ما أوردته الفقرة الجزافية في مشروع التقرير مجرد موجات ركود يولدها النظام المركزي، بل كانت طبيعة التغييرات التي أحدثت هذا النظام وطبيعة التغييرات التي أحدثها في مجتمعه على المستوى الداخلي والمستوى العالمي نقلته خلال 25 سنة فقط من حالة رجل أوربا المريض إلى حال دولة عظمى وإستشراف مهيب في العالم لآفاق تحطيم المجتمعات لأسس ومظاهر الرأسمالية، وأنظمتها الإجتماعية السياسية الليبرالية القائمة على التهميش والإستغلال. ذلك الإستشراف الذي إفتتحه تنظيم وبناء الحزب الشيوعي والصياغة النظرية والعملية اللينينية للأفكار الماركسية، وبناء الإتحاد السوفييتي ونصره بها على الإقطاع والإستعمار والإستغلال والتهميش والتخلف والأمية والأمراض والجهل إنتصارات كبرى أستصغرها مشروع التقرير خالطاً العمل الطالح للمنشفيك في النضالات الروسية بالأعمال الصالحات للبلاشفة، بمعيار ليبرالي متذبذب ساقه -بلا موضوعية ولا مادية تاريخية- وفق رأي منشفي تصفوي بدلاً أن يسأل مشروع التقرير نفسه بصورة إنتقادية موجبة أين نحن من موجبات ذلك البناء وفوائده؟ كيف حققها؟ وماهي أسباب نجاحات تكوين الإشتراكية العلمية والإتحاد السوفييتي؟ كيف تبنى الدول وتنهار؟ وكيف وفقاً لمعادلات الإنتاج والإستهلاك تم تحول وتغيير سياق ذلك البناء والإتحاد من حال إلى حال؟ مبيناً بهذه المعادلات الخاصة بتناسب مستويات وعلاقات الإنتاج ومستويات وعلاقات الإستهلاك الإختلاف الموضوعي بين أسباب النجاح في البناء وأسباب تعطل وتدمير هذا البناء؟ وطالما كان سبب النجاح مختلفاً عن سبب الفشل، كان أفضل لمشروع التقرير السياسي - بدل عن هذه الصورة الشبيهة لـ"خطاب إستقالة من الحزب"- أن يقوم بعرض مقارن لأشكال وتواريخ النجاح في كل قطاع ولأشكال وتواريخ الأزمة في نفس هذه القطاعات مع تحديد (شعار) السياسة العامة في كل مرحلة والأشخاص القائدين لها لنرى بصورة موضوعية كيف نستفيد بالموجب فيها وكيف نتجنب السلبيات.

    2- هل تؤدي زيادة النشاط الرأسمالي إلى تنمية متوازنة ؟
    في (إنتقاد) مشروع التقرير لما سماه (إصلاحات) حدثت بعد المؤتمر العشرين وتولي المناشفة الجدد أمور السوفييت، يعترض على الحيز الضيق الذي أتيح للنشاط الرأسمالي، وذلك بطلب مشروع التقرير ودعوته إلى التوازن بين "تعدد الأنماط الإقتصادية" حيث إن هذا التعدد في جهة نظره لا يتطلب تغييراً ثورياً بل (يحتم) مجرد الإستجابة الفطيرة له!!! تقول سطور المشروع: ((بفتح هامش ضيق جداً لاقتصاد السوق الذي يحتمه واقع تعدد الانماط الاقتصادية، وبوضع خطط قصيرة المدى تفسح مجالاً لدور المنتجين في التخطيط والإدارة والحوافز المادية في حالة زيادة الانتاجية.)) ولمحاولة حصف موضوعية هذه الفقرة ببعض الحساب العددي والنوعي لتناسق فقراتها بإمكان طرح النقاط الكاشفة الآتية:

    1- تجاهل الفرق بين الإصلاح والثورة المضادة:
    على أي أساس قبل مشروع التقرير الإجراءات الإنقلابية والثورة المضادة التي تجلت بالمؤتمر العشرين معتبراً إياها "إصلاحات" ؟ وذلك دون أن يسأل نفسه أو يقدم لقآرئيه الطبيعة التاريخية أو السياق التاريخي االموضوعي الذي بإمكان به تقويم طبيعة هذه الإجراءات؟

    2- تجاهل حقيقة نجاح وإنتصار الإشتراكية لنصف قرن ثم إفتراض إن الداء الذي الم بها هو الدواء:
    تجاهل مشروع التقرير تاريخ وطبيعة التكون الحديث لتعدد "الأنماط الإقتصادية" في روسيا وعموم الإتحاد السوفييتي وهو التعدد الذي تم نسبية وإنقضى بخروج وولادة النمط الإشتراكي في الإنتاج سنة 1917 حيث ولدت الإشتراكية الحديثة من الجدل القائم بين النظامين الإقطاعي والرأسمالي ومايواشجهما، فصارت روسيا القديمة بميلاده ثلاث أنماط أو ثلاث نظم إقتصادية. ولكن من تجاهل هذه الحقيقة، سارعت فقرة المشروع بالقفز على الطبيعة الطبقية لتصارع المصالح بين هذه الأنماط واغفلت توضيح طبيعة الإنتصار الإشتراكي على غيره من النظم سواء بدك عنصريات النظام الإقطاعي الدينية والعائلية-القومية بكل مؤساساتها، أو بإنتصاره على الرأسمالية بإلغاء أسس واشكال التملك الخاص لوسائل إنتاج المجتمع لمقومات عيشه وحياته. فمن إغفال هذه الإنتصارات (إفترض) مشروع التقرير لسبب ما ان هناك أنماطاً إقتصادية عددا كانت قائمة في الإتحاد السوفييتي حين تلك الإصلاحات (1960- 1964) التي والتها الإصلاحات المعلنة في السنوات (1964- 1984) والسنوات (1985- 1991) ثم من ذلك الإفتراض الخطأ إفترض مشروع التقرير إن (تعدد هذه الأنماط) وهو تعدد وهم وخيال يمثل في حد ذاته أزمة أو مشروع أزمة تتطلب فتح هامش واسع لما سماه مشروع تقرير صراحة بإسم "إقتصاد السوق" بإعتبار خطأ هو إن الهامش الضيق لإقتصاد السوق لم يكن كافيا لحل الأزمة! وبإعتبار خطأ لإن "إقتصاد السوق" سيحل أزمة تعدد الأنماط ! مما يضاعف بعدد هذه الإفتراضات الخطأ حجم التنافر التاريخي والموضوعي في هذه الفقرة الصغيرة المحورية، بشكل مضحك مبكي.

    فـ"إقتصاد السوق" إسم حركي معروف للإقتصاد الرأسمالي، أي "الإقتصاد الذي يتيح التملك المفرد الخاص للمنافع والموارد العامة بمقابل مالي وفق مبدأ حرية الأفراد في العمل ومبدأ حريتهم التعاقد" وهي الحريات التي تحد منها الشروط الطبقية والسياسية لتكون ونشاط هذا النوع من التنظيم لأمور الإنتاج والإستهلاك، كنظام لحرية إستغلال عمل الناس وحياتهم في الإنتاج لتحقيق الربح للملاك، دون عناية بتفاوت حاجات الناس وقدراتهم..وبتطفيف وتبخيس ومحق لحقوقهم في مواردهم وجهودهم وثمرات إنتاجهم إلخ حسب ما وضحته معادلات خلق وزيادة وإستفاضة قيم عمل المنتجين، وقامت الحركة الشيوعية ماركسية ولينينية لأجل هدمه ودفنه. كما إن أهداف وآليات هذا الإقتصاد الإستغلالية والتهميشية تجعله مصدراً لكل الانواع السلبية من التفاوت بل وتجعله مفاقماً لها. فكيف نظر إليه مشروع التقرير كعلاج (يحتمه) (تعدد الأنماط) في مرحلة شباب الإشتراكية والإقتصاد في الإتحاد السوفييتي.؟

    3- التصور الخطأ للعلاقة بين آجال التخطيط وطبيعة الحوافزعلى الإنتاج:
    بعد أن إقترح مشروع التقرير توسيع إقتصاد السوق كحل لــ(أزمة تعدد الأنماط) في ذلك الإقتصاد الإشتراكي السوفييتي إقترح أيضاً كيفية معينة لنجاح تلك (الإصلاحات) هي ((بوضع خطط قصيرة المدى تفسح مجالاً لدور المنتجين في التخطيط والإدارة والحوافز المادية في حالة زيادة الانتاجية. معينا إجراءا محدداً هو ((وضع خطط قصيرة المدى )) ويعرف مشروع التقرير إن الخطط القصيرة أو الضيقة جزء موضوعي أصيل من وضع الخطط الكبرى، ولأن لدارسي التخطيط إجابة كيف توضع الخطط طويلها وقصيرها؟ يمكن توجيه سؤآل إلى مشروع تقرير لجنة تسيير"المناقشة العامة" مع كل نواقصها في هذا الشأن هو: كيف إفترض المشروع إنه لم تك هناك خطط قصيرة المدى في إقتصاد ومؤسسات الإنتاج والخدمات في الإتحاد السوفييتي طول ذلك الزمان 1917- 1960 وبعده؟ إذ إنه يقول بأهمية خطط قصيرة: (( تفسح مجالاً لدور المنتجين في التخطيط والإدارة والحوافز المادية في حالة زيادة الانتاجية)) دون ان يوضح للقارئي العلاقة الإدارية الفاعلة والوطيدة التي كانت قائمة في سوفيتات (= مجالس) وحدات الإنتاج بين كل من المنتجين وخطوات التخطيط والعمل والتقويم. ثم بعقلية إقتصاد السوق يتحدث عن الحوافز المالية كدافع للإنتاج في إقتصاد عيني كانت للنقود في طبيعة وجود وعمل مختلفة عن طبيعتها في النظام التجارية الراسمالية، ففي ذلك الإقتصاد كان يتم تلبية كل الحاجات الضرورة لعيش وحياة السكان بصورة (مجانية) السكن والمياه والكهرباء والتدفئة والمواصلات والتعليم من روض الأطفال إلى ما فوق الجامعة، والتدريب، والتموين الغذائي، والوقاية والعلاج من الأمراض، وتعامل المكتبات والفنون والرياضة والسياحة والترفيه كلها كانت ميسورة بين المجانية المطلقة وشبه المجانية (كثير من الطلاب الأجانب أقاموا في تلك الجنة الأرضية) مما يجعل تصور مشروع التقرير لأزمة تعدد الأنماط وعلاجها بالسوق والحوافز أمراً عجيباً في علم الإقتصاد السياسي وفي التاريخ.

    فالمشكلة أو بالأصح الأزمة كانت قد دخلت على ذلك التناسق من باب ماسمي "إصلاحات" وهي إجراءات رأسمالية تمهيدية نشطت كالشق الصغير في جسم سد مائي أو كالخلية السرطانية في جسم حي، فبقيام تلك الإصلاحات الزيف بإعادة تدريجية لمفاهيم وإجراءات التقويم النقودي للمنافع وفي مجال الإستهلاك دون مجال الإنتاج، وإستمرار ذلك ثلاثون سنة تفاقم بها التباين والتعدد والإنفصام في العملية الإقتصادية-الإجتماعية والإدارية والسياسية وتضاربت بها الثقافة والآيديولوجيا، وإختلف قادة التحرر الوطني مع قادة التحرر العالمي وقادة التحرر الوطني مع قادة التحرر الإجتماعي وإضطربت الأرض وزلزلت زلزالاً شديداً، ولم تزل.

    فمثلما شقت تناقضات الحياة التجارية والمالية من الداخل والخارج جدران كل دولة ونظام سياسي ودعوة في التاريخ كان لهذه التناقضات ذات المفعول فور إرجاعها إلى داخل الحياة السوفييتية، فمسألة الازمة لم تك في الحوافز وتناسباتها مع الحاجة أو مع حجم الإنتاج او نوعيته ولم تلك في النظام الذي يولد الإستغناء عن هذه الحوافز بل كانت في النظام الذي يولد ويزيد الحاجة إلى هذه الحوافز، والكيفية التفاوتية والسوقية التي حاول بها علاج التناقضات التي يعيد إنتاجها. فالدواء الأنجع هو التخلص من التقويم النقودي للمنافع لا التدواي به وهو الداء. وإن كان هذا التخلص صعباً في ذاك الزمان الضعيف الحاسبات والكمبيوترات فبالإمكان تحقيق جزء كبير منه بفصل مناسب بين تقنية النقود وتوارداتها صرفاً ودخلاً، وتقنية الحساب الإقتصادي-الإجتماعي للمنافع الإجتماعية في الحاضر والمستقبل بفعل تخطيط طويل المدى وإستراتيجية ملائمة للتنسيق بين إجابة المجتمع لضرورات عيش حياته ومستقبله وإمكانات صون بيئته. أما الإستعانة بجهاز المفاهيم الليبرالي لتقييم تاريخ الإشتراكية والشيوعية والإتحاد السوفييتي فيقود إلى وضع جديد لإنتاج المظالم العامة في السودان والعالم وزيادة وتائر الإستغلال والتهميش يزيد بها إحتكار السلطة والثروة فيه ويبدد الجهود والنضالات المتجهة فيه وفي العالم إلى إشتراك الناس في امور السلطة والثروة إشتراكية علمية متقدمة تحقق لهم بشكل متناسق إمكانات متناسقة للحرية من أعباء ضرورات العيش وللكرامة من مهانة التكالب على أبسط حقوق الحياة.

    وفي هذه الإشتراكية -مثلما في سابقاتها- تبقى عملية تخطيط وتنظيم الموارد وكل الحلقات الأولية والمتوسطة والإستراتيجية لهذه العملية هي محور التنظيم الإشتراكي مما لا بإمكان الإستعاضة فيه موضوعيةً بالتخطيط الأساس عن المتوسط أو بالأوسط عن الكبير. فهو بناء.

    إنتهت الفقرة الخامسة

    6- تطفيف الحساب:

    في ختم للحساب الضعيف لعناصر القوة ولعناصر الضعف ومراحلهما في تاريخ الإتحاد السوفييتي، الذي وصل فيه لمسألة فشل الإصلاحات بلا توسيع للرأسمالية وإقتصاد السوق ولا خطط قصيرة ولاحوافز، والخطط الجهنمية لنافذي المجتمع في إبقاء سلبيات الوضع الإشتراكي دون حسناته، تناول مشروع التقرير بفطنة مسألة إنقلاب أغسطس وحماقته التي أدت إلى القضاء على نفوذ الذين قاموا به (المستفيدين) وعلى "سلطة الحزب" وعلى ما سماه المشروع "الإشتراكية" وعلى إتحاد السوفييت، يقول: (( سعت إلى عرقلة مسار البروسترويكا وإضعافها وإلى تعويق مسار الاصلاحات الاقتصادية ثم أخيراً لجأت للمحاولة الانقلابية الحمقاء الفاشلة في أغسطس 1991 والتي أعطت الضوء الأخضر ليس للإطاحة بقورباتشوف وحده، وانما أيضاً بسلطة الحزب وبالاشتراكية وبالاتحاد السوفيتي جميعاً.)) !! وأمام هذا الطرح المختصِرلأزمة الإجراءات الرأسمالية المتوالية لأربعين سنة ضد نظام إشتراكي بني في عشرين سنة ينشأ سؤآل بسيط:

    إذا كان القابضين على النظام السوفييتي بعد المؤتمر العشرين يخادعون الناس بإصلاحات فوقية مستفيدين منه فلماذا ينقلبون عليه؟

    إن الإجابة على أحداث التاريخ بالذكاء أوبالحماقة أو حتى بمأثورة "إختلاف اللصوص" أو "إختلاف الأئمة" أو "إختلاف الربابنة" مسألة سهلة لا ترتبط بحيثيات موضوعية بل بحيثيات إدارة- شخصية لتسوية الخلافات بطريقة (أغمض لي وألبد ليك)، و(دس المحافير) فالمسألة لم تك في كيفية إدارة الحرب الباردة داخلياً في تلك اللحظات التي تداخل فيها القومي بالوطني والوطني بالدولي والشرطي بالحرامي، والدولة بالعدو الطبقي، بل كان الأنفع لتقويم (فشل) أو (نجاح) الإجراءات الرأسمالية المسماة "إصلاحات" هو الإتجاه إلى قياس كفائتها بمقدار التوازن أو التباين الذي أدخلته على علاقات الإنتاج وعلاقات الإستهلاك في كل قطاع.

    ومن جمع وفرز جملة القياسات ولو بصورة أولية في مجالات التخطيط والزراعة والصناعة والخدمات العامة و(الخدمات التجارية) بمعايير جودة طبقية وجنسانية وقومية ووطنية في مدى زمني معلوم بإمكان الإشارة إلى الجوانب التي أضعفتها هذه الإجراءات في الإقتصاد الإشتراكي أو الجوانب التي أثبت فيها الإقتصاد الإشتراكي تلاحماً وطيداً بالمستوى العام لمعيشة وحياة الناس مساكنهم ومرافقها وتعليمهم وعلاجهم وإنتقالهم إلخ مما صعب على إجراءات السوق و(إصلاحاته) النيل الشديد منها وبالتالي ضعفت برسوخها وتضعضعت سلامة موقف وهيبة القيادة الحزبية التي سارت فيها بغير هدى أو كتاب مستنير بالتاريخ، في وقت كانت فيه قوى النضال الشيوعي قد أستهلكت موضوعيةً بالتوتر والتداخل الشديد بين ماهو ثوري وما هو ثورة مضادة، داخل الحزب، ناهيك عما هو داخل الإتحاد الدولة، أو في جمهورياتها الكبرى الستة عشر مثلما هي حالة حزبنا الآن رغم كل بسالات قادته ومناضليه. والضوء الأخضر الذي فصل بين مستويات وعلاقات الإنتاج ومستويات وعلاقات الإستهلاك منذ حوالى نصف قرن هو الذي سبب كثير من إضرابات وأزمات الحياة الشيوعية، ولكنه أوضح سلامة قوانينها العامة كعلم تطبيقي لتحرير الكادحين، ينجح هنا ويفشل هناك مثلما ينجح أو يفشل تطبيق أي علم (اللغة ،الرياضيات،الفلسفة، الطب) في علاج أمر ما، لذا فمن غير المنطقي أن يكون العلاج بالتي كانت هي الداء!

    7- تقسيم قوانين المادية التاريخية ووجود الحزب ونضالاته إلى جوهر ومظهر!
    يميل مشروع التقرير بأثر أسلوب قديم إلى الإستمرار في تقليد فصل مراحل ومهام التغيير الإجتماعي من بعضها محاولاً على الإقل من حيث الشكل الخروج من التنظيم الرأسمالي بإرخاء لهذا التغيير بمراحل تنظيمية وسياسية تقوم بدور ناقل السرعة في المحركات متجاهلاً أن التداخل والتشابك التاريخي العنصري والطبقي والجغرافي السياسي للأزمات في السودان يفرض ربط عملية الخروج منها بطبيعة أكثر تداخلاً وأشد إرتباطاً بين طبيعة عناصر ومهام هذه العملية التغييربة: ثورية وإشتراكية وديمقراطية شعبية، ويجعل عملية التغيير الإجتماعي بطبيعة أقل تحول "الإشتراكية" نفسها إلى (أفق) مسألة تكتيكية لتصفية الحزب الشيوعي السوداني في هذا المشروع الرجعي الذي يتصور إن بالإمكان إنجاز مهام التنظيم والوعي والسكن والعمل والتعليم والعلاج والنقل والمواصلات والزراعة والصناعة والخدمات ومهام السلام والشفافية والديمقراطية والوحدة الشعبية والوحدة الوطنية دون تنظيم إشتراكي لموارد ووسائل وعلاقات الإنتاج ولطبيعة عيش وحياة الناس، وبالأولى دون حزب شيوعي ودون ثورة إجتماعية.!

    يقول مشروع التقرير(ان جوهر ما يجب ان نتعلمه من التجربة السوفيتية، ونحن نناضل من أجل التغيير الوطني الديمقراطي وصولاً للأفق الاشتراكي، يرتبط مباشرة بقضية الديمقراطية. ونعني تحديداً الديمقراطية داخل الحزب والديمقراطية كحقوق لحركة الجماهير، والنأي بالحزب من السلطوية.، والاندغام في جهاز الدولة كشرط موضوعي لمواصلة العمل الثوري وتصحيح مساره. ))
    وتوضح هذه الفقرة الإتجاه الليبرالي لمشروع التقرير في فصمه الظواهري بين عمق النضال الشيوعي لتأسيس الإتحاد السوفييتي وبين إرساء قواعد الديمقراطية! معتقداً إن تأسيس الإتحاد السوفيتي مسألة غير ديمقراطية، وذلك خطأ إلا ان توصع ديكتاتورية أي سلطة البروليتاريا خارج نطاق الديمقراطية الشعبية!

    ومع ان الديمقراطية داخل الحزب وكحقوق لـ"حركة الجماهير" تتطلب تناولاً جاداً موضوعياً لقضية السلطة والعملية الثورية الضرورة لتغيير طبيعة السلطة وكينونتها من سلطة لتنظيم الملكية الخاصة المفردة لوسائل إنتاج المجتمع لحاجات عيشه وحياته إلى سلطة قوية وديكتاتورية شعبية لتأميم ومصادرة كل هذه الإختلالات والفوارق الطبقية والفساد المحيط بنا وبالأولى تأميم ومصادرة أصولها وإمتلاك موارد ووسائل عيش وحياة الناس بواسطة تنظيمات حكمهم الشعبي المحلي بالطريقة التي ينجح الناس في تحقيقها وغالباً بواسطة جبهة ثورية شعبية تضفر فيها الجهود الحزبية والتقدمية والمدنية قوى ومصالح وقدرات التقدم الإجتماعي في الأرياف والمدن.

    8- أين الديمقراطية بطريقتنا الخاصة؟
    يقول مشروع تقرير لجنة (تسيير) "المناقشة العامة لقضايا العصر": ((وقد أكد لينين على سبيل المثال: ان شعوب الشرق ستصل للإشتراكية بطريقها الخاص وليس بتقليد النمط السوفيتي. كما أكد ان التشكيلات الاقتصادية الاجتماعية التي تحدثت عنها المادية التاريخية لا تحكم تطور كل المجتمعات وقع الحافر على الحافر.)) وهذه الطريقة التي إقترحها مشروع التقرير صراحة أو ضمناً عن طريق زهج الناس من الحكم الفلاني والحكم العلاني والسيد قال والأستاذ قال وعلان قال ليهم، ثم تصويتهم بعد حصحصة موضوعية لأمورهم، وبطريقة رائعة، لقيادة منهم، تقودهم بنشاطها ونشاط (نضال) منظماتهم المدنية إلى بر الآمان. هذه الطريقة جربت كثيراً في السودان والعالم وفشلت غير مرة وإنهارت غير مرة، لا لأفكار إنقلابية عسكرية بل لأن طبيعة العلاقات الإقتصادية الإجتماعية ومستويات الإنتاج والإستهلاك متباينة في البلد المعني ففي الصورة الديمقراطية الأولى في السودان كان 80% من دخل الدولة من الريف بينما كانت ولم تزل نفس الدولة توجه 80% من إنفاقها إلى العاصمة، ولم تزل الفئات العليا في الخدمة المدنية والخدمة السياسية والخدمة العسكرية وفي القطاع التجاري تحوز وحدها حوالى 80% من دخل البلاد بينما 95% من السكان يعيشون تحت خط الضنك! الديمقراطية الشعبية لاتترك مجالاً لهذا العبث، ولكن تقرير اللجنة، لسبب، ما يصر على نسخ الديمقراطية الليبرالية بأمل إقامتها وإصلاحها من الداخل (راجع مشروع السلام من الداخل) لكن دون أن يفسر مشروع التقرير لم لا أو لماذا لا يتمسك بالشيوعية؟ رغم إنه سيحتاج لإصلاحات أقل عدداً ونوعاً فيها من تلك التي سيجريها على الليبرالية في السودان؟ يقول ( الماركسية ليست هي فصل الخطاب، ولا هي الكلمة النهائية التي تطوى بعدها الصحف وتجف الأقلام. جوهر الماركسية هو منهجها الجدلي لدراسة الواقع. انها ليست عقيدة جامدة تتحجر في اصول نمطية عقيمة. والمنهج الماركسي لدراسة الواقع، وصولاً للقوانين العامة التي تتحكم في مسار هذا الواقع، قادر على تجديد نفسه على الدوام. انه منهج قابل للتعديل حذفاً وإضافة وفق ما تمليه ضرورات تجدد الواقع وحصاد التجارب النضالية والتطورات في العلوم الطبيعية والإنسانية)) بعد هذه المحاضرة الصلبة عن موضوع مرونة النهج الماركسي وقابليته للحذف والتعديل والإضافة والجدع وفق كذا وكذا وكذا تسآلت بعفوية خالية من أي نهجية أو منطق هل من المعقول أن يوجد نهج معرفة يقبل الحذف أو الإضافة ومع ذلك يبقى في كل حالة على ماهو عليه ؟ نهجاً موضوعياً؟ لا شك إن أي حذف منه او إضافة كبرى إليه ستغير العناصر والسياقات والنتائج .وحتى إن كان ذلك كذلك فما هي جريرة الرفيق لينين المفترى هليه بعبارة: "ركائز النظام السوفييتي" حين أخرج الماركسية من مواجهة الرأسمالية إلى مواجهة الإستعمار والإمبريالية ؟ هل هي ضربه المصالح الإستعمارية لرأس المال البريطاني والفرنسي والهولاندي... إلخ لصالح رأس المال الأمريكي؟ وهم كل واحد! ، وماهي جريرة إستالين حين أخرج الماركسية اللينينية من حالة الدفاع الداخلي ضد مواجهات الإستعمار والإمبريالية إلى دك النازية وربط القوميات التي همشها التقسيم الاوربي للعمل في آسيا بأسباب الحداثة والنماء من حدود البلقان إلى الصين؟ أأنه نفذ بالإشتراكية الى أعماق البحار وأقطارالسماوات والأرض. ولماذا حين يقوم هؤلاء بمجاراة العوامل الموضوعية والظروف الخاصة يقوم مشروع التقرير بالتشنيع بهم وحين يقوم مشروع التقرير بمجاراة إقتصاد السوق وموضة التخلص من الشيوعية يحاول أن يظهرهم بمظهر المجرمين ويظهر نفسه في صورة الملاك العائد لتوه من مراقبة الوضع في النار؟ .يقول: (( الستالينية، على سبيل المثال، اختزلت قوة الدفع للتطور التاريخي في الصراع الطبقي، بينما لم تسقط الماركسية وجود عوامل أخرى فاعلة ومؤثرة في ذلك التطور: ثقافية وقومية وغيرها. صحيح ان الاقتصاد محرك للتاريخ، ولكن هذه مقولة عامة ونسبية وتتطلب رفدها بعوامل أخرى ذات فعل وتأثير في الزمان والمكان حسب خصائص الواقع الماثل. وتأثر الحزب بالفعل بكتيبات ستالين المختزلة والمبتسرة حول المنهج المادي الجدلي والمادية التاريخية والاقتصاد السياسي.)) ((ان الستالينية قد طمست بالفعل جوهر الماركسية. فبينما تقول الماركسية ان الحقيقة دائماً وأبداً نسبية، وان التطور دائماً وأبداً مطلق ولا سقف له، يدّعي الخطاب الستاليني الذي تبلور في ظل السلطة الشمولية والتسلط لنفسه الكمال والإحاطة الشاملة وتملك علم الماضي والحاضر والمستقبل. ولن تفضي مثل هذه النظرة الضيقة المتعصبة وغير العلمية إلاّ إلى ضرب الديمقراطية وهيمنة القلة وإلى رفض وتجريم الرأي الآخر. وحقيقة ما جدوى وما فائدة الرأي الآخر مع مثل هذا الخطاب الشمولي المنغلق؟!

    لقد كان الرفيق إستالين مفوض الحزب لشؤون القوميات وتولى سكرتارية اللجنة المركزية عهد لينين، وله تواريخ مجيدة وصفات حميدة، أهمها إشتغاله الكثيف على العلاقة بين العوامل الوطنية والطبقية والقومية والحزبية وبين النضال المدني السياسي والقانوني والنضال الجماهيري والشعبي المسلح، وكان الرجل مع الرفاق على رقة في التعامل وشدة في العمل تصل بتقييم أهل المدن إلى الحدة مما لم يقل به وبها معاصروه أعداءه شيرشل أو روزفلت أو ترومان! وما كثير من تشانيع الهجوم ضده إلا عداوة صهيونمنشفية قديمة لم تزل قائمة. والتقدير الموضوعي لشخص إستالين مهم فهو ككل قائد عظيم له إنجازات معينة يجيئ منها حب أو كره الناس له بإختلاف في التقدير عبر الزمن فالناس في العالم الآن يقدرون كثير من قادة التاريخ القدماء الفراعنة والروم والفرس والإسكندر المقدوني والفاتحين العرب وأبطال التحول إلى الرأسمالية واشنطن وجيفرسون وروسو وروبيسبير وحتى نابليون والملكة فكتوريا بكل قسوة رؤساء وزاراتها وجيوشها وقد كانوا في حينهم مكروهين. المهم هو فهم كيف حرر مشروع لجنة تسيير المناقشة "الماركسية" من طمس الإستالينية لها؟ هل حرر المشروع (جوهر) الماركسية! بإخراج تاريخ الشيوعية في روسيا والإتحاد السوفييتي من سياقه الموضوعي إلإقتصادي الطبقي والقومي والثقافي إلى سياق إقتصاد السوق والتراث ؟ أم بإلإتجاه إلى تحويل الحزب الشيوعي إلى حزب ليبرالي وجمعية مدنية؟

    ويفدح خطب المشروع بإشارته إلى ان مختصرات جمعية رفاق المادية الجدلية التي أسسها لينين وكلفت إستالين بهذا العمل وكانت قلب العمل الآيديولوجي في الحزب ومحو إختصاراته مثلت إساءة للماركسية! رغم ان الإختصار إجراء موضوعي في التعامل الثقافي وكان ولم يزل ضرورة جهة كل المؤلفات الضخمة أو المتنوعة، وقد نشرت هذه المختصرات ونشرت معها "المختارات" ونشرت معها "المؤلفات الكاملة" بل وأقيمت معاهد البحوث فوق الجامعية التابعة للجنة المركزية للحزب، لبحثها، تشيل وتخت وتناقش وتنظر، ثم يأتي مشروع التقرير بكل قوة عين يقول "طمس جوهر" !!!! حتى المختصرات التي أسهمت في تكوين هذا النقاش لم يجد أحد فيها أنها تقول بشي متعصب أو أي صرعة صراع طبقي أو حماقة عليه، بل على عكس ذلك يقول مشروع التقرير (بشكل تكتيكي): ((والواقع ان المفاهيم الأساسية للماركسية غدت اليوم جزءاً لا يتجزأ من نسيج العلوم الاجتماعية المعاصرة. فالمفهوم المادي للتاريخ مثلاً قد أصبح أساساً للمدرسة الموضوعية في التاريخ بتيارها الكاسح الذي غمر كثيراً من الجامعات ومراكز البحث المتخصصة في جميع أنحاء العالم. ويتزايد الاعتراف بأثر اسلوب الانتاج المادي على البناء الفوقي)) وهنا مفارقة منطقية أخري: فكون "المفاهيم الأساسية للماركسية" غدت اليوم جزءاً لا يتجزأ من نسيج العلوم الاجتماعية المعاصرة فإن هذا الغدو في أكثره لا يعني شيئاً أكثر من تخديم جهات معينة لهذه المفاهيم الأساسية في مشروعاتها التعليمية ولكنها تسيرها حسب مصالحها الطبقية، والدولية، فما يسميه مشروع التقرير "المفاهيم الأساسية للماركسية" كان كثيراً منها موجوداً قبل تبلور الماركسية وتشكل الماركسية-اللينينية، من جدل هذه المفاهيم الأساسية في الإقتصاد السياسي الإنجليزي كانت تنبيهات ريكاردو وسميث إلى القيمة المادية والمالية للعمل وتراوحها في عملية الإنتاج، كذلك بتفتح الفلسفة في تنازعات ألمانيا نبه هيجل إلى الجدلية وفيورباخ إلى المادية وكذا كان كثير من مفكري سويسرا وفرنسا نقاداً للرأسمالية دعاة للحكم الشعبي (الكميون) والإشتراكية والشيوعية دون تحليل علمي لكيفية فناء الرأسمالية وكيفية بناء الإشتراكية.

    ومن إحتدام جدل هذه التناظير في ظروف جدل حضاري وطبقي ديني ووقومي وثقافي وعلمي وفلسفي تبلورت هذه الأفكار الأساسية في الماركسية ثم في الماركسية اللينينية رافعة أفضل ما في هذه القطع القديمة محولة إياها من حالها القديم المفكك المتناقض إلى حال بناء آلة جديدة للتنظير والعمل لأجل حرية وكرامة الطبقة العاملة وعموم الكادحين من الإستغلال الطبقي والمهانة القومية. ولذا فأن التفاخر بالرجوع من حال هذه الآلة وإختلاف تشغيلها إلى"حالة المفاهيم الآساسية" والمواد الخام لا يعني صحة إتجاه مشروع التقرير إلى تصغير المواضعات النظرية والعملية التي أنجزها النضال الشيوعي في بناء الإشتراكية العلمية والإتحاد السوفييتي بكينونتين متداخلتين في النظر والعمل هما "الماركسية اللينينية" و"الحزب الشيوعي"، فبغير هاتين الكينونتين تغدو مسألة الإحالة إلى ما سماه مشروع تقرير لجنة المناقشة العامة "المفاهيم الآساسية للماركسية" مجرد مناورة آيديولوجية لإضعاف التفكير والعمل الثوري بحيل لغوية وتلاعب بالمعاني والسياقات. فأن كانت هذه المفاهيم صالحة للجامعات فلم الإستغناء الموارب عنها؟ ولماذا الضعف العددي والنوعي في توكيدها صحتها المنطقية وسلامتها العملية؟ ولماذا المباعدة بين ضرورة تطور القوى المنتجة في بلد متخلف وأهمية تغيير علاقات الإنتاج؟
    والحق إنه موقف مريب لا منطق لتفسيره إلا أن يكون ذلك شيئاً من محاولة لحل الحزب الشيوعي السوداني تقوم على إضعاف أسسه التاريخية والفكرية والتنظيمية والسياسية وحرف نضالته من سياق الصراع الطبقي إلى سياق القوى التقليدية والأندية السياسية والأحزاب الليبرالية والجمعيات الثقافية والإجتماعية. وهو موقف حميد إن تم التعبير عنه صراحة وبإستقلالية دون إستنفاذ إمكانات الحزب الشيوعي وجهوده في التعبير عنه لمصلحة فئة أخذت لعدد من الأسباب جهة نظر أخرى للأمور الطبقية، بدعاوى بعضها تنظيمية وبعضها سياسية، كان بالإمكان وضع إطار مفرد لها في "المناقشة العامة" يقابل الإطار الماركسي اللينيني ويواجهه بكل شجاعة بدلاً عن هذا التفكيك والتفتيت وهذا الهدر لإمكانات ووجود الحزب.

    9- تفريق مشروع التقرير بين التطور الإجتماعي والهندسة الإجتماعية يتضمن إلغاء وجود الحزب:

    يقول التقرير في فقرة عن الحقوق الديمقراطية ودور حركة الجماهير تلاها بعنوان مرعب هو"مفاهيم محورية في التحول الاشتراكي":
    ((تشير الماركسية إلى ان التحول الاشتراكي عملية تطور اجتماعي/تاريخي وليس هندسة اجتماعية يتم إخضاع الواقع الموضوعي وقوانين سيره الموضوعية قسريا لها فالتحولات الاجتماعية في الماركسية لا تصنعها الأقليات الفدائية أو الطليعية، وانما تأتي من خلال الصراع الطبقي والاجتماعي والسياسي.)) وهذا النص يُبَدَلَ إصطلاح "التغيير" الذي تبلوره الإرادة الإجتماعية ويطفيه بإصطلاح "التحول" وهو إصطلاح أكاديمي محايد طبقياً يصف أي تغير أو تغيير بأنه تحول غض النظر عن طبيعته، هنا يتغير مشروع التغرير من الإصطلاح السياسي الفعال في الحشد والتنظيم إلى الإصطلاح الساكن، وبين "التغيير" و"التحول" يفصل مشروع التغرير بين التطور الإجتماعي والهندسة الإجتماعية. و من هذا الفصل يدين التقرير مقدماً أي تصور يخالف إتجاهه الديمقراطي الليبرالي بأنه: مشروع شمولي وطغيان وإستبداد وهلم جراً يقول: (( فلا حق ولا عدالة تحت مظلة الاستبداد والطغيان )) ولكن لو كان مشروع تقرير لجنة تسيير المناقشة العامة نفسه منصفاً وعادلاً لحلل الوضع والمضمون الطبقي والعالمي الذي يؤدي لإستبداد حاكم ما واضعاً هذا التحليل في رتبة أعلى.

    كذلك كان على مشروع التقرير البعد عن ممارسة الإرهاب الإعلامي بالدعاوى المغلظة بإتهامات خطيرة في مواضيع مفترض إنفتاحها للنقاش والأخذ والرد ولكن الإستبداد والمصادرة المسبقة للأراء التي ستختلف معه أن يتناول موضوع الإستبداد الطبقي البرجوازي بالذات محللاً أسبابه الطبقية الأعم والأفكار الإصلاحية والليبرالية التي يقوم عليها. ولكن مشروع التقرير بعد عن هذا التناول الى إعلان "عقيدة" جديدة سماها بكل إستبداد بعنوانه "مفاهيم محورية في التحول الاشتراكي" !! أفإن كان التحول الإشتراكي يتم بتلقاء ظروفه لا يتطلب أقليات فدائية وطليعية كالتي قامت حتى بإعداد مشروع التقرير في ظروف النضال السياسي في السودان فما هي الحاجة إلى "مفاهيم"؟ ولمن؟ وأين تكون هذه الفهوم فهوماً محورية؟ أفي حزب أو جمعية؟ عامةً وأيما إستكانت هذه الفهوم فإن (محوريتها) تعد بلا مراء جزءاً محورياً من هندسة إجتماعية، فالتغيير والتحول الإشتراكي ليس ظروفاً موضوعية خام أو ظروف ذاتية خام أو تراكمات لا تجد لها منظماً أو مستثمراً، بل هو أيضاً متصل بالهندسة الإجتماعية، إذ يؤدي تنظيم الجماهير -وفقاً لمصالحهم وقدراتهم وطبيعة المهام التي تواجههم- دوراً مهماً بل أساسياً في إيقاد أو تحريك أو إنجاز التغيير الإجتماعي في المجرى العام لتحولات الطبيعة الخام والطبيعة الإجتماعية، وهو الأمر الذي يوكده التقرير بشكل غير مباشر في فقرات أخرى كما إن مشروع هذا التقرير ومقترحاته وإنتقاداته تعد جزءاً صريحاً من هذه الهندسة الإجتماعية وأحد أدواتها النوعية المتقدمة التي تعمل الفكر والنظر بدل الدماء، إلا أن ينفي مشروع التقرير وجود نفسه أو ينكر طبيعة وجوده بإسم محاربة الإستبداد بينما الحرب نفسها هندسة.

    لكن في تناقض وكشف ذاتي لبعض أخطاءه في هذا الصدد (إلغاء الحزب) يقول مشروع التقرير( كما لا تعتمد التحولات الاجتماعية على دور فردي لقائد فذ أو نخبة صفوية تمسك حركةاللتاريخ والتطور الاجتماعي بين يديها من جميع النواصي وتطوٍّعها لإرادتها الثورية. بل تقول المفاهيم الماركسية ان الجماهير هي القوى المحددة في صنع التاريخ وفي انجاز التحولات الاجتماعية. ومن أجل هذا تقوم اركان التكتيك الماركسي وأساليب عمله على تنمية حركة الجماهير، والحضور الفاعل للجماهير المنظمة ومراكمة العمل الثوري بصورة مثابرة وصبورة.)) ففي السطر الأول يتحدث مشروع التقرير عن عفوية ماسماه "التحولات الإجتماعية" وعفو حركتها من دور قائد فذ أو نخبة تمسك حركة التاريخ والتطور الإجتماعي بين يديها ومن جميع النواصي وتطوعها لإرادتها الثورية!! ثم يتحول مشروع التقرير أو يتغير عن ذلك في السطر الثالث من المفاهيم المحورية متحدثاً عن ثلاثة أعمال نظامية هي:
    (( 1- (تنمية حركة الجماهير) و 2- (الحضور الفاعل للجماهير المنظمة) و3- مراكمة العمل الثوري بصورة مثابرة وصبورة))
    ففي ظروف الصراع الطبقي العالمية والمحلية بكل حروبها الدينية والامنية ومخابراتها وفصلها الناس من أعمالهم وتحطيمها إنجازاتهم وتشريدها لهم وإعتقالاتها وإعداماتها وتعذيبها، في هذه الظروف إن لم يك القائمين بالعمليات الثلاث السابق ذكرها أعلاه بنص مشروع التقرير من فئة المناضلين والقادة الأفذاذ والطلائع الفدائية الذين يضحون بوقتهم ومصالحهم وعوائلهم وأرواحهم لأجل التغيير الإشتراكي فماذا تكون صفتهم؟ ثم في أية مفاهيم محورية أو غير محورية تفرض للناس مسك حركة التاريخ والتطور الاجتماعي بين يديها من جميع النواصي وتطوٍّعها لإرادتها الثورية؟؟ فمن المعروف إن تغيير حركة التاريخ لا يتم بإتجاه معاكس لسيله وجريانه وإنما بفتح مجرى له في إضعف النقاط التي تواجهه.

    إن تصعيب النضال الشيوعي أو تخذيله بالإتجاه إلى حالة تحول عفوي إلى (الإشتراكية) كما بهذه الفقرة (المحورية) يمثل خطأ كبيراً في فهم التاريخ وفي فهم طبيعة التغيير الإشتراكي أو لوازمه، وهو خطأ قد يكون له أصله في طبيعة الوضع الطبقي والإجتماعي خارج الحزب وداخله. ولكن تثبيط همة التغيير الإشتراكي يبدوا عملاً فقير الموضوعية لمن يتأمل وضع حركة القوى والمصالح الإجتماعية في السودان: فالناظر لتاريخها يجد إن الوضع العام في السودان يمثل حلقة ضعيفة جداً في تركيبة نظام الإستغلال العالمي. فبكل طبقية تخلفه وتبعيته لنظام التمويل والإنتاج والتجارة الرأسمالي العالمي الحاكم لقيمة عملتنا المبخس لأسعار المنتجات المحلية الرافع لأسعار الضرورات والكمالات التي نستوردها، وبكل تشويه هذا النظام الرأسمالي العالمي لهيكل وقطاعات الإنتاج في السودان بتحديده تكاليفهم وعائداتهم، وطبيعة توزيع الإستثمارات نوعها وعددها وحجمها وعائداتها، وبكل مفاقماته لأسس وأشكال الإستغلال والتهميش وتركيز السلطة والثروة ومركزتها، وبكل ما فيه من أمية وأمراض وجوع، وفوارق طبقية وعنصرية وتوترات وحروب وبكل عناصر هذه الصورة (الواقعية) نجد وضع السودان كحقيقة تاريخية من أضعف النقاط التي تواجه تقدم الناس في هذه المنطقة إلى مرحلة تاريخية أكثر تقدماً، مما لا يحتاج لصبر كثير بل يحتاج لكثير من النشاط والمثابرة المجمعة لنضالات مهمشي الريف ومستضعفي المدن في كتلة ثورية واحدة للتغيير الشامل الإقتصادي الإجتماعي السياسي والثقافي للوضع العام الذي يشمل الأسس والآليات الرئيسة لإنتاج الظلم الطبقي وأشكاله في السودان.

    وفي هذا السياق فإن محاولة تدعيم نقض الماركسية-اللينينة بنص ماركسي محاولة ضعيفة، فإذ يتحدث ماركس في هذا النص الذي أورده مشروع التغرير فإن حديثه يأتي عن الظروف العامة للإنتقال وبالذات عن نمو القوى الإجتماعية صاحبة المصلحة والقدرة ....يقول: (( ان تشكيلاً اجتماعياً معيناً لا يزول قبل ان تنمو كل القوى الاجتماعية التي يتسع لاحتوائها. ولا تحل قط محل هذا التشكيل علاقات انتاج جديدة ومتفوقة ما لم تنفتح شروط الوجود المادي لهذه العلاقات في صميم المجتمع القديم نفسه. ومن أجل ذلك لا تطرح الإنسانية على نفسها قط سوى مسائل قادرة على حلها. ذلك انه إذا نظرنا إلى الأمر عن كثب، وجدنا ان المسألة نفسها لا تظهر إلاّ حين تتوافر الشروط المادية لحلها، أو حين تكون على الأقل على أُهبة التوافر)) ولكن مشروع تقرير لجنة المناقشة العامة يربط هذه الحكمة الثورية بعدم الشروع في التغيير الإشتراكي وكان ذلك منه بدعوى( إن التحول الاشتراكي في الماركسية لن يكتب له النجاح إلاّ إذا أتى لضرورة موضوعية اختمرت عناصرها وشروطها ومقوماتها في احشاء المجتمع القديم. وبالتالي تضحى أية محاولة لفرض التحول الاشتراكي في واقع لم ينضج له بعد، مجرد معاندة لقوانين التطور التاريخي والاجتماعي الموضوعية وقفزاً فوق المراحل ولن يكتب لها النجاح والاستمرارية. وبالإمكان القول بكل اطمئنان ان القفز للثورة الاشتراكية دون توفر المقومات الضرورية لها لن يفضي إلى الاشتراكية بل سيقود بالضرورة إلى طغيان الأقلية والبيروقراطية. إن التعميمات النظرية الخاطئة للنمط السوفيتي حول الأزمة العامة الثالثة للنظام الرأسمالي وعصر الانتقال للإشتراكية وقدرات الديمقراطيين الثوريين في هذا الصدد، لم تقد إلاّ لتشجيع التكتيك الانقلابي.)) ودون نفع من كل نضال السوفييت يواصل مشروع التقرير تجاهل الضرورة الموضوعية للإرتباط بين تطور القوى المنتجة وتغيير علاقات الإنتاج وهي المسألة التي شكلت ركيزة التحولات الناجحة في عهد الإستالين من التخلف والتمزق والتبعية إلى التقدم والإتحاد والإستقلال الوطني والريادة العالمية.

    في هذه الفقرة من المشروع التي جاءت من "المناقشة العامة" مختلة في بنيتها وموضوعاتها ونقاشاتها التأسيسية وحصيلتها حسبما اوضحت لجنة تسييرها، تتكرر من جديد حالة تبديل إصطلاح "التغيير" بإصطلاح "التحول" وبين الإثنين فرق كبير في حضور أو في غياب إرادة التغيير! كذلك اللبس الشنيع في إيضاح ما بين "حركة المجتمع" و"حركة التاريخ": و لفهم هذا اللبس لابد من التذكير بان التغيير الإجتماعي يتم وفق إتجاه الحركة التاريخية للمجتمع من مرحلة تاريخية إقتصادية أدنى قدرة وعلاقات إلى مرحلة أكثر قدرة وعلاقات، تغييراً يبدأ في أضعف نقاط تماسك النظام القديم وأكثرها رخاوة وهشاشة. مما لا يتطلب إنتظاراً! ولكن هذا النوع من الجدل المثالي حول إنتظار التاريخ وإنتظار غودو يتصل بقضية الموقف من الثورة الإشتراكية في ظروف تخلف وإستغلال وتهميش عام يتحين فيه أهل الإنتظار نضوج التحول الرأسمالي في البلد (ليصل مستوى نيويورك) ليبدأوا الثورة! وهنا يبدأ سؤآل حاسم في عملية التمييز بين التغيير الثوري والتحول الإشتراكي وهو:

    ما هي علامات نضوج الرأسمالية في المركز والإطراف؟

    ج/ 1- سيادة ثقافة المصلحة والمنفعة الفردية المقدرة بمعايير مادية ومالية (طبيعة المعيشة والثقافة المعبرة عنها)
    2- سيادة التعامل السلعي- النقودي لتبادل المنافع في مراكز المجتمع (إقتصاد النقود)
    3- الحكم السياسي المدعي تحقيق مصالح جميع الطبقات والقوميات (السياسة الحديثة كعلامة عقلانية للوجود الإجتماعي)
    4- زيادة التناقض بين التكوينات الإجتماعية والقيمية التقليدية والتكوينات والمصالح الإقتصادية ( التفكك القيمي والمجتمعي)
    5- تفاقم كل من النزعة الخارجية والنزعة المحلية كوسيلة لحل الأزمات الإجتماعية (نزعة التدخل الخارجي | النزعة القبيلية )

    هذه العلامات هي علامات نضوج بل وتعفن الرأسمالية وإنفتاح طريق التحول والتغيير الإشتراكي، فحيث وحين يفقد أغلبية الناس في المجتمع إمكانية العيش بحرية وكرامة وتعجز الحكومات والأنظمة السياسية المتعاقبة عن تغيير طبيعة معيشتهم بصورة متناسقة مع حاجاتهم وقدراتهم وإمكانات التنظيم المحلي والدولي والعالمي لمواردهم، تكون ظروف التحول والإنتقال الإجتماعي من المرحلة الرأسمالية أو من عفنها بكل ما فيها من شركات وتعاونيات وقطاع عام إلى مرحلة أكثر منها إشتراكية وديمقراطية في تحول إشتراكي يأتي فيه دور التغيير الثوري طليعيا مصادماً في (الجامعة) والسكن والعمل والشارع وفي سوح الوغى مبادراً ومضحياً في هذه الطليعية التي تحتاج قيادة فذة إلى ثلاثة أعمال نظامية هي 1- تنمية حركة الجماهير و 2- الحضور الفاعل للجماهير المنظمة و3- مراكمة العمل الثوري وذلك بصورة علمية سياسية جماهيرية تضفر بذكاء قوى وقدرات ومصالح وتنظيمات وجهود هذه الجماهير فدون هذه الطليعية ودون القيادة الفذة لجهود حشدها وتنظيمها ستصل التراكمات نقطة إنفجار عشوائي لا ضابط له ولا رابط.

    ولكن مع نفيه السابق يواصل التقرير خلطه بين النظام الديمقراطي الشعبي الذي لاتوجد فيه ملكية خاصة لوسائل المجتمع في الإنتاج بالنظام الديمقراطي الليبرالي، ناسيا إن مقدار ونوع الحرية السياسية مختلف جداً في النظامين.... يقول التقرير: ((ان ما حرص عليه مؤسسا الماركسية أكثر من غيره هو التوكيد بان الديمقراطية البرجوازية، بحكم سيطرة رأس المال على كل آلياتها وفعالياتها، لا تجسد سوى ديكتاتورية البرجوازية. وان الديمقراطية لن تقف على رجليها دون استكمالها بالديمقراطية الاجتماعية وستنبثق عن هذا الاستكمال في نهاية المطاف دكتاتورية البروليتاريا.)) بينما في النظام الديمقراطي الشعبي يسيطر الناس على وسائل وجهود إنتاجهم وعلى القسط الأكبر من ثمراته بسلطة حكمهم الشعبي المحلي في وحداته الأفقية والرأسية (بطبيعتها المهنية والفئوية والجماهيرية) أما في النظام الليبرالي فإن الديمقراطية الليبرالية تسمح بقيام أحزاب تسمح للإنسان بإستغلال إخيه الإنسان إقتصاداً ومعيشة فالحزب الليبرالي يقف مع حرية التملك الخاص لوسائل إنتاج المجتمع لضرورات معيشته وحياته يجمع في نفاق عجيب بين القوى المالكة للإنتاج والمرفهة به والقوى المستغلة والمهمشة بهذا الإنتاج! وبطبيعة الوضع القانوني والتمويلي والدولي لمصالح قادة الأحزاب لا توجد إمكانات موضوعية لتغيير أو تحويل موقفها من جهة النظام البرجوازي الذي تعيشه غالبية شهرها إلى جهة التنظيم والتغيير الإشتراكي الذي تعيشه يوماً أو إثنين في الشهر.
    صحيح ان دكتاتورية البروليتاريا من منظور مؤسسيْ الماركسية، لا تعني مطلقاً العسف والظلم والإستغلال لكن من الممكن الإفادة بتجربة وشمولية الديمقراطية الليبرالية بأن تتراضى الأحزاب الإشتراكية وتتبادل الرأي والحكم فيها بينها عبر ممثلي المهن والفئات وممثلي القطاعات والمنظمات الجماهيرية كالشباب والنساء والمعاشات، في مقاعد الحكم الشعبي المحلي الأفقية والرأسية. وإن كان ثمة إعتراض هنا فالأولى أن يتجه إلى مسألة "الهندسة الإجتماعية" الآنفة الذكر، فإن لم تكن العملية السياسية والديمقراطية بكل اشكالها وكذلك وضع العملية التعليمية والعملية الإعلامية كهندسة إجتماعية وصراع مصالح فماذا على رسل أغنية الكابلي ماذا تكون؟ فمن الغريب أن يرفض المشروع في الهندسة الإجتماعية ناحيتها الشيوعية ويقبلها في ناحيتها الليبرالية الرأسمالية!! ولو بتعديلات.

    يقول مشروع التقرير في نقض صريح لطرحه السابق حول عبثية فهوم الطليعية والنضال الحزبي القائد لعملية هندسة إجتماعية: (( ولا جدال حول ان الماركسية طرحت نظرياً قيادة الحزب الماركسي للتحول الاشتراكي. ولكن هذا الطرح يقف، ليس كضربة لازب، وانما كفرضية نظرية واردة في ظل الانحسار الطبيعي في الصراعات الطبقية والاجتماعية والثقافية أبان التحول الاشتراكي، وهو أمر يطرح في جدول عمل الثوريين إمكانية توحيد الأحزاب العمالية والماركسية والديمقراطية. ولكن طالما ظل التعدد والتنوع قائما، اقتصاديا واجتماعياً وثقافياً، ستكون الإمكانية مفتوحة لتعدد الأحزاب.)) وهذا النص ينقض ذات النقاط بل والمشروع الذي طرحه تقرير لجنة تسيير "المناقشة العامة" : فإن كان التحول الإشتراكي عملية تتم بقيادة حزب أو حتى أحزاب (يتم توحيدها حسب تقرير مشروع التقرير) أفلا يكون هذا التحول وقيادته هندسة إجتماعية؟ رغم إنه من الطبيعي أن يكون تعدد أو إتحاد أو وحدة جهات العمل السياسي في أي مجتمع مسألة موضوعية تحكمها دفوع العوامل العامة وصراعات المصالح الكبرى ولا تتم وضعية التعدد او الأحدية بمجرد قرار فوقي أو برغبة طرح آيديولوجي بل بحسب ما أفاد المشروع وفق: طبيعة الصراعات الطبقية والإجتماعية والثقافية التي يزيد التعدد بزيادتها ويقل بإنحسار التناقضات الرئيسة في المجتمع، ولذا كان في الإتحاد السوفييتي أحزاب أخرى غير الحزب الشيوعي وبفعل (قلِة) أو دِقة التناقضات فيه كانت قليلة النشاط منها "حزب المزارعين" الذي إستمر نشاطه إلى ما بعد تفكك الإتحاد، كذلك في الصين اليوم عدد من الأحزاب منها حزب المزارعين والحزب الوطني|القومي (الكومنتانج) وبإمكان التحقق من ذلك بالدخول إلى تاريخ الصين المعروض في مواقعها المهيبة في شبكة الإتصالات بأكثر اللغات العالمية بما فيها اللغة العربية.

    أما موضوع الدور الطليعي في التاريخ والمجتمع أي تقدم الكيان السياسي طليعة ومقدمة ورأس حربة لفعل الجانب الثوري من التناقضات العامة ضد الجانب المتمسك بأسس أو ببعض الأشكال التالفة من التنظيم الرأسمالي لموارد ووسائل وجهود الإنتاج في المجتمع وأطرها العنصرية أو الطائفية، فمن الطبيعي إن هذه الطليعية والتقدم تتكون أولاً أيضاً ضمن فاعلية العوامل العامة ولكن ليس نبت مزنها وخير تربتها فقط بل تتحقق للكيان السياسي بصحة بذرته وفتوة وعنفوان شبابه وحكمة ثوريته، صحة تتصل أسبابها ومظاهرها بسبق وطليعية آيديولوجية الحزب ودستوره وبرامجه ولوائحه، وتواشج كينونته الطبقية، وطبيعة الصلابة والمرونة في هيكله وأعماله ونسق التفرد والتنوع في نضالاته ومدى إنتشار فعالياته الموضوعية والعددية في الريف وفي المدينة، لا بكم وعدد زيف من الأعضاء حمر النعم بل بنوعية عالية من الأعمال الصغرى والمتوسطة والكبرى مخطط لها ولحدوثها بصورة متواصلة ومتزامنة في المستوى السياسي الأفقي بإمتداد الجماهير المستغلة والمهمشة وفي المستوى السياسي الرأسي لكل قطاع إجتماعي بصورة كيانات وأعمال مألوفة وإصلاحية وثورية متزامنة ومترابطة في حركة يضطلع الحزب الثوري الطليعي بأعباء تنسيقها وتنظيمها بدفع وتنسيق مهام أعضاءه فيها كل حسب قدرته. وبهذا الجهد المتقدم لفتح المجرى العام لحركة التاريخ والمجتمع وحريتها من مراحل الإعاقة والنقص والتكالب على ضرورات الحياة وإنطلاقها إلى مرحلة للتناسق والوفرة والتوزيع المقسط لوسائل وجهود وثمرات الإنتاج الذي يشترك الناس بحكمهم الشعبي المحلي لمقاليده في سلطات تنظيمه وتوزيعه إشتراكية علمية متقدمة من كل بحسب قدرته ولكل حسب حاجاته الضرورة أولاً ثم شيء من الكمالية بصورة توافق مستقبل الأجيال القادمة وتوازن وسلامة بيئة الحياة.

    بكل هذا تتحقق الطليعية والتقدمية الإجتماعية للكيان السياسي الشيء الذي وضطدته النضالات الشيوعية في نفسها منذ صدور البيان الشيوعي وإكتمال الشروط الدولية والمحلية تأسيس الحزب الشيوعي في كل بلد، مما يضطرب مشروع التقرير السياسي الذي أعدته لجنة تسيير "المناقشة العامة" في مجرد إقراره وتوكيده، ناحية إلى التخلص منه بتبديل الإصطلاحات تارة أو بتغيير طبيعة مهام التقدم الإجتماعي في بلد رأسمالي تابع يعاني من ديكتاتورية السوق إلى مهمة أحزاب ليبرالية ذات إسم إشتراكي أو وطني تقوم ببعض الأعباء الصغرى والوسيطة المتفرقة بلا فكرة إستشرافية ولا قيادة مركزية ولاهندسة إجتماعية تجمع نظرتها الإجتماعية إلى فعلها في المجتمع... حالة خبط عشواء الداء فيها دواء.

    10- هل بالإمكان حسم نهج التبعية والنشاط الطفيلي دون إلغاء التملك الإنفرادي الخاص لوسائل إنتاج المجتمع لضرورات عيشه وحياته؟

    يشير مشروع تقرير لجنة تسيير "المناقشة العامة" إلى بعض ظروف التدهور الإقتصادي في السودان يقول: ((

    * برامج التثبيت و التكيف الهيكلي لصندوق النقد والبنك الدولي.
    * الشروط غير المتكافئة في التجارة الدولية.
    * ارتفاع اسعار الفائدة على القروض.
    * تدهور حجم المعونات الخارجية غير المشروطة.
    * تبديد الفوائض الاقتصادية المحلية عبر الصرف البذخي والفساد.
    * المديونية الخارجية التي بلغت أرقاماً فلكية.
    * وقادت مجمل هذه العوامل، وما يصاحبها من ضغوط وتهديدات وإملاءات ، خاصة مع غياب الديمقراطية وتسلط الأنظمة الدكتاتورية والشمولية، إلى فرض نهج التبعية، ونمو القوى الاجتماعية الداعمة لهذا النهج وخاصة فئات الرأسمالية الطفيلية في المدينة والريف )) و هنا تناقض لابد من إزالته وهو إذا كان هناك إفتراض ان غياب الديمقراطية الليبرالية هو سبب في حدوث ذلك الخراب، وهو إفتراض، فلماذا تحقق نفس الخراب في روسيا وبقية جمهوريات الإتحاد السوفييتي بعد حله؟ ولماذا لم يتحقق هذا الخراب في دول ديمقراطية شعبية مثل كوبا؟ أو كوريا الشمالية؟ أو فنزويلا؟ .أو الصين؟ السبب بالطبع يكمن في طبيعة تملك موارد ووسائل الإنتاج والخدمات الأساسية.

    الليبرالية لم تمنع الفساد العظيم في كل دول أوربا والولايات المتحدة، بداية من فساد تأسيس بنك إنجلترا (يوليو1694) وليس نهاية بتأسيس مجلس وبنك الإحتياط الفدرالي أي البنك المركزي الأمريكي(1913) والعلاقة الإمبريالية القائمة بين أنظمة ومصالح البنوك والشركات الصناعية والتجارية الكبرى وحكومات الدول العظمى وتحكمها الفاسد في ضمانات ذهب وأسعار عملات الدول المستقلة حديثاً، وفي أسعار كثير من صادراتها ووراداتها وفي حجم الديون والإستثمارات المحولة لها، وفي طبيعة تعجيزها وتفليسها وخصخصة مواردها من ثم.

    مواجهة هذا الفساد الليبرالي الذي بدأ منذ الشركات الأوربية الإستعمارية لبلاد شرق وغرب الهند ولأنحاء أفريقيا وكثير من أنحاء أمريكا والصين وروسيا متوطداً في العالم بقوة الجيوش الحديثة المنظومة كالآلة المدججة بتطويرات فائقة حديدية وكيماوية لبواريد ومدافع الشرق القديم، لا تتم بمواجهات عسكرية هوجاء محلية أو دولية وقد إمتلكوا الصواريخ والقنابل الموجهة، ولكنها تتصل بصورة موضوعية بعملية ديمقراطية شعبية منظومة لإلغاء نظام التملك الخاص المفرد لوسائل إنتاج المجتمع لضرورات عيشه وحياته إلغاء عملياً متناسقاً تنظمه مؤسسات الحكم الشعبي المحلي بكل ما فيها من ديمقراطية ورقابة شعبية تضع موارد الشعب للشعب وبالشعب.

    دون هذا التأميم المنظوم لا بإمكان نجاح أي تخطيط إقتصادي للحرية من نقص ضرورات العيش والحياة وتكالب ملايين الناس عليها بالنفاق والفساد وغير ذلك من موبقات تنمو وتزيد في ظل حرية وفوضى السوق وعشواءها، بداية من البنوك الإسلامية والخاصة ومؤسسات التجارة الداخلية والخارجية الكبرى، ووحدات التعليم والعلاج، والتملكات الضخمة للأراضي الزراعية، والوحدات الصناعية، والخدمية الكبرى من مؤسسات السبك والصهر إلى مصانع الأسمنت.

    كذلك لا ينجح تنظيم وتخطيط للإقتصاد ولحركة المجتمع في ظل تشتت وتبعثر كثير من وحدات الإنتاج الصغير دون تنظيم ودعم من الدولة ومصارفها في شكل تعاونيات وتشاركيات وشراكات وشركات صغيرة تدعم الدولة تمويلها ونشاطها وتنسق إستثماراتها وتفتح لها مع أبواب التنسيق والتجمع الأسواق الداخلية والخارجية التي تربطها بحاجات وقدرات المجتمعات الأخرى.و تحريرالإقتصاد من نهج التبعية لا يتم بالديمقراطية الليبرالية التي تفتح باب التملك المفرد الخاص لموارد المجتمع بل بالديمقراطية الشعبية التي يسيطر فيها الناس بصورة مشتركة على مقاليد حكمهم وإنتاج ثروة عيشهم وحياتهم.

    ولكن بعد كل هذا التفكيك جاءت فقرة حميدة تناقض الإتجاهات الليبرالية لمشروع التقرير ولكنها تحوي (شيئاً ما ) أو إن شيئاً ما أدخل عليها إذ تقول الفقرة (كما يتاكد ان الحراك الاجتماعي المصاحب للثورة التكنولوجية لم يقد لزوال الطبقة العاملة ولا لنهاية الطاقات الثورية للفئات الوسطي. وبالتالي فان الدعوة لرأسمالية شعبية عن طريق التفاهم بين الطبقات في المجتمع الليبرالي لا تستقيم. وطبيعي جداً ان يقود التطور التكنولوجي إلى تغيرات هيكلية في بنية الطبقة العاملة تماماً كما أفرز تغيرات ملحوظة في بنية الرأسماليين والانتاج الرأسمالي. ان فترة المخاض الجديدة التي تعايشها الطبقة العاملة والتغيرات في بنيتها لا تبرر الزعم بنهايتها وزوالها. فالتغيرات البنيوية في تركيب الطبقة العاملة لن تغير من طبيعة الاستغلال الرأسمالي، ولا من الرسالة التاريخية للطبقة العاملة الجديدة وحلفائها لإقامة المجتمع الاشتراكي)) وما يجدر تناوله في هذه الفقرة هو:

    1- موضوع الطاقات الثورية للفئات الوسطى في ظروف حرية السوق:

    للفئات الوسطى مجوعتين من المصالح الأساسية العامة والشخصية في ذات الآن تتمثل أولاً في مجموعة ضمانات حقوق العمل والأجور التي تكفل لها حياة كريمة تليق بإجتهادها في التعليم والتدريب وفي تقديم عمل أو خدمة مائزة لمجتمعها وتتمثل ثانياً في مجموعة ضمانات عامة لعيشها عيشاً كريماً مثل إستقرار الأسعار العام او توازن الأسعار والأجور، إضافة إلى حقوق التعبير والتنظيم والنشاط الضروري للدفاع أو حتى للهجوم لأجل تحقيق مصالحها.

    وككل الطبقات تحتوي الطبقة الوسطى على طاقات وعناصر محافظة، وطاقات وعناصر قلقة وتغييرية، وطاقات وعناصر ثورية، مثلها مثل طاقات وعناصر الطبقة الرأسمالية المالكة أوالمسيطرة على وسائل إنتاج المجتمع لضرورات عيشه وحياته، ومثلها تماماً مثل طاقات وعناصر الطبقة العاملة والكادحة و إن كانت الطبقة تفوقها بخمسة أحوال على الأقل في حيويتها الثورية .

    الظروف العامة لتحقق مصالح الطبقات والفئات والشرائح ونوعية التنظيم والتسييس وطبيعة نظم فعل ورد فعل كل من الدعاية الثورية والدعاية المضادة تلعب دوراً مهماً إما في تقوية عوامل الجسارة والإقدام والبذل والتضحية والمواجهة والفداء والتقدم والنجاح، أو في تقوية عوامل القعود والإحباط والإنقباض والإنكفاء والفشل الذريع في تغيير بعض النقاط الأولية او المتوسطة في نظام العمل والحياة.

    إن التعويل على وجود أو بقاء الطاقات الثورية في هذه الطبقة أوالفئة أو الشريحة بتناسب ما موجب أو سالب مع قوة الظروف لا يكفي لمواجهة موضوعية لظروف التعطيل عن العمل، وضعف الفرص والأجور والضمانات في القطاع الخاص، وضعف الضمانات العامة في القطاع العام بما فيه من بيروقراطية ضارة ومهددات سياسية، ولمواجهة حالة الإحباط الناتجة عن حالة التكاثر في عرض السلع الكمالية وفقر إمكانات مواجهة الطلبات التي تحدثها في الأسرة والمجتمع. الأفضل من هذا التعويل الذي أبداه مشروع التقرير هو تقديم مقترحات محددة بتأسيس وحدات صغيرة ومتوسطة من الشراكات والتعاونيات والشركات تعمل من الخارج وفق القانون العام، بينما تقوم في الداخل بتقسيم عائداتها ثلاثة أقسام: قِسم كدخل للعاملين عليها وقِسم لتجديد أدواتها وإستثماراتها، وقسم تهبه للعمل النضالي والثوري وفق تنظيم عام تختلف تفاصيله حسب الحالة العامة لكل وحدة، بحيث يندمج التقدم السياسي بالتقدم الإقتصادي الإجتماعي لمنسوبيه.

    الوضع الحاضر للعمل السياسي والنضال الثوري هو وضع مأزوم يقلل ويضعضع القوى والطاقات الثورية أكثر مما يسمح بالتعويل على طاقة خارقة لهذه الطبقة أو تلك الفئات، ففيه يتقدم العمل السياسي والثوري بـ(الخسارة): خسارة سنوات دراسة أو خبرة أو خسارة حرية أو خسارة صحة أو خسارة روح أو أسرة أو خسارة النفس لذاتها بإنقلاب صحي أو سياسي. وبعض ما بإمكان عمله للإصلاح وعلاج بعض أسس وصور هذا الوضع الأزوم هو البدء بإنهاء نسبي بسيط لحالة الإنفصال والفصام بين طبيعة معيشة وحياة المناضلين في المستوى المادي وطبيعة القيم التضامنية والتعاضدية التي ينادون بها في المستوى النظري. هذا من ناحية القيم أما من ناحية العمل فإن دمج النشاط السياسي بالنشاط المعيشي في وحدة إشتراكية واحدة يخلق بعض أو كثير الإشكالات الصغرى والكبرى، ولكنه على المستوى العام ينقل مقومات الصراع الطبقى من حالة عامة عفوية في غالبها إلى حال منظوم في جانب منه خارج إطار التملك والقطاع الخاص بكل إجحافه، وخارج نطاق القطاع العام بكل ما فيه من ظلامات وفصل عسفي عن العمل، كما ينقل إجتماعات الحزب من حالة التباعد والرتابة إلى حالة من التقارب والإنتظام والنشاط والإبداع. أما على المستوى القومي فان هذا الإجراء الإصلاحي يكسر كثيراً من الحواجز الطبقية والعنصرية والدينية، ويجعل هذه المقاربة تتقدم وتقترب بفعل ديمقراطيتها الداخلية وحيوية تواصلاتها وعلاقاتها لأن تشكل أساساً حياً إجتماعياً سياسياً لمستقبل أكثر إشتراكية وأكثر ديمقراطية يفوق الحالة الحاضرة للتملك الفردي للموارد بما فيه من كنز ومن سفه للثروات وإستغلال وتهميش للناس وموارد عيشهم وحياتهم تتفاقم بفعل تركيز الثروة وتركيز السلطة ولوكانت ليبرالية.

    بمثل هذا الإصلاح بإمكان معالجة كثير من أزمات العضوية والإنتظام في حزبنا الشيوعي السوداني وتحريره من طوائل الفقر والعسف.

    2- التواشج والتمايز بين الطبقة العاملة القديمة والطبقة العاملة الجديدة :

    يقول مشروع التقرير: ((فالتغيرات البنيوية في تركيب الطبقة العاملة لن تغير من طبيعة الاستغلال الرأسمالي، ولا من الرسالة التاريخية للطبقة العاملة الجديدة وحلفائها لإقامة المجتمع الاشتراكي))

    وحسب رأي المشروع هناك طبقتان أو طبقة واحدة ذات نطاقين أو سمتين: "قديمة" تنتابها تغييرات نوعية في تركيبتها و"جديدة" فيها بعض القديم وشيء ما من سمات الطبقة الوسطى (غالباً)، وبطبيعة الطبيعة الإجتماعية لا بإمكان وضع خط فاصل دقيق زماني أو إجتماعي أو سياسي يمسك كتلة عناصر عن الإختلاط بغيرها، لكن بالإمكان الإشارة إلى مجموعة من الخطوط التي توضح الطبيعة الطليعية للطبقة العاملة الصناعية في شكلها القديم أو الحديث داغمين معها الفئات المتقدمة من المزارعين وعموم الكادحين الداخلين في كتلتها العامة في الحياة وذلك على النحو الآتي:

    1- أسباب وعوامل الطبيعة الطليعية للطبقة العاملة الصناعية بأشكالها:

    1- الطبيعة النوعية - العددية لوجود العمال ونشاطهم الصناعي في مجتمع رعوي وزراعي متخلف وريادة تقدمهم له.

    2- النوعية المتقدمة لإنتاجها وتخديمها الآلي للموارد الخام ومضاعفتها الهائلة للدورة الإقتصادية (نفط، ذهب، طاقة، منتجات نقل).

    3- تقدم وعيها بالإمكانية الثورية والسياسية لحل أزماتها دون إمكانات دينية طائفية أو قبيلية أو عائلية أو تعليمية أخرى.

    4- الثقافة والطبيعة التعاضدية العميقة لإدارة تنظيماتها وأمورها بتجرد من أغراض الربح وتميز الفرد على حساب المجموعة.

    5- تمتعها لزمن طويل بصفات وطنية وأممية التنظيم والممارسة النقابية والسياسية والنشاط الشيوعي في العالم وداخل كل بلد.

    هذه العوامل كما هو واضح عوامل موضوعية مستقلة في وجودها عن أي رغبة حزبية او شخصية، أي عن إمكان قبولها أو رفضها.

    2- الفوارق بين الطبقة العاملة الصناعية القديمة والجديدة:

    أ‌- الفرق الكبير يظهر في أن إدخال الفئات الممتهنة من الطبقة الوسطى في عملية الإنتاج الرأسمالي وحشرها كيفما إتفق في عداد الطبقة العاملة يضعف تماسكها لأنها تدخل في تركيبتها كأرستقراطية عمالية، وحتى لو أرادت الإندغام فيها فإن رأس المال والحكومة وقياداتها تستحوز لها على وضع تمييزي خاص بين العمال: دالة إلى ذلك بعض خلاصات من مشروع دراسة أعدها عن جوانب من تطور الطبقة العاملة في إنجلترا منذ أوآخر القرن السابع عشر إلى بداية القرن 21 الحاضر: فطول ذلك الزمان 300 سنة كان تركيب الطبقة العاملة دوماً تركيباً متجدداً بفعل إستمرار إختراع وإدخال الآلآت الجديدة وما تتطلبه من تغيير في نوعية العمل والعمال.
    وإن ظلت كثير من أنواع العمل مستمرة في موقعها من السياق العام للإنتاج إلا إنها كانت ولم تزل تتبادل التقدم والتأخر في هذا السياق بداية من الحرفة التي تتحول صناعة والصناعة التي تتراجع متحولة إلى حرفة خاصة. وفي كل تغير وتغيير كان الإضطراب الموضعي والموضوعي في المهنة المعينة كالحلج أو الغزل والنسيج أو الطباعة أو المناجم أو صناعة الأدوات والأجهزة والآلآت أو صناعة الأحذية أو الشحن والتفريغ أو صناعة الطوب..كان كل تغير يواشج إضطراباً إجتماعياً إقتصادياً وثقافياً ونقابياً وسياسياً، مما لم ينخفض تأثيره إلا بأثر زيادة النشاط الشيوعي للنشاط النقابي والعكس، أما النشاط الإصلاحي والتقدمي العام فتخالفت فيه المصالح .

    ب- الأنجع لتوسيع إمكانات الطبقة العاملة بكل فئاتها القديمة والجديدة وحلفائها هو زيادة النشاط الشيوعي في تشكيلاتها، لا تقليله فدون نشاط شيوعي فعال في إلغاء التملك المفرد الخاص لوسائل إنتاج المجتمع لضرورات عيشه حياته يضفر نضالات المدينة والريف ويكربها لأجل تحقيق هذا الهدف فأن مصير عملية تدمير التنظيم الرأسمالي في أضعف نقاطه وبداية إقامة المجتمع الإشتراكي كعملية هندسة إجتماعية ستخلو من دور المهندس صاحب التأهيل والمصلحة والقدرة على رسم خريطة مواقع الإنهيار ومواقع البناء وتحديد وتوفير كثير من لوازمه في حاضر الحركة الإجتماعية لحظة إحتدام تناقضاتها .

    المجتمع الإشتراكي لا يؤسس بإبعاد عملية التغيير الإشتراكي من التصورات الواقعية وتحويل هذه العملية إلى أفق بعيد ، كما إن الإسلوب الموضوعي لطرح عملية تغيير الحالة الرأسمالية للمجتمع كان يتطلب في مشروع تقرير سياسي مقدم لمؤتمر حزب شيوعي أن توضح القيمة الموضوعية لضفر الحزب الشيوعي لنضالات الطلائع الثورية لملايين المُستَغَلين والمُهَمَشين في المدن والريف لخلاصهم من طبيعة العيش والحياة تحت خط الضنك وظروف النقص والجوع والتكالب فيها على الموارد إلى حياة مفعمة بتعاضدهم وإشتراكهم في أصول ووسائل إنتاجهم ضرورات عيشهم وفي جهود هذا الإنتاج وثمراته إشتراكية علمية متقدمة بحكمهم الشعبي المحلي تبدد أسس تركيز السلطة والثروة وتنفي بشكل موضوعي مفاقمة هذا التركيز لعمليات الإستغلال والتهميش.

    ولكن إيضاح القيمة الموضوعية لضفر نضالات الريف والمدن والعالم والنشاط الثوري للتغيير الوطني الديمقراطي الشعبي لأسس المظالم العامة وإبدالها بأسس فعالة للإشتراكية ومافيها من عدل إجتماعي، يكرس الأبنية المادية في طريقة الإنتاج وتوزيع الموارد والخدمات حسب الحاجة والقدرة كان افضل لإيضاح الفكرة الإشتراكية من الإطلاق العاطفي لقول السياسي على عواهنه مثل الذي اوردته سطور مشروع التقرير في نصها: (( الرسالة التاريخية للطبقة العاملة الجديدة وحلفائها لإقامة المجتمع الاشتراكي)). فالتخديم العاطفي لهذه العبارة لا يفيد بأي أسس أو عوامل أو موضوعية لجدارة الطبقة العاملة والحزب الشيوعي لتحقيق وجودهما نأهيك عن بلوغ أي أفق..إلا أن تكون هذه العبارة قد وردت بهذا الشكل البائس الفقير من الموضوعية بعد كل هذا العدد الكثير من الهجومات الإستضعافية على تاريخ ووجود الإشتراكية في مشروع التقرير لغرض ما قد يكون تسهيل شطبها في حضرة أي مؤتمر لأي حزب تقدمي غير الحزب الشيوعي السوداني بدعوى إنها تعبرعن جزء بسيط من الإتجاه العام "للمناقشة العامة"!!

    11 - هل بالإمكان حل الأزمة القومية والوطنية الديمقراطية والإقتصادية دون حل الأزمة الطبقية؟

    يحاول مشروع التقرير السياسي للجنة "المناقشة العامة" حل المشكلة القومية وفق ترتيب سياسي يطلب الفكاك من النظم الشمولية وديكتاتوريتها وعنصرياتها في "قاع المجتمع"؟! والتحول منها إلى حكومات شعبية محلية حسب واقع الحال والقيسمة العادلة للسلطة والثروة وإنجاز التحول الديمقراطي بحل ديمقراطي للمسألة القومية سياسياً وإقتصادياً!! يقول: ((الحل الديمقراطي للمسألة القومية والإثنية بما يقود للوحدة الراسخة والطوعية في إطار التعدد والتنوع. فالإثنية ليست لعنة أو قدراً مسطراً لا فكاك منه، وفي الواقع لعبت الإثنية دوراً كبيراً في معارك التحرر من السيطرة الاستعمارية المباشرة في الكثير من البلدان الأفريقية. غير ان السياسات الخاطئة للأنظمة الشمولية، وخاصة قطع الطريق أمام التحول الديمقراطي في قاع المجتمع، والكيل بمكيالين في التعامل مع الاثنيات والجهويات كالمحاباة من جانب والتهميش من الجانب الآخر قاد لان تتحول الاثنية إلى بؤرة ملتهبة للفرقة والشتات والنزاعات المتواصلة.)) وبعد هذا التقريع للأنظمة الشمولية يضيف( وتتحول الاثنية إلى مصدر قوة ووحدة باعتماد صيغ الحكم اللامركزي والفدرالية والحكم الذاتي حسب واقع الحال والاقتسام العادل للسلطة والثروة، وانجاز التحول الديمقراطي. أي بالحل الديمقراطي للمسألة القومية سياسياً واقتصادياً)) وهذا النص يتجاوز وجود الأزمات القومية في أوربا الليبرالية بنفس السمات العنصرية-الإقتصادية الإدارية وردود الفعل التحرريية المواشجة في أكثرها لكل أشكال النضال السياسي سواء السلمي منه أو بعضه العنيف بكل حالاته في كورسيكا فرنسا أو في بريطانيا في آيرلاند لغاية 2007 حين إنسحب الجيش البريطاني منها ومايتصل بذلك في أسكوتلاند وويلز، بل حتى بين شمال وجنوب إنجلترا، وفي مستعمرات بريطانيا في بحار أمريكا وأستراليا وأفريقيا وأوربا وحتى في هونغ كونغ قبل عقد بسيط، وكذا في الباسك شمال أسبانيا وفي مقاطعة كاتالونيا في الجنوب، وفي تشيك|سولفاكيا، وبين المجر والنمسا، وفي ملدوفا وحتى في بلاد (الحنان) السويد والنرويج وفنلاند والدنمارك نجد الشعوب الأصيلة (الأسكيمو) تعاني إضطهاد الأوربيين، كذلك الأزمة بين قومية شمال إيطاليا النمساوي الألماني الصناعي وقوميات جنوبها الزراعي سردينيا وصقلية، وفي أفينون الفرنسية الإيطالية، وكذا الأزمة الصامتة بين مناطق نهر الراين وبعض مناطق جنوب ألمانيا، كذلك تضارب وإنقسام بلجيكا الحاضر بين فلمنكييها الهولانديين وفرنسييها، وكذلك ما في المرحلة الليبرالية من تاريخ المدرسة القومية الكبرى في البلقان وعموم جمهوريات يوغوسلافيا وفي عموم روسيا وجمهوريات الإتحاد السوفييتي التي كانت بنظمها الإشتراكية الفعلية – رغم شوفينية قوميات الصرب والروس على صرف إمكاناتهم على شعوب وبلاد اخرى- كانت دولاً ناجحة في تنسيق الحاجات والقدرات والقومية بلا تطفيف أو تبخيس ولكن ما إن (تحولت) تلك البلاد من النظام الإشتراكي إلى النظام الإنفرادي حتى تضاربت هذه الحاجات والقدرات في كثير من انحاءها وإتقدت حساسياتها وإشتعلت عنصرياتها .

    كذلك فإن الحديث يطول لو تناولنا تاريخ وحاضر الأزمة القومية وأشكالها في دولة (الولايات) أو (الدول) المتحدة الأمريكية، وكيفية (نجاحها) في القضاء عليها أو في تهدئتها؟ بداية من معارك وحروب الإبادة ثم حروب الإستقلال و(الوحدة) ثم حروب (الإتحاد) ثم عملية نهب قوى الشمال للسكان الأفارقة وتحويلهم من خدمة المزارع في الجنوب إلى خدمة المنازل والمحلات في الشمال بـ(دعوى تحريرهم) وواشج ذلك حروب إستعمار المكسيك وتحويل ملايين من أهلها من أصحاب مزارع صغيرة إلى خدم محلات ومنازل ومزارع، ثم معارك 1964 -1966 لإقرار التساوي بين الناس في حقوق الإنسان حيث وافقت الحكومة الليبرالية عليه لإرسال الافارقة جنوداً إلى محرقة فيتنام، كذلك الحرب الداخلية ضد "الإرهاب" بمعنى الشرق أوسطيين، وضد "المهاجرين" وهم هنود المكسيك أهل البلاد الأصليين، وحدث بحرج كذلك في موضوع بلاد ليبرالية اخرى كأستراليا ونيوزلاند واليابان. او كليبرالية "التنمية المستقلة" التي كانت سائدة في (إتحاد) جنوب أفريقيا أو حتى الأزمة القومية في ليبرالية إسرائيل، ففي كل هذه الدول الليبرالية الأصيلة كانت الحروب ثم عمليات القهر هي السائدة في التعامل بين القومية الساحقة والقوميات المسحوقة، فالليبرالية بتركيزها الثروة والسلطة تعزز العنصرية.

    الحل الموضوعي للأزمة القومية في السودان إضافة للإقرار الصريح بالمظالم التاريخية التي نكبت اهله على الأقل منذ سنة 1504 يتطلب التوسيع الأفقي والرأسي لإمكانات إشتراك الناس في تملك وسائل إنتاج ضرورات عيشهم وحياتهم وفي تنظيم جهودهم في هذا الإنتاج وإشتراكهم في التمتع بثمرات كدحهم وكدهم عليه، وهذه الإمكانية المتعلقة بحريتهم كطبقات ينتمي غالبها إلى قوميات ومناطق معينة تتصل أيضاً بحق مناطقهم في حيازة قراراتها ومواردها بالإستقلال بشؤونها وبالتعاضد في ما بينها في سد نواقصها جمهوريات إتحادية تقوم كينوناتها بوحدات ديمقراطية شعبية تنسق في كل وحدة منها بشكل تصاعدي راق رأي التشكلات الثلاث الرئيسة في الحياة الإقتصادية الإجتماعية والثقافية السياسية رأي القرية والمنطقة المدينة، ورأي القطاعات المنتجة، ورأي القطاعات الجماهيرية .

    بشيئ من هذا النوع العميق من الحكم الشعبي المحلي ومن الإختيار الطوعي للإتحاد بين (جمهوريات) السودان وتسييره ونظامه وفق تبادل متوازن نسبية للمصالح الموضوعية لطبقات السكان والمصالح العامة لمناطقهم، يوازن بين الحاجات العامة والخاصة والإمكانيات المحلية و العامة اللازمة بشكل إقتصادي-سياسي-ثقافي مخطط منظوم لسدها وتنميتها وتقويمها بإمكان حل أزمة الشكل القومي للأزمة الطبقية في السودان بأبعادها المتصلة بالتكالب والعنصرية والحروب، أما الحديث عن أهمية التغيير الليبرالي لحل الأزمة القومية فهو نوع من تعطيل الحل الإشتراكي للأزمة القومية والديمقراطية التي نشأت أصلاً على أساس إنفرادات التملك، والحلول الليبرالية تمثل تعطيل للحل الإشتراكي لأن الانجع بناء إتفاق طبقي- شعبي يبدأ من كل وحدة أساسية عامة في المجتمع بدلاً عن الإتفاقات التي تبدأ من التقويم الأعلى مترجة إلى ماهو ضروري وأساسي فالبناء دائماً -ولو كان من لون المعمار الحديث- يبدأ من الأرض .

    12 - هل هناك قواسم مشتركة بين مشروع اللجنة والمشروع الامريكي لـ(الإصلاح) في الشرق الأوسط؟
    الرأي الذي (يعتني به) مشروع التقرير السياسي من نقاش لم يكتمل يفيد بالجواب: نعم، ففي التقرير يُطفَأ و يُغَيَب فعل التغيير الإشتراكي وتجحف موضوعيته ونظريته وتطبيقاته ويهان تاريخه الموضوعي وُيشوه تقديم الأحداث الظاهرة في هذا التاريخ، وبين كل هذا وذاك يستخف مشروع التقرير بعرض حاجات وقدرات ومصالح قوى التغيير الإشتراكي لصالح عبارات إحالية صرفية وإنصرافية من نوع "الأفق الإشتراكي" و"المؤتمر الجامع"!! فإن لم يكن التغييب الفعلي للنضال الإشتراكي قاسماً مشتركاً بين تقرير لجنة تسيير "المناقشة العامة" وإعلاءها الإتجاه إلى حل الحزب والمشروع الأمريكي لـ(الإصلاح) في بلاد الشرق الأوسط فماذا يكون؟ يقول
    (( إن المشروع الأمريكي للإصلاح الديمقراطي في بلدان الشرق الأوسط يظل فوقياً وخارجياً وضعيف المردود دون قيام مثل هذه التحالفات الشعبية العريضة . )) إن العلاقة التي تجمع بين تحول الحزب الشيوعي السوداني وتغيره من المبادرة والطليعية إلى سياسة تنظيم "المؤتمر القومي الدستوري" وتكوينه بشكل تصاعدي راق من ممثلي النقابات والقوى العسكرية وممثلي الأحزاب وأهل الرأي والفكر وإنحداره من ذلك – مماشاة للقوى الليبرالية- إلى سياسة "المؤتمر الجامع" الذي ينحدر إلى لجان ولجان لجان، وصياغات عامة وناقصة ومتضاربة، تحكمها الإرادة الدولية تجعل القول بأن سياسة الحزب للتأمين في هذا العهد العولمي العنيف كانت سياسة تراجع طبقي ووطني ودولي كان الأنجع منها هو توطيد علاقة الحزب بنضال الريف والمدينة وبالنضال الأممي،لأنه دون "مؤتمر قومي دستوري" تبقى إتفاقات السلام في بلاد نقض المواثيق والعهود مجرد كلمات وتواقيع وجاهة لاتساوي قيمة الحبر الذي كتبت به.

    13 – لماذا لا يتعامل السودان علانية مع إلسلطة الفلسطينية ومع إسرائيل وقد إعترف بها الفلسطين والعرب؟
    إسرائيل دولة عدوانية غاشمة، تؤدي بنجاح دور (القاعدة) أو دور (الأمن) لكثير من التعاملات الإقتصادية والسياسية الدولية، مثل دور يهود المدينة قبل توقيع العقوبات الجماعية القاسية ضدهم التي أخذت البرئي منهم بجريرة المذنب، مما لا سبيل إلى إصلاحه الآن، لكن في ظل إتساع ما يسمى "التفاهم الإسلامي- اليهودي"، ومؤتمرات "الأحبار والأئمة" (الصحافة 5 يناير 2005) ألا بإمكان لحزبنا الإسهام بصياغة موقف سوداني جديد يعزز بشكل عملي إمكانات التضامن المباشر مع الفلسطينيين، ويقوي معسكر اليسار والسلم في إسرائيل؟
    إن الشكل السياسي والديبلوماسي العلني المضاد بشفافه لعملية الإزواج والتخفي والتقية والبهلوانيات التي تمارسها السلطات الخليجية والمصرية والإيرانية والتركية، والفلسطينية، والسودانية أفضل في التعامل مع مصالح الشعب الفلسطيني من التضامن مع حقوق هذا الشعب ومآسيه في العلن والتعاقد مع المصالح الإسرائيلية بأشكالها في الخفاء.

    ومادام إتجاه مشروع التقرير كان إلى جهة المرونة في التعامل مع المصالح الطبقية والقومية السودانية والدولية فلم لم يستمر في هذه المرونة في تعاملاته مع مواضيع العلاقات الإسرائلية لروسيا والهند والصين وباكستان والبرازيل، وكيف يرى مشروع التقرير وضع إسرائيل في خضم نضال شعبنا؟ أفمثلما يشتري الفلسطيني أبذخ صناعات الإتصالات الإسرائيلية، فلماذا لا ندخل أحسن جهاز إتصالات عامة في العالم؟ شكلاً كانت الإجابة (لا) إذ يصيح التقرير مردداً الشعارات القومية المعروفة، فمع (مرونته) في كل مجال من مجالات التقرير بقى -من حيث الشكل- صلباً صلداً في موضوع "إسرائيل"، ولكنه مضمونه يحي -بشكل موارب- مواقفها السياسية على حساب الشعب الفلسطيني يقول التقرير عن تطور الحالة الفلسطينية بفعل رقي نضال الشعب الفلسطيني ودعم شعوب العالم له ((هذا تحركت آليات الشرعية الدولية، فكان القرار رقم 242 والقرار 338 وكانت مدريد 1991 واوسلو1993 ثم خارطة الطريق التي ترعاها الأمم المتحدة وأمريكا وروسيا والاتحاد الأوربي))

    بالطبع هناك فرق كبير أغمضه التقرير ببن طبيعة وتوازانات آليات الشرعية الدولية عهد القرار "242" وطبيعة وآليات وتوازنات الشرعية الدولية فيما بعد ذلك: ففي عهد ذلك القرار 242 الملتبس الصيغة- كان الإتجاه العام هو الشكل التجميعي للقضايا وحصرها من البسيط إلى المعقد في مؤتمر سلام (مباحثات جنيف) ثم كان الخلاف في تكوين ووضع وعمل لجان ذاك المؤتمر المؤود: أن تكون اعمال اللجان أصلاً لأعمال الموتمر أم تكون تابعة لأعماله؟.(لاحظ تاريخ تكوين لجان المؤتمرات في الحزب الشيوعي وأثرها في مضاعفة إنقساماته) حتى تم تجاوزه بالضغوط الإسرائيلية الامريكية عبر إتفاقات القاهرة وكامب ديفيد، أما قرارات مجلس الأمن الأخرى التي أشار لها مشروع التقرير فتعكس إنقلاب عملية السلام وتحوله من حال التفاهم إلى حالة الضغط الإسرائيلي الأمريكي العربي والرضوخ الفلسطيني، وكان تخفيض أسعار النفط ونشاط الحركات الأصولية و(الحماية منه) هي أداة الضغط الإسرائيلية الأمريكية على الحكام العرب ليضغطوا الفلسطين، وكانت بداية تلك الشرعية الدولية بمراسم رئاسية مشتركة ومنفصلة مع كل واحدة من الدولة العربية المجاورة لفلسطين، ثم تتوزعها لجان ولجان لجان دهورت تماسك القضية الفلسطينية محولة إياها إلى كسور عشرية وإلى بواقي حسابية ميتة سواء كان ذلك بخارطة طريق أو بدون خارطة ولكن بإسم الشرعية الدولية! وقد زاد هذا الأمر القضية دماً على سيل الدماء فيها وعوق وحدة ووجود القضية الفلسطينية سواء بتمرير جدران الفصل أو بسياسات التمييز بين الفلسطينيين مما فرقهم أيدي سبأ. وبهذا التمييز وهذه التفرقة صار توحيد الجبهة الداخلية أمراً فرطاً ضيعت به الحقوق بتقسيم البلاد وبإنقسام الفلسطينيين، لذا كان الأفضل لمشروع التقرير الإشارة لتناقضات هذا الوضع بدلاً لإستغراق ذاته في "الشرعية الدولية" ثم صياحه بشعارات قومية رصينة.

    14- العرب! العرب!! العرب!!! أو محاولة تفعيل النزعة القومية دون عوامل طبقية؟

    في إستضطراد ضعيف بعيد عن تعريف: من هو العربي؟ يواصل التقرير السوداني نواحيه الليبرالية القومية العربية يقول:
    (( تفعيل دور الجامعة العربية ليشمل إلى جانب استنفار كل الجهد القومي الممكن، التضامن مع الشعوب العربية ضد الأنظمة الانقلابية ومع سجناء الرأي والضمير والأقليات الدينية والعرقية، وتحرير المواطن العربي من ربقة الفقر والجهل والمرض باستثمار عائدات البترول العربية في التنمية في البلدان العربية.)) وملخص إنتقاد هذه السطور إنه يطالب دول جامعة الدول العربية بالوقوف ضد كل أنظمة الحكم غير الملكية في الدول العربية!!!!!!!!!!، ثم يطالب هذه السلطات الإستبدادية التي تمور عسفاً أن تبادر إلى الوقوف مع سجناء الرأي والضمير والأقليات الدينية والعرقية !؟ ويزيد مشروع التقرير أمنياته مطالباً إياها بتحرير المواطن من الفقر والجهل والمرض بإستثمار عائدات النفط لتنمية البلاد العربية ولكن مع علمه التام بان كل دولة منها لا تثتمر أموالها في بلادها فعلى أي أساس يطالبها المشروع بالإستثمار في البلاد العربية؟؟؟

    15 – الأزمة الطبقية في إضعاف الإشتراكية بدعاوى التراث وبدعاوى تنقية الماركسية من الشوائب:
    يواصل المشروع أمانيه القومية موضحاً المهام الآنية في العالم العربي بصورة عامة يقول ((وبصورة عامة فإن المهام الآنية في العالم العربي هي النضال من أجل التحول الديمقراطي والتضامن بين الشعوب العربية.))، والأصح عبارة في اللغة أن "النضال لأجل كذا وكذا" وليس (من أجل كذا) ولكن، الأهم هو تقويم السياق السياسي لمشروع التقرير: وفي هذا التقويم الإنتقادي لا بد من توكيد ان مهمة التحول الديمقراطي الشعبي لا تنجز دون تغيير إشتراكي والتغيير الإشتراكي يلزم ألا يكون قاعدة موضوعية لإشتراك الناس في السلطة والثروة فحسب بل إن هذه القاعدة تتطور ذاتياً وموضوعياً لتضحى محوراً لعملية إتحاد مجتمعاتهم بل وإتحاد دولهم، فدون تغيير إشتراكي لا توجد حرية تقرير مصير من هذه النظم الفاشية العميلة، ودون تغيير إشتراكي يحقق حرية وكرامة الشعوب المضطهدة قد لا توجد إمكانية موضوعية للوحدة بين بلاد لا تملك مستعمرات أو خزائن إستعمار.

    لذا كانت موضوعية الشعار النبيل القديم: "الإشتراكية الحرية الوحدة" ( عرب بحشر مفردة "الإشتراكية" بين مفردة "الحرية" ومفردة "الوحدة") بإعتبار الشكل التقليدي الخطي المراحلي للعمل الثوري بداية بالحرية من الإستعمار ثم بناء الإشتراكية كقاعدة لإنجاز الوحدة الوطنية والقومية"، فقد تضعضع هذا الخط بفعل ثلاثة عوامل:

    أ - تحول الإستعمار من شكله العسكري المباشر إلى شكل حديث، يتحكم تماماً في سيرورة كل بلد بداية من سيطرته على ضمانات وسعر عملتها وطبيعة تمولاتها وليس نهاية بسيطرته على تمويلها وأسعار صادراتها ووارداتها

    ب‌- فك الإرتباط السياسي والإقتصادي بين المصالح الطبقية العمالية والشعبية والمصالح الوطنية

    ت‌- ربط بناء الإشتراكية والبناء الوطني بما يسمي "تحقيق مصالح كل الطبقات" بإفتراض إمكان وجود رأسمالية وطنية تكون أرباحها دون إستغلال مباشر أو مضاف وتتعامل مع السوق العالمي بشروطها!!

    وكان شيء من هذا التضعضع وتبديل المصالح الطبقية قد ظهر في عنفوان الثورة الشعبية التي أسست الجمهورية في بريطانيا القرن السابع عشر وفي الثورة الشعبية الفرنسية في القرن الثامن عشر حيث بدلت قوى ومصالح البرجوازية مواثيقها وحرفت إصطلاحات "الطبقة العاملة والكادحين" البروليتياريا "الشعب" بإصطلاح "المواطنين" والأمة، وعدل تمثيل البرلمانات من تمثيل أفقي ورأسي لطوائف قوى العمل وسنديكات العاملين في كل منطقة إلى تمثيل جغرافي هلام يختلط فيه الحابل والنابل ذي شروط شخصية ومالية تجعل حق الترشيح إلى البرلمان حكراً على صفوة المجتمع البرجوازي مع بعض ألوان التجميل في القمة والقاعدة. ورغم إن ثورة أكتوبر الإشتراكية الأولى في التاريخ والعالم سارت بقيادة لينين وإستالين ضد هذا النهج التصفوي لقضية الكادحين وبنجاح مضطرد لحوالى 40 سنة فقد إستغرق التغيير المنشفي ضدها وحرفه لكينونة علاقاتها الإنتاجية-الإستهلاكية حوالى 40 سنة لتصل بمجتمعاتها إلى المرحلة الزيف التي تحقق بآلية الإستغلال والتهميش ما يسمى بـ"مصالح كل الطبقات"

    كذلك كان الأمر في كل الأشكال الخاصة للإشتراكية: العربية والأفريقية منها والإسلامية التي نشأت تاريخياً بين ضغطين دوليين: الضغط الأول هو ضغط سيطرة المناشفة على الحزب والإتحاد السوفييتي. والضغط الثاني هو ضغط الحرب الباردة والساخنة بقيادة الديمقراطيات الليبرالية ضد التحولات والتغييرات الإشتراكية التي بادرت إليها البلدان المتطلعة إلى بناء أسس مادية لحرية مجتمعاتها من حالة نقص ضرورات العيش والحياة، ولتحقيق العوامل الموضوعية لحياة كريمة لهذه المجتمعات بإتجاه لارأسمالي وبفعل ذلك الإتجاه الضعيف نبتت مشروعات "الإشتراكية المستلهمة من التراث" ضعيفة مبتسرة في تكوينها الطبقي فكانت تحاول ضبط الأسعار والأسواق دون القيام بضبط متناسق لعملية التملك المفرد لوسائل الإنتاج وفوضى توزيعها جهوده وموارده وحكرها ثمراته!

    ومن هذا التباين في طبيعة مستويات وعلاقات الإنتاج والإستهلاك تناقضت المصالح وتشابكت بالصراعات المحلية والقومية والدولية القديمة والمعاصرة وضعفت أوضاع تلك المجتمعات وتضعضعت مع إختلاف بعض الظروف المحلية أو الدولية التي كانت تسندها وإنتهت آيديولوجياتها ومشروعاتها الهجين إلى جيوب الرأسمالية وعمليات الإنفتاح والتنمية المشوهة فالديون ثم الخصخصة وليس نهاية بالحروب الأهلية وبإتفاقات ومفاعيل الشراكة (الحراسة) الإستراتيجية في نسخ متنوعة.

    وكثير من هذا الفصل بين المصالح الطبقية والمصالح الوطنية كان ولم يزل سائداً في جهات البرنامج القديم الحاضر لحزبنا الشيوعي السوداني وفي القسم الأعظم من إتجاهه السياسي العام مما جعل حزبنا مفارقاً في نشاطه لنشاط بنية الظروف الموضوعية العامة وبالطبع الظروف الذاتية الخاصة للتغيير الإشتراكي في بلادنا والعالم بما فيها عجزه عن ضفر نضالات المهمشين والمستغلين وعموم المستضعفين في الريف والمدينة، وربط هذا الضفر بمشروع حركي تغييري متعدد الأنماط مما أنجز جانب من علاجه في عمل منفصل بعنوان: " نقاط في مشروع دستور وبرنامج ولائحة الحزب" .

    16- طبيعة الدور القيادي للطبقة العاملة في المجتمعات المتخلفة:

    مرة أخرى تثار بشكل ضعيف ملتبس مسألة "الدور القيادي للطبقة العاملة" كان الأفضل منه تقديم هذا الدور بصورة موضوعية، إذ أن مشروع التقرير الذي وضعته لجنة تسيير "المناقشة العامة" يشير لطليعية الطبقة العاملة في التاريخ والمجتمع بقول عمومي خفيف لايفصح عن الأسباب والعوامل الموضوعية التي تجعل للطبقة العاملة الصناعية الدور الطليعي في التغييرات العامة في كل بلد، يقول: (( الدور القيادي للطبقة العاملة هو قضية نضالية تحسمها في نهاية الامر القناعات الشعبية ويحكمها مسار الصراع السياسي والاجتماعي وازدياد وزن الطبقة العاملة في التركيب الاجتماعي للسكان بأثر التنمية.)) بينما كان مهماً إيراد العوامل الموضوعية لتميز دور هذه الطبقة الأساسية في الحياة الحديثة وأهمها:

    1- المزيات العملية والسياسية لتشكل هذه الطبقة في تاريخ عملية الإنتاج وتحوله من الفردية والآلة البسيطة إلى الآلآت المُجَمعَة والإنتاج الجماعي الصناعي الذي يعيد تشكيل الخامات المعدنية والزراعية والحيوانية البسيطة الى بضائع وسلع مهمة في الحياة،

    2- أثر العناصر الذاتية والموضوعية لعمليتي الإستهلاك والإنتاج داخل الطبقة العاملة يدفع بتطور قوى ومستويات الإنتاج الصناعي وبالتالي يدفع تطور المستويات العامة الأخرى للإنتاج في التنقيب والزراعة والتدجين والأعمال الهندسية ويطور مستوى الخدمات العامة وحتى الخدمات المالية والتجارية، فتطور حاجات وجهود الطبقة العاملة الصناعية خلال عملية الإنتاج يزيد تطور الصناعة والإقتصاد وعموم أشكال تعاملات العيش والحياة بصورة أكثر فاعلية فيها من أثر حاجات وجهود الطبقات والفئات الأخرى.

    وبالإمكان تعديد نقاط الأهمية والطليعية الفعلية للطبقة العاملة الصناعية في البلاد المتخلفة والدول التابعة للمراكز الرأسمالية، ومنها:
    1- الطبيعة النوعية-العددية العامة لوجود العمال ونشاطهم الصناعي في مجتمع رعوي وزراعي متخلف وريادة تقدمهم له.
    2- النوعية المتقدمة للإنتاج وتخديمها الآلي للموارد الخام ومضاعفتها الهائلة للدورة الإقتصادية (نفط، ذهب، طاقة، منتجات نقل).
    3- تقدم وعيها بالإمكانية الثورية والسياسية لحل أزماتها دون إمكانات دينية طائفية أو قبيلية أو عائلية أو تعليمية أخرى.
    4- الثقافة والطبيعة التعاضدية العميقة لإدارة تنظيماتها وأمورها بتجرد من أغراض الربح وتميز الفرد على حساب المجموعة.
    5- تمتعها لزمن طويل بصفات وطنية وأممية التنظيم والممارسة النقابية والسياسية والنشاط الشيوعي في العالم وداخل كل بلد.

    إن مسألة طليعية الطبقة العاملة تتجاوز نسبية قبول جماهير الطبقات الأخرى لها فهي مسألة موضوعية مستقلة عن حالة وعي الناس لها.

    17- في الفرق بين وجود حزب جماهيري و وجود حزب للتغيير الإجتماعي والميقات الملائم لذلك الوجود:
    في عملية إطلاق الشعارات السياسية تبدو ضرورة الإنتباه إلى الشروط الموضوعية لنجاح الشعار في تحقيق الهدف من إطلاقه، بما في ذلك مراعاة ملائمة الشعار السياسي وإستجابته للظروف الدقيقة والظروف العامة للمرحلة التاريخية أو للفترة التاريخية والطبيعة الإجتماعية لها، ملائمة وإستجابة موضوعية، تختلف بعواملها المادية والتاريخية عن طبيعة الإستساغة والإستسهال والنزعة الشعبوية وإتجاهات اللم والخم ونزعة الكثرة، فلكل مرحلة شعاراتها التي يجب موضوعيةً أن تناسب الحالة المعينة للصراع الطبقي في كينونة مكانه وزمانه، مناسبة تتضمن المبادئي السياسية والنفسية الإجتماعية والإعلامية التي تضبط كيفية إسهام الشعار السياسي الطبقي العمالي والشعار الشيوعي في تحريك مفردات توازن القوى الطبقية لمصلحة التغيير الإجتماعي مما يتعلق بنقاط معينة لإضعاف الخصم الطبقي مادياً ومعنوياً ونقاط أخرى لتقوية عنصر أو عناصر التغيير تقوية معنوية ومادية. فدون هذه النقاط ذات الأبعاد الإتصالية والثقافية واللغوية المختلفة قد يختل حساب عملية إطلاق الشعار السياسي ويصير مجرد "أكلشيه" وعلامة أو ماركة تجارية تضيع مع أو وسط غيرها من العلامات أو الماركات وتستهلك في سوق تتحكم فيه مع قوى الإعلان والدعاية والإغراء قوى الفقر والجوع والخوف والإرهاب، بأبعادها المحلية والدولية وأصولها وأشكالها الطبقية والثقافية.

    ولكن بعيداً عن موضوعية هذا التقدير وجهة الإيجاب فيه يتجه مشروع التقرير بشكل سالب إلى جانب معين من الإعلام السياسي والشعارات تم إستهلاكه مما تعلق به عملياً من سياسات واحداث أدت لإطفاء حماس الحركات المنظمة للجماهير مع قيام ذلك النوع من الشعارات المستهلكة بتغبيش وعيهم وصرفه عن الطبيعة الطبقية والعنصرية لأزمات عيشهم وحياتهم وتغبيشه إمكانات إنتظامهم الطبقي والنوعي أفقياً ورأسياً لأجل تغيير الميزان الطبقي والسياسي المطفف والمبخس لوجودهم. مما يتضح في الشعار الذي إعتنى به المشروع:
    ((الشرط الموضوعي الذي لا محيد عنه لتحوله الى حزب جماهيري. وهو شرط ربط طروحاته بجذور عميقة بكل ما هو ثوري في مجرى تراث شعب السودان الحضاري)) و بطبيعة الأوضاع المعيشية في النظام الطبقي لم يحدث في التاريخ الحديث إن توفرت نسبة كبرى من عدد السكان في عملية التنظيم والجدل السياسي وصراعاته المتنوعة المخاطر، وفي جل التاريخ لم يحدث إن بدأ عمل (سياسي) بمجموعة تزيد على أصابع اليد الواحدة وقد كان عدد أعضاء الحزب البلشفي الذي أنجز بداية الثورة الإشتراكية العظمى قليلاً إلا ان فعالية لينين-إستالين وحزبهم الشيوعي في تنظيم العمال الروس في المناطق الصناعية حيث الإستغلال، وفي تنظيم الكادحين في مناطق قوميات المسلمين حيث التهميش ووشج الكتلتين معاً في كتلة ثورية واحدة جمعت قضاياهم وقواهم وحركاتهم أدى ضد النظام الإقطاعي الرأسمالي وشيج الإستعمار نفس المهمة التي تؤديها بضعة قطرات من الماء تسقط على لوحة توزيع الكهرباء داخل جهاز إليكتروني ولو كان جهازاً ضخماً. مما يدفع إلى وإتجاه الجدل بين منطق العمل السياسي ومنطق العمل الثوري بالسؤآلين الآتيين:

    1- هل الظروف الحاضرة والآجلة في أنحاء البلاد تحتاج إلى حزب جماهيري أم تحتاج إلى حزب للتغيير الثوري؟

    التركيبة الطبقية العنصرية (العرقية والدينية) للأزمة في بلادنا تجعل من العملية المسماة بناء حزب جماهيري عملية تتضمن إلتفافاً على الصراع الطبقي بمحاولة جمع الضحايا والجلادين في حزب أو تجمع أو مؤتمر جامع لتجنب مشاق ومآسي الثورات غض النظر عن التغييرات الجذرية التي تحدثها. وقد يكون ذلك من تراث مؤتمر الخريجين الذي نشأ في زمن إستضعاف الحركة الثورية المدنية والعسكرية التي بدأت ثورة 1924 حين تحولت طلائع ذلك المؤتمر من العمل بين قطاعات الجماهير المسحوقة إلى العمل الفئوي المنغلق على أدب أصحابه الموظفين وثقافتهم إلا قليلاً كريماً منه ثم سرعان ما تحولت طلائعه عن ذلك الإنعزال إلى ماهو أدهى متجهةً إلى إسترضاء بعض سادة الطوائف المرتبطين في ملكياتهم الزراعية والتجارية وتمولاتها بكينونة الإستعمار، بدعوى مساعدتهم في إرساء وتنظيم كيان سياسي جماهيري (جعفرمحمد علي بخيت: الإدارة البريطانية والحركة الوطنية في السودان 1919- 1936 )

    إن إختلاف مناطق وألسنة وألوان الناس الطبقية والعنصرية في بلادنا وتمايزها الحاضر الشديد إلى مجموعات مستغلة ومهمشة واخرى تقوم بهذا الإستغلال والتهميش وتستثمره أو تفيد بإستثماره أيما ما كانت أسبابه الأولى (إستعمار، أو تنمية مشوهة، أو جفاف) يجعل من الموضوعي أن تتعدد وتتنوع جهات العمل السياسي وأن تتعدد وتتنوع جهات النضال الثوري، يقوم كل منها بما يراه مناسباً لطبيعة أهدافه وطبيعة قدراته وطبيعة المجال الذي ينشط فيه والوسائل المناسبة لحركته مع أو ضد أي شخصية أو مجموعة أو حزب أو تكتل ما يراه ملائماً أو منافراً لكيانه.

    أما أن يقوم حزب جماهيري بأساس ومعنى مختلف عن مقتضيات الصراع الطبقى والتغيير الإجتماعي يقوم على تجميع النزعات الإجتماعية للأهل والحي والأقسام والمدن والمحافظات والأقاليم ومناطق الحكم الذاتي وعموم البلاد على أساس ما يسمى بالحد الأدنى الذي يفيد تاريخنا دوماً بتراجع اليمين إلى ما هو أقل من الحد الأدني مما نزل بسعينا ونضالنا من حالة الإستقلال والإشتراكية والسلم إلى حالة قنوع بدولة دينية- تحت الرقابة والوصاية الدولية، وقد كان ذلك النزول مواشجاً لشعار: أجعلوا من الحزب قوة إجتماعية كبرى بدلاً عن يكون تقدم الحزب مواشجاً لشعار اجعلوا الحزب قوة للتغييرات الكبرى في المجتمع.

    التراضيات والإحتشاديات السياسية قد تنجح في إخراج مظهر وحدوي فارغ من أي مضمون فعال في التغيير الإجتماعي وفي إستمراره سنة أو سنتين أو أكثر دون فاعلية ولكن هذه التراضيات والمُطايبات لاتحل أزمة طبقية شاملة تتعلق بوضع التملك المفرد لوسائل إنتاج المجتمع لضرورات عيشه وحياته وتحكمه بتوزيع جهود هذا الإنتاج وطبيعة إقتسام ثمراته حسب الحاجة والجهد بمعيار إيفاء الضرورات والكمالات الآنية فالمستقبلية. لذا فدون تغيير وضع التملك الخاص لوسائل الإنتاج في المجتمع فإن عملية إنضمام كل أعضاء حزب يميني أو جماهير مذهب ديني إلى أي حزب شيوعي أو تقدمي لا تؤدي إلى تغيير في طبيعة هذا التملك مالم يخض الحزب (الجديد) المعني بالصفة الجماهيرية غمار عملية تغيير ملكية وسائل الإنتاج الأساسية (البنوك والمشاريع الزراعية والصناعية الكبرى) وتحويل السيطرة الكامنة فيها على الإنتاج الإجتماعي من أقلية المجتمع المالكة إلى أغلبيته العاملة والمستضعفة. وخوض التغييرات الإجتماعية كما هو معروف لا يتم بتواكلات قريشية حزبية – طائفية - ليبرالية كبرى يتفرق بينها حق الطبقة العاملة وعموم الكادحين والمهمشين في الحياة الحرة الكريمة بل يتم التغيير الثوري بحركة مجموعة منظمة متناسقة من العناصر والأفعال الثورية ضد الأسس المادية والسياسية لهذا النوع الرأسمالي من التملك الفردي. ودون الشروع في هذه العلمية الثورية بتأهيل الحزب بكل تنظيراته وبرامجه وشعاراته وأعماله وأعضاءه ومؤتمراته لها في كافة المستويات النقابية والسياسية والإعلامية والجماهيرية والتأمينية والعسكرية بصورة متزامنة متناسقة عددا ونوعاً فإن عملية تغيير الأوضاع الظالمة في المجتمع بواسطة بناء حزب جماهيري ستحقق نتائج شكلية تحققها كل يوم وساعة الأحزاب الجماهيرية الكبرى القائمة دون أن تمس أصل الأزمة وأشكالها إلا بفتات كلام.

    إن تكوين الحزب الجديد في نوعه اللاعنصري واللابرجوازي واللا طائفي-ديني واللا شخصي وبنائه ونشاطه كحزب طبقي عمالي ثوري يسعي لتغيير المظالم الطبقية العامة في المجتمع والطبيعة الإجتماعية قد يمثل تحقيقاً لما يسمى "جوهر" الماركسية وهو بالضبط الماركسية في كينونتها الطبقية الإجتماعية كجهاز ثوري نظري وعملي لحرية عمال العالم وشعوبه المضطهدة.

    2- ماهي ظروف بناء الحزب الجماهيري العريض المبادئي والمتنوع الأهداف والناجح في تحقيق هذه الأهداف ؟
    1- وجود مجتمع لاطبقي تقل فيه التمايزات الطبقية المولدة لحالات الإستغلال والتهميش والتمييز الطبقي والعنصري والديني...إلخ.
    2- تناسق المصالح والمبادئي الأساسية لأطرافه وإتساق جهودها وأهدافها لا يكون بعضها على حساب بعض، وفق الخطة الديمقراطية الشعبية العامة للتنظيم وضع وسائل الإنتاج وجهوده، وتفتيح موارد المجتمع وقدراته في سياق تقدمي يزيدها عدداً أو نوعاً.



    18- أهمية موازنة الميل إلى التراث بإمالة أكبر إلى العلم والثورة والمستقبل:

    في أثر لكثير من السياقات الفكرية غير الماركسية تراوح مشروع التقرير السياسي وتجهجه بين ما يسمى بـ "التراث" و"المعاصرة" ككتلتين ثقافيتين في التاريخ وإعتباره نصفين، بينما هو مجرى إجتماعي للزمان وسياق واحد للتطور والرقي الإجتماعي وجهة ذلك يوكد مشروع تقرير لجنة تسيير "المناقشة العامة" التي لم تكتمل على نزعة تراثية في تقدمية الحزب الشيوعي السوداني كأنما يحاول نفي كتلة معينة من التهم الثقافية والجنائية تتعلق بموقف الحزب النظري والعملي من موضوعية القول بمادية الطبيعة والتطور الإجتماعي و الطبيعة المادية للتعاملات الإجتماعية الأساسية وتناقض مصالح الطبقات فيها أمام الذين ينسبون التطفيف والتبخيس والظلم والشر إلى الله سبحانه وتعالى، إذ يقول نص مشروع التقرير ((والواقع ان الحزب الشيوعي السوداني درج على الدوام للتأصيل لطروحاته من بين ثنايا التراث السوداني بكل تنوعه وتعدده)) ثم يضيف ((سحب البساط من تحت اقدام القوى التقليدية في السودان في استغلالها الدين لفرملة واعاقة تطور تلك الثورة)) !!

    والواقع إن الحزب الشيوعي لا يؤصل إطروحاته من شيء معين تراثي أو مستقبلي، ولا يهتم بالطروح الإزواجي لقضية طبيعة التاريخ والفعل الإجتماعي فيه وتقسيم تناولها إلى "تراث" و"معاصرة" أو إلى "تأصيل" و"تجديد"، لكنه ينظم طروحه وأعماله ويسطرها وفق مسطرة علمية وعملية مادية تاريخية سماها المشروع بإسم "المدرسة الموضوعية في التاريخ" ميزاً وإنصافاً لها عن المدارس المثالية التي ترى التاريخ سجلاً لأسماء وتواريخ قادة ومفكرين ينتمون لهذه الجهة أو تلك الفكرة وهي مدارس تأريخ إجتماعي لا مجال فيه لدراسة حياة أغلبية الناس وهم سواد الحياة ونضارتها ولا لتطور النشاط الأساسي في هذه الدنيا وهو العمل والإنتاج لأجل العيش والحياة الذي يشترك فيه الناس مع إختلاف تنوعاتهم وطبيعة مناطقهم، يختلفون في أنواعه وجهوده وثمراته حسب تطور ورقي قواهم وعلاقاتهم العملية- الإنتاجية وإنسجامها مع المتطلبات الضرورة لحياتهم ولتجديد قدرتهم على الإنتاج،ولكن أكثرهم يكسبون بتنافرها بؤساً ومعيشة ضنكاً تجعلهم يلقون في ذات التهلكة الطبقية التي يكونها التنافر الطبقي أيدي حياتهم المزارع والمصانع والمصارف وخدمات التعليم والصحة والإتصالات والمواصِلات التي بقسطاسها يعيشون وبتظالمها وتطفيفها وتبخيسها يهلكون.

    إن البحث عن أسانيد ودعامات تاريخية لموقف ثوري معين في العصر الحديث والعثور على هذه الأسانيد لا يعني تأصيلاً أو تراثية أو أي شي من هذا القبيل بل هو الضرورة النظرية والعملية لتقدير طبيعة حدث أو موقف معين في سياق تاريخ حركة المجتمع وتبين مجموعة العوامل الطبقية والثقافية والسياسية لقوته ونجاحه ومجموعة العوامل المشابهة التي أدت إلى ضعفه وموته أو إنحساره، فمن الخطأ تعميم نتائج التجارب الناجحة أو التجارب الفاشلة إلا في حالة توافق نفس الظروف المادية والحيوية التي أحاطت بها أو على الأقل توافق الظروف العامة المادية والحيوية التي واشجت إجراءها.

    ما يسميه مشروع التقرير بـ" سحب البساط من تحت اقدام القوى التقليدية في السودان في استغلالها الدين " هو إجراء فوقي وخطأ موضوعي جسيم فالأنجع هو سحب نظام التملك المفرد لوسائل الإنتاج الذي ينتج التمايز الطبقي والعنصري ويكرس الفقر والبؤس والتشييْ والإستلاب، ويغذي الروح التواكلية والإستغلالية في الممارسة الدينية، مؤسساً بها في كل دين طواغيتاً وعجولاً ذهبية وأهل صُفة وأهل حظوة، وعرب وموالي، وأشراف وأغراب، وسفيانيين وهاشميين. وأهل المدينة وأهل الأمصار والأقاليم.

    إن المواشجة بين دعوة الحزب الجماهيري ودعوة إستلهام التراث وسحب البساط (لإستعماله) تصب في باب "الشعبوية" والاعتقاد في القلة النظرية والكثرة العددية بنية طيبة سمحة بتجاوزها تناقضات الوضع الحاضر فإنها تفتح طرقاً واسعة رحبة إلى جهنم.

    19- الإرهاب يتغذى بالعنف والإرهاب ويضمحل بالهندسة الإجتماعية لعملية الثورة الطبقية:

    في معاملة من نوع مختلف عن سابقة لما يسمى بـ"التراث" يضيف مشروع التقرير إن تقنين الحقوق الدستورية للجماهير والمنبر الواسع لموجهة خطر الجماعات الإرهابية، يمثل شرطاً أساسياً في حصر الإرهاب وعزله في ركن قصي وهامشي تمهيداً لهزيمته ودحره ((وظل الحزب يدعو لتقنين الحقوق الدستورية للجماهير، ولمنبر واسع لمواجهة خطر هذه الجماعات، بوصف هذا شرطاً اساسياً في محاصرة الارهاب وعزله في ركن قصي وهامشي تمهيداً لهزيمته ودحره. كما دعم الحزب الدعوة لتوحيد قوى الاستنارة في النضال ضد جماعات الهوس الديني ونشاطها)) وهو طرح مفيد لولا إحتواءه على نقاط تفسد تناسقه المنطقي والموضوعي مثل تصور ان التثبيت الدستوري لحقوق الإنسان سيحد من الإرهاب!! وإن منبر ليبرالي واسع مثل الكونجرس الأمريكي أو المؤتمر الوطني السوداني أو لوجيركا أفغانستان، برلمان باكستان أو الجمعية الوطنية الفرنسية أو مجالس دول شرق أو غرب أفريقيا أو لبنان أو أي ديكتاتورية عسكرية أو مدنية أو حكم ديمقراطي شعبي بإمكان أن يحل هذه الأزمة التاريخية المتفاقمة بالفرق بين إمكانات وقدرة الإنسان على تفسير طبيعة الحياة عامة وإستبصار دوره فيها، وبين الطبيعة العامة التجزئيية للنشاط المعيشي ولعمل وسائل التعليم والإعلام والثقافة التي تفاقم فصم وعزل الظواهر الأساسية في الحياة الحضرية الحديثة عن سياقها الطبيعي والطبقي الإجتماعي بحيث لا يجد الإنسان تفسيرا لها إلا في الثقافة الدينية التي تنتمي إلى بأصولها إلى زمن قديم كان الدين فيه ولم يزل عامل تهذيب وصدق وحق قل ما يجده الإنسان في دنياه مع كثرة من المثبطات والمحبطات التي تجعله بقانون رد الفعل يؤمن ويتعصب إلى (الحق) ويروم هذا الصدق في عالم مملوء بالأكاذيب بإتجاه المؤمن المعين إلى البراءة من الشرك والمشركين في مظهره أو تعاملاته أو في الإثنين معاً مائلاً من هذه الدنيا الفانية الى إغاظة "الكفار" ونصر "المؤمنين" وإلى الإستشهاد ليس فقط ذوداً عن حياضه المعنوية، وإنما إبتغاء لله ولأن تكون كلمته هي العليا. وعلى ذات المنوال تبلورت في التاريخ صنوف من إرهاب الفردي والجماعي وإرهاب الدولة فكان هناك الإرهاب الصليبي، والصهيوني، والإسلامي، سار تبلورها على ذات النهج السابق وإن إختلف الناس في تقديرها فقد ظلت ككل تحمل نفس سمات القلق النفسي الطبقي والأخلاقي من سلامة الأوضاع وزيادة الميل إلى (الخروج) منها.

    إن كثير من الدراسات والعلوم النفسية لتغيير السلوك كعلم النفس التربوي وعلم النفس الإجتماعي وعلم النفس السياسي وعلم النفس المتعلق بالإعلام والتسويق ..إلخ بإمكان ان تمثل معيناً طيباً ومدداً متقدماً ومساعدة رفاقية في عملية مواجهة بعض أسس ومظاهر الإرهاب لكن التعويل الأساسي يظل على النتيجة العامة لملاحظة إزدهار الإرهاب في النظم الرأسمالية التي تثتير بتناقضاتها إجتهاد الإنسان في تخليص نفسه وتطهيرها بالعزلة والتنسك والإستقامة ثم بالتشدد في (الحق) ومحاربة الرزيلة والفسوق وما إلى ذلك، مما تعزز بفعل سياسات "المجتمع الدولي" والسلطات التابعة لها في مختلف المجالات التعليمية والإقتصادية والثقافية الإعلامية مما أضعف المؤسسات العامة والأحزاب الشيوعية وخفض قدرتها على شرح الطبيعة التاريخية والطبقية لتبلورات وتناقضات الحياة والحياة الإجتماعية وإيضاح المألآت المأساوية التي إنتهت لها في التاريخ إتجاهات الإصلاح العنصري أو الديني أو القومي أو العلماني أو الديمقراطي أو الإشتراكي التي نشأت في المجتمعات المختلفة لتغيير مظالم حياتها دون هم بتغيير الأسس الإقتصادية والطبقية لعيشها وحياتها أو التي إهتمت بذلك دون تمتين مستدام لعناصر العملية الديمقراطية الشعبية التي تشكل وتغذي بنيتها المادية والإجتماعية والثقافية-الإعلامية والسياسية.

    محاولة القضاء على الإرهاب مثل محاولة القضاء على أي ظاهرة إجتماعية أمر مستحيل لم يتحقق مرة واحدة في تاريخ اي بلد، والحد القسري منها أضراره أكثر من نفعه لكن التعامل الطبقي، والتعليمي، والطب النفسي الجماهيري، والإرشاد الديني بإمكانه اليحد منها أكثر من الدعوة لقيام حزب جماهيري أو تراثي أو منبر لا يجتمع أعضاءه على تحقيق أي عدالة طبقية إجتماعية بل يجمعهم مجرد العداء لهذا النوع المتحرز دوماً من المسلمين أو المؤمنين الأمر الذي يزيدهم إعتقاداً بأنهم في سياق آية ((إن الناس قد جمعوا لكم...إلخ الآية.

    إن إستوعاب الأبعاد الطبقية والمحلية والدولية لأزمة الإرهاب تجعل التعويل على بناء حزب جماهيري في مواجهة مخاطر مسلحة حيوية مسألة بعيدة عن إمكانات النجاح، خاصة في تفارق شكلي في التعامل الدولي مع معطيات وأشكال الإرهاب ينصب على حربه في نواحي وبلاد معينة وعلى دعمه ومساندته في نواحي وبلاد معينة يستفيد منها الإرهاب بتحويلات داخلية للمنافع بين وحداته:

    فهناك التعاملات الأمريكية الصهيونية مع القوى الإسلامية الإرهابية في جمهوريات يوغسلافيا السابقة وفي جمهوريات المسلمين من الإتحاد السوفييتي السابق وفي الصين، ودول شرق أفريقيا (الخطرة على حرية السوق) وهو التعامل الذي توطد في السودان ضد حركة تواشج التجمع النقابي والحركة الشعبية لتحرير السودان وضد الدول المجاورة له لإخضاعها وتخديمها ضمن مخططات التوسع الإمبريالي، وللضغط على الدول العربية وحركة فتح في خضم عملية السلام مع إسرائيل. وقد تبلورت هذه التعاملات بتواشج مع عدد من اللقاءات المشتركة لدعم (المسلمين) أو قوى (الحرية) في مصر (1952-1981) واليمن (1965-1967) والسودان (1958-1964) وفي (1965-1969) (1970) و(1976) و (1977-1985) و(1989-2005) مع بعض إستثناءات، وأفغانستان (1980-1988) ثم في جمهوريات يوغسلافيا (1989-2000) ثم الشيشان(1991-...) وفي آتشه إندونيسيا (1989-2002) أو (لحرية العقيدة) في الصين (1990-....) أو (للديمقراطية) في شرق أفريقيا (1991-....) وفي العراق (1990-2003) وكان تشكل هذه التناغمات والتلاقيات واللقاءات متصلاً بعدد كثير من مؤتمرات "الحوار بين الأديان"، و"السلام بين الأديان"، و"الحوار المسيحي الإسلامي"، والحوار الأوربي- العربي، و- الأفريقي، وحتى "التقارب الشيعي-السني" والتقريب بين المذاهب (ضد النظم العلمانية والقومية العربية) وصولاً إلى مؤتمر "الأحبار والأئمة" أو "الأئمة والأحبار" الذي يلعب الآن دوراً كبيراً في التفاهم اليهودي الإسلامي، مما يتجلى جميعه حالياً في أروقة مؤتمرات الإقتصاد الإسلامي والطبيعة الإمبريالية لضمانات المصارف الإسلامية ونشاطاتها المطلقة السراح في سوق التمويل والصرف العالمي تغذيه ويغذيها .

    ومن جهة أخرى هناك تعاملات دولية أمريكية أخرى تعادي القوى الإسلامية الإرهابية وإقلاقها للحكم في مناطق نفوذها وسيطرتها ولكنها تغمض عنها النظر في بعض الأحيان لتخدمها في تقوية هذا النفوذ وتدعيم هذه السيطرة وإحكامها كما في دول الخليج النفطية وكما في مصر (1981-.....) وفي السودان (1989-....2005) وفلسطين-إسرائيل (1988-.... ) وفي جمهوريات المسلمين (....ستان) ضد الميل للإتحاد (السوفييتي) أو التركي أو الفارسي أو الآذرين وكذا في الفيلبين (1972- ..) وإندونيسيا(1989-..) وكذلك في تايلاند ( 2003-....) وفي كوريا الجنوبية، وفي غرب أفريقيا وجنوبها، وفي أوربا مابعد الحرب اليوغسلافية، وفي بعض جزر الكاريبي والمحيط الهندي، وبشي من التراوح في الهند.

    في هذه المراوحة السياسية والديبلوماسية والعسكرية التي تفرضها المصالح الإقتصادية والجيوسياسية بين كل من الموقفين النقيضين الموقف (مع) والموقف (ضد) الحركة العسكرية للإسلام السياسي، يبدو أمر إتخاذ قرار مسبق جهة هذه الحركة أو الحركات محلاً للإستهلاك المحلي والدولي لـ(قوة) حزبنا ضد ذلك التيار أو بعض أشكاله الذي يرتبط في أصله الإستخباري الإمبريالي القديم في عشرينيات القرن العشرين بوجود قوة إسلامية في مناطق الشرق الأوسط ودوائره العالمية تصد بفاعلياتها تحشد قوى الخلافة الإسلامية القديمة وتشتتها، وتصد المد التقدمي الإشتراكي الناشئ بتأثير النمو الإقتصادي والصناعي الحديث. (بعض لقاءات وأوراق مجلسي العلاقات الخارجية البريطاني والهولندي + كتاب د.جعفر محمد علي بخيت "أنشطة شيوعية في الشرق الأوسط بتركيز خاص على مصر والسودان (1919-1936)"+ طبيعة العلاقة بين الخلافة الإسلامية المحتضرة والمحاصرة والثورة الإشتراكية الوليدة في روسيا والتي كانت محاصرة بدورها + كتاب فؤاد علام عن تأسيس حركة الإخوان المسلمين في مصر وعلاقاتها البريطانية ثم الأمريكية ببعثات الحج والدعم البريطاني عبر آل سعود لحركة الإخوان الوهابية التي أسهمت عبر مواسم الحج في بلورة حركة الإخوان المصرية) ولكن ليس مناسبأ لحزبنا أن يعـول على هذا فلكثير من رفاقه إتصالات أممية ودولية تخترق حتى الإختراق المركب.

    أفإن يعول الحزب في تقويماته وحركته السياسية على إنطباعات التعاملات الأجنبية والجميع في السودان والعالم يدرون بعض الأبعاد البريطانية لحزب الأمة وبعض الابعاد المصرية للأحزاب الإتحادية في السودان، وبعض الأبعاد الخليجية (الإمريكية) للحركة الإسلامية، مما لا يسلم منه الناس في إطار الدائرة الضيقة للعملية السياسة في السودان القديم وتداخلها بمحاور الإقطاع "القرابة" و"الطائفة"، وتمحورها حول شخصية الحكم وصلته ببيوت هذه المحاور لا حول نوعية الحكم وطبيعته وصلاحيته التاريخية لقيادة التقدم الإجتماعي من مرحلة متناقضة إلى مرحلة إخرى أقل تناقضاً في العلاقة المركبة بين كل من الطبيعة الإنفرادية لتملك وسائل العيش والحياة، والطبيعة الجماعية للعمل والإنتاج، والطبيعة الإنفرادية في توزع ثمرات هذا العمل!! ففي هذه العلاقة المتناقضة الأساسية في تشكيل وعي الإنسان بطبيعة وجوده تنفصل جملة مفاهيم "الخير" و"القيم" عن التصورات المألوفة للعدالة البشرية والعدالة السماوية وتبدو الأرض بما رحبت عدوة لما يسمى بـ"قيم السماء" - رغم إن القيم موجودة للميز بين "الخير" و"الشر" مما لا يوجد في أي سماء!- وفي هذه العداوة يختار كثير من الناس حسب ثقافتهم الإنحياز إلى "القيم السماوية" بدعاوى تتراوح بين النجاة من الفتنة والنار، وبين الإصلاح .

    في هذا الخضم الذي يزيد بعض محاسن التدين ولكنه يكثر عليها بالأضرار والمفاسد تبدو المهمة الموضوعية للقوى الثورية هي كشف التناقض الطبقي الأساسي المدمر لتناسق الأعمال والقيم الذاتية، والأعمال والقيم الإجتماعية والدينية، ذلك التناقض الذي يتحول فيه بعض المناضلين وبعض الدعاة المصلحين وبعض الناس إلى إنتهازيين وعملاء، ويتحول فيه بعضهم إلى خلوات التصوف والهيام بالعشق الإلهي وطاعة المريد للشيخ وصمته على الحكمة القدسية المتجلية بأعماله، ويتحول بعض آخر منهم إلى دروب التدين السياسي، بينما يتحول أكثر الناس من هذا وذاك إلى دروب الكسب التجاري وإبتغاء الربح حلالاً طيباً أو غير طيب غير آبهين بتزايد وتائر الإستغلال والتهميش التي يلقون فيها أيدي إقتصادهم وحكمهم ونظامهم وتدينهم في تواكل وإغتراب وإستلاب ذاتي يتحول به الفرد في خضم معارك الحياة إلى حيوان مستهلك وكائن ذاتي مغلق أصم أبكم أعمى إجتماعياً إلإ عن مصلحته إذ لا يسمع ولايرى ولا يتكلم إلا مصلحته الضيقة في رفع الأسعار أو حتى في إتقاء شر الحكومة وغير ذلك من مصالح يفرعنها إلى ان تنقلب ضده.

    ان الوعي بالمصالح الطبقية للكادحين ومحاور التغير الإجتماعي في التاريخ هوالأساس في الوعي السليم بالمصالح الوطنية والعالمية وبالأفق الإنساني والإسلامي لحرية الطبقات والمجتمعات المستضعفة من الجوع والخوف، وبالضرورة حريتها من الأدوات العامة لتوليد هذا الجوع والخوف وهي الأدوات الماثلة في عملية تطفيف وتبخيس موازين العمل والإنتاج بإحتكار ملكية وسائله بين أناس جوعى جوعاً مزمناً مركباً للطعام والسكن والمعرفة والعلاج يكلفهم وضعهم البائس في الحياة بالعمل والإنتاج لمصلحة هذا المالك او ذاك وفق تعاقد بين إنسان مكره بالجوع على العمل المأجور ومكتنز قادر على تبديله بغيره، وبعد هذه القسمة الضيزى للملك والإنتاج بين الملوك وأهل القرى يستأئثر المُلاك بلم ثمرات هذا الإنتاج من الكادحين الفقراء والمساكين يكنزه الواحد منهم أو يسفهه وفق ما يهوى، ويترك بهذا الإنفراد والإستئثار للمستضعفين الضنك والفقر يقتاتون من فضله، بينما يزيد مستغلهم بما فاض من صرفه حسابات البنوك (الكافرة) أرقاماً عدداً يعلم إنها تستخدم كثيرا منها في إستضعاف كثير من المسلمين لأسباب طبقية وتاريخية.

    دون توصيل هذا الوعي بأسس إعلامية جماهيرية ونقابية وحزبية منظومة متناسقة ومتزامنة إلى القطاعات الطبقية الأهم في التحول الإجتماعي (أي العمال ودوائرهم لا بين بعض فئات البرجوازية الصغيرة) تبدو عملية حصر الإرهاب في ركن قصي هامشي مجرد تصور يختلف مع الوقائع الوطنية والدولية للصراع الطبقي والعالمي بين قوى الإستعمار والإمبريالية وقوى العمال والشعوب المستضعفة ، كما إنه يفتقد التناسق جهة معطياته القومية والدولية. صحيح إن الإرهاب مهدد للجميع كمنتج إقطاعي لفوارس العصور الوسطى ينشط في العصر الرأسمالي الحديث ضد كل المتعاملين مع الطاغوت (وهونفسه منهم)، إلا ان سحب بساط الظلم الطبقي الذي يقف عليه الإرهاب منتصباً كداعية رباني للعدل الإلهي أو يحمله كـ"قميص عثمان" يحد كثيراً من مشاداته وغلواءه. كذلك تجريده الفلسفي والفكري من المصاحف التي يحملها على أسنه رماحه، بمعرفة نحوها وصرفها والتوافق والتناسخ بين سلاسة معاني آياتها وترتيب نزولها وحكمة وضعها وترتيبها وجمعها على النحو العثماني أو تطور فقهها السني والشيعي على ضوء الاوضاع الطبقية والقومية أموية وعباسية ..إلخ
    غير إن أكثر ما يفيد في هذين العملين هو ربط علوم الحكمة والفلسفة والتاريخ بدراسة الدين والتخصص فيه ليعرف المتعلم الفروق بين المراحل التاريخية والمراحل العامة لتطور المجتمعات والحكم العامة والأديان والقوانين والعلوم وعلاقة التفاسير بالظروف المجتمعية حتى يتقين المرء من معنى آية ((إنما يخشى الله من عباده العلماء))، فدون حكمة نجد المعاني الدينية تفيض عن السعة الضيقة للمعيشة والأذهان وتتحول إلى جهود ودماء مهدرة بإسم إقامة الفضيلة والشريعة والحقيقة وإبداء النصحية بينما تتحول رؤوس أموالها إلى مؤسسات مالية وتجارية سرطانية تغذي الفقر وموبقاته ويتعثر به الناس في طرق وعرة للعيش والحياة يتصادمون في ظلمات لياليه الطويلة في بيوت خالية من الأقارب والضيوف بينما قادتها قادة (الإنقاذ) يعمهون في دواب فاخرة وقصور جنانية يتطاولون بنيانها وأنوار متلألئة ومنازل أوربية لها خدم وحشم وسكرتارية وأولادهم يدرسون في أرقى الجامعات وأولادنا يدرسون في شبه خلاوي بائسة تمتد من أرياف السودان إلى ماليزيا يضحى بها بعض حفاظ المعاني الدينية والمهوسين بحمايتها كالحمار يحمل أسفاراً، لا يدرون الفرق بين حكمة العقوبة وحكمة العلاج الطبي النفسي للمجرم، ولا الشبه والتوافق والإندغام بين ربا المال وربا العمل، ولا يدرون إننا نحن المسلمين الآوائل نقاتل الطاغوت العالمي للبنوك والموسسات المالية والتجارية الربوية وفرقتهم العميلة له، لا نشرك بذلك شيئاً، وإنهم إذا قيل لهم على سبيل الإقتباس من آي القرءآن: لا تفسدوا في الأرض بدعمكم تطفيف موازين الإنتاج والعمل فيها ورعوكم تبخيس حقوق العاملين في عملهم قالوا إنما نحن المصلحون! بلى إنهم هم المفسدون ولكن أكثرهم لا يشعرون. وقد لاتجدي هذه المحاجة في مشروع تقرير سياسي ولكنها ضمن السياق الإنتقادي لعمل مشروع لجنة تسيير المناقشة العامة قد تسد جانباً من النقص الذي لم يُحسن سده، على الأقل حين تميل سطور المشروع من ميلها السابق إلى الحزب الجماهيري المستذخر بالتراث إلى مواجهة تنظيم جماهيري كالحركة الإسلامية تصفه بأنه ((تشكل ترياقاً مضاداً للتحول الديمقراطي والتغيير الاجتماعي)) بينما من المعروف إن الترياق يكون للسم لا للخير ، وإن خان التعبير المعنى الجميل في هذه الجملة، فإن سياق هذه الخيانة، يكشف عن شدة في كيفية التعامل الحركة الإسلامية بأسماءها وتنظيماتها المتنوعة مما يختلف عن تجاوز مشروع التقرير لمسآئل أهم مثل "مسألة التأميم" التي تحد كثيراً من النشاط الإقتصادي للقوى الداعمة للإرهاب أو المتعاطفة معه بأقوالها أو باعمالها أو بأموالها أو بمراعاتها مصالح منسوبيه، مما يجعل من المنطقي أن ينشأ سؤآل بسيط عن طبيعة تمسك مشروع التقرير بشكل موارب بنظام التملك المفرد الخاص لوسائل إنتاج المجتمع ضرورات عيشه وحياته بكل ما ينتجه ذلك الإنفراد بالتملك من أزمات وحركات دينية سياسية، ثم إختلاف المشروع عن سماحه بهذا السبب متجهاً إلى محاربة نتيجته (الحركة الإسلامية | الإرهاب) ووضعها في ركن قصي تمهيداً لدحرها بما يختلف تماماً عن صيغة المؤتمر الجامع وطبيعته التنظيمية القائمة على التراضي والتوافق؟؟

    الأنجع هو وقف أسباب نمو الحركة الإسلامية وكل الحركات المشابهة بالحد من حياة جذورها الطبقية والثقافية القائمة في نظام التملك المفرد الخاص لوسائل إنتاج المجتمع لضرورات عيشه وحياته فهذا النظام يفصم بين القيم الدينية والدنيوية بل ويفصم بتناقضاته كل مجموعة قيم أو أعمال ويفتتها مستهلكاً لها حتى القيم العلمانية التقدمية كالعقلانية والحرية والتعاضد والإخاء والمساوآة والإشتراكية إستهلكها وألقاها كخرقة يرفعها بين الحين والآخر وهو يصيح الحضارة، المدنية، العقلانية، المصالح المشتركة، المجتمع المدني، حقوق الإنسان، العنف ضد النساء، بينما جنوده ومجنداته يغتصبون الرجال والنساء والأطفال في المعتقلات. مما لم يسلم منه حتى الإرهابيين الذين دربوهم في أفغانستان والعملاء الذين نظموهم في العراق. ولا يدفعنا الغضب إلى التعامل برد الفعل على أزماتنا الوطنية والقومية والدولية، ولكن لا يجب أن ننكفي على وقائع التراث أو آفاق المعاصرة، دون إتعاظ بوقائع الحاضر اليومية والطبيعة الطبقية لمعاركه، تلك الطبيعة التي تؤكد بالمجاعات والمعتقلات والمحارق التي تنتجها كل يوم أهمية التغيير الإجتماعي والتحول الديمقراطي الشعبي بهندسة إجتماعية تخرجنا من نظام الإنفراد والإختصاص بوسائل وخيرات الإنتاج دون جهوده إلى نظام يناسب القيم الكريمة في تراثنا وحاضرنا تتحقق به الأسس المادية والثقافية لإشتراك الناس في الناس في تملك وسائل وأسباب عيشهم وحياتهم وفي تنظيم جهود إنتاجهم على هذه الوسائل وحيازتهم ثمرات كدحهم عليها، وهو النظام الذي يتيح إمكانية موضوعية عادلة بإنفاذه حقوق العمل والسكن والتعليم والعلاج والتعبير والتنظيم...إلخ لأن يتنافس فيه عملاً وعلماً وتقل فيه الأسباب المادية والثقافية لكثير من الإختلالات والعلل الإجتماعية بما يسلم به الناس فعلاً من الجوع والخوف بعملهم وتنظيمهم لنفسهم لا بجهد جباة الأموال وجيوش الخليفة وعسسه وإقطاعاته ومواليه.

    20- العواقب الوخيمة لفصل مشروع التقرير بين الطبقي والإجتماعي وبين الإجتماعي والوطني في إطار مباعدته وفصمه ضرورة الترابط بين تطور القوى المنتجة والتغيير الهندسي الإجتماعي لعلاقات الإنتاج:
    يقول نص التقرير(تقويم الحزب لثورة اكتوبر 1964 طرح الحزب انها أهم ثورة قام بها الشعب السوداني بعد الثورة المهدية. ومستلهماً تجارب التحالفات الجبهوية العريضة في التاريخ السوداني، القائمة على واقع التعدد والتنوع في السودان، والتي افضت الى قيام مملكة سنار مطلع القرن الخامس عشر الميلادي، والى انتصار الثورة المهدية في 1885، ثابر الحزب عبر تاريخه في رفع الشعارات والدعوات لقيام التحالفات الجبهوية الواسعة على سبيل تمكين الشعب من تحقيق الانتصارات لاهدافه وقضاياه . وكان من ابرز تلك التحالفات التي ساهم الحزب في تأسيسها أو الدعوة لها:- الجبهة المتحدة لتحرير السودان على ايام المستعمر الاجنبي، الجبهة المعادية للاستعمار، الجبهة الوطنية الديمقراطية، جبهة الهيئات في اكتوبر 1964، جبهة عريضة للديمقراطية وانقاذ الوطن على ايام نميري، التجمع الحزبي والنقابي تحضيراً للانتفاضة، التحالفات القاعدية بين الطلاب والعمال والمهنيين..الخ، وحدة قوى الانتفاضة بعد انتفاضة مارس ابريل 1985، التجمع الوطني الديمقراطي لمقاومة نظام 30 يونيو1989، واليوم ايضاً يطرح الحزب الشعار، ويوجه الدعوة النضالية، لوحدة قوى المعارضة عبر التنسيق والعمل المشترك بين فصائلها لانزال نيفاشا الى ارض الواقع وعقد المؤتمر الجامع لتحويلها من الثنائية الى رحاب القومية. )) ولكن في هذا العرض الصاعد تبدو بعض النقاط المفسدة تناسق التقرير والحزب وهي:

    1- أهمية حركة وثورة 1924 ماثلة في قيامها المتقدم عصره بربط واعي للعوامل الطبقية والوطنية والقومية والدينية والأممية:

    في هذا الفقرة من مشروع التقرير يغيب موقع ثورة 1924 التي بطبيعة تنظيمها الحديث المخدم لتكنولوجيا البرق والدفاتر المالية والطباعة المتعددة المراكز والاجتماعات المنتظمة والسرية والتحالفات والترابطات بين المدن الرئيسة والريفية هي التي بكل ذلك التنظيم وبوعي متقدم نقلت الوعي في السودان من رحى المجتمع القديم شبه البدوى إلى مشارق التنظيم الثوري المدني والعسكري لجهود المواطنين وإتصال ذلك بنشاط كوادرها الثورية والوطنية وعلاقاتها ببرنامج الحزب (الشيوعي) المصري القديم و(التنسيق) بين قوى الخلافة العثمانية وقوى الثورة الإشتراكية في روسيا لمعاناتهما من ضغط إنجلترا (راجع: محاكمة صالح (ود الحاجة) المطبعجي 1924) + (د.جعفر محمد علي بخيت:"الإدارة البريطانية والحركة الوطنية في السودان"و"نشاطات شيوعية في الشرق الأوسط بتركيز خاص على مصر والسودان 1919-1936" + د. رفعت السعيد: "ثلاثة لبنانيين في القاهرة"أحدهم صارمديراً لمطبعة السودان نافذا منها لحركة اللواءالأبيض)،. وإضافة إلى ذلك فقد كانت ثورة 1924 أول ثورة في السودان ربطت بوعي تقدمي مذهل حتى اليوم بين كل من العامل الطبقي والإجتماعي والوطني والقومي والديني في إطار قومي سوداني مصر ديني موحد تحت راية الخلافة الإسلامية العثمانية ضد الإستعمار الأجنبي، فهي بهذا الربط أهم من ثورة أكتوبر1964 التي تغلب فيها عامل المصلحة السياسية والفئوية (جبهة الهيئات) وليبراليتها المحلية على العامل الثوري الطبقي العمالي الكامن في مسآئل تغيير ملكية وسائل الإنتاج (أراضي الزراعة والبنوك والاعمال المالية والتجارية) وعلى العامل القومي ضد مؤسسات الإستعمار الحديث وشركاته، بينما كانت قوى ثورة 1924 سباقة إلى مطالبتها بإصلاحات زراعية وتجارية كانت ستغير العالم لولا القمع العسكري الإستعماري العنيف الذي واجهته تلك الثورة بشجاعة قبل هزيمة قواتها وتفرق جموع تنظيمها، بصورة تختلف عن إنسحابية ثورة أكتوبر وتبددها في رحاب الليبرالية والطائفية، إضافة إلى كون ثورة 1924 وتوابعها في حركة الجمعيات والتنظيمات (الثقافية) مثلت دور المدرسة الثورية التي أنتجت بعض أساتذة قادة أكتوبر.

    إن إتخاذ ثورة اكتوبر1964 نموذجاً يتطلب إيضاح نقاط قوتها في المجال السياسي وفي المجال الإقتصادي وفي المجال الإجتماعي وفي المجال الثقافي وكذلك نقاط ضعفها في كل مجال من هذه المجالات بصورة تتيح لقارئي التقرير معرفة ومقارنة نقاط القوة ونقاط الضعف في تلك الثورة مع بعض التواقيت والعوامل الجانبية ليتسنى إمكان موضوعي للحكم بصورة موضوعية كذلك على ما سماه مشروع التقرير رأي الحزب سنة ...في إن ثورة أكتوبر هي أهم ثورة في السودان بعد الثورة المهدية وحيثياته الموضوعية الآن!

    إن التقويم الموضوعي للثورات الناجحة منها والفاشلة يبدو غريباً في مشروع التقرير فمن جهة نظره إن ثورة أكتوبر الإشتراكية 1917 التي إستمرت قرابة قرن بكل ما حققته من إنجازات سياسية-إقتصادية إجتماعية مادية وعلمية وثقافية هي ثورة فاشلة بمعايير (ليبرالية) يسميها ماركسية بينما ثورة أكتوبر 1964 الليبرالية التي لم تعش إلا حوالى ثلاثة أشهر ولم تحقق شيئاً يذكر لا في المستوى المادي أو العلمي أو الثقافي إلا إمكانية الخلاص من الديكتاتورية عسكرية وهو شرف كبير لها، فإن مشروع التقرير يستند في تقرير نجاحها واهميتها إلى مرجعية رهيبة هي "رأي الحزب"..وهو نفس الحزب ونفس الرأي المركزي الذي ينظر إلى ثورة أكتوبر الإشتراكية العظمى كـ((أعظم حدث في تاريخ الإنسانية)) بينما المطلوب من التقرير السياسي مناقشة كثير من أرآء الحزب الماضية والحاضرة والتحقق من موضوعيتها بمعيار ظروف الصراع الطبقي في تلك المرحلة وفي الزمن الحاضر مع تقدير منصف للإيجابيات ومجاملات تفرضها ضرورات الوفاء والعرفان والأدب والذوق لنضالات السابقين الذين أفنوا حيواتهم فيها لأجلنا ولأجل مستقبل أفضل لأجيالنا القادمة، فدون هذه النظرة المتوازنة طبقياً تقل الموضوعية ويضمحل الأدب السياسي من عناصر القوة والضعف ليصير دعاية أو دعاية مضادة، تتناول الأشياء كتلة واحدة بمعنى واحد، بينما المقام مقام مؤتمر وتقوميات وأدوات نظرية ومناهج وقياس تطبقيات..إلخ

    2- ضرورة نقد السلبيات التي نشأت في ظل هيمنة التحالفات السياسية القديمة في تاريخ السودان:

    في تناول لمسألة التحالفات يقول نص مشروع التقرير: ((مستلهماً تجارب التحالفات الجبهوية العريضة في التاريخ السوداني، القائمة على واقع التعدد والتنوع في السودان، والتي افضت الى قيام مملكة سنار مطلع القرن الخامس عشر الميلادي، والى انتصار الثورة المهدية في 1885،)) بجلاء كامل يظهر مشروع التقرير -في هذه الفقرة- تجاهله لنقد هذه التجارب التاريخية وسكوته عن إيضاح بعض الأبعاد العنصرية التي إتصلت بسياساتها الطبقية في تمليك الأراضي وتولي الوظائف، وجمع الضرائب وصرف العطايا، لا بإسقاط أحكام ومقاييس الحياة الرأسمالية الحديثة على ذلك التحول القديم لقوى الهامش والمستوطنين العرب من هيمنة نظام شبه العبودية الفرعونية إلى نظام الإقطاع العنصري الذي مثلته مملكة سنار العربية الإسلامية وكثير من الممالك العربية الإسلامية المشابهة لها في شسوع ذلك السودان القديم مثل المملكة العباسية في تقلي، ومملكة المسبعات في كردفان، وسلطنة دارفور، ومملكة الكنوز في الشمالية ..إلخ ، ولكن بنقد الآثار الإجتماعية التاريخية التي تولدت منها في حياة السودان بما في ذلك خلاف الأشراف والسودانيين في الدولة المهدية المخفي بإسم (أولاد البحر وأولاد الغرب) فالإحتفاء بالإيجابيات في هذه الفقرة وفي غيرها مهم جداً في التقويم الموضوعي لظواهر التاريخ خاصة إذا ما إتصل إيراد تلك الإيجابيات بذكر وإيضاح طبيعة بعض النقاط السلبية الرئيسة. ومناقشة بعض النقاط المتصلة بما طرحه المشروع مثل طبيعة التدين والجغرافيا الإثنية- السياسية وطبيعة التدين في مراكزها وقيادتها وفي أطرافها وهوامشها، والأهم طبيعة توزيع الدخل العام فيها مما كشفه الأجلاء الأساتذة الدكاترة محمد إبراهيم أبوسليم، ومحمد سعيد القدال ثم تناوله بعمق متنوع الاستاذ محمد إبراهيم نقد ود. فاطمة بابكر .

    3- في قوة وفي ضعف الجباه والتحالفات ذات الطبيعة الفضفاضة:

    يذكر مشروع التقرير عدداً من الجباه ينسى فيها الجبهة الوطنية التي تأسست في أوائل خمسينيات القرن العشرين في مدينة الأبيض برعاية الشيخ محمد بخيت على "حبة" أحد أثرياء المدينة وعضو مجلس الشيوخ الأول، وكان من منسوبيها الطلاب آنذاك أ/محمد سعيد معروف، وأ/الفاتح النور، ود.مكي حسن أبو، ود. علي التوم، ومحمد الحسن عبدالله ياسين، وقد عقدت الليالي السياسية وإنطلقت التظاهرات من أنشطتها تهتف بسقوط الإستعمار، وأججت ودعمت إضراب مدارس خورطقت وغير ذلك مما يدخل في تاريخ تلك المدينة وشخصياتها المغمورة، النقطة الأهم هي إن الطبيعة الفضفاضة والفوقية لهذه التحالفات وزعاماتها كانت أضرارها أكثر من فوائدها، وأن إنتصاراتها الظاهرية كانت في الواقع هزائم عميقة لتيار التغيير الإجتماعي مما يدفع تقويم جديد لها يناسب قضية الإستغلال والتهميش.
    B]
    ..........يتبع
                  

العنوان الكاتب Date
مشروعات للحزب الشيوعي..........بقلم / المنصور جعفر عاطف مكاوى04-14-08, 10:24 PM
  Re: مشروعات للحزب الشيوعي..........بقلم / المنصور جعفر امبدويات04-14-08, 10:28 PM
  Re: مشروعات للحزب الشيوعي..........بقلم / المنصور جعفر عاطف مكاوى04-14-08, 10:35 PM
    Re: مشروعات للحزب الشيوعي..........بقلم / المنصور جعفر Hussein Mallasi04-14-08, 10:38 PM
    Re: مشروعات للحزب الشيوعي..........بقلم / المنصور جعفر عاطف مكاوى04-14-08, 11:20 PM
  Re: مشروعات للحزب الشيوعي..........بقلم / المنصور جعفر عاطف مكاوى04-15-08, 06:22 AM
  Re: مشروعات للحزب الشيوعي..........بقلم / المنصور جعفر عاطف مكاوى04-15-08, 03:23 PM
  Re: مشروعات للحزب الشيوعي..........بقلم / المنصور جعفر عاطف مكاوى04-15-08, 08:54 PM
    Re: مشروعات للحزب الشيوعي..........بقلم / المنصور جعفر عاطف مكاوى04-15-08, 09:01 PM
  Re: مشروعات للحزب الشيوعي..........بقلم / المنصور جعفر عاطف مكاوى04-16-08, 00:52 AM
  Re: مشروعات للحزب الشيوعي..........بقلم / المنصور جعفر عاطف مكاوى04-16-08, 06:04 AM
  Re: مشروعات للحزب الشيوعي..........بقلم / المنصور جعفر عبد الوهاب المحسى04-16-08, 07:17 AM
    Re: مشروعات للحزب الشيوعي..........بقلم / المنصور جعفر يحي ابن عوف04-16-08, 09:14 AM
  Re: مشروعات للحزب الشيوعي..........بقلم / المنصور جعفر عاطف مكاوى04-16-08, 06:37 PM
    Re: مشروعات للحزب الشيوعي..........بقلم / المنصور جعفر Abureesh04-16-08, 07:18 PM
  Re: مشروعات للحزب الشيوعي..........بقلم / المنصور جعفر عاطف مكاوى04-17-08, 04:12 AM
  Re: مشروعات للحزب الشيوعي..........بقلم / المنصور جعفر عاطف مكاوى04-25-08, 06:28 PM
  Re: مشروعات للحزب الشيوعي..........بقلم / المنصور جعفر عاطف مكاوى04-26-08, 03:56 AM
  Re: مشروعات للحزب الشيوعي..........بقلم / المنصور جعفر عاطف مكاوى04-27-08, 04:46 AM
  Re: مشروعات للحزب الشيوعي..........بقلم / المنصور جعفر عاطف مكاوى04-27-08, 05:24 PM
  Re: مشروعات للحزب الشيوعي..........بقلم / المنصور جعفر عاطف مكاوى04-28-08, 02:27 PM
  Re: مشروعات للحزب الشيوعي..........بقلم / المنصور جعفر عبد الوهاب المحسى04-28-08, 03:45 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de