عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-18-2024, 07:27 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثاني للعام 2008م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
03-01-2008, 11:04 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟


    كتب د. عبدالله على ابراهيم بجريدة الرأى العام مقالا بعنوان (منصور خالد والأستاذ محمود محمد طه: قصة قصة قصة)
    من بين ثنايا المقال لا يخفى على القارىء محاولة د. عبدالله الإيهام بأن الجمهوريين يتهمون منصورا بسب الناس وذلك قطعا ما لم يدر بخلد الجمهوريين، فالجمهوريون إنما رموا لأن ذات الحديث الذى قلناه نحن "الجمهوريين" عن القضاة الشرعيين قد قاله عنهم الدكتور منصور خالد وهو فى الحالتين حق ولكن إنما ترك القضاة منصورا وشرعوا يستأسدون علينا نحن الجمهوريين لأن منصورا تسنده سلطة ونحن لا سلطة لنا. كان القصد تبيين خور وجبن القضاة الشرعيين عن مواجهة "ذوو الشوكة" وقد ظل ذلك ديدنهم، هم وعلماء السوء الذين يتوددون للحاكم طمعا فى دنيا يحبونها لأنهم أصلا لا دين لهم ولا يؤمنون بآخرة يركلون الدنيا من أجلها.
    الأستاذ محمود محمد طه، ومن بعده أبناءه الجمهوريين يعرفون للدكتور منصور خالد قدره، وهو يعرف ذلك، ويجلونه لأنه من قلائل السودانيين الذين عرفوا زيف رجال الدين، الذين يتوددهم الآن الكاتب عبدالله على ابراهيم، وقد ظل منصورا ينافح عن الأستاذ وعن فكره كلما سنحت سانحة، لا يتردد فى ذلك ولا يطرف له جفن وهو يعرف أن الأستاذ محمود "لا خيل عنده يهديها ولا مال"، وكذلك الجمهوريين، ولو كان كذلك لكان عبدالله على ابراهيم من "المرابطين" فى حولياتهم، زابا عنهم وعن حياضهم.
    سألت صحيفة البيان الأمارتية منصورا عن ما الذى يربطه بالجمهوريين، فأجاب: (الجمهوريون قادتنى اليهم فحولة فكرية وخصائل شخصية. كثيرون كانوا يقدرون فى الجمهوريين تلك الفحولة دون أن يشاركوهم الراى ناهيك عن الإنضواء تحت لواء تنظيمهم .
    من بين الخصال التى حببتهم الى نفسى , أدب الخطاب وتجويد الكتاب والتوافق المبهج بين السر والعلانية وربما كان مقتل محمود على يد نميرى هو أكبر حدث حملنى الى القطيعة البائنة معه .)
    لذلك ولغير ذلك فقد نقل لى بروفسير عبدالله النعيم فى شريط سجلته معه بجورجيا أن منصورا حين قرر مغادرة السودان اتصل بالنعيم وقال له أنه ذاهب لوداع الأستاذ محمود وترجاه أن يكون هناك، فقال بروفسير عبدالله أنه ذهب ووجد منصورا وصديق له اسمه صلاح منديل (كان وقتها مهندسا ورجل أعمال بسويسرا) وقد قال أن منصورا قال للأستاذ "غنت الزوال الوحيد الـ ح أودعو فى السودان، لأنك الزول الوحيد البتستحق... وما شايل معاى من السودان غير كتبك) انتهى
    كان السلفيون قد أوعزوا الى النميرى أن الجمهوريين قد استطال شرهم ولا بد من قطع شأفتهم، تولى كبر ذلك أحمد البيلى وآخرون، فى وثيقة نحتفظ بها وكتبنا عنها كتابا. كان منصور وقتها وزيرا فى حكومة النميرى، ومقربا منه، فأستشاره النميرى فى الأمر، وقد نقل منصور بنفسه للدكتور عبدالمنعم ساتى، الذى سمعت منه هذه الشهادة بأكرا، بغانا، أن منصورا قال للنميرى، نفتح التلفزيون وليناظر هؤلاء الرجال "العلماء بزعمهم" محمودا وليحكم الشعب. قال منصور أن النميرى كلفه بأن يتثل بهؤلاء "العلماء" ليفعلوا ذلك وقال أنه ذهب لهم ولكن كل واحد منهم كان يعتذر ويقترح أحدا غيره. هؤلاء هم علماء الدين عندنا يلوذون عند المواجهة الفكرية ويريدون أن يصفوا خصوماتهم مع أعدائهم غيلة وغدرا وذلك ما نجحوا فيه ومع ذلك يجدون من يطبل لهم مثل الدكتور عبدالله على ابراهيم.
    منصور خالد رجل يحبنا، لأنه يحب الحق ونصرة المستضعفين، ونحن نحبه لذلك ولكن عبدالله على ابراهيم رجل قلبه دائما معلق بموائد معاوية ولا صلاة له خلف على.


    د. عبدالله على إبراهيم و"إنثروبولوجيا خبر" البداليات

    (عدل بواسطة عبدالله عثمان on 03-01-2008, 11:06 PM)
    (عدل بواسطة عبدالله عثمان on 03-02-2008, 04:49 PM)

                  

03-01-2008, 11:09 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    منصور خالد والأستاذ محمود محمد طه: قصة قصة قصة



    د. عبد الله على إبراهيم
    [email protected]

    يمثل الأستاذ نبيل أديب عبد الله المحامي الدكتور منصور خالد في قضية إشانة السمعة التي رفعها ضد جريدة الإنتباهة. ومع أن للمحاماة أعرافها في خوض القضايا إحقاقاً للحق بغض النظر عن رأى المحامي في طبيعة المتهم أو التهمة إلا إنني استغربت شئياً ما أن يكون نبيل طرفاً في القضية لسببين. أما السبب الأول فهو رأي نبيل (الذي هو أميز من يكتب هذه الأيام عن مادة إشانة السمعة وحرية التعبير) أن هذه التهمة من مثبطات النقاش الوطني ومبطلات دوران الرأي في الشأن العام. فلو وقع لي حديث نبيل أديب فهو على الحجة التي ترى في دعوى إشانة السمعة مصادرة للحق في انتقاد الحكام.

    وبدا لي من عرضه الجيد لهذه المادة أن قانوننا يكفل هذا الحق لأنه استثنى من الحماية كل مشتغل بالعمل العام. وبدا لي أن نبيلاً ميال لأعراف القانون الأمريكي حول القذف دون سواه لأنه لا يتطلب من شانيء المشتغل بالعمل العام أن يثبت صحة أقواله عنه. فلو طالبناه بمثل هذا الإثبات لعطلنا النقاش الحر لأن الوقائع كثيراً ما خفيت. وهكذا يرخص القانون الأمريكي للمعلقين على رجال الشأن العام ونسائه حق الخطأ في إيراد الوقائع طلباً لليقظة تجاه أدائهم ومساءلتهم باستقامة لا تهدأ أو تكل. فمن مستحبات الأمريكان أن تخطيء، طالما أخطأت، على الجانب الصحيح من المسألة. وليس هذا الترخيص دعوة للسفه بإطلاق القول على عواهنه بالطبع. فالصحف من جانبها تأخذ هذه الطلاقة القانونية بجدية ومهنية تفلفل فيها قصصها فلفلة فلا تخرج الواحدة منها للنشر إلا بعد تمحيص لا يترك شاردة ولا واردة.

    أما السبب الثاني فهو أن نبيلاً، مثل كل اليساريين من جيلي، ترعرع على ذائعة عمالة منصور للأمريكيين التي هي القضية موضوع الحديث. وصحيح القول أن الانتباهة لم تبتدع تهمة هذه العمالة وإنما اتبعت الشيوعيين فيها حذو النعل بالنعل . وهي عبارة تعلمناها من حبيبنا صلاح أحمد إبراهيم. ولم نسأل جيل منصور من رفاقنا الشيوعيين على ما قالوا عن منصور خالد برهانا. وكان آخر شانئة لمنصور من الشيوعيين بهذه العمالة في كتابهم الذي قوموا فيه اتفاقية أديس أبابا 1972. ثم أسقطوا التهمة بالتقادم وبغير شرح حين أعادوا نشر الكتاب بالقاهرة في التسعينات. ووصفت هذا الاختلاس الثقافي في وقته ب "خفة اليد الثورية". ووجدت الأستاذ محمد إبراهيم نقد في كتاباته قبيل خروجه من المخبأ عاتباً على رفاقه الذين تطفلوا على نص الكتاب. وسيكون من الطريف بالطبع أن يستجوب نبيل رفيقاً شيوعياً متى استدعته الإنتباهة ليشهد لها.

    لو عامل الناس منصوراً بالمثل لما خرج من محاكم إشانة السمعة لحظة واحدة. فالقذف سليقة تجري على قلمه. وليس ذلك لأن منصوراً سيء الطوية بل لأنه خريج مدرسة التفاصح العربي التي تطغى فيها محسنات اللغة وبديعها بصورة تصبح الوقائع نفسها عَرَضاً. فاللغة عند أهل هذه المدرسة ليست حالة من الوعي بل هي محفوظات أولية لتسويد صحائف "في متونهن جلاء الشك والريب". فقد وصف منصور الدكتور خالد المبارك، مدير معهد الموسيقي والمسرح في آخر السبعينات وأوائل الثمانينات، في كتابه "المخيلة العربية" بأنه من المرابطين في ثغور مايو يأكل تمرها عن آخره قبل أن ينقلب عليها ويرميها بالنوى. وأنه التحق بجوقة المايويين مديراً لمعهد الموسيقى والمسرح. وأنه صَوَّت لصالح دعوة الرئيس نميري في وجه اعتراض بعض الأساتذة وكانت عقوبة هؤلاء المعترضين الفصل بتهمة الشيوعية. عَقاب ما يويتك وقذف نواك يا منصور! لقد كنت طرفاً في هذه القصة كعضو بمجلس المعهد الأكاديمي. وأشهد الله ما رأيت في حياتي، وقد بلغت هذا المبلغ من العمر، رواية لواقعة افترسها سوء النية وشح النفس كمثل رواية حادثة معهد الموسيقي والمسرح. وقد أخذها منصور بذبابتها عن الشيوعيين لم يحقق فيها بصورة مستقلة فيسأل المعاصرين لتتكافأ فصاحته ووقائعه. وعايرة ومحطها سوطاً.

    أما أدق من نظر في فلتان منصور عن الملاحقة القضائية بإشانة السمعة فهو المرحوم الأستاذ محمود محمد طه وتلاميذه. فقد وقف الأستاذ وحواريوه بمحكمة بورتسودان عام 1975 متهمين بإشانة سمعة القضاة الشرعيين. وكان الجمهوريون قد نظموا معرضاً لهم بالمدينة.ووضعوا بخط كبير على ملصق عبارة للأستاذ عن هؤلاء القضاة بعد حكمهم عليه بالردة في 1968 قال فيها إن قضاة الشرع ( أذل من أن يؤتمنوا على الأحوال الشخصية، لأنها أخص وأدق القوانين لارتباطها بحياة الأزواج والزوجات والأطفال ، وفي كلمة واحدة --العرض). وزادوا بكلمة أخرى من الأستاذ ( متى عرف القضاة الشرعيون رجولة الرجال وعزة الأحرار وصمود أصحاب الأفكار).



    ولما انعقدت المحكمة قرأ السيد أحمد سليمان المحامي (الجمهوري) للشاكي ما كتبه منصور عن القضاة الشرعيين في كتابه "حوار مع الصفوة" (1974) وجاء فيه: " نريد وقد خرجتم من سلطانكم المشروع كقضاة أنكحة وميراث. . نريد أن نسمع حكم الإسلام في الأمام الكاذب والوالي الظالم والوزير السفيه. نريد حكمه في السفاه السياسي الذي نعيشه اليوم وهو سفاه شيوخ ولا حلم بعده. شيوخ يرتدي بعضهم قفطانا مثلكم ويتمنطق بحزام مثلكم ويضع على رأسه عمامة كشأنكم." وسأل المحامي الشاكي إن لم يكن كلام منصور هذا إساءة للقضاة الشرعيين. فرد الشاكي سلباً معتذراً لمنصور بأنه "من اصحاب الطموح السياسي يكتب ويسخر لاغير." فتدخل السيد بدر الدين السيمت المحامي قائلاً:

    السيمت : يا مولانا سفاه الشيوخ الذي لا حلم بعده ، شيوخ يرتدي بعضهم قفطانا مثلكم ، هل هو إساءة أم غير إساءة؟

    الشاكي : لفظ ما مهذب.

    ثم استجوب الأستاذ محمود الشاكي بنفسه لفترة طويلة. وأنكر الشاكي أن مقالة منصور مما يشين القضاة. ثم عاد السيمت فسأل الشاكي إن كان قد علم أن منصوراً قد هاجم محكمة الردة التي قضت بردة الأستاذ في 1968. ثم عرض عليه نصاً آخر من منصور يقول: " من بين رجال الدين هؤلاء طائفة قضاة الشرع. ما كنت أود أن أتناولها بالحديث لو اقتصرت على أداء واجبها كموظفين يتقاضون رواتبهم من مال دولتهم الذي تجبيه من ريع بيع الخمور."

    أما المعاملة التفضلية لمنصور لأنه يقذف ولا معقب على قذفه فقد جاءت في لحظة دقيقة في دراما المحكمة. فقد وقف سكرتير الثقافة بنادي الخريجين ببورتسودان، الذي انعقد فيه معرض الجمهوريين، شاهداً للاتهام. فسأله السيمت:

    السيمت : هل سمعت بالدكتور منصور خالد؟

    الشاهد : شغال شنو ؟

    السيمت : أنت أستاذ في التربية والتعليم والسكرتير الثقافي لنادي الخريجين ولا تعرف الدكتور منصور ؟

    الشاهد : مش الوزير؟

    السيمت : هل تعلم أن الدكتور منصور خالد هاجم القضاة الشرعيين ؟

    الشاهد : لا أذكر.

    السيمت: طيب أذكرك. ده كتاب (حوار مع الصفوة) للدكتور منصور خالد ( يقرأ عليه نصاً منه). هل الكلام دا فيهو إساءة للقضاة الشرعيين؟

    الشاهد : فيهو إساءة.

    السيمت : هل تعرف الأسباب البيها القضاة الشرعيين اشتكونا نحن وما اشتكو منصور خالد؟

    الشاهد : لا أعرف.

    السيمت : هل تفتكر لأنو منصور خالد وزير ونحن ضعيفين؟

    الشاهد : جايز أكون عندهم ضدو قصة.

    وقصة قصة قصه ولسه لسه لسه. إن عقلي موزع بين أمرين. فنصفه العاقل يؤمل أن يتصالح منصور والانتباهة على حد أفكار نبيل، رفيق الصبا اليسارى، الرصينة عن فساد فكرة إشانة السمعة بالنسبة للمشتغل بالشأن العام. وأن يصحب ذلك تحريج على الصحف أن ترتفع بمهنيتها لكي لا تبتذل هذه الرخصة حتى بلغت الشكاوى منها 150 شكوى في بحر العام المنصرم. ونصف عقلي المجنون يريد للمحكمة أن تنعقد ليرى عامة الناس صفوتهم لا كما يريدون لأنفسهم ان يراهم الفراجة من غمار الناس: كل في صغائره زعيم، أو كما قال حبيبنا محمد المهدي المجذوب.


    http://www.rayaam.sd/Raay_view.aspx?pid=84&id=4227
                  

03-01-2008, 11:10 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    من كتاب الدكتور منصور خالد الصادرة طبعته الأولى في عام 1986..

    وقد كان إهداء الكتاب موجه للأستاذ محمود محمد طه:

    إلى روح الأستاذ محمود محمد طه الذي ذهب مبغياً عليه في عهد اللوثة ولسان حاله يقول:

    "يا أحبابي في بلد الأشياء".
    "في بلد المشي على أربع".
    "هذا آخر عهدي بوجوهكم السمحة"
    "بعقولكم العطشى للإنجاب الفكري
    الممنوع"
    "فالحكم الصادر، لقضاة مدينتكم في مجلسه
    المرموق"
    "عالجني بالموت"

    انتهى...
    هامش: الشعر الذي أورده الدكتور منصور هو من كلمات الشاعر محمد أبو دومة..
                  

03-01-2008, 11:11 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    وقد كان فوت الموت ســهلا فرده إليه الحفاظ المر والخلق الوعـر
    فأثبت في مستنقع المـوت رجلـه وقال لها من تحت أخمصك الحشر
    غدا غدوة والحمد نسـج ردائــه فلم ينصرف إلا وأكفانه الأجـر
    مضى طاهر الأثواب لم تبق روضة غداة ثوى إلا اشـتهت أنها قبر

    وما كان لمحمود أن يرد عنه غائلة الموت بالجزع، فما جزع من المصائب إلا من اتهم ربه.. وما كان ليدفع عنه البلوى بالانخزال أمام المهووسين، وبدع الدجاجلة، واضطغان الذين ما استطاعوا عبر ما يقارب نصف قرن من الزمان أن يجابهوا الرأي برأي أوثق.. فإن فعل خان ماضيه، وتنكَّر لتعاليمه، وقد عرف الناس الراحل الكريم، على لينِ عريكتِه، رجلاً أصمعيَّ الفؤاد، صلب القناة.. إن الذي يأبى على نفسه من الدنيا الفضول - ولا يطلع غيره على ما لا يعلمه عنه إلا الله، لا ينكسر أمام الموت كما يفعل "إمام" آخر الزمان الذي أكداه السعي وراء الحياة، فراراً في كل معركة، ولواذاً عند كل لقاء، وتهالكاً أمام كل مجابهة، فأين مروءة محمود من مِرائه، وأين حلم محمود من غلوائه، وأين تواضع محمود من خيلائه، وأين جرأة محمود من انخزاله وانزوائه..

    إن اغتيال محمود محمد طه، شهيد الفكر، لرزءٌ أكبر من أن توفيه الدموع السواجم. وما اغتال محموداً دهرٌ خئون، وإنما انتاشته سهام صدئة، أطلقها قضاة تالفون، ودعاة عاطبون، وحاكم فاجر، معتل العقل، آن له أن يلجم..

    لقد ذهب محمودٌ إلى رحاب سنية، وجنابٍ حانٍ، وهو راضٍ، وكيف لا يرضى بذلك، الرجل الذي يودع فلذة كبده، وعينه لا تدمع، وهو يقول لمن جاء لعزائه "لقد ذهب ابني إلى أبٍ أرحم"!! نعم! ذهب محمود إلى ذاك الأب الأرحم، وبقينا نحن في خُلْف شعورٍ وزمانٍ عقيمٍ عقم الخصي الأوكع الذي قتل أباً شجاعاً فتاكاً - نعم! بقينا نحن في زمان كزمان الصوفي المتبتل أبوبكر الواصلي، زمانٌ ليس فيه آداب الإسلام، ولا أخلاق الجاهلية، ولا أحلام ذوي المروءة، فما أشد أهل السودان اليوم حاجةً، وقد استبدت بهم الدواهي العظام، والكروب العضال إلى ذوي الرأي السديد والعزم الحديد.. أوغبن في الرأي وخورٌ في العزيمة؟! معاذ الله!

    لقد كانت دعوة محمود، على اختلاف الرأي حولها، دعوة مفكر حر، ما حمل يوماً عصا، حتى ليتوكأ عليها وهو الشيخ الذي قارب الثمانين، وكانت رسالته لمثقفي السودان، الذين أجدبت فيهم الأفئدة، وظمئت العقول، وأظلمت الألباب، كانت رسالته للمثقفين حتى يملكوا زمام أمرهم، ويوغلوا في دينهم المتين برفق، بدلاً لتركه للسفلة، السقاط، من المتاجرين بالدين والمطمورين بالخرافة، والمبخوسين حظاً بين الناس يوم قسمت العقول..

    وفي البدء كانت الكلمة، وقد بدأ محمود كلمته بالدعوة لخلق الجمال "لأن الله جميل يحب الجمال" ولا مكان للحب والجمال في نفوس الحاقدين والحاسدين، ناهيك عن القتلة السفاحين، وقد كتب شهيد الفكر في أول عدد من الصحيفة "الجمهورية" في الخامس عشر من يناير 1954 تحت عنوان "خلق الجمال":

    ((نحن نبشر بعالم جديد، وندعو إلى سبيل تحقيقه، ونزعم أنا نعرف ذلك السبيل، معرفةً عملية، أما ذلك العالم الجديد، فهو عالمٌ يسكنه رجالٌ ونساءٌ أحرار، قد برئت صدورهم من الغل والحقد، وسلمت عقولهم من السخف والخرافات، فهم في جميع أقطار هذا الكوكب، متآخون، متحابون، متساعدون، قد وظفوا أنفسهم لخلق الجمال في أنفسهم وفيما حولهم من الأشياء، فأصبحوا بذلك سادة هذا الكوكب، تسمو بهم الحياة فيه سمتاً فوق سمت، حتى تصبح وكأنها الروضة المونقة، تتفتح كل يوم عن جديد من الزهر، وجديد من الثمر))

    ففي البدء كانت هذه الكلمة، التي تدعو لعالم لحمته الحرية، وسداه الحب، ولا حرية مع الطغيان والخرافة، ولا حب مع الغل والحقد. وما قال محمود شهيد الفكر بأنه يعرف هذا العهد الجديد، كما يردد الأدعياء القاصرين، الذين يسعون لكتابة الفصل الأخير من تاريخ الإنسان، وإنما قال "نحن نبشر به"، وما قال محمود بأنه سيخلق هذا العالم الجديد الحافل بالزهر والثمر، كما يدعي الذين يتحدثون عن البعث الجديد وهم يذلون البشر بالتبول على رؤوسهم، وإنما قال "نحن ندعو إلى سبيل تحقيقه"، وما قال محمود وهو الأديب الأريب، لا الثأثأ الفأفأ، بأنه سيد العارفين الذي لا تكتنف دعاويه ذرة من شك، وإنما قال "إنا نعرف ذلك السبيل". ومن أجل كل هذا أحب الناس محموداً مع اختلافهم عليه. كان هذا هو البدء، ثم مضى في أخريات أيامه، - عوداً على البدء- يدعو مثقفي السودان للحوار الفكري، الحر الطليق، حول أمور دينهم ودنياهم، بدلاً من تركها للموميات المحنطة، والمنافقين المتكذبين باسم الإسلام. فقد عرف أهل السودان، كما عرفنا الدعاة الأطهار، وقد خلت نفوسهم من الغل، وسلمت أفئدتهم من الحسد، وطهرت ألسنتهم من الإسفاف، وتجافت أرواحهم عرض الدنيا الزائل، لا كشاف أئمة آخر الزمان الذين ما تركوا معصية إلا وولغوا فيها. ومن هذا رسالته (( النهج الإسلامي والدعاة السلفيون)) ديسمبر 1980 والتي جاء فيها:

    (( إن على المثقفين ألا يتركوا ساحة الفكر، لعقليات تريد أن تنقل تحجرها إلى الحياة باسم الدين، وتريد أن تصفي باسم تحكيم الإسلام سائر مكتسبات هذا الشعب التقدمية التي حققتها طلائـعه المثقفة عبر صراعها الطويل من أجل الحرية والمساواة، ثم على المثقفين أن يتخلصـوا من مواقفهم السلبية المعهودة نحو مسألة الدين فيكسروا الاحتكار الذي ضربه الدعـاة الدينيون حول الدين. إن المثقفين، في الحقيقة، لهم أولى بالدين من هؤلاء الدعاة الأدعياء الذين حجَّروا، وجمَّدوا الدين، ذلك بأن المثقفين يمثلون روح العصر، بأكثر مما يمثلها هؤلاء)).

    لقد أحسن شهيد الفكر الظن بدعوة نميري للإسلام، وما كانت تلك الدعوة إلا كلمة حق أريد بها باطل، فما أراد النميري الإسلام إلا سوط عذاب، وآلة تعذيب يقهر بها الخصم، ويروع بها المناهض. وما كان لذي الصبوات في شبابه، والنزوات في كهولته أن يفعل غير هذا، بل ما كان غريباً - والحال هذه- أن يمضي صاحب الدعوة المزعومة للبعث الإسلامي، دافعاً بالسودان إلى بدعٍ لم تعرفها الدولة الإسلامية إلا في عهود الانحطاط التتري والشعوذة الأيوبية، والطغيان المملوكي.. فما عاد الإسلام هو الإسلام، ولا أصبح السودان هو السودان، ودون الناس هذه المخلوقات الديناصورية التي أخرجها النميري من حظائرها. والتي لا مكان لها في عالم اليوم، إلا في متاحف التاريخ الطبيعي.. كما أحسن شهيد الفكر الظن بمثقفي السودان وهو يستحثهم للدفاع عن حقـهم في الحياة، وفي التفكير، وفي الإرادة الحرة الطليقة، فوقفوا - أغلبهم ذاهلين- أمام بدع الجاهلية، وضلالات المهووسين وتقحم المتفيقهين.. وكل ذلك باسم الدين، والدين منهم براء!! ومع كل هذا الهوس والتعصب المذموم، المزعوم، صمت هؤلاء الأدعياء المنافقون على انتهاب بيت المال على يد خازنه، وصمتوا على بيع ديار المسلمين في مزاد مقفول لمشترٍ واحد هو "الخاشقجي"، وصمتوا على تجاوز الحاكم لأحكام السماء في تعامله مع ذوي البأس من غير المسلمين، كما فعل مع المصارف الأجنبية حول الربا، وصمتوا على هرطقة الحاكم وهو يساوي نفسه بالرسول الكريم، عليه أفضل الصلوات، وصمتوا على تجاسر الحاكم وهو يفترض لنفسه عصمة في دستور حاكه بيده، والعصمة لم يعرفها الإسلام إلا لمحمد صلَّى الله عليه وسلَّم، وقد عصمه بارئه، وصمتوا على خيانة بيضة الإسلام وهو يتقاضى الثمن الربيح على تهجير يهود إثيوبيا لإسرائيل. صمتوا عن كل هذا، فالإسلام في عرفهم هو القطع والجلد والتشهير بالشارعين في الزنا.. وعلم الله أن الزناة الحقيقيين هم زناة الفكر والقلم، "وستكتب شهادتهم ويسألون"..

    وعلَّ مثقفي السودان، قد رأوا ما يمكن أن يقود إليه الهوس الديني وشهدوا ما يمكن أن يؤدي إليه صمت الشياطين الخرس عن الحق.. ويا ليت أهلي يعلمون! يا ليتهم يعلمون، أن الطاغية الذي لا يقتصد في محاسبته رجل مسالم هو أول الناس إجفالاً عندما يلوح له بالعصا، فما سلَّ "الإمام" سيفه إلا أمام أعزل، وما طالب الطعن والنزال إلا في ساحة خلاء.. ودون الناس توسله وتضرعه للصنديد جون قرنق في أدغال الجنوب، ودون الناس انكساره أمام الأب فيليب عباس غبُّوش؛ وما انكسر البطل إلا لأن الشيخ الذي أحوجت سمعه الثمانون إلى ترجمان قد قالها ولم يُبال!! "إن مسَّني أحد بضر فسنجعل الدماء تجري أخاديد".. ودون الناس تهالكه بالأمس أمام الأطباء.. وهو يكذب وفي لسانه لسع الحية.. أوهناك من يصدق بعد كل هذا بأن هذا العاطب معتل العقل يتصرف من وحي دينه؟! فالله يعلم بأن إمام السودان الذي يتكئ اليوم على عصاة مهترئة اهتراء منسأة سليمان، لظالم بلا إرادة، وصارمٌ بلا عزم، وحـليم بغير اقتدار، ومحارب بسيف من خشب، كسيف سميِّه "أبي حية النميري". وما غدره وطغيانه إلا طغيان ضعيف مرتجف. إن العصبة الظالمة التي تتحلق حول إمام آخر الزمان "كافورنا هذا" إنما تجهل، كما يتجاهل، بأن شهيد الفكر سيبقى ضميراً مؤرقاً، ومصباحاً مسرجاً، في هذا الديجور الحالك الذي يعيش فيه أهل السودان؛ سيبقى في غرسه البشري الذي أورق، وفي نبته الفكري الذي اكتهل، وسيبقى في نفوس كثير من السودانيين كنموذج للرجل الذي تجافى مزالق السـقوط، وما فتئ يحترم في الناس أغلى ما يملكون - عقولهم-. وسيبقى إسم محمود بعد كل هذا حياً في نفوس الذين لا ينامون على الهوان، بما سيثيرها فيهم من بغض للظلم وإدانة للعدوان واستنكار للهوس، وإنكار للغدر..

    لقد اغتال النميري، والعصبة التالفة من خلفه من كل مشعوذ ومنافق ومتاجر بالدين، لقد اغتال كل هؤلاء باسم الإسلام والمسلمين مفكراً حراً، أعزلَ من كل سلاح، إلا القلم، ومع هذا، فما تركوا لهؤلاء المسلمين فرصة الابتهاج بهذا الذبح الثمين، بل هرَّبوا جثمانه خشية ما لا تحمد عقباه. لقد أخرج النميري العسس والعيون والسلاح والحديد فكذَّب بذلك كل دعاويه ودعاوي من حوله من المنافقين، فما أراد النميري بجرمه الشنيع الفاحش هذا، وما تبعه من مظاهرة بالقوة، إلا إرعاب أهل الشمال، بعد أن تركه أهل الجنوب، يسلِّح على نفسه، حتى ذهب لبيع السودان كله نفطاً وقطناً وتراباً حتى يبتاع بثمنهم سـلاحاً، يدفع عنه، لا عن السودان، العوادي - وحربه في الجنوب حربُ بغيٍ، وما بغى المرءُ إلا على نفسه!! ويا ليت حاكم السودان كان يملك الحس من المسئولية الوطنية التي تجعله يقول ما كان يقوله شهيد الحرية: (( "تقول الحكومة راح منا عشرون وقضينا على ستمائة من المتمردين" أما نحن فنقول "لقد راح ستمائة وعشرون مواطناً سودانياً")). وعلَّ إمام الباطل يعرف في نهاية الأمر، أنه يتاجر برأسمال غيره، وما تاجر برأسمال غيره إلا المفلس، فالجيش جيش الشعب، والسلاح سلاح الشعب.. ولن يرضى هذا الشعب لنفسه أن يكون وقوداً لحرب جائرة، أشعلها حاكمٌ ظنينُ عقلٍ.. كما لا يرضى لنفسه، أن يكون أداة بطش في يد طاغية لا ظهير له.. فيوم أن تجيء الحاقة فلا غوث لعاطب ولا ملاذ لتالف، ولا يحسبن الظالمون بأن دم أبي الشجاع سيذهب هدراً ليبقى فيها ليسرح خصيٌ أوكع، أو لتمرح إماءٌ لكع.

    د. منصور خالد
                  

03-01-2008, 11:13 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    وفى كتاب للدكتور منصور خالد وعنوانه"السودان اهوال الحرب ... وطموحات السلام قصة بلدين" و التى تتشرف سودانيز اون لاين ببيعه اون لاين و يعتبر الكتاب مرجعا و موسوعة للباحثين و يروى الكتاب قصة السودان منذ خمسين عاما قامت بطبعة دار تراث و هو من 1100 صفحة وقد اهدى د.منصور خالد الكتاب الى ثلاثة من ابطالنا ابراهيم بدرى-ستانسلاوس عبدالله بياسما و الاستاذ محمود محمد طه حيث قال فى اهدائه للاستاذ:
    "رجل لم ياسره الحرص إذ غنى عن الدنيا باليأس منها. و مفكر ذو بصر حديد لم يتق غير الله فى التعبير عن فكره. جابه الناس بهذا الفكر و لم يستدبرهم بغيب. فاراؤه السياسية التى اجلينا فى هذا الكتاب، منذ مؤتمر الخريجين، اراء لا يجسر عليها الا أولو العزم فى وطن فيه للباطل سلطان. و اجتهاده فى الدين اجتهاد بديع بريع لا يرفضه الا من ضاق و عاؤه. ولئن عاد من عاد الى الكثير من تلك الاجتهادات فهو متبع لا مبتدع.

    الى ذكرى هؤلاء الابطال نهدى هذا الكتاب."
    د.منصور خالد
                  

03-01-2008, 11:14 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    تحت الضوء

    د. منصور خالد

    عامان من السلام : حساب الربح و الخسارة(23)

    انفصاليوالشمال، وانفصاليوالجنوبقــــــراءة خـــــارج النص

    نقول هذا، بصرف النظر عن رأينا في تلك الحروب، أو رأينا في تواطؤ الكثيرين بالصمت عنها وعن ادراك ماتقود اليه شحنات الكراهية التي ولدتها. تلك حقيقة، لا نعدوالصواب إن قلنا، إن بصيراً واحداً فطن لها يومذاك وجاهر برأيه فيها، ألا وهوشهيد الفكر محمود محمد طه.

    كان الاستاذ يقول، كلما تكاثر الحديث حول مشكلة الجنوب : ''وللشمال مشكلة أيضاً''. وكان، كلما تسمع بياناً من القيادة العامة للجيش يعلن عبر المذياع خبراً مفاده :''لقد فقدنا عشرة شهداء في المعركة ومات الف من الخوارج''، ردد :''الاجدر أن نقول فقد السودان مائة والفاً من ابنائه''. هذا قول رجل يدرك البدهيات، ومن البدهي أن القلوب جُبلت على حب من يحسن اليها، وبُغض من يسئ اليها، ناهيك عن الغضب الذي اورثته لأهل الجنوب مظالم متجذرة. لذلك، ظللنا ندعو، مع قلة ذات حس بالآخر نذكر منها الراحل العظيم محمد عمر بشير، للاعتراف بجذور المشكل بدلاً من الهروب منها الى الأمام بسياسات لا تقود الا لتعميق البغضاء بين ابناء الوطن الواحد. لم نذهب لذلك إلا بدافع الحرص على انقاذ أهلنا في الشمال من أنفسهم، وكان المسار عسيراً. وحمداً لله ان انتهى أهل السودان جميعاً لهذا الرأي. انتهى اليه التجمع المعارض في مقررات اسمرا، وانتهت اليه حكومة الانقاذ في ماشاكوس.



    http://www.rayaam.net/articles/article26.htm
    _________________
                  

03-01-2008, 11:15 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (2)

    د. منصور خالد

    السلام الشامل ما هو؟ وما هى وسائل تحقيقه؟

    بقدر ما نستطيع، حاولنا في المقال السابق إبانة الأسباب التي أدت لأن يكون التفاوض بين الحكومة والحركة الشعبية ثنائياً وينتهي إلى وفاق ثنائي. وقلنا إن تحقيق السلام الشامل لا يتكئ، فحسب، على صدق الارادة السياسية للطرفين الموقعين في تنفيذ الاتفاق الذي تواصيا عليه، وإنما أيضاً على صيانة ذلك الاتفاق بسياج من التأييد الوطني. السلام الشامل، أو الحل السياسي الشامل، تعبير شاع في الخطاب السياسي منذ منتصف الثمانينات، خاصة بعد أن جاءت الحركة الشعبية بأطروحة قلبت المفاهيم هى أن مشكل الجنوب هو مشكل السودان. وكما ذكرنا في المقال السابق استطال الحوار في كوكادام بين الحركة والتجمع الوطني حول إن كان المشكل الذي ينبغي حله هو قضية اقليم محدود (الجنوب) أو قضية الوطن كله. ولعل ذلك الانكار من جانب الطبقة السياسية الشمالية أن الوطن كله مأزوم هو الذي حمل الأستاذ محمود محمد طه في الستينات، حين استبد بالناس الحديث عن مشكلة الجنوب، إلى اصدار كراسة اتخذ لها عنواناً: "...وللشمال مشكلة أيضاً". حقاً، كان الخطاب السياسي يومذاك، في الغالب الأعم، يتمحور في مشكلة واحدة هى مشكلة الجنوب، وفي قضية واحدة هى قضية الديموقراطية. الأولى تذكرنا بها دوماً الحرب الأهلية، والثانية لا نستذكرها إلا عند وقوع الانقلابات أو سقوط الأنظمة العسكرية فنبدأ في البحث عن وسائل حمايتها.



    http://www.rayaam.net/22004/07/26/articles/article26.htm
    _________________
                  

03-01-2008, 11:16 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    المفكر السوداني الدكتور منصور خالد يفتح خزائن اسراره لـ القدس العربي (اخيرة)
    ======
    هذا كان من امر الشأن الخاص، اما في العام فأنا متضامن مع نفسي، ولا ازدواجية في شخصيتي، هناك درس تعلمته من الاستاذ محمود محمد طه، وكنت اسعي اليه دوما للحوار معه حول بعض آرائه في القضايا العامة، سألته يوما عن اسس اصطفائه للاخ الجمهوري قال : ان يكون متمكنا من مهنته، لان الذي لا يفلح في مهنته لن يفلح في اقناع الاخرين بأي شيء اخر، وان يجيد التعبير عن نفسه، ويملك القدرة علي ضبط النفس وحسن الاستماع للآخر، لا يستفز ولا يستفز، اهم من هذا ان لايفعل في السر ما يستحي من فعله في العلانية، هذا ما اعنيه بالصدق مع النفس والطمأنينة الداخلية
                  

03-02-2008, 01:16 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    كتب دكتور منصور خالد اليوم 15/1/2007 فى صحيفة الرأى العام (ص3) مقاله الثاني حول: عامان من السلام: حساب الربح والخسارة.. وقد خصص هذا المقال الثاني ل: حق تقرير المصير والوحدة الجاذبة.. فقال: "ويستذكر أن تقرير المصير ما كان ليصبح مطلبا لو فعلنا ما هو أدنى منه: النظام الفيدرالي فى دستور السودان الأول، الحكم الذاتي فى مفاوضات المائدة المستديرة 1965، الحفاظ على الحكم الذاتي الإقليمي فى عهد النميري ولعلنا نزيل وهما سائدا بأن قبول الفيدرالية يومذاك كان أمرا مستعصيا لأن القيادات لم تدرك، أو أن أحدا ما كان ليجسر بالدعوة له (الطيب حاج عطية، ندوة الفيدرالية، الأيام، 28/11/2006).. وحول الجسارة فى إبداء الرأى نقول إنه كان بين هؤلاء القادة فى ذلك الزمان السياسي من بادر منذ 1955 بإعداد مذكرة ضافية عنوانها: أسس دستور السودان لقيام جمهورية فيدرالية ديموقراطية اشتراكية ذلكم الرجل هو الأستاذ الشهيد محمود محمد طه. هذا أمر ينبغى ألا يتجاهله المؤرخون.)
                  

03-02-2008, 01:21 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    المفكر السوداني الدكتور منصور خالد يفتح خزائن اسراره لـ القدس العربي (4)

    06/04/2007

    حاوره: كمال حسن بخيتہ
    الدكتور منصور خالد مفكر وكاتب سوداني، غزير الانتاج خصوصا في شؤون السياسة، واستراتيجيات التنمية، ويملك قلما جزلا رشيقا مقروءا ومثيرا للجدل في آن واحد، وفضلا عن علمه وثقافته الموسوعية التي كثيرا ما يبهر بهما خصومه قبل مريديه وهم كثر في الجانبين ، فان الرجل خبير بخبايا واسرار وتطورات واشكالات السياسة السودانية التي خاض اتونها مفكرا ووزيرا ومعارضا شرسا لكنه في كل الاحوال كان دائما ولا يزال مشهودا له بالكفاءة.
    ليلة إعدام محمود محمد طه

    دهش كثيرون عندما كتب د.منصور عن الاخوان الجمهوريين في أواخر مايو، كيف بدأت علاقتك بالجمهوريين والي أين انتهت؟
    حركة الجمهوريون قادتني إليهم فحولة فكرية وخصائل شخصية، كثيرون كانوا يقدرون في الجمهوريين تلك الفحولة دون ان يشاركوهم الرأي، ناهيك عن الانضواء تحت تنظيمهم. من بين الخصائل التي حببتهم الي نفسي أدب الخطاب وتجويد الكتاب والتوافق المبهج بين السر والعلانية، ولربما كان مقتل محمود محمد علي يد نميري هو اكبر حدث حملني الي القطيعة البائنة معه.
    كنت في داري بلندن عشية إعدام الأستاذ أتابع ما يدور في السودان برفقة الحبيب الراحل الدكتور خليل عثمان والذي نمت بينه وبين الأستاذ علاقة وارفة، وتداعي علينا كثر لا يصدقون ما يسمعون: الأخ الراحل حسن بليل ، الأستاذ التجاني الكارب الأخ الراحل ابوبكر البشير الوقيع. قضينا ليلة محلوكة نسعي فيها بكل ما في وسعنا لحشد العالم لكي يقنع نميري بالكف عن السير في تنفيذ قراره. اتصلت بنائب الرئيس الاميركي جورج بوش، وسيمون تيل رئيسة البرلمان الاوربي، واحمد مختار امبو مدير اليونسكو والامير صدر الدين اغا خان في جنيف، والمستر ريتشارد لوس في البرلمان البريطاني، وكان لكل واحد من هؤلاء فضل علي السودان، وعلي النظام الذي يترأسه نميري شخصيا، الاجابة علي جميع هؤلاء كانت الرفض والتحايل، وضاعف من غضبي ما علمت به من بعد عن استهانة الرجل بكل الضغوط الاسرية عليه لكيما يقلع عن عدوانيته تلك، وفيما علمت ان رأس الرمح في تلك الضغوط الاسرية ـ الدكتور عبد السلام صالح ـ خرج غاضبا ومتوعدا ان لا يعود لدار نميري، وفي الصباح جاءنا الخبر الذي جعلنا جميعا نشرق بالدمع، حتي تحولت داري الي (بيت بكاء) لا ادري ما اصنع .
    احاول تهدئة خليل وهو ينشج بالبكاء كالطفل؟ ام اهدئ من روع ابي بكر صاحب القلب الذي قرضته الامراض ؟ ام اقول للتجاني حنانيك بعد ان فجعني بقوله (لم اكن اظن انه سيأتي علي حين من الدهر اقول فيه لا يشرفني ان اكون سودانيا الا اليوم)؟ ام انصرف عنهم جميعا لافعل ما افعله دوما في مثل هذه الحالات: اعتصر قلبي في وريقة؟ هؤلاء رجال لم يكونوا في يوم من الايام من منظومة الاخوان الجمهوريين، ما جمعهم بالاستاذ الشهيد هو رابطة الانسانية واحترام الفكر والمفكرين. كثيرون قد يقولون ان محمود لم يكن هو اول ضحية للنميري، فقد سبقته ضحايا لتحمل معه المسؤولية عما لحق بهـــــم ، بيد ان محمود لم يكن هو الامام الهادي الذي نازع نمـــيري السلطة، ولم يكن هو الشيوعيين الذين اتهموا ـ حقا وباطلا ـ بالانقلاب علي حكمه، واذلاله بحمله علي ان يخرج من داره خافر الرأس حافي القدمين، وليس هو قيادات الجبهة التي جيشت الجيوش للاطاحة بالحكم، جرم الرجل الذي لم يكن يحمل عصا يتوكأ عليها وهو الشيخ الذي انهكته السنون، انه ابدي الرأي في وريقة واحدة استنكر فيها ما يدور باسم الدين دون ان يصف السلطان بالبغي.
    وهو اقل ما كان يقتضيه المقام، تلك كانت هي القشة التي قسمت ظهر البعير وحملتني علي ان اقول: هذا جنون لا يستطيعه بشري الا بعون ربه. ولن يكون لي مع الرجل بعد اليوم لقاء حتي وان كان هو الممسك بمفاتيح الجنان .
                  

03-02-2008, 01:24 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    كتب الدكتور منصور خالد في كتابه ( النخبة السودانية وادمان الفشل- الجزء الثاني) مايلي
    "
    شهدنا في الفصل الماضي ما بلغه نظام النميري من ضعف رغم كل مظاهر الجبروت، وما انتهى إليه من زراية رغم كل مظاهر القداسة، منخوراً كمنسأة سليمان أصبح . فمنذا الذي يقدم على لكز الهيكل المتهافت؟ ومنذا الذي يتقدم لإزالة التمثال من قاعدته ومنذا الذي، كما يقولون، يجرأ على تعليق الجرس في رقبة القط؟ فمع كل عوامل ضعف النظام التي كانت بادية للعيان استمر خصوم النظام يتجادلون ويتصارعون في أمور ، حتى وإن افترضنا أهميتها النظرية ، إلا أنها كانت غير ذات موضوع في تلك الساعة . أشبه بفقهاء الزمان القديم كانو يتجادلون حول الملائكة : أذكور أم إناث في الوقت الذي كان يقضم فيه الطاعون كل من حولهم . والطاعون
    أرأف حالاً مما كان عليه أهل السودان في زمن الطوارئ

    كان الكل يترقب حدثاً من السماء في حين كان الوضع في انتظار سيراجيفوه أو قل تيموشواراه، سيراجيفو أو تيموشوارا كانت هي اغتيال محمود محمد طه ، الحدث الذي طعن السودان في خاصرته ، وطعن أهل السودان في واحدة من أمجد خصائصهم التسامح . وكان ذلك الحدث قمة لأحداث متتاليات من التحقير للرجال والتشهير بالنساء ، والتعهير للمبادئ السامية ، وهل أسمى عند المؤمنين من مبادئ دينهم؟ في ذلك التحقير والتشهير والتعهير لم يكن النميري وحده، كان معه "الأخوان المسلمون" الذين سعوا لأن يجدوا للجنون نسباً مع الدين وهم يتوسلون بفقه التبرير الزائف . وكان معه الزئبقيون من العلماني اسلاميين الذي دخلوا في " ديانة" النميري أفواجاً ، كاذباً وراء كاذب . وكان معه أيضاً رجال هم عدته وعديده في تنفيذ أحكامه الجائرة المشتطة ومن هؤلاء من حُمل جثمان محمود الطاهر بأمرهم وتحت أعينهم ليدفن في مكان قصي.

    وحين صمت الكبار أمام ذلك الحدث تقية وخشية ، أو تلهوا عنه لأنه صادف في أنفسهم موقعاً لأن كثيراً منهم لم يكونوا يشاركون الرجل أفكاره ، برزت مجموعة أخرى تقول أما بعد ، والنحاة يسمون "أما بعد" بفصل الخطاب . تجمع قلة من النقابيين وقلة من النقابات لتطالب بإلغاء قوانين سبتمبر وإيقاف تنفيذ الحكم على محمود . كان موقفهم شجاعاً لأنه تم وسيف ديموقليس مسلط على الرقاب ، وليت النميري كان ديموقليس .فالنميري (الإمام)بزعمه، أصبح شيئاً أقرب إلى (كاليقولا) الإمبراطور الروماني الذي اعتراه العته في أخريات ايامه حتى بلغت باللوثه حداً جعله يعين جحشاً قنصلاً على إحدى الأمصار. نعني بالجحش الحيوان الذي يمشي على أربع، لا الجحوش التي تمشي على قدمين.تلك عرفنا بعضها في السودان ولما يستبد بالرجل الجنون بعد. تجمع ممثلون لست من النقابات ليقولوا كفى. تلك النقابات الست كان لها قصب السبق في "تعليق الجرس" في رقبة القط" ثم زادت إلى ثلاث عشرة نقابة وقعت على مذكرة تتستنكر الحكم الجائر. ونبئنا من بعد سقط النميري بأن بالسودان نيفاً وأربعين نقابة. ذلك هو الجو الذي ولد فيه" التجمع النقابي لإنقاذ الوطن" من بعد أن كانت هموم أهل النقابات، في كل مجابهاتهم مع النظام، هموماً قطاعية: تحسين الرواتب وظروف العمل. كان هذا هو موقف النقابات في أكثر المجابهات حدة."
    انتهى
                  

03-02-2008, 01:23 AM

abubakr salih
<aabubakr salih
تاريخ التسجيل: 12-27-2007
مجموع المشاركات: 8834

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)



    مولانا عبد الله ود عثمان

    يا اخى انا مبسوط منك شديد وحاة الله. مبسوط من مثابرتك و مجهوداتك فى
    مناقرة السلفيين و من لف لفهم رغم ضغائن الارهاب الفكرى و تهم التكفير
    التى تجود بها سرائر و علانية السلفيين الظلاميين. الظلاميين الذين يريدون
    ان يخمدوا كل اوار التفاكير و الاجتهادات التى تجود بها عقول المستنيرين


    رغم اختلافى مع الفكر الجمهورى الا انى لا اجد فى نفسى غير احترام عميق للشهيد
    الاستاذ و طلابه الذين قابلوا الارهاب و سيوفه التى تقطر دما بالحجه و المنطق
    السديد. ارجو ان تسابر فى المسير على هذا النهج، و ان ترمى حقول الالغام و الارهاب
    بما يلزمها من نور الحوار و العقلانية التى تضئ دروب السائرين

    فالحكمة ضالة الناس جميعا
                  

03-03-2008, 11:47 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: abubakr salih)


    الأخ ابوبكر صالح
    عظيم التحايا
    فات على الترحيب بك فى هذا البوست، وأقدّر جدا كلماتك ... نحن نجل ونحترم من يختلف معنا بحسن النية ولكن ما هو ممقوت خبث المقصد مثل الذى تجده بين ثنايا مقال د. عبدالله على ابراهيم المشار اليه
    كل الشكر لك ولكلماتك الطيبة يا عزيزى
                  

03-16-2008, 05:45 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: abubakr salih)



    ومع ذلك
    من أين جاء هؤلاء السيد نورالدين منان؟

    د. عبد الله علي ابراهيم

    نقول في الترحم علي الميت «ولا تفتنا بعده». ولم يتمثل لي تمام هذا المعني كما تمثل لي وأنا أقرأ نعي الأستاذ نور الدين منان للمرحوم ابوسليم كواحد من عظماء النوبيين علي صفحات الانترنت. وبذكر النوبة واتت منان ذكرى راحل نوبي عظيم آخر من سدنة التراث السوداني، هو المرحوم نجم الدين محمد شريف مدير مصلحة الآثار الأسبق. وذكر منان له مظلمة ديوانية. فقد قال أن الدولة على عهد رئاسة الصادق لم تحسن اليه وأخرجته من منزل الحكومة. ولم ترع خدمته الباهرة ولا حالة ضعفه قعيداً على كرسي متحرك. ولما رأى أهله النوبة تشرده تضافروا وابتاعوا له منزلاً في الخرطوم. وقال منان أن جماعة من النوبة حذروا أبا سليم ضاحكين من أن يقع عليه ما وقع علي نجم الدين. وقال أن أبا سليم قنع بداره البسيطة بالشجرة.
    انزعجت لضيق أفق هذا الكاتب الذي ضاقت الدنيا عنده بما رحبت. وقد رحبت فعلاً برجال في قامة نجم الدين وابي سليم من ذوي الهمم الشماء. فقد كان كسبهم سودانياً تغذيه مواهب نوبية عتيقة، فالدنيا عند منان كسب أفندية من منازل و غيرها أو تعبئة سياسية على خطوط إثنية متي ما نقص هذا الكسب. وكان ابو سليم ونجم الدين رساليين في قول السيد الصادق المهدي. والرسالي نقيض الأفندي، لأنه قابض على جمر المعاني في حين لا يقبض الأفندي غير طوب المباني. ولو كان مبلغ همهما الدور والقصور لما عجزا. فقد بناها من دونهما رشداً وألقاً. فقد قال المرحوم محمد توفيق في حفل لتكريم نجم الدين بالنادي النوبي، أنه لم يقبل أن يقترض كسائر كبار موظفي جيله ليبني منزلاً، لأنه لم يرض أن يكون مديناً ليوم يخشى أن يلقى فيه الله قبل أن يسدد ما عليه. وكان بوسع أبي سليم ان يبني قصراً ولكنه رفض الهجرة التي تهافتت عروضها عليه من العالم. وكان يرد عليها بالشكر والاعتذار والحفظ في الفايل. فقد تعلقت قلوب هؤلاء بأمهات الأمور في حين يريد بعض ناعيهم أن يردوهم الى سفاسف المخصصات والبدلات والبير ديم.
    وقد وقع لنا من جنسهم نفر مميز هجر عادة الأفندية الراتبة الى مخاطرة فتح الطرق المبتكرة. ومنهم استاذنا عبد الخالق محجوب الذي لم يستوظف في حياته سوى أسابيع معلومات، أو حتي الترابي الذي كانت اول وظيفة له عمادة بالإنابة لكلية الحقوق، فهجرها ليبني الحركة الإسلامية أعوج عديل. وفيهم المرحوم محمود محمد طه الذي حياته عندي ربما كانت اميز من موته الذي أضحي نقطة تركيز بكاته. فقد مر طريق محمود افندي محمد طه للشهادة أولاً. وقبل كل شيء عبر حواري الثورة بام درمان التي سكنها معززاً بالصحبة والتربية الماجدة، قبل أن يرقي مرقي الموت البليغ.
    لقد تأذينا كلنا حين أساءت الدولة الي نجم الدين في ملابسات حملة جاهلة جائرة، إدعت العناية بالآثار الأسلامية. ولم نسمع لأبي سليم حرجاً في السكن. بل سمعت أن الدولة اقتطعت له ارضاً ليقيم عليها معهده للدراسات التاريخية. وسيكون من وهن الفكر أن نقحم نوبية نجم الدين لتفسير حمل الدولة له لإخلاء الدار بعد المعاش، فمثل هذا الأمر شائع. ويمكنني القول أنني ضحية من ضحايا هذه الممارسة، فقد كرهني رؤوسائي لأنني وقفت ادافع دون إخلاء أسرة صديق رحل الي رحاب الله من المنزل الحكومي قبل أن تستقر علي شئ بشأن خطوتها التالية. وضيق هؤلاء الرؤساء عليَّ كثيراً حتى فصلوني فتركت لهم البلد وهذه قصة اخرى. وقد علمت خلال هذه المعركة أن اكثر الناس نشاطاً لترحيل أسرة صديقي كان الشخص الذي وقع له المنزل وهذه أخلاق الأفندية. وقد بلغ بهم العنف في احتلال البيوت من بعد الموت او المعاش حداً قدمت معه الحكومة في ابريل 1977 لمجلس الشعب مشروع قانون سحب من المحاكم، حق النظر في استئنافات من أخلتهم مصالح الحكومة من البيوت. فقد كان من رأي الحكومة ان المحاكم بالها طويل. ولا صبر للأفندي وريث البيت عليها. وكان هذا القانون مصادماً للدستور ولكنها العجلة. . . تطير.
    مثل قول منان في تذكر أبي سليم هي الفتنة التي ندعو الله دائماً بعد موت عزيز أن ينجينا منها. واستغرب على ماركسي كمنان أن ينفخ نار الإثنية في شأن أدنى تفسير له الطبقة. ولا اعرف إنساناً كره اللت والعجن في مسائل الإثنية والنسوية بغير زاد سوى النيل من الأنقاذ مثل ابي سليم، فقد حضرت معه مؤتمر الدراسات الأفريقية في أميركا عام 1993م. وكان الرجل يهتز مثل «القصبة» وهو خارج من الجلسات التي يخوض فيها امثال منان في امور السياسة بغير علم. وكان يقول لي: «الإنقاذ ليست هي الوطن.. الوطن شئء أجمل وأبقى من الإنقاذ ومعارضيها».
    http://alsahafa.info/news/index.php?type=6&issue_id=199&col_id=14&bk=1




                  

03-02-2008, 01:28 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    مداخلة د. منصور خالد
    واجاب الدكتور منصور خالد على بعض الاسئلة بخصوص التجمع وقال بان التجمع حى وهناك تعاون بين الحركة و التجمع و اضاف بان الحركة و التجمع يلتقون فى قضية التحول الديمقراطى.وفى رده لسؤال حول وجود الشريعة الاسلامية فى الشمال رد دكتور منصور خالد بان من لا يريد الشريعة الاسلامية عليه النضال من اجل ذلك واضاف بان الحزب الوحيد الذى فعل ذلك هو الحزب الجمهورى.

    http://www.akhbaralyoumsd.net/modules.php?name=News&file=article&sid=11445
    _________
                  

03-02-2008, 01:34 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    مسؤولية النقـد بين (الجـبهة) وخصـومها
    مزيد من الهوامش على طرح د. عبد الله علي إبراهـيم

    د. النور محمد حمد - 21 مايو 2003


    القضاة الشرعيون والتسييس الديني:

    نشرت قبل أسابيع، مقالا، نقديا لطرح الدكتور، الفاضل، عبد الله على إبراهيم، حول ما أسماه التقليد الشرعي، والحداثة. وقد ركزت في ذلك المقال على إنحاء الدكتور الفاضل، باللائمة على الجمهوريين في تغليظ القول، على القضاة الشرعيين، في حقبتي الستينات، والسبعينات، من القرن الماضي. وقد أوضحت، في مقالي السابق، أن العراك مع القضاة الشرعيين ليس مما كان ممكنا تجنبه، أصلا. فالقضاة الشرعيون لم يتجهوا إلى الحوار، بداية، وإنما جنحوا منذ الوهلة الأولى، إلى إستخدام سيف القانون، لإسكات صوت الإجتهاد الإسلامي، الذي رأوا مغايرا، لما درسوه في مؤسسات التعليم الديني التقليدية، كالأزهر والمعهد العلمي بأم درمان، الذي أصبح فيما بعد جامعة أمدرمان الإسلامية، وكلية الشريعة بجامعة الخرطوم. كان القضاة الشرعيون، هم البادئين بالحرب، وبالتجني على الأستاذ محمود محمد طه، والإخوان الجمهوريين. ولقد قادتهم خصومتهم، المبيتة، لفكر الأستاذ محمود محمد طه، إلى درجة خرجوا فيها بالمحكمة الشرعية العليا بالخرطوم، جملة واحدة، عن قانون تأسيسها، الذي أنشئت بموجبه، وأعطوها، فجأة، وبلا مقدمات، وبلا أي مسوغ قانوني، حق النظر في قضية ردة! ومما ورد ذكره أيضا، في المقال السابق، أن تلك القضية قد رفعت من جانب بعض المشائخ، وأن بعضهم محسوب على جماعة جبهة الميثاق الإسلامي، كالشيخين، على طالب الله، وعطية محمد سعيد.

    وفي تحريات الجمهوريين اللاحقة، اتضح أن الذين تقدموا بتلك الدعوى، لم يروا بأسا في أن يزوروا القاضي، الذي تخيروه لنظر الدعوى! نعم! ذهبوا إلى القاضي، توفيق أحمد الصديق، في عقر داره، وقبل التقدم بالدعوى، ليستشيروه في رفعها!! أكثر من ذلك!! فهم من فرط غفلتهم، عما ينبغي أن يكون عليه حال القاضي، من النزاهة، والحياد، لم يجدوا بأسا في إذاعة خبر ذلك اللقاء، الذي تم بينهم وبين القاضي، في بيته، على الملأ!! بل، وذهبوا ليشيدوا بذلك القاضي، قائلين إنهم حين تحدثوا إليه، بشأن نيتهم في رفع الدعوى، لمسوا فيه غيرة على الحق، واستعدادا لنصرته!

    أردت إيراد ما تقدم، لأنني جد متعجب من إسباغ الدكتور، عبد الله علي إبراهيم، صفات حسن الذوق، وحسن التدريب، على القضاة الشرعيين، في سلسلة مقالاته الأخيرة. كما أنني متعجب أكثر، في تعويل الدكتور الفاضل، على هذا القبيل من (القانونيين) السودانيين، لكي يتولوا رسم مستقبل بلادنا القانوني، وما يتبع ذلك من مهام أخرى كثيرة، تتعلق بربطنا، بفضاءات التحديث، ومن منطلق فهم عصري للدين! ويقيني أنني لا أعمم تعميما غير منضبط هنا. فمن وصل منهم إلى درجة قاضي محكمة عليا، يمثل قطعا البقية منهم، خير تمثيل.

    بعد أن أصدرت المحكمة الشرعية العليا، بالخرطوم، حكمها بالردة، ضد الأستاذ محمود محمد طه، في نوفمبر 1968، دعت أيضا، في تذييلها لحيثيات ذلك الحكم، إلى إغلاق دور الحزب الجمهوري، ووقف نشاطه، ومصادرة كتبه، ولم تنس أن تطلب المحكمة أيضا، تطليق زوجة الأستاذ محمود منه، على زعم أنه قد أصبح (كافرا). ويترتب على ذلك تلقائيا، حسب فهم هؤلاء القضاة، ألا تبقى زوجته، في عصمته، لأنه لا يجوز للمسلمة، وفقا للشريعة الإسلامية، أن تكون في عصمة (كافر)! كما نادت المحكمة أيضا، بـ (مؤآخذة) كل من يردد آراءه! الشاهد أن المحكمة الشرعية العليا، في الخرطوم، قد دللت عمليا على قصور القضاة الشرعيين عن فهم أبجديات قضايا العصر، وأبجديات ما تعنيه الدولة الحديثة، وما يعنيه أمر صيانة حقوق المواطنين الدستورية فيها. وكل هذه الأمور كافية جدا، لسلب القضاة الشرعيين أي مزية تتعلق بالتأهيل، لرسم صورة المستقبل في بلادنا، وأي بلد إسلامي آخر.


    ثم قضية بورتسودان!

    هذا ما كان من شأن القضاة الشرعيين، ومحكمة الردة التي أقاموها للأستاذ محمود محمد طه، في الستينات. أما في منتصف السبعينات، فقد أقام الإخوان الجمهوريون معرضا لفكرتهم في مدينة بورتسودان. وكان ضمن المعروضات لوحة تتحدث عن ماضي القضاء الشرعيين، في ممالأة المستعمر، وتسلم ما سمي (كساوي الشرف) من قبل السلطات البريطانية. فأوعز كبار القضاة الشرعيين، بالخرطوم، للقاضي إبراهيم جاد الله، الذي كان، حينها، يعمل بمدينة بورتسودان، بأن يرفع دعوى قذف، ضد الأستاذ محمود محمد طه، وعددا من الإخوان الجمهوريين. أذكر منهم، المرحوم، بكري الحاج عبد الله، وبدر الدين يوسف السيمت، وأحمد المصطفى دالي. وذلك بحكم كونهم القائمين الفعليين، على أمر ذلك المعرض. فبعد أن فشلت مهزلة محكمة الردة، عام 1968، حاول القضاة الشرعيون أن ينالوا من الأستاذ محمود، بطريق آخر، وذلك بإدانته قضائيا، بتهمة القذف. وليتصور معي القارئ الكريم فداحة، أن يدان شخص، في قامة الأستاذ محمود محمد طه، الفكرية، والخلقية، في جريمة قذف. والقذف، كما هو معروف، جرم متعلق برمي الغير بتهمة باطلة. وليس للمتهم في تهمة القذف، سوى خيارين فيما يتعلق بخط الدفاع، وهما: إما أن ينكر كليا، ما صدر منه، قولا، أو كتابة، أو أن يتقدم إلى إثبات ما قاله، أو ما كتبه، بالدليل الذي لا يقبل الشك. وقد كان خط الجمهوريين الدفاعي، بطبيعة الحال، هو أن يثبتوا صحة ما قالوه في القضاة الشرعيين. وقد استمرت المحكمة لمدة من الوقت، أثبت فيها الجمهوريون بالوثائق، والوقائع، أمام المحكمة، صحة كل ما قالوه في شأن القضاة الشرعيين. الأمر الذي أضطر القضاة الشرعيين، نهاية الأمر، إلى توجيه الشيخ إبراهيم جاد الله، لكي يتنازل عن الدعوى، قبل أن تصل المحاكمة إلى نهايتها. وقد استطاع الأستاذ محمود محمد طه، أن يحول القضاة الشرعيين، من متظلمين، إلى متهمين. وتحولت القضية، من ثم، إلى محاكمة مفتوحة، لتاريخ القضاء الشرعي. ولم يجد الشاكي، القاضي، إبراهيم جاد الله، نهاية ألمر بدا من الإنسحاب، نزولا عند رأي رؤسائه. فانسحب عن الدعوى، وجرى من ثم، شطب القضية.


    الترابي وزعامة ألوان الطيف السلفي:

    أردت من إعادة سرد تلك الأحداث، التذكير بضرورة ألا نقفز فوق الوقائع التاريخية، ونرسم صورا وردية لتاريخ مؤسساتنا، لا تسندها حقائق، جلية، ولا تقوم على واقع الممارسات العملية، لهذه المؤسسات. وأود أن أضيف إلى ذلك، أن موقف القضاة الشرعيين، من الأستاذ محمود محمد طه، والجمهوريين، في حقبتي الستينات، والسبعينات، من القرن الماضي، لم يكونا موقفين معزولين عن السياق السياسي العام، والجو السياسي الذي خلقته جبهة الميثاق الإسلامي، بقيادة الدكتور حسن الترابي، وعبأته بكل ملتهب، من شعارات الهوس الديني. خاصة ما كان من أمر المزايدات بورقة الدستور الإسلامي. فقد استهدف الخط السياسي التعبوي، الذي انتهجته جبهة الميثاق الإسلامي، تصفية الدستور القائم وقتها، ومن ثم تصفية أساس الديمقراطية السودانية. وقد تجلى ذلك، أبلغ التجلي، في انمحاء الخطوط الفاصلة بين السلطات الثلاث، التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، الذي تجسد في قضية حل الحزب الشيوعي الشهيرة. فحين حكمت المحكمة الدستورية، ببطلان حل الحزب الشيوعي، سار رئيس الوزراء وقتها، السيد، الصادق المهدي، على خطى الدكتور الترابي، وقال: إن حكم المحكمة العليا، مجرد حكم تقريري. وجرى من ثم وضع السلطة التشريعة، والسلطة التنفيذية، فوق السلطة القضائية. ومنذ تلك اللحظة بدأ مسلسل البلايا الذي حول القضاء السوداني إلى أضحوكة، وإلى تابع ذليل للسلطة التنفيذية، تحركه كيف شاءت، مما وسم معظم عهود الحكم، التي تلت.

    بعد عام واحد فقط، من ثورة أكتوبر 1964، بدأت جبهة الميثاق في تعبئة الشارع بالشعارات الإسلامية، متعمدة إرباك المشهد السياسي السوداني، وديمقراطيته المتعثرة. فجرى حينها، الكثير من خلط الأوراق. وقد كان هدف جبهة الميثاق، منذ البداية، هو تقصير الحقبة الديمقراطية، ما أمكن، عن طريق سحب البساط من تحت أقدام الحزبين الكبيرين. وذلك، عن طريق جرهما للمزايدة على الشعار الإسلامي. وقد ظهر نجاح جبهة الميثاق، في جرجرة الحزبين الكبيرين، إلى خندقها، أوضح ما يكون، في قضية حل الحزب الشيوعي السوداني، كما تقدم شرحه. وقد بدأت تلك الجرجرة تأخذ تجسيدها العملي، عقب حادثة طالب معهد المعلمين العالي، الشهيرة، مباشرة. وقد اعترف قادة (الإخوان) أنفسهم، مؤخرا، باستغلال تلك الحادثة، أبشع إستغلال. في تلك القضية، وقف الحزبان، الكبيران بالفعل، ضد جوهر المباديء الديمقراطية، التي أتت بهما إلى الحكم. ويمكننا أن نؤرخ لبداية الممارسات المنحرفة، في أسلوب المعارضة،السياسية، بتذكر تلكم الأيام المظلمات.

    المعارضة في الوضع الديمقراطي، المعافى، هي الوجه الآخر للسلطة التنفيذية. المعارضة الراشدة لا تعمى عن رؤية المشروع الوطني، وثوابته. وهي بهذا المعنى تمثل الوجه الآخر للسلطة التنفيذية. كما تمثل المؤسسة التي ينبغي أن تعين السلطة التنفيذية، على السير فوق الجادة، دون تلاعب بالثوابت الوطنية. غير أن المعارضة أصبحت منذ تلكم الأيام، لا هم لها، البتة، سوى الوصول إلى الكرسي، وبأي سبيل، وأي ثمن. وبما أننا مقبلون، في المستقبل القريب، على ممارسة جديدة للديمقراطية، فينبغي أن نراجع ممارستنا لمفهوم المعارضة عبر حقب الحكم الوطني، ودراسة التأثيرات السالبة لأسلوب المعارضة المنحرف، على جملة المشروع الوطني، وعلى عملية بناء الثوابت فيه. والحق أن كل ألوان الطيف السياسي، يمينا، ويسارا، ووسطا، قد أسهمت بقدر،يقل هنا، ويكثر هناك، في تلك الممارسة، المدمرة، القصيرة النظر. ولابد من التأكيد، في نهاية هذه الفقرة، على أن أساليب المعارضة، غير البناءة، قد ابتدرها، أصلا، الحزبان الكبيران، الأمة، والإتحادي، بُعَيْد فجر الإستقلال، وقد تعلمتها منهما الأحزاب العقائدية، كالإخوان المسلمين، والشيوعيين.


    فكر الإخوان المسلمين هو المسؤول الأول:

    لقد أسهم الشيوعيون السودانيون، دون شك، في تحويل العمل النقابي، إلى أداة ضغط سياسي، وإلى وسيلة لاحراج للحكومات، وأرباك خططها، وإفقادها توازنها. وقد تم كل ذلك، تحت غطاء المطالب النقابية المشروعة. وهذا نمط من أنماط المعارضة المضرة بالمشروع الوطني. واليسار مطالب، بتقفي هذه التجربة، ودراسة آثارها السلبية، على مجمل حركة التنمية الإقتصادية، والسياسية، في التنمية في البلاد. ولتكن السكك الحديدية، الحق الأول لمثل هذه الدراسة النقدية. أما في في مجال تخريب الممارسة الديمقراطية، فإني أميل من حيث الوقائع التاريخية، إلى الإنحاء الأكبر باللائمة على (الحركة الإسلامية السودانية) في ما يتعلق بإرباك تطورنا الديمقراطي. وعل هذه الحركة إعادة قراءة، ممارساتها السياسية، التي لم تقف وراءها أية فكرة، أو اي مشروع واضح المعالم. ينبغي في تقديري، على (الحركة الإسلامية) أن تعود إلى جذور أزمتها، في المرتكزات الفكرية، الضحلة. وما من شك أن جبهة الميثاق الإسلامي، التي ملت الساحة السياسية ضجيجا، في الستينات، لم تكن لها فكرة. وكل ما قامت عليه، لم يكن، في حقيقة الأمر، أكثر، من تلك الشذرات، غير المتماسكة، التي جاء بها الرواد الأوائل من السودانيين، الذين تتلمذوا على حركة الإخوان المسلمين المصرية. وكل حصيلة أولئك الرواد السودانيين الأوائل، لم تكن أكثر من ردود فعل عاطفية، لما استقوه، وتشربوه، من (مانفستوهات) محمد قطب، وسيد قطب، التحريضية، الغاضبة، ومعمياتها الشعارية، المراوغة، وخطابها المنغلق العنيف. يضاف إلى ذلك، فإن تلك الطلائع (الإخوانية)، قد تأثرت أيضا، بالرافد الإخواني القادم من شبه القارة الهندية. وهو رافد موغل في الإنغلاق، والسلفية، والتعنت. (راجع أراء أبو الأعلى المودودي، في (الحجاب)، و(حقوق أهل الذمة). ولذلك، لم تكن عقول من تصدوا لرفع الشعار الإسلامي، وتحكيم الإسلام في حياة الناس، مغايرة في شيء، لعقول سائر المشايخ، من السلفيين. وهذا هو ما جعل القضاة الشرعيين، ومدرسي التربية الإسلامية، وغيرهم ممن تلقوا دراسات إسلامية (وظيفية) امتدادا طبيعيا لرأس الحربة، الذي مثله فكر الإخوان المسلمين السياسي، الراديكالي.

    كانت بدايات الحركة الإخوانية الإسلامية، في السودان، غارقة في العاطفة، والعموميات، والتبسيط. وقد وضح من كثير من مواقف هذه الحركة، ونهجها، وطرحها، أن أفق قياداتها، المعرفي، والسياسي، لا يمتاز كثيرا، على أفق مجنديها من طلبة الثانويات. وما من شك، ان كثيرا من التطور قد لحق بفكر بعض تلك القيادات، فيما بعد، وبخاصة الدكتور حسن الترابي. غير أن ذلك التطور، لم ينعكس إيجابا على الممارسة السياسية في الدولة الأنموذج التي أقاموها عن طريق إنقلاب الإنقاذ 1989 في السودان. فرغم كل ما قام به الدكتور الترابي، مؤسس (دولة الإخوان) في السودان، من مغازلات ثرة لآفاق التحديث، ومن مناورات لتجاوز التركة السلفية المثقلة، المشرجة أصلا، في جسد حركته، إلا أن دولته، بقيت مشدودة إلى الجذور النابتة أصلا في تربة التبسيطية، الشعارية، الهتافية، الأولى، التي انطلقت منها قبل نحو خمس عقود. كما أن التطور الذي أصاب الترابي، لم يكن تطورا أصيلا، بقدر ما كان جملة من الإلتواءات، و(البهلوانيات) التي أودت، نهاية الأمر، بمصداقيته، حتى وسط قومه أنفسهم. فقد درَّب الدكتور الترابي تلاميذه، على كل الأساليب (البراغماتية/الميكافيلية)، فأراه تلامذته، نهاية الأمر، صنفا منها، لم يخطر له على بال. ولسوف أفرد مقالا عن التطور السياسي، للدكتور الترابي، في وقت لاحق. أركز فيه على تناقضاته، ووجوه الثرة، المتقلبة، وكيف أنه جنى الشوك الذي زرع.


    ظل سيد قطب الباقي:

    استماتت قيادات الحركة الإخوانية، بطريقة وأخرى، في التمسك بما دعا إليه سيد قطب، منذ البداية. وأساس ذلك ألا يناقشوا القضايا، وإنما يرفعوا الشعار، حتى يصلوا إلى السلطة. وقد أشار الدكتور الطيب زين العابدين مؤخرا، إلى هذه العلة القاتلة. لقد شدد سيد قطب، أكثر ما شدد، على الإستعلاء بالإيمان، بزعم أن المجتمع في مجمله، لا يعدو كونه قبيلا من (الجاهليين). وشدد على ألا يجيب المتحمسون على دربه، لفكرة إقامة الدولة الإسلامية، على الأسئلة المتعلقة، بتفاصيل الدعوة، وإنما يكتفوا، فقط، بالدعوة إلى العقيدة. ومن ذلك المنحى، المستسخف للفكر الإنساني، والمستخف به، جاءت العزلة، وجاء كثير من الإستعلاء الجاهل على منجزات العقل البشري، وجملة معارف الحضارة الإنسانية. ولذلك فقد أصبحت أميز مميزات هذا التنظيم، هي التبسيط، والغوغائية. فهم أكبر من مارس الغوغائية، ضد كل الخصوم السياسيين، وضد كل طرح فكري يستدعي إعمالا للعقل. وقد عانى الطلاب الجمهوريون، على وجه الخصوص، في كل الجامعات، والمعاهد العليا السودانية، الأمرين من غوغائية الإتجاه الإسلامي. واستمر ذلك الحال بهم حتى، منتصف الثمانينات، حيث جرى إغتيال الأستاذ محمود محمد طه، وبدأت مطاردة الجمهوريين، ومضايقتهم. وخلاصة القول، أن هذه الحركة الإخوانية، التي تولت إدارة الدولة، في السودان، قد انطلقت من تبسيط ساذج. لقد اتبعت، في مجمل خطها السياسي، أسلوب ما يسمى عند الغربيين، بـ (self-fulfilled prophecy). ويعني ذلك، أن يطلق المرء نبوءة، ثم يعمل من جانبه، بكل الوسائل، لكي تتحقق تلك النبوءة. فقد تنبأ (الإخوانيون) بقيام الدولة الإسلامية على أنقاض الممارسة الديمقراطية، وعلى أنقاض الدستور العلماني، في السودان. ولكن دون أية تفاصيل. مستندين في كل ذلك، في الخمسينات، والستينات، من القرن الماضي، على أدبيات (جاهلية القرن العشرين). ولذلك فقد عملوا بكل الوسائل الممكنة، لكي تفشل الديمقراطية، ويفشل الدستور العلماني. ولهذا فإنني أعزي ارتباك المشهد السياسي في السودان، منذ أكتوبر 1964، وحتى يومنا هذا، إلى عمل (الإخوان) المنظم، والدءوب، لتحقيق تلك النبوءة الأولى.


    الترابي، وحقبة نميري:

    ولأن الجبهة لم تحدث في مسارها أي نقد، ذي بال، فقد سارت على نفس منهجها القديم، أثناء حكم جعفر نميري، وعقب سقوطه أيضا. ففي أثناء حكم نميري، حول الترابي، وقبيله نميري، يبن يوم وليلة، (من سامر ليل مسكين) إلى خليفة للمسلمين! أركبوه مركبا صعبا، و(كلفتوه)، حتى بلغوا في تلك (الكلفتة) أن بايعوه جهارا، نهارا، في قرية أبو قرون، شرقي النيل الأزرق. وقال يس عمر الإمام، الذي كان وقتها، أحد كبار قياديي التنظيم الإخواني، وأحد كبار المسؤولين المايويين، في الإتحاد الإشتراكي، وصحافته، عن بيعة نميري، بقرية أبو قرون، ما يجعل المرء يحار. جاء فيما أوردته عنه صحيفة الأيام السودانية، الصادرة في 23/8/1984 قوله:

    ((انهمرت الدموع في أبي قرون وهي تستعيد ذكرى السيرة العطرة ومواقف الصحابة في بيعة الرضوان) ..... (وتحرك رئيس الجمهورية وسط الناس لا يحيط به الحراس) ..... (البيعة عهد سياسي يقوم على ركائز الدين وفعل ديني ينظم أمر المؤمنين في السياسة) .... (وأمر البيعة لا يستوي إيمان المرء إلا به) ...... (نحن نبايع اليوم على سلطة متقدمة نحو الدين) ..... (واليوم تعود إمامة الصلاة إلى إمام المسلمين) ..... (حسمت البيعة الصراع الذي يظل يدور السنين المائة الماضية) ...... (ولأول مرة في تاريخ المسلمين تأتي الشورى واضحة وملزمة في صيغة البيعة للراعي)).. إنتهى .. ويستمر السيد، يس عمر الإمام قائلا:

    ((يسري التجديد في المسلمين كل مائة عام أو يبعث الله من يجدد لها أمر دينها) ..... (وتأتي هذه البيعة مظهرا وجوهرا ورمزا وعنى تزيل الحرج من النفوس وتقطع الطريق على النكوص والردة)).. إنتهى .. (راجع كتاب محمد سعيد القدال، (1992) (الإسلام والسياسة في السودان). دار الجيل: بيروت، ص ص 221-222)

    لقد سعت حركة الترابي إلى السلطة، بكل سبيل. وقبل أن يبلغ الأمر، درجة احتواء نظان نميري، من الداخل، والتغلغل في مؤسساته، وصياغة قوانين سبتمبر، ومبايعة نميري، خليفة للمسلمين، بدأت فكرة البنوك الإسلامية، التي مثلت ضربة البداية لسيطرة جماعة الترابي على الأسواق. وقد اتسعت نتيجة للإزدهار التجاري، للتنظيم، عضوية الجماعة، اتساعا أفقيا، خرافيا. وقد أصبح المال، والوظيفة، والتسهيلات التجارية، والقروض، والمنح، والبعثات إلى الخارج، وكثير من صور الإغراءات، عناصر جديدة، شديدة الفعالية، في توسيع العضوية. وهذه مرحلة نحتاج فيها إلى دراسات تفصيلية تكشف كل مخبوئها. ففي تلك المرحلة، بدأ أيضا، التغلغل في الجيش، وفي الشرطة، وفي كل أجهزة الدولة. وما أن سقط نظام نميري، حتى ظهرت حركة الترابي، في قامة غير مسبوقة، من حيث الثراء، والماكينة الإعلامية، والإرتباطات الدولية الواسعة، والتحكم في مفاصل إقتصاد الدولة السودانية. في هذه المرحلة، غير الدكتور حسن الترابي، إسم حركته، إلى (الجبهة القومية الإسلامية)، وما أن جاءت الإنتخابات، حتى أصبح، حزب الجبهة، ثالث أكبر حزب في البلاد، كما أصبح رقما لا يمكن تجاوزه، في حسابات السياسة السودانية، مما إضطر السيد الصادق المهدي إلى التحالف معه، وابتلاع كل الشعارات البراقة التي أطلقها عقب الإنتفاضة في أبريل 1985.

    وما أن وصلت جماعة الترابي، إلى البرلمان، في 1986، حتى بدأ العمل ضد حقبة الديمقراطية الثالثة، بهدف تقصير عمرها، أيضا. وقد نجح ذلك المخطط، نجاحا باهرا. فقد استغلت الجبهة القومية الإسلامية كوادرها الإعلامية، وصحفها الكثيرة، في توجيه الضربات للنظام الديمقراطي، حتى جعلت منه هيكلا فارغا، وشبحا بلا روح. كما أظهرت انحيازا كبيرا للجيش الذي كان يحارب في الجنوب، في ظروف بالغة السوء. كما بدأ المعهد الإسلامي الإفريق، (جامعة إفريقيا العالمية، لاحقا) في استدراج ضباط الجيش والشرطة للكورسات، والدورات، مما وسع الجسد السلفي، وسط الجيش. وانقلب الميزان الذي كان مائلا داخل الجيش، نحو اليسار (الضباط الأحرار) وصار أميل إلى جانب الفكر السياسي (الإخواني). وتمكنت الجبهة، من خلال الضرب المتوالي علي النظام الديمقراطي المرتبك، من عزله عن الجماهير، مهيأة بذلك الجمهور، لقبول أي انقلاب يحدث. وقام الإنقلاب المدبر أصلا، ولم يذرف أحد من العالمين دمعة على حكومة السيد، الصادق المهدي الباهتة، الواهنة. وسقط ميثاق الدفاع عن الديمقراطية، سقوطا مدويا، في أول تجربة أعقبت التوقيع عليه. وهكذا، جاء الفكر (الإخواني) منفردا، إلى السلطة، ولأول مرة، في تاريخ السودان، في صبيحة الثلاثين من يونيو 1989. وهنا تحقق للإخوان هدفهم الأساس، الذي عملوا له منذ منتصف الستينات، وأستخدموا في سبيل الوصول إليه، كل وسيلة ممكنة، أخلاقية، كانت أم غير أخلاقية.

    من (يا أمريكا لمي جدادك) إلى التعاون في مكافحة الإرهاب!
    الشاهد أن الجبهة لم تؤمن أصلا بشراكة القوى الأخرى لها. ظانة أنها حين تتسلم مقاليد الأمور في البلاد، بمفردها، سوف تتمكن من إدارة شؤون البلاد، بلا شراكة من أحد. كما ظنت أنها سوف تعيد صياغة كل شيء في السودان. وقد بادرت بالفعل، منذ الثمانينات، إلى إطلاق شعارات، (أسلمة المعرفة)، وهو شعار وضح تنطعه، وغموضه، وفراغه من المحتوى، منذ البداية. فالتيار (الإخواني) قد كانت منذ البدء، عملا (حركيا)، ولم يعط جانب الفكر كبير اهتمام، في يوم من الأيام. بل هو قد انبنى أساسا، على تسفيه الفكر، والحط من قدر العقل، والإعلاء من شأن العاطفة الدينية الفجة. ولذلك، ما لبثت أن شرعت الإنقاذ، فور تسلمها للسلطة، في تصدير (الثورة) إلى خارج البلاد. متجاهلة ما يمكن أن يجلبه هذا الإتجاه، من مخاطر ماحقة، على نظام وليد. وما لبثت، أن فتحت البلاد لكل التنظيمات المهووسة، وكل الأفراد المهووسين، جاعلة من نفسها رأس الرمح، في حركة اسلامية أممية، تطمح إلى تغيير الإقليم، وإعادة صياغة معادلات توازن القوى على وجه الكوكب، برمته. كما تعالت أيضا، على الصراع الداخلي، فيما يتعلق بمشكلة الجنوب، وانتهجت أسلوب الحسم العسكري. وظلت على حالها ذاك، حتى جاءتها الضغوط من كل حدب، وصوب، فأحست لذعات الخطر، فأخذت تكفكف بساط مطامحها، وأخذت شعاراتها تنحو نحوا متواضعا، شيئا فشيئا. وما لبثت أن أصبحت الخاطب الأول لود أمريكا في الإقليم، بعد أن كانت تردد، بملء الفم: (يا أمريكا لمي جدادك). وحين خرج المارد الأمريكي من قمقمه، عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، قدمت الإنقاذ كل ما حوته جعبتها عن الإرهابيين الذي سبق أن دعتهم، وآوتهم.

    وفي الداخل خفتت مصادمات الإنقاذ الأولي لواقع السودانيين الثقافي، ونمط حياتهم، وتقاليدهم المتوارثة، المنبعثة من منطلق الإستعلاء الديني. مات مشروع تهميش النساء في الحياة العامة. وماتت محاولات فصل الرجال والنساء في وسائل المواصلات في مهدها، بعد أن تعثرت في فضاء الواقع العملي، وأصبحت مثار تندر، ومجالا لتأليف النكات. وقلت المضايقات لحفلات الأعراس، ولتقاليد السودانيين، في هذه الأعراس. ومؤخرا جدا، إنهزمت حملة محافظ الخرطوم، المتشدد، مجذوب الخليفة، حين حاول أن يحارب النساء في تحصيل أرزاقهن، بإسم الدين. ثم ما لبث النظام الإخواني الوهابي النزعة، فيما يتعلق بالنظرة إلى الطرق الصوفية، أن فتح الباب للطرق الصوفية، على مصراعيه. فلم تشهد الطرق الصوفية، في عمرها المديد، احتفاء من جانب الدولة كالذي تشهده الآن، على عهد الإنقاذ. وعموما أوشكت الحياة في السودان، بشكل عام، أن تعود إلى طبيعتها القديمة. ولله الحمد من قبل ومن بعد.

    الشاهد أن هذه الحركة الميكافيلية، التي جاءت لتهد الواقع، وتبنيه من جديد، فشلت في مشروعها هذا الذي رعته منذ الخمسينات، من القرن الماضي. وهذا من فضل ربي، على أهل السودان، وعلى أهل هذه الحركة المستعجلة، أنفسهم. والفكر (الإخواني) الذي امتصت ثوريته، ودغمائيته، عناصر كثيرة، في الواقع السوداني، ومنها طول بال السودانيين، وصبرهم، والتحولات العديدة المتتابعة في الساحة الدولية، مطالب الآن، بنقد نفسه، نقدا شفافا، شافيا. وعلامة النقد الشفاف، الشافي، وعلامة صدقه، أن يصل إلى تفكيك، موروث الحركة مما سمي (الإستعلاء بالإيمان)، الإخواني، الذي تحدرت سيوله من منابع، حسن البنا، وسيد قطب. وأن ينعكس كل ذلك في واقع ممارستنا السياسية، فنصبح جميعا، كسودانيين، على قدم المساواة، من حيث أهمية كل منا، للمشروع الوطني، الشامل. وهي فيما أرى، لم تفعل ذلك بعد. ومن بدأوا هذا النقد، من أنصارها، كالدكتور الطيب زين العابدين، والدكتور حسن مكي، والدكتور عبد الوهاب الأفندي، والصحفي، محمد طه محمد أحمد، والصحفي، عثمان ميرغني، وغيرهم، مارسوا، حقيقة الأمر، نقدا خجولا، لا يسمن، ولا يغني من جوع. فكلما قرأت لهم، كلما أحسست أن هناك (تابو) يعجزون عن مقاربته، فيما يتعلق، بجذور الحركة، ورؤيتها التبسيطية الأولى. وكأني بهم يزورون من إدانة كثير من المحرج في تاريخ حركتهم. غير أنه لا مناص من نقد شاف، شفاف، يقفل باب الوصاية على الخلق بإسم السماء، مرة واحدة، وإلى أن يرث الله الأرض، ومن عليها.


    النقد الذي نتطلع إليه:

    نحن اليوم، أكثر ما نكون حاجة إلى أدبيات نقدية ثرة، في هذا المنحى. أدبيات تتقصى صعود فكر سيد قطب التعبوي العاطفي، المستعلي بالإيمان، وتمدده (الحركي) في الفضاء السوداني. وليتأمل معنا كل الذين رعوا هذا المشروع المتهوس، ظاهرة الخمود البالغ السرعة، للصورة الطهرانية للدولة، التي رسمها (الإخوان) منذ الخمسينات. ثم اضمحلال(الأشواق) الإيمانية، العاطفية، وذهاب زخمها، وبريقها، بعد تجربة للحكم لم تبلغ بعد، العقد والنصف، من الزمان!

    والنقد الذي نتوقعه، ونتتطلع إليه، لا تفي بالغرض فيه، المقالات الصحفية، التي تظهر، هنا، وهناك، في المناسبات، من ذلك النوع الذي غالبا ما تدفع بها إلى الواجهة، الأحداث السياسية. نحن بحاجة إلى خبرة، وقلم الدكتور عبد الله علي إبراهيم، لكي نعمل جميعا في وجهة النقد الصارم المحايد، لعوارتنا الفكرية والسياسية لا دمدمتها. بالقفز على الإختلافات الجوهرية، خاصة، ما يتعلق بدستورية القوانين، وحقوق المواطنة، وابتعاد الدولة عن لعب دور الحارس للفضيلة وللقيم، وللأخلاق. فالسلطة، بطبيعتها، مظنة فساد، وإفساد، أكثر من كونها مظنة رشد، وهداية. ودونكم تاريخ الدول، دينية، وغير دينية. ودونكم سلطة الإنقاذ الحالية، التي وعدتنا بمجتمع العدل والفضيلة، أول ما أتت. حتى أن السؤال اليوم، ليس: أين نحن من حيث الفضيلة، مما وعدتنا به الإنقاذ؟ وإنما، السؤال هو: أين نحن مما كنا عليه حالنا، حين جاءتنا الإنقاذ!!

    نحن بحاجة إلى تثبيت الثوابت، التي لا تكون الدولة متمدينة بغيرها، وهي الحقوق الأساسية. والدول الغربية التي تحكمها دساتير علمانية، ليست دولا ملحدة. ولكنها دول تركت أمر الدين لمنظمات المجتمع المدني. فأي حديث عن تطبيق للشريعة الإسلامية، مهما تحايلنا عليه، يعني بالضرورة تقويضا للدستور، ومصادرة للحقوق الأساسية. كما يعني وصاية للحاكم على المحكوم، ووصاية للرجال على على النساء، وعزلا للرجال عن النساء. ثم هذه هي نماذج الدول الدينية، حية امام ناظرينا: كانت الدولة دينية في أفغانستان، على أيام طالبان، وهاهي اليوم قائمة في السعودية، وفي إيران. فهل هذه نماذج يمكن أن تغري أحدا بالإقتداء؟ لماذ نريد أن ندخل أنفسنا في مثل هذه المطبات المحرجة، وننصرف عن قضايانا الرئيسة، في التنمية، والتطوير، والتحديث؟

    في تقديري، أن الكتابات الأخيرة، للدكتور عبد الله علي إبراهيم، لا تعين كثيرا، في وجهة. النقد الذي نحتاجه، ونتطلع إليه، وننتظره. فمقالاته مالت إلى تلميع، مناهج، ومقاربات، هي من العتاقة، بحيث يستحيل تلميعها. وهي قد بدت، أقرب ما تكون، إلى (عمل الشربات من الفسيخ). نحن بحاجة إلى حفر كثير في بنية العقل السلفي. وذلك لا يكون بتملقه، وإنما بمواجهته، دون مواربة. وكون الجبهة قد بنت لنفسها صرحا في حلبة السياسية السودانية، وأنشأت لنفسها دولة، وأحرزت ثروة، وأصبحت رقما لا يمكن تخطيه، في حقل السياسة في السودان لا يعني أن نزايد على نهجها، وأسلوبها، ونقبلهما على علاتهما، فقد كانا خاطئين. لست أدعو إلى رمي كل جسد الجبهة من النافذة، فذلك غير ممكن، إضافة إلى كونه غير مطلوب. ما أرمي إليه هو تفكيك فكر الجبهة الإستعلائي، الإنتهازي، الميكافيلي، وتجريده من أي خرقة دينية تدثر بها في الماضي. هذا منعطف تاريخي، يجب أن نقبر فيه جثة العقل السلفي، وتخلقاته السياسية، في واقعنا الساسي. بنية العقل السلفي هذه، هي التي قد قضت على محاولات التنوير في بلادنا، و قادت إلى قتل رواد التنوير، على أعواد المشانق. نعم على القوى المستنيرة، والطليعية، في كل فضاءات المعرفة، أن تمارس نقدا. غير أن على المؤسسة السلفية، وجسدها السلطوي المتمثل، في الإنقاذ، أن تمارس نقدا أكثر، حتى تذيب نفسها في الفكر السوداني، وتقطع عنها هذه الجذور الأجنبية المنبتة. وعلى المفكرين أن يعينوها على ذلك، ولا يمدوا لها في باطلها.

    في المقال القادم، أكتب هوامش حول كتاب الدكتور عبد الله علي إبراهيم، (الإرهاق الخلاق)، وكتاب الأستاذ عبد الخالق محجوب، (آراء وأفكار حول فلسفة الإخوان المسلمين).
                  

03-02-2008, 02:29 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    حول مقالات د. عبد الله علي ابراهيم في الدفاع عن الفقهاء وقوانينهم
    الدين .. ورجال الدين عبر السنين (الحلقة الاولى)

    د. عمر القراى - 18 مايو 2003

    (1)

    ليس في المعاني الانسانية ما هو أرفع من الدين ، فلقد نشأت المجتمعات على الأعراف الدينية ، فحفظتها ، بما ارست فيها من قواعد الأخلاق والسلوك .. فالدين أول ماعرف الانسان ، وسيكون آخر ما يعرف .. فقد تصور الانسان البدائي قوى الطبيعة المختلفة ، آلهة جبارة تتحكم في حياته ، ولا تأبه بمصيره ، فتزلف اليها ، وقرب لها القرابين .. وكان يرى اقرباءه الذين ماتوا في احلامه ، وهم يتحركون وكأنهم في حياتهم العادية ، ومن هنا نشأت فكرة الحياة الأخرى ، ومختلف التصورات عنها.. وزاد الخوف من بطش الآلهه ، اذ تعدى الأذى في الدنيا الى العذاب في الحياة الدائمة !! ولكن ذلك الخوف هو الذي حفز الانسان في مراقي التطور ، فخوفه من عناصر الطبيعة ، ومن الحيوانات المفترسة ، ومن اعدائه ممن هم مثله ، مدد خياله ، ووسع حيلته في التخفي ، والمناجزة ، وشحذ ذكاءه ، فاكتشف قوانين الطبيعة واستغلاها في تصنيع سلاحه وتطويره من السلاح الحجري حتى القنبلة الهايدروجينية !! أما الخوف من عقاب الآلهه في الحياة الأخرى ، فقد اعانه على كبت رغائبه وشهواته، والخضوع لعرف الجماعة ، حتى في غياب الرقيب ، وضمان الأمن من بطشها ، ومن هنا نشأ الضمير الانساني في سحيق الآماد ..

    فلم يرسل الله الرسل ليخبروا الناس بان لهم الهاً ، لأن ذلك سبقتهم اليه رسل العقول . فقد ادرك العقل البدائي الساذج بالتجربة المعاشة ، ان ليس هناك شئ صنع نفسه بنفسه .. فقام في خلده ان هذه الأرض الواسعة ، والجبال الهائلة ، والبحار والانهار والاشجار السامقة والسماء والشمس والقمر والنجوم ، لا يمكن الا ان تكون قد صنعت بيد صانع قدير ، أقوى وأحكم من الانسان !! وهكذا نشأ الدين في الأرض ، ثم ألمت به أسباب السماء ، على مكث ، وتلبث ، فهذبته ، وسيرته وفق أرادة هادية من ظلام الوثنيات الى نور التوحيد .. فعرفت أديان التوحيد الله للناس ، ووصفته لهم على قدر طاقتهم ، ومهدت طريق الرجعى له بمناهج العبادة وحسن الخلق ، والطقوس المختلفة ، مما نشرته الأديان على مر الأزمان ..

    (2)

    في تلك المراحل البدائية من مسيرة الدين ، كان هناك مشرفون على القرابين وحراس للنار ، وامكنة العبادة ، فأخذ هؤلاء يفسرون للعوام رغبة الآلهه ، ويستلمون الهدايا باسمها ، ويحافظون على مكانتهم بتلاوة التعاويز والرقي ، التي لا يفهمها عامة الناس !! فاذا ارتفع الدين في النفوس ، قام سدنة النار ، وحراس المعابد ، والكهنة بواجبهم تجاه الآلهه ، وتجاه المواطنين ، ومثلوا صوت العقل ، بينهم وبين الأقوياء ، الذين كانوا يغتصبون حقوق الجماعة ، ويبنون على آلامها امجادهم الشخصية .. وحين ينحط الدين في النفوس يخاف رجال الدين من الزعماء الأقوياء ، ويطمعون في عطاياهم ، فيهرعون لمساعدتهم في بسط نفوذهم على الفقراء ، والمساكين ، ويستعملون الحجج الدينية التي تدعو العامة للتسليم للزعماء ، والخضوع لهم ، والا غضبت عليهم الآلهه ، واستحقوا بطش الزعماء !! وهكذا يختل ميزان العدل ، ويسود الظلم والفساد ، ويجمع الطغاة الى السلطة الزمنية ، الني اغتصبوها بالقوة ، سلطة دينية تلحقهم برضا الآلهه يحققها لهم الكهان ورجال الدين .. وبسبب جهل العامة بالدين، لاحتكار رجال الدين لاسراره ، وبسبب ضعف علماء الدين ، وطمعهم ، جاء الحكام الأقوياء الذين ادعوا الآلوهية نفسها !! ومن هؤلاء الفراعنة الذين حكموا مصر ، وغيرهم ممن عاصرهم ، وسبقهم ، أو لحقهم من الملوك ..

    (3)

    وحين تأذن الله تعالى أن يسوق الوثنيات الى غايتها ، بعد ان استنفدت غرضها ، جاءت أديان التوحيد مواجهة لعقائد الشرك ، وللملوك الذين نصبوا أنفسهم آلهه على البشر .. فكانت ثورة أبراهيم الخليل ، عليه السلام ، على آلهة قومه ، وحواره المشهود مع ملكهم النمرود الذي ادعى الالوهية .. ثم جاء موسى عليه السلام ينازع فرعون الوهيته المزعومة ، ويخرج بني اسرائيل من بطشه وقهره ، ويهلكه وسدنته من رجال الديانة المصرية القديمة .. ولما كانت سطوة الملوك لا تزال قوية في النفوس ، والاتباع بعيدين عن الوعي الذي يؤهلهم لحكم انفسهم ، فقد ارسل الله الانبياء الملوك فجاء داؤد وسليمان عليهما السلام .. ولعل هذا ما جعل اليهود ينتظرون نبياً ملكاً ، فلما جاء عيسى عليه السلام فقيراً زاهداً ، رفضوه واغروا به حكامهم من الرومان .. ولقد كان فقهاء اليهود الذين يُسمّون الكتبة أو الفريسيون يحاولون بشتى الطرق ان يعزلوا المسيح عليه السلام عن الناس ، ويوقعوا بينه وبين الحاكم ، حين عجزوا من مناظرته ، وحواره .. ولقد كانوا كمن سبقهم من الكهنة يتمسكون بقشور الشريعة ، ويفرطون في جوهر الدين !! ولقد وصفهم المسيح عليه السلام وأحسن وصفهم حين قال :

    لكن الويل لكم أيها الكتبة و الفريسيّون المراءوون ! فانكم تغلقون ملكوت السموات في وجوه الناس ، فلا انتم تدخلون ولا تدعون الداخلين يدخلون ! الويل لكم ايها الكتبة والفريسيّون المراءوون فانكم تلتهمون بيوت الارامل ، وتتذرعون باطالة صلواتكم لذلك ستنزل بكم دينونة أقسى ! الويل لكم أيها الكتبة والفريسيّون المراءوون ! فانكم تطوفون البحر والبر لتكسبوا متهوداً واحداً فاذا تهود جعلتموه أهلاً لجهنم ضعف ما انتم عليه .. الويل لكم أيها القادة العميان ! الويل لكم ايها الكتبة والفريسيّون المراءوون فانكم تؤدون حتى عشور النعنع والشبث والكمون وقد أهملتم أهم ما في الشريعة : العدل والرحمة والأمانة ... ايها القادة العميان ! انكم تصّفون الماء من البعوضة ولكنكم تبلعون الجمل ! الويل لكم أيها الكتبة والفريسيّون المراءوون فانكم كالقبور المطلية بالكلس تبدو جميلة من الخارج ولكنها من الداخل ممتلئة بعظام الموتى وكل نجاسة ! كذلك انتم أيضاً تبدون للناس ابراراً ولكنكم من الداخل ممتلؤن بالرياء والنفاق ![1]

    ولقذ تآمر الفريسيّون على عيسى عليه السلام ، وسلموه لقتلته ، وذلك أقصى ما بلغ رجال الدين من السوء ومن تزلف الحكام .. على ان المسيحية نفسها وقعت في شرك رجال الدين وتبريرهم لصلف الحكام !! فبعد بضع سنوات من عهد المسيح عليه السلام كتب القديس بولس "ومن يقاوم السلطان فانما يعاند ترتيب الله "!![2] وبعد فترة ظهر رجال الدين المسيحي الذين يستغلون أقدس المقدسات لمصلحتهم الشخصية .. وكانوا يبيعون صكوك الغفران للمذنبين ، ويرفلون في الحرير الى جانب الحكام ، ثم يثبطون من همم الثوار من الفقراء والمحرومين ، ويعدونهم بالجنة اذا هم خضعوا للملوك وأدوا عطاياهم للكنيسة !! وحتى يحكموا قبضتهم على رقاب الناس ، عقّّد رجال الدين المسيحية ، وصبغوها بالكهنوت والاسرار ، وجعلوها طلاسم تصعب على العامة ، واخضعوا المكانة عند الله الى الدراسة والتخصص في علوم الكهنوت ، واصبحوا يشرعون لأتباعهم ما يناقض جوهر الدين المسيحي ويجوزونه باسمه !!

    (4)

    لقد كانت ثورة مارتن لوثر ( 1483-1546) تستهدف تخليص الدين المسيحي من عقابيل الكهنوت والغنوصية ، التي أزرت بهيبته في نفوس الأذكياء ، وكان اعتراضه على الكنيسة يتجه الى تعميم المعرفة التي كانت تحتكرها، وتوجيه النظر الى غاية الدين بدلاً عن مظاهره التي أغرقه فيها رجاله .. ومع ان المذهب البروتستانتي سار خطوات في طريق الاصلاح الا انه أيضاً أوجد رجال دينه بعد فترة ، مما ساق الى الاعتراض من جديد ، باساليب جديدة ..

    على ان الاعتراض هذه المرة ، جاء متأثراً بزخم الثورة الفرنسية وعنفوانها ، فلم يقف عند رجال الدين وانما تعداهم الى الدين نفسه !! ومن ابرز الفلسفات التي ثارت على المؤسسة الدينية ورفضت الدين من ثم ، فلسفة كارل ماركس (1818 – 1883 ) فقد رأى الدين كوسيلة في يد رجال يستغلون به البسطاء ، ويخدمون به مصالح الطبقة الرأسمالية الحاكمة .. ورأى اتباع الدين عاجزين عن الادراك السليم لمأساتهم ، وكأنهم قد خُدّروا بواسطة الوعود والخطب الدينية ، فوصف الدين بانه "افيون الشعوب" !! وكل الافكار التي تلت الماركسية تأثرت بها بصورة من الصور ، وسعت بمختلف الوسائل والعلوم لتثبت صحة الزعم بان الدين ما هو الا تصور الانسان البدائي للطبيعة ، وهو تصور لا بد من تجاوزه كشرط من شروط تطور الواقع الجديد .. وهكذا تبنت مرحلة الحداثة التصور العلماني ، ونجحت أوربا في فصل الدين عن الدولة ، وعزلته عن دوره التشريعي والأخلاقي ، واقامت مفاهيمها على أديم الفكر المادي بشقيه الشيوعي والرأسمالي..

    (5)

    وحين جاء الاسلام ، وضع نفسه من أول وهلة ضد ظاهرة رجال الدين .. وسحب البساط من تحت أرجلهم ، حين جعل منهاج المعرفة الاساسي التقوى بدلاً عن الدرس والاطلاع ، فكان رسوله أمّي وامته أمّية !! قال تعالى "هو الذي بعث في الأمّيين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ، ويزكيهم ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ، وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين" .. ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ، يعلم الناس ما لا تصح العبادة الا به عن طريق الهيئة ، فلم يتحدث عن فرائض الوضوء أو مستحباته ، وانما كان يتوضأ امام الأعرابي فيعلمه الوضوء ، وهكذا علمه جبريل عليه السلام .. ولقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم للأمة ان العلم الحقيقي لا يتأتى بكثرة الاطلاع ، واحتراف الحفظ والاستذكار ، وانما هو ثمرة التقوى ، وبلغهم قوله تعالى "واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شئ عليم" وقال في شرح ذلك "من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم" !! .. ولهذا انشغل الأصحاب رضوان الله عليه بالعمل ، وكان أحدهم لا يحفظ الآيات التي تنزل حديثاً ، ما لم يكن قد طبق الآيات السابقة ، خشية النفاق !! وهم في ذلك ينظرون لقوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتاً عند الله ان تقولوا ما لا تفعلون"!!

    وفي اتجاه المحاربة العملية لظاهرة رجال الدين ، لم يتميز النبي صلي الله عليه وسلم على اتباعه بلبس معين ، أو مكانة معينة ، حتى ان الأعرابي اذا قدم الى مجلسه سأل : أيكم محمد؟! ولقد تنبأ النبي صلي الله عليه وسلم للمسلمين بالانحدار، والمفارقة ، واتباع نفس انحرافات الامم السابقة فقال "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لدخلتموه !! قالوا : أاليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟!" !! ولقذ رأينا كيف ان الأمم السابقة ، ابتدعت ظاهرة رجال الدين ، الذين يتميزون بزي خاص ، ومكانة خاصة ، وكيف ان المتأخرين من علماء المسلمين وفقهائهم كانوا يلبسون ثياباً خاصة ، مميزة ، تشبه الى حد كبير لبس حاخامات اليهود وقساوسة النصارى!!

    ولعل اول اشارة في النعي على رجال الدين ما روي عن السيدة عائشة رضي الله عنها فقد رأت بعض الرجال يغطون رؤوسهم ، ويمشون ببطء ، ويتظاهرون بالمسكنة ، ويخفضون أصواتهم ، فقالت: من هؤلاء ؟! قالوا : هؤلاء القراء !! قالت : أخبروهم لا يفسدوا علينا ديننا !! فقد كان عمر أقرأ الناس ، وكان اذا تكلم أسمع ، واذا مشى أسرع ، واذا ضرب أوجع!!

    (6)

    على ان الفقهاء والوعاظ ورجال الدين لم يظهروا في شكل مؤسسة بالغة الأثر في حياة المسلمين الا بعد الفتنة الكبرى ، حين انتصر معاوية بن ابي سفيان على عليّ بن ابي طالب رضي الله عنه فتحولت الخلافة الى ملك عضوض !! ولما كان الملك وتوارث الحكم ، بدعة جديدة ، تفتقر الى السند الديني ، والتأييد الشعبي ، فقد اعتمد ملوك بني أميّة على الفقهاء ووعاظ السلاطين ليوطدوا سلطانهم ويبرروا ظلمهم ، وفسادهم !! ولم يحدث ذلك الانحراف في يوم وليلة ، وانما كان أوائل الفقهاء أقرب الى روح الدين ، فأعترض قلة منهم على بعض ملوك بني أميّة فنكلوا بهم ، وارهبوا بهم غيرهم ، حتى خضع سائر الفقهاء ، وعلماء الشريعة الى الحكام ، واصبح ذلك الخضوع المنكر ، ديدنهم منذ ذلك الوقت ..

    وبينما احتضنت دولة بني أميّة الفقهاء وعلماء الشريعة ، قتلت آل البيت ، وشردتهم ، ففروا بدينهم الى الفلوات ، وقضوا أوقاتهم في اللجأ الى الله ، والذكر والفكر ، بعيد عن بطش السلطة ، ومن هؤلاء نشأ التصوف الاسلامي ، كفكر واسلوب مغاير تماماً للفقهاء ومذاهبهم !! فحين شغل الفقهاء وقتهم بمداهنة الحكام ، وترقب عطاياهم ، والخوف من بطشهم ، والاجتهاد في تفصيل الفتاوى حسب مصالحهم وأهوائهم ، انشغل السادة الصوفية بتجويد العبادة والتوسل اليها بالزهد في الدنيا ، ثم حسن معاملة الناس ، بكف الأذى عنهم ، وتحمل أذاهم وتوصيل الخير لهم !!

    ومن حسن التوفيق الالهي ان السودان ، لم يفتح بالسيف كغيره من البلاد ، وانما توغل الدين في ربوعه عن طريق التصوف .. فلو كان الاسلام قد قدم الينا تحت ظلال السيوف ، لكان للفقهاء الذين يسيرون في ركاب الملوك ، الاثر البالغ على حياة الناس ، واخلاقهم ، وانشغالهم بمظهر الدين بدلاً من مخبره !! ومع ذلك فان السلطة التي وجدها الفقهاء في السودان ، انما كانت بسبب من اثر النفوذ المصري علينا ، فقد درس كثير من السودانيين في الأزهر ، وعادوا لينشئوا المعاهد الدينية التي يروجون من خلالها لآراء الفقهاء القدامى ، دون فهم لجوهر الدين ، أو اعتبار لتطور الحياة !!

    (7)

    كتب د. عبد الله علي ابراهيم ، الباحث والمؤرخ المعروف عدة مقالات نشرت في شهر ابريل الماضي بجريدة الرأي العام ، ولقد أوضح غرضه من كتابة هذه المقالات بقوله:

    أريد في المقالات التي انشرها متتابعة ان ارد الشريعة الى مطلبها الحق ان تكون مصدراً للقوانين في بلد للمسلمين . ولست أرى في مطلبها هذا بأساً أو ظلماً لغير المسلمين . فهي عندي مما يسع التشريع الوطني العام ويهش له متى خلا دعاتها من نازعة "الوطنية الاسلامية " وبذلوا سماحتها للوطن لا يفرقون بين أهله متوسلين الى ذلك بحرفة القانون عارضين اجتهادهم من خلال مؤسسات التشريع بالدولة . ولست ادعي علماُ فيما يجد غير انني اتفاءل بما سلف من خصوبة الشريعة وحسن تدريب وذوق المشرعين بها من قضاة المحاكم الشرعية على عهد الاستعمار وما تلاه في ترتيب قوانين ألتزمت خير الأسرة المسلمة وانتصفت للمرأة ما وسعها . وهي ما اسميه التقليد الشرعي السوداني 1898 -1983 .[3]

    ومع ان مقالات الكاتب قد جاءت طويلة ومفصلة ، الا انه لم يخبرنا كيف ان الشريعة ، لوكانت هي مصدر القوانين ، لن يكون في ذلك ظلم لغير المسلمين ، أو ظلم للمرأة ، بل لم يعط القارئ أي نصوص مما تقوم عليه الشريعة ليدلل بها على ما يمكن ان تحققه من مساواة وعدالة .. كما انه لم يقف عند محاولات تطبيق الشريعة في السودان أو ايران أو باكستان ليحدثنا عن السبب في فشل تلك التجارب ، وضمان عدم فشل التجربة الجديدة لو أردنا تطبيق الشريعة مرة أخرى !!

    لقد اتجهت مقالات د. عبد الله علي ابراهيم لتؤكد ان محافظتنا على ديننا وثقافتنا تقتضي ان نجعل الشريعة مصدر كافة قوانينا بما في ذلك قوانين الأحوال الشخصية ، وينتج عن ذلك رد اعتبار الفقهاء وعلماء الشريعة الذين قلل الاستعمار من مكانتهم بسبب انهم كانوا رمز للوطنية لدفاعهم عن قوانين الشريعة في وجه القانون الانجليزي الوضعي !!

    ان محاولتي في هذه المقالات تتجه لأن توضح ان تمسكنا بالدين يقتضي الفهم الذي يميز بين الدين والشريعة ، فيدعو الى تطوير الشريعة حتى ترتفع الى جوهر الدين ، والى قامة العصر من تحقيق الحرية والديمقراطية ، وان غياب هذا الفهم هو الذي أدى الى فشل تطبيق الشريعة !! كما ان الفقه قد قصّر قصوراً مزرياً ، أخرجه عن جادة الشريعة دع عنك جوهر الدين .. ومن هنا جاء ظلم الفقهاء وعلماء الشريعة للمرأة ولغير المسلمين بصورة لا يمكن تعميتها ، بمثل محاولات د. عبدالله !! ولم يكن القضاة الشرعيون والفقهاء وطنيين وانما كانوا يخدمون غرض الاستعمار ، ويتسقطون رضاه !! ثم انهم ساروا من بعد الاستقلال في ركاب الطائفية ، واستغلوا بواسطة الجماعات الاسلامية ، لرفع شعار الدولة الدينية ، الذي تحول الى تصعيد للحرب الأهلية باسم الجهاد !! وهم بذلك كانوا يشوهون الدين بمساندتهم للسلطة ، وبرفضهم وتآمرهم على الصورة المتقدمة التي طرح بها في السودان منذ مطلع الخمسينات فيما عرف بالفكر الجمهوري ، ومن هنا كان لا بد من كشفهم ، ومواجهتهم حتى لا ينفر الاذكياء عن الدين ، بسبب سوء ممارسة رجال الدين ، ويرد شعبنا المعين الصافي بعد ان تطهر من اوضار الجهلات !!

    ان مقالات د. عبد الله علي ابراهيم ، قد جاءت في وقت مناسب يتحاور فيه السودانيون بالداخل والخارج ، حول مستقبل بلادهم ، ويسعون الى تحقيق السلام ، وتوسيع قاعدة المشاركة ، وهي بذلك تعطينا فرصة لنوضح ربما للكثيرين من ابنائنا وبناتنا جانب من تاريخنا ، وقع عليه كثير من التزييف لمصلحة قوى التخلف ، مما جعل قضية الدين والدولة أهم القضايا التي يجب ان نثيرها ، دون ان نمل الحديث فيهاً !!


    (نواصل )

    عمر القراي


    -------------------------------

    [1] - انجيل متى 23

    [2] - روجيه غارودي (1996) نحو حرب دينية – ترجمة صياح الجهيم . بيروت : دار عطية للطباعة والنشر ص 15

    [3] - الرأي العام 29 – 4 -2003
                  

03-02-2008, 02:31 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    حول مقالات د. عبد الله علي ابراهيم في الدفاع عن الفقهاء وقوانينهم
    الدين .. ورجال الدين عبر السنين (الحلقة الثانية)

    د. عمر القراى - 23 مايو 2003

    (8)

    ان الافتراض الاساسي في مقالات د. عبد الله علي ابراهيم لجعل الشريعة مصدر القوانين في السودان ، وتحسره على عدم الأخذ بها منذ ان جلا الاستعمار عن هذه البلاد، هو ان الشريعة ليس بها "بأساً أو ظلماً لغير المسلمين" كما انها "انتصفت للمرأة ما وسعها"[1] !! ولعل ما ساق لهذا الخطأ هو الخلط بين الدين وبين الشريعة ، وهو خلط قد جاز طويلاً على علماء المسلمين وعامتهم .. فالدين هو التوحيد ، وهو في بدايته الاقرار لله بالوحدانية ، وفي قمته التسليم التام له سبحانه وتعالى . وحين قال تعالى "ان الدين عند الله الاسلام " عنى التسليم للارادة الالهيه ، ولم يعن الاسلام بمعنى الشريعة التي اتى بها محمد صلى الله عليه وسلم !! وذلك لأن الاسلام سابق لهذه الشريعة وعن ذلك يقول تعالى "انا انزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والاحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء" ، فأنبياء بني اسرائيل قد كانوا مسلمين ، وابراهيم الخليل عليه السلام قد كان مسلماً ، قال تعالى "ومن يرغب عن ملة ابراهيم الا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وانه في الآخرة لمن الصالحين * اذ قال له ربه أسلم قال اسلمت لرب العالمين" !! والدين بهذا المعني واحد ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم "خير ما جئت به أنا والنبيون من قبلي لا اله الا الله" .. ومع ان الدين واحد الا ان الشرائع قد اختلفت باختلاف الامم ، بسبب تطور الحياة ، ومن ثم تغيير المجتمعات .. ذلك ان الشريعة انما هي القوانين والاحكام ، التي تنزلت من الدين ، لتدرج المجتمات نحو غايات الدين العليا ، وهي لملامستها لواقع المجتمع تتأثر به ، وتراعي امكانات وطاقات افراده .. ولتوضيح هذا الأمر يضرب الاستاذ محمود محمد طه المثل باختلاف شريعة الزواج بين آدم عليه السلام ، ومحمد صلى الله عليه وسلم ، فبينما كان زواج الأخ من أخته شريعة دينية في عهد آدم ، اصبح حراماً في شريعة محمد ، بل شمل التحريم ما هو أبعد من الأخت كالخالة و العمة وغيرها، يقول الاستاذ محمود :

    فاذا كان هذ الاختلاف الشاسع بين الشريعتين سببه اختلاف مستويات الأمم ، وهو من غير أدنى ريب كذلك ، فان من الخطأ الشنيع ان يظن انسان ان الشريعة الاسلامية في القرن السابع تصلح بكل تفاصيلها ، للتطبيق في القرن العشرين . ذلك بان اختلاف مجتمع القرن السابع ، عن مستوى القرن العشرين ، أمر لا يقبل المقارنة ، ولا يحتاج العارف ليفصل فيه تفصيلاً ، وانما هو يتحدث عن نفسه . فيصبح الأمر عندنا أمام أحدى خصلتين: أما ان يكون الاسلام كما جاء به المعصوم بين دفتي المصحف ، قادراً على استيعاب طاقات القرن العشرين ، فيتولى توجيهه في مضمار التشريع ، وفي مضمار الأخلاق ، واما ان تكون قدرته قد نفدت ، وتوقفت عند حد تنظيم مجتمع الفرن السابع ، والمجتمعات التي تلته مما هي مثله . فيكون على بشرية القرن العشرين ان تخرج عنه ، وتلتمس حل مشاكلها في فلسفات اخريات ، وهذا ما لا يقول به مسلم .. ومع ذلك فان المسلمين غير واعين بضرورة تطوير الشريعة .. وهم يظنون ان مشاكل القرن العشرين يمكن ان يستوعبها وينهض بحلها ، نفس التشريع الذي استوعب ، ونهض بحل مشاكل القرن السابع ، وذلك جهل مفضوح ..[2]

    ولما كان القرآن قد حوي كل شئ ، فان التطور الذي حدث لا يحتاج الى رسالة جديدة ، وان احتاج الى تشريع جديد !! ولقد حوى القرآن المكي الذي كان منسوخاً ، بسبب قصور المجتمع عن شأوه ، التشريع المناسب للبشرية في عصرنا الحاضر ، وانما بعث هذا التشريع لتفصل منه القوانين هو ما اسماه الاستاذ محمود محمد طه تطوير التشريع ، وزعم انه السبيل الوحيد لعودة الاسلام في حياة المسلمين .. هذه الفكرة التي فصلها الاستاذ محمود في حوالي الاربعين كتاباً، وكتب حولها تلاميذه ما يربو على المائة وخمسين كتاباً، وقاوم بسببها تطبيق قوانين سبتمبر التي زعمت كافة الجماعات الاسلامية بانها الشريعة، حتى بذل حياته ثمناً لذلك ، لم تحظ من د. عبد الله علي ابراهيم بأي اشارة على الرغم من ان بحثه المطول قد كان حول الخلاف المحتدم حول القوانين الشرعية في السودان ، ولم ينس ان يذكر فيه حتى معارضة أو موافقة الاتحاد النسائي!!

    (9)

    أول ما تجدر الاشارة اليه في أمر الشريعة ، هو انها لا تساوي بين المواطنين في الحقوق والواجبات لانها تقوم على العقيدة التي تفضل المسلم على غيره !! قال تعالى في ذلك "ان العزة لله ولرسوله وللمؤمنين" .. ولقد اتجه التطبيق العملي لهذا المفهوم الى قتال المشركين حتى يسلموا ، وقتال أهل الكتاب - اليهود والنصارى - حتى يسلموا أو يعطوا الجزية !! قال تعالى "فاذا انسلخ الاشهر الحرم فأقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فان تابوا واقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ان الله غفور رحيم" .. ولقد حددت هذه الآية ، وهي من آخر ما نزل في شأن التعامل مع المشركين ، زمان قتالهم بانقضاء الاشهر الحرم ، وحددت مكان قتالهم بانه حيث وجدوا ، وحددت سبب قتالهم بانه كفرهم وعدم اقامتهم شعائر الاسلام ، وحددت وقف القتال معهم ، بدخولهم في الاسلام واقامتهم الشعائر !! واعتماداً على هذه الآية جاء حديث النبي صلى الله عليه وسلم "أمرت ان أقاتل الناس حتى يشهدوا ان لا اله الا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فان فعلوا عصموا مني دماءهم واموالهم وأمرهم الى الله"..

    أما أهل الكتاب فقد قال تعالى عنهم "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" !!

    ونزولاً عند هذا التوجيه ارسل النبي صلى الله عليه وسلم رسائله المشهودة لملوك الفرس والروم "أسلموا تسلموا يكن لكم ما لنا وعليكم ما علينا، فان ابيتم فأدوا الجزية والا فاستعدوا للقتال" !! هذه هي خيارات الشريعة لليهود والنصارى : اما الاسلام ، أو الجزية، أو القتال ..أما بالنسبة للمشركين فهما خياران لا ثالث لهما : الاسلام أو القتال !!

    والجزية ليست ضريبة دفاع ، يدفعها أهل الذمّة ، من يهود ونصارى ، للمسلمين الذين غزوا بلادهم وبسطوا سلطانهم عليها، لأنهم يقومون بحمايتهم فحسب ، لكنها الى جانب ذلك اقرار بالخضوع ، واظهار للطاعة ، واشعار بالمهانة والذل ، هدفه ان يسوق الذمي الى الاسلام .. جاء في تفسير قوله تعالى "عن يد وهم صاغرون" "أي عن قهر وغلبة .. وصاغرون أي ذليلون حقيرون مهانون ولذلك لا يجوز اعزاز أهل الذمّة ولا رفعهم على المسلمين بل هم أذلاء صغرة أشقياء كما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام واذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه الى أضيقه"[3]

    ومعلوم ان غير المسلم لا يصح له ان يكون رئيساً للدولة المسلمة ، ولا ان يتولى قيادة الجيش لأن الجيش جيش جهاد !! وليس له الحق في تولي القضاء الذي يقوم على قوانين الشريعة الاسلامية !! ومن الناحية الاجتماعية لا يجوز له ان يتزوج المرأة المسلمة ، ولما كان دفعه للجزية الغرض منه اشعاره بالصغار ، فانه لنفس الغرض لا يتولى المناصب الرفيعة ولا يؤتمن على اسرار المسلمين .. فقد روي ان ابو موسى الاشعري اتخذ كاتباً نصرانياً ، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الا اتخذت حنيفياً ؟ قال: يا امير المؤمنين لي كتابته وله دينه !! قال عمر: لا اعزهم اذ اذلهم الله ولا ادنيهم اذ ابعدهم الله !! ثم قرأ قوله تعالى "يا ايها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فانه منهم ان الله لا يهدي القوم الظالمين"!![4]

    فهل يمكن لمثقف أمين ان يقول بان غير المسلم لا يتضرر بتطبيق قوانين الشريعة الاسلامية ؟!

    (10)

    ومما يترتب على الجهاد اتخاذ الاسرى رقيقاً ، ومع ان الاسلام وجد الرق سائداً في الجاهلية ، الا انه لم يلغه ، كما ألغى الزنا ، والربا ، والميسر ، وغيرها ، وذلك لانه فرض الجهاد ، فاضطر الى مجاراة عرف الحرب والاسر .. ولقد اقرت الشريعة الرق كنظام اجتماعي ، وتعايش المسلمون االأوائل مع عبيدهم يبيعونهم ، ويشترونهم ، ويعتقونهم احياناً اذا لزمت احدهم الكفارة .. ورغم ان الشريعة دعت الى حسن معاملة العبيد ، من الناحية الاخلاقية ، الا ان الوضع القانوني للعبد ، يجعله أقل في القيمة الانسانية من الحر ، فمع انه انسان الا انه اعتبر مثل المتاع الذي يملكه سيده .. وقد اسرف الفقهاء في بيان ذلك بمستوى ينفر منه الذوق السليم .. فالسيد اذا قتل العبد لا يقتل ، واذا اصابه دون القتل يقدر المصاب بالقيمة الماليه للعبد !! فقد ورد ان العبد "ان كسرت يده أو رجله ثم صح كسره فليس على من اصابه شئ فان اصاب كسره ذلك نقص أو عثل (جبر على غير استواء) كان على من اصابه قدر ما نقص من ثمنه"!![5]

    وحين يتخذ الاسرى من الرجال عبيداً ، يتخذ الاسيرات من النساء إماء ، ويعتبرن مما ملكت يمين اسيادهن .. وقد اجازت الشريعة للمسلمين ان يعاشروا ما ملكت ايمانهم بغير زواج ، فاصبح للمسلم الحق في معاشرة عدد غير محدود من النساء .. قال تعالى "والذين هم لفروجهم حافظون * الا على ازواجهم أو ما ملكت ايمانهم فانهم غير ملومين" .. ويجوز للمسلم ان يبيع جاريته لغيره ، وان يشتري غيرها من الجواري ، يعاشرهن ثم يبيعهن مرة أخرى !! وهكذا نشأ سوق للجواري بجانب سوق العبيد ، واصبح نظام الإماء مثل نظام العبيد ، نظاماً اجتماعياُ راسخاً مرتبطاً أيضاً بالجهاد !!

    وقد يقول قائل ان نظام الرق والإماء قد كان سائداً في الماضي لكنه لا يعنينا الآن !! وفي الحق ان الدعوة لجعل الشريعة مصدراً للقوانين انما تسوق كنتيجة طبيعية الى اقامة الدولة الاسلامية .. ومتى ما قامت الدولة الاسلامية ، ولو بمجرد الادعاء ، فان حربها مع خصومها أو مع الاقليات غير المسلمة تعتبر جهاداً ، مما يعيد كل هذه الصور من جديد !!

    (11)

    عندما تعالت صيحات منظمات حقوق الانسان عن اعادة الرق في السودان في منتصف التسعينات ، قامت بعثة من المنظمة السودانية لحقوق الانسان بالسفر لجنوب السودان وكتبت الآتي في تقريرها الذي كان له اثراً بالغاً :

    خلال الفترة ما بين 17 و22 مايو عام 1999 قامت المنظمة السودانية لحقوق الانسان فرع القاهرة ، ممثلة في نائب رئيسها والامين العام بزيارة الى إقليم بحر الغزال في جنوب السودان ، بغرض الوقوف على أوضاع حقوق الانسان في المنطقة وللتحري في اتهامات بممارسة الرق. وقد اجرت المنظمة خلال الزيارة – التي شارك فيها ممثلون لمنظمة التضامن المسيحي ومجموعة تمثل التلفزيون والصحافة الكندية - تحقيقات ميدانية ومقابلات مباشرة مع كافة الاطراف ذات الصلة بقضية الرق من مواطنين تمت اعادتهم من الاسترقاق ، وتجار شاركوا في عمليات استعادة الرقيق ، وسلاطين وزعماء ، ومسؤولين عن الادارة الأهلية ، واهالي وذوي العائدين من الاسترقاق الى جانب مواطنين عرب يعيشون في المنطقة وتجار قادمين من الشمال. وابدت المنظمة اهتماماً خاصاً بافادات الاطفال وعملت على توثيق لقاءاتها المباشرة بالمعنيين عبر عدة وسائل للتوثيق وخلصت الى ما يلي :

    · ظاهرة الرق ليست مستحدثة بل قديمة وهي قد ارتبطت بداية بالصراعات القبلية في المنطقة غير انها اتسعت بشكل يدعو للقلق في ظل النظام الحالي الذي تقوم سلطاته بالتشجيع على ممارسة الرق وتنظيمها والاشراف عليها . وتقوم السلطات بتجنيد أعداد من ابناء المسيرية والرزيقات ضمن قوات الدفاع الشعبي وتوفر للمجند منهم حصاناً وبندقية كلاشنكوف ومبلغ 50 الف جنيه للقيام بغارات على القرى التي تشتبه السلطات في انها تدعم الحركة الشعبية لتحرير السودان ، ويحتفظ المغيرون من هؤلاء المجندين بما يحصلون عليه من رقيق وأبقار وممتلكات باعتبارها مغانم الحرب الجهادية .

    · يشارك في الغارات على القرى والبلدات المراحيل – وهو الاسم الذي يطلقه الأهالي المحليون على مجموعات المجندين – وافراد الدفاع الشعبي أو القوات المسلحة. وسواء تمت الغارات بمشاركة الاطراف الثلاثة أو عن طريق مجموعة واحدة منها يتم نقل حصيلة الغارات من رقيق وابقاروخلافه الى مناطق تقع تحت سمع وبصر السلطات السودانية.

    · يتم تجميع الرقيق والغنائم الاخرى في حظائر معدة لهذا الغرض تقوم بحراستها قوات نظامية ( قوات مسلحة و قوات دفاع شعبي ) وتقع هذه الحظائر على مسافة تتراوح بين 5 الى 7 ساعات سيراً على الأقدام من المناطق التي استهدفتها الغارات .

    · في مرحلة لاحقة ينقل الرقيق الى مدن المجلد والميرم عبر رحلات تستغرق من 6 الى 9 أيام ويتم أثناء هذه الرحلات إعدام أعداد كبيرة من الرجال بضربهم ، وهم مقيدي الايدي والأرجل ، بهراوات على الرأس ، كما يتم الاحتفاظ باعداد من الشباب كمجندين ، وتتعرض النساء الى عمليات أغتصاب متكرر بواسطة الحراس والعاملين على نقلهم ، ويتم أثناء الرحلة ربط كل 9 أو 10 من الرقيق بواسطة حبل طويل الى بعضهم البعض .

    · يتم بيع الرقيق الى اسياد جدد حيث تستخدم النساء في أعمال الزراعة والرعي وجلب الماء وطحن الذرة ( بلا مقابل ) بالاضافة لتقديم خدمات جنسية نزولاُ على رغبات اسيادهن ، ولا تتبدل معاملة الرقيق بعد انجابهن من سادتهن كما لا يعامل اطفالهن بذات المعاملة التي يحظى بها الاطفال الطبيعيون للسادة ويطلق على الرقيق اسماء جديدة تكون في الغالب اسماء عربية.[6]

    ولعل من أهم ما جاء في هذا التقرير، الافادات العديدة المسجلة ، لأشخاص عانوا من تجربة الاسترقاق المريرة . ورغم قسوة هذه الافادات ومرارتها حتى لمن يقرأها الا انني ارى ان نورد واحدة منها كنموذج بالغ الدلالة على ما وصل اليه الحال تحت الحكومة التي تدعي تطبيق الشريعة . جاء في الافادة :

    من "كوروك" غرب "أويل" تم اختطافها قبل 14 شهراً ومعها حوالي 300 شخص من الدينكا تم اختطافهم بواسطة اعداد كبيرة من المهاجمين الذين كانوا خليطاً من الجنود النظاميين وقوات الدفاع الشعبي والمدنيين : ثم اخذنا الى "ابو مطارق" وفي الطريق تم إغتصابي بواسطة عدة اشخاص ، وقد تعرضت للضرب الشديد –زوجي "بول يول داو" قتل قبل عامين من اختطافي – تم اخذي من "ابو مطارق" بواسطة شخص اسمه علي وكان يعاملني بقسوة شديدة ، يضربني ويقذف بالأكل على الأرض ويطلب مني أكله وكان علي مرتبط بالزراعة في مكان بعيد من المنزل ، وكان يناديني "بنت الجانقي" وكان يطلب مني الصلاة وحين اذكر له اني لا اعرف كان يضربني ب "القنا" .... اصرّ سيدها على ان يقوم بطهارتها حتى يتزوجها ، وقد تم ذلك بعد ان تم تثبيتها على "العنقريب" بحضور زوجة سيدها وعدد آخر من النساء ، وقد تمت الطهارة دون بنج ، وكان الجرح ينزف لمدة أربعة أيام دون توقف ، وبالرغم من الألم والإرهاق بسبب النزيف ، فقد اجبرت على العمل في اليوم التالي مباشرة ، وقد ضاجعها سيدها بعد ثلاثة أشهر من "الطهارة".[7]

    ( 12)

    ولقد يلاحظ ان السيدة الجنوبية ، التي وقع عليها هذا الاعتداء الاثيم ، اعتبرته اغتصاباً ، بينما اعتبره الرجل الذي يعتقد انه سيدها ، عملاً مقبولاً ، لانه يظنها مما ملكت يمينه !! وانه لذلك ، له الحق الشرعي في بيعها وشرائها وختانها ومضاجعتها !! فهل كان مثل هذا الفهم وهذه الممارسة يمكن ان تتم لو ان شعارات القوانين الاسلامية لم ترفع وطبول الجهاد لم تدق من كافة وسائل الاعلام ؟! أفان قال هذا الرجل ان عمله هذا يتفق مع الشريعة الاسلامية التي اجازت قتال الوثنيين وسبي نسائهم واتخاذهم جواري ومعاشرتهم بغير زواج ، وانه فعل ذلك تطبيقاً للقوانين الاسلامية ، واقتداء بالاصحاب رضوان الله عليهم ، فهل سيقبل د. عبد الله علي ابراهيم عمله هذا أم سيرفضه باعتبار انه "يصطدم مع العدالة واملاءات الوجدان السليم" ؟! فان كان سيرفضه فقد اجاب على سؤاله حيث قال "لماذا لم يستفد القضاة الانجليز وخلفهم من السودانيين من الشريعة الاسلامية في انشاء قوانين السودان في حين كان متاحاً لهم ذلك بفضل الصيغة الموجهه لعملهم القضائي والتشريعي القائله ان بمقدورهم الاستعانه بأي قانون طالما لم يصادم العدالة والسوية واملاءات الوجدان السليم"[8] !! ذلك ان الشريعة في وقتنا الحاضر تصادم العدالة والسوية والوجدان السليم !! ان دعوة د. عبد الله علي ابراهيم ، لتطبيق الشريعة ، منذ الاستقلال ، لو حدثت بالفعل ، لكنا قد دخلنا في تجارب الجهاد ، والرق ، وما ملكت ايمانكم ، من قبل خمسين سنه!!

    ألم يكن "الافندية" الذين على اصرّوا ان يتبع القانون السوداني ، بعد الاستقلال القانون الانجليزي الوضعي ، ابعد نظراً ، واعرف بواقع التنوع الثقافي ، من دعاة تطبيق الشريعة ، ابتداء من الترابي ، ومروراً بالنميري وانتهاء بعبد الله علي ابراهيم ؟!

    ان حكومة الجبهة الاسلامية القومية ، الحاضرة ، انما تمارس تضليلاً واسعاً ، حين تزعم في مفاوضاتها مع الحركة الشعبية لتحرير السودان ، بانها تقبل ان تعفى مناطق تواجد غير المسلمين من قوانين الشريعة .. ذلك لأن الشريعة لا تعترف بالقوانين الأخرى بل تعتبرها مجرد أهواء البشر ، وتنهى لذلك الحاكم المسلم ان يحكم بها .. قال تعالى "وانزلنا اليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما انزل الله ولا تتبع اهواءهم عما جاءك من الحق ..." !! فالشريعة لا تقوم فقط على ما ينبغي ان يطبقه المسلم على نفسه ، بل تقوم ايضاً على ما يجب ان يطبقه على غيره ، ولهذا شرعت الجهاد والجزية عقوبة لغير المسلمين ، ولم يمنعها من ذلك كونهم غير مسلمين!! فاذا تنازلت حكومة الجبهة عن تدخل الشريعة في حياة غير المسلمين ، فانما هو تكتيك سياسي مؤقت لا تسنده الشريعة ، ولا تلتزمه الجبهة الا ريثما تملك القدرة مرة اخرى على استئناف ما تعتبره جهاداً !!

    ومقالات د. عبد الله علي ابراهيم ، انما جاءت في هذا الوقت بالذات ، لتدعم من موقف الجبهة في المفاوضات الجارية ، فالجبهة تحتاج ان تؤكد بان القوانين الاسلامية يؤيدها "مثقفون" من خارج تنظيمها وان هؤلاء يعتقدون ان قوانين الشريعة تضاهي القوانين الانسانية الرفيعة التي تحتوي على حقوق الانسان ، فلا يتضرر منها غير المسلمين ولا تتضرر منها المرأة !! ولقد اوجزنا موقف الشريعة من غير المسلمين ، وسنحاول باذن الله ان نتطرق الى موقفها من المرأة في الحلقة القادمة ، حتى نفرغ لرجال الدين ..

    (نواصل)

    عمر القراي



    ----------------------------------------

    [1] - راجع مفالات د. عبد الله

    [2] - محمود محمد طه – الرسالة الثانية ص 8

    [3] - تفسير ابن كثير –الجزء الثاني ص 132

    [4] - المصدر السابق .

    [5] - راجع موطأ الامام مالك باب الرقيق .

    [6]- للمزيد من التفاصيل راجع دورية حقوق الانسان السوداني –الرق في السودان - المنظمة السودانية لحقوق الانسان _ فبراير 2000

    [7] - المصدر السابق .

    [8] - مقالات د. عبد الله بالراي العام


    www.alfikra.org
                  

03-02-2008, 02:32 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    حول مقالات د. عبد الله علي ابراهيم في الدفاع عن الفقهاء وقوانينهم
    الدين .. ورجال الدين عبر السنين (الحلقة الثالثة)

    د. عمر القراى - 6 يونيو 2003

    (13)

    يقول د. عبد الله علي ابراهيم " ولست أدعي علماً فيما يجد غير انني اتفاءل بما سلف من خصوبة الشريعة وحسن تدريب وذوق المشرعين بها من قضاة المحاكم الشرعية على عهد الاستعمار وما تلاه في ترتيب قوانين التزمت خير الاسرة المسلمة وانتصفت للمرأة ما وسعها. " [1]

    أحب ان ابدأ بان الشريعة الاسلامية ، قد كانت حكيمة كل الحكمة ، في كافة أحكامها ، وهي قد قفزت بالمرأة قفزة كبيرة عما كان عليه وضعها في الجاهلية .. فقد كانت المرأة في عرف المجتمع الجاهلي توأد ، وتباع ، وتسبى ، وكان الرجل يعاشر العشرة والعشرين ، دون أي قيد ، ولم يكن للمرأة أي قيمة الا من حيث انتسابها للرجل !! ولقد منعت الشريعة كل ذلك ، وأعطت المرأة من الحقوق بقدر ما كانت تسمح به طاقة المجتمع في القرن السابع الميلادي .. ولكن أحكام الشريعة انما تقصر عن أمكانات المرأة الحديثة ، مما يجعل الدعوة الى تطبيق قوانينها اليوم ، دعوة الى التخلف ، بالغة الظلم للمرأة ، وبالغة التشويه للدين !!

    ولعل ابقاء الاسلام في مستوى الشريعة على بعض صور عدم المساواة ، وعدم الكرامة للمرأة ، هو الذي ضلل فقهاء المسلمين الأوائل ، وعلماءهم الحاضرين ، وبعض المثقفين حين ظنوا ان ذلك هو مراد الدين بالاصالة ، وحكمه النهائي ، وغفلوا عن حقيقة ان الاسلام انما كان يدرج المجتمع ، ويراعي ضعفه ، وان أحكامه التي طبقت على مجتمع العهد الأول ، وخرج بفضلها من ظلام الجاهلية الأولى ، لا يمكن ان تكون كلمته النهائية للمجتمع البشري الحاضر بعد ان قطع زهاء الألف وخمسمائة عام من التطور . والآن !! بفضل الله ثم بفضل تطور المجتمع ، وتطور المرأة ، وتمردها على واقعها ، ومشاركتها بكفاءة في شتى ميادين الحياة ، ظهر مبلغ الخلف الشاسع بين الفكر الاسلامي السلفي التقليدي وما يتبناه من قوانين الشريعة وبين واقع العصر !!

    (14)

    لقد اعتمدت جملة آراء الفقهاء ، في كافة القوانين التي أعطت المرأة حقوقاً منقوصة ، على آية القوامة ، وهي قوله تعالى " الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم ، فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله ، واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن وأهجروهن في المضاجع واضربوهن فان اطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا ، ان الله كان علياً كبيراً " .. جاء في تفسير الآية :

    الرجال قوامون على النساء" أي الرجل قيم على المرأة أي هو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها ومؤدبها اذا اعوجت .." بما فضل الله بعضهم على بعض" ، أي لأن الرجال افضل من النساء ، والرجل خير من المرأة ، ولهذا كانت النبوة مختصة بالرجال ، وكذلك الملك الأعظم لقوله صلى الله عليه وسلم : لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة (رواه البخاري) وكذا منصب القضاء .." وبما انفقوا من اموالهم "، أي المهور والنفقات والكلف التي اوجبها الله عليهم في كتابه وسنة نبيه .. فالرجل أفضل من المرأة في نفسه وله الفضل عليها والافضال فناسب ان يكون قيماً عليها .. قال الحسن البصري : جاءت امرأة الى النبي صلى الله عليه وسلم تشكو ان زوجها لطمها . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : القصاص . فانزل الله عز وجل "الرجال قوامون على النساء" الآية ، فرجعت المرأة بغير قصاص .. " واللاتي تخافون نشوزهن" أي و النساء اللاتي تتخوفون ان ينشزن عن أزواجهن ، والنشوز هو الارتفاع ، فالمرأة الناشز هي المرتفعة على زوجها التاركه لأمره المعرضة عن المنفعة له ، فمتى ظهر له منها أمارات النشوز فليعظها وليخوفها عقاب الله في عصيانه ، فان الله أوجب حق الزوج عليها وطاعته وحرم عليها معصيته ، لما له عليها من الفضل والافضال .. قوله " واهجروهن في المضاجع " قال علي بن طلحة عن ابن عباس الهجر هو ان الا يجامعها ويضاجعها على فراشها ويولها ظهره ، وزاد آخرون منهم السدّي والضحاك وعكرمة : ولا يكلمها ولا يحادثها .. " واضربوهن" اذا لم يرتدعن بالموعظة ولا بالهجران فلكم ان تضربوهن ضرباً غير مبرح . [2]

    وذهب بعض المفسرين ومنهم الطبري ، الى ان المرأة التي تنشز لا تبالي بهجر زوجها لها ، ولا تهتم باعراضه عنها ، ولذلك رأوا ان كلمة " واهجروهن" لم تشتق من الهجران وهو الأعراض ، وانما من الهجار وهو القيد الذي يشد به البعير حتى لا يهرب !! " واهجروهن" اذاً تعني قيدوهن في المضجع حتي يظهرن الخضوع والطاعة!! [3]

    ولقد فهم الفقهاء الأوائل ان طاعة المرأة لزوجها من جنس طاعة الخدم والعبيد ، فقد سئل ابن تيمية الذي كان يلقب بشيخ الاسلام : هل يجب على المرآة ان تخدم زوجها أم لا ؟ فقال : "وقيل وهو الصواب وجوب الخدمة ، فان الزوج سيدها في كتاب الله ، وهي عانية عنده بسنة رسول الله ، وعلى العاني والعبد الخدمة " !![4]

    ولم يستطع رجال الدين ، أو مفكرو الجماعات الاسلامية الحديثة ، تجاوز مفهوم القوامة ، وان وضعوه بصور لطيفة على أمل ان تتقبله النساء داخل الحركات الاسلامية .. يقول حسن البنا مؤسس جماعة الأخوان المسلمين " الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما انفقوا من اموالهم –سورة النساء 34 – هذا التعاون لم يجعله الاسلام على صورة جافة ، بل تعاون يتخلله الحب والتسامح والتقدير ، فعلى المرأة ان تكون طائعة وعلى الرجل ان يكون رحيماً .. ولما كانت الشركة تحتاج الى مدير في تصريف الأمور ، والشركاء ليسوا جميعاً على مستوى واحد فقد حفظ الاسلام الاشراف للرجل لانه أكمل عقلاً من المرأة " !![5]

    ولما كانت القوامة تتبعها مسائل اصعب منها مثل الهجر والضرب ، فان مهمة التبرير تصبح شاقة ومتعثرة على مفكر اسلامي بارز مثل الاستاذ محمد قطب فهو يقول " يتفرع من قوامة الرجل على المرأة حق الزوج في تأديب زوجته الناشزة وهو الحق الذي تبينه هذه الآية (واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فان اطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً) ويلاحظ ان الآية تدرجت في وسائل التأديب حتى وصلت الى الضرب غير المبرح في نهاية المطاف .. لا بد من سلطة محلية تقوم بهذا التأديب هي سلطة الرجل المسئول في النهاية عن امر هذا البيت وتبعاته ، فاذا لم تفلح جميع الوسائل فاننا أمام حالة من الجموح العنيف لا يصلح لها الا اجراء عنيف هو الضرب بغير قصد الايذاء وانما بقصد التأديب ، لذا نص التشريع على انه ضرب غير مبرح. وهنا شبه الاهانة لكبرياء المرأة والفظاظة في معاملتها ، ولكن ينبغي ان نذكر من جهة ان السلاح الاحتياطي لا يستعمل الا حين تخفق كل الوسائل السلمية الأخرى ، ومن ناحية ثانية ان هناك حالات انحراف نفسي لا تجدي معه الا هذه الوسيلة .. " !![6]

    ومحمد قطب ، هنا ، انما يرد على شبهات المستشرقين ، الذين يزعم انهم يطعنون الاسلام ، في كتابه المشهور" شبهات حول الاسلام" ، فاذا به يعطيهم حجة ، لم تخطر لهم على بال ، مفادها ان الاسلام فرض على الرجل ضرب زوجته لان هناك حالات انحراف نفسي ، لا يعرف لها الاسلام علاجاً غير ضرب المريض !! فالاسلام ، بهذا الفهم ، قد جاء بالضرب للمرضى ، بينما جاءت الاديان بالرفق والرحمة حتى للاصحاء !! ومن عجب ان هذا الكتاب المتخلف ، قد جعل بفضل تعالي اصوات الجماعات الاسلامية ، من ضمن مقرر الدراسة في المرحلة الثانوية بالمدارس السودانية !!

    ويترتب على القوامة ، وكون المرأة تابعة لزوجها في منزلها ، الا يكون لها الحق في قيادة غيره من الرجال ، في الشئون العامة ، ومنعت بسبب ذلك ، من كل الوظائف القيادية في المجتمع .. يقول الشيخ أبو الأعلى المودودي زعيم الجماعة الاسلامية في باكستان " الرجال قوامون على النساء (النساء 34 ) لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة (رواه البخاري) هذان النصان يقطعان بان المناصب الرئيسية في الدولة رئاسة كانت أو وزارة أو عضوية مجلس شورى او ادارة مختلف مصالح الحكومة لا تقوض الى النساء ، وبناء على ذلك فان مما يخالف النصوص الصريحة ان تنزل النساء تلك المنزلة في دستور الدولة الاسلامية أو يترك فيها مجال لذلك . وارتكاب تلك المخالفة لا يجوز البتة لدولة رضيت لنفسها التقييد بطاعة الله ورسوله ".[7] ويرد الشيخ المودودي على من يعترض عليه بان آية القوامة لا علاقة لها بشئون الدولة ووظائفها لانها محصورة في شئون الاسرة فيقول " وقد يقول المعترض في هذا المقام : ان هذا الحكم انما يتعلق بالحياة العائلية لا بسياسة الدولة ، فنقول ان القرآن لم يقيد قوامة الرجال على النساء بالبيوت ولم يأت بكلمة " في البيوت " في الآية ، مما لا يمكن بدونه ان يحصر الحكم في دائرة الحياة العائلية ، ثم هبنا نقبل منكم هذا القول فنسألكم التي لم يجعلها الله قواماً في البيت بل وضعها موضع القنوت أأنتم تريدون ان تخرجوهامن نظام القنوت الى منزلة القوامة على جميع البيوت أي جميع الدولة ؟ أمن شك في ان قوامة الدولة أخطر شأناً وأكثر مسئولية من قوامة البيوت؟! فهل انتم تظنون بالله ان يجعل المرأة قواماً على مجموعة من ملايين البيوت ولم يشأ ان يجعلها قواماً داخل بيتها؟! ثم ارجع البصر في القرآن انه يحدد دائرة أعمال المرأة بهذه الكلمات الصريحة (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) "[8]

    (15)

    ومن ابلغ النماذج ، التي يمكن ان تعطي تصوراً واضحاً لما يمكن ان يصل اليه الاعتداء على حقوق النساء ، باسم الدين وفتاوي الفقهاء ما حدث في المملكة العربية السعودية اثناء حرب الخليج الاولى عام 1990 . ففي يوم الثلاثاء 6 /11/1990 تحركت 47 مواطنة سعودية – معظمهن من العاملات في قطاع التعليم أو طالبات فيه- في مدينة الرياض يقدن 14 سيارة مطالبات بحقهن في قيادة السيارة تجنباً للأعباء المادية الناجمة عن اضطرارهن لتأجير سائق اجنبي ، مع المشاكل الاجتماعية المصاحبة لوجوده ، وكذلك لمواجهة احتمالات الحرب التي قد تدفع بالرجال الى الجبهة وتجبر النساء على تولي كافة الأمور في الداخل . وقد ترتب على ذلك :

    1- اقتيدت النساء الى مقر الشرطة للتحقيق معهن ، وقد بقين حتى صباح اليوم التالي ، ولم يفرج عنهن الا بعد أخذ تعهد على أزواجهن أو آبائهن بعدم تكرار ذلك.

    2- أصدرت وزارة الداخلية بياناً بتحريم قيادة المرأة السيارة ، وهددت بانزال عقوبات رادعة بحقها ، ونشر ذلك في أجهزة الأعلام السعودي يوم 14/11/1990 .

    3- افتى منظر النظام السعودي عبد العزيز بن باز بان ما حدث بادرة سوء يجب منعها ، ودعا للابلاغ عن من يتبنى هذا المطلب ، وارسل برقيات استنكار الى ولاة الأمور.

    4- طرد العاملات منهن من العمل والطالبات من الدراسة .

    5- منعهن من السفر كما أمتد الحظر ليشمل أزواجهن أو آباءهن أو اخوانهن الذين أجبروا على توقيع التعهد.

    6- صرح وزير الداخلية بان هؤلاء النسوة تربين خارج بيوتنا الاسلامية ، وشجب عملهن وموافقة اهلهن على هذا العمل.

    7- أنطلق الجناح المتزمت في التيار الديني لأكمال المأساة فانهالت المنشورات التي تصفهن بالساقطات والمنحلات أخلاقياً ودينياً .. ونشرت اسماءهن في قائمة تحت عنوان (أعرف عدوك) مختتمة بقولها (هذه اسماء الساقطات وبعض من يقف وراءهن من الشيوعيين والعلمانيين.. افعل ما تراه مناسباً) !!

    8- تحولت المساجد الى منابر لشتمهن وتجريحهن والمطالبة باستتابتهن أو إقامة الحد الشرعي عليهن ، وتعدى ذلك الى الدعوة الى قصر تعليم الفتاة الى المرحلة الابتدائية وتركيزه على علوم الدين فقط.[9]

    أما خطاب وزارة الداخلية فقد جاء فيه " تود وزارة الداخليه ان تعلن لعموم المواطنين والمقيمين انه بناء على الفتوى الصادرة بتاريخ 20/4/1411 ، من كل من سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز الرئيس العام لأدارات البحوث العلمية والافتاء والدعوة والارشاد ، وفضيلة الشيخ عبد الرازق عفيفي نائب رئيس اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء ، وعضو هيئة كبار العلماء ، وفضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن غريان عضو اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء ، وعضو هيئة كبار العلماء ، وفضيلة الشيخ صالح بن محمد اللحيدان رئيس مجلس القضاء الأعلى بهيئته الدائمة وعضو هيئة كبار العلماء ، بعدم جواز قيادة النساء للسيارات ، ووجوب معاقبة من تقوم منهن بذلك بالعقوبة المناسبة التي يتحقق بها الزجر ، والمحافظة على الحرم ومنع بوادر الشر "[10]

    اما فتوى الشيخ ابن باز فقد جاء فيها " فقد كثر حديث الناس في صفحة الجزيرة عن قيادة المرأة للسيارة ، ومعلوم انها تؤدي مفاسد لا تخفى على الداعين اليها ، منها الخلوة المحرمة بالمرأة ، ومنها السفور ، ومنها الأختلاط بالرجال بدون جدار ، ومنها ارتكاب المحظور الذي من أجله حرمت هذه الأمور ، والشرع المطهر منع الوسائل المؤدية الى المحرم واعتبرها محرمة ، وقد أمر الله جل وعلا نساء النبي ونساء المؤمنين بالاستقرار في البيوت والحجاب وتجنب اظهار الزينة لغير محارمهن لما يؤدي اليه ذلك كله من الاباحة التي تقضي على المجتمع ..."[11]


    يتضح من هذه القصة العجيبة ، التي ما كان لأحد ان يتوقع حدوثها ، في اواخر القرن العشرين، ان فقهاء السعودية ، لم يجدوا نصاً واضحاً يمنع المرأة قيادة السيارة ، لأنه ليس هناك نص ديني ، منعها في الماضي ، من قيادة الناقة أو الفرس !! فلم يترددوا في ايراد ما لديهم من نصوص جاهزة ، ضد الخلوة ، والاختلاط ، وخروج المرأة من البيت ، مع ان كل هذا لا علاقة له بقيادة السيارة .. بل ان المرأة داخل السيارة ، قد تكون في أمان من الاختلاط ، والخلوة ، والسفور لانها مختفية بالسيارة ، كما كانت المرأة في الماضي تختفي بالهودج وهي تسافر فيه .. فالمرأة في السيارة ، أقرب الى تنفيذ الشرع ، من المرأة التي تسير في الشارع ، والتي لم تقم ضدها أي فتاوي !!

    ان هذه الفتوى فتوى سياسية ، هدفها ارضاء السلطة ، التي اتخذت حركة النساء مناسبة لتقمع أي حركة جماعية ، تتخذ صور الخروج على النظام ، وذلك قفلاً للباب الذي قد يؤدي الى الثورة الحقيقية ضد النظام الملكي المتوارث الذي يخوض في الفساد ويرزح في الجهل والتخلف .. ولما كانت ورقة الدين مجربة في تضليل الشعوب ، فقد هرع هؤلاء الاشياخ ، المرتزقة ، ليخرجوا بهذه الفتوى الهزيلة ..


    (16)

    يعتمد الفقهاء ، في إعطاء المرأة حقوقاً قانونية ناقصة ، على الآية الكريمة " واستشهدوا شهيدين من رجالكم فان لم يكونا رجلين فلرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء ان تضل احداهما فتذكر احداهما الأخرى ..." جاء في تفسير الآية " وهذا انما يكون في الأموال ، وانما اقيمت المرأتان مقام الرجل لنقصان عقل المرأة .." [12] !! ولقد يطيب لبعض الدعاة الاسلاميين ، ان يذكر ان شهادة المرأة نصف شهادة الرجل ، في الامور المالية فقط ، حتى يفهم الحاضرون ، انها مساوية له في شهادتها فيما عدا ذلك !! والحق ان المرأة في قوانين الشريعة ، وآراء الفقهاء ، ليس لها الحق مطلقاً في الشهادة ، فيما عدا الامور المالية هذه ، التي تساوي شهادتها فيها نصف شهادة الرجل !! لذلك "يرى جمهور الفقهاء عدم قبول شهادة المرأة في الحدود والحرابة والقذف والبغي والزنا وشرب الخمر والسرقة والقصاص ، سواء كن منفردات وان كثرن أو مع رجال ، واستندوا في ذلك على حجج من المنقول والمعقول. المنقول: وهو ما يستخلص من آيات القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة .

    1- الكتاب الحكيم : قوله تعالى " واستشهدوا ذوي عدل منكم " (الطلاق 2 ) ، وقوله عز وجل " لولا جاءوا عليه باربعة شهداء فاذا لم يأتوا بالشهداء فاؤلئك عند الله هم الكاذبون " (النور 13) ويستدل من هذه الآيات على اشتراط الذكور في الشهود دون النساء .

    2- السنة النبوية الشريفة : ما رواه مالك عن الزهري انه قال مضت السنه من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين من بعده انه لا شهادة للنساء في الحدود والقصاص (البخاري جزء 13 ص 222 )

    المعقول : استند الجمهور الى حجج مستخلصة من المعقول وذلك فيما يلي :

    1- ان الحدود تدرأ بالشبهات ، فلا تثبت بحجة فيها شبهة ، وشهادة النساء شبهة لتطرق الضلال والنسيان اليها تطبيقاُ لقوله تعالى " ان تضل احداهما فتذكر احداهما الأخرى " فالضلالة شبهة والحد يسقط بالشبهات . كما ان الرسول صلى الله عليه وسلم وصفهن بنقصان العقل والدين ..."[13] !!

    فالمرأة اذاً ليس لها الحق في الشهادة ، ما عدا في الأموال ، حيث تكون شهادتها منقوصة ، اذ تساوي نصف شهادة الرجل ، أكثر من ذلك ان شهادتها هذه لا تقبل أصلاً الا بوجود رجل !! فلا يمكن ان يشهد أربعة نساء بدلاً عن رجلين !! ولقد تعرضنا الى عدم حقها حسب الشريعة وآراء الفقهاء ، في تولي مناصب الرئاسة والقيادة ، كما لا يجوز ان تلي القضاء ، فتقيم شهادة الشهود ، وهي تقصر عن مدى الشاهد !! فلم يبق لها من الحقوق القانونية للمواطن في الدولة الا حق الشكوى عند وقوع الاعتداء عليها !!

    ولم تأت التيارات الاسلامية الحديثة ، بجديد فيما يخص الحقوق القانونية ، المنقوصة للمرأة ، بل تذهب في تبريرها على انها الوضع الطبيعي .. يقول حسن البنا " واذا كان الاسلام قد انتقص من حق المرأة فجعل شهادتها نصف شهادة الرجل ، فهو مجاراة للطبيعة ، فطبيعة المرأة تجعلها تعيش بعاطفتها لا بعقلها ، والعاطفة تتأثر ، وتمتاز المرأة بعاطفتها ولا تمتاز بعقلها ، وهي مع ذلك سريعة النسيان ، لذا لم يساو الاسلام بينها وبين الرجل في الشهادة وعلل ذلك بقوله تعالى " ان تضل احداهما فتذكر احداهما الأخرى ".[14] ولا يكتفي زعيم الأخوان المسلمين بذلك ، بل يسعى لحرمان المرأة من ممارسة مهنة المحاماة ، ومن الترشيح والانتخاب فيقول " اما ما يريد دعاة التفرنج واصحاب الهوى من حقوق الانتخاب والاشتغال بالمحاماة فنرد عليهم بان الرجال وهم أكمل عقلاً من النساء لم يحسنوا اداء هذا الحق ، فكيف بالنساء وهن ناقصات عقل ودين "!! [15]

    ولما كان مفكرو الجماعات الاسلامية ، لا يدركون ان النصوص الفرعية مرحلية ، فقد اتعبهم هذا الحديث واضطرهم الى صور من التدليس ، لا تبقي لأحد ديناً ولا خلقاً .. حتى بلغ بهم الحد ، ان يحاولوا اقناع النساء ، بان الحديث لا يعتبر ذماً وانما هو في مقام المدح !! فقد كتب د. محمد عمارة الكاتب الاسلامي المصري المعروف "ونحن هنا نود ان نتساءل هل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نقصان العقل والدين يعني (الذم) ام انه يعني تقرير واقع غير مذموم ، بل قد يكون هو الواقع (المحمود)، ان النقص المذموم في أي أمر من الأمور هو الذي يزول بتغييره ، فهل يجوز للمرأة ان تجبر النقص في شهادتها عن شهادة الرجل فتزيل الذم عنها؟ بالطبع لا، فهي مثابة ومحمودة على هذا النقص لأنها به تمتثل شرع الله فهو ليس بالنقص المذموم، انما هو (المحمود)" !![16]

    فهل كان د. محمد عمارة سيجد فرصة لهذا الالتواء ، لو أورد الحديث كاملاً ؟ فقد جاء " عن ابي هريرة رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال : يا معشر النساء تصدقن وأكثرن الاستغفار فاني رايتكن أكثر أهل النار . فقالت امرأة منهن جزلة : وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار؟ فقال: تكثرن اللعن وتكفرن العشير ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن. قالت : يا رسول الله ما نقصان العقل والدين ؟ قال : أما نقصان عقلها فشهادة إمراتين تعدل شهادة رجل، فهذا نقصان العقل. وتمكث الليالي لا تصلي ، وتفطر في رمضان ، فهذا نقصان الدين " !! [17] هذا هو الحديث فهل يمكن ان يكون د. محمد عمارة قد فهم منه ان دخول النساء النار، وكفرهن العشير ، ونقص عقلهن ودينهن ليس ذماً لأنهن لا يستطعن ان يغيرنه؟! واذا كان هذا الوضع لا يتغير فما الداعي لموعظة النبي صلى الله عليه وسلم للنساء؟!

    (17)

    ان تعريف الزواج ، لم يتعد عند الفقهاء العلاقة الجنسية ، مما يعد مفارقة لروح الدين ، كان لها سود العواقب في تشاريعهم ، التي تضررت منها النساء ابلغ الضرر .. فقد جاء ان " الحنفية عرّف بعضهم النكاح بانه عقد المتعة قصداً ، الشافعية عرّف بعضهم النكاح بأنه قصد يتضمن ملك الوطء بلفظ انكاح أو تزويج ، المالكية عرّف بعضهم النكاح بأنه عقد على مجرد التلذذ بآدمية"[18] !!

    وحين عّرف الفقهاء الزواج بانه الاستمتاع الجنسي ، ساقهم ذلك الى ان يقرروا أن المرأة اذا أضحت عاجزة عن القيام بدورها في الامتاع ، فان النفقة الشرعية عليها ، تصبح غير ملزمة للرجل !! فالنفقة عندهم لا تجب الا نظير الاستمتاع ، والزوجة المريضة لا تصلح للاستمتاع ، فلا تجب لها نفقة !! والذين لا يرون هذا الرأي من الفقهاء ، وهم السادة الحنفية ، ويوجبون النفقة على الزوجة ولو كانت مريضة ، يشترطون لذلك بقاءها في المنزل ولهذا قالوا " ان النفقة تجب نظير حبس الزوجة في منزل زوجها ولو لم تكن صالحة للاستمتاع "[19] . وهكذا نرى أن المرأة اذا كانت مريضة ، لا يجب الانفاق عليها ، عند سائر الفقهاء أصحاب المذاهب ، ما عدا الحنفية الذين اشترطوا الحبس ، بدلاً عن عدم المرض كثمن للانفاق على الزوجة !! وابلغ سوءاً من عدم الانفاق على زوجته المريضة ، كونه ، في رأي الفقهاء ، ليس مسئولاً عن علاجها ولا عن دفع ثمن الدواء !! الأمر الذي لا يبقي في هذه العلاقة أي ظل من المرحمة أو العاطفة الانسانية . فقد ورد أن " الحنفية يرون كل ما هو غير ذلك من كحل وأبيض وأحمر وخضاب وتصفيف شعر ونحو ذلك فانه لا يجب عليه وكذا لا يلزمه دواء ولا فاكهه ".[20] ويقول المالكية " فلا يفترض عليه السمن والحلوى ، كما لا يفترض عليه الفاكهه ، أما ثمن الدواء واجرة الطبيب ففي وجوبهما عليه قولان والذي في المتون انهما لا يجبان عليه"[21] .. وقال الشافعية " اما الخضاب والزينة فلا تجب عليه لأن ذلك تابع لما يراه زينة لها ، فأنها تلزم به ولا يلزمه دواء مرض ولا أجرة طبيب وحاجم وفاصد ونحو ذلك ".[22] وقال الحنابلة " ولا يجب عليه أدوات الزينة كالحناء والخضاب وشراء الحلي ونحو ذلك ، وكذا لا يجب عليه ثمن الدواء وأجرة الطبيب " [23].

    وأركان الزواج في الشريعة : الشاهدان ، وخلو المحل ، والولي والمهر .. والاصرار على ان يتولى رجل عن المرأة أهم شئون حياتها وهو عقد زواجها ، سببه ان الشريعة ترى ان المرأة مهما كان حظها من التقوى ، أو التعليم ، أو الوضع الاجتماعي تظل قاصراً ، لا تستحق ان تلي أمر نفسها بنفسها !! ولما كان أي رجل مهما كان مستواه يمكن ان يكون ولياً على أي إمرأة ، فأن هذا يعتبر تمييزاً لا يقوم الا على اساس الجنس من ذكورة وأنوثة!!

    أما المهر ، فانه يمثل ثمن شراء المرأة ، ودفعه بواسطة الرجل وحده ، يعني أن له حقوقاً اكثر في هذه الشراكة . ولتأكيد معنى الشراء هذا ، قبل الفقهاء ان ينعقد الزواج بصيغة تفيد الشراء والبيع .. فقد ورد عن صيغة عقد الزواج " أما الصيغة وهي عبارة عن إيجاب وقبول ، فانه يشترط فيها شروطاً كأن تكون بلفظ صريح أو كناية.. والكنايات التي ينعقد بها النكاح تنقسم الى اربعة اقسام منها: ... القسم الثاني : وفي الانعقاد به خلاف والصحيح الأنعقاد وهو ما كان بلفظ البيع والشراء ، فلو قالت : بعت نفسي منك بكذا ناوية به الزواج وقبل فانه يصح ، ومثل ذلك اذا قالت : أسلمت لك نفسي في عشرين أردباً من القمح آخذها بعد شهر تريد الزواج فانه يصح . وكذا اذا قال: صالحتك على الألف التي عليّ لأبنتي يريد به الزواج ، فقال قبلت فينعقد النكاح على الصحيح بلفظ البيع والشراء والسلم والصلح والفرض ..."[24]

    ورغم ان الفقهاء يرون ان الاسلام أعطى المرأة الحق ، في دخول العلاقة الزوجية برضاها ، الا انهم يرون انها لا تملك الحق في الخروج منها بنفس الصورة !! ذلك لأن الشريعة أعطت حق الطلاق للرجل دون المرأة .. فقالوا " ان الرجل هو الذي يملك حق الطلاق دون المرأة وذلك لأمرين أحدهما : ان الشريعة قد كلفت الرجل بالانفاق على المرأة وأولادها ، وكلفته ان يبذل لها صداقاً .. وثانيهما: ان المرأة مهما أوتيت من حكمة إلا أنها سريعة التأثر بطبيعتها وليس لها من الجلد والصبر مثل ما للرجل فلوكان الطلاق بيدها فانها تستعمله أسوأ استعمال .."[25].

    ولعل من افظع المآسي ، الناجمة عن استئثار الرجل بحق الطلاق ، ما عرف في المجتمعات الاسلامية ببيت الطاعة.. فاذا إختلفت المرأة مع زوجها ، وذهبت الى بيت ابيها ، فان له الحق في اجبارها بالقوة ، للرجوع اليه والدخول في طاعته .. وقد كانت أحكام الطاعة تنفذ بان تؤخذ المرأة قسراً بواسطة رجال الشرطة ، وتحمل الى بيت زوجها ، الذي من حقه اجبارها على معاشرته والعيش معه .. فان لم يرد إرغامها بواسطة السلطة يمكنه ان يعلقها فلا يطلقها ولا ينفق عليها حتى تضطر ان تزعن له !! ولقد رأينا من قوانين الفقهاء كيف ان الانفاق لا يكون الا نظير الحبس في البيوت عند السادة الحنفية ، أو نظير الاستمتاع عند سائر الفقهاء .. ورغم اعتراض الحركات النسوية على بيت الطاعة ، في بعض الدول العربية والاسلامية ، ورغم الغاء تنفيذه بالقوة ، في بعض الدول الا انه لا زال موجوداً ، وينفذ بالضغط على المرأة بموضوع الانفاق عليها .. والسبب في عجز الحكومات عن الغائه هو انه مأخوذ مباشرة من آية القوامة التي اشرنا اليها ، والتي تخلص الى قوله تعالى " فأن اطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً"!!


    -نواصل-

    د. عمر القراي


    -------------------------

    [1] - مقالات د. عبد الله بالرأي العام
    [2] - تفسير ابن كثير الجزء الأول ص 491
    [3] - راجع تفسير الطبري الجزء الثامن ص 298
    [4] - ابن تيمية : فتاوي النساء ص 265
    [5] - حسن البنا : حديث الثلاثاء ص 382 -383
    [6] - محمد قطب : شبهات حول الاسلام ص 129
    [7] - أبو الاعلى المودودي : تدوين الدستور الاسلامي ص 57 .
    [8] - المصدر السابق ص 58-59 .
    [9] - لجنة مناصرة المرأة بالجزيرة العربية : سلطة العبائم ص 157-158
    [10] - المصدر السابق ص 17 .
    [11] - المصدر السابق ص 18-19
    [12] - تفسير ابن كثير- الجزء الأول ص335
    [13] - د. حسن الجندي : أحكام المرأة في التشريع الجنائي الاسلامي ص 104 -105 .
    [14] - حسن البنا : حديث الثلاثاء ص 369 .
    [15] - المصدر السابق ص 370
    [16] - محمد عمارة : هل الاسلام هو الحق؟ ص 152
    [17] - ابن كثير الجزء الأول ص 335 .
    [18] - عبد الرحمن الجزيري : الفقه على المذاهب الأربعة ص 181
    [19] - المصدر السابق ص 488
    [20] -المصدر السابق ص 488
    [21] -المصدر السابق ص 489
    [22] - المصدر السابق ص 491
    [23] - المصدر السابق ص 491
    [24] - المصدر السابق ص 17-19
    [25] - المصدر السابق ص 327


    www.alfikra.org
                  

03-02-2008, 02:33 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    حول مقالات د. عبد الله علي ابراهيم في الدفاع عن الفقهاء وقوانينهم
    الدين .. ورجال الدين عبر السنين (الحلقة الرابعة)

    د. عمر القراى - 21 يونيو 2003

    (18)

    ختمنا المقال السابق بالحديث عن بيت الطاعة ، ومبلغ ما فيه من أذى واساءة للمرأة ، وذكرنا ان المرأة في الشريعة تدخل في علاقة الزواج باختيارها ، ولكنها لا تستطيع الخروج بنفس المستوى !! فالطلاق بيد الرجل ، ولو كرهت المرأة معاشرته ، وذهبت الى بيت ابيها، فانه يمكن ان يحضرها بقوة القانون .. وقلنا ان الحكومة حين ألغت تنفيذ بيت الطاعة ، بواسطة الشرطة ، لم تلغ الحكم نفسه لانه يعتمد على نص صريح في القرآن ، ورد في آخر آية القوامة .. ومما يؤخذ على القضاة الشرعيين ، في السودان ، انهم كانوا يحكمون بهذا الحكم القاسي عبر سنين طويلة، دون ان يحتجوا عليه ، أو يجتهدوا لتغييره ، أو حتى يفتحوا عقولهم لاجتهاد من اجتهد في أمر الشريعة ودعا لتطويرها !! أكثر من ذلك ، حين الغى نميري تنفيذ حكم بيت الطاعة ، بواسطة الشرطة ، وفرحت بهذه الخطوة جموع النساء ، اشتكى القضاة الشرعيون لنميري ، ولما كانوا يخشونه ، لم يقولوا بانهم يرون قراره خاطئا ،ً وانما تذرعوا بان عدم اجبار المرأة الى بيت الطاعة بالبوليس لا يحل المشكلة ، لأن المرأة تظل غير مطلقة ، ولا ينفق عليها زوجها بسبب نشوزها !! مع ان ربط الانفاق بالمعاشرة أو الحبس في البيت ، هو نفسه من قوانينهم التي جردت العلاقة من كل قيمة انسانية !!

    يقول د. عبد الله علي ابراهيم (ففي مؤتمر عام للقضاة عام 1974 حضره الرئيس نميري ، وقد أعيد توحيد القضائية تحت سلطة رئيس القضاة المدني إشتكى قاض شرعي من قرار كان نميري قد أصدره بعدم تنفيذ أحكام بيت الطاعة وقال ان هذا يؤدي الى إزدياد حالات النشوز التي تعلق المرأة فلا هي زوجة ولا هي طالق)[1].. فهذا القاضي يرى ان عدم تنفيذ حكم الطاعة بالبوليس ، يؤدي الى ازدياد حالات النشوز !! فهو يريد هذا العنف حتى تخاف النساء فلا تجرؤ على النشوز !! ولم يخطر ببال هذا القاضي ان سبب ازدياد النشوز ، هو سوء معاملة الرجال ، خاصة عندما يعرفوا ان وراء القانون المتخلف الذي يجبرهن على العيش معهم ، أمثال هذا القاضي الذي لا يكتفي بالأذى ، الذي يسببه كونها اصبحت لا هي زوجة ينفق عليها ولا هي مطلقة يمكن ان تجد فرصة اخرى أفضل ، وانما يريد لها ان تحمل بالقوة (بكومر) البوليس الى بيت زوجها !!

    ومن عجب ان د. عبد الله رغم كل هذا يعتبر القضاة الشرعيين لطفاء في موضوع بيت الطاعة !! فما هو لطفهم وما دليله عليه ؟! اسمعه يقول (وقد مال القضاة الى اللطف في أخذ حكم بيت الطاعة حين تمتع قسمهم باستقلاله الذاتي في اطار القضائية بفضل التعديل الدستوري في 1966 الذي جعله مسئولاً مباشرة الى مجلس السيادة . وكان أميز ما في قانون المحاكم الشرعية 1967 هو منح المحاكم الشرعية سلطات مدنية وجنائية لتنفيذ حكم الطاعة بموجب اللائحة الشرعية لاجراءات التنفيذ لعام 1968 . ولما أصبح تنفيذ الطاعة من اختصاص القضاة لم يستبدوا بالأمر . ولم تبدر من القضاة غلظة أو ترويعاً في إنفاذ حكم الطاعة . فقد قضت تلك اللائحة بأن يجري تنفيذ حكم بيت الطاعة برفق بمنح المرأة التي حكم عليها بالطاعة اسبوعاً لتقبل الحكم والتهيئة لعيشها مع زوجها. فإن انقضى الاسبوع ولم تعد أمرت المحكمة باعتقالها وإعادتها بالقوة) !! أين هو اللطف ؟ هل هو في اعطائها اسبوع لتجهز نفسها والا اعيدت بالقوة ؟!

    ولعل د. عبد الله نفسه غير مقتنع بهذا اللطف الذي نسبه بغير حق للقضاة الشرعيين ، ولذلك قال (وهكذا لم يغير القضاة الشرعيون حين آل اليهم أمر تنفيذ بيت الطاعة شيئاً ذا بال في الممارسة السابقة التي استنها الاستعمار) !!


    (19)

    يتحدث د. عبد الله على ابراهيم عن الاستاذة فاطمة أحمد ابراهيم ، ويقول بانها كانت توافق على قوانين الاحوال الشخصية (ولم تجد ما تعترض عليه أصلاً غير بيت الطاعة . أما في بقية المواد فهي اما استحسنتها وتركتها على حالها مثل قوانين الحضانه أو طالبت ان يتم امام قاضي مثل الطلاق ، وعقد الزواج وتعدد الزوجات وبشروط دقيقة)[2] !! ولعل د. عبد الله قد أقحم الاستاذة فاطمة في موضوعه هذا ، ليؤكد ان مناضلة عتيدة من اجل حقوق المرأة مثلها وجدت في قوانين الاحوال الشخصية ما يرضيها ، مما يدل على صلاح وعدالة هذه القوانين !! ونحن لا نعرف عن الاستاذة فاطمة انها كانت تقبل هذه القوانين ، ومن هنا نعتبر حديث د. عبد الله اجحاف في حقها واساءة اليها .. على انها لو كانت تقبل بهذه القوانين ، فان هذا لن يجعل هذه القوانين انسانية ، وانما سيجعل الاستاذة فاطمة كغيرها من النساء اللاتي يقبلن بالظلم حتى لا يوصفن بالاعتراض على الاسلام !! ويجعل بذلك انشغالها بالنضال من اجل حقوق المرأة لغو باطل لا طائل تحته ..

    ويضرب لنا د. عبد الله مثلاً من نضال الاتحاد النسائي ، وكيف أثر في تحسين القوانين الشرعية التي تختص بشئون المرأة فيقول (وقد وجدت فاطمة في بعض التشريعات الشرعية أثراً باقياً من نضالها هي نفسها ونضال الاتحاد النسائي مثل المنشور الشرعي رقم "54" لعام 1960 الذي كفل للفتاة الاستشارة حول من تقدم لزواجها . وقد جاء المنشور استجابة لمذكرة تقدم بها الاتحاد الى قاضي القضاة في 1954 يحتج على تزايد حالات الانتحار من فتيات لم يقبلن الاقتران بمن اختارته الاسر لهن .)[3].. الا يكفي هذا المثل دليلاً على سوء وفساد القضاة الشرعيين وجور قوانينهم؟! فالاتحاد احتج عام 1954 ولم يستجب القضاة الشرعيون الا عام 1960 رغم ما ذكر لهم من حالات الانتحار !! هذا مع ان المطلب نفسه لا يحتاج الى اجتهاد أو تردد لانه مطلب في حد ذاته شرعي!! الم يقل النبي صلى الله عليه وسلم " لا تزوج الثيب حتى تستأمر ولا تزوج البكر حتى تستأذن واذنها صمتها"؟!فلماذا لم يكن هذا معمولاً به ابتداء وقبل ان يطالب به الاتحاد النسائي؟! الا يستحي هؤلاء الاشياخ ان يحرموا النساء حقاً مشروعاً باسم الشريعة نفسها ثم يصروا على التلكؤ لعدة سنوات قبل ان يستجيبوا لمطلب فتيات في اعمار بناتهم كن لمجرد الحس الانساني اقرب منهم لروح الدين؟!


    (20)

    ويرى د. عبد الله ، ان الفضل في تفتح التقليد الشرعي ، يرجع الى الامام محمد عبده فيقول (ولو تأملت فاطمة الأمر قليلاً لعرفت ان سماحة التقليد الشرعي وتفتحه لحقائق المجتمع كما اختبرته هي واتحادها النسائي انما يعود الفضل فيه للإمام محمد عبده) .. ولا يكتفي د. عبد الله بذلك بل يقول (ومن جهة أخرى تحاشى الفكر لجمهوري هذا التقليد الشرعي مع ان اصلهما واحد هو الحداثة الاسلامية التي ركنها وحجتها الامام محمد عبده) !!

    وفي الحق ، ان الامام محمد عبده يعتبر متقدماً ، بالمقارنة الى نظرائه من الأزهريين .. ولقد كان رحمه الله ، ثائراً على الفقهاء وعلى الازهر ، وهذا ما أهله للأخذ بطرف من التقدم والتحديث .. فقد نقد مرة اسلوب التعليم في الازهر فقال له أحدهم (ألم تتعلم انت في الأزهر؟ وقد بلغت ما بلغت من طرق العلم وصرت فيه العلم الفرد؟ فاجاب الامام : ان كان لي حظ من العلم الصحيح الذي تذكر فانني لم أحصله الا بعد ان مكثت عشر سنين أكنس من دماغي ما علق فيه من "وساخة" الأزهر ، وهو الى الآن لم يبلغ ما أريده له من النظافة !)[4]!! بهذه العبارات القوية ، شهد الامام محمد عبده على الأزهر ، وهو من خريجيه ، بالتخلف والفساد ، الذي يبلغ حد الوسخ .. ولم نسمع مثل هذه الشهادة من الفقهاء ، والقضاة الشرعيين ، وغيرهم من رجال الدين في السودان ، الذين يعتبرون مشايخ الازهر اساتذتهم !!

    ولقد ظل الأزهر على تخلفه وفساده ، وزاد عليه في أوقات متأخرة ، مواطأة الحكام وتكفير المفكرين ، مما سنعرض له في موقعه من هذه الدراسة لاحقاً ، على ان آخر فتاوي الأزهر ضد النساء ، هي فتوى الشيخ جاد الحق علي جاد الحق ، رحمه الله في مطلع عام 1995بأن خفاض الاناث واجب ديني وعلى المسلمين مجاهدة كل من يمتنع عنه!! وكان لهذه الفتوى الجاهلة صدى واسع في مصر ، اذ هاجمتها المنظمات النسائية في الصحف والندوات ، أما جمعية حقوق الانسان المصرية فقد رفعت دعوى في المحكمة ضد شيخ الأزهر !! واضطر مفتي الديار المصرية آنذاك ، الشيخ طنطاوي ، ان يخرج فتوى معارضة لفتوى شيخ الأزهر ، يقول فيها ان ختان الاناث ليس واجباً دينياً !! وخرجت مجلة روز اليوسف يومها بعدد ساخر عنوانه من يصدق الشعب : شيخ الأزهر أم مفتي الجمهورية؟!

    ولعل تأثر الامام محمد عبده ، بشيخه الامام جمال الدين الافغاني ، الذي كان متصوفاً ، هو الذي جعله يختلف من سائر الفقهاء ويتجه الى انصاف المرأة .. فقد قال (" ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف " وهذه كلمة جليلة جداً جمعت على ايجازها ما لا يؤدى بالتفصيل في سفر كبير ، فهي قاعدة كلية ناطقة بان المرأة مساوية للرجل في جميع الحقوق الا أمراً واحداً عبر عنه بقوله " وللرجال عليهن درجة" وسيأتي بيانه وقد أحال في معرفة ما لهن وما عليهن على المعروف بين الناس في معاشرتهم ومعاملتهم في أهليهم ، وما يجري عليه عرف الناس وهو تابع لشرائعهم وعقائدهم وآدابهم وعاداتهم. فهذه بالجملة تعطي الرجل ميزاناً يزن به معاملته لزوجته في جميع الشئون والاحوال ، فاذا هم بمطالبتها بامر من الامور يتذكر انه يجب عليه مثله بازائه ، فما من عمل تعمله المرأة للرجل الا وللرجل عمل يقابله لها، ان لم يكن مثله في شخصه فهو مثله في جنسه فهما متماثلان في الحقوق والأعمال ، كما انهما متماثلان في الذات والاحساس والشعور والعقل ، أي ان كلاً منهما بشر تام له عقل يتفكر في مصالحه ، وقلب يحب ما يلائمه ويسر به ويكره ما لا يلائمه وينفر منه ، فليس من العدل ان يتحكم أحد الصنفين في الآخر ويتخذه عبداً يستذله ويستخدمه في مصالحه ، ولاسيما بعد عقد الزوجية والدخول في الحياة المشتركة التي لا تكون سعيدة الا باحترام كل من الزوجين الآخر والقيام بحقوقه). [5]

    ولكن الامام محمد عبده ، بعد كل هذا الحديث عن المساواة ، يرى ان ان قوله تعالى " وللرجال عليهن درجة" يعطي الرجل حق الرئاسة على المرأة في البيت ، وهو رأي يتفق مع كل فقهاء السلف الذين اعتمدوا على هذا الجزء من الآية ، كمبرر للقوامة ، وبنوا عليه آراءهم في عدم المساواة ، بالصورة التي اوردناها في الحلقة الماضية. يقول الامام محمد عبده (أما قوله تعالى " وللرجال عليهن درجة " فهو يوجب على المرأة شيئاً وعلى الرجل اشياء ، ذلك بان هذه الدرجة هي الرياسة والقيام على المصالح المفسرة في قوله تعالى " الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما انفقوا من اموالهم" فالحياة الزوجية حياة اجتماعية ، ولابد لكل اجتماع من رئيس لأن المجتمعين لابد ان تختلف آراؤهم ورغباتهم في بعض الأمور ..والرجل أحق بالرياسة لأنه اعلم بالمصلحة وأقدر على التنفيذ بقوته وماله ، ومن ثم كان هو المطالب شرعاً بحماية المرأة والنفقة عليها وكانت هي مطالبة بطاعته في المعروف ، فان نشزت عن طاعته كان له الحق في تأديبهابالوعظ والهجر والضرب غير المبرح)[6]!!

    وهكذا رجع الإمام محمد عبده ، الى نفس رأي السلف ، ولم يلاحظ أن هذا الرأي يتناقض تماماً مع مبدأ المساواة الذي قرره منذ البداية . فإذا كان للرجل حق الرياسة التي تبلغ تأديب المرأة وضربها ، فإن هذا يعني أنه وصي عليها ، وانه أكمل منها عقلاً ، وأقدر منها على تقييم الأمور من شتى الوجوه .. ولسوف تبنى على القوامة والوصاية ، أحكام عديدة ، تحط من قدر المرأة مثل منعها من الرئاسة على الرجال في مختلف مرافق الدولة ، بسبب نقص عقلها الذي منعها من الرئاسة داخل بيتها ، والى غير من الأحكام التي تتناقض بالضروة مع مبدأ المساواة التامة في الحقوق والواجبات ، الأمر الذي لم يتضح للإمام محمد عبده ، وهو يقرر ما قرر.

    ورغم هذه الانتكاسة الفكرية ، استطاع الإمام محمد عبده ، أن يكتشف السبب الحقيقي للقوامة ، حيث قال (وأقدر على التنفيذ بقوته وماله) فارجع أمر القوامة الى القوة العضلية وقوة المال . ولكنه عجز عن أن يرى في هذه الاسباب التي فرضت القوامة ، انها الى زوال. وذلك حين يجئ المجتمع المتحضر المتمدن ، الذي لا يلقي بالاً للقوة العضلية ، وانما يقدر قوة الفكر. في هذا المجتمع الجديد ، يمكن للمرأة بالعلم والعمل ، ان تكسب المال فلا تحتاج لينفق الرجل عليها ، بل ربما انفقت هي على الصغار والعاجزين من افراد اسرتها .. ثم ان القانون يحل محل القوة العضلية ، فيحمي الضعيف من القوي ، فلا تجدي القوي عضلاته .. عند ذلك تسقط القوامة بسقوط اسبابها ، وتحل دولة القانون محل الوصاية ، وبهذا وحده تتحقق المساواة التامة بين الرجال والنساء ، في الحقوق والواجبات ، الامر الذي اشار اليه الامام محمد عبده ، ثم منعه عن رؤيته ، فهمه الخاطئ لآية الدرجة ، حيث فسرها مثل فقهاء السلف ، على انها القوامة ، فوقع بذلك في هذا التناقض بين بداية حديثه ونهايته !!

    ولعل الإمام كان يشعر ، في دخيلة نفسه ، بهذا التناقض الكبير ، خاصة في دعوته للمساواة واباحته للرجل ضرب زوجته !! ولذلك يقول (وإذا صلحت البيئة وصار النساء يعقلن النصيحة ويستجبن للوعظ أو يزجرن ، فيجب الاستغناء عن الضرب .. ونحن مأمورون على كل حال بالرفق بالنساء واجتناب ظلمهن)[7].. وبطبيعة الحال ، فإن ايقاف الضرب اذا جاء عن طريق تادب المرأة أو عطف الرجل عليها ، فانه لا عبرة به . وانما العبرة بان يقف الضرب لأن المرأة شخص حر ، مسئول، ومساو تماماً للرجل ، فلا يجوز ان يضربها مهما اختلف معها، كما انها لا تضربه مهما إختلفت معه ، وكان في رأيها مخطئاً .. ذلك انهما شخصان رشيدان ، يقوم التعامل بينهما على الود والاحترام ، فاذا انعدمت هذه المعاني يفارق كل صاحبه في ادب واحترام ، أما الضرب فانه معاملة الرشيد للقاصر ، ولهذا لا يصح في المساواة ، بل اننا في عصرنا الحاضر خلصنا الى فشل الضرب كأسلوب تربوي حتى للاطفال ، فكيف يعامل الرجل المرأة وكانها طفلة ثم يعاشرها كزوجة ؟!

    والامر الذي عجز عنه الإمام محمد عبده ، ادركه الفكر الجمهوري ، حيث فسر الدرجة على انها درجة في الخلق وليس في القانون !! فبالرغم من ان ابي بكر الصدّيق ، افضل من رجل من عامة المسلمين ، الا انهما أمام القانون سواء .. والدرجة لجنس الرجال على جنس النساء سببها في الاساس معنى عرفاني ، وهو ان الذات المحمدية ، وهي على قمة هرم الكمال البشري ، كانت من جنس الرجال ، وفيما دون هذه القمة الشماء ، يتفاوت الرجال والنساء في النشاة والخلق مع المساواة التامة أمام القانون .. بهذا الفهم ينسجم قوله تعالى " ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف " مع قوله " وللرجال عليهن درجة" وبغيره يقع التناقض بينهما !!

    فإذا وضح ذلك فان قولة د. عبد الله علي ابراهيم (ومن جهة أخرى تحاشى الفكر الجمهوري هذا التقليد الشرعي مع ان اصلهما واحد هو الحداثة الاسلامية التي ركنها وحجتها الامام محمد عبده) تدل بكل أسف ، على جهل كبير بأمر الفكر الجمهوري ، اذ يعتبره متأثر بالإمام محمد عبده ، مع انه متفدم عليه وبما لا يقاس ، ولقد ترتب على عدم معرفة د. عبدالله بالفكر الجمهوري وعدم تقديره له ، عدم تصور للخلاف بين هذا الفكر الثائر وبين الفقهاء ورجال الدين مما سنبينه في الحلقات القادمة باذن الله ..


    (21)

    لقد اشار د. عبد الله على ابراهيم ، الى دعوة الاستاذة فاطمة أحمد إبراهيم ، والاتحاد النسائي ، الى تقييد تعدد الزوجات، ولكنه لم يذكر لنا رأيه هو ، أو رأي الفقهاء الذين وصفهم بالتفهم والحداثة في هذه القضية .. أما الفقهاء الأوائل ، الذين يعتبرهم الفقهاء الحاضرين اساتذتهم ، فقد اتفقوا على انه يجوز للرجل ، ان يتزوج أربع نساء .. مما يجعل للمرأة ربع رجل ، ويجعل مؤسسة الزواج ، من ثم ، تقوم على غير التكافؤ والمساواة .. والآية التي إعتمد عليها الفقهاء ، في جواز التعدد ، هي قوله تعالى " وإن خفتم الا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم الا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت ايمانكم ذلك ادنى الا تعولوا " جاء في تفسير الآية (أي اذا كانت تحت احدكم يتيمة وخاف الا يعطيها مهر مثلها فليعدل الى ما سواها من النساء ، فإن هن كثير ولم يضيق عليه "مثنى وثلاث ورباع" أي انكحوا ما شئتم من النساء سواهن ان شاء احدكم إثنتين وان شاء ثلاثاً وان شاء أربعاً " فإن خفتم الا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت ايمانكم" أي ان خفتم من تعداد النساء ان تعدلوا بينهن ، فمن خاف من ذلك فليقتصر على واحدة أو على الجواري والسراري فإنه لا يجب قسم بينهن ولكنه يستحب ، فمن فعل فحسن ومن لا فلا حرج وقوله " ذلك أدنى الا تعولوا" قال بعضهم : ذلك ادنى الا تكثر عيالكم ، والصحيح قول الجمهور : أن لا تجوروا).[8]

    والغرض من التعدد ، في فهم الفقهاء ، هو زيادة استمتاع الرجل ، واظهاره لقوته الجنسية !! يقول القاضي عياض الفقيه المشهور (أما النكاح فمتفق فيه شرعاً وعادة ، فانه دليل الكمال وصحة الذكورية ، ولم يزل التفاخر بكثرته عادة معروفة ، والتمادح به سيرة ماضية ، وأما في الشرع فسنه مأثورة ، وقد كان زهاد الصحابة رضي الله عنهم كثيري الزواجات والسراري وكثيري النكاح)[9] !! وعلى مستوى هذا الفهم ، سار الفقهاء ورجال الدين السلفيين ، الحاضرين، أيضاً ، فهم يرون ان التعدد (ليس مشروطاُ كما يقول بعض الناس بكون الزوجة الأولى لا تنجب أو مريضة أو تحت ظروف إجتماعية قاهرة ، وانما هو مباح من الأصل فللمسلم أن يتزوج إثنين أو ثلاثاً أو أربعاً ما دام قادراً ويأنس من نفسه العدل ولا يقتصر الا اذا خشي الا يعدل لقوله تعالى " فانكحوا ما طاب لكم من النساء" الآية ، فالآية الكريمة تصرح بأن وجوب الاقتصار على واحدة لا يكون الا في حالة خوف العدل ، فإذا تيقن المسلم من انه سيعدل فليعدد ما دام قادراً . وليس العدل المطلوب شيئاً مستحيلاً كما يزعم البعض في تفسيرهم قوله تعالى " ولن تستطيعوا ان تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة " "النساء129" فقد قالوا ان العدل غير مستطاع وقد شرط التعدد العدل ، واذاً لا تعدد فهذا في الحقيقة فهم خاطئ ، فالعدل غير المستطاع الذي ذكرته هذه الآية هو العدل المطلق المادي والمعنوي من الحب والميل ، أما العدل المطلوب في الآية الأولى " فانكحوا ما طاب لكم من النساء" فهو العدل المادي ، وهذا في مقدور المسلم ان يحققه حين يسوي بين زوجاته في المأكل والملبس والمبيت ، على انه في حالة حبه لواحدة أكثر من الأخرى ، وهذا أمر لا يملكه، فقد نهاه الله ان يميل نهائياً الى التي تعلق بها قلبه فيترك الأخرى معلقة لا هي متزوجة ولا هي مطلقة.)[10] ..

    أما الشيخ عبد العزيز بن باز مفتي السعودية فقد قال (الآية تدل على شرعية التزوج باثنتين أو ثلاث أو اربع لأن ذلك أكمل في الاحصان وفي غض البصر وإحصان الفرج ولأن ذلك سبب لأكثار النسل وعفة الكثير من النساء والاحسان اليهن من الانفاق عليهن ، ولا شك ان المرأة التي يكون لها نصف الرجل أو ثلثه أو ربعه خير من كونها بلازوج ، ولكن بشرط العدل في ذلك والقدرة عليه ومن خاف الا يعدل إكتفى بواحدة مع ما ملكت يمينه من السراري)[11] !!

    ومن الحجج التي يسوقها مؤيدو تعدد الزوجات (ان يكون الزوج عنده من القوة الجنسية مالا يكتفي معه بزوجة واحدة ، وخاصة ان المرأة تمر بفترة الحيض والنفاس ، وهذه قد تطول عند بعض النساء ، وهو قادر على ان يضم الى حوزته إمرأة ثانية بالحلال ، فهل نقول له لا تتزوج ثانية لأن القوانين والعادات المخالفة للشرع لا تسمح باكثر من واحدة ، فسندفعه للحرام واتخاذ الخليلات) !![12]

    أول ما تجدر الاشارة اليه ، هو ان الفقهاء لم يدركوا ان مفهوم العدل ، قد تغير بسبب التطور .. فالمرأة التي أخرجها الاسلام من حفرة الوأد ، وكانت تعتمد على الرجل ، ليعيشها ويحميها ، فان العدل يقوم في حقها اذا تزوج الرجل اكثر من واحدة ، وساوى بينهن في العطاء المادي ، رغم ميله العاطفي الأكثر لاحداهن .. ولكن هذا لا يمكن ان ينطبق على على المرأة الحديثة ، التي تعيش في عصر المساواة ، وتملك من الحقوق الاجتماعية ما يجعلها لا تحتاج لعطاء الرجل المادي ، فالعدل بالنسبة لها هو المعاملة بالمثل في المشاعر .. فهي تريد الرجل كله لها ، كما هي كلها له ، ولا يكفيها نصفه أو ربعه لانها مساوية له .. ومعلوم انه ليس هنالك محب صادق له محبوبان !! ولما كان الله يأمر بالعدل فهو يأمر بوحدانية الزواج ، وانما يجب ان يتلمس التشريع الجديد هذه المعاني فيمنع التعدد ..

    ولقد كان أحرى بالداعين للتعدد ، النظر في مضار الضرار ، وتمزق الاسر بسببه ، بدلاً من الحديث عن الطاقة الجنسية الزائدة للرجل ، لأن مثل هذه الحجة ، لو رفعتها المرأة فكيف سيجيب عليها دعاة التعدد ؟! ان الدين لا يجاري الشهوات وانما يهذبها لخدمة الفرد والمجتمع !!


    (22)

    وأود ان اختم الحديث عن حقوق المرأة المنقوصة ، في قوانين الشريعة ، وفي فهم الفقهاء ورجال الدين ، بموضوع الحجاب .. وذلك لأنه اصبح من الشعارات الاساسية ، للجماعات الاسلامية ، ومن اول ما تطبق الحكومات حين تزعم انها تحكم بشرع الله ، ولقد رأينا صوراً من فرض الزيّ على النساء ، وعقوبات توقع بسببه ودعوة لحرمان المرأة من السفر ، وحدها ، أو الخروج او الاختلاط بالرجال ، كإقامة لشرعة الحجاب!!

    يرى الفقهاء وعلماء السلف ، ضرورة حجب المرأة عن الرجل ، خشية وقوع الفتنة ، التي تسوق الى الحرام ، ويحرمون لذلك اختلاط المرأة بالرجال ، واجتماعها معهم ، أو حتى مصافحتها لهم !! ولقد اعتمد الفقهاء في ذلك على الآية الكريمة "يا نساء النبي لستن كأحد من النساء ان اتقيتن ، فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض ، وقلن قولاً معروفاً * وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ، واقمن الصلاة وآتين الزكاة واطعن الله ورسوله .. انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً" . جاء في تفسير هاتين الآيتين (هذه آداب أمر الله بها نساء النبي صلى الله عليه وسلم ونساء الأمة تبع لهن في ذلك . "وقرن في بيوتكن" أي إلزمن بيوتكن فلا تخرجن لغير حاجة من الحوائج الشرعية كالصلاة في المسجد ، قال البزاز: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عمر بن عاصم حدثنا همام عن قتادة عن مورف عن ابي الأحوص عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ان النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان وأقرب ما تكون بروحة ربها وهي في قعر بيتها" رواه الترمزي. "ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى" قال مجاهد: كانت المرأة تخرج تمشي بين يدي الرجال فذلك تبرج الجاهلية الأولى. وقال مقاتل : التبرج ان تلقي الخمار على رأسها ولا تشده فيواري قلائدها وقرطها وعنقها.).[13]

    يتضح من هذا ، ان الحجاب يعني في المكان الأول ، حبس المرأة في بيتها ، ومنعها من الخروج ، الا لضرورة شرعية .. وهو بهذا المعني ، اذا نظر اليه ، في وقتنا الحاضر ، يمثل سجن مواطن برئ ، بسبب جريمة لم يرتكبها، وانما يخشى عليه ان يقع فيها ، إذا أخرج من سجنه ، وهي هنا جريمة الزنا أو ما يشبهها من ارتكاب الفواحش. ومعلوم ان الزنا لا تمارسه المرأة وحدها ، وانما يشاركها فيه رجل ، ومع ذلك لم يحبس الرجل بالبيت لنفس السبب !! وذلك لأن الرجل مظنة الرشد ، ويعتبر مسئولاً عن نفسه ، فلا يعاقب الا بعد إرتكاب الجريمة . أما المرأة فهي مظنة الغواية ، وهي لا تعتبر مسئولة عن نفسها ، وانما هي قاصر ، وقد جعل الرجل وصياً عليها.. والقاصر لا يعطي الفرصة في الممارسة التي قد توقعه في الخطأ ، وانما يصادر حقه ابتداء ، بغرض المحافظة عليه من الاضرار بنفسه .. بالاضافة الى هذا ، فأن الرجل قد كان عماد المجتمع ، فاذا حبس في البيت توقفت الحياة ، اذ عليه تعتمد كافة الاعمال ، والحروب ، وحماية المرأة نفسها ، من ما يمكن ان يلحق بها من عار السبي في ذلك المجتمع ..

    فاذا اضطرت الظروف المرأة لتخرج من بيتها ، لضرورة شرعية ، كالصلاة أو الحج أو المرض ، فإنها يجب ان تخرج وعليها من الغطاء ما لايمكن من تمييز شكلها ، حتى لا يعرفها من يراها ، وتكون بذلك وكأنها في بيتها !! جاء في تفسير قوله تعالى "يا ايها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى ان يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً رحيماً." قال علي بن طلحة عن ابن عباس (أمر الله نساء المؤمنين اذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة)[14]..

    وهذا الحجاب بالثياب هو الحجاب في المكان الثاني ، حين تلجأ الضرورة المرأة للخروج من البيت ، وذلك بغرض تجاوز الفتنة التي كانت في الاساس سبب حبسها في بيتها .. فإذا صح هذا ، وهو صحيح دون أدنى ريب ، فإن الفتاة المؤمنة بالفهم الاسلامي السلفي ، تعتبر مفارقة للشريعة الاسلامية ، بمجرد خروجها من منزلها لغير ضرورة شرعية ، كأن تكون قد خرجت للنزهة ، أو لزيارة صديقتها ، أو للمشاركة في عمل سياسي ، أو ثقافي ، أو لشراء بعض أدوات الزينة .. الخ ، وذلك حتى لو لبست الحجاب الشرعي ، وغطت كل جسدها ، لأنها تجاوزت الأمر في قوله تعالى "وقرن في بيوتكن" وهو اساس الحجاب ، دون ضرورة تبرر ذلك ، في نظر الاسلام من وجهة نظرها .. وهذه المفارقة الظاهرة ، قد اصبحت اليوم تشمل كافة المحجبات ، وهن يخرجن للأغراض العادية ، في الحياة اليومية المعاصرة ، ذلك ان وقع الحياة الجديد ، وما استجد فيها ، لم يكن يخطر على بال الفقهاء الاوائل ، الذين لم يروا بأساً في حبس المرأة في بيتها!!

    واعتبر الفقهاء الأوائل جسد المرأة عورة ، فلا يجوز كشفه للرجال على خلاف لهم في ذلك !! فقال الحنابلة وبعض الشافعية (جميع بدن المرأة عورة لا يصح لها ان تكشف اي جزء جسدها امام الرجال الاجانب الا اذا دعت لذلك ضرورة ، كالطبيب للعلاج ، والخطيب للزواج ، والشهادة أمام القضاء) أما الحنفية والمالكية والرأي الثاني للشافعية فهو (جميع بدن المرأة الحرة عورة الا الوجه والكفين ، فيباح كشف وجهها وكفيها في الطرقات وامام الرجال الاجانب ولكنهم قيدوا الاباحة بشرط أمن الفتنة . أما اذا كان كشف الوجه واليدين يثير الفتنة لجمالها الطبيعي أو ما عليها من الزينة والحلي ، فانه يجب عليها سترهما ويعدان عورة كبقية الأعضاء)[15] !!

    كما إختلف الفقهاء في صوت المرأة فقال بعضهم (انه ليس بعورة لأن نساء النبي كن يروين الأخبار للرجال) وقال آخرون (ان صوتها عورة وهي منهية عن رفعه بالكلام بحيث يسمع ذلك الاجانب واذا كان صوتها أقرب الى الفتنة من صوت خلخالها ، وقد قال تعالى "ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن" فقد نهى الله تعالى عن استماع صوت خلخالها ، لأنه يدل على زينتها فحرمة رفع صوتها أولى من ذلك ، ولذلك كره الفقهاء آذان المرأة لانه يحتاج الى رفع الصوت ، والمرأة منهية عن ذلك ، وعلى هذا فيحرم رفع صوت المرأة بالغناء اذا سمعها الاجانب سواء ان كان الغناء على آلة لهو أو غيرها) !! [16]

    ولقد امتد هذا الفهم ، في عزل المرأة عن المجتمع ، الذي تعيش فيه ، ليشمل عدم مصافحة المرأة للرجال ، خوف الفتنة ، التي تحدث من الاثارة لمجرد التلامس بالايدي !! يقول احد الدعاة الاسلاميين (روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع النساء بالكلام وما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد إمرأة الا إمرأة يملكها- أي يملك نكاحها... والاحاديث التي رويناها في تحريم اللمس تصحح الفهم وتدرك السلامة ، وتنأى بالمرء عن المزلق الخطر ، فان المرأة مشتهاه خلقة ، واللمس مثير شهوة الوقاع ، وهي أعصى الشهوات للدين والعقل ، فكل سبب يدعو اليها في غير حل ممنوع في الاسلام ومحظور)[17]!!

    ان الدعوة الى تطبيق القوانين الاسلامية ، التي تقوم على الشريعة ، دون اعتبار تطويرها ، اذا جاءت من المثقفين، انما هي دعوة لسيادة هذه المفاهيم المتخلفة عن روح الدين وعن واقع العصر .. والاشادة بالفقهاء الذين يعتمد فقههم على هذه القوانين ، ووصفهم بالحداثة والتقدم ، وانتظار أي خير من تطبيق قوانينهم ، انما هو سير في التيه ، وتضليل للشعب ، وخيانة لامانة الثقافة !!

    -نواصل-

    د. عمر القراي


    --------------------------

    [1] - مقال د. عبد الله الاخير بسودانايل.
    [2] - مقالاته بالراي العام- ابريل 2003
    [3] - المصدر السابق.
    [4] - محمد عمارة : الامام محمد عبده ص 55-56
    [5] - محمد عمارة : الاسلام والمرأة في رأي الامام محمد عبده ص 55
    [6] - المصدر السابق ص62 -63
    [7] -المصدر السابق ص69
    [8] - تفسير ابن كثير –الجزء الأول ص 450
    [9] - القاضي عياض: الشفا الجزء الأول ص 87
    [10] - د. محممد عبد السلام محمد : دراسات في الثقافة الاسلامية ص 283
    [11] - هاشم بن حامد الرفاعي : الكلمات في بيان محاسن تعدد الزوجات ص 23
    [12] - المصدر السابق ص32
    [13] - تفسير ابن كثير الجزء الثالث ص 449 .
    [14] - المصدر السابق ص575
    [15] - عبد الرحمن الجزيري : الفقه على المذاهب الأربعة – الجزء الخامس ص 52
    [16] - تامصدر السابق ص 53
    [17] - الشيخ محمد الحامد : حكم الاسلام في مصافحة المرأة الاجنبية ص 10-11


    www.alfikra.org
                  

03-02-2008, 02:34 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    حول مقالات د. عبد الله علي ابراهيم في الدفاع عن الفقهاء وقوانينهم
    الدين .. ورجال الدين عبر السنين (الحلقة الخامسة)

    د. عمر القراى - 29 يونيو 2003

    (23)

    يقول د. عبد الله علي إبراهيم عن تطبيق الاستعمار للقانون الانجليزي على السودانيين (ولما كانت هذه القوانين الجنائية والمدنية "مستوردة" وتفترض خلو السودان قبل الاستعمار من اقباس العدالة والشرائع فانها قد اساءت الى السودانين في عزتهم وخلقهم إساءة مرة) [1] .. والحق ان الانجليز لم يكن لديهم بديل آخر !! فلقد استعمروا مصر قبل السودان ، وتعرفوا على الازهر ورجال الدين فيه، فلم يروا الا نموذجاً سيئاً في الفكر والممارسة .. وكانت تلك المؤسسة التي تمثل الاسلام تخضع للمستعمرين ، وتثبط من همم الثائرين ، ثم هي فوق ذلك تجنح الى تكفير المفكرين ، وتحارب الحداثة بافكار عتيقة ، متخلفة عن قامة العصر، وبعيدة عن قيم الانسانية التي يدعي الانجليز الحرص عليها ..

    ولا يعني هذا إعذار الاستعمار، أو تاييده ، أو تبرأته من المصلحة والغرض ، في السيطرة ، ومحاولة عزل الأمة عن تاريخها واخلاقها ودينها، مما يخشى ان يؤدي الى الثورة ضده .. ولكننا انما أردنا التركيز على جانب آخر - هو المهم في التعليق على دراسة د.عبد الله- وهو ان مواقف رجال الدين ، وفهمهم المتخلف ، قد أعطى الانجليز عذراً مديداً أمام انفسهم ، وامام العالم لإقامة القوانين الجنائية والمدنية ، على القانون الأنجليزي ، وحصر القانون الشرعي في الأحوال الشخصية .. فالنقطة المهمة هنا ، والتي ما أحب ان ازايل مقامي هذا قبل توكيدها ، هي ان هوان الشريعة الاسلامية في صدر المستعمر ، وفي نفوس المثقفين الوطنيين الذين حكموا بعده ، انما مرده للصورة الشائهه للدين التي يقدمها من يطيب لهم ان يسموا برجال الدين !! ولما كان مشايخ الأزهر هم نموذج فقهائنا واساتذتهم فإننا سنخصص هذه الحلقة لمناقشة مواقفهم وآرائهم ..

    (24)

    في عهد الاستعمار الفرنسي على مصر، كون ديوان من العلماء والاعيان ، لمعاونة الحكومة ، ولقد اصدر هؤلاء العلماء بياناً للشعب المصري لتهدئة ثورته على المستعمر ، وتثبيط همته عن النضال !! جاء في ذلك البيان (نصيحة من كافة علماء الاسلام بمصر المحروسة ، نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن ونبرأ من الساعين في الارض بالفساد ...) الى ان يقول (فعليكم الا تحركوا الفتنة ولا تطيعوا المفسدين ولا تسمعوا كلام من لا يقرأون العواقب ، لأجل ان تحفظوا أوطانكم وتطمئنوا على عيالكم واديانكم فإن الله سبحانه وتعالى يؤتي ملكه من يشاء ، ويحكم بما يريد ، ونصيحتنا لكم الا تلقوا بأيديكم الى التهلكة)!![2]

    فبدلاً من ان يحث هؤلاء العلماء الشعب على مقاومة المستعمر ، دفاعاً عن أرضه ، وعرضه ، ودينه ، اذا بهم يدعونه للتخاذل والخنوع !! وحتى تجد هذه الدعوة العجيبية ، صدى في نفوس البسطاء ، يتوسلون لها بالمفاهيم الدينية نفسها ، في صورة من القدرية التي تسقط العمل بالواجب الديني المباشر .. فهم يؤكدون ان الله هو الذي أعطى الفرنسيين الحكم على مصر ، وهو سبحانه وتعالى يعطي حكمه من يشاء !! لذلك فان الجهاد ضد المستعمر يعتبر تهور ، بل هو عندهم يعد مفارقة دينية لمخالفته لقوله تعالى (ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة) مع ان التهلكة الحقيقية هي عدم مناهضة الظلم الذي يمثله الاستعمار ، وهي في هذه الآية بالذات تعني القعود عن الجهاد ، فاستعملها الفقهاء في عكس مقصدها ، تحريفاً للكلم عن مواضعه من اجل المكسب الدنيوي الزائل!! جاء في تفسير الآية وهي"وانفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة إن الله يحب المحسنين" (قال البخاري: حدثنا اسحق اخبرنا النضر اخبرنا شعبة عن سليمان سمعت ابا وائل عن حذيفة قال نزلت في النفقة ... وعن اسلم ابي عمران قال حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه ومعنا ابو ايوب الانصاري فقال ناس القى بيده الى التهلكة فقال ابو ايوب نحن اعلم بهذه الآية إنما نزلت فينا .. صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدنا معه المشاهد ونصرناه فلما فشا الاسلام وظهر اجتمعنا معشر الانصار تحبباً فقلنا قد أكرمنا الله بصحبة نبيه صلىالله عليه وسلم ونصره حتى فشا الاسلام وكثر أهله وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد وقد وضعت الحرب أوزارها فنرجع الى أهليناوأولادنا فنقيم فيهما فنزل فينا "وانفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة" فكانت التهلكة في الأقامة في الأهل والمال وترك الجهاد. رواه ابوداؤود والترمزي والنسائي)[3]

    واثناء الاحتلال الانجليزي لمصر، استعان الانجليز بعلماء الأزهر لتهدئة حركة المقاومة الشعبية ، وعن ذلك نقرأ (لم يكتف القوم باعلان الاحكام العرفية ولا باصدار القائد العام للجيوش البريطانية المنشور الذي اعترف فيه بما للخليفة من الاعتبار عند مسلمي القطر بل لجأوا من باب زيادة الحيطة الى الاستعانة بهيئة كبار العلماء بالديار المصرية فاستصدروا منها في 16/11/1914 رسالة الى الأمة تدعوها فيها الى السكون والتفادي عن الفتن ، واطاعة الحكومة. وكان على رأس كبار العلماء صاحب الفضيلة الاستاذ الأكبر الشيخ سليم البشري شيخ الجامع الأزهر والشيخ بكري عاشور مفتي الديار المصرية . ولم يترك اصحاب الفضيلة العلماء آية من آيات الذكر الحكيم أو حديثاً من الأحاديث النبوية تحض على عدم المخاطرة وعدم القاء النفس الى التهلكة أو اتقاء الفتنة أو البعد عن تدخل المرء فيما لا يعنيه الا أتوا به في هذه الرسالة)!![4]

    فاذا كان هذا التاريخ الملئ بالخزي ، هو تاريخ الانجليز مع علماء الأزهر ، فهل يمكن ان يحترموا ، أو يعتبروا قوانين الفقه ، الذي أفنى هؤلاء الاشياخ أعمارهم في اجترار متونه وحواشيه؟!

    (25)

    واستمر الأزهر يتملق الحكام بعد ذهاب الانجليز ، فلقد كان مثلاً ، يحتفل سنوياً بعيد ميلاد الملك فاروق !! ومما جاء في وصف أحدى مشاركاتهم في تلك المناسبة (فنهض الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر فألقى خطبة جمعت فأوعت في مناقب حضرة صاحب الجلالة الملك فاروق) وكان مما قاله شيخ الأزهر في تلك الخطبة عن فاروق (انه مثال من مثل الخير العليا وصورة كاملة من صور الفضيلة المحببة للنفوس)!![5]

    وكتبت مجلة الأزهر ، أيضاً ، بقلم رئيس تحريرها أحمد حسن الزيات ، قبل شهرين فقط من الإطاحة بفاروق (وبهدى صاحب الرسالة محمد صلوات الله عليه لسان الوحي ومنهاج الشرع ومعجزة البلاغة وبعطف صاحب الجلالة الفاروق ناصر الاسلام ومؤيد العروبة وحامي الأزهر ، أعز الله نصره وجمل بالعلوم والآداب عصره)!![6]

    ولما قامت ثورة يوليو 1952 واطاحت بنظام فاروق ، كتب أحمد حسن الزيات نفسه ، في مجلة الأزهر نفسها، عن فاروق (وكان آية من آيات أبليس في الجرأة على دين الله ، انه كان كما حدثني أحد بطانته المقربين اليه انه اذا اضطرته رسوم الملك أن يشهد صلاة الجمعة خرج اليها من المضجع الحرام وصلاها من غير غسل ولا وضوء، واداها من غير فاتحة ولا تشهد . وكان يقول أخوف ما أخافه ان يغلبني الضحك وانا اتابع الإمام في هذه الحركات العجيبة . وبلغ من جرأته على الحرمات انه كان يغتصب الزوجة ويقتل الزوج ويسرق الدولة) !![7]

    وهكذا تحول الملك فاروق ، من "الفاروق" الملك الصالح ، نموذج الفضيلة المحببة للنفوس ، الى الحاكم الظالم الفاسق الذي يخرج للصلاة من المضجع الحرام ، ويغتصب النساء ، ويقتل ازواجهن!!

    وليس هذا الكذب والنفاق ، حظ مجلة الأزهر ، ورئيس تحريرها فحسب ، وانم هو وصمة عار ، في جبين كل الفقهاء والعلماء الراضين عن الأزهر ، والذين لم يسجل التاريخ ، لأي منهم ، أي إعتراض على هذه المؤسسة الدينية ، او على الحكام الظالمين الذين كانت تواليهم وتتملقهم ..

    ولقد كان الهجوم على الملك فاروق ، بعد زواله ، تزلفاُ لنظام عبد الناصر.. فقد كتب الشيخ محمود شلتوت ، وكان من أبرز مشايخ الأزهر (فعلى المسلم السمع والطاعة فقد عرف انه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وواجب المسلم لا يختلف ولا يقل نحو حكومته ما دام كل عملها في المصلحة العامة وما دامت لا تخالف أوامرها أوامر الله ولا أوامر الرسول لا فرق في ذلك بين حكومة علمانية أو حكومة دينية) !![8]

    فالشيخ شلتوت ، لا يخلص هنا لفهمه الديني الذي يوجب تطبيق الشريعة وقوانينها، فيدعو الى طاعة الحكومة العلمانية ، ويزعم انها يمكن الا تخالف أوامر الله ورسوله !! فهل يمكن ان يكون قد قال ما قال ، اقتناعاً بنظام جمال عبد الناصر ، أم انه الخوف من بطشه والطمع في مودته ؟!

    وكتب أحمد حسن الزيات ، في وصف الميثاق الوطني ، الذي وضعته حكومة عبد الناصر (ان ميثاقك الذي عاهدت الله الوفاء به وعاهدك الشعب على اللقاء عليه حروف من كلمات الله لم يؤلفها أحد قبلك في أي عهد لا في القديم ولا في الحديث لا في الشرق ولا في الغرب)!![9] ميثاق عبد الناصر حروف من كلمات الله !! وهذا يكتب في مجلة الأزهر دون ان يعترض العلماء والفقهاء والشيوخ ورجال الدين !!

    ولقد زادت مجلة الأزهر في مدح الميثاق بقولها (وسينتشر ضوء ميثاقك المحكم الهادي في كل نفس ، وفي كل ارض ، انتشار كلمة الله ، لأنه الحق الذي وضعه الله في شرعه والنهج الذي سنه لجميع خلقه)!![10] ولوكانت هذه المجلة غير مجلة الأزهر ، لكان مجرد صمت شيوخ الازهر على مثل هذا الحديث ، عار يجلل هاماتهم أبد الدهر ، دع عنك أنها مجلتهم التي تصدر باسمهم و تتصدر الدعوة لتطبيق القوانين الاسلامية !!

    وفي نفس العام ، حدثت مشكلة بسبب مقال آخر ، كتبه احمد حسن الزيات في مجلة الازهر، وذلك حين مدح الاشتراكية التي دعا اليها الرئيس جمال عبد الناصر ، وذكر انها أفضل من اشتراكية محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم !! وذلك لأن اشتراكية محمد تقوم على العقيدة ، بينما تقوم اشتراكية عبد الناصر على العلم الحديث !! ولقد احتج بعض مشايخ الأزهر على هذه المقارنة الجائرة ، فتدخل الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر لتهدئة خواطرهم والاعتذار عن زلة الزيات وتأكيد حسن مقصده !![11]

    ولم يكتف فقهاء الأزهر، وحماة الاسلام من رجال الدين ، بتملق الحكام ، وانما جنحوا الى تكفير الكتاب والمفكرين ، ثم استعداء الحكومات عليهم لتخلصهم منهم ، وقد عجزوا عن منازلتهم في ميدان الفكر والحوار .. ومن أمثلة ذلك رد الشيخ محمد النواوي ، على هجوم الدكتور طه حسين ، على جمود الأزهر وتخلفه ، فقد قال (ان الأزهر حق الله لأنه يبلغ رسالة الله ورسالة الانبياء من قبل ، إصلاح عالمي ، وسلام إسلامي ، لأنه يعاون الحكم الصالح الذي يثمثل اليوم في حكومة الثورة) !![12]

    ان هذا الفقيه يحذر المفكر ، من التعرض للأزهر لأنه "حق الله" و "لأنه يعاون حكومة الثورة" ، وهو بهذا يستعدي الحكومة ويشير لها بان د. طه حسين ضدها لأنه نقد الأزهر!!

    ولقد سار الشيخ محمد علي عامر، على نفس المنوال، فقال (ما كنت أظن ان الدكتور طه حسين ... يتمادى في التهكم بالأزهريين ، ويدأب على التهوين من شأنهم ، في الوقت الذي تمر به مصر الآن ، فيكتب عنهم بأنهم "لايتعلمون كما يتعلم الناس" ويصفهم بانهم "لا يعرفون من العلوم الا اسماءها" ويرد على بعض كتاب الأزهر ، فيقول عن الأزهر "انما عاش ولا زال يعيش في القرون الوسطى" وهو يعلم حق العلم بان الرئيس عبد الناصر وصحبه من رجال الثورة أغير الناس على الأزهر وأشدهم حرصاً على كرامته)!![13]

    ولم يكتف علماء الأزهر بتكفير د. طه حسين ، وانما كفروا أيضاً الشيخ علي عبد الرازق ، وهو من خريجي الأزهر ، وطالبوه بارجاع شهادة "العالمية" التي منحوها له ، فأرسلها لهم وقد كتب معها "الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني" !! كما كفروا الشيخ محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار .. واتهم الشيخ التفنتازي وبعض علماء الأزهر عمر لطفي المحامي بالالحاد لدعوته لإقامة الجمعيات التعاونية!![14] واتهم جماعة منهم على رأسهم الشيخ عليش الشيخ جمال الدين الأفغاني بالإلحاد لأفكاره العلمية ، كما كفروا قاسم أمين بسبب دعوته المناصرة للمرأة !! واتهموا محمد عبده بالزندقة لأنه أفتى بان لبس "البرنيطة" حلال!![15]

    وفي عام 1992 أفتى بعض مشايخ الأزهر بكفر الكاتب د. فرج فودة ، فقام اثنان من الجماعات الاسلامية بالتنفيذ فاطلقا النار عليه أمام منزله واردياه قتيلاً!! وفي عام 1995 قام شاب بمحاولة اغتيال الكاتب المشهور نجيب محفوظ ، ولما قبض عليه إتضح اته لا يعرف نجيب محفوط ، ولم يقرأ له ، ولقد فعل ذلك بسبب فتوى قديمة افتاها الشيخ عمر عبد الرحمن !! وفي منتصف التسعينات رفع أحد أعضاء هيئة التدريس بكلية الآداب بجامعة القاهرة دعوى ردة ضد د. نصر حامد أبوزيد ، ووجد من مشايخ الأزهر دعماً وتأييداً ، وإزاء حكم المحكمة لم يملك د. نصر حامد أبو زيد بدا من مغادرة مصر !! ومؤخراً افتى شيوخ الأزهر بردة د. نوال السعداوي الأمر الذي إعترضت عليه كافة منظمات حقوق الانسان ..

    (26)

    ولم يكن مستغرباً، بعد هذا التاريخ الحافل، ان يكفر الأزهر الجمهوريين ، ولكن الغريب، ان يعطي نفسه الحق بالتدخل في شئون السودانيين، فيوجه المسئولين الرسميين في الوزارات ، لا ليناقشوا الفكر الجمهوري وانما ليحرضوا السلطة لإيقافه !! ولو كان علماء الأزهر قد أقاموا الدين في مصر ، فخلت من كافة المفارقات ، وطبق حكامها الاسلام ، لبرء انشغالهم بالسودان من النفاق .. واعجب من موقف الأزهر موقف الفقهاء ووعاظ الشئون الدينية، الذين قبلوا بهذه الوصاية المصرية الجاهلة ، وطمأنوا اساتذتهم على انهم سائرون نحو القضاء على الفكر بالسلطة بعد ان قاموا بتكفيره !! ولقد تبع الأزهر، في ذلك علماء رابطة العالم الاسلامي ، التي يشرف عليها ملوك السعودية ، فلقد صمت هؤلاء عن الملك العضوض ، والفساد المتوارث، والبذخ باموال الشعب ، وهرعوا ليقيموا الدين في السودانيين بمصادرة فكر الجمهوريين!!

    هذا هو موقف فقهاء الأزهر ، ووعاظ السلاطين ، فهم لن يعدوا قدرهم ، فما هو موقف المثقفين أمثال د. عبد الله علي ابراهيم ، الذين تلقوا تعليماً مدنياً ، بل وتبنوا في مرحلة من مراحل نضجهم الفكري والثقافي ، الآراء اليسارية التقدمية ؟! لماذا صمتوا على التكفير ومصادرة الرأي ، والتدخل الأجنبي لتصفية الخلاف الفكري باستعداء السلطة ، ثم جاؤا ليحدثوننا الآن عن سماحة الفقهاء وقوانينهم ؟!

    ولقد استطاع الجمهوريون، الحصول على صور طبق الأصل، من هذه الوثائق، ونشروها على شعبهم في وقتها ، واني اذ أوردها هنا، مرة أخرى، أختم بها حديثي عن رجال الدين السعوديين و المصريين لنفرغ في الحلقة القادمة لرجال الدين السودانيين.


    (صورة طبق الأصل)

    بسم الله الرحمن الرحيم

    " واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا"

    رابطة العالم الاسلامي

    الرقم (1-3) 7/2631

    رابطة العالم الاسلامي

    الامانة العامة

    التاريخ 5 ربيع الأول1395

    مكة المكرمة


    حضرة صاحب المعالي الأخ الدكتور عون الشريف قاسم الموقر

    وزير الشئون الدينية والأوقاف

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    أفيد معاليكم بأن من ضمن القضايا الاسلامية التي ناقشها المجلس التأسيسي لرابطة العالم الاسلامي في دورته السادسة عشرة (محمود محمد طه) السوداني الذي إدعى الرسالة وأنكر ختم الرسالة وانه المسيح المنتظر كما انكر الجزء الثاني من الشهادة الى آخر ما جاء في إدعاءاته الباطلة ..

    وبعد مناقشة الموضوع من جميع جوانبه أصدر المجلس حكمه بالاجماع بارتداد المذكور عن الاسلام وتأييداً لما حكمت به المحكمة الشرعية العليا بالخرطوم وانه يجب على المسلمين ان يعاملوه معاملة المرتدين كما يجب مصادرة كتبه أينما وجدت ومنع طبعها.

    أرجو من معاليكم التكرم بنقل هذا القرار الى حكومتكم الموقرة وبذل مساعيكم الحميدة لدى المسئولين فيها للمساهمة معنا في تنفيذها وخاصة قد صدر عن مجلس يضم نخبة من العلماء والزعماء الممثلين من معظم الشعوب الاسلامية في العالم.

    وانتهز هذه الفرصة للاعراب عن صادق مشاعري وتقديري لتعاونكم الدائم مع الرابطة فيما يرفع شأن الاسلام والمسلمين.

    وتفضلوا بقبول فائق التحية والاحترام.

    التوقيع/ الأمين العام

    أحمد صالح القزاز


    أما خطاب الأزهر فقد كان كالأتي :


    الأزهر

    مجمع البحوث الاسلامية

    مكتب الأمين العام

    5/6/ 1972

    السيد / وكيل وزارة الشئون الدينية والاوقاف بالسودان

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    وبعد

    فقد وقع تحت يدي لجنة الفتوى بالأزهر الشريف كتاب الرسالة الثانية من الاسلام تأليف محمود محمد طه طبع في أمدرمان الطبعة الرابعة عام 1971 ص.ب 1151

    وقد تضمن هذا الكتاب أن الرسول بعث برسالتين فرعية ورسالة أصلية . وقد بلغ الرسالة الفرعية. وأما الأصلية فيبلغها رسول يأتي بعده. لأنها لا تتفق والزمن الذي فيه الرسول. وبما ان هذا كفر صراح ولا يصح السكوت عليه. فالرجاء التكرم بإتخاذ ما ترونه من مصادرة لهذا الفكر الملحد والعمل على إيقاف هذا النشاط الهدام خاصة في بلدكم الاسلامي العريق. وفقكم الله وسدد خطاكم.

    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    الامين العام

    لمجمع البحوث الاسلامية

    دكتور محمد عبدالرحمن البيصار


    أما رد الشئون الدينية فقد جاء كالاتي :


    (صورة طبق الأصل)

    23/7/ 1972

    النمرة وش دو /1/1/8/1

    السيد الدكتور محمد عبد الرحمن بيصار

    الأمين لمجمع البحوث الاسلامية

    الأزهر- القاهرة

    تحية طيبة

    بالاشارة الى خطابكم المؤرخ 5/6/1972/ والخاص بكتاب الرسالة الثانية من الاسلام تأليف الاستاذ محمود محمد طه ان موضوع مؤلفات الاستاذ محمود محمد طه ونشاطه الذي يقوم به موضوع دراسة دقيقة بواسطة هذه الوزارة وسلطات الأمن المختصة في جمهورية السودان الديمقراطية وسنتخذ فيه الإجراءات المناسبة بعد إكمال دراسة الموضوع من جميع جوانبه .

    هذا وتجدر الاشارة الى ان المحكمة الشرعية العليا بجمهورية السودان الديمقراطية كانت قد أصدرت حكماُ غيابياُ بانه مرتد عن الاسلام وأمرته بالتوبه عن جميع الأقوال والأفعال التي أدت الى ردته وتجري الآن عمليه جمع هذه الحقائق للمساعدة في الدراسة واتخاذ الإجراءات اللازمة وشكراً .


    محمد أحمد ياجي

    وكيل وزارة الشئون الدينية والأوقاف[16]

    -نواصل-

    د. عمر القراي



    ------------------------------------------

    [1] - مقالاته باراي العام

    [2] - راجع تاريخ الجبرتي

    [3] - تفسير ابن كثير الجزء الأول ص217

    [4] - أحمد شفيق باشا : حوليات مصر السياسية الجزء الأول

    [5] - مجلة الأزهر –مايو 1939

    [6] - المصدر السابق مايو 1952

    [7] - المصدر السابق يوليو 1960

    [8] - المصدر السابق ديسمبر 1960

    [9] -المصدر السابق يونيو 1962

    [10] - المصدر السابق يناير1963

    [11] - المصدر السابق مارس 1963

    [12] -المصدر السابق نوفمبر 1955

    [13] - أحمد أمين : زعماء الإصلاح ص 110 .

    [14] - مجلة الأزهر فبراير 1963

    [15] - أحمد أمين : زعماء الاصلاح ص 111

    [16] - الأخوان الجمهوريون : الدين ورجال الدين عبر السنين . أمدرمان 1975


    www.alfikra.org

    (عدل بواسطة عبدالله عثمان on 03-02-2008, 04:44 AM)

                  

03-02-2008, 02:36 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    حول مقالات د. عبد الله علي ابراهيم في الدفاع عن الفقهاء وقوانينهم
    الدين .. ورجال الدين عبر السنين (الحلقة السادسة)

    د. عمر القراى - 5 يوليو 2003

    (27)

    يقول د. عبد الله علي ابراهيم (وزاد الفكر الجمهوري في جفائه لهذا التقليد الشرعي بجعله هدفاً لحملات نقد وتنقيص . وقد كتبت مرة في جريدة الميدان السريّة في منتصف السبعينات التمس من الجمهوريين أن يلطفوا عباراتهم في نقد القضاة مع علمي بمحنة الجمهوريين وما نالهم من القضاة والوعاظ في المساجد من أذى وترويع. ومغاضبة الجمهوريين لم تقع من جهة احسان ذلك التقليد الشرعي أو إساءته بل من إرث مواجهة سياسية راجعة الى ايام الحركة الوطنية . فقد صنف من ظنوا في انفسهم مجاهدة الاستعمار من امثال المرحوم محمود القضاة الشرعيين والاعيان وزعماء القبائل والطوائف بانهم من اعوان الاستعمار. وهذا كلام جاز طويلاً غير انه خاضع للنظر والمراجعة الآن . ويكفي ان تقرأ ما كتبه الدكتور حسن احمد ابراهيم عن السيد عبد الرحمن المهدي لكي تشكك في صواب هذه الزائعة عن اؤلئك الرجال. وقد دق حكم المحكمة الشرعية بردة المرحوم محمود محمد طه عليه الرحمة في 1968 اسفين الخصومة بين القضاة والمرحوم واختلط حابل تطوير الشريعة بعاديات السياسة واطوارها وبمنطويات النفوس).[1]

    وقبل ان نوثق مفارقات القضاة الشرعيين ، نود ان نتساءل لماذا طالب د. عبد الله علي ابراهيم ، الجمهوريين ان يلطفوا عباراتهم في نقد القضاة ، ولم يكن له اي موقف ، حين اساءوا للجمهوريين وآذوهم وكفروهم؟ ألأنه يحترم الفقهاء والوعاظ ولا يعبأ بما جرى للجمهوريين حين اهدرت دماءهم؟!

    ثم ماذا كتب د. حسن أحمد إبراهيم ، عن السيد عبد الرحمن المهدي ، مما يشكك في نقد الفقهاء والاعيان وزعماء الطائفية ؟ ألم يرض السيد عبد الرحمن المهدي ، بان يمنحه الاستعمار ، لقب "سير" ؟ ألم يسافر مع الوفد المكون من زعماء الطائفية والاعيان وزعماء القبائل والذي ذهب ليهنئ ملك انجلترا بانتصارها في الحرب ؟! ألم يقدم سيف المهدي - رمز الثورة الاسلامية الوطنية - هدية للملك المستعمر المسيحي والذي شكره ورده له ؟! الا يستحي د. عبد الله علي ابراهيم ، وهو يشيد بمثل "سير" عبد الرحمن المهدي ، ان يقول عن أول سجين سياسي سوداني في الحركة الوطنية (من ظنوا في انفسهم مجاهدة الاستعمار من أمثال المرحوم محمود) ؟!

    ان د. عبد الله ، قد شعر ان ثناءه على الفقهاء وقوانينهم ، قد يقابل بالرفض من بعض القراء ، بسبب هجوم الجمهوريين على الفقهاء ورجال الدين .. فحاول ان يجد تبريراً لذلك الهجوم ، لا يقدح في القضاة الشرعيين ، فمال الى ناحية الجمهوريين ، فصور موقفهم الديني والوطني ، وكأنه مجرد رد فعل لمحكمة الردّة ، أو لخلاف قديم نشأ ابان الحركة الوطنية ، لأن الاستاذ محمود كان يظن في نفسه مجاهدة الاستعمار!!

    وحين ذكر د. عبد الله محكمة الردّة ، لم يعلق عليها بكلمة ، ولم يشأ ان يوضح لقرائه ، انها كانت تعمل خارج اختصاصها ، وانها لذلك ، عجزت عن ان تحضر الاستاذ محمود أمامها ، فحكمت عليه غيابياً. وانها استغرقت ثلث ساعة ، وهي لا تكفي لمجرد قراءة الاقوال ، وقبلت شهادة شاهد قال "في رأي كذا وكذا .." ولم ترجع لنصوص الكتب ، رغم البتر المتعمد ، والتشوية المغرض. أكثر من ذلك ، انها كانت مؤامراة لأن الشاكي اتصل بالقاضي الذي سيحكم القضية ، ورئيس محكمة الاستئناف ، الذي يمكن ان يستأنف له الحكم ، قبل ان يرفع القضية ، ولم يرفعها حتى وعدوه خيراً !! فاذا كان كل هذا لا يهم د. عبد الله كمثقف ، مهتم بالعدالة والحداثة ، الا يهمه ان محكمة الردّة قد كانت مصادرة حق مواطن ، في الحياة ، لمجرد اختلافه مع الفقهاء في فهم الدين؟!

    إن الخزي والعار ، ليجلل هامة أي مثقف سوداني ، عجز عن ان يقول مثل ما قاله د. منصور خالد في الفقهاء (أنا ما عندي أدنى شك في انه أي واحد فيهم لا يرقي إلى أخمص قدم محمود في العلم ناهيك عن الخلق)!![2]

    (28)

    وكما ساعد علماء الازهر ، المستعمر الانجليزي ، بالفتاوى التي تثبط الشعب عن المقاومة ، قدم القضاة الشرعيّون والعلماء ورجال الدين في السودان خدمات مماثلة ، بل لعلها أسوأ . جاء عن تلك المواقف المخزية (وجهت الحكومة استفتاء لحضرة صاحب الفضيلة مفتي الديار السودانية عن إفطار المحاربين والمتصلين بهم عملياً في شهر رمضان فأصدر فضيلته الفتوى التالية: وتريدون معرفة نصوص الشريعة الاسلامية في مثل هذه الأحوال فأفيدكم بانه يجوز الافطار والحال كما ذكر بالسؤال) !![3] فالحكومة المستعمرة ، قد طلبت فتوى من الشيخ أبو شامة عبد المحمود ، قاضي قضاة السودان وكبير القضاة الشرعيين ، يجوز فيها للجنود السودانيين ، في قوة دفاع السودان ، والذين يحاربون بإمرة الانجليز مع الحلفاء ضد النازيين ، ان يفطروا في رمضان ، فافتى بذلك باعتبارهم مجاهدين في سبيل الله !!

    ولم يكن هذا رأي المفتي وحده ، ولا رأي القضاة الشرعيين في ذلك الوقت فحسب ، وانما يشاركهم فيه المعاصرون منهم !! ففي عام 1975 رفع الشيخ ابراهيم جاد الله قاضي مديرية البحر الأحمر الشرعي قضية ضد الجمهوريين يتهمهم فيها بقذف القضاة الشرعيين لوصفهم لهم بالجهل بالدين والسياسة. ولقد كان اتجاه الجمهوريين هو اثبات ما قالوا مما يسقط تهمة القذف ، ولقد اتخذوا من الشاكي نفسه ومن شهوده نموذجاُ لاثبات دعواهم .. ولقد انعقدت جلسات هذه المحاكمة التاريخية في مدينة بورتسودان ، وحولت بعد الجلسة الأولى الى قاعة المجلس لكثاقة الحضور واستمرت لعشرة جلسات بدات في 2/6/1975 وانتهت في 12/6/197 حيث خسر الشيخ ابراهيم جاد الله ومن خلفه من القضاة الشرعيين وائمة المساجد واضطر الى سحب البلاغ.

    ولقد جرى اثناء القضية الحوار التالي بين الاستاذ محمود والشاكي الشيخ ابراهيم جاد الله حول هذه الفتوى:


    الاستاذ: طيب يا شيخ ابراهيم .. في نفس الباب دا في تطويع الدين للأمراء نحن لمن قلنا أنو فتوي المفتي ، كانت لمصلحة الاستعمار وهي تطويع للدين لخدمة الاستعمار، حين أفتى قوة دفاع السودان بانها تستطيع ان تفطر في رمضان قياساً على المجاهدين في سبيل الله ... في وقت انت قلت فيه أنو فتوى المفتي ما أصدرها لحكومة السودان وانما أصدرها للجنود .. هل انت على الرأي دا ؟ هل المفتي ما أفتى حكومة السودان بأن الجنود يمكن ان يفطروا ؟

    الشاكي: البفطر منو؟

    الاستاذ: حكومة السودان هي المهتمة بفطور الجنود .

    الشاكي: أنا داير أعرف البفطر منو؟

    الاستاذ: المهتم بفطور الجنود هو حكومة السودان.

    الشاكي: هل العايز يفطر دا حكومة السودان وللا الجنود؟

    الاستاذ: يا شيخ ابراهيم أظن انت بتجاوب الاسئلة .

    القاضي: هل انت بتعتبر الفتوى ...

    الشاكي: للجنود طبعاً . لأنهم هم الذين يصومون ويفطرون .

    الاستاذ: السؤال للمفتي جاء من الحكومة .. هل الحكومة في عملها الدنيوي دا منتفعة بفطورالجنود ؟ وللأ هي عملتو لغير غرض رحمة بالجنود؟

    الشاكي: الجنود منتفعين بالعمل دا .. وهم في ضبط وربط جندوا أنفسهم وطلبوا فتوى ووسيلتهم للاتصال هي الحكومة لمصلحتهم يشوفوا عملهم دا يفطروا معاه .

    القاضي: هل الحكومة ما عندها مصلحة؟

    الشاكي: الحكومة ما عندها مصلحة .

    الاستاذ: نعم ؟ الإجابة شنو؟

    القاضي: الحكومة ما عندها مصلحة.

    الاستاذ: يا شيخ ابراهيم أقوى المحارب الصايم وللا الفاطر؟

    الشاكي: القوة البدنية مثلاً ؟

    الاستاذ: نعم .

    الشاكي: أقوى الفاطر .

    الاستاذ: على هذا القياس هل من مصلحة الحكومة ان يكونوا الجنود صايمين وللا فاطرين ؟

    الشاكي: مصلحتها ياتا ؟

    الاستاذ: من حيث ان المقاتل الفاطر أقوى من المقاتل الصايم . من وجهة النظر دي . هل من مصلحة الحكومة أنو الجنود يكونوا صايمين وللأ فاطرين ؟

    الشاكي: الحكومة اذا هي بتنتفع من القتال أفضل يكونوا فاطرين .

    الاستاذ: ...... الحديث في البخاري وعنوانه من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله. قال: جاء رجل الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يقاتل في المغنم ، والرجل يقاتل للذكر والرجل يقاتل ليرى مكانه فمن في سبيل الله ؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله العليا فهو في سبيل الله . فهل بتقيم على رايك داك ، انو يمكن ان يقاتل الناس البقاتلو ليبقى الاستعمار في البلد اذا انتصر على الغازي هم في سبيل الله؟

    الشاكي: لم أقل ذلك وانما قلت ان المقاتلين لاخراج الاستعمار من بلدهم هم في سبيل الله.

    الاستاذ: اذا انتصرت قوات الحلفاء كانت النتيجة بتكون شنو؟

    الشاكي: اذا انتصر النازيون النتيجة شنو؟

    الاستاذ: أيه رأيك في القتال في سبيل الله أذن ..هل القياس صحيح ؟ هل قياس المفتي لقوة دفاع السودان بالمقاتلين في سبيل الله حتى يفتيهم بالافطار في رمضان قياس صحيح ؟

    الشاكي: أنا لا أريد ان اصحح فتوى المفتي ، انما قلت ان الجهاد في سبيل الله بتنضوي تحته اشياء كثيرة يعني من يقاتل في سبيل وطنو ليحفظ سلامتو وليحفظ عرضوا وسلامة دينو قد يكون في سبيل الله .

    الاستاذ: يا شيخ ابراهيم نحن ما بنتكلم في فراغ .. نحن عندنا مسائل معينة فتوى المفتي الماك عايز تناقشا دي هي الاثارتنا لنعارض القضاء الشرعي ، وانت مشتكينا اليوم بتلومنا على شنو ، اذا كان دي فتوى المفتي بالصورة دي ، يدلس في الدين ودا ما وريناك ياهو ، ونحن هاجمناه وانت مشتكينا على اننا هاجمناه .[4]

    فالمواجهة بين الجمهوريين وبين الفقهاء ورجال الدين سببها في البداية موالاة الفقهاء للمستعمر ، وتملقهم له على حساب الدين والوطن .. وليس سببها محكمة الردّة أو ان الاستاذ محمود كان يظن انه يواجه الاستعمار كما قرر د. عبد الله علي ابراهيم .

    (29)

    في منتصف الاربعينات ، نشأ الحزب الجمهوري مناهضاً للاستعمار ، وكان من ضمن نشاطه المكثف ، الخطب في المساجد ، ومن ذلك مثلاً (وهذه هي حالتنا نحن المسلمين اليوم فقد ذهبت هيبتنا في كل مكان وهنّا على اعدائنا اشد الهوان ان ظننا ان الاسلام هو مجرد الصلاة والصيام فأكتفينا بمجرد الركوع والسجود واطالة السبحة أو التطويل في السجدة وبمجرد الجوع والعطش وخيل لنا هوسنا انه يمكننا ان نجمع في قلوبنا بين حب الدنيا على أية حال وبين ما جاء به محمد عليه أفضل الصلاة والسلام وانه يمكننا ان نجمع في قلوبنا بين الجبن وبين ما جاء به محمد عليه أفضل الصلاة والسلام وذلك هو الضلال البعيد ).[5] وفي مسجد رفاعة ، جاء في الخطبة التي حركت ثورة رفاعة (ليس هذا وقت العبادة في الخلاوي والزوايا ، أيها الناس ، وانما هو وقت الجهاد .. فمن قصّر عن الجهاد وهو قادر عليه ألبسه الله ثوب الذل وغضب عليه ولعنه. أيها الناس من رأى منكم المظلوم ولم ينصفه فلن ينصفه الله من عدو . ومن رأى منكم الذليل فلم ينصره فلن ينصره الله من عدو. ألا ان منظر الظلم شنيع ، الا ان منظر الظلم فظيع فمن رأى مظلوماً لا ينتصف من ظالمه ومن رأى ذليلاً لا ينتصر على مذله فلم تتحرك فيه نخوة الاسلام وشهامة الاسلام الى النصرة والمدافعة فليس له من الايمان ولا قلامة ظفر). [6]

    في هذا الجو، من المعارضة السياسية للاستعمار ، حيث وظفت رسالة المسجد ، أعظم توظيف في دفع حركة المقاومة الشعبية ، وجهت الادارة البريطانية القضاة الشرعيين لايقاف الحديث في السياسة في المساجد !! فصدر المنشور التالي (اتصل بعلمنا ان بعض الخطباء والواعظين في المساجد خلطوا في خطبهم بين الدين والسياسة ، وهذا لا يصح في المساجد التي انشئت لعبادة الله تعالى . نصت المادة 11 من المنشور الشرعي نمرة 32 على ان للقاضي الشرعي حق الاشراف العام على المساجد وإقامة الشعائر الدينية فيه ..الخ ، لذلك نلفت نظر حضرات القضاة الشرعيين الى تنفيذ ما جاء بهذه الفقرة بجميع المساجد ، سواء كانت عامة أو خاصة كل في دائرة اختصاصه . والله الموفق لما فيه خير المسلمين وسعادتهم.

    إمضاء

    أحمد الطاهر

    نائب قاضي قضاة السودان

    16/6/1946).[7]

    وهكذا بدلاً من ان يشارك القضاة الشرعييون ، في الحركة الوطنية ، دفاعاً عن وطنهم ودينهم ، اذا بهم يتمرغون في وحل الخيانة ، و يطعنون المقاومة الشعبية في خاصرتها ، بمنعها من تعبئة الجماهير من داخل المساجد !! يحدث هذا ، في ظروف قاسية ، يؤدي الحديث فيها في المنابر العامة ، أو توزيع المنشورات ، الى السجن مباشرة!! فنقرأ مثلاً (مثل الاستاذ محمود محمد طه المهندس امس أمام قاضي الجنايات المستر مكدوال متهماً من بوليس الخرطوم تحت قانون التحقيق الجنائي لتوزيعه منشورات سياسية من شأنها الاخلال بالامن العام . وقد أمره القاضي أن يوقع على صك بكفالة شخصية بمبلغ خمسين جنيهاً لمدة عام لا يشتغل خلاله بالسياسة ولا يوزع منشورات او يودع السجن لمدة سنة اذا رفض ذلك . ولكن الاستاذ محمود رفض التوقيع مفضلاً السجن . وقد اقتيد لتوه الى سجن كوبر العمومي )!![8]

    فما هو الثمن الذي باع به هؤلاء الاشياخ دينهم ووطنهم؟! نقرأ في غازيته الحكومة السودانية (قد تعطف حضرة صاحب المعالي الحاكم العام فأنعم بالكساوي الدينية وكساوي وحزامات الشرف على العلماء والمشايخ والأعيان الآتي ذكرهم بعد وذلك اعترافاً بخدماتهم الجليلة للحكومة )[9].. ولقد وردت اسماء كثيرة في قائمة الخزي هذه يهمنا منها: الشيخ محمد الجزولي - الشيخ عوض الله صالح- الشيخ عبد الماجد أبو قصيصة - الشيخ توفيق أحمد الصدّيق وسنعود لتفصيل الحديث عن هذه الشخصيات عندما نتناول محكمة الردّة لاحقاً.. ولكن المهم هنا ان نؤكد ان القضاة الشرعيين قد فرحوا بهذه الجبب والكساوي (الدينية) التي منحها لهم الحاكم العام الانجليزي ، ورضوا ان يبيعوا بها وطنهم ، وتلك سنة قديمة عرف بها رجال الدين في غير السودان .. ألم يقل احمد شوقي عن أتاتورك واصحابه في تركيا:

    المنقذوك بمالهم ودمائهم * حين الشيوخ بجبة باعوك

    ومع ان الاسلام لا يقبل ظاهرة رجال الدين ، ولا ان يتميز شخص بزي خاص به أي قدر من القداسة ، وان النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يتميز بزي خاص حتى ان الأعرابي اذا قدم مجلسه سأل: أيكم محمد؟ إلا أن القضاة الشرعيين أصروا بالزام أنفسهم بجبب الانجليز !! ومن ذلك نقرأ:

    ( نشرة عامة نمرة 18/5/1945

    الخرطوم في 13/8/1945

    جرت عادة البلاد على ان يرتدي رجال الدين الزي الذي يلبسه قضاة المحاكم الشرعية وهو الجبة وللمحاكم القفطان والحزام والعمة ، وهو الزي الذي يكسب صاحبه الإحترام المطلوب لهم وللعمال القضائيين بالمحاكم الشرعية ولذلك يتعين أن يرتدي الجميع هذا الزي . ولا يقبل بحال ارتداء الجلابية أو البالطو الأفرنجي . ولكن يجوز للظروف الحالية لبس العمة البلدية أو البالطو المقفول الذي يلبسه بعض الشيوح في هذه البلاد ومصر . واننا لنأمل الا نحتاج بعد هذا التنبيه الى إتخاذ أي إجراء آخر لحمل جميع العمال القضائيين على إلتزام زي الشيوخ الذي أشرنا اليه ، فنرجوكم ملاحظة تنفيذ ما تقدم إبتداء من أول اكتوبر1945 وافادتنا بكل مخالفة له مستقبلاً.

    قاضي قضاة السودان

    امضاء: حسن مأمون )[10]

    ولقد شعر الاستاذ محمود ، بان القضاة الشرعيين ، ورجال الدين عموماً ، انما ينفرون الشباب الذكي ، عن الدين بجهلهم بحقائق الدين ، واظهارهم له بالعجز والهوان ، لأنهم يتزلفون الاستعمار، ويقفون حجر عثرة في طريق الحركة الوطنية الصادقة ، والبعث الديني الحقيقي .. ولذلك يقول (واني لشديد الثقة بأن هذا الشعب لن يتحرر مهما بلغت محاولاته الا عن طريق الاسلام ، وابادر فأطمئن الشباب المثقف اني لا أعني الاسلام الذي أحترفه المجلببون بجبب شرف الانجليز، انما أعني الاسلام الذي يقوم على روح القرآن ويستنبطه الذين يعلمونه . ولقد وظفت نفسي للدعوة اليه ، ولن يهدأ لي بال حتى أرى الانسانية قاطبة وقد قام ما بينها وبين ربها على الصلاة ، وبينها ، فيما بينها على الصلة ).[11]

    -نواصل-

    د. عمر القراي


    -------------------------------

    [1] - حديثه بجريدة الراي العام
    [2] - حديثه لقناة ابوظبي في برنامج بين زمنين فبراير 2003
    [3] - راجع نشرات وتعليمات المحاكم الشرعية يوليو 1941
    [4] - الاخوان الجمهوريون : وقائع قضية بورتسودان –الكتاب الثالث – 1975 ص 27 -33.
    [5] - خطبة الاستاذ محمود بجامع أمدرمان نوفمبر 1945
    [6] - خطبة الاستاذ بجامع رفاعة سبتمبر 1946
    [7] - راجع نشرات وتعليمات المحاكم الشرعية 1946
    [8] - الراي العام 3/6/1946
    [9] - راجع غازيته حكومة السودان العدد 798 يناير 1949 والعدد 838 يناير 1952
    [10] - راجع نشرات وتعليمات المحاكم الشرعية 1945
    [11] - الاستاذ محمود : جريدة الجمهورية يونيو 1954


    www.alfikra.org
                  

03-02-2008, 02:37 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    حول مقالات د. عبد الله علي ابراهيم في الدفاع عن الفقهاء وقوانينهم
    الدين .. ورجال الدين عبر السنين (الحلقة السابعة)

    د. عمر القراى - 27 يوليو 2003

    (30)

    وبعد الاستقلال ، استمر تملق الفقهاء ورجال الدين للحكام العسكريين ، والثناء عليهم بغير حق ، مما يعتبر تضليلاً للشعب ودعماً للباطل .. وعن هذا الموضوع ، جرت الاسئلة التاليه ، في قضية بورتسودان التي اشرنا الى ملابساتها في الحلقة الماضية ، من الاستاذ محمود للشيخ ابراهيم جاد الله ، قاضي مديرية البحر الاحمر:

    الاستاذ : بسبيل برضو من هجومنا على المحاكم الشرعية انت اوردت اننا بنهاجم الأزهر ، وفي الحقيقة لنفس السبب ، ولأن الأزهر اكبر مؤسسة او جامعة اسلامية في العالم الاسلامي ، وكان زعماها مطية للاستعمار- هل تعلم يا شيخ ابراهيم عن فتوى رجال الأزهر بتكفير الاخوان المسلمين ، واباحة دمهم ، عندما كان جمال عبد الناصر يعارضوه الاخوان؟

    الشاكي : والله لا أذكر .

    الاستاذ : هل تقرأ مجلة الأزهر ؟

    الشاكي : كنت اقراها من وقت لآخر عندي منها اعداد .

    الاستاذ : هل تذكر اسم رئيس تحرير الاعداد التي إطلعت عليها؟

    الشاكي : حسن الزيات على ما اعتقد .

    الاستاذ : هل قرأت في مجلة الأزهر على عهد احمد حسن الزيات مقارنة بين اشتراكية محمد واشتراكية جمال عبد الناصر؟

    الشاكي : لا أعرف .

    الاستاذ : اذا قيل ليك انت لا تعرف اشياء كثيرة عن الأزهر لماذا تعترض على الذين يعرفونه ويهاجمونه؟

    الشاكي: أنا اعرف ان الازهر هو اشعاع الثقافة الاسلامية ، ثقافتنا الاسلامية نفسها اتتنا من الازهر . واعرف ان الازهر خرج رجالاً ناضلوا وحاربوا الاستعمار في شتى انواعه وقادوا الثورات ضده وبزوا مثقفين اوربا وآسيا امثال الافغاني ومحمد عبده ,الشرقاوي وعليش .. واشتركوا في الثورة العرابية ، ولذا لا اقبل الهجوم على الأزهر.

    الاستاذ: هل جمال الدين الافغاني أزهري؟

    الشاكي: ثقافتو متعددة لكن انتهى به المقام في الأزهر ثقافتو نفس ثقافة الأزهر.

    الاستاذ : نجي للشئون الدينية ، هل تذكر متى وكيف واين نشأت الشئون الدينية؟

    الشاكي : نشأت في عهد الحكومة الوطنية سنة 1953 أو 54 نشأت لترعى المعاهد الاسلامية وتوسعت فيما بعد الى ان اصبحت ليها وزارة خاصة في هذا العهد اسندت اليها اختصاصات أخرى.

    الاستاذ : قبل ان تصبح بصورتها الحاضرة هل تذكر نواتها بدأت كيف؟

    الشاكي : نواتها المعاهد الدينية .

    الاستاذ : هل تذكر ان قاضي القضاة كان يرعى نشاط كبير من النشاط الذي تقوم هي عليه اليوم؟

    الشاكي : نعم جزء كبير منو.

    الاستاذ : الوعظ والارشاد بالذات ؟

    الشاكي: جزء كبير منو.

    الاستاذ : هل تذكر احد رجالات الوعظ والارشاد الذين كان صوتهم عالي؟

    الشاكي : اذكر الشيخ الغبشاوي وحسن طنون.

    الاستاذ : في ايام الحكم الحكم العسكري هل تعرف شئ عن طنون الذي هو كبير وعاظها؟

    الشاكي : كان يؤيد الحكم الموجود آنذاك.

    الاستاذ : هل تذكر مواقف معينه لحسن طنون ايام الحكم العسكري ؟

    الشاكي : لا أذكر – فقط اذكر انه يؤيد الحكم في ذلك الوقت .

    الاستاذ : هل تذكر انه كان يقول طلعت فريد يذكره بعمر بن الخطاب وان الابراهيم ابراهيمان ابراهيم عبود وابراهيم الخليل؟

    الشاكي : سمعت انو قال طلعت يذكره بعمر بن الخطاب .

    الاستاذ : هل كان قاضي القضاة بيعلم كلام حسن طنون او يجب ان يعلم ؟

    الشاكي : اذا كان هو الرئيس المباشر المفروص انو يعلم.

    الاستاذ: هل قاضي القضاة ما بيعتبر مسئول عن الوعظ والارشاد اللي يباشروا طنون؟

    الشاكي : بين قاضي القضاة والشئون الدينية كان مجرد تعاون.

    الاستاذ : عندما يباشر حسن طنون وعظوا بالصورة دي ما بتفتكر انه بزيد في تضليل الشعب باسم الدين؟

    الشاكي : اذا كان يشبه شخص بعمر بن الخطاب دا تصرف ما متمشي مع الحق.

    الاستاذ : حسن طنون كان النواة اللي اتبلور حولها والوعظ والارشاد عندما ظهرت الشئون الدينية اللي اخذت من القضاء الشرعي جانب الوعظ والارشاد هل دا صحيح ؟ انو كان من اوائل وعاظ الشئون الدينية؟

    الشاكي : كان من الاسماء اللامعة.

    الاستاذ : اذا كانت هذه الصورة صحيحة لماذا تعترض على من يهاجم الشئون الدينية؟

    الشاكي : انا اعترض على ذكر الاسماء ، وحسن طنون ليس كل الشئون الدينية وهناك في الشئون الدينية من يخالفه الرأي.

    الاستاذ : نحن برضو ما بنحب ذكر الاسماء لكن الشخصية لما تصبح شخصية عمومية ، ما بتصبح ملك نفسها. الا تعتبر الشئون الدينية مسئولة عنه وهو واعظ تابع لها؟[1]


    (31)

    لم تكن مواجهة الجمهوريين ، للقضاة الشرعيين والفقهاء ورجال الدين ، سببها مواقفهم المخزية اثناء وجود الاستعمار والحكومات العسكرية فحسب ، بل لان دورهم في عهد الديمقراطية قد كان اسوأ .. اذ استغلوا في تصعيد الفتنة ، لخدمة القوى السلفية ، التي كانت تصادر الديمقراطية باسم الدين ..

    ففي عام 1965 تآمرت الاحزاب الطائفية ، على الحزب الشيوعي السوداني ، فعدلت الدستور بتغيير المادة 5 (2) والتي كانت تعطي حق التعبير ، وحق التنظيم لجميع الاشخاص .. ثم حلت الحزب الشيوعي وطردت النواب الشيوعيين المنتخبين من الجمعية التأسيسية !! ولقد حدث ذلك بسبب ان طالباً ، تحدث في ندوة بمعهد المعلمين العالي ، وتعرض بالسب للنبي الكريم .. ولقد نفى الحزب الشيوعي ان تكون لهذا الطالب اي علاقة بالحزب .. ثم ظهر ان الطالب يعاني من مرض نفسي !! وكل ذلك لم يؤثر في القضية ، حتى بعد ان رفع الحزب شكوى للقضاء ، وحكم القضاء بعدم دستورية حل الحزب الشيوعي !! وذلك لان السيد رئيس الوزراء ، آنذاك ، الصادق المهدي ، لم يستجب لحكم المحكمة العليا ، واصر على ابعاد الشيوعيين ، فاستقال السيد بابكر عوض الله رئيس القضاء مما احدث الازمة الدستورية ..

    في هذا الجو من التوتر ، كانت القوي السلفية التي يوجهها رجال الدين ، تعمل في اتجاهين: اتجاه قانوني ، يحاول تبرير حل الحزب الشيوعي ، باعتباره اجراء ديمقراطي ، طالما ان الاغلبية قد وافقت عليه !! وكان يقود هذا الاتجاه د. الترابي ، وقد اخرج فيه كتاباً اسماه اضواء على المشكلة الدستورية .. واما الاتجاه الثاني فهو يتجه الى تعبئة جماهيرية ضد الشيوعيين ، بالتحريض عليهم ، والاعتداء على دورهم ، وهي حملة يقودها الوعاظ والائمة ، وجاراهم فيها ايضاً القضاة الشرعيين ..

    ولقد واجه الجمهوريون كل هذه التيارات ، فقدم الاستاذ مجموعة محاضرات تحت عنوان "اسبوع مناهضة حل الحزب الشيوعي" !! ووزع الجمهوريون منشورات تخاطب الشعب ، وتواجه الطائفية دراء للفتنة وتتصدى للفقهاء والقضاة الشرعيين .. ومن ذلك مثلاً:

    إن من الشيوعية على البلد لخطراً ، وإن من الطائفية على البلد لخطراً . وخطر الشيوعية على البلد ليس خطراً ماثلاً الآن ، والخطر الماثل هو خطر الطائفية .. إن الطائفية بتزييفها للدين، واستغلاله في مصالحها ، وضد مصالح الشعب ، هي صديق للشيوعية في ثياب عدو ، هي اكبر عون على نشر المذهبية الشيوعية من حيث لا تدري .. والشيوعيون السودانيون ، في هذه المرحلة من مراحل تطور البلاد ، يمثلون خطراً كبيراً على مصالح الطائفية ، ولذلك لا تستطيع الطائفية ان تحتمل وجودهم ، وهي لذلك تحب ان تستغل هذا الحادث المشؤوم ، لتقرنه بالحزب الشيوعي ، ولتجد المبررات لحله .. وهي تستخذم الحماس الديني ، عند الجماهير ، لتخفي حقيقة غرضها وراء الدين كعادتها دائماً .. اللباس الديني دائماً ستار ، يخفي المطامع السياسية والمطامع الدنيوية .

    ان خوف رجال الطائفية ، من الشيوعيين ، قد جعلهم يتصرفون تصرفاً غير مسئول . فانك حين تقرأ بيان وزير الداخلية ، تشعر بالتحريض والاثارة للجماهير بصورة محزنة . وقد كان واجب الوزير ان يخبر الشعب ، بان سلطات الامن لن تتساهل مع أي انسان يحاول ان يأخذ القانون في يده . وان الحادث فردي ، وان المجرم معتقل ، ويجب ان يترك الناس الفرصة للقضاء ليأخذ مجراه ، وان المتهم لم تثبت له علاقة بالحزب الشيوعي فقد أعلن الحزب الشيوعي عدم انتسابه له وتبرأ من فعله وادانه ادانة تامة – هذا ما كان يجب ان يقوله رجل مسئول ، مثل وزير الداخلية .. ثم ان الصحف طلعتنا بتصريح للسيد اسماعيل الأزهري ، لا يمكن ان يصدر عن رجل في مثل منصبه ، ومسئوليته ، فان صح هذا التصريح ، فإن بلادنا في خطر ، أعظم مما يظن أكثر الناس تشاؤماً .. فقد نشرت الرأي العام ، انه قال بعد حديث يخاطب فيه المتظاهرين "انتظروا ساعات قليلة فان لم تضع الحكومة والجمعية التأسيسية حداً لهذا الفساد فسأنزل معكم اقود المظاهرات في تطهير هذا البلد" .. فان صح هذا القول ، فان نكبة هذا البلد جد عظيمة .. أما جماعة الاخوان المسلمين ، فانها تستغل هذا الحادث المؤسف ، استغلالاً سياسياً بشعا ،ً يأباه الدين وتأباه الخصومة النظيفة .. وهي بعملها هذا ، لعبة في يد الطائفية تمثل لها مخلب القط ..

    ان المؤامرة التي تدار اليوم ، وتحاك ضد الحزب الشيوعي باسم الدين الاسلامي ، وباسم الدفاع عن حرمة رسوله الكريم ، تلك الحرمة التي جلت عن كيد الكائدين ، ونيل النائلين على مدى العصور، انما هي مؤامرة ضد االشعب السوداني- ضد حريته وضد تقدمه وضد ديمقراطيته .. فان سكت عنها الاحرار والمثقفون اليوم ، بان جاز عليهم هذا التباكي على الدين ، فإن حلقاتها ستطبق عما قريب على كل حر، وكل مفكر يطمح الى منازل الكرامة والشرف.

    أيها الشعب السوداني ، انك تعيش في هذه الايام احلك ساعاتك ، وتمر بتجربة لا تستطيع ان تجتازها بسلام ، الا اذا حكمت عقلك ، ونبذت تلك التبعية العمياء لكل ناعق وكل مشئوم من الدعاة .. إن الله متوليك وحارسك .. إن الله لا يهدي كيد الخائنين .[2]

    وحتى تطفأ الفتنة ، كتب بعض المواطنين في الصحف ، ان على الشاب ان يعلن توبته ، ويعتذر للمسلمين عن ما قال .. ولكن رجال الدين لم يرضوا عن ذلك واصدرت الهيئة القضائية الشرعية العليا بياناً يقول بان الشاب قد سب النبى صلى الله عليه وسلم وان من يسب النبى لا تقبل توبته !!

    وعن هذا الموضوع ، جرى الحوار التالي ، بين الأخ بدر الدين السيمت ، وبين الشاكي الشيخ ابراهيم جاد الله:

    بدر الدين: هل عندكم في الشريعة ان باب التوبة يقفل؟

    الشاكي : أبداً .

    بدر الدين: هذا بيان عن الهيئة الشرعية العليا صدر في نوفمبر 1965 يقول "ان المرتد يستتاب ثلاثة أيام والا قتل ما لم تكن ردته إساءة للنبي صلى الله عليه وسلم فان التوبة لا تقبل فيها" ومعنى هذا هو قفل باب التوبة وهو اوسع الابواب لأنه باب الرحمة التي وسعت كل شئ . ما رايك في ان الهيئة الشرعية قد قفلت باب التوبة؟

    الشاكي : في بعض الاشياء التوبة لا تقبل انا لا يحضرني نص يثبت ذلك .

    بدر الدين: هل توافق على الاستثناء الذي اوردته الهيئة الشرعية؟

    الشاكي : انا اوافق على استثناء الهيئة الشرعية لانها لا بد هي تكون مستندة الى نص لكن انا لا يحضرني النص .

    بدر الدين: أيه رايك في الآية " قل ياعبادي الذين اسرفوا على انفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ان الله يغفرالذنوب جميعاً" ؟

    الشاكي : القرآن فيه خاص وعام وفيه ان الله لا يغفر ان يشرك به وهذه الآية تفسيرها عام

    بدر الدين: بعض الذنوب عندك لا تغفر؟

    الشاكي : نعم

    بدر الدين: والقرآن يقول " ان الله يغفر الذنوب جميعاً "؟

    الشاكي : القرآن فيه محكم وخاص وعام.

    (القاضي يسجل الآية ويسأل الشاكي عن تفسيرها)

    الشاكي : الآية تفسيرها عام لأن هناك استثناء مثل الآية "ان الله لا يغفر ان يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" .

    (ممثل الاتهام يطالب بتسجيل هذه الآية)

    بدر الدين: البيان صدر في سنة 65 ورد عليه الاستاذ في نفس السنة:

    إن الهيئة القضائية الشرعية العليا كما يطيب لها ان تسمي نفسها ومن جاراها في اصدار هذا البيان الردئ لا يعرفون عن السياسة شيئاً ولا يعرفون عن الدين ما يكفي ونحن لا نناقشهم في السياسة وانما نناقشهم فيما يدعون معرفته .. يقول هذا البيان الردئ إن المرتد يستتاب ثلاثة أيام فان تاب والا قتل ما لم تكن ردته إساءة للنبي صلى الله عليه وسلم فان التوبة لا تقبل فيها .. ومعنى هذا هو قفل باب التوبة وهو اوسع الابواب لانه باب الرحمة التي وسعت كل شئ . يقول الله تعالى "ان الله لا يغفر ان يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" وهذا باب واسع واوسع منه قوله تعالى "والذين لا يدعون مع الله الهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله الا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق آثاماً يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً الا من تاب وآمن وعمل صالحاً فاؤلئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً" واوسع ابواب التوبة على الاطلاق لانه يستمد من الاطلاق قول تعالى "قل ياعبادي الذين اسرفوا على انفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ان الله يغفر الذنوب جميعاً انه هو الغفور الرحيم" .. إن رجلاً يقفل باب التوبة باسم الدين لا يحق له ان يتحدث عن الدين . ان جهل رجال الدين بالدين لهو الذي جعل شبان هذا الجيل شيوعيين فان اردتم ان تعرفوا من المسئول عن نشر الالحاد والانحراف عن الدين في هذا البلد فانما هم رجال الدين والطائفية. ايها القضاة الشرعيون انكم ببيانكم الردئ الممعن في الرداءة والجهل تحرضون على الفتنة وقتل الابرياء ولقد عهدناكم دائماً تسيرون خلف السلطة مما افقد الشبان احترامكم وساقهم ذلك خطأ وجهلاً الى عدم احترام الدين.[3]

    هل تعتبر هذا البيان رد فعل لمحكمة الردّة ؟

    الشاكي : لم احصر هجوم محمود على القضاة الشرعيين في سبب واحد هو صدور الحكم عليه بالارتداد عن الدين.

    بدر الدين: سؤالي محدد هل هذا رد فعل لمحكمة الردّة ؟

    الشاكي : إعتبره رد فعل لمسألة أخرى غير محكمة الردّة .[4]


    (32)

    وفي اتجاه الدعم القانوني ، لحل الحزب الشيوعي كتب د. حسن الترابي (وليس في متن الدستور ولا في مبادئ التفسير بالطبع ما يعول عليه للتفريق بين نص ونص على اساس ان هذا قابل للتعديل ، والآخر غير قابل ، ولا ما يسند الزعم بان لفصل الحقوق الاساسية خاصية تميزه في هذا الصدد عن سائر الفصول ، فكلها تستوي في قوة مفعولها ، وايما قانوني تعلل بمجرد الاهمية النسبية لهذا الفصل أو ذاك في تقديره الشخصي ، فانما هو متكلف لا شاهد له من الدستور ، ومغالط لا حجة له من القانون ، ومتعبط يتجنى على القانون . ولو صحت المفاضلة القانونية بين فصول الدستور لكان فصل الحريات من اضعفها لانه يخضع للتشريع) !![5]

    ولقد كتب الاستاذ محمود كتاباً في الرد على كتاب د. الترابي جاء في مقدمته (بين ايدينا الآن كتاب اخرجه الدكتور حسن الترابي باسم "اضواء على المشكلة الدستورية" وهو كتاب من حيث هو ، لا قيمة له ولا خطر ، لأنه متهافت ، ولأنه سطحي ، ولانه ينضح بالغرض ، ويتسم بقلة الذكاء الفطري . ولكن خطره انما يجئ من مؤلفه ، فأنه دكتور في القانون الدستوري ، وهو قد كان عميداً من عمداء كلية الحقوق السابقين ، وهو زعيم جبهة الميثاق الاسلامي ، وهو عضو في الجمعية التأسيسية ، وهو من مؤلفي الأزمة الدستورية ، وهو مع ذلك من مستشاري مجلس السيادة الذين على هدى نصيحتهم يرجى لهذه الازمة الدستورية العجيبة ان تحل .)[6] ..

    وفي الرد على النقطة التي اثارها كتاب د. الترابي واقتطفناها اعلاه رجع الاستاذ الى تعريف الديمقراطية عند الاغريق واستشهد بخطبة بركليس المشهورة بخطبة الجنازة ثم قال:

    هذا ما قاله بركليس قبل الفين واربعمائة سنة ، ومنه يتضح ان الديمقراطية اسلوب حكم ، ومنهاج حياة ، بها تتنسق جميع العلاقات بين الناس ، وهي تقوم ، فوق كل اعتبار ، على احترام كرامة الانسان ، وحيثما يجد هذا الاعتبار اعترافاً فتطبيقاته تكون مستويات السلوك في المجتمع ، وهي تكون اتفاقاً متبادلاً اكثر منها قسراً ، وصدقاً وليس زيفاً .. ويجب ان يكون واضحاً ان الديمقراطية ليست اجهزة الحكم الديمقراطي ، فنحن لا نكون ديمقراطيين لمجرد ان عندنا جمعية تأسيسية لتضع لنا الدستور ، ولا نكون ديمقراطيين لمجرد ان عندنا هيئة تشريعية ، وهيئة تنفيذية ، وهيئة قضائية ، تحتفظ كل هيئة باستقلالها وتعمل ، مع ذلك ، في تناسق مع بعضها .. ولكننا نكون ديمقراطيين اذا كانت عندنا جميع هذه الهيئات ، وهي تعمل لتكفل لنا اسلوباً من الحكم يحقق كرامة الانسان .... وتعد المساواة بين كافة الناس مظهراً من أهم مظاهر المذهب الديمقراطي .. فالناس من حيث هم ناس ، مهما فرقت بينهم فوارق الجنس ، او اللون ، أو اللغة ، أو الدين ، او القومية ، او الطبقة . فان هناك شيئاً اساسياً مشتركاً بينهم ، هو العقل .. والقدرة على التفكير .. والناس بهذه النظرة ليسوا اعضاء في طائفة اجتماعية او طبقة اقتصادية ، او قومية معينة ، لان "الذي يتساوون فيه بصفة اساسية يأتي مما يشتركون فيه لا مما يفرق بينهم" . وفي اعلان الاستقلال الامريكي ينعكس الايمان بان جميع الناس متساوون من ناحية إمتلاكهم حقوقاً اساسية معينة ، لا نزاع فيها: مثل "حق الحياة" و "الحرية" و "السعي وراء السعادة" .. وفي راي واضعي هذا الاعلان ان المساواة التي يحصل عليها الانسان عند الميلاد ليست منحة وانما هي حق .. وانما قام نظام الحكم الديمقراطي ليجعل كل هذه الحقوق الاساسية مكفولة . والدستور الذي هو لازمة من لوازم الحكم الديمقراطي هو القانون الاساسي ، وانما سمي قانوناً اساسياً لانه ينصص على هذه الحقوق الاساسية ، وانما سميت الهيئة التي تضع الدستور جمعية تأسيسية لانها تضع القانون الاساسي ، وواضح ان الحقوق الاساسية انما سميت حقوقاً اساسية لانها تولد مع الانسان .. الحياة والحرية: هي حقوق لانها لا تمنح ولا تسلب في شرعة العدل .. وهي اساسية لانها كالغذاء وكالهواء والماء ..

    ويمكن اذن ان يقال ان الدستور هو "حق حرية الرأي" وان كل مواد الدستور الاخرى ، بل وكل مواد القانون ، موجودة في هذه العبارة الموجزة كما توجد الشجرة في البذرة .. فان النخلة بكل عروقها ، وفروعها ، وساقها ، موجودة في "الحصاية" تراها عين العقل . فاذا وجدت "الحصاية" الظرف المناسب ، من التربة ، والماء ، خرجت منها النخلة ، بكل مقوماتها واصبحت ماثلة تراها عين الرأس ايضاً ، بعد ان كانت معدومة في حقها .. وكذلك الدستور هو موجود بالجرثومة في الحق الاساسي "حق حرية الرأي" وما الجمعية التأسيسية الا الظرف المناسب الذي يجعل شجرة الدستور ، بفروعها ، وعروقها ، وساقها تنطلق من تلك البذرة الصغيرة ، كما انطلقت النخلة من "الحصاية".

    هذا فهم للديمقراطية وللدستور وللحقوق الاساسية يفهمه كل مثقف استطاع ان ينفذ من قشور الثقافة الغربية الى اللباب ، ولكن الدكتور الترابي وقف مع القشور حين ظن ان "ليس في متن الدستور ولا في مبادئ التفسير بالطبع ما يعول عليه في التفريق بين نص ونص على اساس ان هذا قابل للتعديل والآخر غير قابل"

    ولو كان الدكتور الترابي قد نفذ الى لباب الثقافة الغربية لعلم ان المادة 5 (2) من دستور السودان المؤقت غير قابلة للتعديل ، وهذه المادة تقول "لجميع الاشخاص الحق في حرية التعبير عن آرائهم والحق في تأليف الجمعيات والاتحادات في حدود القانون" وهي غير قابلة للتعديل لانها جرثومة الدستور، التي انما يكون عليها التفريع .. وهي الدستور ، فاذا عدلت تعديلاً يمكن من قيام تشريعات تصادر حرية التعبير عن الرأي فان الدستور قد تقوض تقوضاً تاماً .. ولا يستقيم بعد ذلك الحديث عن الحكم الديمقراطي الا على اساس الديمقراطية المزيفة .. وهي ما يبدو ان الدكتور الترابي قد تورط في تضليلها.

    المادة 5 (2) هي دستور السودان المؤقت وهي دستور السودان المستديم ، وهي دستور كل حكم ديمقراطي ، حيث وجد هذا الحكم الديمقراطي ، وعمل الجمعية التأسيسية في وضع الدستور انما هو تفريع عليها ، ليجعل تحقيقها أكمل وأتم .

    وهناك قولة قالها الدكتور الترابي هي احدى الكبر في شرعة العقل المفكر ، والثقافة الصحيحة ، وتلك هي قوله "ولو صحت المفاضلة القانونية بين فصول الدستور لكان فصل الحريات من اضعفها لانه يخضع للتشريع" فعبارة "لانه يخضع للتشريع" تدل دلالة قوية على ان الدكتور يجهل اموراً ما ينبغي ان تجهل في امر الحرية ، وفي امر التشريع .. واول هذه الأمور ان الحرية لا تضار بالتشريع ، وانما تزدهر بالتشريع ، اللهم الا اذا كان هذا التشريع يقوم على نزوات الحكم المطلق ، الذي يسمي نفسه ديمقراطية ، زوراً وبهتاناً .. وهذا ما يبدو ان الدكتور يعنيه .. وهذه احدى مشاكل تفكير الدكتور .. وعبارة "في حدود القانون" التي وردت في عجز المادة 5 (2) هي روح المادة .. لان القانون هو الذي يعطي الحرية معناها ، ويميزها عن الفوضى .. فالتشريع صديق الحرية وليس عدوها ، وكل تشريع غير ذلك لا يسمى تشريعاً ، الا من قبيل تضليل الناس .. فالتشريع في النظام الديمقراطي طرف من الدستور وهذا هو المعني بدستورية القوانين .. فكل تشريع يعارض الحرية ليس تشريعاً دستورياً.[7]


    (33)

    لقد كانت هذه بعض نماذج ، من مواجهة الاستاذ محمود ، والجمهوريين ، للفقهاء ورجال الدين ، سواء ان كانوا يدعون التقدمية ، والديمقراطية ، أمثال د. الترابي أو كانوا يتمسكون بالفقه مثل القضاة الشرعيين .. ولم تكن تلك المواجهة ، بسبب محكمة الردّة ، لانها كانت سابقة لها .. وانما هي بسبب الدفاع عن الشعب السوداني ، وحريته وكرامته . ولقد اتخذت قضية حل الحزب الشيوعي السوداني ، انموذجاً لفساد الاحزاب الطائفية ، وجبهة الميثاق الاسلامي ، والفقهاء والقضاة الشرعيين ، الذين ساقوا البلاد الى فتنة ، حين ضاقوا بالديمقراطية ، التي كانوا يدعونها..

    ولقد وقف كثير من المثقفين ، مع حملة الجمهوريين ، في مناهضة حل الحزب الشيوعي .. ورأوا في فساد هذه الاحزاب الطائفية ، والجماعات الاسلامية ، ما يبرر العبارات الشديدة ، التي كانت ترد في نقد الجمهوريين لهذه الجماعات ، خاصة اؤلئك الذين تضرروا مباشرة ، مثل كثير من الشيوعين والديمقراطيين..

    اما د. عبد الله علي ابراهيم ، فانه حتى بعد محكمة الردّة ، وبعد شكوى القضاة الشرعيين ، للجمهوريين ، في قضية بورتسودان ، لم يكن يوافق على هجوم الجمهوريين ، على القضاة الشرعيين بعبارات شديدة !! ولذلك قال (وقد كتبت مرة في جريدة الميدان السرية في منتصف السبعينات التمس من الجمهوريين ان يلطفوا عباراتهم في نقد القضاة)!![8]

    -نواصل-

    د. عمر القراي

    -----------------------------
    [1] - الاخوان الجمهوريون : وقائع قضية بورتسودان – الكتاب الثالث 1975
    [2] - بيان الاخوان الحمهوريين بتاريخ 16/11/1965
    [3] - محمود محمد طه : بيان عام 15/11/ 1965 صدر بالرونيو ثم نشر في السودان الجديد والميدان .
    [4] - الاخوان الجمهوريون : قضية بورتسودان الكتاب الاول –الطبعة الثانية اغسطس 1975
    [5] - د. الترابي : اضواء على المشكلة الدستورية ص 16
    [6] - محمود محمد طه : زعيم جبهة الميثاق الاسلامي في ميزان : 1- الثقافة الغربية 2- الاسلام ص 2
    [7] - المصدر السابق ص 11 - 14
    [8] - مقالات د. عبد الله علي ابراهيم في سودانايل .


    www.alfikra.org
                  

03-02-2008, 02:39 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    حول مقالات د. عبد الله علي ابراهيم في الدفاع عن الفقهاء وقوانينهم
    الدين .. ورجال الدين عبر السنين (الحلقة الثامنة)

    د. عمر القراى - 9 أغسطس 2003

    (34)

    ورغم ان د. عبدالله على ابراهيم ، قد أثنى على الفقهاء ، عموماً ، الا انه لم يذكر بالاسم ، غير الشيخ محمد الجزولي ، فقال ( يكفي انهن قد صرن بفضله قاضيات شريعة بفقه ذكي لمولانا شيخ الجزولي وقد صليت لروحه الطاهر التقدمي عند زيارتي لأضرحة الختمية بحلة حمد ... وقد سمعت الجزولي يقول النساء أدرى بوجع النساء واقرب الى ظلاماتهن ...) !![1]

    ونحن ، أيضاً ، نرجو ان يغفر الله للشيخ الجزولي ، ويرحمه ، ولكننا نرى انه كان كغيره من الفقهاء ، ممن تلقوا جبب الشرف ، من الاستعمار ، فاختالوا فيها ، وما علموا انها جبب عدم الشرف ، لانها دليل التعاون مع المستعمر الغاصب ، في وقت كان فيه الشرفاء ، يناهضونه ، من داخل السجون .. ولقد اثبتنا اسمه في وثائق العار، من غازيتة حكومة السودان ، في مقال سابق ، من هذه السلسلة فليراجع .. كما ان الشيخ الجزولي ، لم يكن "تقدميا" كما ذكر د. عبد الله ، بغير حق ، وانما كان اكثر تخلفاً من بقية رصفائه من القضاة الشرعيين . ورغم انه كان ممن تولوا أرفع المناصب في القضاء الشرعي ، الا انه لم يحسن من قوانين الاحوال الشخصية، التي يرى ان بها اجحافاً في حق المرأة ، بل يدعو المرأة والرجل الى الاخلاق الرفيعة ، حتى لا يحتاجا لهذه القوانين !!

    (الشيخ الجزولي هو رئيس جهاز الاحوال الشخصية ، اذ يحتل المرتبة التي كان يحتلها قاضي القضاة ، فهو نائب رئيس المحكمة العليا . وقد تبوأ هذا المنصب ممثلاً لدوائر الاحوال الشخصية ، وبصفته هذه ، وجد طريقه ليقدم بحثاً لسمنار المرأة والتنمية بالدويم .. وقد كان بحثه ، بعنوانه ، وبصفة مقدمه ، يتعلق بقوانين الاحوال الشخصية ، ولكنه تهرب من توضيح هذه القوانين ، رغم ان البحث فدم في مجال يعالج دور المرأة في التنمية ، ومن ثم نشأ التساؤل عن قانون الاحوال الشخصية ، وهل هو معوق للمرأة عن دورها؟ بعجزه عن تحقيق الكرامة و الاستقرار لها في بيتها، وبتنكره لطاقتها ... والذي يهمنا من البحث تساؤل الشيخ "هل يمكن اجراء تعديلات في قانون الاحوال الشخصية ؟" وسؤاله "ما هي الاسباب الدافعة للمطالبة بالتعديلات ؟" ويجيب "ان الاسباب في اعتقادنا هي ما يلمس في حياة البعض الزوجية من الشقاق ويلاحظ من الاضطراب وعدم الاستقرار ، ونتساءل مرة أخرى هل الشقاق والاضطراب منشؤه خلل في طبيعة عقد الزواج الشرعي وما يرتبه من حقوق وواجبات على كلا الزوجين ، ام منشؤه الخلل في التزامنا بحقوق وواجبات هذا العقد ؟ ان الجواب هو ان الخلل في التزامنا بحقوق وواجبات هذا العقد هو السبب الحقيقي لذلكم الشقاق والاضطراب في حياة البعض الزوجية " . وهكذا بدلاً من ان يحدثنا الشيخ عن حقوق المرأة في عقد الزواج ، وهل هي متكافئة مع حقوق الرجل ، ومع قامتها الحاضرة بما يكفل كرامتها واستقرارها ، أم انها دون ذلك فتحتاج لتعديل ، بدلاً من هذه الاجابة المباشرة ، يترك الشيخ امر القوانين التي يجب ان يتحدث عنها ، وينطلق ليعظنا عن الاخلاق .. والحديث عن الاخلاق قد احترفه قرناء له آخرون يرتزقون منه .. وكنا ننتظر منه هو ، كرئيس لدوائر الاحوال الشخصية ، ان يحدثنا عن القوانين والحقوق والواجبات في قانون الاحوال الشخصية .. ولا عذر له في ذلك الا ان يكون هذا القانون على حالة من التخلف يجب سترها واخفاءها كما سنوضح .. فالشيخ الواعظ يختم وعظه بقوله "ولذلك فانه لا ينصلح الأمر باقتراح التعديلات في قوانين الاحوال الشخصية ولكن بالعودة الى التخلق بالاخلاق السامية والتحلي بالصفات النبيلة التي وجه اليها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم" هذا ما يقوله هذا الشيخ . ولكن البديهيات التي يعلمنا اياها الكتاب وتعلمنا اياها السنة ان امر الحقوق المتجددة لا يترك لاخلاق الناس . والاسلام ليس وصايا اخلاقية معلقة في الهواء ، وانما هو تشريع يعطي الحقوق وينفذها .. وهذا التشريع هو الحد الادنى من الاخلاق .. والاخلاق تدعمه وتؤكده وتتسامى به. واذا كان الشيخ الجزولي هو المنوط به تحضير التشريعات الخاصة بالاحوال الشخصية ، وهو يجهل الفرق بين القوانين والاخلاق ، ولا يعلم ان احقاق الحقوق يترك لاخلاق الناس ، وانما ينصص ويلزم الناس باحترامه وتطبيقه ، فاذا كان نائب رئيس المحكمة العليا يجهل كل هذه البديهيات ، فيبدو ان جهاز الاحوال الشخصية محكوم عليه بالتحجر ، والعجز عن معالجة مشاكل العصر في أي مستوى . ولماذا لم يترك جهاز الاحوال الشخصية المرأة لخلقها ، فان هي رأت ان تتحمل زوجها وتصبر عليه عاشت معه والا فلا؟ لماذا كانوا يسوقونها الى بيت الطاعة بالبوليس ، والآن يسوقونها بالتجويع والحرمان اذ ان من لم تنفذ حكم الطاعة يسقط حقها في النفقة وتظل معلقة حتى ترجع ذليلة تحت وطأة الحاجة؟

    وماهي طبيعة عقد الزواج الشرعي كما هو في قوانين الاحوال الشخصية ؟ وما هي حقوق المرأة فيه؟ هذا ما لم يجب عليه رئيس دوائر الاحوال الشخصية ، وهو اساس بحثه .. ولكنه تهرب ليغرق القضية بالوعظ ويموهها بالتعميمات التي تخدع عن اصل الداء .

    فمن طبيعة هذا العقد ، ان المرأة ، مهما كان مستواها من الرشد ، لا ينعقد تصرفها في أخص شئونها "زواجها" الا اذا تولى أمرها ولي رجل .. ومن طبيعة هذا العقد ان المرأة حين تدخل حياتها الزوجية لا يمكنها كطرف في العقد ان تفض هذه العلاقة مهما تكشفت لها حقائقها المرة .. ولكن الرجل يمكنه ان ينهي هذه العلاقة بكلمة ولا يسأل عن سبب ، كما يمكنه ان يعلق الزوجة بحبل الطلاق فلا تجد منه فكاكاً .. ومن طبيعة هذا العقد ، ان احد طرفي العقد ، الرجل، يمكنه ان يضيف الى هذه العلاقة الزوجية اطرافاً من الضرات بالتعدد ، وقانون الاحوال الشخصية لا يسأله عن ذلك ولا يقيده .. هذه هي طبيعة العقد في قانون الاحوال الشخصية ، فقد اخفاه الشيخ الجزولي وراوغ فيه مما لبس القضية على البعض . )[2]


    (35)

    في يوم الاثنين 27 شعبان 1388 ، الموافق 18 نوفمبر 1968 انعقدت ما سميت بالمحكمة الشرعية العليا ، لتنظر في دعوى الردة المرفوعة ضد محمود محمد طه ، رئيس الحزب الجمهوري ، من الشيخين الامين داؤود محمد وحسين محمد زكي .. وقد طلب المدعيان من المحكمة الآتي :

    1- إعلان ردة محمود محمد طه عن الاسلام ، بما يثبت عليه من الأدلة .

    2- حل حزبه لخطورته على المجتمع الاسلامي .

    3- مصادرة كتبه وإغلاق دار حزبه .

    4- إصدار بيان للجمهور يوضح رأي العلماء في معتقدات المدعى عليه .

    5- تطليق زوجته المسلمة منه .

    6- لا يسمح له أو لأي من اتباعه بالتحدث باسم الدين أو تفسير آيات القرآن .

    7- مؤاخذة من يعتنق مذهبه بعد هذا الاعلان وفصله ان كان موظفاً ، ومحاربته ان كان غير موظف وتطليق زوجته المسلمة منه .

    8- الصفح عمن تاب واناب وعاد الى حظيرة الاسلام من متبعيه أو من يعتنقون مذهبه .

    وقد استمعت المحكمة لخطابي المدعيين ، ولاقوال شهودهما لمدة ثلاث ساعات ، ثم رفعت جلستها لمدة ثلث ساعة.. وعند انعقادها للمرة الثانية قرأ القاضي الحيثيات التالية :

    "حكمنا غيابياً للمدعيين حسبة الاستاذين الامين داؤود محمد هذا وحسين محمد زكي هذا على المدعى عليه الاستاذ محمود محمد طه رئيس الحزب الجمهوري الغائب عن هذا المجلس بانه مرتد عن الاسلام وامرناه بالتوبة من جميع الافعال والاقوال التي ادت الى ردته كما قررنا صرف النظر عن البنود من نمرة 2 الى نمرة 6 من العريضة وهي الامور التي تتعلق وتترتب على الحكم بالردّة وفهم الحاضرون ذلك" .

    القاضي

    توفيق احمد الصدّيق[3]

    ولقد قرر الاستاذ محمود من البداية ، تصعيد المواجهة ، لانه ادرك ان الموضوع مواجهة سياسية ، تلتحف قداسة الاسلام .. فلم يحترم المحكمة بالمثول امامها ، ورفض ان يوقع على الاعلان ، ولم تستطع المحكمة ان تحضره امامها ، لانها كانت في الاساس تعمل خارج اختصاصها .. وكان من ضمن استغلال المحكمة لتوعية الشعب مواجهة محكمة الردّة ، ونقد حكمها، وفهم قضاتها ، بكتابة كتاب ومنشورات عنها ، واقامة سلسلة من المحاضرات العامة طاف بها مختلف انحاء السودان، كانت تعطى فيها الفرصة في الحوار لرجال الدين ومؤيديهم حتى يرى الشعب مبلغ جهلهم بالدين ..

    ومن ما ورد في تلك المنشورات رداً على حكم المحكمة (أما أمركم لي بالتوبة عن جميع اقوالي ، فانكم أذل وأخس ، من ان تطمعوا فيّ . وأما إعلانكم ردتي عن الاسلام فما أعلنتم به غير جهلكم الشنيع بالاسلام ، وسيرى الشعب ذلك مفصلاً في حينه .. هل تريدون الحق ايها القضاة الشرعيون؟ إذن فاسمعوا !! انكم آخر من يتحدث عن الاسلام ، فقد افنيتم شبابكم في التمسح باعتاب السلطة من الحكام الانجليز ، والحكام العسكريين ، فاريحوا الاسلام واريحوا الناس من هذه الغثاثة) ومما ورد أيضاً ( متى عرف القضاة الشرعيون رجولة الرجال وعزة الاحرار وصمود اصحاب الافكار؟ ان القضاة الشرعيين لا يعرفون حقيقة انفسهم ، وقد يكون من مصلحتهم ، ومصلحة هذا البلد الذي نعزه ، ومن مصلحة الدعوة التي نفديها ان نتطوع نحن ونوظف اقلامنا ومنبرنا لكشف هذه الحقيقة لشعبنا العزيز) !![4]

    ولقد فهم بعض المثقفين السودانيين ، ان محكمة الردّة ، ليست مؤامرة ضد الاستاذ محمود والجمهوريين فحسب ، وانما هي ضد الحرية ، وضد الديمقراطية، فادانوها بشدة ، وكتبوا في الصحف انها باطلة ، لانها تعمل خارج اختصاصها.. وهاجموا القضاة الذين ولغوا في زيفها ، ومن هؤلاء د. محمد ابراهيم خليل ود. منصور خالد .

    ومن المثقفين السودانيين، من اعتبر ان محكمة الردّة مجرد خصومة سياسية ، بين الاستاذ محمود والقضاة الشرعيين.. ربما ترجع اسبابها لخلاف قديم ، منذ ايام الاستعمار، وان الاستاذ محمود قد غضب على القضاة الشرعيين ، وقامت بينه وبينهم خصومة، لانهم حكموا عليه بالردة !! وبسبب هذا الفهم السطحي ، المغرض ، لم يهتم هؤلاء اصلاً لمحكمة الرذّة ، ولم يدينوها بل ادانوا الجمهوريين حين ناهضوها ونقدوا القضاة !! ومن هؤلاء د. عبد الله علي ابراهيم فقد قال (ومغاضبة الجمهوريين لم تقع من جهة احسان ذلك التقليد الشرعي أو اساءته بل من ارث مواجهة سياسية راجعة الى ايام الحركة الوطنية. فقد صنف من ظنوا في انفسهم مجاهدة الاستعمار من أمثال المرحوم محمود القضاة الشرعيين والاعيان وزعماء القبائل والطوائف بانهم من اعوان الاستعمار... وقد دق حكم المحكمة الشرعية بردة المرحوم محمود محمد طه عليه الرحمة في 1968 إسفين الخصومة بين القضاة والمرحوم واختلط حابل تطوير الشريعة بعاديات السياسة واطوارها وبمنطويات النفوس)!![5]

    ألم يكن من الممكن لو كان د. عبد الله مجرد باحث ، أو مؤرخ امين ، ان يذكر حين ذكر محكمة الردّة ، ان حكمها قد كان جائراً ، وانه كمثقف يعترض على مبدأ التكفير .. وما دام مقاله عن القوانين ، لماذا لم يقل انها كانت مخالفة للقوانين ، بعملها خارج اختصاصها؟ فهل يستحق ثناء د. عبد الله على القضاة الشرعيين ، وممالاة حكومة الجبهة ، التي تصر على القوانين الاسلامية ، ومغازلة الجماعات الاسلامية المتطرفة ، ان يسكت عن ادانه التكفير؟! حسناً !! لماذا وقع د. عبد الله اسمة ، في المذكرة التي رفعها بعض المثقفين للحكومة ، ادانة للبيانات التي صدرت مؤخراً ، في تكفير بعض الافراد ، واعضاء الجبهة الديمقراطية ؟!

    ويجدر بالملاحظة ، ان هذه العبارات من منشورات الجمهوريين ، التي صدرت كرد على محكمة الردّة ، قد كانت ضمن لوحات معروضة بنادي الخريجين ، وهي بالذات قد كانت مادة الاتهام ، في القضية التي رفعها الشيخ ابراهيم جاد الله قاضي مديرية البحر الاحمر ، ضد الاستاذ محمود وخمسة من الاخوان الجمهوريين كانوا مشرفين على المعرض المشار اليه عام 1975 .. ولقد ذكر ممثل الاتهام في تلك القضية ، انه قد كلف من الشيخ محمد الجزولي نائب رئيس المحكمة العليا ، للقيام بمهمة مساندة القضاة الشرعيين في تلك القضية !!


    (36)

    ولقد ذكرنا من قبل ، ان محكمة الردّة ، لم تكن محكمة بالمعنى الصحيح .. وانما كانت مؤامرة من القوى السلفية لاسكات صوت الجمهوريين ، بسبب عجزهم عن مواجهة الفكرة في ميدان الحوار الموضوعي .. وان مما دفع اليها، بالاضافة الى ما تقدمه الفكرة من بديل عن الطرح السلفي ، مواقف الجمهورين في نقد رجال الدين وزعاماتهم الطائفية ، وكشف مؤامراتهم لتقويض الديمقراطية .. وعن كون محكمة الردّة قد كانت مؤامرة ، وانها لم تتقيد باجراءات المحاكم ، في تحري العدالة ، يرد الحوار التالي بين الأخ بدر الدين السيمت ، وبين الشاكي الشيخ ابراهيم جاد الله في قضية بورتسودان :

    بدر الدين : كلمة قاضي شرعي وقضاء شرعي مقرونة بالشريعة سيادتك بتحكم بالشريعة؟

    الشاكي : انا بحكم ببعض الشريعة في الاحوال الشخصية .

    بدر الدين : هل تطبق الحدود والقصاص ؟

    الشاكي : لا اطبق ذلك لانه ما من اختصاصي والسلطة لا تعطيني ذلك .

    بدر الدين : هل في الشريعة يمكن الايمان ببعض الكتاب وترك البعض؟

    الشاكي : لا . لا يمكن ذلك.

    بدر الدين: هل توافقني ان الحكم ببعض الكتاب وترك البعض هدم للشريعة؟

    الشاكي : مامن الشريعة.

    (ممثل الاتهام يحتج على الاسئلة والقاضي يرفض الاعتراض)

    الشاكي : نحن كنا مغلوبين على أمرنا وقت الاستعمار .

    القاضي : هل الحكم ببعض الاسلام وترك البعض الآخر هدم للشريعة؟

    الشاكي : أنا عندي مبرر لأنه الحكومة أدتني دي وشئ افضل من لا شئ .

    بدر الدين: هل يوافقني السيد ابراهيم ان الشريعة ما قايمة اليوم يعني الحكم غير قائم على الشريعة ؟

    الشاكي : نعم .

    بدرالدين : هل توافق على ان اسم المحاكم الشرعية مع عدم وجود الشريعة فيه تضليل للشعب؟

    الشاكي : لا أوافق .. التسمية اساساً ما صحيحة المفروض يكون القانون واحد .

    بدر الدين : هل الاسم صحيح؟

    الشاكي : الاسم صحيح .

    بدر الدين : المحاكم الشرعية اسمها صحيح؟

    الشاكي : اسمها صحيح في الجانب الذي نحكم به ويحتمل يكون ما صحيح من جانب آخر.

    بدر الدين: يعني من يحكم بجزء من الشريعة يمكن يسمى بيحكم بالشريعة ويكون صحيح؟

    الشاكي : كل اختصاصاتنا بنحكم فيها بالشريعة.

    بدر الدين : هل تسمية القضاة الشرعيين (اللفظ) تحوي كل الشريعة؟ هل كلمة قاضي شرعي مش اكبر من الحاصل ؟

    الشاكي : أنا لن اتعمد الحكم بغير الشريعة وانما رضيت بحكم البعض لانه افضل من ترك الشريعة كلها.

    بدر الدين : هل تعلم ان عبد الماجد ابو قصيصة وتوفيق صدّيق اتصل بهما المدعي قبل محكمة الردّة ؟

    الشاكي : انا لا أعرف محكمة الردّة !! انما أعرف المحكمة الشرعية.

    بدر الدين : هل في نظام محاكمكم أن يتصل المدعي بالقاضي ويأخذ موافقته قبل نظر الدعوى؟

    الشاكي : لا أبداً .. أنا افتكر الكلام دا ما عنده علاقة بموضوع الشكوى .

    القاضي : هو يريد ان يوضح للمحكمة إجراءات المحاكم الشرعية.

    الشاكي : انا لا اريد الدفاع عن حكم المحكمة مع اني اجد المبرر لهم في ان دعوى الحسبة أول دعوى من نوعها في السودان وهم كانوا يلتمسون رأي الهيئة القضائية ليعرفوا كيف يعملوا .. وهو توجهوا له في الندوات والمحاضرات فرفض واستمر يتحدث باسم الاسلام.

    بدر الدين : يعني في حالة الدعوى الغريبة يمكن ان تتصل بالقاضي ويوعدك يقيف معاك؟

    الشاكي : ما ممكن القاضي يوعدك يقيف معاك.

    بدر الدين : لو حصل يكون العمل دا محترم؟

    الشاكي : لا أبداً .

    بدر الدين : أنا أقرأ ليك من كتاب الامين داؤود "نقض مفتريات محمود محمد طه " صفحة 85:

    "ولما رأينا استعداداً طيباً وروحاً عالية من حضرة صاحب الفضيلة الشيخ عبد الماجد أبوقصيصة قاضي قضاة السودان لقبول دعوى الحسبة ، وانها كما قال فضيلته من صميم عمل المحاكم الشرعية . وكذلك ما لمسناه من المحكمة العليا والوقوف مع الحق من صاحب الفضيلة الشيخ توفيق أحمد الصديق عضو محكمة الاستئناف العليا الشرعية – تقدمنا بدعوى الحسبة" .. هل قاضي القضاة سلطة استئنافية ؟

    الشاكي : نعم .

    بدر الدين : اذا كان القاضي يقول رأيه في قضية يمكن ان تستأنف اليه ، هل يمكن ان يكون دا عمل محترم ؟

    الشاكي : نعم لان المحكمة قالت رأيها وهو الذي كونها.

    القاضي : اذا كان القاضي يقول رأيه في قضية يمكن ان ترفع اليه .. هل يمكن ان يكون دا عمل محترم؟

    الشاكي : بداهة لا

    بدر الدين: اذا حصل علقت هذه السلطة الاستئنافيه هل بتكون دي سلطة محترمه؟

    الشاكي : ما محترمة .

    بدر الدين : ( يقرأ من الرأي العام ) جريدة الرأي العام الخميس 21 /11/1968 العدد 8323:

    "البيان الذي نشره محمود محمد طه إساءة بالغة للقضاء الشرعي في ماضيه وحاضره ومستقبله وهو امر غير مقبول ...

    وقال فضيلته ان للمحاكم الشرعية صلاحية الحكم يالردّة ... ان محكمة الاستئناف الشرعية العليا ستجتمع اليوم لاتخاذ الاجراءات القانونية الكفيلة بوقف الاساءات الموجهة للقضاء الشرعي " .. هل تعلم ان ابوقصيصة اتخذ أي اجراءات قانونية؟

    الشاكي : أنا كنت قاضي جزئي بسمع زي وزي الناس

    بدر الدين : أنت ما بتعلم انه نفذ؟

    الشاكي : فيما أعلم بدأ في ذلك.

    بدر الدين : هل فتح بلاغ؟

    الشاكي : لا أعلم .

    بدر الدين : هل تعلم انه اي واحد من القضاة الشرعيين فتح بلاغ؟

    الشاكي : لا أعرف .

    بدر الدين : محكمة الردّة أخذت ثلاثة ساعات استمعت الى قضية الادعاء واستمعت الى اقوال اربعة من الشهود ثم رفعت الجلسة لثلث ساعة وعقدت مرة أخرى لتنطق بالحكم . هل تظن ان ثلث ساعة تكفي لقراءة الاقوال؟

    الشاكي : يحتمل المحكمة رأت ان التهمة لا تحتاج لأنها واضحة وان المتهم غائب.

    بدر الدين : يعني اذا كان المتهم غائب يمكن الحكم دون الرجوع للاقوال وفحصها؟

    الشاكي : لا بد من فحصها .

    بدر الدين : حسين محمد زكي أحد المدعيين في محكمة الردّة قال ان الاستاذ محمود محمد طه يتهم الله بالحقد وأورد النص التالي من كتاب الرسالة الثانية "والخطأ كل الخطأ ، ظن من ظن ان العقاب في النار لا ينتهي إطلاقاً ، فجعل بذلك الشر اصلاً من أصول الوجود وما هو بذاك ، وحين يصبح العذاب سرمدياً يصبح انتقام نفس حاقدة " ويقف عند هذا الحد من النقل ، ويترك عبارة " عن ذلك تعالى الله علواً كبيراً " وهي العبارة التي وردت مباشرة بعد كلمة " نفس حاقدة " من كتاب الرسالة الثانية . فإذا جاء امامكم واحد وقال فلان الفلاني كتب كذا وكذا مش من واجب المحكمة ان ترجع لمصدر الكلام دا ؟

    الشاكي : للعدالة يمكن ان ترجع .

    بدر الدين : من العدالة وللا من واجب المحكمة ؟

    الشاكي : من العدالة ويمكن للقاضي ان لا يرجع اذا وضحت البينة .

    بدر الدين : اذا اتضح ان الشاكي ضلل المحكمة باقواله ، ايه يكون رايك في المحكمة؟

    الشاكي : أنا لم اكن عضواً في تلك المحكمة ، واعتبر ان القاضي الذي وصل لتلك المرحلة لابد يكون عارف هذه النقطة.. المحكمة تحكم بما يثبت لها. وما من اختصاصها اذا ثبت غير ذلك بعد المحكمة .

    بدر الدين : هل القول بالرأي بتاخدوا بيه في المحاكم الشرعية؟

    الشاكي : نأخذه بتحفظ .

    بدر الدين : ما رأيك في محكمة لم تستجوب شهودها وثبت خطأ اقوالهم ؟

    الشاكي : رأيي ان يستأنف حكمها.

    بدر الدين : دا كتاب "حوار مع الصفوة " للدكتور منصور خالد .. هذا مقال أيام محكمة الردة: "من بين رجال الدين هؤلاء طائفة قضاة الشرع .. ماكنت اود ان اتناولها بالحديث لو اقتصرت على اداء واجبها كموظفي دولة يتقاضون رواتبهم من مال دولتهم التي تجبيه فيما تجبي من ريع الخمور .." الى ان يقول "نريد وقد خرجتم من اطار سلطانكم المشروع كقضاة انكحة وميراث .. نريد ان نسمع حكم الاسلام في الأمير الكاذب والوالي الظالم والوزير السفيه .. نريد حكمه في السفاه السياسي الذي نعيشه اليوم وهو سفاه شيوخ لا حلم بعده .. شيوخ يرتدي بعضهم قفطاناً مثلكم ويتمنطق بحزام مثلكم ويضع على رأسه عمامة كشأنكم " .. هل هذا الكلام مش اساءة للقضاء الشرعي؟

    الشاكي : ما إساءة .. لأن منصور خالد عنده طموح سياسي .. ويعتبر موضوع محمود سياسي وهو عاوز يكتب وعاوز يسخر ..

    بدر الدين : يا مولانا "سفاه الشيوخ الذي لا حلم بعده شيوخ يرتدي بعضهم قفطاناً مثلكم" هل هو اساءة أم غير اساءة ؟

    الشاكي : لفظ ما مهذب .

    بدر الدين : يعني أي كلام زي دا في القضاة الشرعيين ما اساءة ؟

    الشاكي : نعم ولكنه لفظ غير مهذب .ي أ


    (37)

    وعن كون محكمة الردّة كانت تعمل خارج اختصاصها ورد في قضية بورتسودان الحوار التالي بين الاستاذ محمود وبين الشاكي الشيخ ابراهيم جاد الله :

    الاستاذ : عاوزين نسألك عن رأيك في محكمة الردّة شنو؟ هل حكمت في اختصاصها وللا خارج اختصاصها؟

    الشاكي : حكمت في اختصاصها.

    الاستاذ : هي محكمة شرعية اختصاصها الشريعة يعني اذا هي نفذت حكمها دا هل هو حكم الشريعة ؟

    القاضي : بيقول المحكمة ادانتو لكن ما اصدرت عقوبة .

    الاستاذ : لكن دا ما حكم الشريعة .. هل دا حكم الشريعة؟ اذا المحكمة حكمت وما نفذت هل دا حكم وللا تقرير ساكت ؟

    الشاكي : كأنها الشريعة .. نظرت هل اتيتو أو قلتو أو فعلتو ...

    الاستاذ : طيب يا شيخ ابراهيم نحن نذكرك : قال المدعيين نفسهم طالبوا باعلان ردّة محمود محمد طه عن الاسلام بما يثبت عليه من الأدلة (2) حل حزبه لخطورته على المجتمع الاسلامي (3) مصادرة كتبه واغلاق دار حزبه – دي المطالبة للمحكمة – بعدين اصدار بيان للجمهور يوضح رأي العلماء في معتقدات المدعى عليه بعدين تطليق زوجته المسلمة منه ... لا يسمح له أو لاي من اتباعه التحدث باسم الدين او تفسير آيات القرآن بعدين مؤاخذة من يعتنق مذهبه بعد ذلك وفصله ان كان موظفاً ومطاردته وتطليق زوجته المسلمة منه .. دي كانت البنود الطلبها المدعيان من المحكمة ، لشنو المحكمة قالت "لذلك حكمنا غيابياً للمدعيين حسبة الاستاذين الامين داؤد محمد هذا وحسين محمد زكي هذا على المدعى عليه الاستاذ محمود محمد طه رئيس الحزب الجمهوري الغائب عن هذا المجلس بانه مرتد عن الاسلام وامرناه بالتوبة عن جميع الاقوال والافعال التي ادت الى ردته كما قررنا صرف النظر عن البنود من نمرة 2 الى نمرة 6" ليه قرروا صرف النظر عنهن ؟

    الشاكي : ما عندهم انو بقية البنود بترتبوا على البند الحكموا بيه

    الاستاذ : ليه قالوا صرفنا النظر عن بقية البنود ؟

    الشاكي : أي صرف النظر عنها لانها بتترتب تلقائياً على البند الأول .

    الاستاذ : جميل .. لكن ليه ما يقرروا انو المطالب دي تكون الحكم وانو تكون المطالبة بالتنفيذ ؟

    الشاكي : ما هي مترتبة .. لما انا احكم كدا معناها هو ما يتحدث باسم الاسلام ، ما يطبع كتب .. وما يعاشر المسلمة كزوجة ...الخ

    الاستاذ : الحصل شنو في التنفيذ ؟

    الشاكي : لا أدري ما حصل .

    الاستاذ : ما هو انا واقف قدامك .

    الشاكي : العقوبة ما نفذت.

    الاستاذ : لكن العقوبة ما طرف من القانون؟ اذا كان هم بيعملموا في اختصاصهم يبقى التنفيذ يتبع. انا سألتك قلت ليك: هل المحكمة بتعمل في اختصاصها؟ قلت : نعم . قلت ليك وجد انها ما بتعمل في اختصاصها...

    الشاكي : اذا كان حصل أنو دا ما اختصاصها ، لمن يكون الاختصاص ؟ من الذي يقرر أنو الانسان دا داخل الدين او خارجه؟

    الاستاذ : ماحدش يقرر .. الوصاية انتهت ما حدش يقرر .

    الشاكي : نعم ؟!

    الاستاذ : ماحدش يقرر لو انت داخل الدين أو لا .. وإلا كان كل واحد نازع التاني : انت مافي الدين . وعهد الاستعمار كلو حكمت بجانب من الكتاب وعطلت جانب ، وجيت في العهد الوطني وجدت نفسك إنك برضو بتعمل بنفس القانون وانك ماك شرعي ، وانو تكوينك ما بديك الحق ، بدليل انك حكمت وماقدرت تنفذ ، وما حاجة بتسمى قانون إلا اذا كان التنفيذ طرف منها ، يبقى دا دليل على انك بتعمل خارج اختصاصك .. توافق على كدا ؟

    الشاكي : انت الاختصاص تدي لي منو ؟

    "القاضي يشرح صلة التنفيذ بالحكم"

    الشاكي : والله انا موضوع التنفيذ دا أنا ما بعتبرو ذنب المحكمة .. اذا كان ما عندها اختصاص تنفذ دا ما ذنب المحكمة .

    الاستاذ : هل الحاكم المسلم الماعندو اختصاص في التنفيذ عندو اختصاص في الحكم ؟

    الشاكي : دا لا ينفي انها مختصة بمحاكمة الموضوع -الحكم- او نظر الدعوى .

    الاستاذ : طيب نحن نقول رأي الاستاذ محمد ابراهيم خليل في عدم اختصاص المحكمة وافتكر قرئ عليك طرف منو: "لعله من المعلوم لدى الناس جميعاً ان المحاكم الشرعية في السودان اسست على قانون المحاكم الشرعية السودانية 1902 وان إختصاص هذه المحاكم قد حددته المادة السادسة التي تنص على ان للمحاكم الشرعية الصلاحية في الفصل في :

    أ‌- أي مسألة تتعلق بالطلاق و الزواج والولاية والعلاقات العائلية بشرط ان يكون الزوج قد عقد على الشريعة الاسلامية ، او ان يكون الخصوم من المسلمين .

    ب‌- أي مسألة تتعلق بالوقف أو الهبة أو الميراث او الوصية ..الخ

    ت‌- أي مسألة سوى ما ذكر في الفقرتين السابقتين على شرط ان تتقدم الاطراف المتنازعة بطلب كتابي ممهور بتوقيعاتهم يلتمسون فيه من المحكمة ان تقضي بينهم مؤكدين انهم عازمون على الالتزام بحكم الشريعة في الامر المتنازع عليه .

    لذلك ترى ياسيدي انه ليس من اختصاص المحاكم الشرعية في السودان ان تحكم بكفر احد او زندقته او ردته " .. محمد ابراهيم خليل هو هسع محامي وكان وزير العدل وعميد كلية الحقوق بجامعة الخرطوم ونايب النايب العام سابقاً وهو قال بعدم الاختصاص .

    الشاكي : طيب دا راي محمد ابراهيم خليل .. هل انت طعنت بعدم الاختصاص؟

    الاستاذ : جميل انا جاي للموضوع ..هل انت بتوافق على أنو القانون اللي اتكونت بيهو المحاكم الشرعية عام 1902 وذكره هذا القانوني وبقول فيهو انو هذه المحكمة عملت خارج اختصاصها .. هل بتوافق على القول دا؟

    الشاكي : لا أوافق .. لانو ليهو ارتباط بالاختصاص يعني أنا لما أقول دا ما مسلم بترتب عليهو أحكام كثيرة جداً جداً هي من اختصاص المحاكم .. ولذلك هي هنا بتعمل في نفس الغرض .

    الاستاذ : تبين للمحكمة .. المحكمة ما كان عندها إختصاص في نظر القانونيين وجابو المادة ..

    الشاكي : انا واحد من القانونيين ، دا رأيك انت بتقول انو الاختصاص المنصوص عليهو في المادة ما بشمل الحكاية دي ، دا ٍايو كدا ..

    الاستاذ : الأمر دا يا شيخ ابراهيم ما أمر رأي دا تحديد .

    الشاكي : معنى كلامو دا أنو ليس للمحكمة ان تنظر في حكم من هو مسلم ومن ليس مسلم .

    الاستاذ : طيب ...

    الشاكي : فأنا بقول يعني ليس ضرورياً أن يشمل أن يكون في تفصيل فألامر دا ليهو تعلق بما هو من إختصاص المحكمة .

    الاستاذ : هل المحكمة ما قبلت ان تعمل تحت القانون بتاع 1902 ؟

    الشاكي : تأسست بذلك القانون.

    الاستاذ : هل بتتقيد بيهو؟

    الشاكي : بتتقيد بيهو طبعاً

    الاستاذ : هل فيهو انها من اختصاصها ان تحكم بالكفر على انسان ؟

    الشاكي : ما منصوص عليها صراحة.

    الاستاذ : هل دا أمر يترك للتفكير ؟ هل الأمور الأقل منو ما منصوصة؟

    . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

    الاستاذ : طيب الحكاية الأنت قلتها .. انت سألتني برضو سؤال أنا أحب ان أرد فيهو .. أنا ليه ما أستأنفت ، بل أنا ليه ما مثلت أمام المحكمة .. سؤالي حيكون : ما بتعتقد انو عجز المحكمة من ان تحضر الانسان المتهم أمامها في مسألة ردّة وبتجب فيها الاستتابة وتوجيه الكلام ليهو.. عجزها من ان تحضره أمامها يجعلها عاجزه من أن تحكم عليهو أيضاً ؟

    الشاكي : والله أنا ما بعتقد انها عجزت ان تحضرك أمامها .

    الاستاذ : كيف بقى ؟

    الشاكي : لم تعجز المحكمة .. انما لم ترد .. او لم تر ان هناك حاجة .

    الاستاذ : طيب يا شيخ ابراهيم اذا انت هسع ارسلت اعلان لمتهم ورفض ان يوقع حتى عليهو ، وانت حاكم محترم ، ما بتعتقد أنو دا فيهو إهانة للمحكمة؟

    الشاكي : أبداً .. اعتبر ترك حقو .. ترك الدفاع عن نفسو وبمضي في قضيتي وبحكم عليهو غيابياً وليهو الحق بعدين يجئ يستأنف الحكم دا ويطعن فيهو .

    الاستاذ : سؤالي يا شيخ ابراهيم ياهو دا : اذا حتى رفض .. جاهو المعلن رفض ان يوقع ؟

    الشاكي : ما القانون موجود يا سيدي العزيز .. قانون الاجراءات المدنية ، هسع نحن بنشتغل بيهو ، والمحاكم بتشتغل بيهو ، اذا حد رفض التوقيع أنا بمشي في القضية غيابياً -بعتبرو معلن- لكن اذا شتم المعلن أو شتم المحضر ، او قال حاجة تانية دا البعتبرو إهانة للمحكمة.

    القاضي : هو اجاب قبل كدا قال : اذا كانت الدعوى تتعلق بحق شخصي أما اذا كانت الدعوى متعلقة بحقوق الله يجبر الطرف التاني على الحضور .

    الاستاذ : هل حق الردّة ما بتعلق بالله ؟

    الشاكي : ردّة الانسان عن الاسلام ؟ آي طبعاً ليهو تعلق .. لكن في واقع الأمر أنو دا برجع ليهو كفرو .

    الاستاذ : هل غيرت الاجابة القبيل ؟

    الشاكي : نعم ؟

    الاستاذ : الاجابة القبيل اتغيرت واللا هي نفسها؟

    الشاكي : لا دا تفصيل الاجابة .

    الاستاذ : لكن دا نفي ليها.

    الشاكي : ما نفي انا بقول هناك تفصيل يعني .. في حق الله .

    القاضي : اجابتك ؟

    الشاكي : انا بقول هناك تفصيل في حق الله يعني ...

    القاضي : كل الدعاوي البتتعلق بحق الله لا يجبر؟

    الشاكي : لو كان القاضي يرى انو يمثل أمامو أو لا يمثل متروكة للقاضي باختصار يعني ..

    الاستاذ :الاجابة القديمة كانت : اذا كان الامر دا بتعلق بحق الله يبقى القاضي يحضر المتهم .. بعدين اتبنى عليها: هل الردّة فيها حق لله ؟ الاجابة دي هل اتغيرت؟

    القاضي : هو قال الردّة فيها حق الله .. وقال ان في الفصل التاني في سلطة تقديرية للمحكمة ، ليها الحق ان تجيب الزول او لا تجيبو .. .

    الشاكي : أو ما تجيبو لانو في حاجة اسمها اصدار حكم غيابي .. كل المحاكم .. كل الاحكام .

    الاستاذ : يا شيخ ابراهيم الحكمة في حكم الردّة شنو؟

    الشاكي : لا تحتاج لتعليل .

    الاستاذ : الحكمة فيهو شنو؟

    الشاكي : منع الناس ما يرتدوا عن الاسلام ، ويفكروا قبل ما يرتدوا .. الحكمة يمكن تكون واسعة جداً يعني ... الا يحدث فساد ، الا يشجع غيرو على الخروج من الاسلام .

    الاستاذ : في تحديد للمسألة دي يحسن ان نقولوا : هل حكم الردّة المقصود منو إصلاح الانسان المرتد واصلاح المجتمع ، وحفظ حق الله ؟

    الشاكي : آي نعم .

    الاستاذ : هل الحاكم العاجز عن التنفيذ بقدر يصل الى الحكمة دي ؟

    الشاكي : والله انا برى ان لم يصل الى كل الحكمة يكون وصل بعضها ، العاجز عنها ما بحققها كلها .. العاجز عن التنفيذ ما بحقق كل الحكمة ..

    . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

    الاستاذ : المسألة النحن جينا ليها يا شيخ ابراهيم – ظهر في الكلام اننا قي بداية أمرنا في مواقفنا مع القضاة الشرعيين كنا بنتكلم بالاسلوب الهادئ الانت شفتو ووافقت عليهو- بعدين لمن مشينا لقدام ....

    الشاكي : ما وافقت عليهو .. ماوريتني الاسلوب الوافقت عليهو .

    الاستاذ : أمس كانت قرئت عليك "مفتينا ومفتيهم" وقلت انت بتوافق على انها معتدلة .

    الشاكي : آي فعلاً .

    الاستاذ : طيب .. المخاطبة كانت بالصورة دي لغاية ما جينا في مرحلة ظهر لينا بوضوح كبير أنو في زي استعلاء .. عدم قبول لأي رأي يقال فيهم .. حتى الاستعلاء دا ظهر في مسألة هنا برضو وردت الاسئلة عليها ووافقت كمان .. قيل ليك أنو القاضي قال محمود محمد طه يوجه الاهانة لأكبر هيئة قضائية في السودان ، نحن قلنا منذ متى أصبح القضاء الشرعي أكبر هيئة قضائية في السودان؟ أحين كان خاضعاً للسكرتير القضائي منذ نشأته والى ان ازال الله بالافندية عهد الاستعمار ؟ أم حين ظل خاضعاً لاشراف رئيس القضاء السوداني منذ فجر الاستقلال ؟ وانت بتعرف في العهد الحاضر كانت في محاولة لتجعل القضاء الشرعي والقضاء المدني في مستوى واحد .. فإذا كان القضاء الشرعي في طول وقتو كان خاضع للقضاء المدني ثم وجد الفرصة ليكون ند ليهو هل من الدقة في التعبير ومن الامانة ان يقال اكبر هيئة قضائية في السودان عن القضاء الشرعي ؟

    الشاكي : القال كدي منو ؟ قاضي القضاة ؟

    الاستاذ : قال قاضي القضاة دا منشور - أنا سؤالي حيكون قائم "يعيد السؤال"

    الشاكي : يجوز بالنسبة لغير القضاء المدني ، في هيئات قضائية أخرى .. هو أكبر هيئة قضائية والمدني اكبر هيئة قضائية - التفضيل دا ما بالنسبة للقضاء المدني .

    الاستاذ : من وين تجيب الكلام دا .. من نص الكلام ؟ بجي من وين؟

    الشاكي : إحتمالات في التعبير..

    الاستاذ : الاحتمالات البتعطيها اللغة هي أنو اكبر هيئة قضائية في السودان .. وما في كلام يحتاج لتأويل فيها.

    الشاكي : ما بقصد ..

    الاستاذ : معليش المابقصدو لكن دا مش هو؟

    الشاكي : معناها تساوت معاهو والاثنين بقوا اكبر هيئة .

    الاستاذ : هسع الاجابة شنو؟ هل من الامانة والدقة ان يقال أنو القضاء الشرعي – الكان وضعوا بالصورة دي – اكبر هيئة قضائية في السودان؟

    الشاكي : الى اليوم هو اكبر هيئة قضائية في السودان دا ما يظهر منو انو المدني اقل منو .

    الاستاذ : هسع يا شيخ ابراهيم انت قلت الى اليوم .. هسع رئيس المحكمة العليا شرعي ؟

    الشاكي : لا ما شرعي .

    الاستاذ : نايبو مش قاضي شرعي ؟

    الشاكي : قاضي شرعي .

    الاستاذ : اذن كيف تقول الى الآن اكبر هيئة قضائية ؟

    الشاكي : القضاء واحد .

    الاستاذ : لكن في داخل القضاء الواحد ، القضاء الشرعي ثانوي بالنسبة للقمة

    الشاكي : كيف لكن ، دا بقولوا ثانوي ؟ دا قاضي محكمة عليا ودا قاضي محكمة عليا .

    الاستاذ : رئيس المحكمة العليا اللي هو في مكان رئيس القضاء تقريباً ، النايب بتاعو قاضي شرعي اللي هو في مكان قاضي القضاة زمان .

    الشاكي : مافي نص على انو يمنع دا يكون رئيس محكمة عليا . وكان مرشح ليكون رئيس محكمة عليا . هو ذاتو النايب الاول لرئيس المحكمة العليا كان مرشح ليكون رئيس محكمة عليا.

    الاستاذ : اجابتك السجلتها شنو؟

    الشاكي : ما في نص يمنع ، انو لازم يكون مدني.

    الاستاذ : ما الواقع نص .. الواقع أقوى من النص ..

    الشاكي : مالو لكن .. في الواقع ممكن يكون . كان مرشح ...

    الاستاذ : ما يمكن دا لما يبقى نتكلم فيهو - لكن واقعنا هسع هو دا .. دا من الاسباب الخلتنا نمشي في تشديد الكلمات. انت لما سئلت عن كلام منصور خالد - اذا شئت يقرأ عليك مرة ثانية- قلت كلام منصور خالد ما فيهو اهانة .. اذا كلام منصور خالد ما فيهو اهانة ، ونحن عايزين نصل الى ان يكون في احساس يخلي التكبر شوية يطامن ، عشان يكون في مصلحة الناس شوية ان يعوا ، لا بد ان تكون في كلمات اشد من كلمات منصور خالد، ليأتي الأثر- هي دي الصورة .. بعدين السؤال يبقى .

    الشاكي : انا قلت الكلام ما موجه للقضاء الشرعي .. ما فيهو إهانة للقضاء الشرعي .

    الاستاذ : لكن ما موجه للقضاء الشرعي ..نراجعو تاني ؟

    الشاكي : في الاستعراض هو بتكلم عن الشريعة .

    الاستاذ : هو بتكلم عن القضاة الشرعيين ، نعيد الاسئلة مرة ثانية اذا شئت .. هل فيهو إهانة وللا ما فيهو ؟ نقراهو تاني ؟

    . . . . . .. . . ... . . .. .

    الاستاذ : طيب ياشيخ ابراهيم قال "تعقد محكمة الاستئناف الشرعية اليوم إجتماعاً لاتخاذ موقف ضد تصريحات السيد محمود محمد طه الأخيرة وضد الصحف التي نشرت تلك التصريحات . وقد صرح السيد عبد الماجد ابوقصيصة قاضي القضاة للصحافة بان ما نشر لمحمود يعتبر اساءة لاكبر هيئة قضائية في السودان .. وان المحكمة بعد دراسة بيانه الاخير وفي اجتماعها اليوم ستتخذ موقفاً من المذكورين اعلاه دفاعاً عن مركزها وقال ان الحكم الذي اصدرته المحكمة ضد محمود من صميم اعمالها والوقائع الماضية والقانون يؤيدان ذلك الحق وان كل ما نشر في الصحف عن عدم احقية المحكمة لادارة ذلك الحكم خطأ اذ ان هذا الحكم تترتب عليه اشياء كثيرة .. مثل الميراث والاحكام الزوجية وهذه كلها من صميم أعمال المحاكم الشرعية" يبقى السؤال دا انت سئلت عنو قبل كدا . أنا ما رايح أسألوا - قيل ليك اذا كان قاضي القضاة هو جهة الاستئناف وعلق على الحكم بما يفيد انو مؤيدو لأنو استئنافنا نحن رايح يكون طعن – زي ما قال محمد ابراهيم خليل – طعن في عدم الاختصاص ، يبقى الفرصة في الاستئناف كيف؟

    الشاكي : والله محكمة الاستئناف هي الكونت المحكمة دي .. كونت المحكمة البتنظر الدعوى – وكونتها على اساس انو تنظر في اختصاصها.

    الاستاذ : الاستئناف رايح يكون لي منو؟

    الشاكي : لمحكمة الاستئناف العليا .. ثم تاني انو الكلام دا ما كلام جريدة .. نحن بنتلقى كل حاجة من قاضي القضاة وبنتعامل معاهو بنشرات ومكاتبات رسمية ما بنتلقاها من من جرايد ولا مجلات.

    الاستاذ : طيب ياشيخ ابراهيم نحن عملنا الكلام دا نفسو في منشور ووصلناهو لقاضي القضاة ما صحح الجريدة ولا قال لينا.

    الشاكي : والله ما عارف .

    القاضي : الاجابة على السؤال دا انو تكوين المحكمة هي محكمة بتعمل في اختصاصها ومافي داعي للاستئناف لمحكمة الاستئناف بحجة عدم الاختصاص مسبقاً المحكمة بتكوينها ...

    الشاكي : " مقاطعاً" يعني هي مختصة تنظر هذه المسائل لكن دا ما بمنع الزول ، بعدين الدعوى هي كحاجة مفردة أو كحاجة تفصيلة ما داخله في الاطار دا

    القاضي : كيف لكن ؟

    الشاكي : لا أنا ما بقول من ناحية عامة قاضي القضاة الناس ديل قالوا ليهو نحن حصل كدا كدا نعمل شنو؟ الدعوى باعتبار انها دعوى جديدة وغريبة – دعوى الحسبة- وما معروفة جوا سألوا نعمل شنو ؟

    القاضي : لا دا مش السؤال .. السؤال في الاختصاص ...

    الشاكي : " مقاطعاً " ما عايز اصل ليهو انا .. قلت ليك ما عندو تفنيد ، نحن قضايا الحسبة من اختصاصنا تتكون محكمة عشان تنظر في قضية الحسبة دي .

    القاضي : يعني ما كان في داعي للاستئناف ؟

    الشاكي : لا ما بيعني كدا .. انا قلت ليك قاضي القضاة قال الحسبة من اختصاصنا بعدين السيد محمود ..

    الاستاذ : السلطات القررت انو المحكمة مختصة مش هي سلطات الاستئناف نفسها . نحن اذا استأنفنا الاستئناف يكون لي منو؟ مش لي نفس السلطة القررت سلفاً انو المحكمة مختصة؟

    الشاكي : قررت تكوين المحكمة

    الاستاذ : هي قررت انو هذه المحكمة مختصة .

    الشاكي : قررت مبدئياُ انو الدعوى دي يمكن ممكن تكون من اختصاص المحكمة .. بعدين دا ما يمنعك ان تأتي بعد ذلك وتقول انو المحكمة ليست مختصة . هي مبدئياً قررت .

    الاستاذ : هل استأنف أنا لانسان أظهر انحيازو ضدي ؟

    القاضي : المحكمة قررت قرار .. هل المحكمة بتشك في قرارها .. تعيد النظر في قرارها؟

    الشاكي : ممكن تعيد النظر هي قررت بصفة عامة انو قضايا الحسبة من اختصاصها .. دا ما يمنع انها تقرر انو القضية دي ليس من اختصاصها.

    القاضي : هل من المعقول تاني تقول القضية دي ما من اختصاصي؟!

    الشاكي : لكن قضايا الحسبة دي من اختصاصهم لأنو ما في محاكم حسبية مكونة في السودان.

    القاضي : ماكويس .. هل كان ممكن تاني محكمة الاستئناف تاني تقرر انو المحكمة ما كانت مختصة ؟

    الشاكي : محتمل تقول انو القضية ما بتخص المحكمة .. كانت تعيد النظر في قرارها.

    الاستاذ : يا شيخ ابراهيم هنا قاضي القضاة قال انو محكمة الاستئناف الشرعية العليا اجتمعت وقررت الا تقف مكتوفة الايدي وتاني مرة اجتمعت وقررت ان تؤجل هذا القرار ضد محمود محمد طه الى ان تنتهي مدة الاستئناف . انتهت مدة الاستئناف ولم يتخذ أي قرار ولم يفتح اي بلاغ .. تفتكر السبب شنو؟

    الشاكي : وين قال ؟

    الاستاذ : هنا .. اقراهو ليك ؟

    الشاكي : في جريدة يعني ؟ انا ما سمعتو ولا قاضي القضاة جاب لي بيهو نشرة .

    الاستاذ : طيب انت ما سمعتو ونحن سمعناهو من الجرايد ما أقوى منك انت على اي حال؟

    الشاكي : لا أقوى انا لو قاضي القضاة جاب لي ..

    الاستاذ : لا لا ما دام انت ما سمعت أي حاجة ونحن سمعنا من الجرايد وضعنا احسن من وضعك.

    الشاكي : لا أبداً لانو انا لو قاضي القضاة قال لي كلام يجيبوا لي في نشرة رسمية .

    الاستاذ : انت ما بتعتقد انو قاضي القضاة كان عايز يقاضينا؟ انت كنت في الخرطوم؟

    الشاكي : لا .. كنت بعتقد انو حيقاضي .

    الاستاذ : طيب جميل خلاص دا هو موضوعنا . طيب تفتكر ليه ما قاضانا ، ومضت هسع ست سنين عشان ما تجي انت تقاضي؟

    الشاكي : لا أعرف .. انو يجوز أعتقد انها حاجة عابرة أو صفح .

    الاستاذ : هل بتعتقد انو وضعكم في القضاء الموحد بيعطيكم فرصة عشان تواجهونا اكتر مما كان يمكن تواجهونا زمان؟

    الشاكي : المواجهة دي كيف؟

    الاستاذ : يعني تقاضونا .. انتو مضى عليكم ستة سنين واكبر رأس فيكم اتوعد بانو ما بصمت وصمت .. ومضت ست سنين وجدت احداث جعلتكم انتو في قضاء موحد، هل بتفتكر فرصتكم مع القضاء الموحد في مقاضاتنا أكبر من فرصتكم لما كنتو قضاة شرعيين براكم ؟

    الشاكي : لا اعتقد .

    الاستاذ : شكراً.


    - نواصل -

    د. عمر القراي

    ---------------------------------

    [1] -مقالات د. عبدالله المشار اليها في هذا التعقيب من قبل.
    [2] - الاخوان الجمهوريون (1975) : قانون وقضاة الاحوال الشخصية قصور عن الشريعة وتخلف عن العصر
    [3] - محمود محمد طه (1968) بيننا وبين محكمة الردّة ص 6 -7
    [4] - الاخوان الجمهوريون : مهزلة القضاة الشرعيين 1969
    [5] - مقالاته في سودانايل .


    www.alfikra.org
                  

03-02-2008, 02:40 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    حول مقالات د. عبد الله علي ابراهيم في الدفاع عن الفقهاء وقوانينهم
    الدين .. ورجال الدين عبر السنين (الحلقة التاسعة)

    د. عمر القراى - 21 أغسطس 2003

    (38)

    ولم تكن محكمة الردّة ، على سوئها ، آخر مؤامرات الفقهاء ، ورجال الدين ، ضد الاستاذ محمود والجمهوريين.. ولم يكن عجز كثير من المثقفين ، من مناهضة التكفير والتحريض على القتل ، قد وقف عند حد موقفهم الهزيل ، بازاء محكمة الردّة ، وانما استمر فيما تلى من احداث ، باستثناء قلة منهم ، حتى انتهى بنا الامر الى الوضع الحالي ، الذي تعاد فيه بواسطة الجماعات الاسلامية شعارات التكفير ويدعم الفقهاء و رجال الدين، هذا الاتجاه بينما يشيد بعض المثقفين أمثال د. عبد الله علي ابراهيم ، في هذا الوقت بالذات ، بالقوانين المنسوبة للاسلام والرجال الذين يسعون الى تطبيقها في بلد متعدد الثقافات كالسودان !!

    في منتصف عام 1983، وفد الى السودان الشيخ محمد نجيب المطيعي ، الواعظ المصري ، كاستاذ في الجامعة الاسلامية .. وقد احتفلت به الجماعات الاسلامية ، وأصبح امام مسجد "التقوى" ، الذي كان يصلي فيه عمر محمد الطيب ، نائب رئيس الجمهورية ، ورئيس جهاز الامن آنذاك .. واخذت مواعظ الشيخ المطيعي ، تبث من وسائل الاعلام الرسمية ، رغم انها كانت تحوي اساءة وتكفير للجمهوريين ، الذين استعدى عليهم ودعا لقتلهم !!

    ولقد كتب الجمهوريون كتاباً ، في مواجهة هذا المخطط ، عنوانه "الهوس الديني يثير الفتنة ليصل الى السلطة" ومما جاء في ذلك الكتاب:

    فهناك فقيه مصري وافد للعمل في بلادنا بجامعة امدرمان الإسلامية، مرتبط، بصورة أو بأخرى بأحداث (الزاوية الحمراء) بمصر، والتي انفجرت منها الفتنة الطائفية بين المسلمين والمسيحيين حتى تصاعدت الأحداث التي أودت بزعيم مصر الشهيد السادات.. هذا الشيخ، باعترافه، كان إماما لهذه الزاوية.. وقد أخذ هذا الشيخ، وهو بهذه الخلفية السياسية والدينية المشبوهة، يمارس نشاطا صريحا في إثارة الفتنة الدينية بين المواطنين، وفي التكفير، والتحريض، وفي تحقير موروثات الشعب المقدسة، وفي تشويه أفكار الدعوات الدينية، وفي التدخل السافر في شئون البلاد الداخلية.. وهو ينطلق بهذا النشاط الهدّام من (مسجد التقوى) الذي تنسب رعايته للنائب الأول ورئيس جهاز أمن الدولة، مما أكسب هذا النشاط صفة الشرعية، ومد له في التمادي، حتى تصاعد إلى أجهزة الإعلام فاتخذ صورة متوالية منظّمة.. وذلك مما ينبئ عن معالم مخطط واسع لنقل موجة الهوس الديني من مصر إلى السودان، ولإقامة دولة الهوس عليه، مما أخفقت فيه الجماعات الإسلامية بمصر وذلك استغلالا لعوامل شتى منها جو التكامل، ومنها الإسماح الأمني النسبي، ومنها طبيعة هذا الشعب المحب للدين.. وهذا الشيخ، بذلك، لا بد أن يكون هو رأس السهم في هذا المخطط.. إن التفريط الذي يقابل به المسئولون الأمنيون، والسياسيون، والإعلاميون هذا النشاط إنما هو بمثابة جواز المرور لينتقل إلى كافة المساجد، وإلى كافة المنابر العامة، وليدخل أعرافا غريبة على بيئتنا، من صراع اجتماعي، وعصبية دينية.. وهذا الشيخ، بهذا الصنيع، إنما يسيء للعلاقة بين البلدين أسوأ الإساءة، ويسعى ليحوّل التكامل ليكون تكاملا بين عناصر الهوس لفرض الإرهاب والتخلّف على البلدين ولقد استهدف هذا الشيخ الفكر الجمهوري، بوصفه المعوّق الأساسي الذي يقف في طريق مخططات الهوس والإرهاب في البلاد، فذهب يشوه هذا الفكر بصورة تنضح بسوء الغرض، وتدعو للرّيبة، وتكشف عن روح التآمر.. ولا يزال مسئولونا السياسيون والأمنيون، والإعلاميون في سكوت تام عن هذا النشاط الإرهابي.. مما يدعو للتساؤل: هل مرد هذا التفريط إلى الغفلة، أم إلى السقوط ضحية الإرهاب أم إلى التواطؤ؟؟ ولماذا يجد هذا الأجنبي الحق في التعبير الذي لا نجده، وأبسطه حق الدفاع عن النفس؟؟)[1]

    ورغم ان الشيخ المطيعي ، قد تعرض للفكرة الجمهورية أكثر من مرة ، الا انه لم يطلع عليها ، ولم يناقشها في مستواها ، وانما لجأ الى التشويه ، والتخريج بلا دليل ولا حجة .. فمثلاً:

    زعم الشيخ المطيعي أننا نؤيد دعوة الهيبز، على ما هي عليه من انحلال وفساد خلقي، وأننا ننادي بأن الهيبز على حق، وذلك في حديث الشيخ التلفزيوني يوم 12-4-1983.. وقد جاء فيه: "نجد في عصرنا هذا من ينادي بأن الهيبز على حق، آي والله، وقرأت لمن يقول أن الهيبز الذين يتحللون من كل المثل، ولا يدينون بدين، ولا يتأدبون بأدب، وليس لهم نظام حياة يمكن أن تقبله العقول السليمة، وإنما يحيون حياة شاذة هذا قرأته في رسالة لا أدري ما اسمها، اسمها الصلاة، أو شئ من هذا.. وقرأت فيها تمجيدا للهيبز، ويقولون أن الهيبز علامة صحة لا علامة مرض.. فالذي يقر مثل هذه الأشياء إنما قد انسلخ انسلاخا كاملا من فضائل الإسلام، ومن قيوده، ومن آدابه، ومن أحكامه" انتهى.. هذا ما قاله المطيعي عنّا، وهو في جميع أحاديثه عنا، والتي تناهت إلينا، لا يذكرنا بالاسم، وإنما يعرض بنا بصورة مكشوفة لا تخفى على أحد من المواطنين غير أن هذا الشيخ قد قرأ نصّا من كتابنا "رسالة الصلاة"، وقد قرأه مبتورا، حتى يخرّج عليه ما يريد من تخريجات، وذلك في حديثه في التلفزيون يوم 19-4-1983، حيث جاء فيه "نرى في مجتمعنا هذا، ونرى في بيئتنا المسلمة، من يمجّد هذه الهيبز، ومن يحكم بأنها طريق صحيح.. انظر إلى هذا القول، وإلى هذا الصوت الناشز، وإلى هذا اللفظ الخبيث، الذي يستدرج الإنسان، ويستدرج بخاصة الشباب، هذا المجتمع الطاهر البرئ الذي يرتبط بعلاقة وثقى بالإسلام، وبالفضائل الإسلامية، وبالمثل العليا، انظر إليه وهو يقول: "من أجل ذلك فإنّا لا نعتبر حركات الشباب التي تتجه اتجاه الهيبز علامة مرض، وإنما هي عندنا علامة صحة، وهذا هو الذي جعلنا نجزم بأننا إنما نعيش في أخريات أيام مرحلة التطور العضوي ـ العقلي" انتهى.. ثم يمضي الشيخ ليتهمنا بأننا نعمل على تدمير قيم الشباب، ونعمل على القضاء على الإسلام، فيقول: "هذا التمجيد لمبدأ الهيبز، وأنه ليس علامة مرض وإنما هو علامة صحة يعني أنه دعوة الشباب إلى الهيبز، وهذه الدعوة إنما هي دعوة يجب أن يتصدى لها كل إنسان حر غيور، ويجب أن يعرف أن هذه الدعوة الباطلة قامت من أجل تدمير الشباب، ومن أجل تدمير قيمه ومثله، وإنهاء كل هذا الدرب الطويل الذي يبدأ منذ أن بعث رسول الله إلى اليوم، من أجل القضاء على الإسلام، ومن أجل التآمر الصهيوني الخبيث" انتهى.. هذا بعض ما قاله الشيخ المطيعي في تشويه دعوتنا، وفي التحريض علينا، من حديث طويل له لا يرمي فيه إلا إلى إثارة الفتنة.. وكل هذه الاتهامات الباطلة إنما بناها المطيعي على نص قد نقله مبتورا من كتابنا، ثم ذهب يخرّجه بما يتناقض مع ما رمينا إليه من عبارتنا.. فنحن عندما قلنا أن ظاهرة الهيبز في الغرب ظاهرة صحة، وليس ظاهرة مرض إنما على اعتبار أنها تملك فضيلة الشعور بالمشكلة، وإن لم تهتد إلى الحل، وهذا أمر لم يتوفر للكثيرين في الغرب.. ثم إننا قد دعونا إلى هداية الهيبز عن طريق الإسلام.. فأقوالنا عن الهيبز أقوال واضحة لا تحتمل هذا التحريف مطلقا..

    فماذا قلنا عن الهيبز؟؟ ولنبدأ بإيراد النص الكامل من "رسالة الصلاة"، الصفحة 49، الطبعة السابعة، والذي بتر منه الشيخ ما بتر، ثم نذهب إلى نصوص أخرى حول هذه الظاهرة.. فقد جاء في ذلك النص: "وفي سبيل هذا التفهم برزت في أوربا، وفي أمريكا، أساليب في الحياة، والفكر، كأساليب "الهيبز" وأساليب "اللامعقول" ولكنها أساليب تدل على الحيرة، وعلى القلق، وعلى الجهل بأصل المشكلة.. ومع ذلك فإنها تملك فضيلة الاعتراف بهذه المأساة في حياتنا التي تحاول الكثرة الغالبة تجاهلها.. ومن أجل ذلك فإنّا لا نعتبر حركات الشباب التي تتجه اتجاه "الهيبز" علامة مرض، وإنما هي عندنا علامة صحة.. وهذا هو الذي جعلنا نجزم بأنّا نعيش الآن في أخريات مرحلة التطور العضوي ـ العقلي" انتهى.. وهكذا بتر الشيخ حديثنا عن ظاهرة الهيبز بأنها ظاهرة تدل على الحيرة، وعلى القلق، وعلى الجهل بأصل المشكلة، ثم ذهب ليتهمنا تلك الاتهامات الباطلة.. وقد أهمل هذا الشيخ تعليلنا لهذه الظاهرة بأنها ظاهرة صحة، حيث بتر النص الذي يرد فيه هذا التعليل والذي يقول: "ومع ذلك فإنها تملك فضيلة الاعتراف بهذه المأساة في حياتنا، التي تحاول الكثرة الغالبة تجاهلها" ففي حين أننا نقول أن هذه الظاهرة مأساة، يقول هو عنّا أننا ندعو إلى الهيبز ونمجدهم!! وإليكم ما قاله الأستاذ محمود محمد طه في تحليل ظاهرة الهيبز في كتاب "القرآن ومصطفى محمود والفهم العصري"، صفحة 6: "فأما حاجة هذا العصر فإلى الهداية.. فإن البشرية لم تكن يوما في التيه كما هي اليوم.. وسمة هذا العصر هي القلق، والحيرة، والاضطراب.. هذا عصر الثورات: الثورة الثقافية، والثورة الجنسية، وثورة الشباب، وكلها دليل على القلق، والحيرة، والاضطراب.. هذا عصر "الهيبيز".. جماعات من الشباب، من الجنسين، يزيد عددهم كل يوم، ويستطير شرهم كل يوم، حتى عم جميع الأقطار.. يقوم مجتمعهم على الرفض، فهم قد وجدوا مجتمع الحضارة الغربية، الآلية، مجتمع إنتاج واستهلاك، فقد الإنسان المعاصر فيه روحه، وقيمته، وحريته، واستحال إلى آلة تنتج وتستهلك، فرفضوه، ورفضوا معه كل عرف، ودين.. وفزعوا إلى صور من مجتمعات الغابة، فهم يلبسون المرقعات، ويسيرون حفاة، ويرسلون شعورهم، ويبيتون على الأرصفة، والطرقات، ويستبيحون بينهم من العلائق الجنسية ما ظلت البشرية على صيانته حريصة خلال تاريخها الطويل.. هم يبحثون عن حريتهم، وعن إنسانيتهم، وعن فرديتهم، فلا يكادون يجدون غير الضياع، وغير القلق، وغير الإضطراب.. فهل عند مصطفى محمود إدراك واسع لهذه الظاهرة، واهتمام بها، وسعي لإيجاد الهداية لها من القرآن بتفسيره العصري؟؟"[2]

    ولقد حاول الشيخ ، ان يشيع ان دعوة الاستاذ محمود ، الى الحرية الفردية المطلقة ، هي دعوة للاباحية وعدم التقييد بأي منهج اخلاقي !! ولم يكن ذلك مجرد عدم فهم ، وانما هو غرض مبيت ، في التشويه والاثارة واستعداء البسطاء .. جاء في ذلك :

    ويقول الشيخ المطيعي، في ذلك الحديث التلفزيوني، إمعانا في تشويه فكرنا: "وهو ـ يعني الأستاذ محمود ـ لا يتقيد بقيد لأنه يدعو للحرية المطلقة" ومضى يقول "وهذه الحرية المطلقة التي لا تتقيد بشريعة سماوية، ولا تتقيد بآداب نبوية" انتهى.. هذا ما قاله الشيخ المطيعي عن مفهومنا للحرية الفردية المطلقة، وهو قول بادي البطلان، بادي الغرض.. وسنورد هنا بعض تعريفاتنا للحرية الفردية المطلقة كما وردت في كتبنا.. فقد جاء في كتاب " رسالة الصلاة"، صفحة 60، مانصه: "وفي الحق أن الحرية في الإسلام مطلقة، على أن تؤخذ بحقها.. وحقها، كما قلنا، حسن التصرف فيها ولا يستطيع أن يأخذها بحقها إلا من جوّد العبادة، وأوفى في ذلك بوصية المعصوم حيث قال "تخلقوا بأخلاق الله، إن ربي على سراط مستقيم".. فمن تخلّق بأخلاق الله فقد سار من المحدود إلى المطلق، فأحرز من استقامة السيرة، وسلامة السريرة ما يجعل نتائج عمله كلها خيرا وبرّا بالأحياء والأشياء، حتى لا يكون للقوانين عليه من سبيل" .. انتهى.. وقال الأستاذ محمود في كتاب "الثورة الثقافية"، طبعة مايو 1972، صفحة 32، ما نصه: " قد قال المعصوم: "الدين المعاملة"، وقال: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".. و "مكارم الأخلاق" هي حسن التصرف في الحرية الفردية المطلقة.." ويمضي النص فيقول "وحسن التصرف في الحرية، إذا كانت في قاعدتها ـ الحرية المقيدة بالقانون ـ أو في قمتها ـ الحرية المقيدة بالأخلاق ـ لا يتأتى إلا إذا تهذب الداخل، واستقام، فسلم القلب من مذام الأخلاق، وصفا العقل من أوضار الأباطيل والخرافاات.." انتهى.. وهكذا فإن الحرية الفردية المطلقة هي قمة الأخلاق، لأنها هي التخلق بخلق الله الأعظم.. وهذه الحرية مقيدة في قاعدتها بالقانون، وفي قمتها بالأخلاق، وصاحبها، فيما يأتي وما يدع، لا يصدر منه إلا الخير والبر بالأحياء والأشياء.. فأين هذا المفهوم مما خرّجه الشيخ؟؟ إن الحرية الفردية المطلقة التي ذهب الشيخ يشوهها بغير علم إنما هي سنة النبي الكريم، وقد كان أقدر الناس على حسن التصرف في الحرية الفردية المطلقة.. وفي هذا الصدد جاء في كتابنا "الرسالة الثانية من الإسلام" صفحة 22، الطبعة الخامسة، ما نصّه: "ولقد كان محمد أقدر الناس على حسن التصرف في الحرية الفردية المطلقة، وذلك لشدة مراقبته لربه، ولدقة محاسبته لنفسه، على كل ما يأتي وما يدع، في جانب الله، وفي جانب الناس، أليس هو القائل "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا!!" بلى!! إن حسن التصرف في الحرية الفردية المطلقة إنما هو سنة النبي التي طالما تحدث عنها الناس من غير أن يدركوا حقيقتها" انتهى.. هذا ما قلناه عن الحرية الفردية المطلقة، فأين هو مما قاله المطيعي عنها، بأنها "لا تتقيد بشريعة سماوية، ولا تتقيد بآداب نبوية"؟؟ ففي الوقت الذي نقول فيه أن حسن التصرف في الفردية الحرية المطلقة هي سنة النبي يقول هذا الشيخ أن هذه الحرية لا تتقيد بشريعة سماوية ولا بآداب نبوية!! تشويه واضح ليس له من دافع سوى سوء الغرض..)[3]

    (39)

    وحين طلب بعض المواطنين ، من الشيخ المطيعي ، ان يحاور الجمهوريين ، رفض بحجة ان الجمهوريين يجب ان يستتابوا أو يقتلوا لا ان يحاوروا !! وعن هذا التحريض جاء (ويقول الشيخ المطيعي في خطبته "بمسجد التقوى" يوم الجمعة 15-4-1983: " يقولون لك - يعني الجمهوريين - ناظرونا، لكن المرتد لا يناظر، وإنما يستتاب ثلاثة أيام فقط، فإن تاب فيها، وإلا قتل" انتهى.. أليس هذا هو اتجاه التكفير الذي تمارسه الجماعات الاسلامية بمصر؟؟ وهو دعوة صريحة، أيضا، للفتنة الدينية باستباحة الدماء، والتحريض على القتل، وإلى إحلال الارهاب، والكبت محل الإسماح، والحوار؟؟ وهي دعوة لانتهاك حكم القانون، ولمصادرة الحقوق الأساسية للمواطنين التي نصّ عليها الدستور!! وأردف الشيخ هذا التحريض بإشارته في حديثه بالتلفزيون يوم 19-4-1983، إلى دعوة زعم أنها ظهرت في التاريخ الإسلامي، شبيهة بدعوتنا، وقد قام الحاكم العباسي بقتل صاحبها، والقضاء على دعوته!! هل يريد هذا الشيخ لبلادنا أن تدخل في أتون الفتنة الدينية التي لا زالت تصطلي بها مصر؟؟ ثم من هو المرتد؟؟ أليس أكابر الصوفية الأجلاّء عند هذا الشيخ مرتدين؟؟ ألا تكفّر الفرق الإسلامية المتهوسة بعضها بعضا؟؟ أم هل يعني بالردة تلك المهزلة الهزيلة التي اصطنعتها "دوائر الأحوال الشخصية" عام 1968، والتي كان قضاتها مخلب قط في تنفيذ الكيد السياسي الداخلي والخارجي ضد الأستاذ محمود محمد طه؟)[4]

    ولم تقف مواجهة الجمهوريين ، للموقف ، عند نقد الشيخ المطيعي .. وانما تعدته الى نقد السيد عمر محمد الطيب نائب رئيس الجمهورية آنذاك ، ونقد الدولة واجهزة اعلامها ، واتهامها بالتفريط في المصلحة العليا للبلاد !! فجاء في ذلك:

    هذا الشيخ المطيعي مشبوه الخلفية السياسية والدينية، كما أسلفنا، ومع ذلك يجد الفرصة في مسجد له علاقة بالنائب الأول، ورئيس جهاز أمن الدولة، فيدعو إلى إثارة الفتنة الدينية بين الشماليين والجنوبيين، وبين الجنوبيين أنفسهم، ويقوم بتكفير الطوائف الأخرى من المواطنين، ويدعو إلى استباحة دمائهم، ويحرّض المسئولين على مصادرة حرية الفكر والعقيدة، وينعي عليهم تقصيرهم في مسئولياتهم في تدخّل سافر في شئوننا الداخلية.. وذلك مما أكسب نشاطه هذا صفة الشرعية فشجّعه على التمادي فيه، فصعّده إلى التلفزيون، في أحاديث مسلسلة، استهدفت تشويه فكر طائفة من المواطنين محرومة من حق الدفاع عن نفسها، لا من منبر هذا المسجد ولا من خلال هذه الأجهزة، كما استهدفت تحقير معتقدات، ومقدسات هذا الشعب، المتمثلة في تراثه الصوفي.. وهو يدعو إلى الإكراه الديني بدلا عن الاسماح الديني في بلد متعدد الثقافات، يسعى لتحقيق الوحدة الوطنية، والسلام الاجتماعي بين أجزائه، وأفراده.. وكل هذه جرائم تمس الوحدة الوطنية، والحقوق الأساسية للمواطنين، وسياسة الدولة العامة، وتهدد مكتسبات هذا الشعب، وأمنه، واستقراره، ووحدته.. وهي جرائم تقع في مثل هذا المسجد فلا تجد رقيبا ولا حسيبا.. إن خطب هذا الشيخ وأحاديثه لا بد أن تكون قد بلغت النائب الأول، وهو أيضا المسئول الأول عن الأمن، في البلاد، كما بلغت سائر المواطنين من أجهزة الإعلام.. ألم تكن المسئولية السياسية والأمنية للنائب الأول تقتضي وقف نشاط هذا الشيخ من أول بادرة هدامة له في هذا المسجد؟؟ ألا تفرض هذه المسئولية السياسية والأمنية على النائب الأول رعاية حقوق المواطنين فلا يجري النيل من طائفة منهم من منبر يقع تحت سمعه وبصره، وهي لا تملك حق الدفاع عن نفسها من هذا المنبر؟؟ ألا يعتبر التفريط الذي أدى إلى توسيع نشاط هذا الشيخ، وهو يثير الفتنة الدينية، تفريطا في أمن البلاد، ووحدتها؟؟ ألم يعط هذا المسجد صبغة شرعية وجواز مرور لهذا الشيخ ليصعّد نشاطه الهدام في أجهزة الإعلام؟؟ ومن المسئول عن هذا المسجد؟؟ أليست للنائب الأول أية مسئولية عنه؟؟ أليس لنشاط هذا الشيخ، في إثارة الفتنة الدينية، تبعات خطيرة تمتد المسئولية عنها إلى النائب الأول بما له من علاقة بالمسجد الذي تصاعد منه هذا النشاط؟؟ ثم أليس التفريط في المسئولية السياسية والأمنية، والذي يترتب عليه خطر يتهدد وحدة البلاد، وأمنها، من هذا المنبر الرفيع في الدولة مما يجعل صاحبه غير جدير به؟؟

    ثم أليس السيد وزير الإرشاد والإعلام، ومعه المسئولون الإعلاميون مسئولين عن التفريط في رسالتهم الإعلامية بإتاحة الحرية التامة في أجهزة الإعلام لهذا الشيخ ليقوم بنشر دعوته إلى الفتنة الدينية وإلى تحقير المعتقدات الروحية لهذا الشعب؟؟ أليست أجهزة الإعلام من الخطورة على تربية هذا الشعب بحيث لا يسمح لها بما يسيء إلى هذه التربية؟؟ وكيف تظل أجهزة الإعلام موصدة أمامنا، نحن المواطنين السودانيين، فنُسلب حقنا الأساسي في التعبير، ليُعطى لأجنبي يسيء استخدامه، فيستغله ضد مصلحة هذا الشعب؟؟ وكيف نُحْرم من أبسط مقتضيات العدالة، فلا نُعْطى مجرد حقنا الطبيعي للدفاع عن أنفسنا، من هذه الأجهزة، بينما تُطْلق يد هذا الشيخ ليمارس تشويهه لفكرنا، ولإثارة الفتنة الدينية ضدنا، على أوسع نطاق، وبصورة منظمة، متصاعدة، من هذه الأجهزة؟؟ ألا تفرّط هذه الأجهزة بذلك في حق أساسي للمواطنين، وتشارك هذا الشيخ في التبعة المترتبة على نشاطه، والمهددة لأمن البلاد، والمخلّة بتربية الشعب؟؟ ألا يجب إعادة النظر في السياسة الإعلامية، وفي رسالة المسجد، حتى تخدما، وعلى أيسر تقدير، سياسة الدولة العامة المعلنة؟؟)[5]

    وبناء على هذه المواجهة ، تم في يونيو 1983 اعتقال الاستاذ محمود ، وعدد كبير من الاخوان الجمهوريين، واربعة من الاخوات الجمهوريات !! ووضع الاستاذ في منزل تابع لجهاز الأمن بالخرطوم ، ووضع الجمهوريين بكوبر، والجمهوريات بسجن أمدرمان ..

    (40)

    وفي هذه الفترة عزل نميري القضاة ، وكون محاكم العدالة الناجزة ، واعلن القوانين الاسلامية في سبتمبر 1983 .. وكون محاكم خاصة ، جعل قضاتها من الاخوان المسلمين ، امثال حاج نور ، ومن رجال الدين واساتذة الجامعة الاسلامية ، أمثال المكاشفي الكباشي ، وغيره ممن لم يكن لهم تأهيل ، غير الفهم المتخلف للاسلام .. ولقد قطعت أيادي البسطاء ، والنازحين ، في وقت اعلنت فيه الحكومة حالة المجاعة ، وتلقت المعونات من الخارج !! وكانت الجماعات الاسلامية ، وعلى راسها الاتجاه الاسلامي بقيادة د. الترابي ، تهلل لقوانين سبتمبر ، وتخرج المسيرات في تأييدها ، وقد اصبح الترابي مستشار النميري !!

    في نفس اليوم الذي تم فيه اطلاق سراح الاستاذ والجمهوريين ، وهو يوم 19 /12 /1984 قال الاستاذ ( نحن لم نخرج من المعتقل لنرتاح وانما لنواجه الظلم الذي يمارس باسم الاسلام ) !! وفي يوم 25/12/1984 أصدر الجمهوريون منشور هذا أو الطوفان ونصه كالاتي :



    هـــذا .. أو الطوفـــان !!

    (و اتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة .. واعلموا أن الله شديد العقاب)

    صــدق الله العظيم

    غايتان شريفتان وقفنا ، نحن الجمهوريين ، حياتنا ، حرصا عليهما ، و صونا لهما ، وهما الإسلام و السودان .. فقدمنا الإسلام في المستوى العلمي الذي يظفر بحل مشكلات الحياة المعاصرة ، و سعينا لنرعى ما حفظ الله تعالى على هذا الشعب ، من كرايم الأخلاق ، و أصايل الطباع ، ما يجعله وعاء صالحا يحمل الإسلام إلي كافة البشرية المعاصرة ، التي لا مفازة لها ، و لا عزة ، إلا في هذا الدين العظيم ..

    و جاءت قوانين سبتمبر 1983 ، فشوهت الإسلام في نظر الأذكياء من شعبنا ، وفي نظر العالم ، و أساءت إلى سمعة البلاد .. فهذه القوانين مخالفة للشريعة ، و مخالفة للدين ، ومن ذلك أنها أباحت قطع يد السارق من المال العام ، مع أنه في الشريعة ، يعزر و لا يحد لقيام شبهة مشاركته في هذا المال .. بل إن هذا القوانين الجائرة أضافت إلى الحد عقوبة السجن ، و عقوبة الغرامة ، مما يخالف حكمة هذه الشريعة و نصوصها .. هذه القوانين قد أذلت هذا الشعب ، و أهانته ، فلم يجد على يديها سوى السيف ، والسوط ، وهو شعب حقيق بكل صور الإكرام ، و الإعزاز .. ثم إن تشاريع الحدود و القصاص لا تقوم إلا على أرضية من التربية الفردية ومن العدالة الاجتماعية ، وهي أرضية غير محققة اليوم ..

    إن هذه القوانين قد هددت وحدة البلاد ، و قسمت هذا الشعب في الشمال و الجنوب و ذلك بما أثارته من حساسية دينية كانت من العوامل الأساسية التي أدت إلى تفاقم مشكلة الجنوب .. إن من خطل الرأي أن يزعم أحد أن المسيحي لا يضار بتطبيق الشريعة .. ذلك بأن المسلم في هذه الشريعة وصي على غير المسلم ، بموجب آية السيف ، و آية الجزية .. فحقوقهما غير متساوية .. أما المواطن ، اليوم ، فلا يكفي أن تكون له حرية العبادة وحدها ، و إنما من حقه أن يتمتع بسائر حقوق المواطنة ، وعلي قدم المساواة ، مع كافة المواطنين الآخرين .. إن للمواطنين في الجنوب حقا في بلادهم لا تكفله لهم الشريعة ، و إنما يكفله له الإسلام في مستوى أصول القرآن (السنة) .. لذلك فنحن نطالب بالآتي :-

    1. نطالب بإلغاء قوانين سبتمبر 1983 ، لتشويهها الإسلام ، و لإذلالها الشعب ، و لتهديدها الوحدة الوطنية..

    2. نطالب بحقن الدماء في الجنوب ، و اللجوء إلى الحل السياسي و السلمي ، بدل الحل العسكري. ذلك واجب وطني يتوجب على السلطة ، كما يتوجب على الجنوبيين من حاملي السلاح. فلا بد من الاعتراف الشجاع بأن للجنوب مشكلة ، ثم لا بد من السعي الجاد لحلها ..

    3. نطالب بإتاحة كل فرص التوعية ، و التربية ، لهذا الشعب ، حتى ينبعث فيه الإسلام في مستوى السنة (أصول القرآن) فإن الوقت هو وقت السنة ، لا الشريعة (فروع القرآن) .. قال النبي الكريم صلي الله عليه وسلم : (بدأ الإسلام غريبا ، وسيعود غريبا ، كما بدأ ، فطوبى للغرباء ‍‍ قالوا: من الغرباء يا رسول الله ؟؟ قال: الذين يحيون سنتي بعد اندثارها). بهذا المستوى من البعث الإسلامى تتحقق لهذا الشعب عزته ، وكرامته ، ثم إن في هذا البعث يكمن الحل الحضاري لمشكلة الجنوب ، و لمشكلة الشمال ، معا‍ ‍‍… أما الهوس الديني ، و التفكير الديني المتخلف ، فهما لا يورثان هذا الشعب إلا الفتنة الدينية ، و الحرب الأهلية .. هذه نصيحتنا خالصة ، مبرأة ، نسديها ، في عيد الميلاد ، وعيد الاستقلال ، ونرجو أن يوطئ لها الله تعالي أكناف القبول ، و أن يجنب البلاد الفتنة ، ويحفظ استقلالها و وحدتها و أمنها .. وعلي الله قصد السبيل.

    أمدرمان في 25 ديسمبر 1984م 2ربيع الثاني 1405هـ

    الأخـــــوان الجمهوريون


    وتم اعتقال أربعة من الاخوان الجمهوريين ، في نفس اليوم ، ثم اضيف الاستاذ للبلاغ .. ولقد كان اتجاه الاستاذ محمود ، من البداية ، هو المواجهة السياسية ، فقرر عدم التعاون مع المحكمة ، باعتباره رافضاً للقوانين الاسلامية المزعومة .. ومع ذلك اتجه الى تحدي السلطة السياسية ، بهدف كسر هيبتها ، ورفع الخوف عن كاهل الشعب ، حتى ينهض بالثورة .. فقال في كلمته امام المحكمة ( أنا أعلنت رأي مرارا ، في قوانين سبتمبر 1983م ، من أنها مخالفة للشريعة وللإسلام.. أكثر من ذلك ، فإنها شوهت الشريعة ، وشوهت الإسلام ، ونفرت عنه .. يضاف إلي ذلك أنها وضعت ، واستغلت ، لإرهاب الشعب ، وسوقه إلي الاستكانة ، عن طريق إذلاله.. ثم إنها هددت وحدة البلاد .. هذا من حيث التنظير ..

    و أما من حيث التطبيق ، فإن القضاة الذين يتولون المحاكمة تحتها ، غير مؤهلين فنيا ، وضعفوا أخلاقيا ، عن أن يمتنعوا عن أن يضعوا أنفسهم تحت سيطرة السلطة التنفيذية ، تستعملهم لإضاعة الحقوق وإذلال الشعب ، وتشويه الإسلام ، وإهانة الفكر والمفكرين ، وإذلال المعارضين السياسيين .. ومن أجل ذلك ، فإني غير مستعد للتعاون ، مع أي محكمة تنكرت لحرمة القضاء المستقل ، ورضيت أن تكون أداة من أدوات إذلال الشعب وإهانة الفكر الحر ، والتنكيل بالمعارضين السياسيين) !! ولقد حاول بعض المحامين، تكوين هيئة لتولي القضية ، والدفاع عن الجمهوريين ، فشكرهم الاستاذ واخبرهم ان الجمهوريين سيباشرون أمرهم بانفسهم ..

    ولقد وجهت محكمة امدرمان برئاسة المهلاوي ، التهمة ضد الاستاذ والجمهوريين ، بناء على قانون امن الدولة باعتبار ان المنشور يعتبر معارضة للنظام ، ثم قفز القاضي الى تهمة الردّة ، وحكم بالاعدام ، ثم امر المتهمين بالتوبة.. وحين رفع الامر للتاييد ، اعاد قاضي الاستئناف المكاشفي طه الكباشي المحاكمة من جديد ، دون ان يوجه تهم جديدة ، او يحضر المتهمين امامه !! واعتمد على رايه المسبق ، وخصومته السياسية للفكرة الجمهورية ، فوصف الاستاذ بالردّة ، ولم يخف اعتماده على حكم محكمة الردّة الذي تم عام 1968 ، وهو حكم جائر ، بل انه كان مؤامرة من الفقهاء والاخوان المسلمين وزعماء الطائفية ، وكانت المحكمة الشرعية هي مخلب القط في تلك المؤامرة السياسية، فخرجت على قانون تكوينها ، وعملت خارج اختصاصها ، ففقدت من ثم حيادها وشرعيتها ، كما اوضحنا في الحلقة الماضية .. ورغم ما اعتور محكمة الردّة من فساد وتآمر اعتمد عليها المكاشفي وايد الحكم بالاعدام !!

    _ نواصل-

    د. عمر القراي


    -------------------------

    [1] - الاخوان الجمهوريون 1983 : الهوس الديني يثير الفتنة ليصل الى السلطة ص3
    [2]- المصدر السابق .
    [3]- المصدر السابق .
    [4] - المصدر السابق.
    [5] - المصدر السابق .


    www.alfikra.org
                  

03-02-2008, 02:42 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    حول مقالات د. عبد الله علي ابراهيم في الدفاع عن الفقهاء وقوانينهم
    الدين .. ورجال الدين عبر السنين (الحلقة العاشرة والأخيرة)

    د. عمر القراى - 15 سبتمبر 2003

    (41)

    في ضحى الجمعة 18 يناير 1985، إقتيد الاستاذ محمود ، وهو مصفد اليدين والقدمين ، ومغطى الوجه الى ساحة سجن كوبر العمومي . وكانت الساحة ، على سعتها ، تضيق بمئات المواطنين ، الذين يرتفع صوت هتافهم " الله اكبر الاسلام هو الحل " !! ثم يخبو ، بجانب هتاف السجناء ، الذين يضربون باقدامهم الارض ، ويدقون على ابواب حراساتهم ، وهم يرددون " لن ترتاح يا سفاح " "العار العار يانميري " .. ولقد كانت الجماعات الاسلامية، تترقب هذه اللحظة ، والفقهاء الذي انتقدهم الاستاذ محمود ، ينتظرون ان يروا ، منه ، اي بادرة خوف ، او تراجع ، تطمئنهم على انه ربما لم يكن ، على حق في دعوته .. اذ لا يتوقع من شخص مدع ، أو منحرف ، ان يثبت في لقاء الموت .. لقد عجزوا ان يهزموه طوال حياته ، فهاهم يطمعون ان يهزموه في مماته !! ومعلوم ان الموت لا يمثل هزيمة ، لانه مصير كل الاحياء ، ولكن الهزيمة في التراجع ، او الخوف والاضطراب .. ولكن ما حدث ، كان مفاجأة لهم ، ولغيرهم ، بكل المقاييس . اذ ان الاستاذ محمود ، سار الى الموت ثابت الخطى والجنان ، ولم ينس ان يخلع نعليه عند المنصة ، وحين كشف الغطاء عن راسه ابتسم !!

    ولقد صور عدد من الشعراء ، والمفكرين ، والادباء ، هذا الموقف، ومن هؤلاء د. عبد الله بولا ، فقد أورد حديث الاستاذ في المحكمة ، ثم قال ( كان هذا حديث الرجل الى المحكمة التي كان يعلم انها أضمرت قتله أو اذلاله بالتراجع عن آرائه ، حديث رجل سلط على عنقه سيف ارهاب مشرع مديد طوله الف وثلاثمائة عام ونيف ، فما زاغ بصره وما طغى ، ولا أقول لم يرمش له طرف ، بل لم يهتز منه ظل خاطرة في أعمق أعماق طبقات وعيه الباطن :

    وقد كان فوت الموت سهلاً فساقه اليه الحفاظ المر والخلق الوعر

    وامام المشنقة ثانياً : فعندما أحكموا حبل الموت حول عنقه وأزاحوا غطاء الرعب عن وجهه الوضئ ، وجدوا رجلاً يبتسم لا ساخراً ولا مستهزءاً بالموت ، بل موقناً بالفداء الكبير ، مطمئناً الى اختيار ربه ، منسجماً حتى النهاية مع منطقه التوحيدي وهذا أقصى ما يصل اليه الصدق . وهكذا فقد مضى "الى الخلود بطلاً ورائداً وقائداً رعيل الشهداء ورمز إيمان جديد بالفداء ..... وبالوطن". أقول هذا وانا جد قلق مستوحش من ان اكون قد أسات الوقوف في حضرة هذا الشيخ الجليل )[1]


    وفي قصيدة المرحوم بروفسير عبد الله الطيب :

    قد شجاني مصابه محمود مارق قيل ، وهو عندي شهيد
    وطني مجاهد واديب منشئ في بيانه تجويد
    وخطيب مؤثر ولديه سرعة الرد والذكاء الفريد

    الى ان يقول :
    علناً علقوه يشنق للجمهور ذاك المفكر الصنديد
    أخرجوه لحتفه ويداه خلفه وهو موثق مشدود
    جعلوه يرقى به الدرج الصاعد نحو الهلاك خطو وئيد
    كشفوا وجهه ليعرف ان هذا هو الشخص عينه محمود
    فاراهم من ثغره بسمة الساخر والحبل فوقه ممدود
    وعلى وجهه صفاء واشراق أمام الردى وديع جليد؟![2]

    وفي قصيدة الاستاذ عوض الكريم موسى:

    ويخلع النعلين عند سفح المشنقة

    كأنها المصلى وهو يصعد الخطى الموثقة الواثقة

    كأنه المحب في لقاء محبوب مهاجر يرنو لان يعانقه

    ويكشف الغطاء عن بوادر ابتسامة

    عن انضر ابتسامة

    عن أجسر ابتسامة

    كالشمس لم تخامرها غمامة

    برهانه على اليقين والصمامة

    رسالة الى الاحرار بالخلاص المرتجى

    حرب على الدجال فهي في حلوقهم شجى

    وفي عيونهم قذى وفي صدورهم لظى

    فقد أبى أن يعطي الدنية

    في دينه من نفسه الابية

    لله وحده أعطى زمامه

    أقام دينه أوفى تمامه

    تبت يداهم يقتلون في الضحى السلام

    والغصن والحمامة

    وحوله هتافهم كجوفهم مباءة المساءة

    قاماتهم قماءة ، وجوههم دمامة

    أليسوا الساقطين في شر الفتن ؟

    البائعين الدين ، والمبائعين التالف المتلاف

    بيعة الامامة ؟![3]

    وفي قصيدة الأخ العوض مصطفى:

    ان ما اشتاق لهذا الصابر في البأساء فلا اشتاق

    المؤمن بالشعب العملاق

    الباذل للروح الغالي والمطلق من قيد الاشفاق

    يكفيني أني عشت زماناً كان له طعم ومذاق

    يكفيني اني كنت جليسك رغم شعور الابن العاق

    فيا من كان بحضرته والفكر به قيد ووثاق

    حدثني عن أخبار الشيخ الباسم في وجه الشناق[4]

    وفي قصيدة الاستاذ عالم عباس :

    كان الدرج الصاعد نحو المشنقة المنصوبة في ساحة

    كوبر يدرك ان الخطوات المتزنات اللائي سرت بهن

    وئيداً تفضي نحو الموت الرائع والمتسق تماماً مع ما كنت تقول

    كان الحبل الملتف على رقبتك الشامخة الرأس هو

    الطرف الآخر من ذات الحبل الملتف على عنق الوطن المقتول

    ليس بعيداً كل قضاتك والجلادون ملامحهم ذابت

    ووجوههم متفحمة خجلاً وصغاراً

    وثباتك مثل الخنجر بين اضالعهم

    فكأنك تقتلهم بمخازيهم شنقاً وتحرر

    ربقة هذا الوطن الرائع من نير الذل

    انت الأغلى ، والأعلى ، والانبل

    كنا ندرك انك تفدي الوطن الأجمل

    فلتكن القربان اذن حتى يتطهر وجه الارض

    وينخسئ البهتان[5]

    ومن شعر الشاعر سيد احمد الحاردلو شفاه الله باللهجة السودانية الدارجة :

    بس يا سلام سلم

    زول يستحق القول

    والحمد والتبجيل

    محمود جنا طه

    ملك وملكو علم

    وفقير وفقرو علم

    ويمين يمين الله

    لو عندي أيد لاحقه

    أديهو تاج الرجال

    وابنيلو في الخرتوم

    فوق البحر تمثال

    لكن خسارتي انا

    الماعندي أيها حال[6]


    (42)

    ولقد استنكرت ، الحكم ، من حيث هو اعتداء على حرية الفكر ، نقابات واحزاب وصحف ، ومجموعات داخل وخارج السودان .. فجاء في بيان الهيئة النقابية لاساتذة جامعة الخرطوم (نخاطبكم والبلاد تمر بفترة من احرج فترات تاريخها الحديث واحلكها ، نخاطبكم في وقت ديست فيه حرية الفكر واذلت فيه أعناق الرجال وارتخصت فيه حياة المفكرين . في أمس الأول 8/1/1985 الموافق 16/4/1405هجرية أصدر قاضي محكمة جنايات امدرمان رقم 4 حكماً بالاعدام شنقاً حتى الموت على الاستاذ محمود محمد طه واربعة من الجمهوريين وقد جاء في حيثيات الحكم التي تناقلتها أجهزة الاعلام المختلفة أن حكم الاعدام هذا سيكون عظة لغيرهم ممن اسماهم القاضي بمثيري الفتنة وهذا في رأينا هو المقصود بامر المحكمة ابتداء، لأن السلطة السياسية التي يأتمر قضاة المحاكم الجنائية بأمرها ظلت تسعى الى تكميم افواه المفكرين واسكات اصوات المعارضين بشتى الوسائل من حل لنقابات العاملين وتشريد وطرد من الخدمة وزج في السجون ثم بمحاكمات صورية لا تتوفر فيها أبسط مقومات العدالة....)[7]

    ولقد رفعت نقابة المحامين ، مذكرة لرئيس الجمهورية ، جاء فيها ( وقد تلقينا مع ابناء شعبنا أجمعين صدمة الحكم الذي اصدرته محكمة الجنايات بامدرمان باعدام المتهمين في القضية المعروفة "حكومة السودان ضد محمود محمد طه وآخرين" .... وقد جاءت المحاكمة الاخيرة للمتهمين المذكورين لتؤمن على صحة المحاذير والانتقادات التي وجهناها لذلك القانون في حينها. ولعلها لم تكن المحاكمة الوحيدة في ذلك الصدد غير انها كانت الوحيدة التي عبر فيها المتهمون صراحة عما ظل يلاك همساً وظللنا نحذر منه .. فقد رفضوا بادئ ذي بدء التعامل مع هذه المحاكم ، مؤسسين رفضهم على انتقادات عنيفة لقضاتها فنياً وأخلاقياً الشئ الذي لم يشهد تاريخ القضاء مثلاً له. وما كان ذلك ليكون لولا ان قانون الهيئة المستحدث وما ترتب عليه من ممارسات لم يستطع ان يقنع احداً بان ثمة قدر - ولو ضئيل- من العدالة والحيدة والنزاهة يمكن ان يتحقق في ظله)[8]..

    وفي بيان ، صدر عن الحزب الشيوعي السوداني ، جاء ( إجتاحت البلاد موجة مشروعة من الغضب والاستهجان على الحكم بحق الاستاذ محمود محمد طه وزملائه من قادة الجمهوريين .. واستنكر أهل السودان على اختلاف مشاربهم ، استهتار نميري واعوانه بابسط قيم العدالة في المحاكم الميدانية والايجازية التي اسموها محاكم عدالة اسلامية ناجزة ! فالجمهوريون لم يفعلوا أكثر من إستعمال حقهم كمواطنين ، وعرضوا وجهة نظرهم من منطلقات اسلامية ، ومن موقع التعاطف مع السلطة ، وتقدموا بنصيحة للسلطة لإلغاء تشريعات سبتمبر1983 ، وحل مشكلة الجنوب حلاً سياسياً حسب ما جاء في منشورهم فأي عدالة سماوية أو وضعية تبيح تقديمهم للمحاكمة تحت حشد من مواد القانون الوضعي الرجعي في آن واحد ثم يصدر الحكم ضدهم شرعياً حدياً بالتكفير والاعدام؟

    إن حكم الاعدام على الفكر السياسي ، هو الثمرة المرة للتجارة بالدين واستخدام الاسلام واجهة لتسلط حكم الفرد وبعث لاكثر تاريخ صفحات الدولة الاسلامية سواداً حيث يكفر الحاكم معارضيه الساسيين ،ويستبيح دماءهم . ويتسابق علماء السوء وقضاة الضلالة في تدبيج الفتاوي والاحكام لتبرير استبداد الحاكم . هذا ما يمارسه في سودان اليوم جعفر نميري والاخوان المسلمون وبطانة الشعوذة والدجل من أمثال ابوقرون والمهلاوي ، وبتشجيع من حكام السعودية وخدامهم من المنتفعين بمذهب الوهابية . ولكنهم تناسوا في غمرة تعطشهم لدحر معارضيهم ان الرأي العام السوداني المستنير قبر محكمة الردّة التي عقدوها عام 68 لتكفير الاستاذ محمود محمد طه )[9]

    وكتب الكاتب المصري ، والناشط في حقوق الانسان ، الاستاذ فتحي رضوان ( إن النظام رأى أن يحاكم رئيس الجماعة واتباعه امام محكمة انهت المحاكمة الخطيرة ، في هذه التهمة الفادحة في لمح البصر لإقامة نوع جديد من العدالة لم تشهده أمة مسلمة أو وثنية منذ عرف الناس العدل والقضاء والمحاكمة وتوجت هذه المحكمة بحكم قضى باعدام الخمسة .... ويشرف المواطن العربي ان يوجد بين اخوانه في هذا الوطن من يواجه طغيان الحاكم بثبات ورباطة جأش ، رافضاً ان يتعاون مع هذا الطراز من المحاكم والقضاة . وان يتمسك برأيه لا يخاف حتى حينما يصل الأمر للتهديد بالموت )[10]

    واصدرت المنظمة العربية ، لحقوق الانسان ، في مجلتها الدورية عدد فبراير 1985 ، ملفاً ، حوى اكثر من خمسين صفحة ، شمل تغطية واسعة ، للقضية واجراءات سيرها ، وكلمة الاستاذ امام المحكمة ، ومنشورات للجمهوريين ، وتعريف بالفكرة الجمهورية ، وردود فعل الحكم ..

    وجاء في جريدة الاهالي ( الى جانب ردود الافعال الداخليه الحادة فقد ادانت لجنة الحقوقيين الدولية شنق محمود محمد طه بدعوى خروجه على الشريعة الاسلامية ... وقد استنكرت وزارة الخارجية الامريكية ذاتها إعدام الرجل باعتباره انتهاكاً سافراً لحقوق الانسان .... واعربت أمانة اللجنة المركزية لحزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي عن استنكارها الشديد والشعور بالاشمئزاز إزاء الجريمة الشنعاء التي ارتكبها نظام نميري باعدام شيخ كبير من قادة التيار الاسلامي بالسودان هو الشيخ محمود محمد طه وأكدت الامانة ان جريمة النظام السوداني تعني كل مسلم بصفة عامة وكل مصري بصفة خاصة ودعت امانة اللجنة المركزية كل القوى الوطنية وجموع المواطنين للاعلان عن استنكارها لهذه الجريمة التي تتناقض مع ابسط حقوق الانسان وأقدس القيم العربية والحضارية )[11]

    وكتبت مجلة مرآة الأمة الكويتية ( لو اننا أخذنا بالمبررات والتهم التي ألصقت بالمرحوم الشيخ محمود محمد طه زعيم الاخوان الجمهوريين 76 سنة الذي اقتيد الى حبل المشنقة في السودان مكبلاً بالاصفاد والاغلال والقيود وعلق فيها وهو يبتسم ونزع الحبل روحه وهو يبتسم لانه لم يات أذى . لو اخذنا بهذه المبررات لأصبحت شريعة الغابة هي السائدة لا شريعة الاسلام السمحاء .... ولم يكف الجلادين في السودان قتل الشيخ المسن محمود محمد طه بل أحضروا من السجن رفاقه مكبلين بالاصفاد والقيود ايضاً ليشهدوا ... احضروا هؤلاء الرفاق مهددينهم بنفس المصير ان "لم يتوبوا" لا أقول اين اسلام المسوؤلين في السودان ؟ بل اقول اين المسلمين في كل مكان؟! رحم الله الشيخ محمود محمد طه الذي يرقد الآن هانئ البال مرتاح الخاطر في مكان جعلته السلطات السودانية مجهولاً حتى لا يكون للسودانيين مزاراً !! )[12].

    واوردت جريدة القبس الكويتية ، البيان الذي أصدره السودانيون العاملون بالكويت ، وجاء فيه (نحن السودانيين المقيمين بالكويت ، انطلاقاً من مبدأ الدفاع عن حرية الفكر وحق المواطن المشروع في التعبير عن آرائه السياسية ودفاعاً عن استغلال القضاء ، وحق المواطن في محاكمة عادله ندين ونستنكر حكم الإعدام الذي نفذ في المفكر الاسلامي الاستاذ محمود محمد طه رئيس حزب الجمهوريين بالسودان والبالغ من العمر 76 عاماً علماً بان المادة 247 أ من قانون الاجراءات الجنائية السوداني لعام 83 تنص على عدم جواز تنفيذ حكم الاعدام على من تجاوز السبعين عاماً من عمره )[13] .. كما اوردت (ان السودانيين المقيمين في الولايات المتحدة تظاهروا احتجاجاً على اعدام المفكر السوداني الاستاذ محمود محمد طه زعيم الاخوان الجمهوريين ورفع المتظاهرون مذكرة الى رئاسة الجمهورية سلمت للسفارة السودانية في واشنطون تطالب باطلاق سراح جميع المعتقلين والغاء القوانين الاسلامية واعادة هيبة وسلطان القانون وايقاف العمليات العسكرية في الجنوب)[14]

    وذكرت صحيفة العرب ، تحت عنوان "تعاطف الطبقات السياسية والمثقفة في السودان مع غاندي أفريقيا" ان مختلف المثقفين قد تعاطفوا مع (الاستاذ محمود واعوانه الذين حكم عليهم بالاعدام لاتهامهم بالكفر والتحريض على الاطاحة بالنظام وتوزيعهم منشوراً يطالب بالغاء قوانين سبتمبر 1983 )[15] ... واوردت صحيفة خليجية أخرى ، خلفية عن الفكر الجمهوري ، وعدائه التقليدي للاخوان المسلمين .. ونقلت مشهد الاعدام ، مع اسف اللجنة الدولية لرجال القانون ، في جنييف ، والبيت الابيض ، لتنفيذ الاعدام .[16]

    وجاء في صحيفة الصباح ( كنا نتصور ان هذا النوع من الابادة السياسية قد باد وولت عهوده الى غير رجعة ، ولكن ما يجري الآن على الساحة السياسية في دول اسلامية ينذر بالانتكاس لاعادة سلطوية التكفير العشوائي ورمي الناس بالكفر والزندقة كلما عارضوا حكماً او اعترضوا على موقف وتصفيتهم جسدياً والتخلص منهم بهذه الطريقة الظالمة التي لا تمت بصلة للاسلام دين التسامح والمحبة والحق والمجادلة بالتي هي احسن)[17]

    ونقلت وكالات الانباء ، ان مجلس العموم البريطاني ، عقد جلسة استثنائية ، ادان فيها إعدام الاستاذ محمود .. وذكر احد النواب ، ان هذه الجريمة البشعة ، قد خفضت من قيمة كل انسان على وجه البسيطة .. كما اعطى المجلس ، الفرصة لاحد الجمهوريين ، لالقاء كلمة ، فلم يستطع اكمالها ، واجهش بالبكاء .[18]


    (43)

    أما الاخوان المسلمين ، والفقهاء ، ورجال الدين ، فقد كان موقفهم ، موقف الشامت ، الفرح بهذه الجريمة المنكرة ، التي شاركوا فيها النظام مشاركة تامة .. فعبر عن ذلك طلاب الاتجاه الاسلامي ، في الجامعة ، في جريدتهم "آخر لحظة" .. ثم خارج الجامعة ، هللوا للحكم ، في جريدتهم "ألوان" .. وهاجموا المرحوم د. عبد الله الطيب بسبب قصيدته ، التي رثا بها الاستاذ محمود . كما دل على فرحهم ، التجمع الغوغائي ، والحشد الذي جمعوه بكوبر ، في يوم التنفيذ ، والمظاهرة التي قادوها بعده .. وقد شاركهم في ذلك الفقهاء ، وائمة المساجد ، حيث عبروا في خطب الجمعة، بمعظم مساجد العاصمة ، عن فرحتهم بهذه الجريمة ، واشادتهم بالقوانين الاسلامية ، التي لولاها ، ما حدثت !!

    اما د. الترابي ، زعيم الجبهة القومية الاسلامية ، والذي كان مستشاراً للنميري ، فقد حرض الأخير على الجريمة ، ودفعه في اتجاهها ، وبعد التنفيذ صرح لعدد من الصحف ، بسبب تأييده لتنفيذ الاعدام ، بقوله (محمود محمد طه لا يعرفه أهل السودان سياسياً، لأن دعوته دينية.. لانه رجل له قضية ، وقضيته ضد الدين ، الذي تعرفونه من الاسلام بالضرورة ) !! [19] ولم يكتف الترابي، بذلك التصريح ، وانما أصر على تكراره ، في اكثر من مناسبة ، فقال (ما دمت منفعلاً بديني فاني لا استشعر اية حسرة على مقتل محمود محمد طه . ان ردته اكبر من كل انواع الردّة التي عرفناها في الملل والنحل السابقة . وعندما طبق نميري الشريعة تصدى لمعارضته لانه رأى عندئذ رجلاً دينياً يريد ان يقوم بنبوة غير نبوته هو. واكلته الغيرة فسفر بمعارضته ولقي مصرعه غير مأسوف عليه البتة) .[20]

    على ان بعض الشخصيات البارزة ، في تنظيم الاتجاه الاسلامي ، عبرت عن عدم موافقتها ، على الجريمة التي ضلع فيها قادته .. فقد جرى الحوار التالي ، مع د. حسن مكي ، مؤرخ الحركة الاسلامية ، وعضوها البارز:

    س : قيل ان لك علاقة خاصة بمحمود محمد طه والبعض قال حسن مكي مأثور جداً بشخصية وافكار محمود ؟

    ج : والله .. انا من المأثوريين به . أنا كنت اعرفه واتردد على منزله في ذلك الوقت . وكنا كشباب في الثانويات نجد عنده "اللقمة" نتعشى معه وكنا نتعجب ان الشخص الذي يشغل الساحة الفكرية شخص بسيط زاهد ومتواضع ، وكان المفكر الوحيد المطروحة كتبه في السوق .

    س : وحينما أعدم ؟

    ج : كنت مسرحاً لافكار شتى - السياسي فينا كان يتكلم - ان الحمد لله ربنا خلصنا من خصم قوي .. وكان حيعمل لينا مشاكل وكان حيكون اكبر تحد لفكر الحركة الاسلامية السياسي -والفكري فينا كان يتحدث بان هذا الشخص عنده قدرات فكرية وروحية (واعلم مننا واحسن مننا) ولكن السياسي دائماً ما ينتصر هنا .

    س : والآن ؟

    ج : أنا بفتكر ان محمود محمد طه جرعة كبيرة لا نستطيع ان نتحملها (الناس ما قادرين يتحملوا حسن مكي بيتحملوا محمود محمد طه ؟؟! وضحك)

    س: لكن امين حسن عمر قال ان الترابي انتصر عنده الفكري على السياسي وكان ضد اعدام محمود؟!

    ج : أنا لا أريد ان ادخل ما بين الترابي وامين .. ولكن اعتقد ان الصف الاسلامي في ذلك الوقت كان جميعه مع إعدام محمود محمد طه .

    س : نحن نسأل عن موقف د. حسن الترابي؟

    ج : انا اعتقد ، انو كان خائف ، على انو نميري ينكص عن إعدام محمود محمد طه .. ويدعو الله ، الا يحدث ذلك ..[21]


    فاذا كان بعض اعضاء الاتجاه الاسلامي ، قد تبرأوا من وزر تلك الجريمة ، وحاولوا ان ينأوا بانفسهم ، الى معسكر الشرفاء الذين ادانوها ، فانه مما يؤسف له ، ان ينحاز مثقف مثل د. عبد الله علي ابراهيم ، الى معسكر التخلف ، فيشيد بالفقهاء ، ورجال الدين ، ويدعوا الى تطبيق قوانينهم ، التي كان من نتائجها ، ارتكاب هذه الجريمة الشنعاء !! ومع ان د. عبد الله ، لم يؤيد اعدام الاستاذ محمود ، الا انه ظل خلال سلسلة مقالاته ، يدعو الى القوانين ، التي يعلم انها حكمت بردته ، من قبل ، ويشيد بالفقهاء ، الذين كانوا مؤيديين لذلك الحكم ، حتى بعد ان تم تنفيذ الاعدام ، على الاستاذ محمود!!

    واسوأ من العجز عن الربط بين القوانين الاسلامية المزعومة ، ونتائجها البشعة ، ما درج عليه د. عبد الله من محاولة تبرأة الاتجاه الاسلامي ، من اغتيال الاستاذ محمود !! فقد قدم ورقة ، من قبل ، عنوانها "من الذي قتل محمود ؟" في مؤتمر الدراسات السودانية ، برأ فيها الترابي وقبيله ، من الضلوع في هذه الجريمة !!


    (44)

    ورغم ان حكم قضاة نميري ، وفقهاؤه ، قد ادين سياسياً ، بواسطة الشعب السوداني ، الذي اسقط النظام بعد 76 يوماً ، من تنفيذ الاعدام على الاستاذ محمود ، الا انه كان لابد من ادانة الجريمة قانونيا ً ، لانها ارتكبت باسم القانون ، فالحقت به العار ، الذي لا يمحى ، الا بالغاء هذا الحكم الجائر ..

    في 25 فبراير 1986، رفعت الاخت الاستاذة اسماء محمود ، والاخ الاستاذ عبد اللطيف عمر ، عريضة دعوى، تطالب باعلان بطلان اجراءات المحاكمة . ولقد رفعت الدعوى ضد حكومة جمهورية السودان، الى المحكمة العليا، الدائرة الدستورية ، وتم نظرها بواسطة السادة القضاة :

    السيد محمد ميرغني مبروك رئيساً

    السيد هنري رياض سكلا عضواً

    السيد فاروق احمد ابراهيم عضواً

    السيد حنفي ابراهيم محمد عضواً

    السيد زكي عبد الرحمن عضواً

    السيد محمد حمزة الصديق عضواً

    السيد محمد عبد الرحيم علي عضواً

    وكانت هيئة الادعاء ، التي تولت رفع الدعوى ، مكونة من السادة المحامين :

    د. بيتر نيوت كوك

    الاستاذ عبد الله الحسن

    الاستاذ عابدين اسماعيل

    الاستاذ طه ابراهيم

    الاستاذ جريس اسعد

    الاستاذ محمود حاج الشيخ

    ولقد بنى السادة المحامون ، دعواهم للمطالبة بالغاء الحكم ، على الحجج التالية :

    1- أن تعيين قاضي الموضوع ، كان باطلاً لعدم استيفائه لشروط المواد 20-29 من قانون الهيئة القضائية لسنة 1405 هجرية . مما يترتب عليه بطلان الحكم الصادر منه ، وذلك ان المادة 16 (أ) من قانون الهيئة القضائية لسنة 1405 هجرية ، وان كانت تجيز لرئيس الجمهورية السابق سلطة تكوين محاكم جنائية ، الا انها حجبت عنه سلطة تعيين القضاة الجالسين بها.

    2- ان قاضي الموضوع ، وان كان قد وضع المادة (3) من قانون أصول الاحكام القضائية لسنة 1983 كتهمة، الا انه لم يوجه صراحة تهمة الردّة الى المتهمين أمامه ، وانما إستخلصها انصياعاً لرغبة الرئيس السابق ، وذلك لانه رغم استناده الى نصوص قانون العقوبات وقانون أمن الدولة ، فقد منح المتهمين مهلة للتوبة الى ما قبل تنفيذ الحكم .

    3- ان قاضي الموضوع ، قد نصب نفسه مشرعاً ، حينما اشار الى تهمة تحت المادة (3) من قانون اصول الاحكام القضائية لسنة 1983 ، رغم ان ذلك القانون ليس عقابي ، ويخلو من أية نصوص تجرم أفعالاً أو تضع لها عقوبات.

    4- انه قد تم العثور على مذكرة مدسوسة بالمحضر ، صاغها شخص مجهول ، ليستعين بها قاضي الموضوع ، في اصدار حكمه . مما يتبين منه ، ان هنالك أكثر من جهة ، كانت تسعى لصياغة حكم المحكمة ، على نمط معين ، وكتدبير اجرامي للوصول الى إعدام المتهمين.

    5- ان تكوين محكمة الاستئناف الجنائية ، بواسطة رئيس الجمهورية السابق ، كان اجراء غير قانوني وباطلاً، اذ قصرت المادة 16 (أ) من قانون الهيئة القضائية لسنة 1405 هجرية ، سلطاته في تكوين المحاكم الجنائية ، دون محكمة الاستئناف ، التي تستمد صحة تكوينها من المادة 18 من ذلك القانون.

    6- ان تشكيل محكمة الاستئناف ، من ثلاثة قضاة ، كان يتعارض وصريح المادة 11 (ه) من قانون الهيئة القضائية لسنة 1405 هجرية ، والتي تنص على ان يباشر اختصاص محكمة الاستئناف قاض فرد.

    7- انه يترتب على تكوين وتشكيل محكمة الاستئناف على النحو السالف بيانه ، بطلان الحكم الصادر منها.

    8- ان محكمة الاستئناف التي كونها رئيس الجمهورية السابق ، وعين قضاتها بقرار جمهوري ، لم تكن مختصة بسلطة تأييد احكام الاعدام . وانما كان الاختصاص بذلك ، ينعقد للمحكمة العليا وحدها ، عملاً بنص المادة (234) من قانون الاجراءات الجنائية لسنة 1983 ، وعليه فان تأييد رئيس الجمهورية لحكمها ، كان باطلاً ، حيث لا يرقى ذلك القرار الى مرتبة التشريع من جانب، كما وليس له قوة الغاء سلطات المحكمة العليا من جانب آخر . وبذلك فان ما اسبغه من اختصاص على محكمة الاستئناف ، لا يجرد النصوص الواردة في قانوني العقوبات ، والاجراءات الجنائية لسنة 1983 ، من قوة الزاميتها او يحول دون وجوب تطبيقها.

    9- ان تنفيذ حكم الاعدام ، قبل تأييده من جانب المحكمة العليا ، يتطابق وجريمة القتل العمد، لما يشكله ذلك من اهدار واضح وصريح لنص المادة (246) من قانون الاجراءات الجنائية لسنة 1983 .

    10- ان تنفيذ حكم الاعدام ، على والد المدعية الاولى ، رغم تجاوز عمره للسبعين عاماً ، كان فعلاً مخالفاً لنص المادة (247) من قانون الاجراءات الجنائية لسنة 1983. وانه لا مجال للتجاوز عن الالتزام بتطبيق هذا النص ، بحجة الاستناد الى قانون اصول الاحكام القضائية لسنة 1983 حيث انه نص صريح لا يحتمل أي تفسير مغاير أو تأويل .

    11- انه وبالرغم من قانون العقوبات لسنة 1983، لم يتضمن في نصوصه ما يسمى بجريمة الردّة- وهي جريمة ان صحت- لم توجهها محكمة الموضوع الى المواطن محمود محمد طه ، وانما استحدثتها محكمة الاستئناف ، بالاستناد اولاً الى قانون أصول الاحكام القضائية لسنة 1983 ، وثانياً الى اقوال المتهم الاول في يومية التحري وافكاره المعروفة ، والى حكم غيابي صدر ضده عام 1968 ، من محكمة شرعية غير مختصة ، والى اقوال من اسمتهم محكمة الاستئناف بعلماء الاسلام في السودان ، وغيره من البلاد العربية ، وكان على محكمة الاستئناف في هذه الحالة ، أما ان تعيد الاوراق الى محكمة الموضوع لاعادة المحاكمة في ضوء هذه التهمة ، أو ان تمارس بنفسها اجراءات اعادة المحاكمة.

    12- انه وبفرض ان الحكم الغيابي ، الصادر من المحكمة الشرعية في 1968 ، كان صحيحاً ، فان محاكمة المواطن محمود محمد طه للمرة الثانية ، تشكل مخالفة صريحة لنص المادة 118 (1) من قانون الاجراءات الجنائية لسنة 1983 ، والتي لا تجيز محاكمة المتهم للمرة الثانية ، عن جريمة ادين فيها أو برئ منها ، كما وان ذلك ينطوي على إهدار كامل لنص المادة (71) من دستور عام 1973 ، الذي كان سارياً وقتها ، وهي المادة التي لا تجيز محاكمة شخص مرتين على فعل جنائي واحد.

    13- ان جميع الاوامر التي اصدرتها محكمة الاستئناف ، كعدم الصلاة على جثمان المواطن محمود محمد طه ، وعدم دفنه بمقابر المسلمين ، ومصادرة كتبه ومطبوعاته ، واعتبار امواله فيئاً للمسلمين ، بحيث صودر بيته لصالح الدولة ، كلها تنطوي على عقوبات ليس لها مكان في قانون العقوبات ، كما وانها تتعارض مع حقوقه الشرعية.

    14- ان محاكمة المواطن محمود محمد طه بجريمة سميت بجريمة الردّة ، تعد انتهاكاً لحق المتهم الدستوري ، المكفول له بموجب المادة (70) من دستور عام 1973 ، والتي تنص على عدم جواز معاقبة أي شخص عن جريمة ما ، لم يكن هناك قانون يعاقب عليها وقت ارتكابها ، وهو حق اكدته المادة (27) من الدستور الانتقالي لسنة 1985 .

    15- ان محكمة الاستئناف بقيامها بدور الاتهام ، تكون قد فقدت حيدتها ، ونزاهتها ، واستقلاليتها مهدرة بذلك احكام المادتين (61) و (185) من دستور عام 1973 .

    16- ان رئيس الجمهورية السابق ، قد نصب نفسه كجزء من السلطة القضائية ، واجرى محاكمة جديدة للمواطن محمود محمد طه . وذلك لما اشتمل عليه بيانه الصادر بتاييد الحكم ، من وقائع تشير الى انه كان يمارس سلطات قضائية ، وليس عملاً من اعمال السيادة ، اذ نص البيان صراحة ، على ان قرار التاييد قد بني بعد دراسة لمحضر القضية، وبيناتها ، ومستنداتها مستعيناً بالله ، وكتب الفقه والقانون ، وهو ما يشكل تغولاً صارخاً على اختصاصات السلطة القضائية ، والتي قرر لها الدستور استقلالاً كاملاً عن بقية السلطات.

    17- ان محكمة الموضوع ، رغم عدم اشارتها في الحكم الابتدائي الى أية مستندات مرفقة بمحضر الدعوى الجنائية ، الا انه يتضح من بيان رئيس الجمهورية السابق ، ان محكمة الاستئناف قد قامت بدس مستندات بذلك المحضر ، لم تكن معروضة امام محكمة الموضوع ، مما يشكل تزويراً للمحضر.

    18- انه لا سند في أي قانون ساري المفعول ، لانعقاد جلسة 19/1/1985 والتي تلت اجراءات الاستتابة ، وان قانون العقوبات أو اي قانون آخر لا يتضمن العقوبات والاوامر والاحكام التي اصدرتها محكمة الموضوع في تلك الجلسة.

    19- ان ما كان يقوم به المواطن محمود محمد طه من نشاط ، لم يكن الا ممارسة لحقه الدستوري في التعبير عن عقيدته وفكره ورأيه بالطرق السلمية ، دون ان يشهر سلاحاً في وجه أحد ، أو يقهر انساناً على قبول عقيدته . وان محاكمته على ذلك النشاط ، يشكل اهداراً لاهم حقوقه الاساسية والدستورية ، ومن ثم ، تكون محاكمته مع غيره من المتهمين باطلة ، وغير دستورية لمخالفتها لاحكام المادتين (47) و(48) من دستور عام 1973، والتي تكفل الاولى منها للمواطن حرية العقيدة والتعبيرواداء الشعائر الدينية دون اخلال بالنظام العام أو الآداب ، في حين تكفل الثانية حرية الرأي والحق في التعبير عنه ونشره بالكتابة والخطابة . وان الدستور الانتقالي لسنة 1985 قد تبنى الحقوق الواردة في هاتين المادتين ، وذلك بالنص عليهما في المادتين (18) و (19) منه .[22]


    (45)

    ولقد طلبت المحكمة ، من النائب العام ، باعتباره ممثل الحكومة ، ان يرد على مذكرة الادعاء المرفوعة بواسطة المحامين ، فجاء ردّه كالاتي :

    1- نعترف بان المحاكمة لم تكن عادلة ولم تتقيد باجراءات القانون.

    2- ان المحاكمة اجهاض كامل للعدالة والقانون.

    3- لا نرغب في الدفاع اطلاقاً عن تلك المحاكمة.[23

    ولقد جاء في قرار المحكمة :

    ان اول ما تثيره عريضة الدعوى هو ان تشكيل المحكمة الجنائية رقم (4) التي أصدرت حكم الاعدام وقع باطلاً، لما اتصف به قرار التشكيل من تجاوز للقانون الذي صدر ذلك القرار بموجبه . وفي بيان ذلك تقول العريضة ، ان قرار التشكيل ( وهو القرار الجمهوري رقم 35 لسنة 1405 هجرية) استند الى المادة 16 (أ) من قانون الهيئة القضائية لسنة 1405 هجرية ، بينما تلك المادة وان كانت تضفي على رئيس الجمهورية السابق ، سلطة تشكيل محاكم ، الا انها لم تخوله سلطة تعيين القضاة الجالسين فيها ، حيث ان التعيينات القضائية مما تنظمها مواد أخرى في القانون هي المواد من 20-29 شاملة .

    وما تذهب اليه هيئة الادعاء في هذا الشأن صحيح بلا ريب فيما لو كان محل الاعتبار هو الشكل دون غيره ، الا انه ، وبالنظر الى ما اشتمل عليه قانون الهيئة القضائية لسنة 1405 هجرية من سلطات استثنائية لرئيس الجمهورية السابق في التعيينات القضائية كالمادة 29 (ب) ، فان تعيين احد القضاة العاملين في الهيئة القضائية في محكمة بذاتها يصبح مخالفة شكلية لا تمس جوهر السلطات التي استأثر بها رئيس الجمهورية السابق بنصوص صريحة في القانون . ويترتب على ذلك ان تصبح الاشارة في القرار الجمهوري رقم 35 لسنة 1405 هجرية للمادة 16 (أ) خطأ شكلياً ينبغي عدم اضفاء وزن عليه . ولعل هيئة الادعاء قد تبينت ذلك منذ البداية ، اذ انها استطردت بحجة بديلة قوامها انه حتى اذا كان تعيين القاضي الجالس في المحكمة رقم (4) صحيحاً فان هناك ما يدل على انه حين قام بتوجيه تهمة بموجب المادة (3) من قانون أصول الاحكام ، فعل ذلك بتوجيه خارجي ، مما يلقي ظلالاً على حيدته ، ومن ثم ، ينعكس على إجراءات المحاكمة وما تمخض عنها من حكم ويضيف مخالفة جديدة الى المخالفات التي انطوت عليها تلك المحاكمة .

    واننا وان كنا نرى ان مع هيئة الادعاء، في الاضطراب الذي يكشف عنه محضر الدعوى الجنائية وفي الاسلوب الذي تم به تعيين قاضي المحكمة ، ما لا يدعو للاطمئنان على تجرد تلك المحكمة ، الا اننا ، وفي ذات الوقت ، لا نجد سنداً قانونياً لما انتهت اليه هيئة الادعاء من نتيجة ، اذ ان ما تدعيه الهيئة في هذا الصدد امر يتعلق بالوقائع التي لا اثر في المحضر لادلة تثبتها ، ولا يكفي بشأنها اقرار النائب العام ، طالما كانت تلك الوقائع مما يرتب اثراً على اشخاص لا يدخلون في نطاق من يمثلهم النائب العام في هذه الدعوى ، وعلى ذلك فان اقراره يكون مردوداً عليه بانعدام صفته القانونية في اطلاق مثل هذا القرار.


    يبقى من عريضة الدعوى فيما تعيبه على المحكمة الجنائية ان تلك المحكمة قامت باضافة المادة (3) من قانون اصول الاحكام الى المواد التي وجهت تهماً جنائية بموجبها . وترى هيئة الادعاء في هذا اولاً ، انه ، ونظراً الى ان قانون اصول الاحكام ليس قانوناً عقابياً ، فان المحكمة تكون قد اضفت على نفسها صفة تشريعية لم تكن تتمتع بها بطبيعة الحال ، وثانياً ، انه ، ومهما كان وجه الرأي فيما تقدم ، فان المحكمة ، وفيما انتهى اليه حكمها ، باستتابة المحكموم عليهم ، تكون قد اوحت بان المحكموم عليهم ادينوا بتهمة الردّة بينما لم توجه اليهم تهمة كهذه في واقع الامر .

    ولما كان هذا النعي في شقه الاول هو جوهر ما تستند اليه الدعوى فيما يتعلق بواقعة توجيه تهمة الردّة صراحة في مرحلة التأييد في محكمة الاستئناف ، فانه من غير المناسب ان نتصدى للمسألة في هذه المرحلة حيث يكون النظر فيه اكثر ملاءمة في ضوء الاسباب التفصيلية التي وردت حول الاخطاء التي وقعت في مرحلة التأييد . أما فيما يتعلق بالشق الثاني ، فانه يكفي للفصل فيه ان نحيل هيئة الادعاء الى ما قررته بنفسها من ان ما صدر عن المحكمة الجنائية لا يعدو ان يكون مجرد تضمين للمادة (3) المشار اليها من مواد الاتهامات دون توجيه تهمة محددة بموجبها. وفي ذلك في تقديرنا ما يجعل الاشارة الى الاستتابة في نهاية تلك المحكمة مجرد تزيد لا معنى له طالما وردت الادانة بموجب مواد قانون العقوبات وقانون أمن الدولة وحدها، فالقول بغير ذلك فيه تحميل للحكم ما لا يتضمنه صراحة ، اهداراً للقواعد القانونية والمألوفة في اصدار الاحكام والتي تسري على وجه الخصوص على الاحكام الجنائية التي تقوم على قرينة البراءة ومبدأ تفسير الشك لمصلحة المتهم ..........

    على انه يجمل القول ، ومهما كان وجه الرأي فيما يتعلق بتلك العيوب انه يبين من مطالعة اجراءات محكمة الاستئناف تلك ، انها انتهجت نهجاً غير مألوف واسلوباً يغلب عليه التحامل مما جعل الاطمئنان الى عدالة حكمها أمراً غير ميسور وعرضة للمعايير السياسية التي لا شان لها بالاحكام القضائية . لقد تم تشكيل محكمة الاستئناف الجنائية بموجب القرار الجمهوري رقم 35 لسنة 1405 هجرية ذاته الذي شكلت بموجبه المحاكم الجنائية وقد استند القرار فيما اوضحنا من قبل، على المادة 16 (أ) من قانون الهيئة لسنة 1405 هجرية وذلك على الرغم من ان تلك المادة خالية من أي اشارة الى سلطة في تشكيل محاكم استئناف واقتصرت على المحاكم الجنائية دون غيرها...........

    على اننا لا نرى مناصاً من الاتفاق مع هيئة الادعاء في ان محكمة الاستئناف ، وخلافاً لكل ما كان مأمولاً في تشكيلها ، انحدرت الى درك من الاجراءات المستحدثة انتهت بها في نهاية الامر الى اصدار حكم جديد لا صلة له بالحكم الذي عرض عليها للتأييد .......

    ان محكمة الاستئناف ، وفيما نوهنا به ، اشتطت في ممارسة سلطتها على نحو كان يستحيل معه الوصول الى حكم عادل تسنده الوقائع الثابته وفقاً لمقتضيات القانون . ويبين ذلك جلياً مما استهلت به المحكمة حكمها حين قالت :

    " ثبت لدى محكمة الموضوع من اقوال المتهمين ومن المستند المعروض امامها وهو عبارة عن منشور صادر من الاخوان الجمهوريين ان المتهمين يدعون فهماً جديداً للاسلام غير الذي عليه المسلمون اليوم ... الخ " .. وبمراجعة المستند المشار اليه واقوال المتهمين التي ادلوا بها امام المحكمة الجنائية لا نجد سنداً لهذه النتيجة الخطيرة التي نفذت اليها محكمة الاستئناف مما يكشف عن حقيقة واضحة هي ان المحكمة قد قررت منذ البداية ان تتصدى بحكمها لفكر المتهمين وليس لما طرح امامها من اجراءات قامت على مواد محددة في قانون العقوبات وامن الدولة وأدى الى تحريكها منشور محرر في عبارات واضحة لا تقبل كثيراً من التأويل .

    وسرعان ما انكشف امر المحكمة ، حين وقعت عينها على ما ورد في حكم المحكمة الجنائية من اشارة الى "التوبة" فأعتبرت ذلك "اشكالاً" لا بد لها من ان توجد له حلاً "لأن التوبة ليس منصوصاً عليها في العقوبة المذكورة ( تعني عقوبة الاعدام التي اصدرتها المحكمة الجنائية ) ولعل محكمة الموضوع جعلتها من قبيل المسكوت عنه الذي يجوز الحكم به وفق المادة (3) من قانون اصول الاحكام لما لاحظت في المنشورات ( هكذا بالجمع) موضوع البلاغ من العبارات الموجبة للردّة فحكمت عليهم بالعقوبة الشاملة لحد الردّة مع إعطائهم فرصة التوبة والرجوع الى الصراط المستقيم". واستطردت المحكمة بقولها: "ولكي نقوم هذا القرار التقويم الصحيح لا بد من الاجابة على سؤالين: الاول ، هل الردّة معاقب عليها في القانون؟ والثاني ، هل كان فعل محمود ومن معه يشكل ردّة وخروجاً على الدين؟"

    وفي السؤال الاول خلصت المحكمة الى ان المادة (3) من قانون اصول الاحكام "تعطي حق الحكم في الأمور المسكوت عنها" وان الردّة جريمة ثابته بالكتاب والسنة والاجتهاد ، وان المادة 458 (3) من قانون العقوبات تبيح توقيع العقوبة الشرعية ولما كانت الردّة حداً شرعياً فانه يلزم توقيع عقوبتها.

    أما بالنسبة للسؤال الثاني ، فقد استهلت المحكمة الاجابة عليه بقرار جازم بان "المحكموم عليه محمود محمد طه (هكذا وحده) مرتد باقواله وأفعاله في يومية التحري التي اقر بها امام المحكمة واقواله المدونة المعروفة لدى الناس عامة وافعاله الكفرية الظاهرة فهو تارك للصلاة لا يركع ولا يسجد ..الخ"

    ثم استشهدت المحكمة بحكم محكمة الاستئناف الشرعية بالخرطوم الذي صدر عام 1968 باعلان ردّة محمود محمد طه واستعرضت بعضاً مما جاء في كتب الجمهوريين وما صدر من المجلس التأسيسي لرابطة العالم الاسلامي من تأييد لحكم عام 1968 وما صدر من مجمع البحوث الاسلامية بجمهورية مصر العربية من وصف لفكر محمود محمد طه "بالفكر الملحد" وخلصت محكمة الاستئناف الجنائية من كل ذلك الى انه "مما تقدم يتضح ان محمود محمد طه مرتد عن الدين ليس فقط ردّة فكرية فردية وانما هو مرتد بالقول والفعل داعية الى الكفر معارض لتحكيم كتاب الله ..."

    ولعلنا لا نكون في حاجة الى الاستطراد كثيراً في وصف هذا الحكم فقد تجاوز كل قيم العدالة سواء ما كان منها موروثاً ومتعارف عليه ، او ما حرصت قوانين الاجراءات الجنائية المتعاقبة على النص عليها صراحة ، او انطوى عليه دستور 1973 الملغى رغم ما يحيط به من جدل .

    ففي المقام الاول اخطأت محكمة الاستئناف فيما ذهبت اليه من ان المادة (3) من قانون اصول الاحكام لسنة 1983 كانت تبيح لها- اولأي محكمة أخرى - توجيه تهمة الردّة .....

    انه مما لا جدال عليه ان قانون اصول الاحكام لا يشمل هو الاخر على نص صريح على جريمة اسمها الردّة (او حتى اي جريمة أخرى) اذ ان ذلك القانون ليس قانوناً عقابياً من حيث المبدأ ... غير ان تطبيق المادة وفي مرحلة التأييد يضيف عيباً جديداً هو ان اشتطاط المحكمة لا يكون قد وقف عند حد اغفال التقاليد القضائية التي سادت هذه البلاد عبرالسنين الطويلة فحسب ، وانما أيضاً يكون قد امتد الى مخالفة النصوص الصريحة لقانون الاجراءات الجنائية الذي يحكم اجراءات التأييد ، اذ لا سند في المادة 238 من ذلك القانون التي تحدد سلطات جهة التأييد لما اتخذته محكمة الاستئناف من اجراء .

    على ان محكمة الاستئناف لم تكن عابئة فيما يبدو بدستور او قانون اذ انها جعلت من اجراءات التأييد التي ظلت تمارسها المحاكم المختصة في سماحة واناة وبغرض مراجعة الاحكام مراجعة دقيقة وشاملة ، محاكمة جديدة قامت المحكمة فيها بدور الخصم والحكم مما حجبها عن واجبها حتى بفرض صحة توجيه تهمة جديدة في هذه المرحلة في ان تعيد الاجراءات مرة اخرى لمحكمة اول درجة لاعادة المحاكمة بموجب التهمة الجديدة وذلك فيما تقضي به المادة (238) (ه) من القانون أو ان تتجه الى سماع المحكوم عليهم بنفسها وفاء بواجبها في ذلك بموجب المادة (242) من القانون ذاته ، التي ، وان كانت ترد في صيغة تقديرية ، الا انها تأخذ شكل الالزام عندما يكون السماع ضرورياً . ولا نرى ضرورة توجب السماع اكثر من ان يكون الحكم الذي تقرر المحكمة اصداره بالردّة التي عقوبتها الاعدام .

    ومهما كان من امر النصوص القانونية ، فان سماع المتهم قبل ادانته ، مبدأ ازلي لم يعد في حاجة الى نص صريح بل تأخذ به كافة المجتمعات الانسانية على اختلاف عناصرها وأديانها باعتباره قاعدة مقدسة من قواعد العدالة الطبيعية.

    وقد كان منهج محكمة الاستئناف اكثر غرابة ، حين استندت في حكمها على مسائل ليس من شأنها ان تقوم مقام الادلة التي يجوز قبولها قانوناً . ومن ذلك ما اشارت اليه تلك المحكمة من الاقوال "المعروفة للناس عامة" والافعال "الكفرية الظاهرة" في ترك الصلاة وعدم الركوع والسجود .. وما الى ذلك مما لا يتعدى في احسن حالاته الاقوال النقلية والعلم الشخصي وليس في أي منهما ما يرقى الى الدليل المقبول قانوناً ( راجع المادتين 16 و35 من قانون الاثبات لسنة 1983) .

    ولم تكتف المحكمة في مغالاتها بهذا القدر ، وانما تعدته الى الاستدلال بقرارات وآراء جهات لا سند في القانون للحجية التي اضفتها المحكمة على اصداراتها ، اما حكم محكمة الاستئناف الشرعية العليا التي عولت عليه محكمة الاستئناف الجنائية كثيراً ، فانه يستوقفنا فيه انه حكم وطني يلزم استبيان حجيته نظراً الى ما يمكن ان تثيره طبيعته الوطنية من تساؤل حول تلك الحجية . والحكم المشار اليه صدر في 18/11/ 1968 في القضية 1035 /68 حيث قضت محكمة الاستئناف الشرعية العليا بالخرطوم باعلان محمود محمد طه مرتداً . وأول ما تجدر ملاحظته في شأن ذلك الحكم انه صدر حسبة كما وقع غيابياً ، والسؤال الذي يفرض نفسه هو ما اذا كان في ذلك ما يقوم مقام الحكم الجنائي بالردّة ؟

    وفي تقديرنا ان الاجابة القطعية ان ذلك الحكم لا يستحق هذه الصفة وذلك لان المحاكم الشرعية – ومنها محكمة الاستئناف الشرعية العليا في ذلك الوقت – لم تكن تختص باصدار احكام جنائية ، بل كانت اختصاصاتها مقتصرة على مسائل الاحوال الشخصية للمسلمين من زواج وطلاق وميراث وما الى ذلك مما كانت تنص عليه المادة الخامسة من قانون المحاكم الشرعية لسنة 1967 الساري وقتئذ (وليست المادة 6 من قانون 1902 فيما تشير اليه هيئة الادعاء ) .

    وابلغ دليل على عدم اختصاص المحكمة الشرعية فيما اصدرته من حكم ان ذلك الحكم جاء غيابياً فما نحسب ان محمود محمد طه كان حصيناً من سلطة الاجبار التي كانت تتمتع بها المحكمة فيما لو كانت محكمة ذات اختصاصات جنائية . كما يقف دليلاً على عدم الاختصاص ان المحكمة لم تجد سبيلاً لتنفيذ الحكم لا في ذلك الوقت ولا في أي وقت لاحق وهو ما لم يكن يحول دونه غياب المحكوم عليه خاصة وان للحكم عقوبة مقررة شرعاً هي أعلى مراتب العقوبات المدنية ......

    على انه ومهما كان وجه الرأي بشأن سلطات محكمة الاستئناف الجنائية ، فانه طالما ظلت المادة (234) من قانون الاجراءات قائمة ونافذة ، فانه كان ينبغي عرض الاحكام الصادرة ضد محمود محمد طه وزملائه على المحكمة العليا سواء قبل تاييدها في محكمة الاستئناف الجنائية او بعد ذلك... لم تقتصر مخالفات محكمة الاستئناف الجنائية ( التي استقلت بسلطة التأييد) في اصدار حكم بالردّة ، وانما امتدت الى تأييد أحكام الاعدام التي صدرت ترتيباً على الادانة بموجب قانون العقوبات وامن الدولة . وهذا التأييد ، وان كان محمولاً على اسباب هي في ظاهرها اقتناع المحكمة بثبوت الادانة وتناسب العقوبة ، الا انه في واقع الامر محمول على الردّة التي استحوذت على جل ، ان لم يكن كل ، اهتمام محكمة الاستئناف الجنائية .

    وقد ترتب على استقلال محكمة الاستئناف بسلطة التأييد على هذا الوجه ان فات على المحكمة العليا ، ليس فقط حصر الادانة – ان كان ثمة ما يسندها- في الاتهامات الموجهة بموجب قانوني العقوبات وامن الدولة دون غيرهما ، وانما أيضاً ان تقصر العقوبة على ما كان يتناسب وفعل المحكوم عليهم وهو فيما نعلم لا يتعدى اصدار منشور يعبر وجهة نظر الجمهوريين في قوانين كانت ، وما زالت ، محلاً للاراء المتباينة على الساحتين الدولية والمحلية ، مما لا يعدو ان يكون مخالفة شكلية (ان كانت كذلك اصلاً) لا تتناسب عقوبة الاعدام جزاء لها. غير ان محكمة الاستئناف وفي محاولة متعجلة لربط الفعل بقناعتها المسبقة في ردّة المحكوم عليهم ، انتهت الى تأييد حكم الاعدام كعقوبة "شاملة" فيما اسمتها.

    على ان الاثار المترتبة على حجب الاجراءات عن المحكمة العليا وحصرها في محكمة الاستئناف الجنائية ، اتخذت شكلها المأساوي حين تم تنفيذ حكم الاعدام على محمود محمد طه ، باغفال تام لنص المادة (247) من قانون الاجراءات الجنائية ، رغم انه كان من الثابت انه جاوز السبعين من عمر وقتئذ . ولعلنا لا نتجنى على الحقيقة لو اننا قلنا ان تنفيذ الحكم ما كان ليتم لولا ان محكمة الاستئناف اضافت الادانة بالردّة ، وهو ما لم يكن ليصدر اصلاً فيما لو كانت الاجراءات قد عرضت على المحكمة العليا بدلاً من ان تستقل محكمة الاستئناف باجراءات التأييد لتنتهي الى ذلك الحكم من خلال المخالفات القانونية والدستورية التي تناولناها فيما تقدم .

    هذا ما كان من امر ما تم باسم القضاء ، اما ما صدر من رئيس الجمهورية السابق عند التصديق على الاحكام فانه يكفي لوصفه ان نقرر انه مجرد من أي سند في القوانين والاعراف ولا نرى سبباً للاستطراد فيه باكثر من ذلك عما فيه من تغول على السلطات القضائية فقد كاد ان يعصف بها كلها من قبل ....

    ولما كان الحكم الصادر في حق المدعيين مشوباً بكل العيوب التي تم تفصيلها فيما تقدم ، فان اجراءات ما سميت بالاستتابة تكون قائمة على غير ما ضرورة قانونية وذلك فضلاً عن افتقارها لأي سند صريح أو ضمني القانون. غير انه يجمل ان نقرر من باب الاستطراد ان تلك الاجراءات وقعت بقهر بين للمحكوم عليهم نظراً الى الظروف التي تمت فيها حيث لم يكن من المتصور عقلاً ان يمتنع المحكوم عليهم عن اعلان التوبة التي طلبت منهم وسيف الاعدام مشهور في وجوههم فكان ذلك اقرار ضمني بحكم الردّة الذي صدر من وراء ظهورهم . وحيث ان ذلك الحكم قد وقع باطلاً على ما سبق تقريره فانه يترتب على ذلك بداهة ان تكون التوبة التي صدرت بالاكراه خالية من أي معنى هي الاخرى ....

    وعلى هدى من ذلك تقرر هذه الدائرة ما يلي :

    1- اعلان بطلان الحكم الصادر في حق المواطنين محمود محمد طه والمدعي الثاني في هذه الدعوى من المحكمة الجنائية ومحكمة الاستئناف .

    2- الزام المدعين برسوم واتعاب المحاماة في هذه الدعوى .[24


    (46)

    لقد طبقت القوانين الاسلامية ، في السودان ، على عهد نميري ، فلم يتحقق بتطبيقها الخير والرخاء ، الذي وعد به نميري ، وحلفاؤه من الجماعات الاسلامية ، والفقهاء ، والقضاة الشرعيين ، وائمة المساجد .. بل ان الشعب نال على يديها ، القهر ، والقطع ، والجلد ، دون ان يتحقق العيش الكريم . ولم يجمع الشعب السوداني ، مثلما اجمع على بغض ورفض ، تلك القوانين الاسلامية المزعومة ، حتى ان زعماء الطائفية ، ممن كانوا يرفعون شعارات الشريعة ، ادانوا تلك القوانين ، فذكر السيد الصادق ، بانها لا تساوي المداد الذي كتبت به ، ووعد بالغائها ضمن حملته الانتخابية !!

    وجاءت حكومة الانقاذ ، بدعاوى عريضة في الاصلاح ، والتوجه الحضاري ، بناء على تطبيق القوانين الاسلامية ، فلم تنجح في انقاذ الشعب ، بل فاغمت من مشاكله ، ودفعها التعصب الى تلك القوانين ، الى تصعيد الحرب باسم الجهاد ، ولم يكن العائد الا الخراب والدمار ..

    وتجري ، الآن ، المفاوضات التي لم تنهض فيها الحكومة بحجة ، على ان القوانين الاسلامية ، كما طبقها نميري أو حكومة الجبهة ، قد ادت الى خير الشعب .. بل ان الحكومة الحالية ، قد وافقت على عدم تطبيق هذه القوانين على غير المسلمين !! وهو اعتراف صارخ ، بانها لو طبقت على غير المسلمين ، لن توفر العدالة المنشودة .. وهذا الاعتراف الذي اضطر له الاسلاميون ، مؤخراً ، يشهد بان قوانينهم الاسلامية عاجزة بطبيعتها ، عن قيم المساواة بين المسلمين وغير المسلمين !! وهذا ، في حد ذاته ، كاف لجعلها قوانين غير مؤهلة للحكم في المجتمعات المتعددة الاديان والثقافات .. وهي سمة المجتمعات المعاصرة ، بعد ان وحدت سرعة المواصلات وتقدم سبل الاتصالات ، بين ارجاء هذا الكوكب الرحب ، فاصبح قرية صغيرة !!

    نخلص مما تقدم ، الى انه لا أحد ، ولا حتى الاسلاميين انفسهم ، يرى في القوانين الاسلامية ، على مستوى الشريعة ، النموذج الامثل ، الذي ينبغي ان يحكم كل الشعب السوداني !! فاذا جاء مثقف سوداني ، عرف بانتمائه الى الافكار التقدمية واليسارية، يوما ما ، ليطرح في هذا الوقت بالذات ، بان القوانين الاسلامية كان ينبغي ان تطبق منذ ان جلا الاستعمار ، وان رموز هذه القوانين من الفقهاء ، ورجال الدين ، والقضاة الشرعيين ، يجب ان يكرموا باعتبارهم المثقفين الاصلاء ، الذين حرصوا على مناهضة القوانين الوضعية ، اكثر من ذلك ، قلل هذا المثقف ، من التاريخ الحافل في نقد هذه القوانين ورموزها ، والذي جرى من رجل اوقف حياته ومماته فداء لمبادئ الحق والوطن ، مثل الاستاذ محمود ، فان هذا المثقف لا يمكن ان يكون منطلقاً من مشاعر وطنية صادقة وحرص على مستقبل السلام في السودان؟!

    وحين اختار د. عبد الله علي ابراهيم ، معسكره الجديد ، ورضي ان يكون صوته في المطالبة بتطبيق القوانين الاسلامية ، نغماً في معزوفة حكومة الجبهة ، والفقهاء ، والقضاة الشرعيين ، ورجال الدين ، وجماعات التكفير، هل فكّر في واجب المثقف السوداني ، تجاه هذا الوطن الذي بذل من موارده المحدودة ، لتعليمة الى اقصى المراحل ؟! هل يكون جزاء السودان ان يدافع ابناؤه عن القوانين التي مزقته بالحروب واذلته بالجلد والقطع ؟! وهل يعتقد د. عبد الله حقاً ان هذه القوانين هي الاسلام ؟! وانه بدفاعه عنها انما يدافع عن الاسلام ويرفع نموذجه الذي طبقه نميري أو تطبقه الجبهة الآن ؟

    ان هذه المقالات ، قد كتبت بغرض اظهار الحق لدكتور عبد الله ، باعتباره غاية في ذاته ، ولانه خليق بتدارك أمره ، والخروج عما لا يشبه تاريخه .. ولكن لم يكن ذلك قصاراها ، وانما هي تستهدف ايضاً ، الشباب الذين حالت اعمارهم ، او تجربتهم ، من متابعة هذه الوقائع ، التي توضح الممارسات السلبية ، التي جرت وتجري باسم الدين ، وما جرت علينا من الخراب ، في وطننا .. ذلك ان اولى خطوات التغيير ، بروز الحاجة له ، ثم المعرفة بطرائقه .. وانا لا اعتقد بان الفكرة الجمهورية ، بما حوت من الدعوة لتطوير التشريع ، فكرة صائبة فحسب ، بل انني على يقين من انها السبيل الاوحد للخلاص مما نعاني منه ، نحن في السودان ، ثم ماتعاني منه البشرية جمعاء ، على هذا الكوكب الحزين ..


    د. عمر القراي



    -----------------------------

    [1] - د . عبد الله بولا (1996) : محاولة للتعريف بمساهمة الاستاذ محمود محمد طه في حركة التجديد في الفكر الاسلامي المعاصر . القاهرة : مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان- رواق عربي اكتوبر 1996 ص 45 -46
    [2] - بروفسيرعبد الله الطيب ( مارس 1985) نشرت في عدد من الصحف السودانية . موقع الفكرة الجمهورية في الانترنت .
    [3] - عوض الكريم موسى (يناير 1986 ) احتفال الذكرى الاولى لاستشهاد الاستاذ بنادي اساتذة جامعة الخرطوم .
    [4] - العوض مصطفى 1985 . مجموعة قصائد مسجلة . موقع الفكرة الجمهورية على الانترنت .
    [5] - عالم عباس فبراير 1985 موقع الفكرة على الانترنت .
    [6] - سيد احمد الحردلو . من ديوانه مسدار عشان بلدي
    [7] - الهيئة النقابية لاساتذة جامعة الخرطوم 10/1/1985
    [8] - نقابة المحامين 12/1/1985
    [9] - الحزب الشيوعي السوداني 11/1/1985
    [10]- فتحي رضوان : جريدة الشعب المصرية 25/1/1985
    [11] - حسين عبد ربه : الاهالي 23/1/1985
    [12] - جريدة مرآة الأمة الكويتية 23/1/1985
    [13] - القبس الكويتية 19/1/1985
    [14] - القبس الكويتية 21/1/1985
    [15] - صحيفة العرب القطرية 25/1/1985
    [16] - صحيفة الخليج الظبيانية 19/1/1985
    [17] - صحيفة الصباح التونسية 28/1/1985
    [18] - وكالة السوشيتدبرس 21 /1/1985
    [19] - د. حسن الترابي : جريدة الهدى 9 جمادي الاخرة 1405 هجرية
    [20] - جريدة الوطن 30/4/1988
    [21]- جريدة الوفاق 5/12/1998
    [22] - الاخوان الجمهوريون 1986 : حيثيات المحكمة العليا في قضية الاستاذ محمود محمد طه : انتصار للحق ودحض للحكم المهزلة . ص 5-9
    [23] - المصدر السابق ص 10 .
    [24] - المصدر السابق 19-30


    www.alfikra.org
                  

03-02-2008, 05:32 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    الاستاذ : ما يمكن دا لما يبقى نتكلم فيهو - لكن واقعنا هسع هو دا .. دا من الاسباب الخلتنا نمشي في تشديد الكلمات. انت لما سئلت عن كلام منصور خالد - اذا شئت يقرأ عليك مرة ثانية- قلت كلام منصور خالد ما فيهو اهانة .. اذا كلام منصور خالد ما فيهو اهانة ، ونحن عايزين نصل الى ان يكون في احساس يخلي التكبر شوية يطامن ، عشان يكون في مصلحة الناس شوية ان يعوا ، لا بد ان تكون في كلمات اشد من كلمات منصور خالد، ليأتي الأثر- هي دي الصورة ..
    ==
    قضايا بورتسودان
                  

03-02-2008, 06:37 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    وعن مفارقاته يكتب
    الأستاذ الخاتم


    بين الدكتور عبد الله على إبراهيم،
    والأستاذ الشهيد عبد الخالق محجوب:

    لا يكتفي الدكتور عبد الله علي إبراهيم، بأقل من الإعدام المعنوي لليسار، ممثلا في واحد من أوضأ رموزه: الأستاذ الشهيد عبد الخالق محجوب. ومن خلال إشارات مبثوثة في عدد لا يحصى من المقالات، يحاول عبد الله على إبراهيم أن يمدح عبد الخالق محجوب بأن ينسب إليه قيما ومواقف لم تكن حياة الشهيد وموته، إلا نفيا ودحضا لها. وإذا كان ما حدث لعبد الخالق محجوب صبيحة الثامن والعشرين من يوليو 1971، إعداما جسديا إجراميا نفذه حاكم معتوه، فإن رد فعل عبد الخالق عليه، قد مثل الدرجة العليا من التسامي الفردي، والبطولة الإنسانية، والشجاعة العقلية، التي ألهمت أجيالا من الشعراء والرسامين والمبدعين، بقدر ما ألهمت المناضلين في كل الدروب. ومصدر الإلهام هنا لم بكن تلك الوقفة الأسطورية وحدها، بل كانت السيرة كلها، والقيم التي أضاءت تلك السيرة، والتي لم يزدها الإعدام الجسدي إلا جلاء. أي أن عبد الخالق محجوب، لم يعد منذ تلك المأثرة الباهرة التي خطها بموته، سوى تلك القيم التي عاش من أجلها، وجاد بروحه ودمائه لإضاءتها وسقياها. وهو قد قال لنا بفعله ذاك: جسدي فداء لفكري، دمي زيت لقيمي، عبوري ثمن لبقاء معناي. فإذا أتي من ينسب لعبد الخالق قيما ومواقف نقيضة لما كان يؤمن به، ويرفعها علما على ذكراه، مع كل آيات التمجيد الزائفة وحسرات الفراق المفتعلة، فإنه يحاول إتيان جريمة أفظع من القتل الجسدي، وهي قتل المعنى. وهذا هو ما ظل يمارسه عبد الله علي إبراهيم منذ أن زلزلته الإنقاذ بحضورها الرهيب، وخلعت فؤاده وكسرت جبارته.
    في كتابه عن الترابي كزعيم للتجديد الإسلامي في السودان، وعن إمكانية حكم البلاد بواسطة فئة القضاة الشرعيين، يورد عبد الله علي إبراهيم الإهداء التالي:
    " إلى أستاذنا المرحوم عبد الخالق محجوب
    كنا قد إئتمرنا أو " تآمرنا" على شيئ من هذا الكتاب في فترة من الزمان عند منتصف ستينات القرن الماضي. واستعجلت أنت تخطو وئيدا شجاعا في السكة الخطرة. أو أبطأت أنا. وهذا بعض كسبي من " المحضر السابق" صدقة جارية لروحك السمح العذب، يا أيها الرجل الوسيم."
    ألاحظ عرضا هنا إستخدام عبد الله على إبراهيم، في إهداء يوجهه إلى عبد الخالق محجوب، لمصطلحين أساسيين في فكر حسن عبد الله الترابي، هما مصطلح الإئتمار، الذي يفضله الترابي لمعناه المزدوج، الظاهر المتعلق بعقد المؤتمرات، والخفي الذي يعني التآمر، فالترابي يعشق مثل هذه المصطلحات ويهيم بها هياما لا فطام منه. ومصطلح "الكسب"، الذي يصور العمل السياسي والفكري، ليس كعطاء يجود به المرء طوعا على الآخرين، بل ككسب يأخذه الفرد عنوة من الجماعة، ويأخذه الحزب غصبا من المجتمع. وأتجاوز عن ظاهرة ذلك المستعجل الذي " يخطو وئيدا"، في مزاوجة مستحيلة بين نوعين من المشي، وأنفذ إلى جوهر فكرة عبد الله، وهي إشراك عبد الخالق في تأليف كتاب لم يكن ليتردد في إستنكار كل مقولة أساسية وردت فيه، ودحضها بحزم فكري عرفه عنه عبد الله قبل سواه. والدليل الذي يسوقه عبد الله على إشتراك عبد الخالق معه في فكرة هذا الكتاب، هو تآمر سري، بينه وبين عبد الخالق.
    وهي فكرة ليست كاذبة فحسب، بل هي غبية كذلك. لقد أتهم عبد الخالق محجوب بالتآمر في أشياء كثيرة، في مراحل مختلفة من حياته، من مؤامرة الشيوعية الكبرى، وحتى مؤامرة الإنقلاب العسكري. وكانت الإتهامات ذات طابع سياسي واضح، لأن عبد الخالق كان قائدا سياسيا فذا، من أخمص قدميه إلى شعر رأسه. ولكن أحدا لم يتهم عبد الخالق بمؤامرة فكرية. في مسائل الفكر كان عبد الخالق واضحا كالشمس. بل كان يوصي الشيوعيين بأن يكونوا واضحين فكريا مثله، وألا ينحشروا في مواقع الدفاع، حتى لا يتهموا بالإنتهازية. فكيف يمكن لرجل هذا شأنه أن يتآمر مع عبد الله على أفكار هابطة مثل تولية شؤون الدستور والحكم لفئة القضاة الشرعيين، إذا كان ذلك هو الجزء من الكتاب موضوع التآمر، أو تنصيب الترابي زعيما للتجديد الديني، إذا كان موضوع التآمر هو الجزء الثاني من الكتاب؟ وكيف يمكن لعبد الخالق أن يتآمر على كل تاريخه الفكري؟
    التآمر المشار إليه هنا، لا يعني سوى أن عبد الله، وقد سار في الدروب الموحشة، بدلا عن "السكة الخطرة"، يريد أن يدعي أنه يفعل ذلك وهو في صحبة رفيعة، كما يريد أن يتأبط ذراع عبد الخالق إلى قبره المعنوي، الذي أعده بدافع الكراهية العميقة التي تسمي نفسها حبا خالدا. وسأوضح ما أجملته هنا عندما أتناول في مقالات قادمة، كتاب عبد الله المدوّن بمداد التهافت المنطقي والمرجّب بعمد الحجج الخاوية.
    وما أجمله عبد الله هنا في كلمة إهدائه المسمومة، فصله شيئا ما في مقدمته لكتاب عبد الخالق: أفكار حول فلسفة الإخوان المسلمين الذي كتبه الشهيد أواخر الستينات. ولأن الرسالة التي حددها عبد الله علي إبراهيم لنفسه، إزاء عبد الخالق، لا يمكن أن تكون مستقيمة، وإلا كشفت نفسها للدحض المباشر، فإن إلتواءها قد ظهر هنا بأجلى ما يكون الظهور. إن عبد الله إذ يقدم لكتاب، ينتقد دون رحمة، وباستقامة فكرية عظيمة، عرفت عن الشهيد، أفكار الإخوان المسلمين، لا يورد حرفا واحدا، أو فكرة واحدة من الكتاب الذي بين يدي القاريئ، بل يلجأ إلى نسبة أفكار نقيضة لما ورد في الكتاب إلى مؤلفه، بإعتماد مراجع أخرى ليست بين يدي القارئ ولا يؤمل أن يحصل عليها حتى إذا شاء! والأخبار غير السارة بالنسبة لعبد الله، إننا حصلنا على بعضها، ونعمل على الحصول على الأخريات ولو طال السفر، فليكفهر وجهه ما شاء له الإكفهرار!
    يقول عبد الله علي إبراهيم أن عبد الخالق محجوب، لم يكن معترضا على دعوة الدستور الإسلامي، عند ظهورها، بل كان محبذا لتلك الفكرة، منشرحا إزاءها، ومحتفيا بها. وربما يكون رد فعل كثير من القراء، وهم يطالعون هذه الدعوة الغليظة، أنني أتجنى على الرجل، وأرجمه بالغيب، وأتهمه بما لا يمكن أن يكون قد صدر عنه. ولا أستطيع أن أرد على هؤلاء إلا بكلمات عبد الله علي إبراهيم نفسه الواردة في مقدمته تلك لكتاب عبد الخالق. يقول في صفحة 11 ما يلي:
    " ويذكر الشيء بالشيئ، فأريحية عبد الخالق الفكرية حيال مشروعية، بل وسداد الدعوة إلى الدستور الإسلامي قديمة. فقد تقبل هذه الدعوى بطيب خاطر في كتابات باكرة له بجريدة الميدان عام 1957، والدعوى إلى مثل هذا الدستور في طفولته بعد" (الدعوى بدلا عن الدعوة وطفولته بدلا عن طفولتها، نقلتها كما وردت في الأصل.)
    ولكن التأييد المزعوم للدستور الإسلامي، المنسوب لعبد الخالق محجوب، وإيمانه ليس فقط بمشروعية الدعوة، بل بسدادها، لا يتوقف على مقال نشر عام 1957 عندما كان عمر عبد الخالق 30 عاما، بل يمتد معه في دعوى عبد الله حتى مماته على ما يبدو، يقول على ص 13 من مقدمته:
    " وعليه لم يكن عبد الخالق في عام 1958م، كما لم يكن في عام 1965 م، ممن أستثقل أو إستفظع أو إسترجع –أي جعلها رجعية باطلاق- الدعوة إلى الدستور الإسلامي، بل كان أكبر همه فحص إن كانت الدعوة إليه قد جاءت من باب المواتاة السياسية أم أنها صدرت عن إنشغال سياسي محيط بالخطر الوطني والحضاري بالإستعمار، الخصم الأكبر، وعن عزيمة كتأمين السيادة الوطنية على أساس من العدل الإجتماعي. والدليل على رحابة صدر عبد الخالق لخطاب الدستور الإسلامي هو تنبيهه إلى أن المناقشات التي جرت حول وجوب تطبيقه في ما بعد ثورة أكتوبر 1964م " ولدت وعيا بين الناس لا سبيل إلى إنكاره ولفتت الإنتباه لأول مرة في بلدنا للنظر للدين من زاوية المؤثرات والتقدم الذي أصاب الإنسان في القرن العشرين."
    وربما يكون روع القاريئ قد هدأ حاليا، بعد أن وقف من عبارات عبد الله، على أنني لم أنسب إليه ما لم يقله. فالعبارات رغم حظها الضئيل من الإبانة، ورغم ما فيها من اللغو والعويش، إلا أنها توضح موقف صاحبها بصورة كافية. إذن كان عبد الخالق محجوب منشرحا لدعوة الدستور الإسلامي، محتفيا بها، غير منكر ولا "مسترجع" لها. كل إعتراضات عبد الخالق محجوب، إنطوت على اعتبارات ثانوية، مثل أنها طرحت في غير محلها، وأنها لم تتشرب بصورة كافية بعداء الإستعمار، كما أنه لم يكن واثقا من أنها "صدرت عن إنشغال سياسي محيط بالخطر الوطني والحضاري بالإستعمار، الخصم الأكبر" أو كما قال!
    هنا أيضا، يريد عبد الله علي إبرهيم، في مسيرته الهابطة، أن يقنع الناس أنه يسير في صحبة راقية. وهنا أيضا يحاول أن يسوق عبد الخالق محجوب إلى قبره المعنوي، بعد أن تكفل الآخرون بقتله الجسدي. والواقع أن عبد الخالق لم يكن في أية لحظة من لحظات حياته المدونة، من دعاة الدستور الإسلامي، سواء بتوضيحاتها أو بدون توضيحاتها. بل كان خصما لدودا، ومجادلا عميقا عارفا، ضد ذلك الدستور وتلك الدولة، وما كتابه هذا الذي يقدم له عبد الله علي إبراهيم، ولا يذكره بكلمة واحدة، سوى شهادة دامغة على ما نقول. مواقف عبد الخالق محجوب في المعركة الممتدة ضد الدستور الإسلامي معروفة وموثقة، وخطبه داخل الجمعية التأسيسية عندما كان نائبا من نوابها معروفة للجميع، تسميته لتلك الدعوة بالمشبوهة والرجعية معروفة كذلك، ويعرفها عبد الله علي إبراهيم أكثر من سواه. وهذه كلها شواهد سنوردها ونفصل أمرها. ولكنا هنا نكتفي بالدحض المنطقي لمقولات عبد الله علي إبراهيم المتهافتة حول موقف عبد الخالق محجوب. فإذا كانت الرواية التي أعتمدها عبد الله لتلك المقالة التي نشرها عبد الخالق صحيحة، وليس لدي ذرة من الثقة في أمانة عبد الله، فإن جوهر حجة عبد الخالق هي أن المعركة في ذلك الوقت، كانت هي الوحدة ضد هجمة الإستعمار، وليست الفرقة حول الدساتير. هذا لا يعني أن عبد الخالق كان يؤيد الدستور الإسلامي، بل كان يرى أن من يطرحونه إنما يريدون خلط الأوراق، والهروب من المعركة الماثلة إلى معارك أخرى سيأتي أوانها. فلنحارب الإستعمار جميعا كسودانيين، ثم نتعارك بعد ذلك حول الدساتير. وهذا موقف لا أستبعد أن يكون عبد الخالق قد وقفه بناء على التحليل الماركسي في التناقضات الأساسية والثانوية، المعروفة لدى عبد الله دون ريب. وبمعنى أوضح إذا كان عبد الخالق يدعو إلى دستور علماني، وقد كان يدعو إليه حتى إستشهاده، وهو بعض من معانيه الباقية، فإنه يقول دعونا نعرض حاليا عن طرح الدساتير، ودعونا نتوحد ضد الإستعمار وأذناب الإستعمار، وبعد أن نزيح ذلك الخطر فليطرح كل منا دستوره، وفي هذه الحالة فإنني سأعترض على دستوركم الإسلامي، طارحا دستورا علمانيا مستقيما. هذا كل ما يمكن أن يستشفه المحلل الأمين من مواقف عبد الخالق محجوب.
    المهم أن عبد الخالق محجوب لو كان يدعو إلى الدستور الإسلامي، فإن معانيه كلها تكون قد جفت تقريبا، بقيام الدولة الإنقاذية الأصولية التي ألتحق عبد الله بخدمتها الفكرية، من مواقع الإلتواء والخفاء الشديد والنكران. وإذا كان ذلك مبتغى عبد الخالق، فإن إعدامه المعنوي يكون قد إكتمل. فكيف يمكن أن يكون عبد الخالق داعية للإشتراكية والعدالة والعلمانية والشيوعية، إذا كانت أحلامه تنتهي عند عتبة الدولة الدينية؟ ولست مندهشا لمحاولات عبد الله إعدام عبد الخالق معنويا، لأن ذلك يمثل بالنسبة إليه حاجة نفسية قاهرة. فهو لم يكن ليقدم على مثل تلك المحاولة لولا أنه اختار الإعدام المعنوي لذاته أولا، في مواجهته لأخطار لم يكن من ضمنها الموت. وذلك على النقيض تماما من عبد الخالق محجوب الذي اختار الفناء الجسدي، والبقاء المعنوي، وهو عارف تماما بتبعات خياره.
    ولا يكتفي عبد الله بمقالات مجهولة كتبت عام 1957، بل يورد وثيقة قضايا ما بعد المؤتمر كشاهد على أطروحته. وهذا ما سنعالجه في حلقة مقبلة.


    مقال الثلاثاء: بين عبد الخالق محجوب وعبد الله علي إبراه... في الإعدام المعنوي.
                  

03-02-2008, 04:55 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    الكيل بأكثر من مكيال:

    كتب دكتور عبدالله عن رفاقه الذين تركوا الحزب (الوصلة أدناه)

    وسينتفع الحزب الشيوعي من جهة تربية أعضائه ومن جهة الوقوف عند جوانب من الحياة السودانية لامسها بالوكالة لا بالأصالة متى أحسن إلى جيل الفراشات وكف عن نظرية الداخل فيه موجود والخارج منه مفقود. فإن لم يفعل خرج عليه منهم من سيسلقونه بألسنة حداد في كتابات تاريخية اسميها نقض الغزل لأن حكمتها دَبَرياً (أي في العاقبة) مثل الأساتذة أحمد سليمان وخليفة خوجلي وعبد الله عبيد اخيراً. فما نعموا بصحبة إلا عادوا وذمّوها وما شقوا بأخرى إلا عادوا واعتذروا عنها. وأحزنني أن اقرأ لعبد الله عبيد، الذي لم ينتظر ليدخل وادي سيدنا أو غيرها ليفصل مثل محجوب بل فُصل من ريفية شندي الوسطى وتفرّغ للعمل الشيوعي (بسحروك يا ولد)، في كتاب أخير يعتذر عن مقاومته لنظام الفريق عبود قائلاً: "ومنذ سنوات أخذت أشعر بأننا أخطأنا في تقييم نظامه وموقفنا العدائي. فكان طبيعياً أن يدخلنا السجون والمعتقلات". وهذا إقلاع عن الماركسية وكأنها عادة ذميمة. بينما دأب الفطِن أن يجعل مَن فارقه يقلع منه لا عنه.


    ثم كتب عن نفسه:

    فى صفحة 17 – الشريعة والحداثة – يقرر الكاتب عن نفسه "متحدثا بصيغة جمع محببة لديه" (أننا عدنا الى الدين بعد طول إهمال لننتفع به فى تحليل الحركات الإجتماعية التى حسبنا أنها مما يستقيم بغير دين) ثم يواصل فى صفحة 19 ليقول (فالكاتب الراهن كان فى طليعة من حركة للحداثة والعلمانية تنكبت السبيل فانهزمت شر هزيمة على يد من استرخصنا قوتهم ومشروعيتهم بقولنا إنهم جحافل الهوس الدينى.) وعندما نقرأ ذلك مقرونا بما خطه الكاتب فى كتيبه – الرق صفحة 47 لوصفه لـلـ "القبائل اليسارية التى أنا منها و"بارى" و ليطمئن الإسلاميين، على صدق"توبته" فإنه يدعم "تبرؤه" بندمه (على سخف موقفه يوم شارك فى موكب لدعم النظام التقدمى فى مصر الشقيقة إثر إعدام سيد قطب وهذا عار قد نعود اليه قريبا)


    http://wwww.sacdo.com/web/forum/forum_posts.asp?TID=2753

    (عدل بواسطة عبدالله عثمان on 03-02-2008, 04:56 PM)

                  

03-03-2008, 05:36 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    حدثنى أحد الأخوان الجمهوريين أمس، وهو يستنكر محاولة التغبيش التى يقوم بها دكتور عبدالله على ابراهيم، أن الأستاذ محمود محمد طه قد قال عن منصور خالد شيئا قريب من "هو رجل من الأصالة قريب"
    وأنعم بها من قلادة تطوق عنق ذلك الطود الشامخ وزى ما تقول العرب "يا جبل ما يهزك ريح"!!
                  

03-03-2008, 08:26 PM

أبوبكر حسن خليفة حسن

تاريخ التسجيل: 09-30-2005
مجموع المشاركات: 198

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)

    الأخ عبد الله عثمان وضيوفه الكرام
    تحية طيبة ..
    استدارة الدكتور عبد الله علي إبراهيم الفكرية عجيبة وتدعو إلى التوقف والتأمل الطويل ( وإن كان هذا الأمر من شأنه ) !
    ولكن أغرب من ذلك اعوجاج استدلاله ـ المريب ـ بمحكمة بورتسودان .
    فهل يا ترى فاتت عليه فطنة الأستاذ وتلاميذه فيما هو بصدده ؟؟!!
    أم هو الهوى والغرض في ملاحقة خصومه الفكريين ؟؟!!
    أنني لأربأ بالدكتور أن يقعده ذكاءه الفطري والمكتسب عن إدراك هذه المسألة الواضحة الجلية ,
    ولكنني أذكره بقول الحكم العدل " ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى " .
    لكنها على أي حال سانحة طيبة سمحت بإعادة نشر حيثيات تلك المحكمة .
    والتي استطاعت ـ من وجهة نظري ـ ان تحول الشاكي وقبيله إلى متهمين , بل وإلى مدانين .
    وقد كشفت النقاب عن البون الشاسع فيما ميز الأستاذ من معرفة وإلمام لما يدعو له من دعوة جديدة , وحجج ومزاعم أنصار القديم .
    وفي ظني أن تلك المحكمة قد رفعت الدعوة إلى الفكرة الجمهورية ومن آمن بها مكاناً عليا ..
    وقد توقفت طويلا عند مناقشة الأستاذ وتلاميذه للشاكي ...,
    خصوصا ما طرحه أستاذنا البدر بن يوسف فوجدته من الوضوح والبيان والقوة والحضور المبهر , والذي لا يغيب في تقديري عمن ألقى السمع وهو شهيد ,
    كما أنه لا قبل لحملة الفهم السلفي القديم به , ولو جاءوا بمثل أحبارهم مددا !!

    شكرا لك على هذه الإضاءة
    أبوبكر
                  

03-03-2008, 08:36 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: أبوبكر حسن خليفة حسن)


    ما ك مشحود أخونا ابوبكر على هذه "التقريظة" وللحقيقة والتاريخ أن الأستاذ محمود كان رفيقا فى تلك المحكمة بالقاضى ابراهيم جاد الله كل الرفق لأن من البديهيات أن القاضى ابراهيم جاد الله نفسه، مثله مثل الكاتب عبدالله على ابراهيم وقبيله، انما هم جميعا ضحايا تعليم خاطىء ولن يطول بهم زمان مثل تركيا ليدركوا عقم ما هم فيه ويتدبروا نير ما أتى به الأستاذ محمود.
    ابراهيم جاد الله نفسه كان قد التقى بعض الأخوان، وقال لهم حديثا طيبا، نقل فى حينه للأستاذ محمود، أن كل ما قد قيل فى تلك المحكمة فى حق القضاة الشرعيين لحق وأن ما يعرفه هو عنهم وعن بعدهم من الدين لأكثر من ذلك ... الخ
    نحن نعلم ذلك أيضا ولككنا نرأف بهم على حد قول إيليا أبى ماضى لأن "الجهل شىء كالعمى" بل هو عمى وليس على الأعمى "حرج"
    لك التحايا والإجلال مرة أخرى على هذه الكلمات الطيبة
                  

03-05-2008, 11:57 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    أتصل بى رجل من الجيل الذى عاصر الحركة الشيوعية فى عنفوانها - وهو لا يملك أن يكتب فى سودانيزأونلاين - وبعد الإشادة بالمقال نوّه الى أن الجيل الحالى يحتاج لدراسة تفصيلية عميقة عن نوع التحولات التى تطرأ على بعض الناس - وقراءة ذلك مع القيم السودانية الأصيلة - فهو يعجب لأن أناسا ظل بعض السودانيون البسطاء يأونهم أو يخفونهم فى بيوتهم، معرضين أنفسهم لخطر بطش السلطات الغاشمة، يعمدون لـ "بوس" ذات الأيادى التى بطشت بهم
    محدثى يعتقد أن ذلك جحود وزراية لأولئك السودانيين الأصيلين، تصل لدرجة الخيانة "على الأقل الزول اليسكت" أو كما قال
    لا تعليق ...

    (عدل بواسطة عبدالله عثمان on 03-06-2008, 00:41 AM)

                  

03-06-2008, 06:20 AM

Omer Abdalla
<aOmer Abdalla
تاريخ التسجيل: 01-03-2003
مجموع المشاركات: 3083

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    عزيزي عبد الله
    عاطر التحايا
    شتان ما بين هذا وذاك
    التحية والتجلة للدكتور منصور خالد
    عمر
                  

03-06-2008, 03:04 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)
                  

03-06-2008, 05:26 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)
                  

03-08-2008, 09:17 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    مسارب الضي
    يوم الفصل!

    الحاج وراق

    نتيجة اخطاء طباعية اخلت بالمعانى، فإننا نعيد نشر المادة مرة اخرى ، مع اعتذارنا للقراء ولصاحب العمود.
    * شكك المفكر البارز د. عبد الله علي إبراهيم في أهداف الذين يحتفلون بذكرى 18 يناير 1985م، يوم اغتيال الأستاذ محمود محمد طه... وقد أمر باغتياله - كما هو معروف - جعفر نميري أيام لوثة الهوس الديني التي انتابته آخر أيام حكمه، وذلك بتحريض من السلفين - داخلياً وإقليمياً، وبتواطؤ ملحوظ من غالبية الإسلاميين، ومشاركة مباشرة من بعض أدعياء التصوف، وهم قطعاً أدعياء لأن التصوف مشتق من صفاء النفس فيدفع المؤمنين به إلى الرحمة والتسامح، أما أولئك من قساة القلوب وغلاظ الأكباد فإن صوفيتهم المدعاة إنما صوفية «أم قرون» - تنطح ولا تدر!
    شكك د. عبد الله في ان المحتفلين بالذكرى ربما يريدونها نكاية بالإسلاميين أو تكأة لمعارضة الإنقاذ، واستطيع ان أطمئن د. عبد الله ، وقد كنت طوال الثلاث مرات التي تم بها الاحتفال في السنوات الأخيرة عضواً باللجنة القومية المنظمة للمناسبة، أطمئنه بأن الذكرى وان تضمنت بعض ما يخشاه د. عبد الله فإن القائمين عليها ظلوا يريدون بها ماهو أجل وأعمق من ذلك.
    * كان الأستاذ/ محمود مثالاً للسلام، يوصي تلاميذه ألا يطأوا بأقدامهم على «النجيلة»!، وكانوا يلتزمون انصياعاً له واقتداء به، وفي ذلك أحد الأمثلة العديدة لفكرة الأستاذ القاضية بأن المسلم الحق ذاك الذي تسلم الأشياء والأحياء من إيذائه... لم يرفع سلاحاً قط، وفي مواجهة الأسلحة الكثيرة التي قعقعت في وجهه وعلى جسده وأجساد تلاميذه لم يجزِ السيئة بمثلها، بل ولم يلوث قلبه بالضغينة أو البغضاء، كان في سماحة ورضى يحيا قولة المسيح عليه السلام: «أحبوا أعداءكم، باركوا لأعينكم أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم...»!
    وأياً كانت الآراء التي دعا إليها الأستاذ/ محمود «غريبة» على الناس، فقد دعاهم إليها بسلام وفي حرية، لم يدبر إنقلاباً ولم يلهم عملاً مسلحاً، كما لم يدرب الاتباع أو يخزن السلاح، فقدم بذلك أنموذجاً صافياً للفكر، وبذا وضع سؤال الحرية بصورة صافية نقية لا يعتورها أدنى كدر، والسؤال هو: هل الحرية للآراء التي نوافق عليها وحدها، أم ان الموقف المبدئي يقتضي بأنها مطلوبة أكثر ما تكون مطلوبة إزاء الآراء التي تختلف معها؟!
    وهو ذاته السؤال - بصياغة أخرى - عن الموقف من إغتيال الأستاذ/ محمود... وتشكل الإجابة عليه حداً فاصلاً بين دعاة الديمقراطية والإستنارة من جانب، وبين سدنة الطغيان والظلامية من الجانب الآخر.
    وهكذا فإن الاحتفال بيوم 18 يناير إنما يعني الاحتفاء بحرية الضمير، بحرية التعبير، وبكلمة يعني الاحتفاء بالديمقراطية وحقوق الإنسان.. وبمقدار ما تتناقض هذه القيم مع الإسلاميين ومع الإنقاذ بمقدار ما يكتسب الاحتفال طابع النكاية بالإسلاميين والمعارضة للإنقاذ، وبمقدار ما يستشعر هؤلاء في المناسبة عملاً عدائياً موجهاً تجاههم!.
    * ولأن حرية الاعتقاد« الضمير» هي بداية كل حرية أخرى، فقد كانت الحد الفاصل بين الأزمنة القديمة والأزمنة الحديثة، بين أزمنة الكهنوت والطغيان والظلامية، وبين أزمنة المدنية والتحرر والاستنارة.. وبهذا المعنى فإن اغتيال الأستاذ/ محمود ، يشكل أهم أحداث القرن العشرين في السودان، والحد الفاصل بين زمنين، تماماً كما شكلت ابتسامة الموناليزا عنواناً لنهضة أوروبا، فإن ابتسامة الأستاذ/ محمود على منصة الإعدام، كما قلت وأكرر، ستظل عنواناً لحرية ونهضة وتمدن السودان!
    * وإضافة إلى مغزى الحرية فإن 18 يناير يتضمن كذلك مغزى السلام، وكلاهما هدفان مترابطان، حيث ان أهم مصادر العنف ذاك الذي تثيره الجماعات التي تود فرض قناعتها على الآخرين بالقسر والإكراه... وفي المحيط الإسلامي فإن جماعات الهوس الديني والإسلام السياسي إنما تحركها قناعة امتلاكها الحقيقة المطلقة، وقناعة ان الآخر المختلف إما غفل غر فتفرض عليه الوصاية وإما ضال أو زنديق أو كافر مرتد، ووسائل «هدايتها» لهؤلاء معروفة في ثنايا التاريخ الإنساني والسوداني. لقد قاد إدعاء الحق المطلق دوماً إلى الوسائل الشريرة ، قاد إلى الطغيان، وإلى تفتيش الضمائر ومحاكمة النوايا، وإلى حرق العلماء والمفكرين، وإلى المجازر والحروب الدينية!
    * وقد أكدت تجارب التاريخ قديماً وحديثاً بأنه إذا انفتح باب قتل الآخرين بدعوى ارتدادهم فإن هذا الباب سينفتح واسعاً وعلى مصراعيه، حيث كل جماعة دينية ترى في نفسها تجسيداً للعقيدة القويمة وفي الآخرين عنواناً لفسادها، وإذا كانت الوهابية- كمثال -محقة في موقفها من اغتيال الأستاذ/ محمود فإن الخليفي وعباس الباقر كذلك محقان في فتواهما التي كتبت بالرصاص عن الوهابية!
    وعباس الباقر والخليفي، رغم غلوائهما وقسوتهما، اللتان دفعتهما إلى فتح النار بدم بارد على المصلين من الأطفال والنساء، فإنهما ليسا نهاية المطاف، هناك الكثيرون الذين يرون فيهما «رخاوة» إزاء «الكافرين»!! مما يعني في التحليل النهائي ان تدور طاحونة الاغتيالات والدم بلا قرار وبلا نهاية!
    * وهكذا فإن 18 يناير بما هي دعوة للحرية ولقبول الآخر وللتسامح، فإنها في ذات الوقت دعوة للسلم الأهلي، للمنافسة السلمية بين المعتقدات والآراء المختلفة.. وبمقدار ما تكون هذه القيم عزيزة لدى كل سوداني، فإن ذكرى 18 يناير ستظل عزيزة بذات القدر!.

    http://alsahafa.info/news/index.php?type=6&issue_id=164&col_id=5&bk=1
                  

03-08-2008, 09:37 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    كتب دكتور منصور خالد محمد عبدالماجد، تحت عنوان جريمة العصر والتجني على الاسلام جريدة «الصحافة»: الاثنين الموافق 28/4/1986 «وعلنا نظلم التاريخ ان لم نقف عند تلك المحاكمة التاريخية التي كانت بما اكتنفها من جهالة جهلاء وضلالة عمياء، إدانة للحاكمين قبل أن تكون ادانة للشيخ الوقور الذي أبى له صدقه مع نفسه أن يقف احتراماً لمن هم ليسوا بأهل لاحترامه. وقف الشيخ الجليل يومذاك متهماً بإثارة شعور الكراهية ضد النظام ، وإزعاج السلام العام، ولم يكن قد فعل شيئاً أكثر من نشر رأي آمن به، بأسلوب هادئ ومنطق رصين. فما استجاش محمود الجموع لمحاربة النظام كما فعل غيره من المعارضين في مارس 1970م أو يوليو 1971م. ولا دبر انقلاباً عسكرياً على النظام كما فعل غيره من المناهضين في يوليو 1971م وسبتمبر 1975م . ولا قاد تمرداً عسكرياً كما فعل غيره في جنوب السودان منذ العام 1982م، وبصرف النظر عن كل ما قلنا به عن مفهوم المعارضة في الاسلام، وهو مفهوم عجز عن الإرتقاء الى استيعاب حكمته الطغاة والمهووسون على حد سواء، إلا ان تلك القضية ما كان لها الا أن تقف عند حدها، الا وهو إثارة شعور الكراهية، وازعاج السلام العام. بيد أن قاضي الموضوع ترك كل هذا جانباً ليلج في عقل الاستاذ العالم الذي أبى أن ينطق بكلمة أمام من لايفهم ما يقال، ولا يقول ما يفهم. ثم جاءت محكمة الاستئناف من بعد لتترك كل ما اوردته محكمة الموضوع من حقائق فذهبت الى الاضابير لتنبش منها حكماً صادراً ضد المتهم من جهة غير مؤهلة أساساً لاصدار مثل ذلك الحكم وتبعها الامام «حامي البيضة وراعي الذمة» «بخطاب طويل» باسم الله وباسم الشعب وباسم الثورة، يؤيد فيه إدانة الشيخ الوقور والحكم باعدامه. ولم يمنع الحياء ذلك الامام الذي لايستحي من أن يقول: «ونحن اذ نؤيد الادانة والعقوبة، بجميع المواد القانونية التي أدانت بها المحكمة المتهمين نشيد بالتسبيب الوافي الذي جاء في حكم محكمة الاستئناف والجهد الذي بذلته محكمة الموضوع».
    وكان هذا الجهد الوافي الذي اشاد به الامام جهد يوم وبضع يوم «الصحافة 8 يناير 1985م».
    والامام الذي لا يستحي هذا، هو نفس الرجل الذي يباهي الشيخ العالم ويترجى ان يجمع بينه وبين العلماء ليناظرهم.
    كان هذا موقفه في مطلع العام 1976م عندما بعث إليه عدد من المشايخ رسالة ضافية تصف الأخوان الجمهوريين بالمروق والارتداد وتطالب بحظر نشاطهم ومصادرة كتبهم. وقد ردَّ الجمهوريون يومها على تلك الرسالة برسالة أخرى جاء في ختامها «رغم محاولات هؤلاء الاشياخ المتكررة لاستعداء الشعب واستعداء السلطة علينا، ألا اننا لا ننطوي على حقد أو مرارة من آثار هذا الفعل كما وقد يتبادر الى بعض الأذهان. ولذا فنحن لانستعدي عليهم أحداً ولكنا نرى أن من حقنا ومن واجبنا أن نطالب السلطة كما نطالب الشعب بتضييق فرص المراوغة عليهم وذلك بفتح منابر عامة للحوار بيننا وبينهم حتى يشيع الوعي في صفوف الشعب».
    وهكذا لم يحمل الجمهوريون يوم ذاك غلاً ولم يضغنوا شيئاً على الذين كانوا يسعون لنهش لحومهم، كما أنهم لم يدعوا للحوار حتى يسود رأيهم بل كي ما «يشبع الوعي في صفوف الشعب».
    وحسب النميري يومها ان الأخوة الجمهوريين بمواقفهم الجريئة ضد خصوم النظام من الاسلاميين السياسيين اصبحوا تبعاً لا حلفاء بل انه سعى في محاولات مكرورة لأن يضيف محموداً وصحبه الى قوائم المسترزقة من العلماء
    فما طال من ذلك شيئاً لأن محموداً كان مثل بشر الحافي يملك الدنيا ولا تملكه...» الدكتور منصور خالد جريدة «الصحافة 8 يناير 1985م».
    _________________
                  

03-08-2008, 09:44 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    هذه أجزاء من المقالة التي كتبها الدكتور منصور خالد ونشرتها صحيفة الأيام في 21/4/1969م..وتم إعادة نشرها في كتابه حوار مع الصفوة..دار النشر جامعة الخرطوم ..طبعة 1974م...

    (رجل مسلم ملئ بلإيمان حتى المشاش ، ومفكر يشرف الفكر الإسلامي...رجل مثل محمود لم ينج من تهمة الزندقة لجسارته الفكرية ولمحاولته الرائدة وضع الدين في إطار العصر...والحرب ضده حرب غير أمينة وليست من أخلاق الإسلام في شئ...حرب تنقل القضايا الفلسفية الفكرية في أسلوب غير أمين الى الشارع ليتجادل فيها العامة الذين لا يملكون المواعين الفكرية لاستيعابها...بعبارة أخرى ينقل الحديث نقلا خاطئا إلى الأذن الخاطئة لتفهمه الفهم الخاطئ وتنفعل به الإنفعال الخاطئ. فمفاهيم الاستاذ محمود محمد طه الفلسفية مفاهيم يقبلها القابلون ويرفضها الرافضون، ولكن الحقيقة الهامة هي أن هذه المفاهيم هي امتداد للفكر الاسلامي ..بل أذهب لأقول ان الاستاذ محمود هو السياسي الوحيد من مواقع اليمين الذي يفكر برأسه ويأتم بعقله.)

    (فالرجل..وهو المفكر السياسي الوحيد بين ظهرانيكم ..لم يبتدع مبدأ إجتلاء الحقيقة بالتأمل ...ولم يبتدع مبدأ اتصال العقل الانساني بالعقل الفعال..ولم يبتدع مبدأ الأداء الباطني للفرائض...هذه جميعها مرتكزات أساسية للفلسفة الإسلامية..ومبادئ عامة نجد لها صدى عند كل قمم الفكر والفلسفة الإسلامية..إبتداء من الغزالي وابن رشد الى البسطامي والرومي...نجدها عند ابن سيناء في (مقامات العارفين) "ولكن جل جناب الحق عن ان يكون شريعة لكل وارد أو يطلع عليه الخلق الا واحدا بعد واحد".. وعند ابن القيم في (مدارج السالكين) "ان هذا العلم مبني على الارادة فهي أساسه ومجمع بنائه وهو يشتمل على تفاصيل أحكام الارادة وهي حركة القلب ولهذا سمي علم الباطن"..وعند ذي النون المصري "عرفت ربي بربي ولولا ربي ما عرفت ربي"..وليست هذه طلاسم بل تلخيص لفلسفة متكاملة تقوم على العلم والمعرفة...معرفة العامة ومعرفة الحكماء ومعرفة الأولياء..الاولى بالتقليد والثانية بالتعليم والثالثة بالإلهام.)

    (نريد -من قضاة الشرع- وقد خرجتم من اطار سلطانكم المشروع كقضاة أنكحة وميراث..نريد أن نسمع حكم الاسلام في الغي الموفي بأهله الناروالذي يعيشه أهل السودان كما سمعنا حكمكم بالأمس في ردة المستضعف محمود محمد طه...نريد أن نسمع رأي حكم الإسلام في الأمير الكاذب والوالي الظالم والوزير السفيه..وللاسلام حكم في كل هؤلاء" سيكون من بعدي أمراء تغشاهم غواش فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم واعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه"..وأنا اعيذكم بأن لا تكونوا من صحب محمد..نريد حكمه في السفاه السياسي الذي نعيشه اليوم وهو سفاه شيوخ لا حلم بعده...شيوخ يرتدي بعضهم قفطانا مثلكم..ويتمنطق بحزام مثلكم ..ويضع على رأسه عمامة كشأنكم..والسفاه يوجب الحجر في شرع الأئمة الأربعة...نريد حكمه في القاضي الماجن وهو منكم على مرمى حجر..والطبيب الجاهل وصفحات الصحف تنضح بالأنباء عن ضيعة الحياة في مسنوصفات السودان..والمكاري المفلس ودولتكم تكاري وهي لا تملك سداد التزامها اليومي..للاسلام حكمه في كل هؤلاء..ولست حاجة في أن أذكر فقهاء الحنفية بفقه الحنفية..فمحاكمكم تلتزم قضاء الصاحبين وتنهج نهج الشيخين..وتسير بهدى الطرفين...روى السرخسي في المبسوط عن أبي حنيفة " أن الحجر واجب على القاضي الماجن والطبيب الجاهل والمكاري المفلس..لأن الاول يفسد على الناس أجسامهم..والثاني يفسد عليه أديانهم..والثالث يفسد عليه أموالهم")
                  

03-08-2008, 11:58 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    نظرة نقدية لطرح الدكتور، عبد الله علي إبراهيم:
    التقـليـد الشـرعي والحـداثة
    د. النور حمد
    (1)
    [/align:838d17c7cf]
    واضح أن الصديق، الدكتور، عبد الله علي إبراهيم، يطور، وبدأب شديد، طروحة في شأن علاقة الدين بالدولة، في السودان. وقد تبدو طروحته هذه، جديدة للبعض، بحكم المسعى النقدي الذي ينتظمها، وهو مسعى يستلهم تيارات ما بعد الحداثة. يحاول مسعى الدكتور عبدالله، النقدي، في مبحثه هذا، تلمس السمات الحداثية، في ممارسات مؤسسة تقليدية، مثل مؤسسة القضاء الشرعي السودانية. وغاية المسعى فيما يبدو، هو شق طريق وسط بين مقاربات التيار الإسلاموي السوداني، الداعي إلى دولة دينية، والذي وصل إلى السلطة بالفعل، تحت هذه الراية، وبين تيارات العلمانيين التي تدعو للفصل القاسي بين الدين والدولة. وأول ما أبدأ به هو أن المنحى النقدي، للطروحة، ليس منحى جديدا، وإن استلهم نقد ما بعد الحداثة، الموجه ضد أفكار حقبة الحداثة. فطرح، الدكتور، مسبوق في الفضاء السوداني، بطرح، أكثر عمقا، وأكثر تماسكا، ورد في المقاربات المتعددة التي ضمتها أعمال الأستاذ محمود محمد طه، التي دعت للجمع المبصر، بين خير ما جاء في الفكر الوضعي، وخير ما جاء في الفكر الديني، وفق منظور ديني أصيل، خال من أية سمة، من سمات التوفيقية التعسفية، كما أسماها صادق جلال العظم. ومقاربة الأستاذ محمود، عمرها الآن، أكثر من نصف قرن! جاء في كتيب (السفر الأول) الذي أصدره الحزب الجمهوري، بزعامة الأستاذ محمود محمد طه، عام 1945، مايلي:

    إن الحزب الجمهوري لا يسعى إلى الإستقلال كغاية في ذاته، و إنما يطلبه لأنه وسيلة إلى الحرية.. وهي التي ستكفل للفرد الجو الحر الذي يساعده على إظهار المواهب الكمينة في صدره و رأسه. ويؤمن الحزب الجمهوري، إيماناً لا حد له، بالسودان.. و يعتقد أنه سيصبح من الروافد التي تضيف إلى ذخر الإنسانية ألواناً شهية من غذاء الروح، وغذاء الفكر، إذا آمن به أبناؤه، فلم يضيعوا خصائصه الأصيلة، و مقوماته، بالإهطاع نحو الغرب، ونحو المدنية الغربية، في غير روية، ولا تفكير.. ورأي هذا الحزب في المدنية الغربية، هو أنها محاولة إنسانية نحو الكمال.. وهي ككل عمل إنساني خطير، مزاج بين الهدى و الضلال.. وهي لهذا، جمة الخير، جمة الشر.. وشرها أكبر من خيرها.. وهي كذلك بوجه خاص على الشرقي الذي يصرفه بهرجها، و بريقها، و زيفها، عن مجال الخير فيها، ومظان الرشد منها.. ويرى هذا الحزب: أننا ما ينبغي أن نتقي هذه المدنية، بكل سبيل، كما يريد المتزمتون من أبناء الشرق .. ولا ينبغي أن نروج لها، بكل سبيل، و نعتنقها، كما يريد بعض المفتونين، المتطرفين، من أبناء الشرق.. وإنما ينبغي أن نتدبرها، وأن ندرسها، وأن نتمثل الصالح منها.. هذه المدنية تضل وتخطئ، من حيث تنعدم فيها معايير القيم، وتنحط فيها إعتبارات الأفكار المجردة.. فليس شئ لديها ببالغ فتيلاً إذا لم يكن ذا نفع مادي، يخضع لنظام العدد، والرصد.. فهي مدنية مادية، صناعية، آلية، وقد أعلنت إفلاسها، وعجزها، عن إسعاد الإنسان، لأنها كفرت بالله، وبالإنسان.. ويعتقد الحزب الجمهوري أن الشرق، عامة، والسودان، خاصة، يمكنهما أن يضيفا عنصراً إلى المدنية الغربية هي في أمس الحاجة إليه، و ذلك هو العنصر الروحي.
                  

03-09-2008, 00:00 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    نظرة نقدية لطرح الدكتور، عبد الله علي إبراهيم:
    التقـليـد الشـرعي والحـداثة
    د. النور حمد
    (2)

    الشاهد أن الدعوة للجمع بين منجزات الحداثة، وجوهر دعوة الدين، أمر افترعه الأستاذ محمود، منذ ذلك الزمان المبكر. وليس أكبر همي هنا، أن أثبت للأستاذ محمود فضل السبق، في هذا المضمار الهام. فذلك أمر تثبته كتاباته المنشورة على الناس، منذ ذلك الزمان المبكر. ولكن أكبر همي هو، أن أنبه إلى الخلل الأكاديمي المتمثل في تجاهل الباحثين، لفكر الأستاذ محمود. وهو ما لمحته بالفعل في الخطوط العريضة لمبحث الدكتور الفاضل، عبد الله علي إبراهيم، مما نشره على الناس مؤخرا. والنص الذي أثبته أعلاه، من كتيب (السفر الأول) للأستاذ محمود محمد طه، يمثل بعضا من كتابات الأستاذ محمود محمد طه، الباكرة. وقد حرصت على تثبيته لأدلل فقط، على سبق الأستاذ محمود غيره من المفكرين، في هذا المنحى. وإلا، فإن عمقا أكبر، وتأسيسا معرفيا، ودينيا، أعمق قد جاء لاحقا في كتاباته التي تلت، ومنها،(قل هذه سبيلي1952)، ثم كتابه (الإسلام، 1960)، ثم كتاب (رسالة الصلاة، 1966)، ثم كتاب، (الرسالة الثانية من الإسلام من الإسلام، 1967)، وما تلاهما في مطلع عقد السبعينات، مثل كتاب (تطوير شريعة الأحوال الشخصية، 1972)، و(الثورة الثقافية، 1972). وحقيقة الأمر، أن الأستاذ محمود، قد سبق تيار ما بعد الحداثة الغربي في توجيه نقد مبصر لأفكار حقبة الحداثة التي توزعت بين الفضاءين الغربيين: الليبرالي، والماركسي. ولي تحت الإعداد دراسة مقارنة، توثق لهذا السبق. وأرجو ان ترى النور قريبا.

    القفز على نقاط الخلاف الجوهرية:

    بدا لي أن طروحة الدكتور عبد الله، مشوبة بشيء من الغموض. وأنها، لا تفصح كثيرا، عن مقاصدها النهائية، بالقدر الذي ينتظره منها المهتمون. وقد شاركني هذا الرأي، اصدقاء آخرون، ممن يتابعون كل ما يصدر من قلم الدكتور. ورغم أنني من مشجعي المقاربات التي تحفر في مناطق المركب، من الجذور المشتركة، والتوجهات المشتركة، بين أهل البلد الواحد، من أجل تقريب وجهات النظر، وردم الهوات، غير الضرورية، غير أنني لا أستسيغ المقاربات التي، تقفز حول الخلافات الجوهرية، دون أن تمسح أرضيتها، مسحا وافيا، شافيا. وهذا هو ما قادني، إلى مناقشة طروحة الدكتور الفاضل عبد الله علي إبراهيم، وامتحانها، وفق هذا المنظور. أعني، منظور المسح الوافي لأرضية الخلاف، حول مسألة التجديد في الفكر الإسلامي، والقانون الإسلامي. وأظنني لمحت في طروحة الدكتور، تغافلا عن بعض الحقائق المهمة. فالدكتور، يستخدم شواهد التاريخ، القريب، وما تشير به إليه حركة الواقع المتحول، وما تسمح به هذه الحركة، من استنباط للدلالات. وأعنى هنا، تحديدا، منشورات القضاء الشرعي، التي ربما رآها الدكتور الفاضل، متجهة نحو التوسيع لحريات النساء. غير أن تلك الشواهد، ليست من الجوهرية، بحيث يمكننا أن نقول، أنها كانت سائرة لبلوغ غايتها، في تمام التحرير. وفي تقديري، أن المساحات التي أتاحها للنساء، هنا، وهناك، ما أسماه الدكتور بـ ((التقليد الشرعي)) قد جاءت عرضا. ولا أعتقد أنها جاءت نتيجة لبنية مفهومية، متماسكة، وخطة، ومنهجية واضحة. وهذا هو ما عرضها للإنتكاس، كما لاحظ الدكتور نفسه. وسوف أقف عند ذلك لاحقا.
                  

03-09-2008, 00:07 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    نظرة نقدية لطرح الدكتور، عبد الله علي إبراهيم:
    التقـليـد الشـرعي والحـداثة
    د. النور حمد
    (3)



    إرتكز فكر الحداثة، بشكل رئيس، على فيزياء نيوتن، وعلى الفلسفة الوضعية لإيمانويل كانط، وما تفرع من كل أولئك، لاحقا من تيارات دعمت التوجهات العلمانية، البراغماتية. غير أن فكر الحداثة، الذي ظل يحرك السياسة الدولية، منذ فجر الثورة الصناعية، قد انشطر على نفسه، في القرن التاسع عشر، بظهور الدارونية، وصنوها المصاقب لها، الفكر الماركسي، اللينيني. وما لبث أن انقسم العالم، جراء ذلك، إلى معسكرين، إثنين. ثم، ما أن جنحت شمس القرن الماضي، نحو الغروب، حتى انهارت التجربة الشيوعية، برمتها، وعادت الأمور، مرة ثانية، إلى أصولها التي انطلقت منها أبتداء. ولكن في ثوب جديد، جعل أكثرية أهل الكوكب، يقفون، إزاء الصورة الجديدة، الأكثر تركيبا، وتعقيدا، موقفا سمته الرئيسة، الحيرة.

    تيارات الفكر الحداثي، وذراعها القوية المتمثلة في المد الرأسمالي، أعطت ثقافة أوربا، عبر القرون الأربعة المنصرمة، موضع المركز، في ثقافة العالم. وموضع المركز، هذا، أخذته أوروبا، من بقية العالم، عنوة، وبحد السلاح. ولكن لابد أن نشير هنا، إلى أن الثقافات الأخرى، قد إزورت بدورها، هي الأخرى، حين أصابها الإنبهار بانجازات الغرب، الباهرة، مما جعلها، تقبل، ولو مؤقتا، مكانة الدونية، والهامشية.

    وصمت المركزية الأوربية، المزهوة بانجازات النهضة العلمية، والتقنية، ثقافات القارات الأخرى بالتخلف، دافعة إياها، صوب الهامش، وصوب رفوف المتحفيات الإثنوغرافية. ومن تلك المركزية الأوربية، انطلقت، في البدء، آلة الرأسمال، لتملك معظم أجزاء العالم، بقوة السلاح الناري. وقد حدث ذلك، في فترة وجيزة جدا. ومن ثم بدأ الغرب عمله في إلحاق الثقافات المحلية، بالمركزية الأوربية. وقد أحدثت الهجمة الإستعمارية في القرن التاسع عشر، تحولات سريعة. تغيرت بها أنماط الإقتصاد، في بقاع كثيرة من الكوكب. وحدثت، أيضا، الكثير من التحولات الإجتماعية. كما شاعت أنماط التعليم الغربية في كل مجتمعات العالم تقريبا. وأنتشرت لغات المركز، الأوربي، في بقاع العالم المختلفة. ومعلوم أن اللغة حين تنتقل، تنقل معها أيضا الكثير من السمات الذهنية، لموطنها الأم، الذي وفدت منه. وبناء عليه، حدث رواج كبير، من الناحيتين النظرية، والعملية، للنظرة الغربية للكون، وللحياة. وكانت النتيجة أن اهتزت كثير من الموروثات، وأنتج ذلك علاقات جيوسياسية، جديدة، شديدة التركيب، شديدة التعقيد. والحالة السودانية الراهنة، التي يعمل فيها الدكتور مبضع نقده، الآن، واحدة من حالات متعددة. ولكن الدكتور عبدالله، لم يعط مقاربات الأستاذ محمود وهي تعالج، كل ما تقدم، ما تستحقه، من نظر، ومن نقد. فهو قد أكتفى في شأنها، بقليل من الإشارات السالبة المبتسرة. وهذه سمة اتسم بها الأكادميون العرب، حين يعالجون الأفكار الدينية المثيرة للجدل.
                  

03-09-2008, 00:08 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)



    نظرة نقدية لطرح الدكتور، عبد الله علي إبراهيم:
    التقـليـد الشـرعي والحـداثة
    د. النور حمد
    (4)

    التجاهل الأكاديمي لفكر الأستاذ محمود محمد طه!

    في المقدمة التي تشرفت بكتابتها، مع الأستاذة أسماء محمود محمد طه، لكتاب (نحو مشروع مستقبلي للإسلام: ثلاثة من الأعمال الأساسية للمفكر الشهيد، محمود محمد طه) والذي صدرت طبعته الأولى، العام الماضي عن المركز الثقافي العربي ببيروت، ودار قرطاس بالكويت، نعينا على الأكاديميا العربية، تجاهلها لفكر الأستاذ محمود محمد طه، وهو فكر منشور منذ أكثر من نصف قرن. وأشرنا إلى أنها أكاديميا، مدجنة، ومسيسة دينيا، وليست مطلقة السراح، فيما يتعلق بحرية البحث العلمي، خاصة ما يتعلق بمسألة التجديد الديني. والأكاديميا التي لا تلزم نفسها بالحياد العلمي الصارم، والأمانة العلمية، أكاديميا لا تستحق إسمها. أقول هذا، وفي ذهني الإشارات المبتسرة التي وردت عن الدكتور، لفكر الأستاذ محمود في مبحثه هذا. وهي إشارات لم تخل، على ابتسارها الشديد، من نغمة سلبية. كتب الدكتور في عرض طروحته، هذه الفقرة.
    إن زمان القبول «الفطري» بالثنائية المتباغضة للحداثة والتقليد قد شارف نهايته. فهذه الثنائية الآن قيد النظر الدقيق والمراجعة. فقد تأسف نقاد حديثون كيف لم يطل النقد والتمحيص إنتاج هذين المفهومين واستثمارنا المعرفي فيهما. فأنت تجد مثلاً من يبرر تجاهل الشريعة في بلورة القوانين الاستعمارية، الموصوفة بالحداثة، بأنها «متخلفة» من حيث سُلم العصرنة. ويتغاضى مثل هذا التبرير الحداثي عن حزازات المستعمرين وشوكتهم اللتين كانتا لهما القدح المعلى في تبخيس الشريعة وازدرائها كمصدر محتمل للقانون الاستعماري الحداثي.


    فما أسماه الدكتور عبد الله، ((الثنائية المتباغضة للحداثة والتقليد)) واقع حقيقي، وسببها لا ينصب حصريا، في موقف العلمانيين، حين تمسكوا بفكر الحداثة الأوروبية، وتنصلوا عن تراثهم المعرفي، والثقافي. وإنما سببه أيضا، ضيق تلك الشريعة، نفسها، عن استيعاب طاقة الواقع الحداثي. هذا من جهة، ومن الجهة الأخرى يقف جمود المؤسسة الدينية الإسلامية السلفية، وتخندقها في خندق القديم، والإصرار عليه، رغم مجافاته لمنطق العقل الحديث. فـالقول بأن الشريعة الموروثة، منذ القرن السابع، ((متخلفة)) بإزاء المشكلات المستجدة، ليس قولا منكرا، كما يشتم من رأي الدكتور. فهو قول لا يقال، حين يقال، خاصة من جانب الجمهوريين، بغرض إزدرائها والزراية بها. وإنما لتقرير حقيقة بسيطة، غاية البساطة! وهي أن كثيرا من صور الشريعة السلفية لم تعد صالحة، فعلا. والجمهوريون حين قالوا بذلك القول، قالوه من منطلق فهمهم أن في القرآن مستوى آخر، أكبر من الشريعة، وهو ما أشار إليه الأستاذ محمود بضرورة التفريق، بين ((الأصول))، و((الفروع))، وبين، ((الشريعة))، و((الدين))، وبين ((الشريعة)) و((السنة)).

    وبالطبع، فإن هذا لا ينفي أن بعض العلمانيين حين قالوا بـ ((تخلف)) الشريعة، إنما قالوه، للزراية بها. وهي زراية تفرعت من الزراية بالدين، من حيث هو. غير أنني أحب، أن أقرر، ما قرره الأستاذ محمود محمد طه، من قبل، ومن دون أدنى مورابة، أن كثيرا من صور الشريعة الإسلامية التي بين أيدينا، مما جرى تشريعها لمجتمعات القرن السابع الميلادي، وما تلاها، لاتصلح للتطبيق اليوم. وأخص بالذكر، شريعة الأحوال الشخصية، التي بين أيدينا الآن. ولسوف لن ينفتح لنا طريق إلى نهضة حقيقية، إلا إذا امتلكنا الشجاعة الكافية، لنقرر ما أثبته الواقع العملي، من قصور بعض صور الشريعة الإسلامية. ومثل هذا التقرير، مهم، غاية الأهمية. فبغيره، لا يمكن لنا، أن نمضي في سبيلنا إلى أصول القرآن، لنشرع منها، لمجتمعاتنا المعاصرة، وفق ما يناسب طاقتها، ويناسب حاجتها.
                  

03-09-2008, 00:09 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)



    نظرة نقدية لطرح الدكتور، عبد الله علي إبراهيم:
    التقـليـد الشـرعي والحـداثة
    د. النور حمد
    (5)

    الشاهد أن الشريعة القائمة على فروع القرآن ـ كما يسميها الأستاذ محمود محمد طه ـ لايجدي معها الترقيع الذي يدعو له الدكتور عبد الله، في معنى ما أشار إليه من أن له ثقة في ((تدريب))، و((ذوق)) القضاة الشرعيين. والسبب هو أن تلك الشريعة قد قامت على نصوص محكمة، لا مجال للإجتهاد معها. وهي نصوص لم تكفل الحقوق الدستورية، كما نفهمها اليوم، وهو أمر اقتضته ضرورات الواقع، وقتها. وقد شمل عدم كفلها للحقوق الدستورية، كلا من الرجال والنساء. وإن كان عدم كفالتها للحقوق الدستورية، لجنس النساء، قد كان أكبر، من عدم كفلها للرجال، وذلك بسبب حكم الوقت الماضي. وقد وردت الإشارات، والعبارات باستفاضة، فيما كتبه الأستاذ محمود، في تبيين أن ما حصل عليه الرجال، والنساء، من شريعة القرن السابع الميلادي، قد كان كبيرا، وبما لايقاس، مقارنا بما كان عليه حالهم، في حقبة ما قبل الإسلام .

    ولكي نضع الموضوع في إطاره التشريعي، لابد أن نشير إلى أن نصوص الشريعة الموروثة، تقول بجهاد الكافر، حتى يسلم: يقول تعالى: ((فإذا انسخ الأشهر الحرم، فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، وخذوهم، وأحصروهم، وأقعدوا لهم كل مرصد، فإن تابوا، واقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، فخلوا سبيلهم، إن الله غفور رحيم)). ومن ذلك جاء حديث النبي الكريم الذي يقول فيه: ((أمرت أن اقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وان محمدا رسول الله)). ومن تلك جاء حكم الردة: ((من بدل دينه فأقتلوه)). ومنها جاء قتل تارك الصلاة أيضا. كما أن نصوص الشريعة المحكمة تقول بقتال أهل الذمة، حتى يسلموا، أو يعطوا الجزية عن يد، وهم صاغرون. قال تعالى: ((قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله، ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق، من الذين أوتوا الكتاب، حتى يعطوا الجزية، عن يد، وهم صاغرون)). وقد فسر ابن كثير لفظة ((صاغرون)) بـ ((ذليلون حقيرون)). وجاء في الحديث النبوي: ((إذا لقيتم اليهود والنصارى، فلا تبدأوهم بالسلام، واضطروهم إلى أضيق الطريق)). وليراجع الدكتور الفاضل عهد سيدنا عمر بن الخطاب لأهل إيليا، عقب فتح بيت المقدس، وما جاء فيه من شروط مهينة، بلغت حد إلزامهم بجز النواصي. الشاهد أن الشريعة الموروثة، منذ القرن السابع غير قابلة للترقيع. وهذا هو ما أنفق الأستاذ محمود محمد طه، عمره كله في توضيحه.

    أما في جانب حقوق المرأة، فلا أدري ماذا كان في وسع ((التقليد الشرعي)) الذي يتحدث عنه الدكتور أن يفعل. وإلى أي مدى سوف يصل ((التقليد الشرعي)) في محاولاته تلك للترقيع؟ فالنص المحكم يقول: ((واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين، فرجل وامرأتان، ممن ترضون من الشهداء، أن تضل إحداهما، فتذكر إحداهما الأخرى))؟ فعلى أي شيء أستند الفقهاء، الذين جعلوا المرأة قاضية، في حين أن الشريعة الموروثة منذ القرن السابع الميلادي، لا تعطيها حتى حق الشهادة بمفردها؟ وأنا لا اعتراض لدي أن تعطى المرأة حق أن تكون قاضية، ولكن إعطاؤها ذلك الحق بالخروج على نص محكم، يجعل ذلك الحق عرضة للنقض في أي وقت. لأن تأسيسه تجاهل سلطة النص، منذ البداية. ولقد تفضل الدكتور الفاضل نفسه، بأن قال، إن الإنقاذ رجعت بحقوق المرأة إلى الوراء. والسبب هو أن منحها حق القضاء لم يتم على تأسيس ديني، واضح، وإنما تم بخروج، غير منهجي، على سلطة النص. والذين جاءوا، من أهل الإنقاذ، ورجعوا بمكتسبات المرأة السودانية، الوراء، في مسار أشبه بمسار طالبان، إنما فعلوا ذلك مسنودين بسلطة النصوص القواطع، وبتجربة التطبيق الإسلامي، في الماضي!
                  

03-09-2008, 00:11 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)




    نظرة نقدية لطرح الدكتور، عبد الله علي إبراهيم:
    التقـليـد الشـرعي والحـداثة
    د. النور حمد
    (6)

    ولابد من الإشارة هنا، إلى أن الفضاء الإسلامي، فضاء واسع. فحين رأى فقهاء الشرع في السودان، جعل المرأة قاضية، رفض فقهاء دول الجوار، حتى إعطاءها حق التقدم لنيل رخصة قيادة سيارة! كما منعوا اختلاطها بالرجال في الحياة العامة، والأماكن العامة، ومنعوه حتى في مدرجات الجامعات. كما رفضوا لها السفر بمفردها، وضربوا عليها العباءة والبرقع. وحصروا عملها في أضيق نطاق ممكن، وفي مهن محددة جدا. وما من شك أن من يرفضون الإفساح للمرأة في بساط الحياة الحديثة، ليسوا قوما يتجنون بغير حق، وإنما هم فقهاء يستندون على النصوص القاطعة، وهم أيضا، تسندهم معرفة راسخة بأحكام الشرع، كما كان عليه الحال، في صدر الإسلام، وما تلا من قرون. ولذلك فمثل هؤلاء، لن يروا فيما قام به القضاء الشرعي السوداني، حين أجاز قضاء المرأة، إلا خروجا على نصوص الشرع. وسيكون عملهم، من ثم، مراجعة أهل السودان، حتى يفيئوا إلى أمر الله، وينزلوا عند أحكام شرعه!

    مأزق قيد النص من محمد عبده إلى الدكتور الترابي:

    نعود إلى أصل الحداثة الإسلامية، الذي تكرم الدكتور عبدالله، بنسبته إلى الشيخ، محمد عبده، لنقارنه بمنهج الأستاذ محمود محمد طه، للبعث الإسلامي. فمحمد عبده شأنه شأن غيره، من رواد النهضة الدينية الحديثة، مثل جمال الدين الأفغاني، ورشيد رضا، وسيد أحمد خان، وغيرهم. والسمة الأساسية التي تجمع بين كل هؤلاء، هي الإلتفاف حول سلطة النصوص الصريحة. فهم لم يروا الرؤية التي رآها الأستاذ محمود، وهي الإنتقال من نص فرعي خدم غرضه، حتى استنفده، إلى نص أصلي، ظل مدخرا، حتى يحين وقته، وقد حان وقته. وقد سلك الدكتور الترابي مسلك رواد النهضة، هذا، في التوفيق بين ما طرحه الواقع الحداثي، وبين أحكام الإسلام، دون الإشارة، إلى الكيفية المنهجية، لتخطي، عقبة النص المحكم. وهذا هو عين ما جعل الدكتور الترابي، عرضة للتكفير، من جانب بعض غلاة النصوصيين. والدكتور عبد الله، لا يفعل الآن شيئا مغايرا لما قام به الدكتور حسن الترابي. فهو الآخر، يتحاشى مواجهة النصوص. وأحب أن ألفت نظر الدكتور الفاضل، وهو كثيرا ما جنح للتشنيع بالعلمانيين، أنه، نفسه، ينحو منحى علمانيا، حين يتجنب كليا، إيراد النصوص. وهذا ما أشتهر به الدكتور حسن الترابي، في مقارباته الكتابية، وأحاديثه الخطابية.

    قيد الإجتهاد في إطار الشريعة:

    مما هو معلوم من الدين بالضرورة، أن الفقه الذي تبع تشريع الرسالة الأولى ((رسالة الفروع)) قد قام أساسا على أن الإجتهاد لا يكون، إلا فيما ليس فيه نص. وفكرة الإجتهاد نفسها، يحكمها نص الحديث النبوي، لسيدنا معاذ بن جبل، حين سأله النبي صلى الله عليه وسلم، بم يحكم الناس، وقد كان معاذ في طريقه، لولاية المسلمين في اليمن. فقال معاذ: (( أحكم بكتاب الله)). فقال له النبي الكريم: ((فإن لم تجد؟)). فقال معاذ: ((فبسنة رسول الله)). فقال له النبي الكريم: ((فإن لم تجد؟)). فقال معاذ: ((أعمل رأيي ولا آلو)). فقال النبي الكريم: ((الحمد الله الذي وفق رسول رسول الله، إلى ما يرضي الله، ورسوله)). ولذلك فكل الفقه الإسلامي، إنما قام على هذا الحديث، وهو أن الإجتهاد مسموح به فقط، حين لا يكون هناك نص من الكتاب، أو السنة. ولاحق لأحد، أبدا، في الإجتهاد حين يكون هناك نص قطعي الدلالة. وهذا هو ما جعل دولا أسلامية، بعينها، لا تعطي المرأة حقوقها، إستنادا على نصوص الشريعة، القطعية الدلالة. ولذلك فإن أفكار طالبان، على مجافاتها الشنيعة لقيم الحداثة، تجد أصداء واسعة، عند ملايين المسلمين، في أرجاء المعمورة. وحين همت جماعة طالبان بتحطيم تمثال بوذا، فعلوا ذلك، وهم مستندين على نصوص شرعية، معروفة، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من صور صورة يعذبه الله حتى ينفخ فيها الروح، وما هو بنافخ فيها أبدا)). وكقوله لعائشة: ((يا عائشة، أتدرين من أشد الناس عذابا يوم القيامة؟)) قالت: ((الله ورسوله أعلم)). قال: ((المصورون)). وقد أرسلت كل من السعودية، وقطر، ودول خليجية أخرى، فيما أوردته أجهزة الإعلام، وفودا من العلماء، بناء على طلب تقدمت به جهات أجنبية كانت مشفقة على مصير التماثيل. وطلبوا من تلك الوفود مناقشة جماعة طالبان، لإثنائهم عما انتووا فعله بالتماثيل. ولكن فقهاء طالبان النصوصيين، حجوهم بنصوص، الشريعة، القواطع، وبالتطبيق العملي مما قام به النبي الكريم، من تكسير للأصنام. وعاد العلماء المبعوثون، يجرجرون أذيال الخيبة، وتم تدمير التماثيل.

    الشاهد هو: حين يوجد النص، لا يستمع أحد لفقيه، مهما كان شأنه، دع عنك أي فرد آخر. والمخرج الذكي، والأكثر عملية، وفعالية، من هذا المأزق التاريخي، هو ما جاء به الأستاذ محمود، حين دعا إلى الإنتقال من نصوص القرآن المدني، إلى نصوص القرآن المكي. فالحقوق الأساسية لا وجود لها في أحكام الشريعة، وإنما هي موجودة فقط، في أصول القرآن. وحين نبعث أصول القرآن نكون قد بنينا النقلة على سند نصي، يباعد بين الحقوق الأساسية، وكفالة الحريات العامة، وبين التشكك في دينيتها، وإلهيتها، ووصمها بالعلمانية. وهذه نقطة جوهرية يتغافل عنها المترددون في الأخذ بمنهج الأستاذ محمود محمد طه.
                  

03-09-2008, 00:12 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)




    نظرة نقدية لطرح الدكتور، عبد الله علي إبراهيم:
    التقـليـد الشـرعي والحـداثة
    د. النور حمد
    (7)

    بين مرجعية النص ومرجعية رأي الفرد:

    عُرف عن الدكتور حسن الترابي أنه يجتهد، لكي يجعل الشريعة قادرة على استيعاب طاقات الحياة الحديثة، ومستجيبة لحاجاتها. وهو يفعل ذلك لكي يُكسب ما يقوم به على الصعيد السياسي، صفة (الدينية). فهي الصفة التي راهن عليها منذ أن بدأ العمل السياسي. وكذلك، حتى لا يُتهم بالتنكر للشعارات التي جمع الناس حولها، منذ الستينات. غير أن الدكتور الترابي، يفعل ذلك بتغافل تام، لنصوص الشريعة. وهو يفعل ذلك، مثله مثل كثيرين غيره، ممن ينتهجون منهج التجديد، المتجاهل لسلطة النص. وهذا المنهج، يُظهر الدكتور الترابي، أراد أم أبى، كمن يقول للناس: أنا مرجعية، دينية، ومن حقي أن آتي من الأحكام، بما يخالف نصوص الشريعة، وأن على الناس أن يأخذوا ما أقول به، حتى وإن خالف ظاهر النص، ما دام ما أقول به، يحل إشكالية تناقض نصوص الشريعة مع بنية الواقع المعاصر. ولذلك فقد كتب الترابي في تشجيع ممارسة الفنون، من رسم، وتلوين، وتصوير، ونحت، ورقص، وغيرها، مما لم تشجع عليه الشريعة، أصلا. وتجاهل في ذلك، سلطة النصوص، كما تجاهل، في نفس الوقت، منهج الأستاذ محمود محمد طه، الذي سبقه إلى مسالة التجديد، بسنوات عديدة. تجاهل الترابي طرح الأستاذ محمود، ومنهجه، وكأنهما لم يكونا أصلا! ولكن أنظر إلى أين انتهى الأمر بالترابي. فها هو قد أُخرج من الساحة كليا! أعني، ساحة التجديد الديني، وساحة الفعل السياسي الذي يستمد شرعيته من مرتكزات دينية. وكما هو واضح، فإن الذين أخرجوا الترابي، من اللعبة، لم يكونوا خصومه، وما أكثرهم. وإنما أخرجه من اللعبة، أقرب تلاميذه إليه!! ورجعت كل اجتهادات الترابي، إلى نقطة الصفر، مرة أخرى. والسبب هو تجاهل سلطة النص. بل ذهب تلاميذ الترابي في شأن شيخهم، مذهبا بعيدا، فقالوا، بأنه سوف يتسبب في فتنة، إن هم أطلقوا سراحه!! الشاهد هنا، أن أي اجتهاد يتغافل مواجهة النصوص، ويتجاهل ضرورة تأسيس قيم الحداثة، على سلطة النص المقدس، اجتهاد مقضي عليه بالردة، وبالسقوط كرة أخرى، في بئر السلف العميقة.

    أنا لا أريد أن أقول أنه لا يمكن أبدا الإجتهاد إلا على الدرب الذي طرقه الأستاذ محمود ـ رغم أن ذلك قول صحيح، في تقديري الشخصي ـ ولكن دعني أقول، إن مخرج الأستاذ محمود يمثل أكثر المخارج تماسكا، من سلطة النص المحكم منذ القرن السابع. فمخرجه بالخروج من النص الفرعي، لتحكيم النص الأصلي يتيح ، دون غيره، لمن يريد الإجتهاد، أن ينتقل من سلطة نص مقدس، إلى سلطة نص مقدس آخر، لا إلى سلطة فرد. وقد عالج سمات التماسك في منهج الأستاذ محمود، في مسألة تطوير التشريع، الكاتب عبد الله بولا، معالجة، اتسمت بالإدراك العميق، وبالرصانة المنهجية، وذلك في العدد الرابع من مجلة "رواق عربي"، فليراجع في موضعه.

    ما يفعله الرافضون لمنهج الأستاذ محمود، هو أنهم ينقلون السلطة، النابعة من النص المقدس، إلى مرجعية، هي ليست أكثر من آرائهم الشخصية، كمجتهدين أعطوا أنفسهم حق الإجتهاد ضد سلطة النص المقدس. غير أن الواقع يقول، إن سلطة النص المقدس، على سواد الناس، أكبر من أي سلطة أخرى. وفي تقديري الشخصي، أن المسلمين سوف يشرقون، ويغربون، ولكنهم لن يجدوا، في نهاية المطاف، مخرجا، أسلس، وأضبط، وأشمل، وأكثر حبلا بالوعود الإنسانية، من المخرج الذي رسمه الأستاذ محمود محمد طه. وما أكثر ما سمعت الأستاذ محمود يتمثل أبيات إبن الفارض، حين تبلغه أنباء الاعتراضات على فكره، فيردد قائلا:

    وعن مذهبي، لما استحبوا العمى على الهدي، حسـدا من عند أنفسهم، ضـلُّوا
    فهم في السـُّرى، لم يبرحوا من مكانهم، وما ظعنوا في السـير عنه، وقد كَلُّوا

    ودعونا، على ضوء ما شرحنا أعلاه، نقرأ ما كتبه الدكتور عبد الله، في تقدمة طروحته:
    أريد في المقالات التي انشرها متتابعة ان أرد الشريعة الي مطلبها الحق أن تكون مصدراً للقوانين في بلد للمسلمين. ولست أرى في مطلبها هذا بأساً او ظلماً لغير المسلمين. فهي عندي مما يسع التشريع الوطني العام ويهش له متى خلا دعاتها من نازعة "الوطنية الاسلامية" وبذلوا سماحتها للوطن لايفرقون بين أهله متوسلين الى ذلك بحرفة القانون عارضين اجتهادهم من خلال مؤسسات التشريع بالدولة. ولست ادعي علماً فيما يجد غير انني اتفاءل بما سلف من خصوبة الشريعة وحسن تدريب وذوق المشرعين بها من قضاة المحاكم الشرعية على عهد الاستعمار وماتلاه في ترتيب قوانين التزمت خير الأسرة المسلمة وانتصفت للمرأة ما وسعها. وهي ما اسميه "التقليد الشرعي السوداني، (1898-1983).
                  

03-09-2008, 00:14 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    نظرة نقدية لطرح الدكتور، عبد الله علي إبراهيم:
    التقـليـد الشـرعي والحـداثة
    د. النور حمد
    (8)


    فالجمهوريون لا اعتراض لديهم في أن تكون قيم الدين، ملهما للقوانين، ما دامت تلك القوانين دستورية، ولا تفرق بين الناس على اساس الدين، أو اللون، أو الأصل العرقي، أو الجنس (رجل وإمرأة) وهو ما يسمى هذه الأيام، بـ (الجندر). غير أن الدكتور عبد الله، بحاجة إلى أن يفصح عما يعني حين يقول: ((أريد في المقالات التي انشرها متتابعة ان أرد الشريعة الي مطلبها الحق أن تكون مصدراً للقوانين في بلد للمسلمين)). فقد قال نفس هذا الحديث أناس كثيرون قبله، ولم يجيئنا من ذلك في السابق، غير التكفير، والقتل، والإستتابة، والجلد، وقطع أطراف المعوزين، من البسطاء الذين قذف بهم الهامش المهمل، إلى قلب مدينة أخطبوطية لا رحمة فيها! فما الجديد، فيما يقول به الدكتور، وماهي تفاصيله، وما هي أسانيده؟

    أما قوله الدكتور: ((... أنني اتفاءل بما سلف من خصوبة الشريعة وحسن تدريب وذوق المشرعين بها من قضاة المحاكم الشرعية على عهد الاستعمار وماتلاه في ترتيب قوانين التزمت خير الأسرة المسلمة وانتصفت للمرأة ما وسعها. وهي ما أسميه "التقليد الشرعي السوداني"))، يظل قولا لا يخلو من تفكير بالرغبات، ومن شيء من الرومانسية الدينية. فما هو سند الدكتور على ((ذوق)) القضاة الشرعيين، و((حسن تدريبهم)) مما رأيناه في تاريخنا القريب على أرض الواقع؟ ؟ فهل سمع الدكتور عبد الله، أن القضاة الشرعيين، قد وقفوا، مثلا، ضد قوانين سبتمبر؟ وهل سمع أنهم وقفوا، ضد الحكم على الأستاذ محمود محمد طه بالردة، والذي أصدرته ـ وللمفارقة ـ المحكمة الشرعية العليا بالخرطوم عام 1968؟ فعن أي ((حسن تدريب))، وعن أي ((ذوق)) يتحدث الدكتور؟ ثم هل سمع الدكتور استنكارا، منسوبا للقضاة الشرعيين، لمأساة إعدام الأستاذ محمود محمد طه، عام 1985؟ وهل في وسع الدكتور أن يرينا موقفا واحدا، بارزا، للقضاة الشرعيين، ضد سلطة الإنقاذ الحالية، وكل صور التخبط، وكل التجاوزات التي روعت بها أهل السودان؟

    لم يشر الدكتور عبد الله، في طروحته، إلى الفكر الجمهوري ـ صاحب أكبر اسهام في قضية تطوير التشريع، ورسم صورة الدولة الإسلامية المستقبلية ـ إلا بصورة مبتسرة. وهو حين أشار إليه، إنما أشار لكي ينحي عليه باللائمة، فيما نشب من صراع بين الجمهوريين، وبين القضاة الشرعيين، وسائر الجهات السلفية، عبر عقود، الستينات، والسبعينات، والثمانينات، من القرن الماضي. ولنأتي فيما يلي، لنفحص هذه التهمة، ونرى إن كان هناك ما يؤيدها فعلا، من الوقائع التاريخية، لتاريخ لا يزال من عايشوا أحداثه المؤسفة، أحياء يرزقون.

    كتب الدكتور الفاضل:

    ومن جهة أخرى تحاشى الفكر الجمهوري هذا التقليد الشرعي مع أن أصلهما واحد وهو الحداثة الاسلامية التي ركنها وحجتها الامام محمد عبده. وزاد الفكر الجمهوري في جفائه لهذا التقليد الشرعي بجعله هدفاً لحملات نقد وتنقيص. وقد كتبت مرة في جريدة الميدان السرية في منتصف السبعينات التمس من الجمهوريين أن يلطفوا عبارتهم في نقد القضاة مع علمي بمحنة الجمهوريين وما نالهم من القضاة و الوعاظ في المساجد من أذى وترويع. ومغاضبة الجمهوريين لم تقع من جهة احسان ذلك التقليد الشرعي أو اساءته بل من إرث مواجهة سياسية راجعة الى ايام الحركة الوطنية. فقد صنف من ظنوا في انفسهم مجاهدة الاستعمار من أمثال المرحوم محمود القضاة الشرعيين والاعيان وزعماء القبائل والطوائف بأنهم من أعوان الاستعمار. وهذا كلام جاز طويلاً غير أنه خاضع للنظر والمراجعة الآن. ويكفي أن تقرأ ما كتبه الدكتور حسن احمد ابراهيم عن السيد عبدالرحمن المهدي لكي تتشكك في صواب هذه الذائعة عن أولئك الرجال. وقد دق حكم المحكمة الشرعية بردة المرحوم محمود محمد طه، عليه الرحمة، في 1968 إسفين الخصومة بين القضاة والمرحوم واختلط حابل تطوير الشريعة بعاديات السياسة وأطوارها وبمنطويات النفوس.


    النص أعلاه، مما قاله الدكتور عبدالله، لا يخلو من نبرة تحامل على الأستاذ محمود والجمهوريين. ورغم أن الدكتور قد قال: (وقد كتبت مرة في جريدة الميدان السرية في منتصف السبعينات التمس من الجمهوريين أن يلطفوا عبارتهم في نقد القضاة مع علمي بمحنة الجمهوريين وما نالهم من القضاة والوعاظ في المساجد من أذى وترويع)، إلا أنه، رغم ذلك، مال أكثر إلى الإنحاء باللائمة، جهة الجمهوريين. وأرجع الدكتور جذور تلك الخصومة، إلى أيام الحركة الوطنية، قائلا: ((فقد صنف من ظنوا في انفسهم مجاهدة الاستعمار من أمثال المرحوم محمود القضاة الشرعيين والأعيان وزعماء القبائل والطوائف بأنهم من أعوان الاستعمار. وهذا كلام جاز طويلاً غير أنه خاضع للنظر والمراجعة الآن)). وعبارة، ((من ظنوا في أنفسهم مجاهدة الإستعمار من أمثال المرحوم محمود)) عبارة مشحونة. ومن يقرأها، يشتم فيها غمزا، من طرف خفي. فالأستاذ محمود لم يظن بنفسه، مجرد ظن، وإنما كان بالفعل، مجاهدا حقيقيا من أجل الإستقلال. بل، هو أول سجين سياسي، في حقبة مناهضة الإستعمار الإنجليزي. ولا يغير في ذلك شيئا، كون أن كتب التاريخ السودانية، التي بين أيدينا، الآن، لم تشر إلى ذلك، إلا لواذا. فالتاريخ، على كل حال، سجل تتم مراجعته، وإعادة كتابته، كل يوم. جاء في صحيفة (الرأي العام) عدد يوم 3/6/ 1946، ما يلي:
    مثل الاستاذ محمود محمد طه المهندس امس امام قاضي الجنايات المستر مكدوال متهما من بوليس الخرطوم تحت قانون التحقيق الجنائي لتوزيعه منشورات سياسية من شأنها الاخلال بالأمن العام، وقد أمره القاضي أن يوقع على صك بكفالة شخصية بمبلغ خمسين جنيها لمدة عام، لايشتغل خلالها بالسياسة ولا يوزع منشورات. أو يودع السجن لمدة سنة اذا رفض ذلك..
                  

03-09-2008, 00:15 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)



    نظرة نقدية لطرح الدكتور، عبد الله علي إبراهيم:
    التقـليـد الشـرعي والحـداثة
    د. النور حمد
    (9)


    والذي حدث فعلا، ان الأستاذ محمود رفض التوقيع، مفضلا السجن. وقد اقتيد من مكانه ذاك الى سجن كوبر. ولا اعتراض لدي، أن يقوم بخلد الدكتور، عبدالله، أن النضال عن طريق تبادل المنشورات مع الإنجليز، ربما كان السبيل الأفضل للسودانيين، لنيل استقلالهم. وهذه نقطة يمكن أن تكون محل جدل، وتظل المقاربات فيها، متجددة، ومتغيرة، كل يوم. وعموما فإن رجحان أي من الإتجاهين، لا يكون بغير النظر، في النتائج العملية، التي تمخض عنها إستقلالنا. وهي نتائج بلغت بنا حد المآسي الكبرى. فقد انتهى بنا استقلالنا إلى فقر منقطع النظير، وإلى ريف خاو على عروشه، هجره أهلوه، وإلى عاصمة تضخمت حتى صارت كابوسا مزعجا. ثم إلى هجرة مأساوية، إلى خارج البلاد، قوامها العلماء، والمهنيون، استهدفت كل أركان الأرض. ثم ها هو قطرنا، لا يميزه، ولا يصفه وصف، مثل كونه يسقط كل يوم في مستنقعات العزلة المعرفية، والوجدانية، عن بقية العالم، حتى غدا لا يمت إلى البنية الكوكبية المتشكلة الآن، إلا بأوهى الصلات.

    في تقديري، أن المتعلمين الأوائل، لم يكونوا بالوعي السياسي الكافي، لإدارة شأن خطير، كشأن الإستقلال. كما لم يكونوا، أيضا، بالقامة الأخلاقية التي تمكنهم من رؤية المخاطر، حين تهافتوا على الولاء لزعماء الطوائف. فهم قد عجزوا عن مغالبة بريق المناصب، ودعة الكراسي الإنجليزية التي كانت على وشك أن تشغر، وقتها. ودعنا فقط، نقارن استقلالنا باستقلال الهند، وتطورنا الديمقراطي، بتطور وثبات ديمقراطية الهند. وهي قد سبقتنا إلى الإستقلال، بسنوات قليلة جدا. ويقيني، لو أن مثقفينا الأوائل، كانوا على شاكلة الأستاذ محمود، وما قدمه طيلة حياته، من نموذج خلقي نادر للقيادة، الفكرية، والسياسية، لربما أخذ مسار الأحداث لحقبة ما بعد الإستقلال منحى أفضل! قال الأستاذ محمود، في التنبيه إلى ضرورة التركيز على معنى الإستقلال آنذاك: ((فقد يخرج الانجليز غدا، ثم لا نجد أنفسنا أحرارا، ولا مستقلين، وانما متخبطين في فوضى مالها من قرار)). وكان يقول إن الاستقلال ليس: ((استبدال الانجليز بانجليز في أسلاخ سودانيين))..

    فحين اتجه الأستاذ محمود، إلى مواجهة الإنجليز، عن طريق تحريك الشارع، فعل ذلك لأنه لم يستسغ ما شرع فيه المؤتمر من تبادل للمذكرات، مع الإدارة الإنجليزية. وهناك أدب كثير، مثبت، في هذه المسألة. ومن ذلك الأدب، ما جاء في كتيب السفر الأول الذي أخرجه الجمهوريون، عام1945 ، حين كتب الأستاذ محمود:
    وإنعدام الذهن المفكر تفكيراً حراً دقيقاً هو الذي طوع للمؤتمر يوم ولدت فيه الحركة السياسية ـ وهي قد ولدت ميته ـ أن يعتقد أن كتابة مذكرة للحكومة تكفي لكسب الحرية، حتى لكأن الحرية بضاعة تطلب من الخارج، ويُعلن بها الزبائن بعد وصولها، حتى تكون مفاجأة، ودهشة.. ولو أن جميع الأحزاب القائمة الآن إستطاعت أن تفكر تفكيراً دقيقاً لأقلعت عن هذه الألاعيب الصبيانية التي جعلت الجهاد في سبيل الحرية ضرباً من العبث المزري..

    كما تحدث الأستاذ محمود عن إهمال المؤتمر توعية الشعب، في نفس الكتيب قائلا:
    لماذا، عندما ولدت الحركة السياسية في المؤتمر، إتجهت إلى الحكومة تقدم لها المذكرات تلو المذكرات ولم تتجه إلى الشعب، تجمعه، و تنيره، وتثيره لقضيته؟؟ ولماذا قامت عندنا الأحزاب أولا، ثم جاءت مبادؤها أخيرا ؟؟

    وتحدث الأستاذ عن مسألة التعليم، ونبه إلى خطورة عدم الأخذ، منذ البداية، بسياسة تعليمية تنموية راشدة، فقال:
    ولسائل أن يسأل لماذا لم يسر المؤتمر في التعليم الأهلي على هدى سياسة تعليمية موضوعية، منظور فيها إلى حاجة البلاد كلها، في المستقبل القريب، والبعيد؟ .... فلو كان المؤتمر موجهاً توجيهاً فاهماً لعلم أن ترك العناية بنوع التعليم خطأ موبق، لا يدانيه إلا ترك العناية بالتعليم نفسه.. ولأيقن أن سياسة (سر كما تشاء) هذه المتبعة في التعليم الأهلي سيكون لها سود العواقب في مستقبل هذه البلاد. فإن نوع التعليم الذي نراه اليوم لن يفلح إلا في خلق البطالة، و تنفير النشئ من الأرياف، و تحقير العمل الشاق في نفوسهم.

    وتحدث الأستاذ محمود عن معاناة الشعب الإقتصادية، فقال في (السفر الأول) أيضا:
    من ألزم واجباتنا أن نهيئ لأخلافنا حياة ترتفع عن حياة السوائم والأنعام. فإن هذه الحياة التي نحياها نحن اليوم ـ هذه الحياة التي تستغرق مطالب المعدات والأجساد كل جهادها، و كل كدها، لهي حياة لا يغبط عليها حي حيا .. فإن نحن رضيناها لإخلافنا من بعدنا إنا إذن لخاسرون.

    والطريف أن هذه الصورة التي رسمها الأستاذ لعيش السودانيين، آنذاك، قد تفاقمت، وبشكل غريب، بدل أن تتناقص. كان من الممكن للحركة الوطنية أن تعمل منذ حقبة الإستعمار، على وضع البلاد في الطريق الصحيح، في السياسة، والإقتصاد، والصحة، والتعليم، إلخ. الشاهد فيما تقدم، أن الأستاذ محمود قد كان صاحب رؤية واضحة، منذ البداية. ورؤيته هذه هي التي قادته لمواجهة الإنجليز، حين فضل الإتجاه إلى تحريك الشعب على الإرتماء تحت عباءة الطائفية، التي تقصي وتقرب، من يلتصق بها، بمقدار ما يظهر من ولاء، وطاعة، وانصياع. الشاهد، أن الأستاذ محمود كان يستحق إشارات، أفضل من الإشارات السالبة التي خصه بها الدكتور عبد الله في مبحثه، هذا. خاصة وأن الأستاذ محمود، قد ضرب نموذجا للمثقف الملتزم جانب الشعب، لا يضاهيه نموذج آخر. أما أفكاره، فلا مجال لتجنبها بحثيا. اللهم إلا إن تخلينا عن أسس، وقواعد، وأخلاقيات البحث العلمي. خاصة في مبحث يعنى بمسألة التقليد والحداثة، كالذي يبحث فيه الدكتور عبد الله، الآن.

    حقيقة الصراع مع القضاة الشرعيين:
    أما الإتهام الموجه، للقضاة الشرعيين، على وجه الخصوص، بمعاونة الإستعمار، فلم يكن محض تجنٍ. فقد أغدق الإنجليز على القضاة الشرعيين، بما أسموه وقتها (كساوي الشرف). وقد كانوا يستميلونهم ويخطبون كامل ولائهم، مثلما فعلوا مع زعماء الطوائف الذين أغدقوا عليهم من أراضي الشعب، وحولوهم، في رمشة عين، من سلالة لصوفية فقراء، إلى إقطاعيين عظام. وقد كان القضاة الشرعيون في حل، تماما، عن التعاون مع الإنجليز الذين حصروا عملهم، في جانب الأحوال الشخصية، وحدها، وهمشوا دورهم، وجعلوهم تحت سلطة القضاة المدنيين. غير أن القضاة الشرعيين، شأنهم شأن كثير من الأفندية، في حقبة الحركة الوطنية، عجزوا عن مقاومة بريق المناصب، والإمتيازات الوظيفية، والوجاهة التي يمنحها القرب من الإدارة الإنجليزية. وعموما فإن التصاق من يسمون بـ (رجال الدين) المسلمين بالحكام شأن قديم. فقد عرف التاريخ الإسلامي، نماذج مستفيضة، لممالأة من يسمون بعلماء الدين، وقضاة الشريعة، لأهل السلطان. وقد كان هناك الكثير، والكثير جدا، من الفتاوى التي أصدرها من يسمون بـ (رجال الدين) لخدمة الحكام، عبر التاريخ الإسلامي. أما في تاريخ السودان القريب، فالدكتور نفسه، هو الذي كتب، (الصراع بين المهدي، والعلماء). ورغم أنني ممن يتحفظون كثيرا، على الثورة المهدية، ومفاهيمها، وما لحق بها من ادب اتسم بالتمجيد، والإبتعاد عن النقد، إلا أنني أتحفظ أيضا على نزاهة، و(شرعية) دوافع (العلماء)، الذين أفتوا للحكومة التركية، ضد المهدي. وعضدوا موقف حاكم الخرطوم، وقتها، غردون باشا، مفندين دعاوي المهدية. وعموما، فقد أثبت الجمهوريون بالوثائق، ما يرمون به رجال الدين المسلمين، في كتاب أسموه، (الدين ورجال الدين، عبر السنين). وخلاصة القول، أن الجمهوريين، لم يرموا القضاة الشرعيين، ومن يسمون عندنا، برجال الدين، رجما بالغيب، وإنما بالوثائق، وتحليل الوثائق.
                  

03-09-2008, 00:17 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)



    نظرة نقدية لطرح الدكتور، عبد الله علي إبراهيم:
    التقـليـد الشـرعي والحـداثة
    د. النور حمد
    (10)


    لقد وقف الأستاذ محمود منذ البداية ضد ثنائيتين، وهما: ثنائية القضاء: (مدني) و(شرعي)، وثنائية التعليم: (ديني)، و(مدني). وهذا في حد ذاته مبحث كبير، يمكن من خلاله النفاذ إلى عمق رؤية الأستاذ محمود لمستقبل الفضاء الإسلامي. وقف الأستاذ محمود محمد طه، ضد التخصص في الدين. وقال إن ظاهرة رجال الدين، التي نراها، واحدة من علامات انحطاط المسلمين. وهي ظاهرة وافدة على الإسلام، من التقاليد الدينية الكهنوتية، اليهيودية، والمسيحية. وقال إن صدر الإسلام لم يعرف ظاهرة (رجال الدين). وعلى كل مسلم، ومسلمة أن يكونا (رجل، وإمرأة دين) ـ إن صح التعبير ـ. ولا مجال هنا لشرح هذه الرؤية الثورية، ولكنها رؤية جديرة بالتأمل، المتروي.

    جاء في (السفر الأول)، 1945، ما يلي:
    لا يرى الحزب الجمهوري أن يكون هناك تعليم ديني و تعليم مدني كل في منطقة منعزلة عن الأخرى .. ولا يرى أن يكون للرجل أخلاق في المصلى وأخرى غيرها في الحانوت أو الشوارع ، وإنما يرى أن يتعلم كل الناس أمور دينهم وأمور معاشهم، ثم يضطربون في ميدان الحياة بأجسام خفيفة وأرواح قوية، وقلوب ترجو لله وقاراً.


    وكذلك الشأن مع القضاء الشرعي. فالأستاذ محمود قد كان ضد أن يكون هناك قضاء شرعي، في جهة، وآخر مدني، في جهة أخرى. وقبول القضاة الشرعيين، تولي ذلك الدور الذي رسمه لهم الإنجليز، يدل على كونهم لم يروا في تلك الوضعية الهامشية، بأسا، من الأساس. ومسألة الشوكة، وسلطة المستعمر، التي أشار إليها الدكتور، عبد الله، ليعطي القضاة الشرعيين، عذرا، لا تعطيهم عذرا كافيا، في حقيقة الأمر. وما أظن أن الإدارة البريطانية كانت سوف تجبر أحدا على وظيفة لا يريدها.

    وزر الخصومة:

    السياق اللغوي، الذي أورد فيه الدكتور إشارته إلى الجمهوريين، ونقدهم للقضاة الشرعيين، ربما أوحى للقراء بأن الجمهوريين شركاء، في وزر تلك الخصومة. وربما يشتم القارئ، من إشارة الدكتور، أن وزر الجمهوريين، ربما كان الأكبر! والمعروف أن أميز ما ميز حركة الأستاذ محمود، وتلاميذه الجمهوريين، هو أسلوب اللاعنف الذي اتسمت به حركتهم، دون سواها من الحركات. والدكتور الفاضل، يعرف، أن الأستاذ محمود قد ظل يدعو لفكرته، في الفترة ما بين 1950، وحتى بداية الستينات، بهدوء شديد، وسط مجاميع المثقفين. كما أن الأستاذ محمود، قد كان، أيضا، جم النشاط، في مجال الكتابة إلى الصحف. غير أن حادثة فصل أربعة من الطلاب الجمهوريين، من معهد أم درمان العلمي، في أوائل الستينات، بحجة إعتناقهم لأفكار الأستاذ محمود، هي التي أطلقت شرارة المواجهة، بين الأستاذ محمود، وبين جموع السلفيين، من قضاة شرعيين، وأئمة مساجد، ووعاظ، ومعلمين لمادة التربية الإسلامية. ثم تصعدت المواجهة بعد ذلك حين أصبح القضاة الشرعيون جزءا من الجسم الإسلاموي العريض الذي تمثل في مظلة جبهة الميثاق الإسلامي، التي وسع سوحها، الدكتور، حسن الترابي، في حقبة الستينات.

    وبعد أن تعرض الطلاب الجمهوريين، بمعهد أمردمان العلمي، للسخرية، والهزء المسرف، من قبل شيخ المعهد، طلب الأستاذ محمود من شيخ المعهد، آنذاك، الشيخ، محمد المبارك عبد الله، أن يناظره في أي مكان، وزمان يشاء، ووسط أي جمهور يختار. والذي دفع بالأستاذ محمود لطلب المناظرة، هو إسراف شيخ المعهد، في مضايقة أولئك الطلبة، والهزء بهم، والسخرية منهم. وقد ذكر الأستاذ محمود، للشيخ محمد المبارك، إنه هو ـ أي الأستاذ محمود ـ صاحب تلك الأفكار، التي أخذ الشيخ بسببها، يهزأ من طلبته، ويسخر منهم على الملأ. قال الأستاذ محمود لشيخ المعهد، إن تلك الأفكار هي أفكاره، وأنه هو الأقدر على الدفاع عنها، وليس الطلبة. ولذلك، فمن الأولى، أن يناظر صاحبها، حولها، بدل أن يعرض الطلاب، لكل تلك الضغوط. قبل الشيخ، بادئ الأمر، بالمناظرة، ولكنه سرعان ما عاد ورفضها. ثم بدأ، بعد ذلك، التشويش المنظم، على أفكار الأستاذ محمود، في الصحف، وفي المساجد، وسارت تلك الحملة شوطها، سنينا، حتى بلغ الأمر، حد محاكمة الأستاذ محمود بالردة، في سنة 1968. وقد جرت محاكمة الأستاذ محمود بالردة، في قضية حسبة، تقدم بها الشيخان، الأمين داؤود محمد، وحسين محمد زكي، وقد شهد فيها، ضد الأستاذ محمود، بالرأي، كل من الشيخ على طالب الله، وعطية محمد سعيد، والزبير عبد المحمود، وشوقي الأسد. والشاهد هنا، أن القضاء الشرعي، اختار أن يتوج حملة التشويش التي بدأت منذ بداية الستينات، بالقيام بالنيابة عن كل السلفيين، بمهمة إسكات صوت الأستاذ محمود محمد طه. وهذا باختصار شديد، هو القضاء الشرعي، الذي يريد الدكتور إنصافه في طروحته، التي نحن بصددها. وكوننا اليوم نراجع مفهوم المركزية الثقافية الأوربية، على ضوء فكر ما بعد الحداثة، لا يعني أن نرتد إلى الوراء، مدافعين عن قضاء عمل في أعلى سلطاته على نقض أهم مكتسباتنا الدستورية، وهما حرية الإعتقاد، وحرية التعبير عنه. وخلاصة القول، في هذا الجانب، أن القضاة الشرعيين، هم الذين فجروا في خصومتهم للفكرة الجمهورية، مدفوعين، كشأنهم دائما، ببعض السياسيين الذين كانوا يتسترون من خلفهم.

    السلفيون قبيلة واحدة:

    فيما أعلم، أن الدكتور عبدالله، أحد معاصري حادثة طالب معهد المعلمين العالي، ومن شهود ما تمخض منها ككيد مدبر بلغ درجة حل الجزب الشيوعي السوداني، وطرد نوابه المنتخبين، من البرلمان. ثم ما كان من أمر الهجوم المسلح على دار الحزب الشيوعي السوداني، آنذاك. ولا بد أنه قد شهد، دور الأستاذ محمود المشهود، في إخماد تلك الفتنة. ومواجهة مؤامرة تعديل الدستور، لإخراج نواب الحزب الشيوعي المنتخبين من البرلمان. ولابد من الإشارة هنا، إلى أن بعض قادة ما كان يسمى في الماضي، بـ (جبهة الميثاق الإسلامي) قد اعترفوا مؤخرا، بالإستغلال المتعمد، لحادثة طالب معهد المعلمين، ومن على صفحات الصحف السيارة. فالدكتور أحد شهود كل ذلك التهريج السياسي، وكل تلك العجلة المريبة لتمرير، ما سمي وقتها، بالدستور الإسلامي، الذي بلغ أن أجازته الجمعية التأسيسية، في مرحلة القراءة الأولى. أفلا يدل كل ذلك، على أن نسخة الفهم الديني التي كانت تتقدم حثيثا، وقتها، لجمع السلطتين الدينية، والزمنية، في يد واحدة، لا تمت بصلة للصورة التي يحاول الدكتور رسمها لها الآن، في هذه الطروحة؟ لقد أطلق القضاة الشرعيون ضربة البداية لتداعيات التردي، في جحور المفاهيم القروسطية، والتي لا نزال نعاني من تداعياتها أشد المعاناة، وحتى يومنا هذا. ونرجو من القراء مراجعة ما كتبه الأستاذ محمود عن تلكم الأيام في كتبه: (الدستور الإسلامي، نعم، ولا)، و(زعيم جبهة الميثاق، في ميزان: ـ(1)الثقافة الغربية، (2)الإسلام)، و(بيننا وبين محكمة الردة). وذلك على العنوان التالي، في شبكة المعلومات الدولية:
    www.alfikra.org.
                  

03-09-2008, 00:19 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)



    نظرة نقدية لطرح الدكتور، عبد الله علي إبراهيم:
    التقـليـد الشـرعي والحـداثة
    د. النور حمد
    (11)

    القضاء الشرعي، قضاء مسيس، سلفيا، بحكم التعليم الذي يتلقاه القضاة الشرعيون. ولكي يكون المرء حداثيا، يلزمه، قدر من التعليم المدني، ومن دراسة متعمقة لتاريخ الحضارات، ومن الفلسفات الإنسانية في العصور المختلفة، ومن الجغرافيا الإقتصادية، وغيرها من العلوم الإنسانية، مما يحرص على توفيره أي نظام تعليمي، عصري، متوازن. غير أن ما توفر لرجال الدين، والقضاة الشرعيين، لم يكن، حتى لوقت قريب جدا، تعليما متوازنا. ونسخة من ذلك التعليم، غير المتوازن، تقوم به الآن، ما تسمى بـ (المدرسة) ـ وهي مؤسسة أشبه بالخلوة ـ في باكستان، وأفغانستان. هذا النوع من التعليم، هو الوالد الشرعي، للجمود العقيدي، وللعنف السياسي. وخلاصة القول، أنه لا فكاك للتقليد الذي يتحدث عنه الدكتور، من قبضة الجمود. أما الشذرات التاريخية، التي يجمعها الدكتور عبد الله، هنا وهناك، من سجلات القضاء الشرعي، في السودان، كالسماح بوجود قاضيات شرعيات، وبعض المنشورات التي أجرت بعض الإصلاحات، التي ألحقت بقانون الأحوال الشخصية، في النصف الأول من القرن العشرين، والعقود الثلاثة التي تلته، لا تكفي لخلق مسار، عتيد، لتقليد شرعي يستهدف الحداثة. وحتى حين واجه القضاة الشرعيون، مسألة (بيت الطاعة)،وهو حكم مبني على آية القوامة، التي تقول: ((الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض، وبما أنفقوا من أموالهم، فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله، واللاتي تخافون نشوزهن، فعظوهن، واهجروهن في المضاجع، واضربوهن، فإن أطعنكم، فلا تبغوا عليهن سبيلا، إن الله كان عليا كبيرا)). حين حاول القضاة التصدي للشكاوى العديدة التي تسبب فيها حكم (بيت الطاعة)، لم يواجهوا أصل المشكلة، وإنما فقط، أوقفوا تنفيذ إعادة المرأة إلى بيت زوجها (بيت الطاعة) قسرا، عن طريق الشرطة، وقد كان ذلك هو أسلوب تنفيذ ذلك الحكم. لكن رغم أن المرأة قد أصبحت لا تساق مخفورة بواسطة الشرطة، إلى بيت رجل لا تود العيش معه، فهي تظل، والحالة تلك، تحت رحمة الحاجة الإقتصادية التي قد تجبرها للعودة، راغمة. فالزوجة التي لا تنصاع لحكم (بيت الطاعة)، تفقد نفقتها. هذا إضافة إلى أنها سوف تبقى معلقة، لأنها لن تستطيع الحصول على الطلاق، لتتزوج بآخر! في حين أنه من حق زوجها الإقتران بأخرى! فلمصلحة من يريد الدكتور عبد الله، إطالة عمر هذه (المرمطة) التاريخية لجنس النساء، حين يحرص على إعادة تلميع مثل هذه العقليات القروسطية؟ ما نحن بحاجة، إلى عمله الآن هو مواجهة المفاهيم، التي يحملها القضاة الشرعيون، مما لا يزال مسلطا على رقابنا، حتى يوم الناس هذا. ومنها قانون الردة الذي لا يزال جالسا (بسلامته) وسط قوانين السودان، دون غيره من أقطار الأرض.

    تقرأ المادة (126)، من القانون، كالآتي:

    1- يعد مرتكباً جريمة الردّة كل مسلم يروج للخروج على ملة الإسلام أو يجاهر بالخروج عنها بقول صريح أو بفعل قاطع الدلالة.
    2- يستتاب من يرتكب جريمة الردّة ويمهل مدّة تقررها المحكمة فإذأ أصر على ردته يعاقب بالإعدام.

    وبناء على هذه المادة، تمت مؤخرا استتابة القاضي السابق، النيل عبد القادر أبو قرون.

    خاتمة:

    ما أريد أن ألفت إليه نظر الدكتور الفاضل، أن القضاة الشرعيين، ربما حلا لهم، أحيانا، أن يتخففوا قليلا، من قيود الشريعة الصارمة. غير أنهم، لا يفعلون ذلك، إلا حين تكون الرياح مواتية، والظرف مهيأ، كأن يكونوا تحت ظل حكم كالحكم الإنجليزي، أو تحت العهود الوطنية الديمقراطية. ففي مثل تلك الظروف، تخبو حدة الخطاب الديني، ويصبح مجاراة الحداثة مطلوبا. ولكن حين تعلو حدة الخطاب الديني، ويحمومي سوقه، فسرعان ما يرجعون إلى قماقمهم (القروسطية). وقد تكرم الدكتور بنفسه، بالإشارة، إلى ما فعلته الإنقاذ من نقض أنكاث، لمكتسبات المرأة السودانية، فهل يا ترى، رأى القضاة الشرعيين، يهبون لنجدتها؟

    هذه مساهمة نقدية متواضعة، مني، اقدمها للدكتور، الفاضل، عبد الله علي إبراهيم، ليستصحب منها، ما يراه مناسبا، وهو يطور طروحته. وأحب أن أنبهه، إلى أن إغفال إسهام الأستاذ محمود، أو الإكتفاء بالإشارات المبتسرة لفكره، في هذا الباب، سوف تضران كثيرا، بمصداقية طرحه، وأمانته العلمية. هذا فضلا على أن الطروحة، نفسها، سوف لن تخلو، والحالة تلك، من عرج علمي، سوف يلم بها، لامحالة، نتيجة للتجاهل المتعمد لطرح الأستاذ محمود. أما فيما يخص شكل الدولة الذي نريده، ونحن نتطلع إلى أن تضع الحرب أوزارها في السودان، في القريب العاجل، ويعود السلام، مرة أخرى، فهو، على أقل تقدير، (خرطوم علمانية. وسوف نظل متمسكين بـ (علمانية الخرطوم)، حتى يصبح البديل الديني، الذي لا يظلم أحدا، ولا يتغول على حرية أحد، واقعا متحققا في أفقنا المعرفي، والسياسي. وسوف لن نجازف، قبل ذلك، أبدا، بتسليم رقابنا، وحرياتنا، للقضاة الشرعيين، و((تقليدهم)) الذي عرفناه، وعركناه، وخبرناه، جيدا.

    هذه نظرة نقدية إبتدائية، أملتها الملاحظات التي خص بها الدكتور الجمهوريين، في معرض تعريفه بالخطوط العامة لطروحته. وأتطلع لكي أقرأ طروحة الدكتور في شكلها النهائي، المكتمل، قريبا. هذا، وللدكتور الفاضل، وافر المحبة، وكثير التجلة، والتقدير.
                  

03-09-2008, 00:22 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    وتعليق "حينها" من الراحل طه ابوقرجة - البحرين
    ====
    أحسنت النور
    رغم أن الدكتور عبد الله مختص بالتاريخ إلا أنه يبدو غير ملم بالوقائع التاريخية المتصلة بما كتبه. فهو يوحي للقاريء بخطأ ما نسبه الأستاذ والجمهوريون للقضاة الشرعيين، مع أن القضاة الشرعيين قد اضطروا للتنازل عن قضية بورتسودان سنة 1974 حين اتجه الجمهوريون للدفاع عن أنفسهم في الشكوى القضائية بتأكيد صحة ما قالوا فبدا للقضاة الشرعيين أن من الأصلح لسمعتهم أن يسحبوا قضيتهم. وربما كانت تلك هي المرة الأولى في السودان التي يتجه فيها متهم بإشانة السمعة إلى الدفاع عن نفسه بتأكيد صحة ما قال، وهو الدفع الذي يسمى في القانون الإنجليزي (justification)
    وأنا لا أشك أن دكتور عبد الله لم يسمع بهذه القضية رغم أن وقائعها نشرت على الشعب في أكثر من عشرة كتيبات، ولو سمع بها لما حاول أن يوحي ببطلان ما نسبه الأستاذ للقضاة الشرعيين

    ثم أن الدكتور يستغل وضعه الأكاديمي كمختص بالتاريخ ليشكك في حقيقة مواجهة الأستاذ للاستعمار، دون أن يورد مجرد إشارة لما يبني عليه همزه ولمزه، وذلك عمل من أسوأ ما ينتظر من رجل مختص.. أي إشاعة التضليل بدل المعرفة أو بدل الصمت. ومقال الدكتور عبد الله في هذا الصدد يثبت أن محنة السودانيين في دارسي التاريخ أكبر من محنته بأي فصيل آخر من أبنائه، ربما فيما عدا القانونييين

    لقد سعدت بأن النور بصدد كتابة موسعة حول مفاهيم الحداثة وما بعد الحداثة، وأرجو أن يجد الوقت لذلك. فالسودانيون الحاليون قد لا يفهمون، ولذلك فمن المهم أن نترك وراءنا تراثاً مجيدا، عسى أن تأتي أجيال أخرى أقدر على الفهم وأكثر استقامة من هؤلاء الملتوين الذين لا خير فيهم. فليمض النور في سبيله و "ليقضي لبانة نفسه" من حين لآخر في التعرض لما عسى يكتبه أحدهم
    مع تحياتي للنور ولمن هم معه
    _________________
    Bahrain
                  

03-16-2008, 05:33 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)



    عبد الله علي إبراهيم: بين الصحفنة والفكرنة والأكدمة (1)

    د. حيدر ابراهيم علي

    1. بمثابة المدخل :-

    ليس من اغراض هذه الكتابة نقد عبد الله أو الهجوم عليه، بمقدار ماهي تعبير عن أمل خاب واضيف للخيبات المتراكمة. ولكن خيبة الأمل في مثقف "كنا ندخره ليوم لقا وبدميها يتوشح" يكون أقرب إلى المرثية حين يكتب عن تعداد مآثره وامكاناته بأثر رجعي. وحين نتابع الهدر والنزف الاسبوعي أو المستمر لقدرات نادرة في اللغة و التحليل ولكنها تنساب في مسارب إلى برك راكدة ولا تكون التنابع المعطاء أبداً. هذا بلد فقير وشحيح في كل شئ، لذلك يزداد الحزن مع فقدان مبدع لندرة المبدعين. لذلك كانت من أشد لحظات حزني متابعة مآلات الشاعر صلاح أحمد ابراهيم والآن المبدع عبد الله على إبراهيم.



    ظللت اتابع كتابات عبدالله بحب وشغف ولذة منذ سنوات طويلة و احتفظ بها. وفي هذه اللحظة أمامي مجلة الخرطوم أبريل 1970 بسبب مقال عبدالله: شهادات عن التجاني الماحي، والتي أكاد احفظها وبالقرب منها الطبعة الأولى من المهدي و العلماء عام 1968م وهو جديد أخشى عليه من أجل كتابته وتصميم صابر أبو عمر. ولا أفوت أية كتابة لعبدالله، وهو ليس حاضراً فقط من خلال كتبه بل كحكاية نموذج ومثال. فقد كان موضوعاً من موضوعات نقاشات شرسة مع المرحوم عمك يونس الدسوقي. فحين تمر سيرة عبدالله، أقول له:- والله انا زعلان للزول دا كان ممكن يكون جمال الغيطاني قبله بكثير. يقذفني بشيوعية بلا حدود لا ترى غير عبدالله الخارجي، وينفعل:- يا أخي سيبنا من تنظيراتك الفارغة دي، هو الغيطاني ذاتو يعني إيه؟ وبالفعل كانت كتابات عبدالله القديمة العبقة بعطر معتق من التاريخ بلا افتعال.

    لكن - وما أقساها - أين عبدالله الشاب الذي يختم مقالته بتعريف نفسه مثل طريقة المداحين في آخر القصيدة :-

    « كتب هذه السطور الحوار المحقور المبتغى شمول عناية ربه الغفور، عبدالله بن علي بن ابراهيم العبد الميسير و الاشتراكي المغيرير و البرجوازي الصغير تحريرا في يوم الخميس مطلع ربيع الثاني من سنة ثمان وثمانين وثلاثة عشر للهجرة النبوية الكريمة وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه مع التسليم.»

    و التصغير - بالمناسبة - لا يعني دائماً التقليل فقد يقصد به التعظيم و التضخيم. وفي إهداء كتاب " المهدي والعلماء" يكتب :-

    « إلى علي ابراهيم علي ابراهيم - شِقتّت - ومرد الاسم إلى الشقاوة كونه كان يمسح رجله بالزيت ويعرض للناس في " درب الترك" فإذا اتسخت بالغبار جعل ليلهم أظلم من سجم الدواك.

    إلى جمال بت أحمد ود حمد ود إزيرق الذي قال عنه الشاعر:-

    " آحنك البليد البوم"

    إلى أبي .. إلى أمي

    لانني تلك الشقاوة ما ازال

    وحَنك البليد البوم ... وساظل"

    لأنك وعدتنا ان تظل " حَنك البليد البوم" واظنك تعرفه بذكائك اللماح، وكيف يعاني الآن تحت الظلام، نكتب مع العشم و الأمل أن تنطق باسمه وخاصة وقد صرت كثير الكتابة و الكلام. ولكن المسيكين البليد البوم، لا نسمع صوته من خلالك. فكانت مخاطبتك ضرورية، لأن الذكرى تنفع المؤمنين خاصة وانت من المؤمنين الجدد.

    كان عبدالله يجلد طبقة الافندية أو البورجوازية الصغيرة لانها ممحوقة وقليلة الخير والفائدة، حين قارنها بالتجاني الماحي ولكنه الآن يقف في صفها ويدعمها، ليس لانه اختار ذلك ، ولكن لانه رفض الحداثة، و التجديد، و الانفتاح على الآخر، و الأصالة. يقول عن تلك الفئة الاجتماعية :-

    " من ظننا فيهم الخير وتوسمنا فيهم القدوة تركونا لمناهج المدارس ومقرراتها العجفاء وتدافعوا بالمناكب يجنون ثمار السودنة بولع وشره ودناءة نفس وأخمدوا ما كان مأمولاً أن يسطع بدراً، وفقأوا عين نار القرآن والعلم، فقأ الله عيونهم فلا حكمة تصيب عندهم ولا حقيقة، تتضور مكاتباتهم جوعاً فلا جديد يضاف إليها منذ عهد الرسالة وكتابات جرجي زيدان وبعض كتابات دكينز التي غطاها الاهمال و الزهو الزائف طبقة من الغبار. واستهوتهم مسرات الحياة: البوتجاز و الثلاجة وراديو العربة وسلسلة مفتاح العربة وجراج العربة، وحصاد العربة في الطرقات المظلمة و المضيئة معاً، نحن ابناء الليلة المظلمة حقاً لان كل منارة وعدت بخير ووميض ذات يوم، عادت فانتكست وتسرب إليها السوس وماتت طمأنينة ومتعة حسية" ( مجلة الخرطوم ابريل 1970، ص 39-40)

    ياترى كيف يشعر عبدالله مع الاسطر الاخيرة التي كتبها قبل 38 سنة؟

    يمثل عبدالله مأساة يونانية قديمة في زمن جديد، أن يعيش الانسان حياتين في عمر واحد. ففي بعض المسرحيات يبحث البطل عن مكان لاخفاء جثة أو قتيله الخاص، وعبدالله يبحث عن اخفاء تاريخه أو دفنه في مكان لا يرى و الأهم من ذلك ألا يلاحقه. ولكن عبدالله وجد نفسه في حياة لها جغرافية ملأى بالمرآيا التي تظهر وجهه القديم ووجوهه الجديدة. وصار تاريخه كطائر البوم الذي ييقظه كلما اراد أن ينام ويهدأ. ويظن عبدالله أنه يطالبه بثأر ما فيمسك عبدالله بالقلم. ويهرب إلى الكتابة أملاً في المطهر (Catharsis) من التاريخ و الحاضر و المستقبل . لذلك تأتي كتابة عبدالله، رغم معالجتها لقضايا يومية شديدة التجريد فوق الارض و الناس، وفوق السماء أيضاً.

    2- الكتابة لماذا؟

    يفترض أن يكون عبدالله من اكثر الناس إلماماً بالالتزام في الكتابة وانحيازها كما كان شعار الصراحة يقول: لجانب الشعب فهو لم يكن عضواً شيوعياً عادياً، كان مسؤولا عن الثقافة والتثقيف والمسرح والفنون ... الخ، فليس من اللياقة أن أعلمه ماذا يعني الالتزام ومسؤولية الكلمة. ولكنني في الفترة الاخيرة، وبعد كل مقال أو كتابة، اردد في داخلي: هل سأل عبدالله نفسه : لماذا أكتب؟ وماذا أريد أن أقول أو أوصل بالضبط. وكان المعلمون الفلاسفة يسألون طلابهم الجدد وزملاءهم :-

    - ما عطشك ؟

    فما عطشك يا عبدالله حين تكتب وبهذه الكثرة؟ ماهى القضية أو القضايا التي تلاحقها؟ وماهى الحقيقة التي تريد أن تجلي عنها الغموض؟ بالمناسبة ، يصعب أن تكتب عن قانون الشرطة وحتى ثقافة ما بعد الكولونيالية أو الحداثة، دون أن تتبين الفكرة الجوهرية في كل مقال. إذ يفترض بعد كل مقال أن يخرج القارئ بالفكرة الاساسية وان يدعي القارئ انك أردت أن تقول كذا وكذا ، وتكون بالفعل قصدت ما قلته.

    إستن عبدالله بينة قرائن الاحوال - في كتابته عن منصور خالد وفتح باب التأويل والاجتهاد أو حتى تخريب النص، لكي يثبت فرضياته. لذلك، قد أعطي نفسي الحق في الاجابة عن سؤال لماذ يكتب عبدالله طوال السنوات الممتدة من نهاية السبعينات؟ يكتب عبدالله وفي ذهنه كيف يكيد ويغيظ الاعداء وهم كثر في مخيلته. وبدأت المسألة دفاعية ولكنها أصبحت جزءاً من دوافع وشخصية الكاتب: لا بد أن تجد مقالته من تغيظ أو تستفز. ولا أدري فقد يكون أثر أيقونته الجديدة: الشيخ حسن الترابي، ليس بعيداً وهو صاحب فكرة المكايدة. ولان هاجس المكايدة يغلب على عبدالله فهو ينسى ويهمل اساليب الكتابة التي يجيدها تماماً. فاصبحت مقالات عبدالله مثل القصائد الجاهلية تفتقد وحدة الموضوع والترابط. وهى طريقة قد تكون في بعض الكتابات مرغوبة: تداعي، تيار الشعور... الخ. وقد تعجب القارئ كتابة من نافذة القطار لعبدالله الطيب. ولكن حين الموضوع راهنا وساخناً ومؤثراً في السياسة أو المجتمع. ويبدو أن عبدالله يجلس ويبدأ يكتب كردة فعل لحدث أو مقال ما ، ثم أثناء الكتابة نفسها وليس قبلها تظهر فكرة / افكار وقد لا تقابله، ليس مهما فاللغة رشيقة. ولو صادفه الحزب الشيوعي في تجواله فستكون هذه غاية المنى.

    تقودني النقطة الأخيرة لتحليل آخر لدوافع الكتابة. فعبدالله يرى نفسه - سلباً أو ايجابياً - في مرآة الحزب الشيوعي أو الشيوعيين وهنا أكرر أن خروج الانسان من تنظيم الحزب لا يعني بالضرورة أن الحزب قد خرج منه. ويظل أثر الحزب الوشم (tattoo) النفسي والسلوكي والروحي والفكري، لا يمكن ازالته. فالشباب في اوربا والغرب يرسمون وشماً في فترة الشباب والهوى، وعندما يكبرون يخجلون منه ويحاولون إزالته دون جدوى. واظن أن غارودي قد قال قولاً مثل هذا حين فصل من الحزب الشيوعي الفرنسي. (نواصل).

    - نقلاً عن صحيفة الصحافة اليومية – السبت 15 مارس 2008م

    http://www.alsahafa.sd/News_view.aspx?id=45616
                  

03-22-2008, 12:06 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)
                  

03-17-2008, 05:02 AM

mohmmed said ahmed
<amohmmed said ahmed
تاريخ التسجيل: 10-25-2002
مجموع المشاركات: 8788

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
اتابع (Re: عبدالله عثمان)

    الاخ عبد الله
    اتابع باهتمام هذا البوست
    وكذلك جميع بوستاتك ومداخلاتك العميقة


    لاهمية المقال
    استئذنك فى افراد بوست منفصل لمقال د حيدر ابراهيم عن د ع ع ابراهيم
                  

03-22-2008, 12:10 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: اتابع (Re: mohmmed said ahmed)


    علي ابراهيم: بين الصحفنة والفكرنة والاكدمة (2)
    د . حيدر ابراهيم علي
    22 marach 2008

    ترددت بين تعريف المصطلحات التي تعلو المقال، وبين البحث عن مدخل مريح عن شخصية الموضوع نفسها لتسبيب وليس تبرير كتابة الموضوع أصلا. وكان هدفي الابتعاد عن مناوشات المثقفين السودانيين التي تبدو أقرب الى تقاتل الديكة منها الى الحوار والمعارك الفكرية. فقد كان علي انصاف عبد الله، والا أسمح لراهنه أن يلوث تاريخه الذي يجب ان يطفو كالزيت على المياه الكثيرة التي يدلقها بتواتر على صفحات الجرائد. وقد كان لديه الكثير الذي ينفع الناس ولا أظنه بحصافته يفضل الزبد الذي يذهب جفاءً، الا اذا كانت هنالك حاجة في نفس يعقوب تغيّب عنّا. كنت مكرها لاستعمال هذه المصطلحات التي تبدو متقعرة وشاذة، ولكن اجبرتني تطورات اللغة العربية في توليد وصك مفاهيم ومصطلحات وتعابير جديدة تعبر عن واقع جديد. فهذه كلمات تحاول التعبير عن سيرورة أي حالة انتقال وتحول الى وضع آخر. ففي الانجليزية يضاف مقطع في نهاية الكلمة (Suffix) اذا كانت اسما أو مصدرا أو صفة، كما نلاحظ في كلمة التحول الديمقراطي او الدمقرطة. فالمقصود بالصحفنة التوجه نحو ان يكون كاتبا صحفيا وفي نفس الوقت الا يكون مجرد صحفي بل يضيف اليها كونه مفكرا، وهي الصفة المجانية التي توزع بكرم بلا معيار دقيق. وفي نفس الوقت لا يريد ان ينسي انه في الاصل اكاديمي. وهكذا يحاول في مقالته ان يجمع كل هذه الصفات في جرعة واحدة. وهنا مكمن العجلة والتشتت. فعبدالله يكتب في كل شيء لكي يلحق بموعد المقال الراتب، فهو تحت ضغط الزمن وفي نفس الوقت لا يريد ان يكون المقال عاديا، اذ لابد أن يعكس صفة المفكر والاكاديمي المتميز. وهذا ما يسميه أهلنا الاذكياء: الجري والطيران. واصبح عبدالله يجلس بين المقاعد الثلاثة. تعتبر عملية الصحفنة عموما، من آليات الحكم الاسلاموي لاعادة صياغة الانسان السوداني وفق استراتيجية المشروع الحضاري. ولا اقصد بذلك المضمون والمادة التي تبثها الصحافة المسيطر عليها رسميا ـ بصورة مباشرة وغير مباشرة ـ بقصد التضليل وتزييف الوعي. ولكنني أقصد الاخلاقيات والثقافة والسلوك الذي استطاع الاسلامويون نشره وتعميمه في الاوساط الصحفية. اولا، ضمن خطة التمكين، تم تصعيد الكثيرين من متوسطي القدرات، بل احيانا العاطلين من المعرفة والموهبة، لكي يحتلوا مواقع قيادية في الصحف. وهم لا يملكون سوي الولاء أو التملق كمؤهلات للصعود في هذا المجال الخطير والحيوي. ومن المعلوم ان هبوط المهنية يتبعه سقوط اخلاقية المهنة، وهذا ما حدث. ويمكن متابعة هذا التدني والتدهور في اشكال عديدة بدءا من المواقف من حرية التعبير حتي اللغة والاسلوب المستعملين في الكتابة. ففي مواقف تم فيها انتهاك حرية التعبير وحجز بعض الصحفيين، وحجب موضوعات لم يتضامن بعض الصحفيين مع زملائهم ومع مبدأ حرية الصحافة لانهم أكثر ولاء للسلطة وللحزب. من المفارقات العظيمة، أن ينحط مستويى بعض الصحف ولغة بعض الكتاب، الى هذا الدرك تحت مظلة نظام اسلامي جاء لكي يتمم مكارم الاخلاق. فهناك صحف للفضائح وكشف اعراض الناس وهي الاكثر توزيعا. وقد صعقت حين وجدت اسم احد الاكاديميين والمربين للاجيال، يتصدر احدى هذه الصحف الفضائحية كمستشار للصحيفة. وهو في درجة الاستاذية في العلوم السياسية، وعقدت مقارنة سريعة بين ما يكتبه اساتذة في مصر مثل علي الدين هلال ومحمد السيد سعيد. وادركت سريعا لماذا تخلف السودانيون وتقدم غيرهم. واما في الصحف الاخرى فهناك كتابات أقرب الى مدح وهجاء الحكامات، ولغتها كأنها تغرف من البالوعات. واقترح على مجلس الصحافة والمطبوعات، ان يكتب عليها كما تفعل وزارة الصحة على علب السجائر مايلي: هذه كتابات تضر بالعقل والوجدان السليم! وهناك كثير من الصحف لم تعد سلطة رابعة بل سلطة اولى تنفيذية وهي ملكية اكثر من الملك في الدفاع عن النظام مقابل شعبه. فهي لا تدعو للتحول الديمقراطي، وبعضها يدعو باعلى صوته للانفصال، وكثير منها لم يحرك ساكنا ضد موجة الغلاء التي تطحن الشعب السوداني. وقعت كثير من الصحف تحت وطأة اختراقات متعددة الاشكال ضمنت لها الوصول الى اموال ودعم يمكنها من الاستمرار وإفساد الآخرين. ولم يعد عيبا ان يفصح بعض الصحفيين عن ارتباطات كانت في الماضي معيبة. وصار الاعلان يحدد سياسات وتوجهات اغلب الصحف. واغرقت بعض الصحف بعض الكتاب بعطايا ضخمة اثقلت ضمائرهم وجعلتها صعبة الحركة. وتمارس بعض الصحف رشاوى من نوع آخر وهي تلميع وتصعيد بعض الشخصيات، وان تضفي عليها مكانة وصفات ليست لها في الواقع. هذا هو باختصار وضع الصحافة والصحفنة الذي يريد أن يحتفظ عبدالله علي ابراهيم، ضمنه بنقائه الفكري وسموه الاكاديمي. ولكن يبدو لي ان التيار الجارف كان قويا، وحرمه من الفكر والاكاديمية واخضعه لمتطلبات وضرورات الصحفنة وهي في اسوأ حالاتها. واستطاع عبدالله بذكائه ودهائه ان يلتقط سريعا: ماذا يريد شباك التذاكر؟ كما يقول أهل المسرح أو السينما حين يريدون تبرير هبوط مستواهم. وسارع عبدالله في اخراج مخزونه من المعلومات والتجارب والتوثيق ليوظفه في سياق جديد ليس من اهدافه البحث عن الحقيقة، أو ايقاظ الوعي بل الاثارة والجري وراء الفضائح أو ما يراه هو من الفضائح. واستوقفتني بالذات كتاباته عن المرحوم الشاعر شيبون والدكتور منصور خالد. وفي هاتين الحالتين غاب عني المفكر والاكاديمي، ولم اجده يختلف او يبعد كثيرا عن محمد مكي محمد صاحب جريدة «الناس» الذي كال له السباب والتهم. فقد نشر عبدالله ستا وعشرين حلقة في مجلة «أوراق جديدة» عن منصور خالد محاولا اثبات عمالته وارتباطه بجريدة «الناس» وعبدالله خليل. وكانت اغلب الحلقات تحمل صورة منصور ولكن متن الموضوع يحكي الاوضاع قبل انقلاب 17 نوفمبر 1958م. منتهي اللعب بعقول ووقت القراء، وفي النهاية قد يستخدم قرائن ليست لها اي دلالات غير التي في ذهنه هو فقط. والادهى وأمر هو أن الاكاديمي لم يستشهد باي كتابة أو مقال بتوقيع منصور، ويكتفي عند استعراض كتابات بعينها بالقول إنها تشبه لغة واسلوب منصور. وعلينا بعد ذلك ان نصدق التهم الناتجة عن الكتابة المنسوبة الى منصور. ثم ما هي الجدوى العلمية والتاريخية والاضافة التي تنجم عن هذا النبش الذي مر عليه اكثر من نصف قرن؟ وأعلم ان الكثيرين من الجيل الحالي وهو بالمناسبة يقرأ لك، يرى فيها ضياع وقت أو انعدام موضوع حسب لغتهم. ولو سألناك، هل انت عبدالله الستينيات في عطبرة وجامعة الخرطوم هو نفس عبدالله الحالي في امريكا؟ والانسان تجري في حياته مياه كثيرة. ومن اشكال كتابة صحفنة الاسلامويين المثيرة، ما كتبه عن الشاعر شيبون، فهي كتابة بوليسية تنقب عن المتسبب في انتحار الشاعر بعد قرابة نصف قرن. وقد قتل عبدالله، الشاعر شيبون مرة ثانية. فرغم الحلقات الطويلة لم يذكر عبدالله بيتا واحداً من شعر شيبون الذي أطلق عليه صفة «حنجرة شعبنا». فهو لم يكن مشغولا بشاعريته وابداعه، فقد اعمى بصره وبصيرته تأكيد ادانة جهة بعينها. لذلك تغلب المفتش او المخبر السري، على الاكاديمي والمفكر. من معالم كتابة عبدالله الصحفية في الفترة الاخيرة، موقفه من القوى الداعية للتعدد الثقافي والوحدة الوطنية، اذ يسارع باتهامها بمعاداة الثقافة العربية. وينصّب نفسه محاميا عن ثقافة الاغلبية القادرة ليصورها في خطر موهوم يسمح له بغض النظر عن المظالم التاريخية. وهذا يحرمه من الانحياز الى موقف عادل يمكن من خلاله البحث عن حل متقدم لمشكلة التهميش الثقافي وحل كل المشكلات المترتبة على الصراع الطويل الدامي. وهذا الموقف العروبي المنحاز يكمل استراتيجية التقارب مع الاسلامويين واكتساب شهادة اليساري العاقل أو الموضوعي، وفي نفس الوقت مكايدة آخره الذي يلاحقه. هذا مدخل رأيت انه ضروري قبل التعمق في نقد شامل لكتابات عبدالله على ابراهيم خلال الاعوام الماضية.

    http://www.alsahafa.sd/Raay_view.aspx?id=45855
                  

04-11-2008, 10:50 PM

Emad Abdulla
<aEmad Abdulla
تاريخ التسجيل: 09-18-2005
مجموع المشاركات: 6751

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: اتابع (Re: عبدالله عثمان)

    **
                  

04-11-2008, 11:50 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)




    النصراني مجدي كريستاينو علام: وردة في شكل حركة



    د. عبد الله على إبراهيم
    [email protected]

    تواردت أنباء الجمعة الموافق 21 مارس 2008 عن تسجيل للسيد أسامة بن لادن إتهم فيه البابا بنديكت السادس عشر بقيادة حملة صليبية جديدة ضد المسلمين. وهدد أسامة فيها بالرد على الصليبيين بما سيرون لا بما يسمعون. ومع تهوين الفاتيكان من الخطر على البابا بعد هذه التهديد (الذي لا أساس له في نظرهم) إلا أن سلطات الأمن الإيطالية لم تترك الأمر للمفآجات. وبالطبع ليس منا في صف اليسار والعلمانية والحداثيين من لن يشجب بن لادن على هذا الهوس او التطرف أو الإرهاب أو ماشئت. وربما طال هذا الشجب لأسامة حتى أورثنا كسلاً أقعدنا عن اقتحام العوالم التي يتحرك من فوقها، والمظالم التي تشحذ حميته، والجمهور المسلم الذي يرخي له أذنه. ومكن انصرافنا عن هذه العوالم والمظالم والجمهور لعقيدة كثرة من المسلمين في ملحمية بن لادن. وهي عقيدة صامتة غائرة في أغلب الأحوال لا تسفر عن نفسها جهرة إلا عند من قرروا الهجرة إلى معسكره والفداء على نهجه.

    ولم يمر يوم على نبأ اتهام أسامة للبابا بالصليبية حتى صدر عن البابا ما قد يعده أكثر المسلمين ضرباً من ضروب الصليبية. ففي مساء السبت الموافق 22 مارس، وقفة عيد الفصح، عمّد البابا بنديكت السادس عشر ،بجلالة قدره، الكاتب المصري العلماني مجدي علام (55 عاماً) الذي صبأ إلى المسيحية. والفصح عيد الأعياد الكاثوليكية يستعيد فيه الكاثوليك ذكرى اعتقال المسيح وصلبه وبعثه بعد يومين من الصلب. وقد أخفت الكنيسة خبر التعميد ولم تذعه إلا قبل ساعات من الواقعة. وواضح انها كانت ترتب لهذا الإعلان عن سداد الكاثوليكية وجاذبيتها في نفس الوقت الذي كانت تستخف باتهامات بن لادن لها صحت أو كذبت.

    وأسعد التنصير مجدي. فكتب في عموده بالصحيفة واصفاً مقدار سعادته بتحوله إلى الكاثوليكية. فقال إنه أحس عند هذا المنعطف في حياته بمعجزة بعث المسيح تترافف في روحه فتحررها من ظلال عقيدة (هي الإسلام) تطغى فيها الكراهية التي يصوبها الناس كيداً لمن عدوه من الأعداء طغياناً لايقوم بعده حب للجار أوتوقير له. واتخذ مجدى بعد التعميد اسم "كريستيانو" (المسيحي) ليكون اسمه الوسيط.

    ومجدي المتنصر هو نائب رئيس تحرير أكثر صحف أيطاليا توزيعاً. عاش في إيطاليا لنحو 35 عاماً وبنى بكاثوليكية وله منها بنت. ولم يكن معروفاً عنه التزام بالإسلام المعلوم بالضرورة. وظل علام ينتقد أئمة مساجد روما ويتهمهم بالغلو بصورة خشنة فيما يبدو جلبت له عداء المسلمين وشجب أهل الرأي في ايطاليا . فمن جهة المسلمين تلقى علام تهديدات الجأته إلى حماية حراس إيطاليين شداد غلاظ. أما من جهة المثقفين الأوربيين فقد استنكروا كتاباته ومواقفه. وبلغ الضيق به بين أساتذة جامعات إيطاليا، بمافيها الجامعة الكاثوليكية بمدينة ميلان، حداً مهروا به بياناً بأسمائهم يستنكرون فيه تطرفه وهوسه. وقال عنه القس مايكل فتزجرلد، القيم على حوار الديانات بالفاتيكان، إن مثل كتاباته تنسف كل أسس لمثل هذا الحوار.

    ولعل أعقل ما سمعت عن تنصير مجدي قول يحي سيرجيو يحي بلافيشيني، نائب رئيس جمعية المسلمين في إيطاليا، مستغرباً ل "الهلولة" التي صحبت التنصير. فقد وقف على تعميده البابا نفسه في يوم من أشرف أيام كنيسته. ولا تثريب في كل هذا. فاليوم أصلاً مجعول لتعميد المتنصرين من ديانات أخرى على يد البابا كما قالوا. وهذه صحة الطقس. ولكن ما غاب عن الفاتيكان تبعته حيال صحة السياسة الروحية لعالمنا المعذب من وجوه عديدة.

    لا وجه لأي منا أن يعيب على الفاتيكان هذا الإجراء المتبع عندهم ولكن ليس كل تقليد يتبع بحذافيره وفي كل وقت بغير اعتبار لظرف الزمان والمكان. فقد جاء هذا التعميد لمسلم صابيء وقد بدأت الأجواء المسيحية الإسلامية تصفو من عكر حديث البابا في عام 2006 عن عنف الإسلام وعدوانيته. فقد تواثق 138 عالماً مسلماً في العام الماضي على ابتدار حوار مع الكاثوليك بعد اعتذار البابا عن كلمته المسئية المعروفة. وكان وفد طليعة هؤلاء العلماء في أوائل مارس بروما يرتبون مع أندادهم بالفاتيكان موضوعات الحوار وجدولته. وكان منظوراً أن تزور جماعة من العلماء المسلمين روما من قريب لتلتقي بنيافة البابا نفسه. ومن غير المستبعد أن نتوقع انتكاسة هذا الحوار بعد خطوة الفاتيكان. ولن تكون مظلمة المسلمين من "ردة" مجدي كريستيانو علام. فمثل مجدي لا تدمع عليه عين مسلمة ولا عين متدين على أي ملة. بل ستكون موجدة المسلمين، في قول الزعيم الإيطالي المسلم، غلظة جلد الفاتيكان بتعميد مجدي في حرم سنت بيتر في اليوم التالي لاحتفال المسلمين بمولد أفضل البشر وفي سياق ترتيبات حوار سهر عليه خاصتهم فأجهض بخشونة حس فاتيكانية عجيبة.

    مجدي مجرد فقاعة دينية. وتنصره ليس أكثر من حركة تلفزيونية في عبارة للسادات. فلن يخسر الإسلام بردته شئياً ولن تربح المسيحية بتنصره شئياًً. فهو ممن فارقوا سكة كل دين. فقد أسرف في محبة إسرائيل حتى سموه "مسلم صهيون" سخرية منه. وكان عنوان آخر كتبه "فيفا (عاشت) إسرائيل". فأنظر إلى هذا الخرع! فالإسرائليون أنفسهم يعفون عن مثل هذه البروبقندا السخيفة. واختار مجدي بمودته لإسرائيل أن يظاهر القوة (بل أن ينضم لها) ويتنصل عن الحق. ودراما الحق والقوة هي الأصل في الأديان وليس من دين لم يعل الحق على القوة. فالأديان صناعة مستضعفين ويتامي وثواكل وهي شوق للحق مثل الحق الفلسطيني وهي حرب على الفرعون مثل إسرائيل.

    بوسعنا أن ندين بن لادن ما شئينا. ولكن يبدو أن الغرب يصدقه ويكذبنا.فما أصبح الصباح على قوله إن البابا ضالع في حرب صليبية حتى وجدنا البابا بالفعل متورطاً في ما يعده مسلمون بلا حصر حرباً وصليبية. وما شد العلماء من أهل الاعتدال رواحلهم لحوار الفاتيكان حتى كان الأخير في شغل عن ذلك بحركة تنصيرية تلفزيونية. الإسلام عند الغرب المتنفذ هو بن لادن حتى قال إحدهم أننا لا نحتاج لحجة في الجهاد الإسلامي بعده. أما الحوار مع الراغبين من علماء المسلمين فهو "حبة" عند اللزوم.

    from sudanile and rayaam.sd
                  

04-21-2008, 02:02 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    عبدالخالق
    سلام وتهنئة على هذاالشغل الجميل.
    مهتم مثلك بقراءة دكتور ع ع ابراهيم وبصبر وكما قلت أنت (فى مقال بديع حول السكلبة السايبرية حين وصل لذروة مقالاته عن منصور خالد الموسوم ....و منصور خالد ) أن قراءة عبدالله لا تنفع معها الطلاشة وعجلة الشياطين..
    هل يمكنك (لمصلحة التوثيق) أن تنزل الجزء الأول 1 من 3 فى هذا البوست؟
    ونحن فى انتظار الجزء الثالث من تالاك.
    أظن أن قراءة عبدالله تكتمل بمنهج تحليل نفسى أيضا Psycho-analytical approachودا شعرا ما عندى ليهو رقبة كما يقول المثل السودانى. أقول منهج تحليل نفسى وفى البال ولع عبدالله بأن يغنى بلسان ويرمز بلسان ويمثّل (ويكون النظارة)ويرقص ويرقّص ويخرج خارج حلبة الرقص فى آن و"يُشعر كمان" وما الى ذلك وهنا تتبدّى تناقضات لمست جوانب منها فى دراستك هذى الرشيدة.
    وهذا لا يتاتى من تحليل كتاب واحد ومقال واحد لعبدالله. مثلا فى الأرهاق الخلّاق يراهن عبدالله على حيادية "القوات المسلحة" -و"الجيش" كمان على ماأذكر - وذلك فى 1991-1997 . ويأتى الآن فى مارس 2008 (فى حواره الصحفى مع عادل الباز وعلاء الدين المنشور بالصحافة الالكترونية) ليقول لنا "أنه ينبغى النظر لدور الجيش فى السياسة كحارس لنظام اجتماعى" وهذه شهادة بطبقية الجيش وانحيازه الطبقى وليس مؤسسة القوات المسلحة فحسب (والفرق بين الجيش والقوات المسلحة كمثل الفرق بين الحكومة والدولة ودا موضوع آخر) ولا يجوز أن يتناقض عبدالله فى موقف فكرى ثابت كهذا، وكيف يجوز أن يكون الجيش محايدا حينما يتعلّق الأمر بتصالح عبدالله مع نظامه فى 1991 ثم يصبح الجيش منحازا لحراسة نظام أجتماعى غداة يود عبدالله أن يظهر تمسّكه بالتحليل الطبقى (وهذا وجه اخر لعبدالله دفّق فيه حبرا كثيرا). قال عبدالله ذلك مستشهدا بتحليل عبدالخالق محجوب الوسيم (كما يقول عبدالله محقاً)فى سياق تحليل عبدالخالق لأنقلاب 17 نوفمبر.
    المهم لا تنشغل بالتعليق على الآن وكمّل جميلك بنشر الجزء الأخير ثم نأتى لنتونّس ربما طلعنا قرايب (قالت مالكة الفندق الحبشية لزبونها السودانى بعد أن ادهشها القاسم المشترك الأعظم بين ثقافتى شرق السودان وشماله مع ثقافات الشعوب الحبشية، قالت له: نتونّس جينا ، قرايب تلعنا) -لاحظ سلاسة ورونق وغيرية الرندوك الحبشى وهو يقلب موازين النحو السائد فى باديتنا بما يُبهج.
    أيضا أوافقك أن حسن موسى لمس جانب مهم فى قراءته لعبدالله والتى استصحبتها فى تحليلك الباسق.

    ونحن فى أنتظار الجميل
    مودتى
    الفاضل الهاشمى

    http://sudaneseonline.com/forum/viewtopic.php?t=2405&sid=...e55e36dc3c9cd44cf608
                  

04-21-2008, 02:06 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    لسودانوعروبية، أو تحالف الهاربين:
    المشروع الثقافي لعبد الله على إبراهيم في السودان


    محمد جلال هاشم



    مقدمـــة:

    يهدف هذا المقال إلى ترسم أبعاد اتجاه جديد في قضايا الثقافة والهوية في السودان. هذا الإتجاه يقوم ـ كما نرى ـ على سودنة الإسلام والعروبة، وبالتالي رسم حدود هوية إسلاموعروبية خاصة بالسودان دونما عداه من دول أخرى ضمن المنظومة الإسلامية عامة، وتلك الناطقة بالعربية خاصة. ولهذا أطلقنا على هذا الاتجاه مصطلح "السودانوعروبية"، على أن "العروبية" تستبطن في داخلها الإسلام. إذ عندما نتحدث عن دخول العرب إلى السودان، إنما نستضمن في ذلك دخول الإسلام إلى السودان بالضرورة.

    تأتي أهمية هذا الموضوع من كونه حاسماً في تحديد مسار السودان اجتماعياً، وسياسياً وحضارياً. فقد كانت إشكالية هوية السودان ـ ولا زالت ـ من حيث عروبته أو أفريقيته، هي القضية الشاغلة بصورة مباشرة للطبقة المثقفة، وبصورة أخرى غير مباشرة للقطاعات العامة للشعب السوداني. ونستطيع أن نقول بحق، إن قضية الهوية هي مأزق الفكر الاجتماعي ـ السياسي السوداني طوال عقود هذا القرن. والآن تشغل هذه القضية كافة جنبات المسرح السياسي السوداني، خاصة مع اشتداد حدة الصراع حول السلطة إلى درجة الحرب الأهلية، وضلوع الأيديولوجيا الإسلاموعروبية في هذا الصراع بكل ثقلها وبشكل سافر عبر مؤسسة الدولة ومشروع أسلمتها.

    فيما يختص بالبيانات والبينات مناط التحليل والاحتجاج في هذا المقال، فقد عمدنا إلى الأدبيات الخاصة بالموضوع بقدر ما وقعنا عليها، فأوردناها، مع حرصٍ، في اقتباسات موثقة، ومن ثم تصدينا لتحليلها. عليه، فإن المنهج الذي اتبعناه هو وصفي تحليلي.

    تستند الورقة في قوامها المنهجي على تحليلنا لثلاثة مقالات كتبها عبدالله علي إبراهيم خلال عقد الثمانينات. وحتى عنوان مقالنا هذا نفسه مصاغ ومنحوت على غرار عنوان واحد من المقالات الثلاثة. ولكن، حريٌّ بنا أن نذكر أن بحثنا هذا ليس عن عبدالله علي إبراهيم، بقدر ما هو يستند على تحليل لمقالاته في هذا الشأن. بخصوص عبدالله علي إبراهيم فإن أهميّته تأتي من كونه أكاديمياً ضليعاً، وسياسياً نبيهاً، خرج من أروقة الحزب الشيوعي السوداني بعد علاقة استشارية لصيقة بالمرحوم عبد الخالق محجوب (السكرتير العام السابق للحزب الشيوعي السوداني، الذي أعدمه نميري عقب انقلاب هاشم العطا في يوليو 1971م)، مسنوداً بخبرة مشهودة، ومَكِنةٍ فكرية غير منكورة. وقد وظف جهوده منذئذٍ لتكريس الهوية العربية الإسلامية دون أن يدور في فلك أي حزب سياسي. وقد أدت به مواقفه هذي إلى مناورات تشهد له بالذكاء، واتبع في ذلك حيلاً أعانته عليها ألمعيته الأكاديمية الفذة.

    لا نزعم أن عبدالله على إبراهيم يتفق معنا في الرأي، وربما كنا على يقين من أنه يختلف معنا أيما اختلاف فيما ذهبنا إليه. والأمر كهذا، فحريٌّ بنا ألاّ نزعم بأن الذين سندخلهم ضمن هذا الاتجاه الجديد ينظرون إلى أنفسهم من خلال منظورنا لهم.

    بقي أن نقول إن أهم محدوديات هذا المقال هو انحصاره في الحركة الفكرية والسياسية بين من ينتمون للثقافة العربية الإسلامية أو ما يعرف تقليدياً بشمال السودان، الذي يُنظر إليه على أنه تغلب عليه الثقافة العربية الإسلامية. ولهذا عدة أسباب؛ أهمها أن المقال يتناول اتجاهاً إسلامياً عربياً يسعى لاستيعاب الاتجاه الأفريقي في هوية السودان.



    إشكالية هويّة السودان


    هذه الإشكالية لها ثلاثة محاور هي: العروبية، الآفروعروبية، والأفريقية. وقد نتجت عنها ثلاث مدارس في مجال الدراسات السودانية. سنتعرض للمدرستين العربية والأفريقية، ثم نركز تحليلنا على المدرسة الآفروعروبية. وسبب هذا أن السودانوعروبية ـ فيما نرى ـ هي بنت الآفروعروبية، أو على وجه التحقيق، هي الاتجاه الجديد الذي بدأت الآفروعروبية في التحول إليه والتشكل به، بعد نجاحها في استيعاب المدرسة العروبية. والآن جاء دور استيعاب كل عناصر التمرد فيها.



    المدرسة العروبية

    قامت هذه المدرسة في أدبياتها على ما كتبه عبد الرحمن الضرير في أوائل القرن العشرين في كتابه العربية في السودان، بدافع إثبات عروبة السودان دون الالتفات البتة إلى العناصر غير العربية التي تشكل قوام الأطراف في الشرق والغرب، الشمال والجنوب ـ هذا الأخير خاصة ـ فكأنها غير موجودة [أحمد عبد الرحيم نصر، 1985: 15]. وتبعه في ذلك محمد عبد الرحيم في كتابه نفثات اليراع في الأدب والتاريخ والاجتماع، حيث دافع عن عروبة السودان وعن إسلاميته [المرجع نفسه: 16-15].

    وعندما استشرف السودان إستقلاله، كتب بعض السودانيين في الصحف مثيرين موضوع العروبة والأفريقية. وبدلاً من انتهاز الفرصة، وإجراء حوار حول هذه المسألة، تصدى لهم أكاديمي مصري الجنسية هو عبد المجيد عابدين، فاتّهم أول ما اتهمهم بأنهم عنصريون [نفسه: 18]. ثم ذهب إلى التصريح والتأكيد إلى أن اللغة العربية وثقافتها تتقدم في السودان، ولا شيء سيوقفها. كما إنه لم يذكر شيئاً عن الكيانات مشهودة التأفرق ـ مثل الجنوب ـ وكأنها لا توجد، حاله في ذلك حال الضرير وحند عبد الرحيم [نفسه]. وبالرغم من أنه دافع عن العروبة كهوية ثقافية لاعرقية، إلاّ أن حديثه استبطن نعرة عرقية لا تخفى [راجع في ذلك كتبه: 1967: 108ـ109؛ 1972: 73ـ78.]

    من الواضح أن هذه المدرسة كان محتوماً عليها التراجع عن ريادة الحركة الفكرية والعلمية في السودان، ذلك لأنها لا تحسّ ولا تقرُّ أصلاً بوجود سودان خارج خيمة الثقافة الإسلاموعروبية. فهي لا تشعر بوجود المكوّن الأفريقي [حسبما فهموا] في هوية أولئك الذين يجلسون القرفصاء في دار الندوة الإسلاموعروبية في السودان، الأمر الذي يجعلها لا تقرُّ بسودانية من هو ليس بعربي.



    المدرسة الأفريقية

    في رأينا أن وجود هذه المدرسة نظري افتراضي، أي لحفظ ميزان الصراع من حيث ثنائيته القطبية: عربي ـ أفريقي. فالحديث عن الأفريقانية في السودان يأتي دائماً تعبيراً عن الكيانات مشهودة التأفرق من لغة وعرق … إلخ، واستبعاداً للعناصر المستعربة. ولكن لا توجد كتابات عن سودان أفريقي الثقافة مع اشتمال شمالي الوسط المستعرب المسلم فيه. وقد قام أحمد عبد الرحيم نصر بالتصنيف لهذه المدرسة مستنداً في ذلك على بحث قدمه أحمد المعتصم الشيخ - الطالب آنذاك بشعبة الفولكلور، معهد الدراسات الأفريقية والآسيوية، جامعة الخرطوم - لنيل درجة الدبلوم [نصر، 1985].

    اعتمد أحمد عبد الرحيم نصر في تقويمه وتصنيفه لهذه المدرسة على تركيز أحمد المعتصم على أن أسماء الناس والأماكن ـ في منطقة يُنظر إليها كمنطقة عرب مسلمين ـ كلها نوبية الأصل. كما إن الابطال الأساسيين الذين يردون في الحكايات الشعبية من الذين ينتظمهم المضمار الأمومي، مثل: الأم، الأخت، الخال، ابن الخال، ابن الأخت…إلخ. وفي هذا ما يشهد ـ حسبما يرى البحث ـ بمخلفات survivals للنظام الأمومي matrilineal system الذي كان سائداً في سودان ما قبل العرب، مضافاً إلى كل ذلك المعتقدات الدينية التي ـ حسب رأي الباحث ـ لا تتوافق مع تعاليم الإسلام [ أحمد المعتصم الشيخ، 1975م]. على أيٍّ، ما كان لهذا البحث أن يكون معلماً لمدرسة قائمة بذاتها في الدراسات السودانية لو لم يصنفه أحمد عبد الرحيم نصر هذا التصنيف، ولو لم يقوّمه هذا التقويم. ولا نعني بقولنا هذا إن البحث ضعيف في تكوينه، أو أي شيء من هذا القبيل؛ ولكن نقصد إلى القول بأن الكاتب نفسه لا يذهب هذا المذهب في بحثه، والعنوان يشي بذلك. فأحمد المعتصم يتحدث عن "عناصر أفريقية في الأحاجي السودانية" وهذا شيء بعيد ـ فيما نرى ـ عن التحدث عن هوية أفريقية للسودان ككل.

    وعلى أيٍّ، هذا الاتجاه عموماً لم يُشهد له بفاعلية في تشكيل المواقف وبنائها في السودان. بالطبع كانت هنالك وعلى الدوام أصوات ترتفع مطالبة بحقوق الكيانات الأفريقية في السودان، أو تتحدث عن رد الاعتبار للمكون الأفريقي في ثقافة شمالي السودان العربي المسلم؛ ولكن لم تكن هنالك أصوات ترتفع منادية بأن السودان بمستعربيه ومسلميه ـ بعيداً عن الإطار الجغرافي ـ هو أفريقي الهوية. فدعوى أفريقية السودان كانت بوصلتها دائماً ـ ولا زالت ـ تتجه جنوباً وغرباً وشمالاً وشرقاً نحو الهامش و الأطراف بعيداً عن الوسط والمركز وشمال الوسط.



    المدرسة الآفروعروبية


    بواكير الدعوة وروادها
    يمكننا أن نرتد ببواكير هذه المدرسة إلى بدايات القرن العشرين ودعوة قومية الأدب والاقتصار على ما هو سوداني السمات، أو ما يسمى بمدرسة الفجر. لقد كانت جرثومة ذلك الوعي تكمن في إحساسهم بحوجتهم إلى أدب يعبر عن واقعهم. وقد بدأ هذه الدعوة الشاعر حمزة الملك طمبل، وتبعه في ذلك الكثيرون منهم محمد أحمد محجوب، محمد عشري الصديق، وأخوه عبدالله [محمد عبد الحي، 1976: 7-11]. ولكن محمد عبد الحي يأخذ عليهم أن دعوتهم لم تكن واضحة الرؤية. فمفهوم ما هو سوداني لم يكن واضحا لدى طمبل [المرجع نفسه: 9]. كما إن العمق الأفريقي للسودان كان غائباً عنهم بالمرة [نفسه: 23]. لقد مسّوا أفريقية بالسودان مسّاً بينما تجاهلوا كينونته الأفريقية من حيث تأفرقهم هم أنفسم، وبالتالي سقط عنهم الوعي بأطروحة التمازج والتفاعل الثقافي الذي انتظم الثقافة العربية في السودان [نفسه].

    إذن فقد كانت المطالبة بأدب سوداني السمات بمثابة حوار عربي ـ عربي. فتلك المدرسة (الفجر) سعت إلى سودنة الأدب الذي كان يهيم في مفازة الشعر العربي الآبد. وعليه، لقد كانت تلك الدعوة تتحرك داخل خباء الثقافة العربية الإسلامية [ محمد فوزي مصطفى عبد الرحمن، 1972: 226-228].



    رد الاعتبار للمكون الأفريقي
    في أواخر أربعينات القرن العشرين وخلال خمسيناته، ومع اشتداد حدة الخطاب العروبي على المستوى الرسمي جرّاء كتابات أمثال عبد المجيد عابدين وآخرين، ارتفعت أصوات تنبّه للعنصر الأفريقي وتنحاز إليه كردّ فعل لانحياز السواد الأعظم للعروبة. وقد كان محمد المهدي المجذوب رائد هذا الإتجاه حيث تغنّي بجنوب السودان وسعي في بوهيمية آسرة للتماهي فيه. ولكن، كان المجذوب في أعماقه عربياً نَزَا في سورة شبابه فأُعجب بأفريقيا. فهو يقول في قصيدته (انطلاقة) والتي ألفها بمدينة واو 1954م [ محمد المهدي المجذوب، 1982: 20]:

    فليتِي في الزنوج ولـي ربـابٌ تميـلُ به خطاي وتستقيــمُ

    أُجشِّمه فيجفلُ وهـــو يشكـو كما يشكو من الحُمَةِ السليـم

    وفي حِقْـوَيَّ من خـرزٍ حـزامٌ وفي صَدُغَيّ من وَدَعٍ نظيـم

    وأجتـرع المريسةَ فـي الحواني وأهْــذِرُ لا أُلام ولا ألــوم

    طليـقٌ لا تقيـّدني قريـــشٌ بأحساب الكــرام ولا تميـم

    وأُصرعُ في الطريق وفي عيوني ضبابُ السُّكْرِ والطّربِ الغَشوم

    في هذا الفضاء ظهر شعر الفيتوري الذي فاخر بسواد لونه، بل ودعا إلى أن نُعلن عن زنوجتنا بالصوت العالي [أنظر نص القصيدة في: فتح الرحمن حسن التني، 1990م: 327]:

    قلها لا تجبن… لا تجبن

    قلها في وجه البشريه

    أنا زنجيٌّ..

    وأبي زنجي الجدِّ

    وأمي زنجيه

    أنا أسودْ … أسودْ

    لكني حرٌ أمتلك الحريه

    أرضي أفريقيه

    عاشت أرضي

    عاشت أفريقيه

    هنا يتضح الفرق بين المجذوب والفيتوري. فالثاني يحمل في دواخله أزمة أفريقيته من حيث الواقع المزري، بينما الأول معفي من تبعة ذلك بحكم وعيه بعروبته، ولكنه يسعى للتماهي في صورة ذهنية كوّنها عن أفريقيا ربما كانت لا تمت إلى الواقع بصلة.

    عليه، نخلص إلى أن الفيتوري جاء تعبيراً عن وعي سوداني لم يجد لنفسه موضع قدم في الواقع العروبي. وقد كان الفيتوري بحق ترجماناً لهذا التيار، فجاءت أغلب قصائده عن أفريقيا حتى تمخضت عن أربعة دواوين تحمل اسم أفريقيا [1956؛ 1964؛ 1966؛ 1967].



    الآفروعروبية والحل الوسط
    إذن، فقد جاء شعر الفيتوري ترجمةً لحركة استقطاب جديدة تدور رحاها حول الزنوجة والأفريقانية الطاغية على الملامح السودانية، وذلك في مقابل الاستقطاب العروبي. بيد أن هذا الوعي الأفريقي الصاعد جاء عبر خطاب عربي؛ وهنا كانت مفارقته، فكأنما جاء مخرجاً من مأزق.

    كان في مقدور هذا الطرف الاستقطابي الجديد أن ينضج ويتبلور في نظرية معرفية يمكنها أن تنسف بناء الاستقطاب العروبي الهش لولا أن ظهر تيار الآفروعروبية كحل وسط يُخرج العروبية من مأزقها. لهذا فإننا ننظر إلى الآفروعروبية لا على أنها ناتج جدلي من صراع الأفريقانية والعروبية، بل على أنها جاءت كحل توفيقي منحاز لصالح التيار العروبي، ولاستيعاب عناصر الثورة الأفريقية المضادة. وقد نجح هذا التيار في مسعاه، وليس أدلّ على ذلك من استيعاب الفيتوري نفسه وتخصيص دكة مريحة له داخل خباء العروبة.

    أنظر مثلا إلى قصيدته (مقام في مقام العراق) التي ألقاها ببغداد في مهرجان المربد التاسع حيث يقول [أنظر نص القصيدة في مجلة الدستور، الإثنين، (19ـ26)، 1988م، ص 43]:

    غيـرُ تلك البلادِ بلادُك لولا اليقينُ ولـولا شمـوخُ العراق

    العـراقُ الأيادي التي غسلت جبْهةَ الشرق بالـدّمِ حتّى أفاق

    العراقُ الصحائفُ مُذْهَبةُ النقشِ في زمن العجـزِ والانسحاق

    العراقُ المــلاحمُ لا تنتهي والرؤى ثورةٌ والحضورُ ائتلاق

    ويظلُّ العــراقُ مداراً وبغدادُ شمساً تُضيءُ مـدارَ الرفاق

    فالتماهي العروبي هنا كأوضح ما يكون، في مقابل تماهٍ أفريقي سابق. ليس هذا فحسب، بل إن الفيتوري يتماهي حتى تركبه العنجهية العربية فلا يتمالك من أن يعرّض بالعجم من المغول والمماليك والأغوات مختزلاً فيهم الصفات السالبة ودامغاً بها متخاذلي العرب:

    كلُّ ما كان بالأمس أن المغولَ أَتَوْا في الدجى ومَضَوْا في المحاق

    وتقيمُ المقـــاديرُ فيــك احتجاجاً على وطنٍ أبدي الوثــاق

    ضــاع بين صراع المماليك والأَغَوَات وفرسان عصر الوفاق

    أيّاً كانت الجهة التي يعرض بها الفيتوري، واصفاً إيّاها (بالأغوات)، وكيفما كانت الدلالات التشريفية لهذه اللفظة قابلة للتداعي، الا أن الفرصة للتداعي تبقى أكبر حيال الدلالات السالبة لها، ونعني بذلك طائفة الخصيان الذين كانوا يقومون بخدمة الحرم المكي والمسجد النبوي بالمدينة. وفي هذا ما يضع الفيتوري ـ كأفريقي سوداني أسود ـ في موضع لا يحسد عليه. فعندما كانوا يستقدمون هؤلاء الخصيان إلى تلك الأماكن المقدسة، كان من ضمن ما يشترطون عليه أولاً أن يكونوا من أفريقيا ومن أجناس بعينها. وبحلول 1814م كان معظم الأغوات من الأحباش والسودانيين. وأصل أكثر الاغوات حينها كان من منطقة ولّو (Wallo) بأثيوبيا ومديرية دارفور بالسودان [لمزيد من التفاصيل في ذلك أنظر: أحمد عبد الرحيم نصر، 1986م، ص ص 11،12،16،17]. ولا نملك إلاّ أن نشير إلى أن الفيتوري يرجع في أصوله إلى دارفور.

    ثم يتباكى الفيتوري على هذا الوطن العربي الكبير:

    جـــزّأوه وقـد كان شعباً، فأضحى شعوبـاً مُعبّأةً في زقــاق

    ثم يختم قصيدته قائلا:

    يــا بلادي التـي حملتني بعيـداً إلى عُرسها يا بلادي العــراق

    وهنا يكون الفيتوري قد سلا عشقه الأول الكبير، أفريقيا، ليدلج بعد ذلك في ليل القضية العربية.



    الأكاديمية: حصان طُروادة

    نهضت الآفروعروبية على أساسٍ متين وعلمية صارمة، فقد أرساها أحبارٌ نهدوا إلى العلم بوثبة شابة، وألمعية نافذة. وقد خلص ذلك الجيل إلى أن السودان هو مزيج من العروبة والأفريقية. فيوسف فضل في دراسته عن العرب في السودان يخلص إلى أنهم نوبة استعربوا [1973: 153-158]. ويذهب حريز في دراسته لطقوس العبور ودورة الحياة عند الجعليين [1969] ثم في دراسته لأدب الجعليين الشعبي (الحكاية) [1977] إلى وصف ثقافتهم بأنها آفروعروبية. وعلى صعيد علم السياسة تناول هذه الإشكالية أيضا مدثر عبد الرحيم متحدثاً عن مشاكل ومزايا الهوية الآفروعروبية للسودان [1969؛ 1970].

    لقد كانت تلك الكتابات رصينة، وقد استندت على قدم راسخة في العلم، كما قامت على وقائعية تاريخية وجدلية مؤدّاها أن سودان اليوم هو ناتج تلاقح ثقافي نهدت فيه العروبة والأفريقية برفدهما ثم كان أن وسمته أفريقيا بميسمها. وهذا حق! الا أن مشكلة الآفروعروبية تكمن في أنها رفعت شعاراً لم تعمل بمقتضاه، فقد كانت الأكاديمية العلمية بمثابة حصان طُروادة ركبها ذلك الجيل الألمعي كيما يستأنس الغابة، فيما سنرى لاحقاً.



    مدرسة الغابة والصحراء
    تولدت الآفروعروبية أول أمرها كاتجاه فكري سوداني داخل الحقل العلمي الأكاديمي، وفي هذا لبس نود إجلاءه. فبالرغم من أن بذرة هذه المدرسة قد نشأت داخل المدرسة الأكاديمية، إلاّ أن الإصدارات العلمية الأكاديمية ـ كتلك التي رفد بها أمثال يوسف فضل وسيد حريز وفرانسيس دينق ـ لم تظهر إلاّ بين منتصف الستينات ومنتصف السبعينات من القرن العشرين. هذا بينما الكتابات الأدبية من شعر وقصة التي تنتمي إلى الآفروعروبية قد ظهرت منذ أوائل الستينات، ولذا تبدو دعوة الآفروعروبية وكأنها قد ظهرت أول أمرها كتيار أدبي فحسب. وما ذلك إلاّ لأنها قد خرجت في تجلّياتها الأدبية قبل أن تخرج من أروقتها الأكاديمية إلى الشارع السوداني. وتتمثّل تجلياتها الأدبية في مدرسة الغابة والصحراء، حيث ترمز الغابة إلى أفريقيا والصحراء إلى العروبة. وقد بدأ ذلك في أوائل الستينات من خلال مقالات في الصحف رادها كل من محمد عبد الحي، صلاح أحمد إبراهيم، محمد المكي إبراهيم والنور عثمان أبكر، أدانوا فيها ثقافة الكف والصرامة التي تتسم بها العروبة، ومجدوا في المقابل الطابع الانفلاتي ـ فيما رأوه هكذا ـ الذي تتسم به الثقافة الأفريقية [عبدالله علي إبراهيم، 1988: 119].

    هذه التيارات المناهضة للخطاب العروبي ـ في مرحلة ما قبل التبلور والاستقطاب ـ كان لابدّ للعمل على استيعابها في خطاب يجعلهم يصطلحون عبره مع العروبة. وما كان هذا ليتأتّى إلاّ بالاعتراف بالمكون الأفريقي في ثقافة شماليي السودان. وهذا ما تم إرساء قواعده علمياً من خلال الرفد العلمي الذي ظهر في أروقته الأكاديمية مبكراً، رغماً عن تأخر ظهوره للعامة عبر النشر. لقد كانت تلك أرضية صلبة روّج لها دعاة الغابة والصحراء يحدوهم عميدهم محمد عبد الحي. فكان بالتالي أن أرسوا اتجاهاً جديداً يعترف بالمكون الأفريقي ويضعه ـ نظرياً ـ على قدم المساواة مع المكون العربي، وذلك من خلال توازي وتساوي الغابة والصحراء.

    لقد جعلت مدرسة الغابة والصحراء من إنسان سنار نموذجاً للإنسان السوداني، وقدمته كمشروع. وفي ذلك يقول عبدالله علي إبراهيم [المرجع السابق: 107]:

    "أمل الآفروعروبيين في تمازج الثقافات في السودان معلق بحركة التصنيع التي بوسعها أن تزيل البقية الباقية من العوائق بين الجنوب والشمال.. وعليه يكون ناتج الامتزاج بين الجنوب والشمال إعادة إنتاج لإنسان سنار، الذي هو أساس التركيبة الهجين للسودانيين الشماليين. فمحصلة الامتزاج بين الجنوب والشمال في نظر الآفروعروبيين ستكون بمثابة طبعة لاحقة للسوداني الشمالي الذي لا عيب فيه حالياً سوى تجاهله لتراثه الأفريقي".



    العروبية والآفروعروبية: برنامج موحد
    كان للعروبية برنامجها السياسي الاجتماعي والثقافي متمثلاً في ميكانيزمات التمدد والاندياح الاستعرابي الذي نشهده في سودان اليوم، والذي جرت سيرورته منذ قيام دولة الفونج. وهذا البرنامج يترسم خطواته وفق خطاب يتسم بالتماسك والثبات. وفي المقابل نجد أن الآفروعروبية لا تقدم لنا أي برنامج له شكله التخطيطي وبعده التنفيذي فيما يختص بإشكالية الهوية. فهي لا تطالب بأن يكون التعليم على طريقة بعينها ـ مثلا إدخال اللغات السودانية في المدارس ـ أو أن تأتي البرامج الاقتصادية والسياسية على شكلٍ بعينه بحيث تحقق جوهر الفهم الآفروعروبي في فكرهم، والصورة التي يترسمونها لما ينبغي أن يكون عليه السودان.

    فإذا كانت هناك تيارات رافضة للعروبة فإن الآفروعروبية جاءت وهي تستبطن في تلافيف ميزانها اعترافاً بالعروبة. وهكذا أصبحنا في السودان ـ خاصّةً منذ السبعينات ـ نشهد الخطاب الرسمي والشعبي يلهجان بالآفروعروبية، بينما تتحكم ميكانيزمات الاستعراب على كل أصعدة البرامج السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية. وهذه هي ذات ميكانيزمات الاستعراب التي شكلت إنسان سنار (أي نموذج الآفروعروبية للإنسان السوداني). فإذا علمنا أن هذا هو ذات برنامج المدرسة العروبية، وصلنا إلى أن العروبية والآفروعروبية عبارة عن برنامج واحد يقوم على تكريس الاستعراب. وما حديث الآفروعروبية عن المكون الأفريقي ـ على وجه التحقيق ـ إلاّ من قبيل الاستهلاك الشفاهي والتخدير كتكتيك استيعابي.

    وهكذا نتفق مع عبدالله على إبراهيم [المرجع نفسه: 119] عندما يقول: "وصفوة القول إن الآفروعروبية هي صورة أخرى للخطاب العربي الإسلامي الغالب في السودان".



    ميكانيزم الاستعراب وثقافة أمدرمان
    نعني بذلك العملية التي يبدو أن كل الكيانات السودانية ذات الثقافة واللغة الأفريقيتين معرضة كيما تمر بمراحلها .هذا بالطبع ما لم نتحسب لذلك حتى لا تندثر هذه اللغات.

    ويمكن تلخيص ميكانيزم الاستعراب في الاتي:

    أب وأم يتحدثان لغة سودانية كلغة أم ولا يعرفان من اللغة العربية إلاّ بضع كلمات لا يحسنان نطقها؛ ثم أبناء يبدأون بلغة الأم، فتجبرهم ظروف الحياة على تعلم العربية مع "لكنة" واضحة؛ ثم أبناء يبدأون بالعربية كلغة أولى، وتصبح لغة الأم هامشية، يفهمونها ولكن لا يجيدون التحدث بها. وأخيراً يجيء أحفاد لا يعرفون غير العربية مع تأفّف وتبرؤ من لغة الجد والحبوبة. تتجلى هذه العملية بصورة واضحة في طبقة الأفندية، أي رعيل الموظفين الحكوميين، عندما كانت تمثل طبقة متميزة منذ أول نشوئها إبّان عهد التركية حتى سبعينات القرن العشرين. ويعرف عن هذه الطبقة استلابها واغترابها عن واقع المجتمعات التي صدرت منها [راجع حريز، 1988: 40-43].

    هذا هو ميكانيزم الاستعراب. فالفونج تحولوا ـ كمجتمع ـ إلى الإسلام بعد قيام مملكتهم [يوسف فضل، 1973: 144]. وروبيني عندما زار سنار لم يجد دولة إسلامية عربية، بل وجد دولة أفريقية الثقافة واللون. بينما سنار اليوم لا تعرف من "تلك الفونج" غير الاسم.

    إن المراكز الحضرية تقوم بدور المعمل لهذا الميكانيزم. كتب أبو منقة وميلر [1992: 12] عن هذه الظاهرة فقالا:

    "تشير كل الدراسات التي أجريت ضمن (مشروع المسح اللغوي في السودان) إلى ازدياد وتيرة انتشار اللغة العربية منذ الاستقلال. وهذا يعزى إلى الاعتماد المتزايد للأقاليم والأطراف على منطقة الوسط؛ حيث تقوم الأخيرة باحتكار السلطة السياسية والاقتصادية والثقافية. إن التطور الاقتصادي ـ الاجتماعي للأطراف (تكوينها لمراكز حضرية صغيرة، وتطور التجارة، والمدارس والعيادات والمشاريع الزراعية…) والهجرة إلى المدن وانسياح النماذج الثقافية لشمال الوسط عبر وسائل الاتصال والتعليم والتجار والخدمة المدنية…، كل ذلك ينحو لتقوية أثر اللغة العربية على كل مستويات ومناحي الحياة اليومية. نتيجة لهذا بدأت العربية تصبح اللغة الأولى (إن لم تكن اللغة الأم) لعدد متزايد من الناس في مناطق الثنائية اللغوية بالشمال بما في ذلك المناطق الريفية".

    كما يضيفان [المرجع السابق: 13] أن هذا هو واقع الحال حتّى في جنوب السودان.
    وبما أن المراكز الحضرية هي نفسها تتمركز حول المركز الأكبر (العاصمة المثلثة)، لذا أطلقنا على ذلك "ثقافة أمدرمان" كإشارة لمركز المراكز. ودمغُنا لهذه العملية باسم ’أمدرمان‘ له سبب: فأمدرمان من أحدث المدن السودانية تاريخاً وتمثل نموذجاً حيّاً لمنظور ’بوتقة الانصهار‘، بينما لا تقارب أبداً منظور ’الوحدة في التنوع‘ [وسنتعرّض لهذين المنظورين بشيءٍ من التفصيل لاحقاً لكونهما يلعبان دوراً فارقاً في الخطاب الفكري السياسي السوداني]. بالعودة إلى أمدرمان، نلاحظ أنه قلما نجد مجموعة ثقافية سودانية ليس لها أسر (قلّت أم كثُرت) ذابت في مجتمع أمدرمان. وفي الحق، فقد رادت مجموعات الهامش والسوداء منها خاصة (من الجنوب وجبال النوبة والأنقسنا ودارفور) حركة الحداثة في مجتمع أمدرمان، خاصةً بُعيد الدولة المهدية. لقد خضعت هذه المجموعات ـ عن سماحةٍ ـ لعملية إعادة الإنتاج فاستعربت تماماً، فضلا عن بادئ إسلامها؛ هذه هي المجموعات التي رادت فن الغناء عندما كانت الثقافة الإسلاموعروبية تحاربه في أمدرمان؛ وهي نفسها التي رادت التعليم عندما تحامته المجموعات الإسلاموعروبية؛ وهي نفسها التي رادت خروج المرأة للعمل، وعبر مهنٍ شريفة استعرّت منها المجموعات الإسلاموعروبية، كالتمريض وغيره. هذه هي المجموعات التي رادت عملية الحداثة في سودان القرن العشرين فما بعد. فإلى ماذا يا تُرى انتهى أمرها؟ لقد تم إيداعها في أدنى سُلّم المجتمع لا لشيئ إلاّ لسواد لونها وغلظة شفاهها وتفلفل شعرها وقلة حظها، نسبيا، مما نُظر إليه خطأً على أنه الدم العربي. إنها نفس المعاناة التي تعرّض لها عنترة في الجاهلية وبلال في الإسلام. إذن فعملية إعادة الإنتاج ليست جزءً من الحل، بل هي في الواقع جزء من المشكلة. هذا النموذج هو الذي يُرادُ له أن يعمّ السودان كله عبر ’منظور بوتقة الانصهار‘ وإعادة الإنتاج، فيما طرحته الآفروعروبية في نموذج إنسان سنار، باستخدام ألفاظ محمد عبد الحي، ونموذج إنسان أمدرمان، بلغة هذا البحث.

    ظلت أطروحة الآفروعروبية ـ ولا زالت ـ تشكل الخطاب الرسمي والشعبي في السودان خلال العقود الثلاثة الماضية. واليوم تشير برامج ومشاريع المسح اللغوي إلى زيادة وتيرة الاستعراب وميكانيزماته منذ أن نال السودان إستقلاله. بمعنى آخر، لقد لعبت الآفروعروبية دورها في تكريس الاستعراب. وهذا بدوره يعكس ما نعنيه بمقولة إن الآفروعروبية ما هي إلاّ شكل آخر من أشكال الخطاب الإسلاموعروبي الغالب في السودان.

    إذن كل الذي مثلته الآفروعروبية هو أنها كانت مشروعاً استيعابياً (assimilating project) طرحته العروبية لاستيعاب تيارات التمرد الأفريقية. فهل نجحت؟



    الململة وفرفرة المثقفين
    لم تنجح الآفروعروبية في استيعاب تجليات الوعي الأفريقي في الهوية السودانية، وإن كانت قد نجحت في تعويق نضج تبلوره وتشكله. فالآفروعروبية لم تختطّ لها برنامجاً يحقق ذاتية هذا "التأفرق". كما إنه لا ينبغي لنا أن نتوقع تلاشي إيقاع الطبول الأفريقية في "جُوّانيّاتِنا"؛ إذ إن الأفريقانية تنبثق عن أصالة، بينما لا يُعترف بها إلاّ من قبيل الاستهلاك الشفاهي.

    لكل هذا كان لابدّ للوعي بالتأفرق أن يعبر عن نفسه بشكل من الأشكال. وما دعاوى انفصال جنوب السودان إلاّ تعبير عن هذا الوعي في أكثر صوره تطرفاً. كما إن هنالك جانباً آخر هو أن يسعى الوعي بهوية سودانية جدلية للتعبير عن نفسه بطريقة عملية من خلال برامج صادقة ذات بعد تنفيذي. فالعروبية تقوم على الاستبعاد والتصفية، والآفروعروبية ليست جدلية بل هي توفيقية منحازة، والأفريقية بدورها تقوم على الاستبعاد والتصفية.

    وقد بدأت الململة عندما احتكّ السودانيون ـ خاصة أهل الوسط والشمال الذين يصنفون في السودان كعرب مسلمين ـ بمن ظنّوهم عربًا عاربة في دول البترول. فقد صُدم مستعربو السودان عندما دمغتهم العرب العاربة بذات ألفاظ " العبودية" و"الرق" التي درج أهل وسط وشمال السودان أن يدمغوا بها من هم أشد منهم سواداً من أهل السودان [فرانسيس دينق، 1975: 61]. لقد ولدت عملية الاحتكاك، مع أنماط أخرى من الوعي العروبي، داخل المغتربين السودانيين (من أهل الشمال والوسط خاصة) بذرة الوعي بتأفرقهم . لقد كان ذلك مرتكز الزاوية والعمق النفسي للصراع، فالواحد منهم يعتلج في داخله وعيه العروبي بشدة، حتى إنه لَيُذْهلُ عن أفريقيته، بل وتركبه العنجهية فيتحامل على من هو أفريقي. فإذا به في مواجهة أناس لا يرون فيه عروبةً منهم بل أفريقياً مجللاً بالسواد. إن الأمر الذي جعله ينتبه بشدة إلى أفريقيته هي ذات اللفظة الشنيعة التي كان يدمغ بها إخوته من السودانيين.

    إذن، فإن الجسم العروبي الديموغرافي هو نفسه يشتمل على عناصر ثورة أفريقية. فالآفروعروبية لم تنجح حتى في الاحتفاظ بالجسم الديموغرافي للعروبية متماسكاً. كما إن هناك بؤراً ثورية مضادة للخطاب العروبي.

    تصدى لمعالجة هذه الاشكالية عبد الغفار محمد أحمد، ولكن على صعيد الصفوة والطبقة المثقفة من حيث تحامل رصيفاتها في باقي الدول العربية عليها، متبنّياً رؤية علي مزروعي [1971] بخصوص الحزام الهامشي للدول العربية (السودان، الصومال، موريتانيا، جيبوتي). فهو يقول [1988: 119]:

    "فأقطار مثل السودان والصومال وجيبوتي وموريتانيا، التي يكاد الفرد وهو يلاحظ هذا النشاط يسقطها من خريطة الوطن العربي، تسجل غياباً تاماً أو حتى إذا ساهمت فإن صوتها يكاد يأتي همساً. وفي هذا خطورة على مستقبل تطور مفهوم الوطن العربي بحدوده السياسية اليوم". ويذكر عبد الغفار محمد أحمد أن هناك اتهاماً (صامتاً) فحواه.. "بأن هناك توجهاً بعدم الاهتمام، من جانب القيّمين على أمر الحوار العربي، بما يصدر من مثقفي هذه الأقطار الهامشية وتجاوزهم عند التخطيط للندوات التي تعقد…" [المرجع السابق: 120]

    ولكنه في موقع آخر يحول الاتهام (الصامت) إلى إتهام (مسموع)، فيقول [المرجع نفسه: 128]: "من الواضح أن هناك هامشية تجعل للسودان وما يشبهه من الأقطار العربية وضعية خاصة. ولكن المؤسف حقا أن الذين يتصدون لإدارة الحوار حول مستقبل الوطن العربي ينكفئون على ذواتهم ويبعدون هذه المجموعات الهامشية. ذلك لأن وجودها يعقد بعض المواضيع التي يمكن أن تناقش في سلاسة لو أنهم كانوا غائبين". إذن، فإن السوداني متحاملٌ عليه ـ عربياً ـ على المستوى الشعبي والمستوى الرسمي. الأمر الذي يمكن أن ينجم عنه اليأس من العرب، وبالتالي التبرؤ منهم، ومن ثم الاعتصام بعرى أفريقيته. وفي هذا خطورة على مستقبل تطور مفهوم الوطن العربي بحدوده السياسية اليوم، كما يقول عبد الغفار محمد أحمد. ولذلك يطرح مشروعه الاستيعابي لتوسيع مفهوم العروبة حتى يشتمل على الهامشيين.

    إن هذا المشروع ـ فيما يمليه علينا الواقع ومنطق السياق ـ تقوم زاوية ارتكازه على اعتراف العرب بعروبة الهامشيين رغماً عن تأفرق سيماهم، ثم بعد ذلك جعلهم جسراً يعبر منه العرب إلى أفريقيا. ولكن عبد الغفار محمد أحمد يعبر عن هذا المشروع بطريقة لا تساعدنا على استجلاء أعمدته التي يقوم عليها. فهو يقول [نفسه: 127]:

    "هذه الهامشية اليوم تجعل المثقف السوداني من شمال القطر مشتتاً يود الانتماء لعروبته المكتسبة ولكنه يرى في الوقت نفسه أن يعترف له المثقفون العرب بدور خاص في تواصل الثقافة العربية مع ثقافات أفريقيا وفي المقدرة على إجراء الحوار بين هذه الثقافات، وهو في هذا المنطلق يريد أن يؤكد أنه مزيج من العروبة والأفريقية".

    لقد اعتزل المثقفون العرب إخوتهم في الدول الهامشية إيماناً منهم بأفريقية هؤلاء دون عروبتهم. أي أن المثقفين العرب يفصلون بين العروبة والأفريقية، والمثقف السوداني يطالبهم بأن يعترفوا بالتقائهما فيه. وهذا طبعا دون مناقشة مفارقة أفريقية عرب الساحل الشمالي الأفريقي.

    ولكن، هل حقيقة أن المثقف السوداني يطالب بهذا؟ إننا نرى أن منطق السياق البحثي الخاص بمثل هذه الدراسات والتوجّهات الأيديولوجية هو الذي يفرض هذا المشروع كحل ومخرج، بينما الواقع العملي يقول لنا إن هناك تياراً قد تولد وتتجه دالته نحو الاعتصام بالأفريقية مع التبرّؤ من العروبة. وما محاولة عبد الغفار محمد أحمد إلاّ من قبيل دق ناقوس الخطر وتحذير العرب قبل فوات الأوان.

    وعلى أي حال فإن عبد الغفار محمد أحمد، مثله في ذلك كمثل علي مزروعي يعمل هنا على معالجة أزمة أهل السودان الشماليين في علاقتهم مع العرب. وهذه ـ في رأينا ـ من تفرعات المشكلة. فالمشكلة ـ فيما نرى ـ هي علاقة السودانيين ببعضهم البعض من حيث العروبة والأفريقية.

    ونشير هنا إلى أن علي مزروعي [1971] هو أول من استخدم مصطلحي المركز والهامش في الدلالة على أوجه الصراع الثقافي في السودان. بيد أنه استخدمه لمعالجة الصراع الثقافي بين مستعربي السودان وما شاكله من دول ذات شعوب مستعربة أسماها الهامش، وبين العرب العاربة الذين أسماهم المركز. ولكن قام كاتب هذه السطور عام 1986م في الإصدارة الأولى لكتابه منهج التحليل الثقافي بتوطين هذه الرؤية النظرية لتحليل الصراع الثقافي في السودان بالنظر إليه على أنه بين مركز إسلاموعروبي وهامش أفريقي؛ وقد استصحب مع مصطلحي المركز والهامش مفردتي الوسط والأطراف. فيما بعد سيتمّ تكريس هذا المصطلح عبر كتاب أبّكر آدم إسماعيل جدلية المركز والهامش [1997] بأجزائه الثلاثة.



    المحك الاستقطابي:
    إذن فقد وصل السودانيون إلى مفترق الطرق بين العروبة والأفريقية، وتحركت ميكانيزمات الاستقطاب. المشروع العروبي يعاني من مشاكل جمة أولها تأسيس مشروعية له داخل خيمة العرب العاربة. وسعياً نحو هذا اندفع بعض الكتاب فقالوا إن الجعليين ليسوا عرباً اختلطوا مع الأفارقة، ولكنهم عرب خلّص. ولتأكيد هذا زعموا أن المنطقة التي تسكنها قبائل الجعليين كانت خالية من السكان عندما قدموا إليها. ولحل إشكالية اللون ذهبوا إلى كتب التراث العربي يجمعون كل الإشارات التي تفيد بتوافر الخُضرة والسُّمرة في لون العرب، وخلصوا إلى نتيجة مؤداها أن اللون الحالي لقبائل الجعليين هو اللون الأصلي للعرب. وذهبوا إلى أكثر من ذلك فزعموا أن من يسكنون العراق والشام والجزيرة العربية هم الذين فقدوا لونهم العروبي المائل للسمرة والخضرة جراء تهاجنهم مع الأعراق البيضاء [عباس محمد مالك؛ 1987]. وما كان ما ذهبوا إليه في الواقع إلاّ مذهب عبدالله الطيب خلال ستينات القرن العشرين حسبما سيأتي لاحقاً. وفي رأينا أن عباس محمد مالك قد تحرّى في عنوان كتابه تعريف العرب العباسيين الذين يعنيهم على أنهم "قبائل الجعليين"، وذلك سعياً منه لتمييزهم عن المجموعات الأخرى التي تتبنى النسب العباسي العربي خاصة في مناطق برنو ووداي مثل الصليحاب العبّاسيين.

    بكل المسالك الوعرة التي يسلكها هذا المشروع وبكل القضايا الشائكة التي يحسمها ضربة لازب، فإن انهزامه يأتي من واقعة إثنوغرافية بسيطة ومتوافرة تشهد بأن الوعي اللوني لدى سودانيي الوسط والشمال تتجه دالتها إيجابياً نحو البياض وانفتاح اللون، شأنهم في ذلك شأن العرب قديماً وحديثاً. وكما ذكرنا أعلاه، فقد عانى عنترة من سواد لونه قبل الإسلام كما عانى بلال في الإسلام، ثم كما يعاني الآن السُّود في بلدٍ اسمه السودان من سواد لونهم.

    وفي هذا الوقت أيضا بدأت ترتفع الأصوات المنادية بانفصال جنوب السودان من قبل جهات جنوبية ومركزية تحت لافتات تقرير المصير، فضلاً عن باقي مناطق الهامش في جبال النوبة والأنقسنا ودارفور والشرق والشمال. هذا يعني أن المرحلة الحالية هي مرحلة ما يمكن أن نسميه "بفرز الكيمان". بمعنى آخر، لا مجال للمشاريع الاستيعابية في هذه المرحلة. ولهذا نجد المشروع العروبي قد تم طرحه كاملا بطاقته القصوى من خلال الأسلمة والاستعراب.



    إلى أين المفر؟
    هذا هو ما وجد الآفروعروبيون أنفسم فيه. فهم في داخل المشروع العروبي يحاربون في جبهتين:
    أ/ جبهة القومية العربية القائمة على فكرة أمة الدولة الواحدة one state nation والتي يمثلها البعثيون والناصريون. فالآفروعروبيون يرون هنا أن فكرة القومية العربية بهذا الفهم تنفي هوية السودان الحقيقية من المكون الأفريقي.
    ب/ جبهة التيار الإسلامي الذي بدأ كافراً بفكرة القومية من أساسها، والذي لا يملك حلاًّ لمشاكل السودان إلاّ من خلال الأسلمة والتي بدورها لا تتم إلاّ من خلال بوابة الاستعراب في عملية يشتط القهر فيها ليعيد الزمن القهقرى.

    في هذا الوضع الذي يماثل ما بين المطرقة والسندان يرى الآفروعروبيون أنفسهم أكثر تسودناً. كما يرون أن الاشتطاط إلى أحد الطرفين قد ينسف المشروع العروبي في السودان من أساسه. ولكن الموقف تأزّم أكثر فأكثر جراء اشتداد وتيرة الاستقطاب في المحيط العربي الكبير. فقد بدأت تلوح دلائل تقارب منهجي بين دعاة القومية العربية والتيارات الإسلامية الاصولية [أنظر: محسن عوض؛ 1989 . هذا فضلا عن الإشارة لما قام به الرئيس صدام حسين من وضع جملة "لا إله الا الله" على علم العراق وهو الأمر الذي عجز الأمريكان عن التخلّص منه]. بمعنى آخر بدأ يستعرب التيار الإسلامي من خلال الإقرار بمفهوم القومية العربية، بينما في المقابل، بدأ يتأسلم التيار القومي العربي العلماني. ففي السودان تسمّت حركة الإخوان المسلمين باسم "الجبهة القومية الإسلامية"، مقدمةً بذلك القومية التي كانت تكفر بها قبل عدة سنوات فقط على الإسلام.



    فأين المفر؟
    المفر هو عروبة خاصة بالسودان، وإسلام خاص به، دونما إدعاء للأفريقية. وهذا هو الإطار الذي سنسعى ـ فيما يلي ـ كي نترسّم أبعاده في كتابات عبدالله على إبراهيم، وهو الإتجاه الذي نحتنا له مصطلح "السودانوعروبية". وفيه سنضرب أمثلة موثقة بمن نرى أنهم ينتمون لهذا التيار الجديد.



    السودانوعروبية



    ملامح المشروع العبدلاّبي الجديد
    يبدأ عبد الله علي إبراهيم مشروعه بالهجوم يشنه على الآفروعروبيين متهماً إياهم باستبطان شكل من أشكال التحامل على المكون الأفريقي الذي سعوا لتكريمه. ثم يخلص إلى أن الآفروعروبية لا تعدو أن تكون شكلاً آخر من أشكال الخطاب الإسلامي العربي الغالب في السودان [عبدالله علي إبراهيم، 1988]. وهو إذ يفعل ذلك، إنما لقفل الطريق أمام أية محاولات سودانوشمالية تنحو الخط الأفريقي في إشكالية الهوية أو تحاول أن تعيد أو تحيي ما اندثر من مدرسة الغابة والصحراء، أو المدرسة الآفروعروبية عامة.

    ومن ثم يتحرك عبدالله على إبراهيم بخطى ثابتة نحو هدفه الثاني: الإسلام الأورثوذكسي. فهو يريد أن يقلم أظافر التيار الإسلامي الذي إذا تُرك له الحبل على الغارب سيشتطّ وربما أفضى بعروبة السودان إلى موارد الهلاك. وكيما يفعل ذلك فإنه يعيد تقويم الإسلام الشعبي، أي إسلام الصوفية. فيذكر النظرة الخاطئة له على أنه مشوب بالشركيات، ثم يقوم بتفنيدها. بعدها يخلص إلى أن الإسلام الشعبي هو إسلام السودان وما عداه يمكن أن يكون إسلاماً لشعوب أخرى، إذ إن لكل شعب إسلامه الذي يسمه بميسم ثقافته [عبدالله علي إبراهيم، a1989: 148-185]. وهو إذ يفعل هذا، إنما ليقفل الطريق أمام الحركة الإسلامية الأصولية التي تدعو إلى دولة خلافة إسلامية يجلد الناس فيها ويُحدّون.

    وأخيرا يتوجه عبد الله علي إبراهيم في مسوحه الأكاديمية ليمنح بركته العروبية لأهل وسط وشمال السودان الذين تحوم حولهم إشكالية العروبة من عدمها، فيعمّدهم عرباً بصرف النظر عن تخالط دمائهم بالأفارقة. فالهوية يعتمدها كخيار، ولا يجوز أن نقسر أناسا بعينهم على تبني هوية لا يستشعرونها. ويقيم عبد الله على إبراهيم مفهومه هذا على قاعدة من العلمية صارمة، يبدؤها بالهجوم على ماكمايكل وكتاباته عن العرب في السودان. ثم تنداح دائرة هجومه وتفنيداته لتشمل رعيل الأكاديميين السودانيين الذين تبعوا ماكمايكل ومنهجه بطريقة وقع الحافر على الحافر. ثم بعد هذا يؤسس لمفهوم الهوية كاختيار وكسلاح أيديولوجي، وكيف أن الهوية عندما تستخدم الأنساب إنما تفعل ذلك كأداة من أدواتها دون أن تعير الوقائعية التاريخية أدنى اعتبار. عليه، لا يجوز أن نغلّط هذه المفاهيم، بل علينا أن نفهم لماذا فعلوا ذلك ونؤمنهم على الهوية التي اختاروها. ومن ثم فعلينا أن نؤمن قبائل الجعليين على عروبة هويتهم وإسلامها [عبدالله على إبراهيم، b1989].



    الآفروعروبيون والحلف السناري
    في مقاله "تحالف الهاربين" [1988: 111-112] يبدأ عبدالله علي إبراهيم هجومه على النظرية "الانحطاطية" عند ماكمايكل، وتجلياتها الثقافية عند ترمنغهام. يقول:

    "… إن دعوة الهجنة في أصولها العرقية عند ماكمايكل وتجلياتها الثقافية عند ترمنغهام تنطوي على فرضية انحطاط. وهو انحطاط نجم في نظر دعاتها عن امتزاج العرب المسلمين بالنوبة الأفريقيين. فقد جاء عند ماكمايكل ما يوحي بأن "الدم" العربي أرفع من الدم الأفريقي. وجاء عند ترمنغهام أن الهجين العربي الأفريقي قد سرّب من العقائد إلى الإسلام ما أدخله في الوثنية. والواضح أن المكون الأفريقي في هذا الهجين هو أكثر من تأذّى بنظرية الانحطاط هذه".

    بعد ذلك يتقدم عبدالله علي إبراهيم خطوة للأمام، فيكشف أن رعيل الأكاديميين الذي رادوا مدرسة الآفروعروبية قد تبنّوا نظرية الانحطاط هذه وأخذوها كمسلمة دونما روية أو تفحص نقدي [المرجع السابق].
    ثم يتحول عبد الله علي إبراهيم إلى التجليات الأدبية والفكرية للآفروعروبية من خلال مدرسة "الغابة والصحراء". فهو يتوجه بالنقد لكتابات الرواد الأوائل لهذا الاتجاه، وهم محمد عبد الحي، صلاح أحمد إبراهيم، محمد المكي إبراهيم، والنور عثمان أبكر. فيذكر أنهم عندما هاجموا العروبة، وسعوا للتبرؤ منها وعدّوا الانتماء لها تكبراً أجوف، وانتماءً متكبراً [المرجع نفسه: 112-115] ، ومن ثم نادوا بهوية أفريقية ابتنوا صورها من خيالهم الرومانسي، إنما استبطنوا ذات النظرية الانحطاطية دونما وعي أو رويّة منهم. فهم قد صوّروا العربي المسلم في صورة العقلاني المتسم بالرصانة والرزانة، في مقابل تصوير الأفريقي بالإنسان "المهذار"، "خفيف العقل"، "منتفخ الصدر" بالانفعالات والذي لا يملك إلاّ أن يرقص على أي إيقاع في سلوك انفلاتي الطابع دونما تقيد بالعقلانية. يقول عبدالله علي إبراهيم [نفسه: 112]:

    "… أساء الآفروعروبيون إلى أفريقانيتهم من حيث أرادوا تعزيزها وتكريمها. فقد اصطنعوا في صيف سخطهم وبوهيميتهم الكظيمة أفريقياً وهمياً لحمته وسُداه معطيات أوروبية عربية رديدة عن أفريقيا مثل الطفولة والغرارة والمشاعية والروحانية وخفة القلب والولع بالإيقاع والرقص".

    ثم يضيف أن الآفروعروبية في سعيها ذلك لا تهدف "… إلى تحجيم الانتماء العربي، بل إلى إجراء تحسين جذري في المكون العربي الإسلامي من الذاتية السودانية" [نفسه: 113] ، وذلك بغية حمل الثقافة الإسلاموعربية "الغبشاء المتشددة" على التلطف والسماحة، حسب تعبيره. لقد رفعت الآفروعروبية لواء الدعوة إلى وسطية إنتمائية بين العرب الخلص والأفارقة الخلص [نفسه: 117]. ولكنها لم تكن تملك برنامجا بخلاف ميكانيزمات الاستعراب التي شكلت إنسان سنار. ولهذا كانت "صورة أخرى من صور الخطاب العربي الإسلامي الغالب في السودان" [نفسه: 119]. "ومع ذلك لم تسعد الآفروعروبية أحدا" [نفسه: 117] ، فلا العرب وجدوا رحابة فيها لأنفسهم ـ فيما يرى عبدالله علي إبراهيم ـ ولا وجد الأفارقة أنفسهم فيها.



    فما الحل؟!
    الحل الذي يقدمه عبدالله علي إبراهيم يقوم على أن يكف أبناء الشمال العربي المسلم في السودان عن البحث عن هوية أفريقية لهم. فكأنه يقول إن أي محاولة من هذا القبيل سيكون مصيرها ـ مهما تسلحت بأدوات الهجوم على العروبية ـ هو نفس مصير مدرسة الغابة والصحراء. وعليه فإنه لا مناص من أن يقبلوا بأنفسهم كعرب مسلمين، وأن يكفوا كذلك عن خلع سيماء الحضارة عنهم بدعوى الهجنة. يقول [نفسه: 119]:

    "إن أفضل الطرق عندي أن يكف أبناء الشمال العربي المسلم عن خلع بعض حضارتهم بدعوى الهجنة… فأهدى السبل إلى السلام والنهضة الثقافية في السودان هو الإقرار بقوامين (أو أكثر) للثقافة السودانية".

    وبهذا يكون عبد الله علي إبراهيم قد أتم بناء الزاوية الأولى في مشروعه ذي الأضلاع الثلاثة. ومشروعه يقوم على بناء حدود ثقافية Cultural Boundaries ـ اعتماداً على مفهوم الحدود عند بارث [1970] ـ بين أبناء الشمال العربي المسلم وأبناء الجنوب الأفريقي. فهذان هما القوامان، كما إن الفرصة متاحة لأقومة أخرى. وهنا لا يفصل لنا طبيعة الأخرى هذه، بل يتركها لنا كيما نذهب فيها مذاهبنا. ولا نملك هنا إلاّ أن نتم له جملته الناقصة، فنقول: "الفرصة متاحة للنوبيين والفور والبجا كيما ينفضوا عن هذا الحلف السناري ويكوّنوا أقومة خاصة بكلٍ". وهكذا يتفرق السودانيون أباديد في الآفاق مع اتجاهات الرياح الأربع: الشمال ـ الجنوب ـ الغرب ـ الشرق … ولا عاصم لهم من هذا الشتات إلاّ الوسط (الإسلاموعربي).

    ولعمري، إنها العروبية، (وبالمكشوف)! وأي عروبية؟ إنها عروبية لا تنهض على كثيب مهيل بالحجاز، أو طلل دارس بتيماء، أو ريح صبا تهب عليك من تلقاء كاظمة. فهي عروبية لا تستمد مشروعيتها من اعتراف العرب بها، كما سعى إلى ذلك عبد الغفار محمد أحمد. إنها عروبية خاصة ومفصلة (بالمقاس) على أهل السودان الذين لا يعرفون غير العربية لغة وغير الإسلام ديناً، وكفى الله المسلمين شر الهجنة، فلكم دينكم ولي دين، ولكم جنسكم ولي جنس.



    الإسلام الشعبي: دين الرِّجرِجة
    هذه هي الترجمة التي اعتمدها عبدالله علي إبراهيم نفسه لمقاله [كشاف مجلة الدراسات السودانية، عدد 1-2 مزدوج، المجلد التاسع، ديسمبر 1989م، ص 55]. في إعاد ة تقويمه للدين الشعبي في مقابل الدين الاأورثوذوكسي. يبدأ عبدالله على إبراهيم بمهاجمة ماكمايكل وتريمنغهام ونظرتهم "الانحطاطية" [عبدالله على إبراهيم؛ a1989 : 149] مثلما فعل سابقا. فيذكر أن ماكمايكل نظر إلى الدم العربي على أنه أرفع من الدم الأفريقي [المرجع السابق]. عليه فإن سكان شمال السودان (الهجين miscegenation) ـ حسب فهم ماكمايكل وتريمنغهام، فيما يقول عبدالله ـ لا يعدون أن يكونوا تلويثاً للدم العربي النقي، وتسامياً بالدم الأفريقي [المرجع نفسه: 150]؛ كما إن الإنسان السوداني، حسب هذه النظرة، يزداد رُقيّاً كلما زادت فيه نسبة الدم العربي [نفسه].

    بعد هذا يتحول عبدالله على إبراهيم للهجوم على تريمنغهام وفهمه للدين شعبياً وأورثوذوكسياً [نفسه: 151]. بينما يرى تريمنغهام تثاقف الإسلام مع الحضارة الشرقية الهيلينية كعملية تخليق وإبداع، فإنه يرى تثاقفه في السودان مع الثقافات والأديان المحلية كعملية انحطاط له [نفسه]. فالذين أتوا بالإسلام إلى السودان من العرب المهاجرين كانوا أنفسهم على جهل كبير به من حيث نقائه الأورثوذوكسي [نفسه: 152]. ولذلك فقد سمحوا للإسلام بأن يتشرب ويستوعب الكثير من الممارسات الدينية الأفريقية، والتي بدورها انحطت بالإسلام إلى درك الوثنية والشعوذة [نفسه: 153]. وقد تبلور كل ذلك في مؤسسة الصوفية وإسلام العامة [نفسه].

    يبدأ عبد الله علي إبراهيم هجومه على تريمنغهام بإدانة لفيف الاكاديميين السودانيين الذين تبنوا المفهوم دونما روية أو تبصر رغم أن ترمينغهام نفسه حذر من هذا [نفسه: 153-154]. ثم يتكئ في إفتتاحية هجومه على رأي جي سبولدنق حول آراء ونظريات تريمنغهام. يلخص سبولدنق القضية في أن الذين ذهبوا هذا المذهب يصلون إلى إحدى نتيجتين: إما أن السودانيين سيئو الإسلام، أو أن إسلامهم يختلف عما عداه من إسلام الشعوب الأخرى [نفسه: 154]. إن كان الأول ـ إحالةً إلى سبولدنق ـ فإن هذا كلام يختص به الله دون خلقه، وإن كان الثاني، فإنه ينبغي تعريف إسلامهم وفق معايير إصطلاحية سودانية.

    ويذكر عبد الله علي إبراهيم أن أكاديميي إسلام آسيا نافحوا بقوة ضد الفكرة القائلة بأن الإسلام عندما يتثاقف مع الأعراف المحلية ينتج عنه إسلام منحط [نفسه]. فقد فند بعضهم الرأي القائل بأن " الأسلمة" في بداياتها قد تبنت الكثير من الشركيات، الأمر الذي أفقدها نقاءها [نفسه]. والسبب الذي يمكن إرجاع كل هذه المفاهيم الخاطئة إليه ـ كما يرى عبدالله علي إبراهيم فيما يورد من رأي الأكاديميين ـ هو حركة الإسلاميين الذين يتخذون من الإسلام الكلاسيكي (أي الأرثوذوكسي) محكّاً يقيسون عليه تقدم الأسلمة في مستوياتها الإقليمية [نفسه]. إن الخطأ في هذا ـ كما يرى روي Roy، صاحب الرأي السابق نقلاً عن عبدالله ـ يكمن في الاتجاه نحو تقويم الظاهرة الإسلامية في مقابل من يؤمن بالإسلام على ضوء مدى التوافق مع المثل والمعايير الأورثوذوكسية [نفسه: 150]. إن هذا المدخل لا يساعد الشخص العادي المؤمن بالدين، كيما يحقق ذاته في دينه، بل يتم نفيه من الدين بهذا الفهم. ومكمن الخطأ هو أن الهدف لا يكون تدارس أمر الدين في المجتمع من حيث تفاعله، بل البحث والتحقق من وجود دين ما ـ بصيغة بعينها ـ من عدمه [نفسه]. عليه، فإن الأكاديميين الذين تبنوا مفهوم تريمينغهام للأورثوذوكسية والشعبية لم يكونوا يسعون لدراسة أمر الإسلام وتفاعله مع السودانيين، بل كانوا يدرسون أمر الإسلام في مواجهة السودانيين [نفسه: 158]. وإسلامهم الذي يبحثون عنه هذا لا يتوافر إلاّ في الكتب والمعاهد الدينية، بينما العامة لديهم إسلام خاص بهم. في هذا كانت الصفوة دائما هي حاملة لواء هذه الأصوليات (الأورثوذوكسية). ويرى عبدالله على إبراهيم أن هذه المعيارية الأصولية ـ أو ما يسميه بلاهوت الصفوة elite theology ـ قد تم لها الانتشار وسط العامة عن طريق التراث الشفاهي، ومن ثم أعطت لنا ما يظنه البعض لاهوتاً شعبياً folk theology، يقوم على الأصولية [نفسه: 167].

    بهذا يؤسس عبد الله على إبراهيم الركن الثاني من ثلاثيته. فالإسلام الشعبي (إسلام الصوفية) هو النسخة السودانية من الإسلام. كما إن محاكمة هذا الإسلام بالمعيارية الأصولية يقوم على خطأ جسيم على المستوى المنهجي والعلمي. عليه، فإن الإسلام الشعبي صحيح معافى من ناحية عقدية وغير مشوب بالشعوذة والخرافات، إذ إن ما يسمى "شعوذة وخرافات" هو فولكلور الناس. وما الإسلام الأورثوذوكسي إلاّ نمط شعبي لمجتمع ما في زمن] ما، ولكن تم تجريده من تاريخيته حتى يصبح معياراً للدين؛ كما إنه يستصحب معه فولكلور أهله بكل ما يشتمل من أساطير وخرافات (الجن، السحر، العين) إلخ.

    بهذا يسبغ عبد الله علي إبراهيم المشروعية الإسلامية على نمط حياة شمالي السودان من العرب المسلمين. فعاداتهم وتقاليدهم وفولكلورهم تتفق تماماً مع إسلامهم الخاص بهم. كما إن هذا النمط من الإسلام هو الوحيد القادر على إشباع الحاجة الإنسانية للدينونة فيهم، ولا يستقيم أمرهم إلاّ به. وما احتفاء العامة بالشعارات الأورثوذوكسية التي يرفعها الأصوليون إلاّ ناتج انتشار الشعارات ـ دون انتشار دلالاتها العملية ـ وسط العامة ضمن ميكانيزمات التراث الشفاهي. عليه، فإن الأصولية الإسلامية مرفوضة لا على أنها هوس ديني، بل على أساس مجانبتها وتناقضها مع "الإسلام السوداني".

    هكذا يقلم عبدالله علي إبراهيم أظفار الاشتطاط الديني في صمدية علمية تنهض على علم أنثربولوجيا الأديان، لا على كتب الفقه والحديث "الصفراء". فالأصولية الإسلامية هي عامل تفتيت في الجسم العروبي الإسلامي في السودان. الأمر الذي لا يتفق والاستقطاب الذي بلغ ذروته في هذه المرحلة. عليه، لابد من تماسك الجبهة الداخلية.



    إعادة الاعتبار إلى هوية الجعليين
    وهذا هو الركن الثالث في مشروع عبدالله علي إبراهيم ثلاثي الأركان. وقد ورد حديثه في مقاله الذي رأينا أن نترجمه: "ماكمايكل وانكسار يراعه: إعادة الإعتبار لهوية الجعليين" [b1989]. وهو هنا لا يستهدف بدراسته قبيلة الجعليين الصغرى والتي حاضرتها المتمة، بل يعني قبيلة الجعليين الكبرى بما تشتمل من بطون مثل الشايقية، الرباطاب، الميرفاب…إلخ [المرجع السابق: 227].

    وتقوم مرافعته على أنه من حق الجعليين أن ينسبوا أنفسهم إلى العباس أو من شاءوا دون أن يكون ذلك مدخلاً أكاديمياً يلج منه الباحثون لدحض هذا الزعم بالنظر إليه كفرية. فيقول: "إن اختراع هوية دينية، أو إثنية ليس مجرد ممارسة عامة، بل هي أيضاً مشروعة" [المرجع نفسه: 221]. ويستشهد في هذا برأي مايكل هيرزفيلد ومسألة انتساب الإغريق للثقافة الهيلينية. ويأتي عبدالله باقتباس من هيرزفيلد يوضح فيه كيف نتعامل مثلاً مع النّسّابة كإخباريين ميّتين. يقول الاقتباس [مايكل هيرزفيلد؛ 1982: 4]:

    "إن الأنثربولوجي لا يحاول أن يكشف جهل إخبارييه فيما يختص بعالمهم الثقافي؛ ولكن من الممكن أن يقول شيئا عن كيف كانوا يدركون ويوضحون عالمهم ذلك. وبنفس هذه الروح، فإن هدفنا هنا ليس مناهضة الأساس الوقائعي لدراسة الفولكلور الإغريقي، أو أن نعامل دوافع مبادئهم على أنها بشكلٍ ما كانت مغلوطة. وبما أننا نعامل هؤلاء، من حيث أنهم مصادر دراسية، "كإخباريين" قادمين من الماضي، فإنه لا ينبغي لنا أن نتجادل معهم، مثلما لا ينبغي أن نقسر أحد الاخباريين الأحياء على تبني نظرية أنثربولوجية بعينها. بالتأكيد هناك أخطاء وقائعية وافرة في هذه المصادر، بالدرجة التي تغري الواحد منا كيما يتفوه معرّضاً بمعاييرهم البائسة، أو حتى المزيفة. إلاّ أن الاتهام بفساد الاعتقاد يفضي بنا إلى لا شيء ـ خاصة عندما يكون هدفنا هو الكشف عن لماذا اعتقد "إخباريونا" أنهم كذلك، أكثر من أن نفترض الإجابة مقدّماً".

    بعد هذا يتحدث عبد الله علي إبراهيم عن أن الإثنية لا تبني هويتها إلاّ على الحقائق التي تخدم أغراضها الأيديولوجية. فهي تستمد ذلك من الاستقراء الثقافي للسلالة والنسب، وليس من التحري الوقائعي للأحداث والتاريخ. فإن انتساب النفس لما تهوى أساس لقيام الهوية [عبدالله علي إبراهيم،b1989: 222-223]. وبهذا يمنح عبدالله علي إبراهيم بطون الجعليين "بركته" و"صكوك المشروعية" في أن ينتسبوا إلى العباس دون أن يكون لكل الأخطاء والتناقضات التاريخية الواردة في شجرة نسبهم أدنى اعتبار أو أن تكون مدخلاً للتعريض بهم أو الهزء. فالنسبة بناء على ما قاله إيان كونيسون هي مجرد أيديولوجيا [كونيسون، 1971: 144] تخدم الحاضر موظفة في ذلك الماضي [المرجع السابق: 189].

    وقد انتقد عبد الله علي إبراهيم في فترة سابقة من حياته العلمية مشكلة الشطب في قوائم الأنساب من قبل الكتاب النسّابين حتى يتفق ذلك مع ما يرونه صحيحاً [عبدالله علي إبراهيم، بدون تاريخ: ف]. وقد عاملها ـ بخلاف فهمه الحالي ـ كوثائق تاريخية "سيئة الإعداد" لما تحفل به من أغلاط. فقد حمل على النسّابة قائلا: "… آفة كتب النسبة السودانية التقليدية عدم درسها الممحص للمؤرخين القدامى. وهو إهمال انتهى إلى أغلاط لا حصر لها" [المرجع السابق: ظ]. وكأنه كان يتمنى أن تتوافر كتب نسبة تقوم على الوقائعية التاريخية ويُعتدُّ بها في حل إشكالية القبائل في السودان. فيما بعد أشار عبدالله علي إبراهيم إلى الطبيعة الأيديولوجية للأنساب [عبدالله علي إبراهيم، 1999]. على أيٍّ، فإن عبدالله علي إبراهيم قد تجاوز تلك المرحلة، وإن يكن قد أغفل ذكر ذلك عندما ابتنى له مواقف جديدة ناقضة لتلك القديمة.

    وبعد، فإننا في نقدنا له سننطلق مما قاله إيان كونيسون من أن النسب ما هو إلاّ سلاح أيديولوجي يستخدم في عملية ممارسة السلطة، وصراع الإنسان ضد أخيه الأنسان في سبيل احتياز أكبر قدر من الخيرات المادية في هذه الحياة. وهذا ما يؤكده عبدالله علي إبراهيم فيذكر من واقع تجربته مع الرباطاب أن الناس هناك ينظرون إلى من يستشهد بشهادات النسب المكتوبة نظرة ريبة وتشكك في صحة نسبه [عبدالله علي إبراهيم، b1989: 226]. وفي تبريره لرفض الرباطاب لشهادات النسبة المكتوبة يقول: "إن نظرة الرباطاب السلبية للنسبة المكتوبة ربما تكون تعبيراً عن عدم ارتياحهم لها باعتبارها غزواً للقراءة والكتابة" [المرجع السابق]. وهنا نراه يقترف الإثم الذي قارفه سابقوه، فأدانهم عليه في نفس مقاله؛ ألا وهو "شغل التخمين guess work" [المرجع نفسه: 222-224].

    ولكن السبب في ذلك ـ كما نراه وكما يعكسه عبدالله علي إبراهيم دون أن يسميه ـ هو أن من يحتاز على هذه النسبة فقد احتاز شرفاً كبيراً ومكانةً كبيرة، معنوية ومادية، كامتلاك الأرض مثلا. فالبدو المجاورون للجعليين ـ وإن كانوا صرحاء العروبة ـ يحرمون من هذه النسبة، الأمر الذي يستتبع عملياً حرمانهم من ملكية الأرض، ولو ملكوا المال والرغبة لذلك. يورد عبدالله علي إبراهيم حكاية أن أحد هؤلاء البدو تمكن بطريقة ما من افتتاح متجر بماله في منطقة الرباطاب، فكان أن علق في مدخل "دكانه" شهادة نسب تلحقه بجعل بن العباس، أي بالجعليين. ومع ذلك لم يسلم من هزء وسخرية الرباطاب اللاذعة. فقد باشره على ذلك أحدهم قائلا: "إن تعليقك لهذه النسبة يشبه الذي يطوِّح بصنارته (جبّادة) في الماء دون أن يثبّت نهايتها بوتد" [نفسه: 226].

    وهنا يكمن السبب في موقف الرباطاب السلبي من شهادات النسبة المكتوبة. فالتداول الشفاهي لأنسابهم ما هو إلاّ تكتيك لتكريس حدودهم الثقافية طالما أن القائمين على أمرها هم حفظة هذه الحدود. فالبدوي لا يستطيع أن يحمل هؤلاء الثقاة على ضمه إلى إحدى فروع شجرة النسب العباسية طالما كانت شفاهية التداول. ولكن إذا أصبح أمر النسب عبارة عن شهادة مكتوبة ومعلقة في إطار على الجدار، فإن أيّ بدوي سيكون في مقدوره أن يتسلق هذه الشجرة المباركة، وأن يأكل من ثمارها المحرمة على الآخرين. وثمارها بالطبع ملكية الأرض وكل الامتيازات والخيرات المادية الحياتية اليومية، وهنا مربط الفرس.

    إن توصيف وتشريح ميكانيزمات هذه الظاهرة هو دور الأنثربولوجي، ونتفق تماماً في أنه لا ينبغي له أن يدخل في مغالطات مع النّسّابة معرّضاً بما يمكن أن يكون تزييفاً للتاريخ. في هذا نحن متفقون. ولكن عبدالله علي إبراهيم يورد كل هذا لجعله أساساً لقفل أي مدخل أكاديمي يمكن أن يلج منه الباحثون (ليس بالضرورة أن يكونوا أنثربولوجيين لامنتمين للصراع) لجزّ فروع شجرة النسبة واستئصال شأفتها بغية خلق التوازن في الامتيازات والخيرات المادية. فعبدالله علي إبراهيم يؤسس أكاديمياً وعلمياً لمشروعية النسب العباسي للجعليين، ومن ثم ـ اجتماعياً ـ ما يستتبع ذلك من امتيازات.

    وهنا لا نظن أنه يفوت على عبدالله علي إبراهيم أن الهجوم على شجرة الأنساب وعلى عروبة الجعليين نفسها إنما هي شكل من أشكال الصراع الثقافي والأيديولوجي في السودان: إنه الصراع حول السلطة؛ صراع الهامش والأطراف بادية التأفرق ضد المركز الإسلاموعروبي. الهامش يتسلح بالعلمية والأكاديمية في سعيه هذا متخذاً من شنيعات الأخطاء التاريخية التي تحفل بها شهادات النسبة مدخلاً لدحضها وكشف زيفها. والمركز بدوره يتسلح بالعلمية والأكاديمية ليضفي المشروعية على أنسابه اعتماداً على أن الأنثربولوجي لا ينبغي له أن يدحض هذه الأنساب رغم ما تحفل به من أخطاء ومغالطات. وهذا الدور يقوم به هنا نيابةً عن المركز الإسلاموعروبي عبدالله علي إبراهيم نفسه في موقفه هذا. وهنا تتهتّك المسوح الأكاديمية لعبدالله علي إبراهيم لتكشف عن موقفه الأيديولوجي من عملية الصراع الثقافي في السودان. إذ إن بالنسب هذا، وبأدوات أخرى، يُمارس في السودان "القهر الثقافي" و"الاضطهاد والتطهير العرقي" وما يتبع من امتيازات مادية، دنيوية.



    صفوة القول
    إن مشروع عبد الله علي إبراهيم يتلخص في أنه لا مجال لإدعاء هوية آفروعروبية في السودان، لأنها مهما تمسّحت بالأفريقانية فإنها لن تعدو أن تكون شكلاً آخر من أشكال الخطاب الإسلاموعروبي الغالب في السودان. كما إنه لا يجوز أن نخلع عن أنفسنا ملامح حضارتنا العربية الإسلامية إدعاءً للهجنة.

    ثم علينا أن نحصّن أنفسنا من أي احتمالات انجراف نحو "الهوس الديني". والطريق الأمثل لذلك هو أن نكرّس "الإسلام الشعبي" بالنظر إليه كنمط صحيح ومعافى وليس مشوباً بالخرافات الوثنية. عليه لابدّ من قفل الطريق أمام الإسلام "الأورثوذوكسي".

    وأخيراً، لا مشاحة من أن نفخر بانتسابنا للعباس، كما لا غضاضة من أن نحتفي بأشجار النسب، دون أن نعير أغلاطها وأخلاطها أدنى اعتبار. فقيمة الأنساب ليست "تاريخية" بل "أيديولوجية".



    تحالف الهاربين … لماذا؟

    لقد عني عبد الله علي إبراهيم بمصطلح "تحالف الهاربين" أولئك الذين هربوا من هويتهم إدعاءً لهويات لا أساس لها من الواقع. ونحن هنا نعني عكس ذلك. نعني أولئك الذين اختطوا لهم هويات بخلاف الهوية العربية، ثم هربوا فيما بعد من هوياتهم المصطنعة هذه ـ على حدة أو جماعات ـ اعتصاماً بهوية لهم أسميناها السودانوعروبية هي بنت الآفروعروبية التي كانت بدورها بنت المدرسة الإسلاموعروبية في السودان.

    فمثلا الأب الروحي للآفروعروبية، محمد المهدي المجذوب، عاد في أخريات أيامه إلى الإسلاموعروبية ليصف العرب على أنهم جبابرة، بعد أن سعي للتبرؤ منهم في أربعينات القرن العشرين. فهو يقول في رسالة كتبها إلى محمد عبد الحي سنة 1981م ما يلي:

    "كنت في الدوحة ورأيت عمي عبد الله الطيب هناك وألقى محاضرة طيبة جداً فحواها الرجعة إلى تعليم اللغة العربية كما كان يفعل الأشياخ.. على المتن حاشية وعلى الحاشية حاشية.. وقلت لنفسي إن اللغة العربية لغة جبابرة" [ أنظر نص الخطاب في مجلة حروف، عدد 2/3 (مزدوج)، السنة الأولى، 1991م، ص 210]. (التنقيط جاء في الأصل)

    ولا يخفى المنحى الأيديولوجي في هذا الحنين الطاغي للأصولية العربية ولأهلها (الجبابرة). وتتبدى الأيديولوجيا الإسلاموعروبية أكثر، عندما يظهر تبنيه لذات تكتيكات القهر الثقافي العربي إزاء أجناس الإبداع الثقافي السوداني الأخرى. فهو يقول في نفس خطابه:

    "أرتاح جدّاً إلى سماع المديح في هذه الأيام والمدّاح رجل مثقف مبارك شاعر بارع له وجد ولوعة.. ولكن الناس هنا أسماعهم إلى الصُّيَّاع وغيرهم ـ ووالله والله قد صدق السناريون حينما جعلوا المغني صائعا والكلام طويل وبراهينه حاضرة .. ولو كان الأمر بيدي لجعلت الإذاعة والتلفزيون كلها مديحاً في الذات المحمدية على صاحبها أفضل السلام" [المرجع السابق]. (التنقيط في الأصل)

    وكلنا يعلم أن كلمة "الصيَّاع" هي الاسم الذي أطلقته ثقافة الوسط الإسلاموعروبي على المغنين. ولنا أن نتصور المسافة التي قطعها محمد المهدي المجذوب في رحلة هروبه من الرغبة في أن يسير في الشارع يغني ويرقص وهو في حالة سكر شديد غير عابئ بأنسابه القرشية، إلى رجل يفخر بعمه ونسبه (ونسبه إلي العباس، والعباس من قريش)، ثم يعلن عن رغبته في تكميم أفواه كل من يترنم بلحن خلاف مديح النبي محمد (ص). إن محمد المهدي المجذوب هنا ينتمي بحق إلى ذات ثقافة القهر التي كانت بأمدرمان والتي حالت دون أن يتغنى خليل فرح بألحانه علانية خشية أن ينظر إليه على أنه من "الصيّاع" فيسقط في نظر المجتمع. وهذه هي المصادر الديكتاتورية القهرية التي اتّسمت بها أنظمة الحكم الغاشم في بلادنا، بدءً بدولة الخليفة عبدالله التعايشي انتهاءً بدولة الإخوان المسلمين أو كيفما جرى تقلّب أسمائهم، وكأنّي بهم قد سعوا إلى تقيق رغبة المجذوب في جعل جميع البرامج دينية.

    أما إذا جئنا إلى محمد عبد الحي، فنجده قد بدأ آفروعروبيا متحمساً، رافضاً الإنتماء للعرب، واصفاً هذا الإنتماء على أنه "أجوف وتكبر". ثم لما امتدّ به العمر، وتجاوز غلواء الشباب، عاد ليعتصم بذات قلعة عروبته. فقد ذكر في خطاب كتبه لصديق له بتاريخ 2/8/1988م شارحا كيف رفض حزب الأمة، وذلك عندما انضمّ له إبان الديموقراطية الثالثة، أسلوبه وحججه في الحوار حول التناقض المذهبي بين الشيعة ومن ثم إيران، والسنة ومن ثم العرب، قائلا:

    "ويخيل إليَّ أنهم رفضوني لأني دافعت عن جوهر الأمة العربية ونبيها العربي، يوم أن وقفت شارحاً للمفهوم الفارسي والمفهوم العربي كقوميتين بدآ حقبا طويلاً في طفولة التاريخ يتناحران ويتحاربان. وسواء رضيت أم أبيت لي تراثي العربي، ولي لساني العربي ولي عقيدتي السنية" [راجع نص الخطاب في المرجع السابق، ص 211].

    ونكاد نلمس جهده في تبرير موقفه مع نفسه. فهو متنازع بين الرضى والرفض: الرضى الأيديولوجي اللاشعوري عن الهوية الحقة، والرفض الزائف الظاهري لها. كما نجده يقول في نفس الخطاب مدعماً لتبريراته: "وتراث الإسلام تراثنا، وعقيدته عقيدتنا وثقافته ثقافتنا ـ إن المرء في أول شبابه يشرّق ويغرّب، ولكنه أخيراً يستقر في تراثه وعقيدته" [المرجع السابق]. ولا يحتاج هذا الكلام منّا إلى تعليق.

    لقد تواطأ ذلك الجيل مع التيار العروبي من حيث ظن أنه قد ثار عليه. لقد كان صادقاً في توجّهه نحو "أفريقيا"، وفي عزمه لاقتحام "الغابة"، ولكنه ما كان يملك أي أدوات بخلاف محركات وعيه العروبي. لقد ركبوا للغابة جمالهم ونياقهم.

    أما إذا جئنا إلى عبدالله علي إبراهيم نفسه، فنجد أنه قد بدأ بانتمائه إلى "مدرسة أبادماك" الأدبية. كما إنه هو نفسه ـ حسبما أورده عبده بدوي [1981: 52] ـ الذي أطلق اسم "أبادماك" على تلك المدرسة. [في حديث شخصي لي مع عبدالله علي إبراهيم بالخرطوم منتصف 1996م ـ إثر قراءته لمسودة هذا البحث ـ نفى هذا الأمر، مشيراً إلى أن عبدالله جلاّب هو صاحب الشرف في اقتراح اسم "أبادماك" لجماعتهم الأدبية]. أي أنه ضرب بناقته في فيافي الماضي السحيق مفتشاً عن هويته بين أروقة ومعابد الحضارة المروية. كما إنه كان في ماضي شبابه ماركسياً لينينياً لينتهي اليوم عروبياً مسلماً (ولا يظنّنّ أحد أننا نغمز ونلمز إلى مُسفِّ القول وركيكه من إلحادية الماركسية وما جرى مجرى ذلك، ولكنّا نشير إلى الجغرافيا الفكرية الشاسعة بين العالمين وحسب). إذن فها هو عبدالله وقد "شرّق وغرّب"، ثم استقر أخيراً في تراثه وعقيدته ـ باستخدام ألفاظ محمد عبد الحي.

    في مايو 2003 نشر عبد الله علي إبراهيم سلسلة من المقالات [صحيفة الرأي العام] استندت على محاضرات كان قد قدّمها هنا وهناك ما بين السودان وبعض دول الخليج. في هذه المحاضرات نحا عبدالله إلى استخدام مصطلحات عالية التحميل، مثل "تطبيق الشريعة" وما شابه، بطريقة جعلت الكثيرين يذهبون إلى أن الرجل قد كشف عن أقنعته الحقيقية أخيراً. كما أشفق عليه الكثيرون من معجبي فكره ممن لا علاقة لهم بالحركات الإسلامية الأصولية الداعية لتطبيق الشريعة. لكن لا شيء أبعد من الحقيقة من ذلك، فالرجل في واقع الأمر يعمل على إيلاف مستعربة السودان من عروبيين وإسلاميين، فيما سنشرح أدناه. من ذلك مثلاً قوله:

    "أريد في هذه المقالات.. أن أرد إلي الشريعة مطلبها الحق في أن تكون مصدراً للقوانين في بلد المسلمين. ولست أري في مطلبها هذا بأساً أو ظلماً لغير المسلمين. ولست أدّعي علماً فيما يجدّ غير أنني أتفاءل بما سلف من خصوبة الشريعة وحسن تدريب ذوق الشرعيين بها من قضاة المحاكم الشرعية علي عهد الإستعمار وما تلاه في ترتيب قوانين التزمت خير الأسرة المسلمة وانتصفت للمرأة ما وسعها..".

    أُنظر كيف أن الرّجل لا يطالب بتطبيق الشّريعة، كما لا يطالب بأن تكون "مصدراً للقوانين"، أي للتّشريع. لكنه يريد أن يردّ لها "... مطلبها الحق في أن تكون مصدر القوانين في بلد المسلمين ..."، ثُمّ على أيّ كيفيّة تراه سيردّ لها "مطلبها" هذا؟ على طريقة "... قضاة المحاكم الشرعية علي عهد الإستعمار وما تلاه ... ". ولكن تُرى متى طالبت الشريعة بذلك، أم أن ذلك مطلب الإسلاميين الأصوليين؟ وحتى في أدب الأصوليين، هل يطالبون بالشريعة كما جرى بها خطاب القضاء الشرعي مما عُرف زمن المستعمر وما تلاه؟ علم الله أن تلك ليست ما يطالب به الأصوليون. إن ما يبدو على أنه تخليط غير موفّق للمفاهيم، سيستقيم على قدميه إذا نظرنا إليه باعتباره مشروعاً لإيلاف الإسلاميين عروبياً، خاصةً من أُحبط منهم إسلامياً بالممارسة غير الرشيدة التي ظَلَع بها الإنقاذيون ـ وذلك بعد أن عمل عبدالله ما فيه الكفاية لإيلاف العروبيين.

    جُبل نظام الإنقاذ علي هشاشةٍ فكرية فتّت في عضُد التنظيم القوي مما أسلمته إلى التراخي وانتهت به إلى الانبطاح التام في الفساد الزاخم. لعب كل ذلك دوراً خطيراً في توعية عدد كبير من صادقي الإخوان المسلمين بخطل الاستناد على الشعارات التي تنفخ الصّدر دون العمل على تنزيلها إلى رؤى فكرية، عملية قابلة للتّنفيذ. وقد أدّى هذا بالعديد من الكوادر الصادقة مع النفس إلى التّهيؤ للانفضاض عن الحركة جملةً وتفصيلاً جرّاء الإحباط والإحساس بالفشل. في المقابل انفضّ العديد من كوادر العروبيين بالسودان عن فكرة القومية العربية، خاصّةً بعد غزو العراق للكويت مُحبطين ممّا بدا أنّه فشل للفكرة نفسها. بالنّسبة لعبدالله علي إبراهيم فإن تماسك الجسم العربي المسلم بالسودان يمثّل هدفاً أساسياً. لذلك فإن انفضاض الكوادر النّاشطة عروبياً وإسلامياً من سابق مواقفها التّنظيمية بسبب الإحباط، يُعتبر خسارة للجسم العربي المسلم بالسودان. فهذه الكوادر ـ بحكم كونها ناشطة وعالية التّنظيم ـ يمكن أن تلعب دوراً أخطر إذا ما اتّخذت من فشلها نقطة انطلاق نحو تطوّر جديد بدلاً من الرّكون للإحباط.

    هنا يأتي مشروع عبدالله في إيلاف هؤلاء داخل مشروعه. وتكمن خطّته في استخدام مفرداتهم الفكرية في غير مدلولاتها الخطابية. وهذا تكتيك في ظنّنا أنّ عبدالله قد حذِقه من خبراته الماركسية السّابقة. وهو من قبيل تناوش المفكّرين على "عَظْمة" المصطلحات ذات الجاذبية الخطابية، حيث يسعى كلّ جانب إلى تحميلها بمدلولاته المناقضة لمدلولات الطّرف الآخر. أُنظر مثلاً إلى الماركسيّين أُخريات القرن التّاسع عشر كيف تناوشوا مع الليبراليّين حول "عَظْمة" "الدّيموقراطيّة"، حتّى إذا جئنا إلى منتصف القرن العشرين، أصبحت جملة "هذا شخص ديموقراطي" تعني أنّ هذا شخص ماركسي بدلاً من ليبرالي. وهكذا بالنسبة للعروبيين فإن القول بأن السودانيين عرب، يُمثّل أرضية جيّدة للإيلاف. بينما تُمثّل الدعوة إلى عروبة خاصّة بالسّودان أرضية فكرية صلبة تُبرّر نفض يدهم عن دعوى القومية العربية الخاسرة، دون قطع الصّلة بالعرب. أمّا بالنّسبة للإسلاميين، فإن ترداد أن تكون "..الشّريعة .... مصدراً للقوانين في بلد المسلمين" أجدى في إيلافهم؛ هذا مع إمكانية علمهم بأن الجملة تُستخدم في غير مدلولها الخطابي القديم. الشريعة هنا هي شريعة القُضاة الشرعيين، أي شريعة الأحوال الشخصيّة، وليست شريعة الجلد والقطع والصلب.



    الهروب الكبير إلى السودانوعروبية

    التيار العربي الإسلامي: رأس الرمح
    وبعد، إن ركب الهاربين يضم آخرين جاءوا من تيارات إسلامية بحتة كما يضم من جاءوا من تيارات عروبية بحتة. من التيار الإسلامي نضرب مثلاً بأحد أعمدة إتجاه سودنة العروبة ألا وهو جعفر ميرغني. يقول في أحد أشهر أبحاثه:

    "كتبت جميع ما كتبته فوق ليكون سبباً وتمهيداً لدراسة المُعرّبات السودانية وهي الألفاظ المهاجرة من لغات سودانية إلى اللغة العربية، فلحقها حين خرجت من لسانٍ إلى لسان جميع ما بينّاه فوق. ولا نريد بالمُعرّبات السودانية تلك التي جرت على ألسنة عرب السودان وحدهم بل نريد بها أيضاً ما دخل اللغة العربية الفصحى نفسها من أزمان متقادمة والعرب بعد في جزيرتهم لم يبرحوها." [1991: 52]

    لقد كان جعفر ميرغني في الحركة الإسلامية الأصولية بالسودان (تنظيم الإخوان المسلمين بزعامة حسن الترابي) حتى أواخر الستينات، ليتحول بعدها تدريجياً حتى بلغ ما وصل إليه من الاعتصام بالعروبة المتسودنة. إنه في مسعاه هذا يختط له عروبة سودانية خاصة بأهل السودان. إن رسخان قدمه ـ كما يرى هو ـ في تسودن عروبته، وليس في استعراب سودانه. ولهذا ينحو لسودنة اللغة العربية العالية، دون العامية العربية السودانية. ثم إنه سيسعى في خاتمة أمره ـ من خلال برنامجه الإذاعي الشهير "أضواء على الحضارة السودانية" ـ إلى تفسير مَعميّات الحضارة المروية عبر اللغات السامية عامةً واللغة العربية خاصةً ليجمع بطريقة نقيضية بين تعريب تلك الحضارة وسودنة الساميات أي سودنة العروبة.

    من جانب آخر، إذا جئنا إلى الهاربين من التيار العروبي الصريح، فيمكننا أن نمثّل هنا بعبدالله الطيب، وهو أحد أساطين علوم العربية في النصف الثاني من القرن العشرين. لقد طرح عبدالله الطيب نفسه، منتصف القرن العشرين، مؤمناً بكل نظريات الأنثربولوجيا العرقية وهي في خريفها، وذلك بخصوص نظرته للأفارقة والأعراق السوداء ـ السودانية خاصة. ففي 1955م عندما اندلعت أحداث التمرد في الجنوب، وما أعقب ذلك من عمليات قتل جماعية "للشماليين" بجنوب السودان، كتب عبدالله الطيب في الصحف مشدداً على أخذ "الجنوبيين" بالشدة باعتبار أنهم قوم بدائيون، جفاة لا يصلح معهم غير ذلك، متكئاً في ذلك على وجهات نظر الأنثربولوجيا العرقية، ومتخذاً من أساليب الاستعمار الإنكليزي نموذجاً. فقد دعم رأيه ذلك بالفائدة التي رأى أنها عادت على الاستعمار الإنكليزي جراء اتباعهم الأساليب الوحشية الفظيعة ضد المُسْتَعمَر [عبدالله الطيب؛ a1955]. وقد أتبع ذلك بمقال آخر شدد فيه على عدم فصل الجنوب، لا باعتباره جزءً لا يتجزأ من السودان، بل لمجرد التمكن من ضبطه حتى لا يتحول إلى باب خلفي يلج منه الاستعمار. ثم راح يهون من أمر استقلال السودان دون اتحاده مع مصر قائلاً بأن الوحدة هي "وحدة القلوب ووحدة المصالح ووحدة النيل ووحدة اللغة ووحدة التراث والدين"، مشيراً إلى أن ذلك هو ما عليه الحال مع مصر [عبدالله الطيب: b1955]. ولك أن تقارن حال مصر وحال جنوب السودان من حيث إحساس عبدالله الطيب بالانتماء إليهما. ففي حال مصر يظهر بصورة الأشقاء المجتنى عليهم بتفريقهم. أما في حال جنوب السودان، فلا صورة إلاّ صورة "الشمالي" المُستَعمِر للجنوب المغاير والمختلف عنه في كل شيء. وقد جاءت قصيدته التي نشرها في نفس الفترة وعن نفس الأحداث منسجمة مع مجمل نظرته تلك [عبدالله الطيب: 1992]. وهنا نجد لزاما علينا أن نشير إلى أن هذه القصيدة قد حُذفت منها أبيات لدى نشرها في الديوان ـ كما يذكر ذلك الشاعر نفسه. وقد بذلنا جهدا كبيراً في دار الوثائق المركزية للعثور على نصها الأصلي الذي نشر في صحيفة الرأي العام إبان أحداث التمرد، إلاّ أننا فشلنا في أن نقع عليها. وقد استجار في افتتاحية القصيدة بقبر تاجر الرقيق المعروف الزبير باشا، فقال:

    ألا هل درى قبـرُ الزبيـرِ بأننا نُذَبَّح وَسْـطَ الزّنـجِ ذَبحَ البهائم

    ثم يختتم بقوله:

    فيا ليت شعري هل قضى الله أننا عبيدٌ نُسـام الخسَفَ ضربة لازم

    إن الرسالة الوحيدة التي تبلّغها تلك الاستجارة هي: إن الذين كانوا رقيقاً وعبيداً لنا، تشتريهم وتبيعهم يا الزبير باشا، أصبحوا الآن يقتلوننا وييتموا أطفالنا ويسبوا نساءنا. فليت شعري من يبعثك من قبرك لتردهم إلى "خانة" العبيد مرة أخرى! فإذا كان هذا هو ما ثُبّت في الديوان، فماذا يا تُراه قال أكثر من ذلك مما لم يقدر على إبقائه، فقام بحذفه؟

    ولكن، ما إن دخلنا العقد السابع من القرن العشرين وبدأت رياح التغيير في هبوبها، حتى شملت الموجة عبدالله الطيب نفسه، فأصبح يجتهد في تأسيس وعي عروبي خاص بالسودان ولكن على صعيد الاحتجاج اللغوي المباشر والمستند على البيّنات والأدلة المبثوثة في كتب التراث. فهو يتحدث في مقدمة ديوانه، أصداء النيل [المرجع السابق: 20-23] عن أن لون العرب أصلاً هو اللون الأسود، والأخضر، ويأتي بالعديد من الأمثلة، ليخلص إلى أن لون الجعليين (أي قبائل وسط السودان النيلية المستعربة) هو لون العرب الحقيقي، أما البياض الذي عليه لون العرب العاربة اليوم فهو من أثر الاختلاط بالروم والتسري بالإماء من الفرس والروم وخلافهم. وقد أشرنا إلى أن أحمد محمد مالك قد استند على مثل هذا القول وذهب هذا المذهب، أعلاه. كما نشير إلى أن جعفر ميرغني [1991] قد ذهب إلى هذا أيضاً.

    في سنة 1990م أصدر عبد الله الطيب الطبعة الثانية من كتاب الأحاجي السودانية، مضمنا إياه قصتين هما "دريس" و "تاجوج والمحلق وهمهوم"، وهما من حكايات قبيلة الحمران البجاوية بشرق السودان، وذلك تمشيّاً مع تيار "الأفرقة" الصاعد ـ كما ذكر في حديث شخصي بدار جامعة الخرطوم للنشر، وذلك لدى شروعه في إعادة طبع الكتاب إياه، وكنت حينها بقسم التحرير. وكان مما ينتقص كتابه حقّاً هو اختزاله للأحاجي السودانية في أحاجي قبائل وسط السودان المستعربة فقط.

    بعد ذلك تقدم عبدالله الطيب خطوة أكثر نحو سودنة العروبة والإسلام، وذلك عندما ذهب إلى الزعم بأن "حبشة النجاشي" التي هاجر إليها صحابة الرسول (ص) لم تكن سوى مملكة علوة المسيحية بالسودان وعاصمتها سوبا [عبدالله الطيب؛ 1998: 159-164]. ونحن لسنا بصدد نقد ما ذهب إليه، لكن نكتفي برصد المنحى السودانوعروبي لعبد الطيب، الذي بدأ عروبيا متأفّفاً من الأفارقة السُّود، وانتهى به الحال إلى سوداني أفريقي يسعى لابتناء واختطاط هوية عربية خاصة به كسوداني، لا تستمدّ معياريتها من الجزيرة العربية، بل من السودان. ولا يقدح في منحاه هذا انسياقه مع الاستقطاب الأيديولوجي العروبي في حال تطرفه السياسي الناشب إبان سني نظام الإنقاذ الكالحة، للحد الذي ذكر فيه أنه ينبغي تطبيق التعريب حتى لو كان ذلك على حساب التعليم [راجع نص الحوار في صحيفة أخبار اليوم، الخرطوم، 31/8/1994م.].



    السودانوعروبية وكتّاب القصة
    لقد شهدت الساحة الثقافية والفكرية السودانية العديد من الأشخاص الذين كانوا ينتمون لمدرسة الآفروعروبية، حتى لو لم يكونوا ينظرون إلى أنفسهم كذلك. وبأفول شمس الآفروعروبية غير المعلن، وغير المستشعر من قبل الكثيرين، أصبح هؤلاء أكثر تهيؤاً للانخراط في ركب التيار السودانوعروبي الذي يقوده عبدالله علي إبراهيم. إن عدم الوعي الأيديولوجي لدى الكثيرين بمواقع أقدامهم يجعل منهم رصيداً جاهزاً للسودانوعروبية. إنه نفس عدم الوعي الأيديولوجي الذي دفع مفكراً وباحثاً سودانياً ـ أفريقياً مثل فرانسيس دينق إلى أن يبدو في بدايات السبعينات وكأنه يتبنى الموقف الآفروعروبي؛ إذ يمكن تصنيف كتابه "ديناميكيات الهوية" [مرجع سابق] باعتباره جنسا genre من أجناس الخطاب الآفروعروبي. ثم إنه ليبدو كذلك أيضاً في أواخر الثمانينات. ففي روايته طائر البوم [1988] يسوقنا فرانسيس دينق، ممثلا في بطل القصة (بول)، عبر مشوار إعادة إنتاج الهامش في المركز؛ إذ تنحصر الحبكة في النهاية حول ما إذا كان سيتم القبول ببول كعضو معترف به في مجتمع المركز الإسلاموعروبي (في أمدرمان طبعا!) وذلك من خلال تمكنه من الزواج من إحدى بنات هذا المجتمع المعاد إنتاجه.

    هنا سنشير إشارات عابرة لثلاثة من كتاب القصة السودانيين هم: الطيب صالح، إبراهيم إسحق، ثم بشرى الفاضل.

    تنتمي كل قصص الطيب صالح إلى ثقافة المركز الذي تهيمن عليه الأيديولوجيا الإسلاموعروبية. إن التتبع الدقيق للحيثيات الحياتية اليومية في قصصه تكشف لنا عن أنها تعتمد على شغل كل آليات أيديولوجيا الهيمنة والقهر وإعادة الإنتاج الثقافي. إن عالم الطيب صالح القصصي هو نفس عالم ثقافة المركز القائمة على الأسلمة والاستعراب، ومن ثم استتباع الهامش والأطراف. إن قراءة الطيب صالح وفق التحليل الفاعلي الذي قام به الشيخ محمد الشيخ [1987] ، مشفوعاً بالسياق الأيديولوجي واستقطاباته الناشبة في السودان، ستكشف لنا عن قدر كبير من التواطؤ الأيديولوجي العروبي الإسلامي للطيب صالح. وهو تواطؤ نتفق فيه مع عبدالله بولا [1998: 23-51] عندما ذهب إلى تجريد الطيب صالح من أحقية التساؤل عن ماهية الأبواب الجهنمية التي دخلت علينا منها طُغمة الإنقاذ، وذلك عندما أطلق تساؤله البريء "من أين جاء هؤلاء". لقد جاؤا من ذات الثقافة التي يعبر عنها أدبه.

    أما عن إبراهيم إسحق، فقد كشف عن موقفه المتحيز ضد الثقافات الأفريقية ولغاتها في أكثر من موقع. وقد كانت صحيفة الأيام في عامي 1975م و 1976م معتركاً فكرياً تساجل فيه كلٌّ من مصطفي مبارك، حسن مصطفى إسماعيل، إبراهيم إسحق، وعبدالله على إبراهيم وآخرين، حيث نهد كل واحد منهم برأيه مدافعاً ومنافحاً ومعارضاً [عبدالله علي إبراهيم؛ 1984]. في ذلك كان موقف إبراهيم إسحق مما لا يحتاج إلى مزيد قول عنه من حيث منافحته عن ميكانيزم إعادة إنتاج الأطراف داخل الوسط وذلك بتذويبهم اعتماداً على منظور "بوتقة الانصهار" الذي ساد على عهد نظام مايو جرّاء تبنيه لللآفروعروبية باعتبارها رؤيته للقومية السودانية والتكامل القومي. لكنّا هنا سنستشهد بإحدى قصصه القصيرة، تحديداً "حكاية البنت ماياكايا" [1980: 53-78] التي تحكي عن الكيفية التي سبى بها غانم "… سليل جلاّبة النيل الأبيض ذوي الأصول العربية" ـ باستخدام ألفاظ فضيلي جماع ـ بنتاً اسمها ماياكايا من سلالة رث الشلك. تجمع وقائع هذه القصة "… بين تقلى وفشودة وود عشانا جغرافياً..[كما ترمز] بشيء من الذكاء إلى العجينة الثقافية السودانية وكيف تمازجت عبر زمن طويل…" [فضيلي جمّاع؛ 1991: 171]. هذا ما يقوله فضيلي جماع شارحاً للآليات التي انبنت عليها القصة ـ أي، عمليا، ميكانيزم إعادة إنتاج المركز للهامش استعراباً وأسلمةً، حتى لو كان ذلك عبر السبي والاسترقاق. ولنا أن نقارن هذا مع ما قاله محمد عبد الحي عن أن "جماع الغابة والصحراء لم يكن وديّاً في البداية ولكن من زحام هذا اللقاء الشرس بين فرسان الخيول العربية وبين سبايا الغاب الأفريقي نحتنا وجوهنا…". وكأني بإبراهيم إسحق قد استوحى هذه المقولة في استلهامه لقصته.

    بالطبع الآن لم يعد من مجال لإبراهيم إسحق للتباجح الأيديولوجي الذي أبداه في عقد السبعينات. بهذا لا يبقى أمامه من ملاذ غير السودانوعروبية، حيث سيجد عبد الله على إبراهيم مرحبا به عند الباب.

    إذا جئنا إلى بشرى الفاضل ـ وهو الأحدث في الثلاثة باعتباره من جيل أواخر السبعينات ـ وجدناه رغم اختلافه في مصادره الفكرية عن الطيب صالح وإبراهيم إسحق، أكثر قرباً منهما في عاقبة أمره. ذُهل بشرى الفاضل طيلة سني شبابه عن إشكالية الصراع الثقافي الدائر في السودان؛ فبالنسبة إليه لم تكن تلك مشكلة تستحق عناء تسويد الصحائف والمساجلات التي ساقها. فحتى تسعينات القرن العشرين، كان بشرى الفاضل ـ ربما بتأثر من ميوله اليسارية، الماركسية الباكرة ـ يعيش فيما يمكن أن نسميه "أممية ثقافية". فقد كان يلخص موقفه إزاء مشكلة الصراع الثقافي بقوله: "أنا إنسان، وأعيش في السودان". على أقل تقدير هذا هو ما ذكره لي في حديث شخصي بمكتبي في جامعة الخرطوم أوائل 1992، وذلك عندما قرأ المسودة الأولى لهذا البحث. إن التناقض الذي أوجد بشرى الفاضل نفسه فيه يكمن في رفضه التموضع المحلي ثقافيا؛ وبما أنه أديب وقاص "ملتزم!" فلا مناص له من هذا التموضع، إذ ليس من الممكن أن يعبر إبداعياً عن الإنسان ومشاكله في غير ما وضعية ثقافية. ولعل هذا هو السبب في أننا لا نجد في أقاصيص بشرى الفاضل أثراً للصراع والقهر الثقافي وقضايا المركز والهامش. لكن يبدو أن هذا الوضع قد بدأ في التغير. فمثلاً في مجموعته القصصية الأخيرة، أزرق اليمامة [1996] ، نجد أقصوصتين؛ إحداهما وهي" كالو يتناول إفطاره في السماء"، يمكن أن تحسب لقضايا الهامش، بينما الثانية "ويليام" تتحدث عن إشكالية الشمال والجنوب. إن التمفصل الأيديولوجي الخطي Linear (شمال ↔ جنوب) هو في حد ذاته سمة من سمات الآفروعروبية، ثم السودانوعروبية ـ كما سنفصّل لاحقاً. إذ من شأنه أن "يفرز" الجنوب لوحده، مع استتباعه لباقي أطراف الهامش استيعاباً وإعادة إنتاج، حتى إذا تغير السياق، وأصبح الجنوب غائباً، تبين لنا أن هذا "الشمال" هو نفسه "خشم بيوت"، وهنا يتضح أن هناك غرباً، وشرقاً.. كما إن هناك شمالاً هامشياً للشمال نفسه. إن تصريح بشرى الفاضل في قصته "ويليام" بأنه لا شمال بلا جنوب، يقوم في الحبكة القصصية على انجذاب الراوي (وهو هنا شمالي) إلى جسد الفتاة الجنوبية المثير. إنها ذات المصادر الجُوّانية التي انطلق منها إبراهيم إسحق في تصويره لبطل قصته غانم العربي، وسبيه للبنت مياكايا ابنة رث الشلك. أمّا الصرخة التي يطلقها بشرى الفاضل بأن ".. الشمالَ جنوبٌ وجنوبٌ جدّاً، جنوبٌ لا يُنكرُ جنوبيتَه إلاّ الجهلُ والغرض"، فعبارة عن جملة تقريرية خارجة عن سياق الحبكة القصصية ومنطقها الداخلي القائم على التمفصل الأيديولوجي الخطي (شمال ↔ جنوب).

    سنتعرّض في خاتمة هذا الجزء الخاص عن الفعاليات الحركية لتحالف الهاربين بالتعرض لشخصيتين نرى أنهما تستحقان منا هذا لأهميتهما، خاصة مع تصنيفنا لهما كسودانوعروبيين خلافاً لما يعتقد عنهما، وهما أحمد الطيب زين العابدين ومنصور خالد.



    أحمد الطيب زين العابدين و طاقية المنظور السودانوي
    يعتبر أحمد الطيب زين العابدين أحد القلائل من المثقفين السودانيين الذين أبدوا إلتزاماً تاماً بقضايا الثقافة. لقد كان لطيفاً، شفيفاً بدرجة جعلته مهموماً، مهجوساً بالخطاب الثقافي فتنزّه بذلك عن أوشاب السياسة. فعلاقته بالسياسة كانت كعلاقة المركب بماء النهر؛ تحمله السياسة، نعم، لكن لا تسوقه ولا تجرفه بتيارها، بل يمخر لوجهة يعرفها. كان صلباً ومقاتلاً.. لكن بشفافية. وقد تتلمذ وتخرج على يديه الكثيرون، ولا نعني بذلك طلبة فصله على كثرتهم. كما كان من فرسان الحركة الفكرية الثقافية بالسودان طيلة العقود الأربعة الأخيرة من القرن العشرين على أقل تقدير. وقلّ ما تجد حركة فكرية/ثقافية خلال هذه الفترة دون أن تكون حلباتها قد شهدت صولاتِه. ثمّ مات وهو يتوسد كتاباً ويطالع القراء عبر أكثر من صحيفة. لقد كان مدرسة، وأصبح في أخريات أيامه تقليعة ثقافية يتباهى بها الشباب، مثلما حدث مع محمد عبد الحي وعلى المك من قبله. ومن هنا تأتي أهميته. وسنبذل من الجهد الكثير حتى نتصف بشفافيته في تناولنا له. أما إذا جانب حديثنا ذلك في بعضه، فذلك لغلاظة وكثافة فينا لا نملك معها حيلة.

    طرح أحمد الطيب زين العابدين في أخريات أيامه منظوره الفكري الذي أطلق عليه مُسمّى "السودانوية". وقد دشن منظوره هذا في مقال نشره بمجلة حروف في عام 1991م، واستمر يبشر بهذا المنظور في الصحف والمجلات حتى وافته المنية في 1997م. إلاّ أنه، فيما نذهب إليه، تراوح في استخدامه لمصطلح "السودانوية" ما بين تيار الآفروعروبية (الغابة والصحراء) وبين التيار السودانوعروبي (مشروع عبدالله علي إبراهيم) كما سيتضح لنا.

    ما يجدر ذكره أن مصطلح "السودانوية" سابق لكتابات أحمد الطيب زين العابدين. فمتزامنا معه ورد المصطلح كعنوان لبحث قدمه الراحل محمد عمر بشير [1991[. وقد استُخدم أيضا في معنى الإشارة للإتجاه الآفروعروبي. إلاّ أن بدايات نحت المصطلح تعود إلى أخريات السبعينات وأوائل الثمانينات، وذلك عندما برز نور الدين ساتي محللاً ومصنفاً للمكونات الثقافية للأمة السودانية. عرّف نور الدين ساتي المصطلح بقوله:

    "…السودانوية يمكن أن تُعرّف بأنها ذلك الوجود وذلك الإحساس الذي يجعل كل فرد يعيش داخل الحدود الإدارية للدولة السودانية، يحسّ بأنه ينتمي إلى أمة في طريقها إلى التكوين، دون تمييز بين أفرادها مهما كان انتماؤهم العرقي واللغوي أو الديني." [1981: 11].

    ثم يمضي مفصلا قوله ذلك بأن "… السودانوية فاحمة السواد وصفراء اللون في الوقت ذاته دينكاوية، وهدندوية ودنقلاوية وفوراوية، تتحدث لغة الزاندي والتبداوي والعربية والنوبية، تدين بالإسلام والمسيحية والوثنية في الوقت ذاته". هذه هي مبادئ وأسس دولة المواطنة والقومية السودانية القائمة على منظور الوحدة في التنوع، كما تبلورت لاحقا. ولنا أن نلاحظ أن نورالدين ساتي قد ذهب هذا المذهب أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات من القرن العشرين، عندما كان المسرح يسيطر عليه تيار الآفروعروبية الذي يستند على منظور بوتقة الانصهار. لقد كان في ذلك رائداً لا مراء.

    أما إذا جئنا إلى أحمد الطيب زين العابدين فإننا لا نجد هذا الفهم عنده. فاستخدامه للمصطلح غير مشفوع بتعريف ناصع كذلك الذي يقدمه نور الدين ساتي. ففي المقابل نجد أحمد الطيب زين العابدين يتبنى منظور بوتقة الانصهار، وذلك باستخدامه لمصطلحات من قبيل "المزيج" و "الهجين". ففي تتبعه لتأثير محمد المهدي المجذوب على الأجيال التي تبعته في نزعاته الأفريقانية يقول:

    "ثم تبع هؤلاء المبدعين من نفروا نفوراً عن تقليد الأدب العربي القديم ممّن أكّدوا "السودانوية" أو هذا المزيج الحضاري العجيب الذي أفرز أو ينبغي أن يفرز ثقافة هجيناً. فهي أفريقية أصلاً ولكنها عربية الملامح، فهي نتيجة حتمية لجماع الغابة والصحراء" [1991: 33].

    ولهذا لا يعدو أن يكون الأمر عنده تأكيداً للوعي "… بالبعد الأفريقي في الثقافة السودانية (الغابة) كمقابل مكمل لما هو عربي فيها (الصحراء)" [المرجع السابق]. إن هذا القول وحده يكشف لنا عن الأرضية الآفروعروبية التي ينطلق منها أحمد الطيب زين العابدين. بيد أن الأمر لا يقف عند هذا، بل يتعداه إلى ما يمكن أن نقرأه على أنه تحول نحو السودانوعروبية.

    في الحركة التشكيلية السودانية تعرف التيارات التي قادها الرعيل الأول من الفنانين بمُسمّى "مدرسة الخرطوم". كان لهذه المدرسة رموزها، ومنهم ".. إبراهيم الصلحي.. الذي قاد .. هو وزملاء له حركة في التجديد خرجت بالحركة التشكيلية السودانية من الإطار الأكاديمي المدرسي الضيق إلى رحابة الفكر الاجتماعي العام" [المرجع نفسه: 29]. باستخدام نفس كلمات أحمد الطيب زين العابدين، فإن "المدارس الفنية لا تنشأ اعتباطاً، ولا تقوم إلاّ لتلبية حاجات اجتماعية وضرورات ثقافية. فهي إما أن تكون بشارة بنهج جديد أو تأكيداً لبعض طرائق الإنجاز العتيقة، أو تبعث قديماً ما يزال مؤثراً، فهي قرينة التحولات الاجتماعية ورهينة فعاليات ثقافية أساسية" [نفسه]. ثم كان في أخريات عقد الثمانينات وأوائل عقد التسعينات أن قاد الفنان التشكيلي أحمد عبد العال وآخرون تياراً فكرياً جديداً في مجال الفن التشكيلي، يتجاوزون به مدرسة الخرطوم، فتبعهم في ذلك كثيرون. وجاء في بيانهم التأسيسي ما يلي: "مدرسة الواحد، مدرسة تشكيلية أفريقية تقوم على أرضية من التراث الحضاري لأهل السودان الذي امتزجت فيه الثقافة العربية الإسلامية في عبقرية متميزة بالموروث الأفريقي المحلي" [نفسه: 37]. ويعرف عن أحمد عبد العال إنكاره لوجود أي جذور قديمة للفن التشكيلي السوداني، إيمانا منه بأن:

    "…الجذور الفنية القديمة مرتكزة في الكلمة الشاعرة والكلمة الأدبية والحرف العربي، وموسيقى الكلمات، ولحن الإيقاع اللفظي. [ويستدل] على ذلك بأغاني الحقيبة التي أوحت إلى الفنانين التشكيليين الشعبيين القدامى أمثال على عثمان وجحا أحمد سالم الرسومات الحسية التي تمثل المرأة السودانية كما وصفتها أغنية الحقيبة" [مبارك بلال؛ 1981: 66].

    أي أن الإبداع التشكيلي السوداني عمقه بعمق الثقافة العربية في السودان! إن هذا القول لا يحتاج إلى مزيد تعليق لفضح النظرة المستغلقة المستعلية التي تنطوي عليها شخصية الفنان التشكيلي أحمد عبد العال.

    لم تكن هذه الخلفية الأيديولوجية لمدرسة الواحد خافية على أحمد الطيب زين العابدين. ففي تعليق على تجاوزها للحركات التي سبقتها يقول عنها إنها:

    "… ترى في مدرسة الخرطوم ملمحاً حضارياً تاريخياً. ولكن ارتباطهم [أي مدرسة الواحد] بالتراث العربي الإسلامي يعطي أعمالهم بعداً روحياً. فالتراث العربي الإسلامي تراث مؤسس على رسالة كونية ومن هنا كان اختلافه في نظرهم. فهناك مقاصد جمالية مستوحاة من معاني التوحيد في الإسلام. وبذلك تنتفي عفوية مدرسة الخرطوم" [1991: 37].

    وتتجلى ضبابية المفهوم عندما يصنف أحمد الطيب زين العابدين مدرسة الواحد على أنها "ورغم كل هذا… لم تخرج من إطار السودانوية… [فكل] هذه الاعمال وكثير مما لم نذكر هي إضافة صميمة إلى حركة تشكيلية محلية عالية الأصالة والتفرّد ذات إحساس أكيد بهذه الخصوصية الثقافية والتي أسميناها (السودانوية)" [المرجع السابق]. وبهذا الفهم ـ فيما نرى ـ قام أحمد الطيب زين العابدين بضم اسمه إلى قائمة الموقعين على البيان التأسيسي لمدرسة الواحد. وهو فهم يقوم في أحسن صوره على الآفروعروبية ومنظور بوتقة الانصهار ونموذج إنسان سنار؛ وفي أسوئها على العروبية الفجة التي تتكئ على عصا الإسلام، وهو ما عليه حال مؤسسي مدرسة الواحد الحقيقيين.

    لكن المشكلة لا تقف عند هذا الحد. فأحمد الطيب زين العابدين يتراوح في منظوره الفكري من مكان لآخر. إن هذا يمكن أن يعزى إلى استخدامه لمصطلح "السودانوية" دون تعريف مانع جامع خاص به. فما يعنيه بالمصطلح علينا أن نتلمسه بين السطور والكلمات، وحتى عندما يذكر صراحة أن ذلك .. وذلك .. هو ما يعنيه بالسودانوية، يجيء قوله مشتملاً على ألفاظ ذات دلالات متناقضة مفهومياً. فمثلا يستخدم العديد من الألفاظ التي يستند عليها قوام خطاب الآفروعروبيين، من قبيل "الامتزاج"، "الغابة والصحراء"، وهو ما يتفق ومنظور بوتقة الانصهار كما بيّنّا. ثم نراه يصف الثقافة السودانية على أنها "ثقافة الاختلاف في الوحدة" [1982: 40] ، وهو أمر لا يفهم إلاّ عبر منظور الوحدة في التنوع. وتكمن المشكلة في أن كلا المنظورين يتعارضان! إن هذا التأرجح والتراوح يفضيان بأحمد الطيب زين العابدين إلى شيء أقرب إلى التناقض من حيث استخدامه لمصطلح السودانوية. ويتجلى هذا أكثر في قوله:"…إن الحقيقي في وجودنا الثقافي المعقد هو سودانيتنا والتي هي زنوجتنا المصيرية ولعلها عروبتنا المزنجة. إن في وعينا منطقة رجراجة ملتهبة هي سودانوية لم نسبر غورها بعد" [1991: 24]. إذا كان الحقيقي في وجودنا الثقافي هو "زنوجتنا المصيرية"، فإن هذا يُدخل في دائرته كل السودانيين، بما في ذلك الناطقين بالعربية من المستعربين السودانيين. وهنا نجد أنفسنا نقترب من مفهوم نور الدين ساتي للسودانوية. ولكن في المقابل، إذا ما تأرجحنا بجملة "لعلها عروبتنا المزنجة" فإن الدائرة تضيق عن أن تسع من ينظرون إلى نفسهم بوصفهم صرحاء الأفرقة، ثم لن يرضى عنها من ينظرون إلى نفسهم بوصفهم صرحاء العروبة.

    إن اللبس ـ فيما نرى ـ يكمن في أن أحمد الطيب زين العابدين يصدر في رؤاه الفكرية عن منظور "بوتقة الانصهار"، ولكنه في تعبيره عن ذلك يستخدم مصطلحات ونصوص الخطاب الخاص بمنظور "الوحدة في التنوع". وما مصطلح "السودانوية" إلاّ من قبيل ذلك. فمثلاً عندما أصبحت مصطلحات (المركز والهامش.. الأطراف والوسط.. إلخ) ذات دلالات محورية في الفكر الثقافي/السياسي السوداني، خاصة أخريات ثمانينات القرن العشرين، قام أحمد الطيب زين العابدين باستخدام هذه المصطلحات في التعبير عن منظور "بوتقة الانصهار". وفي ذلك يمكن أن نستشهد بقوله:

    "إن الثقافة السودانية المعاصرة في ذاتها ثقافة مُشكَّلة. فهي تبدو أكثر تجانساً في الوسط وهي محاطة بحزام عريض حميم كثير الالتصاق بذلك الوسط… ورغم تنوع ذلك الحزام وتلونه لغوياً وسلوكياً، وغير ذلك من مظاهر الاختلاف في الثقافات المحلية للجماعات السودانية، شرقيها وغربيها، شماليها وجنوبيها، فهذه الجماعات، رغم تعددها، أكثر تجانساً وارتباطاً، تاريخياً وثقافياً مع الوسط تجاه الثقافات الأخرى في المنطقة…" [1991: 40].

    أي أن الوسط هو مناط التجانس بحمل ثقافات حزام الأطراف. ولعمري إنها السودانوعروبية، فمن أبى ذلك فدونه الآفروعروبية، وإلاّ فلا محيص من العروبية الصراح.



    منصور خالد بين السودانوية والآفروعروبية
    أما إذا جئنا إلى منصور خالد، فإن المسألة تبدو أوضح من حيث تبيانها، وذلك أساساً لشجاعة الرجل ووضوحه، وعدم تهيّبه من خوض المعارك. وقد امتاز منصور خالد ـ مقارنة مع ما عليه الوضع في السودان ـ بالدقة والحس التاريخي والجسارة، هذا فضلاً عن المقدرة على الصبر واحتمال مشقة الكتابة وتسويد الصحائف. وقد نَفِسَ عليه الكثيرون ذلك، خاصة عندما توالى إنتاجه في كتب مجلدية الحجم.

    إلاّ أن أكثر ما أثار الجدل حول منصور خالد هو مواقفه السياسية، بدءً من انخراطه الفعّال في نظام مايو، ثم معارضته له، وانتهاءً بانضمامه للحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة الشهيد جون قرنق. وفي واقع الأمر هذا هو نفسه ما يدفعنا للتحدث عنه. فباعتبار ما آل إليه حال منصور خالد، يتوقع المرء أن تنهض مواقفه على رؤية فكرية، إن لم تكن أفريقانية بحتة، فليس أقل من أن تكون "سودانوية"، بمفهوم ناحت المصطلح نور الدين ساتي. إلاّ أن منصور خالد ينتمي إلى الآفروعروبية، مثله في ذلك كمثل جيل التكنوقراط الذين صاغوا مايو، وصاغوا معها منظور "بوتقة الانصهار".

    في الستينات، وبعد ثورة أكتوبر، كتب منصور خالد العديد من المقالات القوية في الصحف اليومية، فكان أن لفتت إليه أنظار الطبقة المثقفة. وقد جمع في السبعينات المقالات ونشرها في كتاب [1979]. في واحدة من المقالات، وفي معرض مساءلته للجيل الذي حقق الاستقلال عما فعل بشأن التعليم، يقول: "… وفي مطلع الحديث عن التخطيط التربوي نتساءل عن ما فعله السودان المستقل لتأكيد شخصيته العربية… ولكيما تكون هنالك شخصية عربية، وكيان ثقافي عربي، وحضارة عربية.. لابد أن يكون هنالك لسان عربي…" [المرجع السابق: 57، نشير إلى أن التنقيط متى ما جاء بنقطتين فقط (..) لا ينبغي أن يؤخذ على أنه إسقاطات اقتباسية من عندنا، فقد وردت هكذا في الأصل على أنها من قبيل تكنيكات الترقيم]. إن دعوة منصور خالد العروبية لا تقف عند هذا الحد، بل تتعداه لتأخذ بعداً قومياً عربياً أساسه ما يسميه بالاستقلال الثقافي، والذي "… لم يكتمل ولن يكتمل.." ما لم يتم "…استرداد الشخصية العربية في مدارس السودان..". ولنا أن نلاحظ غياب الوعي بالواقع الأفريقي للأطراف السودانية، ولا عجب! فقد كانت العروبية، وربما لا تزال، مسيطرة آنذاك، بينما كانت الآفروعروبية لا تزال تقبع داخل الأروقة الأكاديمية. في ذلك الوقت كانت العروبة بالنسبة لمنصور خالد هي شخصية وأمجاد السودان القومية:

    "…إن الشخصية القومية لن تكتمل ما لم ينطلق التخطيط الثقافي من تلك النقطة [أي التعريب في التعليم] لتحوير برامجه التعليمية ليدل الناشئة على جذورهم الحضارية وتغرس في نفوسهم تقدير أمجادهم القومية" [المرجع نفسه: 58].

    وفي مقالة أخرى خص بها الجامعة (أي جامعة الخرطوم) ودورها في التربية السودانية، يشدد في حديث موجه إلى المسؤولين على دور الجامعة في إبراز الفكر السوداني "المطموس":

    "…إن هؤلاء جميعاً سيدركون أن للجامعة وظيفة في إعادة بناء الشخصية السودانية، في تقصي جذور الفكر السوداني المطموس، في الإسهام النشط في بناء الأمة وتنمية المجتمع، في تعميق المحتوى الفكري للاستقلال الوطني عند المثقفين، في تأكيد كيان السودان العربي، في خلق منارة للفكر الأفريقي في أول بلد يستقلّ في أفريقيا جنوب الصحراء لتكون هدياً ونبراساً للقارة الناهضة … ولكن ما الذي حدث؟ .. وأين نحن من كل هذه المنى والأحلام؟" [نفسه: 65].

    وهنا نشير إلى التراوح والتأرجح الذي نبّهْنا له في مواقف أحمد الطيب زين العابدين. ففي لحظة يبدو منصور خالد وكأنه قومي عربي، وفي أخرى نجده يتعامل مع السودان كقومية في حد ذاته. إنه يسعى لتأكيد كيان السودان العربي، وخلق منارة للفكر الأفريقي. بيد أن هذا البعد الأفريقي في الرؤية المطلبية عند منصور خالد تتضح طبيعتها العروبية من خلال رؤيته عن الجذور العربية للجامعة. فهو يقول: "…لكيما يحور الكيان الجامعي لمجابهة احتياجات المجتمع الجديد في السودان العربي.. لابد أن تتوفر لها في المبدأ الشخصية السودانية.. ولابد أن يتوفر لها الروح العربي" [نفسه: 66].

    وبهذا لا يحمل منصور خالد أي دور حضاري للسودان في رفعة نفسه، وما ينبغي أن يلعبه في خلق وتطوير الفكر الأفريقي، غير الاستعراب. وبالطبع تأتي الأسلمة في ركاب هذا، "والعربية مفتاح الإسلام" كما يقول عبدالله الطيب [1991: 12]، والدين أيديولوجيا، كما يقول إدريس سالم الحسن [1996]. إن هذه الرؤية التي يقدمها منصور خالد لا نجد لها تصنيفاً إلاّ داخل المدرسة العروبية التي رادها الضرير وآخرون، وما تبع ذلك من بروز المدرسة الآفروعروبية التي عملت على الاعتراف بالمكون الأفريقي في هوية السودان استيعاباً وتعريباً لأفريقيته نفسها.

    هذا ما كان من أمر منصور خالد في مستهل الستينات، فماذا عنه في مستهل التسعينات؟ عُرف عن منصور خالد اهتمامه بالدور المنوط بالصفوة، كما عُرف تعويله عليها، مثله في ذلك كمثل عبد الغفار محمد أحمد. وقد أصدر في أوائل التسعينات كتابه الشهير عن النخبة السودانية [1993] دامغا إياها بالفشل وإدمانه، فساطهم فيه بسياط الفكر والسياسة. وانقسمت النخبة في رد فعلها إزاء الكتاب. فقد استقبله أولئك الموالون للحكم القائم في السودان بحنق مغيظ لما طالهم، وشماتة بادية على المعارضة السياسية باعتبار أنها هي المعنية بالفشل، ثم بإعجاب خفي بقدرات الرجل الفكرية. أما الشق الآخر من الطبقة المثقفة، فقد كان أمرها عجباً، فقد استقبلت الكتاب بسياطه الفكرية بتلذذ ماسوشي تصاحبه انفصامية. إذ ليس أسهل من تجريد ما تنطوي عليه كلمة "صفوة" أو "نخبة" لتصبح آخر مجرداً، ومن ثم إسقاط الفشل على هذا الآخر.

    في معرض حديثه عن فشل النخبة السودانية في استكناه حقائق الواقع، استنهاضاً لسودان ما بعد ثورة أبريل، ينعي منصور خالد الطبقة المثقفة قائلاً:

    "…بيد أن أغلب الذي كنا نشهد ونسمع كان في أحسن حالاته أحكاماً انطباعية، وفي أغلبها تهرباً من الماضي بالتستر وراء ثوب سخيف الغزل، واهي الخيط… ولو صدق القوم مع أنفسهم لأدركوا بأن الذي كانوا يصنعون لم يكن مصادرة للتاريخ بل نعي [نعيا] لجيل كامل، جيلهم وجيلنا. كيف، إذن، يتأتى للمجتمع أن يتوقع من مثقفيه الغوص في كنه الأحداث لاستكشاف جوهرها ودلالاتها الخفية إن كان هؤلاء المثقفون يتكذبون في تحليل التاريخ المعاصر .." [المرجع السابق: 66-67].

    إنه في رأينا أن كل ما قاله منصور خالد عن إدمان النخبة السودانية للفشل، ليستقيم واقفاً على قدميه إذا ما نظرنا إليه على أنه فشل ثقافي تجلى ـ أكثر ما تجلى ـ في عقم النخبة وليس فشلها فحسب. إنه فشل الأحادية الثقافية (الإسلاموعربية) في إدارة أزمات بلد متعدد الثقافات، ثم إدارة التعدد الثقافي نفسه. إنها الأحادية التي ظلت تعمل وفق ميكانيزمات القهر وإعادة الإنتاج والاستتباع للثقافات الأخرى، وذلك منذ قيام دولة سنار عندما نشأت المراكز الحضرية كمراكز أحادية ثقافية تجتذب ثقافات الهامش والأطراف نحوها بغية إعادة إنتاجها وصهرها في بوتقة الإسلاموعروبية. إن هذا ـ كما نرى ـ هو ما أورثنا الدكتاتوريات والديمقراطيات في كيمياء الصراع الثقافي في السودان. وهذا هو نفسه ما أورثنا حالة الفشل العقمي للنخبة ـ البنت الشرعية للمثاقفة الإسلاموعروبية ـ ذلك الفشل الذي أجلاه منصور خالد.

    لقد ذُهل منصور خالد عن البعد والعمق الثقافيين لإشكالية الفشل، فكان أن عالجها في تجلياتها. إذ أراد أن يجتثّ الشجرة، بدءً من أوراقها وانتهاءً بجذعها. إن المفارقة هنا منهجية، إذ كيف يتأتّى للآفروعروبي الذي يؤمن بمنظور "بوتقة الانصهار" أن يدين المشروع نفسه ويدين جدواه دون أن ينفض يده عنه. وتتجلّى المفارقة أكثر عندما تأتي الحلول التي يقترحها منصور خالد للخروج من هذا النفق المظلم. إنه يقول إن "…العلاج… يكمن في الداخل … الاعتماد على الذات هو بداية كل شيء وما هو بشعار" [المرجع نفسه: 93]. ثم يستطرد مبيّناً حيثيات هذا الاعتماد على الذات على أنه أولاً يبدأ " … بدراسة مناهج حياتنا نحن النخبة ودراسة أثر تلك الحياة على، ودورها في، الانهيار الاقتصادي" [نفسه]. وهنا يتيه بنا الدرب عن موارد ومشارع الثقافة وإشكالية المجتمع ككل، مفضيا إلى أزقة الصفوة. فالإشكالية، إذن، ليست ثقافية، بل هي إقتصادية بحتة، تختص بالتخطيط العلمي (الأكاديمي) للإقتصاد، والذي هو مناط الاحتجاج على النخبة في فشلها. أما مقترحه الثاني للحلول فيتلخص في أن "… نتناول بالدراسة التغيرات التي وقعت على خريطة التركيب الطبقي منذ السبعينات، فالثراء غير المشروع لم يقف عند حفنة من السياسيين بل تعداهم إلى غيرهم…" [نفسه]. وهنا نلاحظ أن العمق الزماني لهذا البند لا يعود لأكثر من العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين. ويتأكد هذا أكثر عندما يجعل من موضوع المغتربين (أي العاملين بالدول العربية البترولية) البند الثالث لمقترحاته العلاجية؛ وهذا أيضا يبدأ بعقد السبعينات من القرن العشرين. وفي هذا الصدد يكتفي منصور خالد بالدعوة إلى أن "… نتناول ظاهرة الاغتراب وآثارها الاجتماعية الاقتصادية…" [نفسه]. وأخيرا يجيء دور المقترحات المتعلقة بمعالجة إشكالية المواجهة بين المركز والهامش، أو كما يسميها هو "معادلة المركز والتخوم" و "أهل الحضر وأهل الريف". وهنا نجده مهتمّاً "… بإفرازات الظاهرة الريفية في المدينة …" [نفسه: 93-94]. .. فقط! لماذا؟ تتمثل إجابته في أن:

    "… تلك الإفرازات تشغلنا أكثر من أسبابها ودواعيها لما للإفرازات من أثر مباشر على حياتنا الحضرية، يؤذينا السكن العشوائي في أطراف المدينة، ويؤذينا ازدحام الأسواق والطرقات بالوافدين من الغرب والجنوب، وتؤذينا ضغوط هؤلاء على الخدمات ولا نجد لذلك حلاًّ إلاّ في "الكشة" التي تعود بهؤلاء الناس من حيث أتوا."

    وهكذا تتضح الصورة، فمنصور خالد يصدر في هذا القول عن عقلية المركز الإسلاموعروبي ونظرته الاختزالية للسودان على أنه هو المركز. إنها نفس اختزالية المدرسة العروبية التي لم تكن ثقافات الهامش تشكل وجوداً في وعيها بالسودان. إن دواعي وأسباب ظاهرة الهجرة من الريف إلى المدينة هي الأحادية الثقافية التي جعلت من المراكز الحضرية معملا لها تعيد فيه إنتاج أبناء الأطراف والهامش المغايرين ثقافة ولغة. وقد أنجبت هذه الأحادية بنتاً اسمها المركزية السياسية، وأخرى اسمها المركزية الاقتصادية … وهلم جرّا.

    ولكن، إذا جاز لنا أن ننشغل بالإفرازات فقط، كما فعل منصور خالد، فإن ما ينبغي أن ننشغل به أولاً ليس معاناة الجاني (المركز) بل معاناة المجني عليه (الهامش) كضحية تاريخية لاختلال المعادلة. إن ما يهم هو اقتلاع الجذور، واختلال السياق الثقافي ـ الاجتماعي الذي يعمل على تغريب ونفي أبناء الهامش والأطراف عن هوياتهم، ريثما يعاد إنتاجهم في ثقافة المركز. إذ هل يمكن لهذه العملية أن تطرح لنا أجيالا قادرة على مقاربة مشاكلها بنجاح؟ إن كل ما يمكن أن تطرحه عبر الأيام، وعلى أحسن الفروض، هو إضافة كَمّية لنخبة المركز، وهي نخبة تعاني من الاغتراب والاستلاب، لأنها ليست شيئاً خلاف الهامش معاد إنتاجه داخل المركز. ولهذا هي فاشلة، وأكثر من ذلك عقيمة.

    إن الصراع بين المركز والهامش واقع معاش، وليس قضية مجردة يتحاور حولها المثقفون. ولذلك نجد هذا الصراع يفرض نفسه عبر تجلياته الحياتية اليومية. من ذلك الإسقاطات الأيديولوجية التي يقوم بها المركز في اتهامه لكل حركات الهامش إما بالعنصرية أو بالتآمر مع القوى الأجنبية (الصليبية والصهيونية) استهدافاً للهوية العربية للسودان. في هذا الشأن تتبدى جسارة منصور خالد عندما يعلن قائلاً:

    "العنصرية هذه … هي صفة يلصقها أهل الشمال بكل صاحب حق ينهض للمطالبة بحقه من عناصر السودان غير العربية، وكلها حقوق إما سياسية أو إقتصادية لا شأن لها بالأصل العرقي أو المنبت" [نفسه: 261].

    إنها شجاعة، وإن كانت تعوز الكثيرين، إلاّ أننا ـ منهجياً ـ نأخذ عليها تبنيها للتمفصل الأيديولوجي الخطي. فعناصر السودان غير العربية، ليست في الجنوب فقط بل هي في الشمال أيضا، كما هي في الغرب والشرق؛ وهي في المركز نفسه ممثلة في أولئك الذين أعيد إنتاجهم عبر السنين. إن ما يقوله منصور خالد كالموج العاتي يتبدد ويتكسر على صخرة اللامنهجية. فالفكر الذي تطرحه الحركة الشعبية لتحرير السودان ـ والتي ينتمي لها منصور خالد ـ لا تقدم طرحاً يقوم على التمفصل الأيديولوجي الخطي، فالمشكلة عندها ليست قضية الشمال والجنوب، بل قضية المركز والهامش، ولذلك تختزل المركز أكثر في مسمى حكومة الخرطوم، وذلك وفق ما يورده منصور خالد نفسه [1987] من أدبيات الحركة على لسان جون قرنق.

    يرد منصور خالد على إسقاطات أبناء المركز وتعليق مشاكلهم على "شماعة" المؤامرات العنصرية بقوله:

    "… لا أصدق الذين يولولون بالحديث عن هوية السودان العربية الثقافية التي يتهددها بالقضاء العنصريون من غير العرب، لأن هؤلاء "المولولين" يعرفون جيداً بأن جميع "العنصريين" في السودان قوم تبنوا العربية أو هم بصدد تبنيها، بحسبانها رابطة التواصل الفكري الوحيد بين كل أقوام السودان" [1993: 185].

    هل يقصد منصور خالد بجملة "تبنوا العربية" اللغة العربية؟ لا يجوز أن نذهب إلى ذلك لأن الحديث هو عن "هوية السودان العربية الثقافية". إذن، فعدم الخوف هو أن مشروع الاستعراب، وبعده الأسلمة، قد قطع شوطاً بعيداً ودخل مرحلة اللاعودة واللاتوقف. ولنا أن نسأل منصور خالد عن موقف جون قرنق من هذه العملية: هل هو ممن تبنى أم ممن بصدد؟ إن قوله هذا يتناقض مع قولته الجسورة عن إلصاق تهمة العنصرية بكل طالب حق آت من الهامش.

    وبعد؛
    لقد بدأ منصور خالد عروبياً، ثم آفروعروبياً، ولا سبيل له غير أن ينتهى سودانوعروبياً إذا ما سار على هذا المنوال. وفي الحق، إنها جميعا تمثل انتماءً جرثومته واحدة، وما الفرق بينها إلاّ في المقدار ما بين الاشتطاط والاحتكام بالواقع لا في النوع. وحتى منتصف التسعينات كان منصور خالد لا يزال أمينا لمصادره الفكرية/الأيديولوجية. ففي مقابلة صحفية أجريت معه، سأله الصحفي بذكاء ومتابعة عن نظرية بوتقة الانصهار، ما لها وما عليها.. هل نجحت أم أخفقت؟ ورد منصور خالد بجسارته التي تثير الإعجاب وقال: "نظرية البوتقة في واقع الأمر نجحت ولم يوقفها إلاّ الغلواء السياسية التي قادت لردود فعل. إذا نظرت الآن لتراثنا في الشمال ستجد أنه مزيج من الثقافة العربية وثقافات أخرى." [راجع نص الحوار الذي أجري معه في صحيفة الخرطوم (الحلقة الثانية)، العدد 1214، الثلاثاء 8 أكتوبر 1996م. وقد أجرى الحوار الصحفي فيصل محمد صالح]. إنه هنا يعرّف الثقافة العربية، بينما يترك أمر الثقافات السودانوأفريقية هكذا نكرة، ثم يصفها بكلمة "أخرى". ويمضي مواصلاً حديثه، مؤكداً أن "… هذا الانصهار قد حدث. وتبقّت جيوب قليلة ما تزال محافظة تسعى للحفاظ على الصفاء … لديها. لكن هذه الجيوب تمثل أفراداً وليس جماعات" [المرجع السابق]. إنه بقوله هذا يقدم إقراراً بانتمائه إلى المدرسة العروبية في تجلياتها السودانوعروبية، إذ ترى أن السودان به ثقافة إسلامية ـ عربية سائدة مهيمنة، مع وجود "أقليات" تبدي بعض مقاومة ريثما يتم استيعابها. وهو هنا يشير إلى التكتيك الأيديولوجي الذي ينبغي إتخاذه إزاءهم، وهو أن نتركهم لحالهم طالما كانوا محكومين في مجمل العملية الاجتماعية، الثقافية، الاقتصادية، والسياسية بميكانيزم الاستعراب والأسلمة. وهنا نجده قريبا من عبدالله علي إبراهيم، بعيدا عن جون قرنق. إذن، فها هو منصور خالد تتهتك عنه مسوحه السودانوية، لتتبدى أسماله العروبية… الآفروعروبية، السودانوعروبية. فهو يقول إنه في إطار نظرية بوتقة الانصهار:

    "…يمكن أن يحترم الناس الخصائص الثقافية للأقوام الأخرى، في ذات الوقت أن تترك للثقافة العربية أن تنساب بالصورة التلقائية التي كانت تنساب بها في الماضي. والنموذج الأمثل لهذا هو دولة الفونج" [المرجع نفسه].

    إذن فقد وضحت المسألة!
    وبعد؛ عود على بدء.
    إن هذا البحث ليس عن عبدالله علي إبراهيم، بقدر ما هو يستند في تحليله على مقالات كتبها. إنه محاولة لإماطة اللثام عن المواقف الأيديولوجية الحقيقية التي ينطلق منها أناس يبدو وكأنه قد تفرقت بهم سبل الفكر. ولا يظنن أحد أننا في ذلك نصدر عن روح تجريمية بغية الإدانة والدمغ. لا! فهذا إفلاس في حد ذاته. إننا نصدر عن روح هيغلية ـ وإن كانت غير مثالية ـ تؤمن بجدلية الحوار الفكري والثقافي بين الأفراد والجماعات. ولولا التأسي بكثير ممن تعرضنا لهم، لتهيبنا الكتابة عنهم إعجاباً واحتراماً. إن ما نسعى إليه هو أن نمارس نقد بعضنا البعض حتى نتمكن جميعاً من معرفة مواقع أقدامنا. إنه لتحدونا الثقة والاطمئنان أنه إذا تم لنا هذا، نكون قد استشرفنا طريق الخلاص تشوّفاً لبصيص نور في نهاية النفق.



    نحو خريطة أيديولوجية جديدة

    تقوم الاستقطابات الأيديولوجية في السودان على الأسلمة والاستعراب من جانب، ثم الأفرقة من الجانب الآخر، تتوسطهما دعاوى التوازن القومي والثقافي. تعتمد أيديولوجيا الأسلمة والاستعراب على الاستيعاب، والذي يقوم بدوره على ميكانيزمات إعادة إنتاج الهامش والأطراف في المركز. وقد استصحبت هذه العملية معها كل جراحات ومرارات القهر والاضطهاد التي بلغت قمتها في مؤسسة الرق ثم انتهت بموجات الإبادة الجماعية التي صاحبت الحرب الأهلية. واليوم لا يجوز التعجب والاستغراب من أن هذه المؤسسة لا تزال ناشطة فعلياً، ذلك لأن الرق والتمييز العرقي لم يفارقاً وجدان الوعي الإسلاموعروبي في المركز حتى الآن؛ إن الفرضيات الأخلاقية والثقافية لمؤسسة الرق لا تزال على حيويتها في الوجدان السوداني (الشمالي المسلم عامة وفي المركز خاصة) [أحمد سيكينجا، 1996]. فليس أسهل من أن يدمغ السوداني (كذا) بأنه عبد لمجرد سواد لونه. ولنا أن نتساءل: هل يكون السودانيُّ غير أسود؟

    من الجانب الآخر تعتمد أيديولوجيا الأفرقة على الجهوية والنزوع نحو الانفصالية. وهي في ذلك تصدر من إحساس متنامٍ بأنه لا حظَّ ولا حق لها في هذه البلاد. وبما أن تيارات الجهوية الانفصالية قد ظهرت بوادرها أول أمرها من ستينات القرن العشرين في الجنوب، وجبال النوبة، وغرباً بدارفور، ثم شرقاً بين البجا (الآن بدأت الدائرة تكتمل باشتداد وتائر الحراك الإثني بين النوبيين في الشمال خاصةً مع ما تبادر من بيع لأراضيهم لمصر عام 2004)، لذلك لا نحتاج إلى ذكر أن هذه الأقوام ذات حق أصيل في البلاد، بل هو في الواقع حق سابق لمجيء العرب المسلمين. لهذا يمكن أن ننظر إلى النزوع نحو الانفصال على أنه شكل من أشكال اليأس من جدوى النضال نحو وضع قومي متوازن. وقد أخذ هذا التيار في الاضمحلال ببروز الحركة الشعبية لتحرير السودان وترفيعها لوعي قطاعات الهامش والأطراف بحقها الأصيل في كل أراضي السودان: من نمولي إلى حلفا، ومن الجنينة إلى الكرمك. وإنما لهذا أعلنت أنها تسعى لتحرير السودان كله، رافضة بذلك الانحصار في جنوب السودان. ولهذا السبب نفسه تسعى عدة جهات ـ داخلية وخارجية ـ إلى حبس الحركة الشعبية لتحرير السودان داخل وضعية جنوب السودان فقط. لقد لعبت العديد من العوامل ـ منها ما هو سياسة حكومية لنظام الإنقاذ ـ نحو حبس الحركة في الجنوب مع مقاومة مبدئية منها، إلى أن أصبح الأمر واقعاً مع طرح قضية تقرير المصير [لمزيد من التفاصيل التي تعكس صراعات الحركة الشعبية الداخلية ما بين التيار القومي والآخر الانفصالي راجع الواثق كمير؛ بدون تاريخ، خاصة الفصل الأول]. فقد وجد جون قرنق نفسه أمام خيارين أحلاهما مر: إما أن يرفض مسألة تقرير المصير لجنوب السودان وفق دعاواه القومية الأولى، وفي هذه الحالة قد ينفضّ عنه أبناء الجنوب الذين يمثلون قوام جنوده المقاتلين، باعتبار أنه يحارب من أجل قضية لا تهمهم، أو أن يقبل بذلك ـ كما فعل على مضض ـ ويكون بهذا قد انحصرت قضيته في جنوب السودان. بهذا يمكن القول إن التموضع الجنوبي للحركة الشعبية لتحرير السودان قد أدى إلى ما يمكن أن نسميه انتكاسة في هذا الوعي القومي.

    أما الطرف الثالث الذي يمثل وسط الاستقطاب الأيديولوجي فهو الدعوة إلى قيام دولة مواطنة ومؤسسات وفق ديمقراطية تعددية تستند أساسا على واقع التعدد الثقافي، على أن يبدأ هذا المشروع بالخطوات التنفيذية لإيقاف سياسة الأحادية الثقافية التي تمارسها مؤسسة الدولة في السودان منذ الاستقلال مرورا بجميع الأنظمة والحكومات. إن هذا التيار الأيديولوجي يستند في تأسيساته على أن مؤسسة الدولة مسئولة عن تحريك ماكينة القهر والاضطهاد الثقافي جراء عدم اعترافها بمسئولياتها تجاه الثقافات غير العربية في السودان. إن هذا الأمر يقتضي مراجعة التعليم لغةً ومضموناً، كذلك النشاط الثقافي والفكري، فضلاً عن الإعلام، وما يتبع كل ذلك من سياسات اقتصادية وقومية …إلخ.



    لكن! أين تكمن المشكلة؟
    تكمن المشكلة في أن المثقفين السودانيين لا زالوا واقعين في أسر مفاهيم "اليمين" و"اليسار" و"الوسط" بمحمولاتها البالية. فمثلاً لا زال القوميون العرب يُصنَّفون بوصفهم يساراً، بينما لا يجد الكاتب حرجاً من تصنيفهم أيديولوجياً ضمن تيار الأسلمة والاستعراب، مع باقي مفردات هذه المجموعة من حركات إسلامية أصولية.. إلى أحزاب طائفية. وفي الحق، حتى الحزب الشيوعي السوداني لم ينج من التموضع عروبياً في ثقافة المركز [في هذا الشأن أنظر الفصل السابع والثامن من عطا البطحاني، 1986]. ولمراجعة نموذج للنمطية الشمالية المستعلية والمستحقرة للجنوبيين عند بعض الضباط الشيوعيين ومسئوليتهم عن بعض المجازر في ستينات القرن العشرين، ]راجع: نينو كونتران، 1996]. لهذا لا نجد موضعاً للحزب الشيوعي خارج إطار أيديولوجيا الأسلمة والاستعراب. إذن، فهذه هي المشكلة! فما المخرج؟

    المخرج فيما نذهب إليه هو إعادة النظر في خريطة التمفصل الأيديولوجي في السودان. نبدأ بالتيارات التي فصّلنا في أمرها، فنلخّصها على النحو التالي:

    1/ التيار اليميني: وهو الذي يستند على أيديولوجيا الأسلمة والاستعراب والنظام السائد، ومن ثم كل العوامل التي أدت إلى ظهور الدولة السودانية الحديثة بدءً بالفونج، فالتركية، ثم المهدية، إلى الحكم الإنكليزي، انتهاءً بالدولة الوطنية وأنظمة ما بعد الاستقلال التي تسارعت وتائر فشلها في متوالية عددية أوصلتنا إلى ما نحن فيه. ضمن هذا التيار يدخل العروبيون والإسلاميون بما في ذلك القوميون العرب وغالبية الماركسيين السودانيين.

    2/ التيار اليساري: وهو الذي يقوم على الجهوية دونما إطار قومي، مثلما كان يشهد بذلك الحال في الماضي القريب (حركة انفصال جنوب السودان بمختلف مسمياتها التنظيمية، نهضة دارفور، مؤتمر البجا، اتحاد جبال النوبة…إلخ). إن هذه الحركات الجهوية في حال اضطرادها المنطقي يُفترض بها أن تنتهي بالدعوة إلى الانفصال ـ دون التعرض لاستعصاء فنياته. ولأنها تمثل بذلك رفضاً مبدئياً للدولة السودانية القومية، جاز لنا أن يتم تصنيفها كيسار سوداني. بالطبع تنكّب أغلب هذه الحركات أو كلّها هذا الطريق الجهوي الانفصالي، ومن ثمّ استعصموا بعرى القومية فيما نشهد الآن من مآلات.

    3/ تيار الوسط: هذا التيار يقوم على أيديولوجيا القومية السودانية أو التكامل القومي، والتي تستند بدورها على الحقوق الثقافية المتكافئة والمتوازنة بين الأقوام السودانية شرقاً وغرباً، جنوباً وشمالاً، ثم وسطاً. كما تقوم على ضرورة إلغاء واقع الهيمنة والقهر الثقافي بكل تجلياته السياسية، الاقتصادية، والاجتماعية، والدولية (نسبة إلى مؤسسة الدولة). ولأن هذا التيار يتوازن أيديولوجياً ما بين القطبين السابقين، لهذا جاز لنا تصنيفه كوسط. إن هذا التيار ليس تصالحياً، لمجرد كونه متوازناً. وفي هذا نقصد بالتصالح كل التيارات الفكرية التي تسعى للانعتاق من أسر الثقافة القاهرة عبر التصالح معها ـ مثل الآفروعروبية.

    بالطبع لا يمكن أن نشير حركيا وتنظيميا إلى هذا التيار، ذلك لعدم تبلوره الحركي والتنظيمي بعد. إذ إن أغلب تيارات الوسط إما متحركة من اليمين نحو الوسط، أو من اليسار نحو الوسط، الأمر الذي يجعل الوسط نفسه منقسماً، ما بين قطبي اليمين واليسار. وهذا هو ما يعيدنا إلى موضوع دراستنا. إذ إننا نرى أن تيار "السودانوعروبية" يمكن أن يمثل لنا "يمين الوسط"، ذلك إذا ما قام بترفيع وعيه الأيديولوجي وعرف مواقع أقدامه بذكاء لا نظنّ أنه يعوزه.

    إن هذا التقسيم يفتح الباب نظرياً لظهور "يسار الوسط" الذي سنطلق عليه تيار "السودانوأفريقية". إن الرموز الفكرية لهذا التيار موجودة، وهي تملأ جنبات مسرح الفكر السوداني، إلاّ أنها مشوشة الرؤيا، فمرة قد تجدها في صفوف المدرسة الآفروعروبية، وأخرى في صفوف المدرسة الأفريقية، هذا فضلاً عن الشواذ منهم الذين تواءموا بطريقة ما مع المدرسة العروبية ـ كالفيتوري. إلاّ أن التيار السودانوعروبي العبدلابي (نسبة إلى عبدالله علي إبراهيم) هو المآبة التي يتفيأون ظلها في حال تقاصر وعيهم الأيديولوجي. وإنما لهذا يجيء تركيزنا على السودانوعروبية في هذا البحث.

    إن ضرورة إعادة النظر في الأوضاع الأيديولوجية تستدعيها خطورة المرحلة التي تمر بها الدولة السودانية الحديثة. فقد اندلعت الحرب الأهلية في جنوب السودان قبيل الاستقلال من قبل حركات "يسارية" ـ بفهمنا هذا ـ ضد أنظمة "يمينية" (ديمقراطية وعسكرية على حدٍ سواء). بعد ذلك شنت الجبهة الوطنية (حزب الأمة، الحزب الإتحادي الديمقراطي، والإخوان المسلمين) حربها المسلحة من ليبيا ضد نظام مايو. بفهمنا هذا يكون "اليمين" قد حمل السلاح ضد "اليمين". ثم كانت الإضافة النوعية عندما ظهرت الحركة الشعبية لتحرير السودان بجيشها الشعبي، باعتبارها حركة قومية غير جهوية، فكان أن حمل "الوسط" السلاح ضد أحد أشكال نظام الدولة السودانية "اليمينية". والآن نحن نشهد المحاولات المستمرة لدفع هذه الحركة لتبني الخط الجهوي ـ أي باتجاه التيار "اليساري"… ولكن! إن هذه المحاولات لا تنهض من فراغ. إن التموضع الجنوبي لحركة جون قرن ينبع من أنها قد قَدِمَت أساساً من مواقع اليسار الجهوي الانفصالي ممثلاً في مواقف الأنيانيا. إن هذا الصدور هو نفسه الذي يجعلنا نصنف الحركة باعتبارها يمكن أن تكون المكوّن الرئيسي لكتلة "يسار الوسط". وإنما لهذا أيضاً انضمت إليها العديد من قطاعات جبال النوبة، الفور، ثم البجا. (المجموعات ذات البدايات الجهوية سابقاً).

    ثم جاء "يمين الوسط" أيضا يحمل السلاح ضد الدولة! إنهم "قوات التحالف السودانية" بقيادة العميد عبد العزيز خالد التي أعلنت عن نفسها في أواخر 1994م. في إحدى منشوراتها الأولى تذكر قوات التحالف السودانية الآتي:

    "إن قوات التحالف السودانية (SAF) هي حركة سياسية جديدة، تأسست أخريات عام 1994م من قبل مجموعة من الوطنيين السودانيين (مدنيين وعسكريين) بتمثيل عريض لألوان الطيف للمجتمع السوداني. تتكون عضوية الحركة من كل الأصول الإثنية والدينية" [المصدر: SAF-Document 24EC].

    وقد جاء النص بالإنكليزية كالاتي:

    “1- Sudan Alliance Forces is a new political movement founded in the fall of 1994 by a group of Sudanese nationals (civilians and in uniform) representing a wide spectrum of Sudanese society. Its membership is composed of all ethnic origins and religions”.

    إن هذا القول وحده كفيل بتصنيف هذه الحركة ضمن تيار "الوسط" العام إذا ما أخذت الألفاظ حرفياً. لكن هناك مشكلة. إن غالبية أعضاء الحركة هم فعلاً من المنتمين أيديولوجياً إلى المركز الإسلاموعروبي من حيث خلفياتهم الاجتماعية والثقافية؛ بذا يبقى من الصعب أن تنال هذه الحركة دعم الدول الأفريقية السوداء مهما كان حديثها عن نفسها جيداً من زاوية النظر الأفريقية. وتتعقد المشكلة أكثر، لأن بمثل هذا القول الذي اقتبسناه عنها يمكن للدعم العربي ـ الإسلامي نفسه أن يُحجب عنها. ويبدو أن هذا ما حدث بالفعل، لهذا ما إن جاءت أخريات عام 1995م حتى تغير الخطاب قليلاً. فالحركة بحكم أنها أيديولوجياً صادرة عن الثقافة العربية الإسلامية، لا ينبغي لها أن تتطرف أفريقياً لهذا الحد الذي تتساوى فيه ثقافة المركز مع ثقافات الأطراف والهامش. لكل هذا تم تعديل الفقرة الواردة أعلاه لتقرأ:

    "قوات التحالف السودانية (SAF) هي حركة سياسية جديدة، تأسست في أخريات عام 1994م من قبل وطنيين سوادنيين(1) بتمثيل عريض لألوان الطيف في المجتمع السوداني" [المصدر: SAF; “Classified Working Paper, November 25, 1995.”].

    وقد وردت هذه الإشارة الهامشية[(1)] هكذا في الأصل، وهذا شيء محيّر، إذ إن المنشور ليس بحثاً أكاديمياً حتى ترد فيه إشارات هامشية. إنه مجرد بيان سياسي! هذا إلاّ إذا كان الأمر من قبيل إخفاء شيء من باب التراجع مثلاً. بالرجوع إلى الإشارة الهامشية في آخر المنشور نقرأ الآتي:

    "(1) الحركة تأسست بسيطرة للسودانيين الشماليين المسلمين، إلاّ أنها مفتوحة لكل السودانيين بصرف النظر عن خلفياتهم الإثنية. حالياً هناك سودانيون جنوبيون وأعضاء من المناطق المهمشة".

    ويقرأ الاقتباس بالإنكليزية:

    “1- The movement was founded by predominantly Moslem Northern Sudanese, but is open to all Sudanese irrespective of ethnic background. It presently has southern Sudanese and marginalized areas membership”

    لا نظن أن هذا الاقتباس يحتاج إلى تعليق. فالمسألة واضحة. لكنا من قبيل حسن الظن نفسّر تأرجح قوات التحالف السودانية ما بين "اليمين" و"الوسط" على أنه "غباش" في الرؤية أو موازنات سياسية، ونُبقي على تصنيفنا لهم باعتبارهم "يمين الوسط". وكما نعلم، فقد والت قوات التحالف على الانشقاق والانقسام على نفسها أميبياً وسط اتهامات متبادلة جدّ خطيرة متعلقة بانتهاكات لحقوق الإنسان لا مثيل لها إلاّ تلك التي أُثرت عن نظام الإنقاذ أولى سنينه. وكنّا في عام 1999م قد نبّهنا لهذه الأسس الأيديولوجية، داعين لهم في المؤتمر الذي قدّمنا فيه هذا البحث كيما يتّحدوا مع الحركة الشعبية، والتي أبدت موقفاً إيجابياً لم نلمس مثله لدى قوّات التحالف. وبذلك فوّتوا على أنفسهم فرصة أن يصنعوا التاريخ لو أنهم انضمّوا للحركة وفق هذا الفهم الناصع الذي محصناهم به عام 1999م، دع عنك أول منطلقهم. والآن ورد في الأنباء مؤخراً أن الفصيل السياسي المتبقي بعد انقلابه [كذا] على الفصيل العسكري بصدد الاندماج في الحركة الشعبية.

    بعيداً عن أن أشرعة الحركة الشعبية قد ملأتها رياحٌ أخرى، وبعيداً عن أن الحركة الشعبية لم تكن أبداً في حاجةٍ لفصيل سياسي يندمج فيها محدثاً بذلك ربكة آليات التحليل واتخاذ القرار السياسي ... بعيداً عن كل هذا، تبقى هذه الخطوة أشبه بالقصة المتخيّلة التالية: يسعى فريق الهلال ـ مثلاً ـ لهزيمة المرّيخ، فيفشل، ثم يفشل، ثم يفشل. عندها يقرر فريق الهلال أن الطريقة الأفضل التي يمكن بها أن يقفز (بهلوانياً) على فشله تكمن في أن يحلّ نفسه ويندمج في فريق المرّيخ. عندها يصبح السؤال المنطقي هو: لماذا يقبل فريق المريخ بهؤلاء الفَشَلَة؟ والجواب المنطقي هو: ليكتب النهاية لشيئ اسمه الهلال، وبلاش دوشة! ما تجدر الإشارة إليه أن هذا الفصيل السياسي الذي قام بالانقلاب على الفصيل العسكري قد لعب هذه اللعبة من قبل عندما شرع في تأسيس قوات التحالف نفسها. فقد كانوا ينتمون لحزب سياسي لم يسمع به الشارع السياسي بعد، فقاموا بحله، ومن ثمّ الاندماج في التنظيم الجديد الذي أسموه "قوات التحالف السودانية". ما فات عليهم ـ وظلّ يفوت دائماً على جمهور الساسة السودانيين ـ هو أن فشل الفريق، أيما فريق، كان ذلك لكرة القدم أو السياسة، لا علاقة له بالاسم، بل باللعيبة.



    خاتمـــــــة

    إنه في رأينا أن خروج السودان من مأزقه يكمن في أن تعرف كل مجموعة مواقع أقدامها أيديولوجياً. إن مما يبدد الجهد الكبير هباءً، هو أن الكثير من المجموعات تتوهم أنها شيء واحد، بينما هم في الواقع الفرقاء خفاءً. وكم من فرقاء هم في الواقع يجتمعون على الكثير من المشتركات التي لا يمكن أن يستقيم معها أن يكونوا فرقاء. وفي هذا الخضم أملنا كبير في "تيار الوسط" الصاعد بشقيه (حسب فهمنا له). إن هذا التيار هو الوحيد الذي يمكن أن يستشرف آفاق الدولة السودانية القومية، متجاوزا بذلك واقع الدولة السودانية المركزية. إن على قوى الوسط ـ بشقيه السودانوعروبي والسودانوأفريقي ـ أن تجوِّد أولاً من عملية ترفيع وعيها بالواقع، ومن ثم بنفسها، حتى تدرك بصورة موضوعية وعملية المشتركات والمفترقات، بغية تحقيق أكبر قدر من التنسيق والتفاهم.

    لقد آن الأوان كيما يستشرف الشعب السوداني آفاق دولة الحرية والعدل والسلام.



    محمد جلال أحمد هاشم

    Sudan Notes and Records

    مجلة الدراسات السودانية

    معهد الدراسات الأفريقية والاسيوية

    جامعة الخرطوم

    ص ب 321 ـ تلفون المكتب 775820 ـ تلفون المنزل 220202

    السودان

    18 Observatory Street

    Oxford OX2 6EW

    ENGLAND

    Tel. 00 44 1865 553 091

    Mobile: 00 44 (0)7904276623



    * قدم هذا البحث في مؤتمر "السودان: الثقافة والتنمية الشاملة: نحو إستراتيجية ثقافية- مهداة للروائـي الطيب صالح", مركز الدراسات السودانية, القاهـرة, دار الاوبرا المصرية- الجزيـرة, الاربعـاء 4 أغسطس- السبت 7 أغسطس 1999.

    بدأت كتابة هذا المقال في 1992م، وقد فرغت منه عام 1993م في صورته الاساسية. وقد قرئت فكرة البحث في منتدى الفولكلور بمعهد الدراسات الافريقية والاسيوية، جامعة الخرطوم 1992م. وقد فرغت من صياغته في شكله الحالي 1998م، وذلك بعد إضافة ما من شأنه أن يجعله مواكبا للكتابات والادبيات التي ظهرت خلال هذه المدة.

    أتوجه بالشكر لكل من بروفسير أحمد الطيب زين العابدين (رحمه الله)، بروفسير أحمد عبد الرحيم نصر، بروفسير سيد حامد حريز، د. عبدالله على إبراهيم، د. الفاتح عبدالله عبد السلام، د. مدني محمد أحمد، د حامد عثمان، د. بشرى الفاضل، د. بدر الدين عثمان البيتي، د. شرف الدين الامين عبد السلام (رحمه الله)، الاستاذ عبد القادر محمد إبراهيم، د. إدريس سالم الحسن، د. إبراهيم محمد زين، د. عبد الرحمن أبكر (رحمه الله)، الاستاذ عبد المنعم الكتيابي،الاستاذ أحمد خليل، د. مرتضى الغالي ود. أبكر آدم إسماعيل، وذلك لتكرمهم بقراءة مسودة هذا البحث. لقد أبدوا ملاحظات قيمة، في ظني هي التي أعطت هذا البحث ثقله العلمي، بينما أتحمل عن رضى كل ما فيه من أوجه القصور والعيوب وهي كثيرة.

    ثم شكر خاص إلى زوجتي هالة المغربي التي تكفلت بنسخ المخطوطة الاصلية بخط يدها الآنيق، وذلك لاستعصاء خطي على القراءة، فضلا عن كونها الناقد الأول لكل ما أكتب.

    أخيرا وليس آخرا، أهدي هذا العمل المتواضع لأرواح الذين ألهمونا الكثير الكثير، محمد عبد الحي، على المك، وأحمد الطيب زين العابدين.



    بيبليـــــــوقرافيا عربيـــــة:

    - إبراهيم إسحق [1980]؛ "حكاية البنت ماياكايا"، قصة قصيرة، مجلة الخرطوم، عدد يناير، صص 53-78.

    - أبكر آدم إسماعيل [1997]؛ جدلية المركز والهامش، 3 أجزاء، مركز دراسات القومية السودانية.

    - أحمد الطيب زين العابدين [1982]؛ "التشكيل في الثقافة السودانية المعاصرة: محاولة لاستجلاء ثقافة سودانية"، مجلة الثقافة السودانية، عدد يوليو.

    - ..................... [1991]؛ "السودانوية التشكيلية: هل هي آخر المطاف؟"، مجلة حروف، عدد 2/3 (مزدوج)، السنة الأولى.

    - أحمد المعتصم الشيخ [1975]؛ " عناصر أفريقية في الاحاجي السودانية: الاحاجي في منطقة الرباطاب"، بحث مقدم لنيل درجة الدبلوم العالي في الفولكلور، معهد الدراسات الافريقية والاسيوية، جامعة الخرطوم.

    - ................... [1985]؛ "عناصر أفريقية في الاحاجي السودانية بالتفات لمنطقة الرباطاب"، مجلة الدراسات السودانية، العدد الأول، أغسطس.

    - أحمد عبد الرحيم نصر [1986]؛ الاغوات: دراسة تاريخية مقارنة لأغوات المسجد الحرام بمكة والمسجد النبوي، معهد الدراسات الافريقية والاسيوية، جامعة الخرطوم، الخرطوم.

    - إدريس سالم الحسن [1996]؛ "الدين أيديولوجيا"، كتابات سودانية،العدد 2، السنة الأولى.

    - الشيخ محمد الشيخ [1987]؛ التحليل الفاعلي: تحليل الشخصية السودانية عبر روايتي ’موسم الهجرة إلى الشمال‘ و ’عرس الزين‘، الخرطوم.

    - الواثق كمير (إعداد وتحرير)[بدون تاريخ]؛ جون قرنق: رؤبته للسودان الجديد: قضايا الوحدة والهوية، المجموعة الاستشارية لتحليل السياسات والاستراتيجيات، القاهرة.

    - بشرى الفاضل [1996]؛ أزرق اليمامة (مجموعة قصصية)، الطبعة الأولى، ألف للنشر.

    - جعفر ميرغني [1991]؛ "المعربات السودانية"، مجلة حروف، عدد 2/3 (مزدوج)، السنة الأولى.

    - عباس محمد مالك [1987]؛ العرب العباسيون في السودان ’قبائل الجعليين‘: كذب الزعم بالتعريب والامتزاج، دار صنب، الخرطوم.

    - عبد الغفار محمد أحمد [1988]؛ قضايا للنقاش: في إطار إفريقية السودان وعروبته، دار جامعة الخرطوم للنشر، الخرطوم.

    - عبدالله الطيب [1955أ]؛ "النظام والعدل في الجنوب لا يقومان الا بالرصاص"، صحيفة الرأي العام، عدد 3111، السبت 3/9/1955، ص 3.

    - .............. [1955ب]؛ "الجنوب مادة خبيثة شديدة الاشتعال فلا يجب التخلي عنه"، صحيفة الرأي العام، عدد 3125، الثلاثاء 20/9/1955.

    - ............. [1990]؛ الاحاجي السودانية، طبعة 2، دار جامعة الخرطوم للنشر، الخرطوم.

    - ............. [1991]؛ "من تجارب تعليم العربية في أفريقيا"، مجلة حروف، عدد 2/3 (مزدوج)، السنة الأولى.

    - ............. [1992]؛ أصداء النيل (ديوان شعر)، طبعة 5، دار جامعة الخرطوم للنشر، الخرطوم.

    - عبدالله علي إبراهيم (جمع وتحقيق)[بدون تاريخ]؛ جامع نسب الجعليين، معهد الدراسات الافريقية والاسيوية، جامعة الخرطوم، الخرطوم.

    - ............... [1984]؛ أنس الكتب، دار جامعة الخرطوم للنشر، الخرطوم.

    - ............... [1989]؛ "الآفروعروبية أو تحالف الهاربين"، المستقبل العربي، 119، 1.

    - ............... [1998]؛ فرسان كنجرت: ديوان نوراب الكبابيش وعقالاتهم في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، دار جامعة الخرطوم للنشر، الخرطوم.

    - عبدالله بولا [1998]؛ "شجرة نسب الغول في مشكل (الهوية الثقافية) وحقوق الآنسان في السودان: أطروحة في كون الغول لم يهبط علينا من السماء"، مجلة الطريق، العدد 7/8 (مزدوج)، أغسطس.

    - عبد المجيد عابدين [1967]؛ تاريخ الثقافة العربية في السودان، دار الثقافة للطباعة والنشر والتوزيع.

    - ............... [1972]؛ دراسات سودانية: مجموعة مقالات في الادب والتاريخ، دار جامعة الخرطوم للنشر، الخرطوم.

    - عبده بدوي؛ الشعر الحديث في السودان، سلسلة عالم المعرفة، الكويت.

    - فتح الرحمن حسن التني [1990]؛ مختارات من الشعر السوداني المعاصر، دبي.

    - فضيلي جماع [1991]؛ قراءة في الادب السوداني الحديث، طبعة 1.

    - مبارك بلال [1981]؛ "قضية الفن التشكيلي المعاصر"، مجلة الثقافة السودانية، يونيو.

    - محسن عوض [1989]؛ "ندوة الحوار القومي ـ الديني"، المستقبل العربي، 129، 11.

    - محمد المهدي المجذوب [1982]؛ ديوان المجاذيب، دار الجيل، بيروت، شركة المكتبة الاهلية، الخرطوم.

    - محمد الفيتوري [1956]؛ أغاني أفريقيا، القاهرة ).

    - ............... [1964]؛عاشق من أفريقيا، بيروت.

    - .............. [1966]؛ أذكريني يا أفريقيا، بيروت.

    - .............. [1967]؛أحزان أفريقيا، بيروت.

    - .............. [1988]؛ "مقام في مقام العراق" (قصيدة)، مجلة الدستور، الاثنين، 19/26.

    - محمد جلال أحمد هاشم [1999]؛ منهج التحليل الثقافي: القومية السودانية وظاهرة الثورة والديمقراطية في الثقافة السودانية، طبعة 4، مركز دراسات القومية السودانية.

    - محمد عمر بشير [1991]؛ "السودانوية"، سمنار الهوية الثقافية في السودان، معهد الدراسات الافريقية والاسيوية، جامعة الخرطوم، قاعة الشارقة، 20ـ22، أغسطس.

    - محمد فوزي مصطفى عبد الرحمن [1972]؛ الثقافة العربية وأثرها في تماسك الوحدة القومية في السودان المعاصر، الدار السودانية للكتب، الخرطوم.

    - منصور خالد [1979]؛ حوار مع الصفوة، دار جامعة الخرطوم للنشر، الخرطوم.

    - ............ [1993]؛ النخبة السودانية وإدمان الفشل، جزءان، دار الامين للنشر والتوزيع، القاهرة.

    - نور الدين ساتي [1981]؛ "الحوار بين المكونات الثقافية للأمة السودانية"، الحلقة 3، مجلة الثقافة السودانية، السنة الخامسة، العدد 17، فبراير.



    مصادر أوليـة عربية: الدوريات: صحف ومجلات:

    - مجلة الدراسات السودانية، عدد 1/2 مزدوج، المجلد 9، ديسمبر، 1989 [كشاف مطبوعات معهد الدراسات الافريقية والاسيوية].

    - مجلة حروف، عدد 2/3 (مزدوج)، السنة الأولى، 1991 [مراسلات محمد عبد الحي ومحمد المهدي المجذوب].

    - صحيفة أخبار اليوم، 31/8/1994، الخرطوم، [مقابلة مع عبدالله الطيب].

    - صحيفة الخرطوم، عدد 1214، الثلاثاء، أكتوبر 1996، [مقابلة مع منصور خالد – الحلقة الثانية].



    مصادر أوليـة غير عربية:



    - Sudan Alliance Forces (SAF) [1994]; “SAF-Document 24EC”.

    - Sudan Alliance Forces (SAF) [1995]; “Classified Working Paper, not for publication, November 25 1995”.

    بيبــــليوقرافيا غير عربية:

    - Abu Manga, A. & Miller, C. [1992]; Language Change and National Integration: Rural Migrant in Khartoum, University of Nice, and University of Khartoum, Khartoum.

    - Barth, Fredrick (ed.) [1970]; Ethnic Groups and Boundaries, Universitets Forlaget, Bergen – Oslo, George Allen & Unwin, London.

    - Battahani(El), Atta [1986]; “Nationalism and Peasant Politics in the Nuba Mountains Region of Sudan: 1924-1966”, Unpublished Ph. D. thesis, University of Sussex.

    - Cunnison, Ian [1971]; “Classification by Genealogy: A Problem of the Baqqara Belt" in Y.F. Hasan (ed.); Sudan in Africa, Khartoum University press, 1970.

    - Contran, Neno [1996]; They are a Target, Paulines Paulines Publications.

    - Deng, Francis M. [1975]; Dynamics of Identification: A Basis for National Integration in the Sudan, Khartoum University Press, Khartoum.

    - …………………. [1989]; Cry of the Owl, Lillian Barber Press, Inc., New York.

    - Hai,M.A. [1976]; Conflict and Identity: The Cultural Poetics of Contemporary Sudanese Poetry, University of Khartoum, Khartoum.

    - Hasan, Y.F. (ed.) [1971]; Sudan in Africa, Khartoum University press.

    - ………………… [1973]; The Arabs and the Sudan: from the Seventh to the Early Sixteenth Century, Khartoum University press, Khartoum.

    - Herzfeld, Michael [1982]; Ours Once More: Folklore, Ideology, and the Making of Greece, Austin.

    - Hureiz, S.H. [1966]; “Birth, Marriage, Death and Initiation Customs and Beliefs in the Central Sudan", M.A thesis, University of Leeds.

    - ………………. [1977]; Ja’aliyyin Folktales: An Interplay of African, Arabian and Islamic elements, Indiana University, Bloomington.

    - ……………… [1988]; Studies in African Applied Folklore, University of Khartoum, Khartoum.

    - ……………… & A.A.A. Salam (ed.) [1989]; Ethnicity, Conflict and National Integration in the Sudan, University of Khartoum, Khartoum.

    - Ibrahim, A. Ali [1989a]; “Popular Islam: the Religion of the Barbarous Throng”, in S.H. Hureiz & A.A.A. Salam (ed.); Ethnicity, Conflict and National Integration in the Sudan, University of Khartoum, Khartoum.

    - ………………… [1989b]; “Breaking the Ben of Harold MacMichael: The Ja’aliyyin Identity Revisited”, The International Journal of African Historical Studies, Vol. 21, No.2.

    - Khalid, Mansour (ed.) [1987]: John Garang Speaks, London.

    - Mazrui, Ali (1971), “The Multiple Marginality of the Sudan”, in Yusuf Fadl Hasan “ed”, Sudan in Africa, Khartoum University Press, Khartoum.

    - Nasr, Ahmed A. (Ed.) [1985]; Folklore And Development In The Sudan, University Of Khartoum, Khartoum.

    - Rahim, M.A. [1969]; Imperialism and Nationalism in the Sudan, Oxford University press.

    - …………… [1971]; “Arabism, Africanism and Self-Identification in the Sudan”, in Y.F. Hasan (ed.); Sudan in Africa, Khartoum University press, 1970.

    - Sikainga, Ahmed [1996]; Slaves into Worker: Emancipation and Labour in Colonial Sudan, Modern Middle-Eastern Studies No. 18, Austin, Texas.

    - Tayeb, Abdullah (el) [1998]; "On the Abyssinian Hijra”, Sudan Notes and Records, New Series, No.2, pp.159-164.





    http://sudaneseonline.com/sections/kitabat_naqdiya/pages/..._sudano3arabiyya.htm
                  

04-21-2008, 03:31 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    عزيزي عبد الخالق السر
    تحياتٍ نافحاتٍ بالشذى والعبير..
    وبعد
    يكتبُ د.عبد الله علي إبراهيم في كتابه الموسوم : الإرهاق الخلاق ، الصادر عن دار عزة للنشر والتوزيع (2001م) عبارة ً ذات مغزى ايدلوجي مبين : "كان النظام العسكري سيئُ الحظ من جهة المعارضة التي ابتلاه الله بها ".(الإرهاق الخلاق . ص 15) و تحتشد صفحات الكتاب بتنويعاتٍ متفاوتة علي " قماشة " اللازمة الايدلوجية المبينة أعلاه ، حتى استحال الكتابُ كله إلي بروباغاندا رخيصة حيث أنّ النظام العسكري ( المقصود نظام الإنقاذ) قد كان ( في السنة الأولي من سني حكمه) سيئ الحظ من جهة المعارضة( سوء حظه ليس لعلةٍ في تركيبته أو في أيدلوجيته وإنما لعلةٍ في المعارضة) التي ابتلاه الله بها (نظرية الابتلاء الشهيرة: عودٌ علي بدء ) تلك التنويعات تأتي علي النغمة/الثيمة الأساسية للكتاب فأنظرها :
    -المعارضة واصلت أسوأ تقاليد الخصومة ( الجحود ، والفحش في الخصومة ).
    -المعارضة تحسن مراكمة السلبيات ( رغم أنّ الإيجابيات أو الإنجاز لا يقع إلا في حكم العسكر مما يهدم كل مطلب إلي الحكم الديمقراطي ) .
    -المعارضة مسكونة بالسلبيات ( فهي لم تقدّر حماسة النظام لرد الاعتبار للمال العام وغيرها من الإيجابيات والإنجازات ) .
    -المعارضة لجوجة ( فهي لم تعتبر بجدية استخدام الحكومة الراهنة لسيف الدولة وذهبها بصورة مناسبة لتحقيق مشروعات عامة ) .
    - المعارضة اللبرالية واليسارية تحسن المعارضة أو تدمنها لكنها خالية الوفاض من الموهبة أو الخبرة في الحكم (ص 21).
    إلي آخر التنويعات ....
    هذا الكتاب الذي سطّره كاتبه ليوضّح لنا به كم الابتلاء الذي حاق بنظام الإنقاذ ( المسكين ) . هذا الكتاب يا عزيزي عبد الخالق ، بُليت به أنا ، بلاءُ الورد كما في خاطر المتنبئ ، ذلك لأنني ، حينما اندفعتُ في البحث ِ عنه ، كنتُ مأخوذاً بعنوانه ( الإرهاق الخلاق ) وبإعجابٍ قديم بأسلوب عبد الله علي إبراهيم وطوب عبارته الأنيق ، أعني اللغة ، ومونتها المتماسكة ( أحياناً ) وأعني المنطق . ويعلم الله وحده كم العنت الذي لاقيت ُفي سبيل الحصول علي الكتاب ( أنا في السعودية ..فتخيّل ! ) فالعنوان شاعري جميل والكاتب عبد الله علي إبراهيم والغلاف للفنان حسان علي أحمد . أها تاني في شنو ؟ لكن ( يا فرحة ما تمّت ) أسقط في يدي ! فلا الأسلوب أسلوب عبد الله الذي أعرف ولا الكتاب بجودة الطباعة التي تمناها ناشره في مقدمته ، فالعنوان جميل لكن فقرُ العبارة وضعفُ منطقها أحالاني رأساً لفرضية الصديق بشري الفاضل التي قرأتها وسمعتها منه ، يقول فيها ( أحياناً تجد مقالات وموضوعات عبد الله علي إبراهيم معلّقة من عناوينها) غير أني أفضّل أن تختم الفرضية تلك بـ : معلّقة في عناوينها . وكنتُ ، من فُرط حنقي وأنا أكابد خيبة الأمل في الكتاب ،أتجنّب تصحيف عنوانه من الإرهاق الخلاق إلي الإرهاق العولاق . وأتساءلُ : إلي متى نفجع في مثقفينا العضويين ؟ أتساءل .. أتساءل ُ حتى جاء حسن موسي بـ "أشغال العمالقة " : فقلتُ : الحمدُ لله .. ما زال هنالك أمل . و ياها المحريّة فيهو . لكن ( ويا فرحة ما تمّت .. تاني ) عاد حسن موسي وحاد عن الطريق الذي بدأه ليسوّق لنا سلعة عبد الله الكاسدة حتى خشيت ُ أن نفقد الأمل فيه هو الآخر( عندها سأقول :الحمد لله الذي لا يحمد علي خازوقٍ سواه ! ).
    في ختام هذه المداخلة القصيرة أشير إلي عيوب طباعة الكتاب ، وأعجب كيف يقبل مثقف في نباهة الكاتب بمطبوعةٍ يجدُ قارئها نفسه خائضاً ، فيما هو يقرأ ، في مستنقعات التصحيف و بِرك ركاكة الطباعةخذ مثلاً : " والثانية أن أكثر مسائل هذه الخصومة مما عفا عليه الدهر بعد نهاية الحرب الباردة التي طبعت الصفوة السياسية السودانية.بمسها خيرا وشهرا " (ص 5).وغيرها حتى أنه قد قفز إلي ذهني سؤال عبد الله علي إبراهيم القديم : كيف احطوطب عشب اشراقة ؟ و ساءني ، هذه المرّة ، احطوطاب عشب البستاني الفالح ذاته . عشب ؟ هل قلتُ عشب ؟ لا يا عزيزي ، ففي هذا الكتاب تبدّل عشبه النافع إلي ضريسة وحسك وبصل كلاب حتى غدا بستانه ، ذلك البهيج ، بستاناً ذا أكلٍ خمطٍ وأثل ٍ وشيءٍ من سدرٍ قليل .
    ...
    أعتذر للتشويش( أن وجِد )
    وفي انتظارك يا عبد الخالق لتكملة الموضوع .

    http://sudaneseonline.com/forum/viewtopic.php?t=2384&sid=...fa9b7dfc95656868581d
                  

04-11-2008, 11:52 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)



    في نقد "الإرهاق الخلاّق" لعبد الله علي إبراهيم "1-3"

    عبد الخالق السر
    [email protected]

    تمهيد:

    اكثر من 18 عاما على مقالة "...الإنقاذ تطفئ شمعة والمعارضة تلعن الظلام" وأكثر من 7 سنوات منذ صدور كتاب "الإرهاق الخلاّق"* الذي ضم المقالة المذكورة والجدل المصحوب ،غالبا، بصراخ عالي وادانات لا تنتهي في حق الكاتب هو المشهد السائد. مشهد أهدر فيه الكثير من الحبر الغاضب الذي قد "يغني" الحانقين إلى حين، ولكنه بالتأكيد لا يثمن في حقل الفكر والتثاقف ولا أظنه سيضفي فائدة تنتفع بها الممارسة السياسية أو الثقافية.



    أدناه محاولة متواضعة من جانبنا لمقاربة الكتاب نقديا كمفاهيم ورؤى قابلة للفحص والتشكيك، آمل أن تكون إضافة إلى القليل جدا الذي تم في هذا الصدد ولم يكن أصحابه مهمومين بمسايرة مظاهرات الشتم والإدانة بقدر حرصهم على مجابهة الراجل فكريا. فالدكتور عبد الله مهما أختلف رأي الناس في مواقفه الأخيرة، ومهما تباينت تفسيراتهم، يظل واحدا من ألمع المفكرين والمثقفين السياسيين في السودان.



    مدخل:

    لا يمكن للمرء أن ينخرط في نقد هذا الكتاب دون أن يولي عناية واعتبار كبيرين للتيمة الأساسية التي بنى عليها الدكتور عبد الله علي إبراهيم ،مؤلف كتاب الإرهاق الخلاّق، رؤيته أو فكرته "الطموحة" والمتمثلة في مبادرة للخلاص أو المصالحة الوطنيين. (ص39) ، والتي يعتقد أن أوانها قد أزف بمجيء الإنقاذ كتأكيد لعصر (انتهاء السياسة) في ثوبها القديم بعد أن ألمّ بها الإنهاك.

    ويمثل "الإنهاك" في تقدير الكاتب نقطة التحول الكبرى في خارطة الممارسة السياسية متى ما تحولت إلى "إنهاك خلاّق" (ص39) تصطلح من خلاله القوى السياسية على رؤى وشروط جديدة مغايرة لما كان سائد حتى يخرج الوطن من هذه المحنة وينفد من تلاشي وشيك.

    تلك هي خلاصة الكتاب في التحليل الأخير. أما الكيفية أو الآلية التي يتوسلها الكاتب لتحقيق هذه الغاية وتجسيدها واقعا فهي محط مقاربتنا النقدية لهذا الكتاب.



    الإرهاق الخلاّق أو "المساومة" كمنهج للخلاص الوطني:



    المساومة -على ما يبدو- تمثل مفهوما أصيلا في فكر الكاتب السياسي، والاقتراب من هذا المفهوم سيمنحنا قدرة على الاقتراب ابستمولجيا لمقاربة أفكاره نقديا. ولا أعرف في هذا الصدد أحدا افضل من الدكتور حسن موسى** في تناوله للمساومة في أدب عبد الله السياسي:



    "أقول أن انخراط عبد الله في خيار المصانعة و المساومة قديم و سابق بسنين لمساومته و مصانعته مع نظام الإنقاذ.. .... فالمصانعة في الأصل موقف دفاعي.بل هي ـ في تجربة الحزب الشيوعي السوداني مكيدة استراتيجية أصيلة ، بدونها ما كان لهذا لحزب " الطليعي"(اقرأ : الصفوي) الصغير عدديا أن يبقى و يقيم على كل هذا البأس الرمزي الذي يتمتع به، " حدّادي مدّادي"، وسط قطاعات واسعة من السودانيين المتعاطفين مع أطروحاته دون ان يجرهم التعاطف للانخراط في الحزب كعضوية منظمة. و ضمن استراتيجية الدفاع تمكن الشيوعيون السودانيون في أكثر من مناسبة ،من استثمار قوة خصومهم المهاجمين و تحريف اتجاهها و تملكها كوسيلة في رد الأذى السياسي عن جسم الحزب المعنوي و المادي....... قلت أن عبد الله سياسي، وبحكمة السياسي الواعي بقدر نفسه و العارف بسعة ماعونه توصّل لموقف المصانع المساوم كخيار سياسي، و هو موقف غير مريح فداحته ووعورته تملك أن تثني أشجع أبطال المسرح السياسي السوداني، إلا أن عبد الله الذي لا ينشد الراحة زاهد في منصب "أشجع أبطال المسرح السياسي"، و لو شئت الدقة لقلت بأنه الأشجع بين ذلك النفر الذي يعرّف في التقليد المسرحي بعبارة "ضد البطل"( "آنتي هيرو") Anti heroعلى صورة الشيخ أبو القاسم أحمد هاشم، مؤسس معهد أمدرمان العلمي، الذي وقع عبد الله في سحر شخصيته الوطنية المغايرة و انتفع به ، كـ " ضد البطل" ، في التأسيس لمفهوم " نقد الذهن المعارض" ضد الصورة الأيقونية البسيطة للبطل الوطني التي لا تستغني عن صورة " الخائن الوطني".و اختصار التاريخ لمجرد " إذاعة ذكر الأبطال و تحقير الخونة" هو عند عبد الله زوغان عن " الشوف الشامل" في الظاهرة التاريخية.و " إدراك " الشوف الشامل"( و الحقوق محفوظة للشاعرة عائشة بت الملازمي) لا يكون بغير " ذكرى المصانعين" من نوع" ضد البطل" " ممن لن تكتمل معرفتنا بالأبطال بغيرهم، فضلا عن عدم جواز التاريخ ـ كعلم ـ إلا بهم" ( جريدة الصحافة 5 ـ 4 ـ 1980 أنظر " عبير الأمكنة " دار النسق 1988)... (حسن موسى: أشغال العمالقة – www.sudaneseonline.com.



    وإذا كان مبتغى المصانعة عند عبد الله علي إبراهيم – حسب تعبير حسن موسى- هو الشوف الشامل، إذن يمكن القول: إن المساومة ،ومن مفهوم نظري، تمثل فهما دقيقا ومتعمقا لتعقيدات الواقع – خصوصا وجهه السياسي- إلا أنها على أرض الواقع مفهوم متفلّت وزئبقي لا يمكن السيطرة عليه إلا بمشقة وانتباهه تسهران على طرد الأوهام والتفكير الرغبوي والانحياز العاطفي أو الالتفاف الأيديولوجي وكل ما من شأنه أن يصرف التفكير عن حقائق الواقع كما هي ماثلة وليست كما مشتهاة حتى لا تتحول إلى شوف "أعور". ومن هنا سنبدأ: أي تفحص الرؤى والمفاهيم التي أستند عليها الكاتب لطرح مساومته إن كانت ذات صلة بحقائق الواقع التي لا غنى عنها للمساومة ك"شوف شامل" أم هي محض تهاويم وتفاكير رغبوية باعثها إرهاق "شامل" طال الوطن ولم ينجو من تأثيراته حتى الكاتب نفسه؟.



    يتأسس الكتاب على مقالتين نشرت الأولى فيهما في أواخر عام 1990م بمناسبة مرور عام على قيام الإنقاذ – على حد توضيح الكاتب- (ص6). أما المقالة الثانية فقد نشرت عام 1997م بجريدة "المشهد الدولي" اللندنية والتي بنى فيها على مقاله الأول. (ص7).

    واللافت للأمر أن ما يفصل بين المقالتين 7 سنوات كاملات جرت فيهما الكثير من المياه تحت جسر السياسة السودانية تخلخلت معها الكثير من الحقائق والافتراضات من تلكم التي بنى عليها الكاتب رؤيته، ومع ذلك نجده ما زال متمسكا بحذافير هذه الفرضيات في تشبث غريب لا يعززه منطق الأحداث التي تتابعت قبل الشروع في مقالته الثانية والذي صاحبتها هرولة مضطربة تنفي وتؤكد – من حين لآخر - في حقائق الواقع دون أن يترتب على ذلك أي إخلال بالسياق الذي يحكم بنية المقالتين – كما سوف نرى- والذي يلتزم ذات الفرضيات في تشبث غريب وتجاهل أقرب للتعمد لحقائق الواقع التي دحضت بما لا يدع للشك هذه الفرضيات. وما يزيد الأمر حيرة هو أن هذا التجاهل لحقائق الواقع لا يمكن أن يكون مصدره خفة أو عدم دراية بالأمور لواحد من ألمع المثقفين السودانيين، وربما كان هذا مصدر كل هذه الهبة الغاضبة التي قوبل بها الكتاب ومؤلفه حينها وما يزال.





    سيكون منهجنا هو التعامل مع المقالتين كل على حده، والتعامل من ثم في خاتمة المقاربة النقدية مع الكتاب كخلاصة للفكرة الأساسية المطروحة حتى يسهل على القاري تتبع مسار هذه المحاولة النقدية.









    نحو استراتيجية شاملة للوفاق الوطني في السودان

    الحكومة تطفئ شمعة والمعارضة تلعن الظلام:



    كان ذلك عنوان المقالة الأولى والتي يستهل الكاتب في أسطرها الأولى تهنئة النظام على صموده طيلة العام الأول والشماتة على المعارضة في خيبة توقعاتها بزوال النظام قبل عامه الأول:



    "أطفأ حكام السودان الحاليون شمعة عامهم الأول في الحكم ... ويحق لهؤلاء الحكام العسكريين أن يهنيء واحدهم الآخر على هذه الموهبة للبقاء في الحكم لسنة كاملة بعد أن راهن معارضوهم على قصر عمرهم السياسي.). (ص9).



    والتشديد هنا من عندي للتذكرة حتى يتم الانتباه لذلك الضغط المركز والمكرر من قبل الكاتب لفصل المحاولة الانقلابية عن جذورها الايدولوجيه ممثلة في تنظيم الجبهة الإسلامية كما سوف يرد تباعا. كما سوف نرى لاحقا أن هذا الفصل "التعسفي" – من وجهة نظرنا- لم يتم عفوا بقدر ما أنه كان عملا قصديا سعى من خلاله الكاتب أن يفسح مكانا جوهريا (لحياد) القوات المسلحة في أطروحته والتي لا يستقيم مفهوم المساومه الوطنية دونه. وهذا ما سوف نأتي لتبيانه لاحقا.

    نجد الكاتب في هذه الفقرة قد نحى إلى تسجيل صوت لوم خفيف الجرس للحكومة لتقاعسها عن تنفيذ توصيات مبادرة الحوار الوطني التي شارك فيها هو من قبل. ولم يخفي خيبة أمله لهذا التجاهل لكنه لم يصل للنهايات المنطقية للتبعات المترتبة على هذا التجاهل لأن ذلك يخل بفكرة الحياد كمفهوم بنيوي ترتكز عليه مبادرته كما أبنا. ومع ذلك سوف نجد أن هذه "الخيبة" تأتي بمفردات ذات دلالات تعكس حالة التضاد الداخلي الحاد لمنطق الكاتب فيما يخص عناده أمام حقيقة انقلاب الإنقاذ والتي تعريها هذه التفلتات التي تجسد بعض منها هذه الفقرة التالية هذا قبل أن ينهار هذا العناد تماما أمام حقائق الواقع كما سوف نتابع في المقال الثاني:



    "... وهو نظام غير خاف أنه بحاجة إلى إجراءات استثنائية جمة لكي يتشبث بالبقاء. وهي الإجراءات التي شملت الاعتقال والتحفظ والتعذيب والتطهير وتعيين أهل الولاء وهلمجرا...". (ص13).



    وما يعنينا هنا أهل "الولاء"، فذلك يعني بلا لبس أن الكاتب مدرك سلفا بأن هناك قاعدة أيدلوجية تقف وراء النظام العسكري الحاكم يرفض أن يسميها ويصر على إنكار وجودها. في الأسطر التالية يمهد الكاتب لمبادرته للخلاص الوطني والتي تقوم على افتراض أن النظام الحاكم جهة وطنية محايدة تمثل واجهة للقوات المسلحة يمكن مساومتها لصالح حل وطني شامل:



    "... وأمل هذه المبادرة معلق بشكل استثنائي على الفريق عمر البشير رئيس مجلس الإنقاذ الوطني ورئيس الوزراء.". (ص13).



    ولكي تنجح هذه المبادرة فيرى الكاتب تجنب عزلة هذا "النظام" -هكذا بتجريد تام يعتمد مراوغة اللغة- لأن:



    "عزلة هذا النظام خطر يجب أن يتوقاها الوطنيون الحادبون حتى لا ينحدر إلى عصبة من عتاة الأيديولوجيين ومحبي السلطة والراغبين في الثراء بأي طريق تكبد الوطن أسفا وحزنا كثيرا.". (ص13).



    ولأن الحياد ملك عليه كيانه فقد تناسى الكاتب أن النظام قد ميز نفسه كعصبة وعتاة من الأيدلوجيين ومحبي السلطة يوم أن سفه توصيات "الوطنيون الحادبون" في مبادرة الحوار الوطني وجرعهم مرارة التجاهل والازدراء. كل ذلك لا يثنيه عن التمترس خلف هذه الفرضية، بقدر ما يزيد قناعاته بتماسكها كما تبين هذه الفقرة:



    "ولكنني أعلق هذه المبادرة على الفريق عمر قد صدر في مبادرته عن حس صادق بأزمة الحرب والسلام والمستضعفين والأغنياء في بلادنا وبناء على تجربة شخصية حسية ربما لا تتوفر لأشرس خصومه السياسيين المدنيين...". (ص14).



    ولا يكتفي الكاتب في الفقرة أعلاه بإدهاشنا، بل يسعى بإصرار عجيب لصعقنا بما يعرفه هو دون أهل السودان أجمعين، حتى الجبهجيين أنفسهم، في حماسة تعجز راديكالي اسلاموي في قامة إسحاق أحمد فضل الله نفسه، كما تبين هذه الفقرة:



    "إن الذين ينسبون انقلاب عمر البشير إلى هاجس شيطاني هجست له به الجبهة الإسلامية ربما لم يحسنوا كل الإحسان إلى شخصه أو لانقلابه." !!!!. (ص14).



    يمكن هنا تصور الرئيس عمر البشير يقرأ هذه الفقرة وتقفز إلى ذاكرته نكتة العرضحالجي الشهيرة، والتي تحكي: أن صاحب مظلمة جاء إلي كاتب عرضحالات قرب المحكمة بغرض أن يحرر له عريضة كاربة يدخل بها إلي القاضي. فأفهمه العرضحالجي بأن هناك نوعين من العرضحالات: رخيص وغالي فأجاب صاحب المظلمة بأنه يريد الغالية. وبالفعل شرع الرجل في كتابة العريضة، وما إن انتهى وقراءها عليه، حتى انفجر صاحب المظلمة في بكاء مرير. فارتبك العرضحالجي لهذا الموقف الدرامي، وطفق يهدي من روع الرجل ويستفهمه عن سبب بكاءه. فاجاب صاحب المظلمة من بين النحيب: والله أصلي ما كنت قايل نفسي مظلوم الظلم ده كله وما عارف؟.



    ولأن المقام في هذه اللحظة مقام تمثلات كان لابد أن يختم الكاتب شهادته الإيمانية في حق نظام الإنقاذ بهذه الفقرة الفقهية الكلاسيكية ذات الدلالة التي لا تخفى في الأدبيات الإخوانية:



    "إنني لأجرؤ على تثبيت الفريق عمر في الولاية في حين خلعه عنها المعارضون يتخطونه إلى الجبهة الإسلامية القومية كالوالي الفرد. والفريق عمر عندي راع ومسئول عن رعيته. وهذه تبعة عظيمة إنشاء الله. وهي التي ترجع تعليق أمر مبادرة المصالحة الوطنية عليه."!!. (ص15).



    ورغم أن التاريخ أثبت أنها لم تكن تبعة عظيمة ولاشيء، بقدر ما أنها وكالة لم يحسن حتى تسييرها، فإن اللافت للنظر في هذه الفقرة هو ذلك الانتقاء الواعي لمفردات ذات دلالات إيحائية : "والي، راعي، رعية" يعي جيدا الكاتب – كماركسي عتيد وما زال "على حد علمي" – سلبية وقع استخدامها وتناقض معناها السياقي مع مفهوم دولة الديمقراطية التي ينشدها في مصالحته. وهو في تقديري محض استعداء للمزاج العام وامعان في مكايدة المعارضة كما درج على ذلك لاحقا. وإذا كان المزاج العام في تقديرنا هو السواد الأعظم الذي يسعى الكاتب لتمثيله، فإننا نجد للمفارقة أن الكاتب طيلة سعيه الدؤوب للمساومة كان يمعن في استعدائه بهذا النوع من الخطاب المستلف من أدبيات الحركة الإسلامية كما سوف نرى تباعا.



    تتابع صفحات الكتاب ولا نجد الكاتب يحيد عن النسق القائم على فرضية الحياد التي بدونها لا معنى للمساومة التي تمثل فرصة تاريخية للسلام. ولأنه نظام "محايد وثوري كمان" في تقدير الكاتب كان لابد أن يسعى لتثمين منهجه الدرامي في تقويض بنى الدولة الاقتصادية والبيروقراطية والسياسية بدعوى محاربة الفساد:



    "فلو لم تكن المعارضة مسكونة بالسلبية لقدرة حماسة النظام الراهن لرد الاعتبار للمال العام في وقت أصبحت الأموال المختلسة من الدولة عبئا ماليا تكرر ذكره في تقارير المراجع العام. فقد استحسنت مثلا إقدام أعضاء الإنقاذ الوطني لتقديم إقرارات ذمة بما يملكون حاليا في محاولة منهم لتطهير الحكم من دنس الثراء من موقع السلطة...". (ص17).



    نقول درامي لأنه كان يقوم على "البروباقدنا" وتمرير خطط ضرب "الخصوم" سياسيا واقتصاديا وبيروقراطيا من منطلق الإحلال والإبدال أكثر من كونه استراتيجية وطنية هادفة كما أبانته سياسة التمكين التي اتبعها النظام بعد فترة وجيزة. ولو تقبلنا منطق الكاتب حينها وفقا للسياق القائم على فرضية الحياد، ستصيبنا الدهشة وخيبة الأمل حيال صمته في مقالته الثانية التي أتت بعد 7 سنوات لم يعد من الممكن بعدها التشكك في هوية النظام أو صعوبة فحص نزاهته حيال المال العام ومحاربة الفساد كما هلل الكاتب لذلك:



    "مما يحمد للنظام الحاكم مساع له دءوبة للكشف عن الفساد في ميادين لا يمكن اتهامه بأن له غرض سياسي واضح فيها...."!!. (18).



    وهو فساد تبارى أصحاب المشروع أنفهسم في كشفه مكايدة وهدم للمعبد بما فيه أكثر من كونه توبة واحساس صادق بالندم. ومع ذلك يعجب المرء حقا لهذا التمادي في سكب كل هذا الحبر في عدد لا يستهان به من الصفحات ليثمن من هذه المحاولات الدرامية التي تمثل تيمة أساسية – لا جديد فيها- في كل خطابات الأنظمة الانقلابية التي تزعم أنها في الأصل ثورة على الفساد السياسي لا تلبس بعده أن تتحول إلى مستودع للفساد. وربما كان الكاتب محقا في نقده لمفهوم المعارضة من أجل المعارضة الذي تتبناه دوما القوى السياسية الليبرالية واليسارية وفي لجاجة تصرفها عن القضايا الحقيقية والتي تجعلها – على حد تعبيره- في نهاية الأمر:



    ".. خالية الوفاض من الموهبة أو الخبرة في الحكم أو حتى الاستعداد لتلقي دروس عن الخصم في هذا الشأن.." (21)



    ولكن ذلك في تقديري كان "شوفا بعين واحدة" تحسن جيدا تتبع عورات المعارضة وفي نفس الوقت تفرط في حسن الظن بهكذا أنظمة كما درج الكاتب على المبالغة في كل أسطر هذا الكتاب. ثم أن الأمانة كانت تقتضي أن يتدارك ما كان قد دفعه للعجلة في تثمين مواقف النظام في مقالته الآتية رغم أن هذه المواقف استحالت كابوسا على أرض الواقع قبل أن يشرع في كتابة هذه المقالة، وهو كابوس على كل حال لم يفق منه الوطن حتى اللحظة.



    تلاشي انقلاب يوليو في نظام متدرج نحو الشرعية: أحلام سعيدة!.



    كان الكاتب قد وصف واقع الحال الذي تمخض عنه مجيء الإنقاذ بـ"عصر انتهاء السياسة" المستوجب تدخلا من قبل قوى الشعب الحية (سواد الناس) حتى تستعيد فعلها في الحياة السياسية والمدنية. ولأنه يعتبر نفسه واحدا من هذه القوى الحية فقد سعى من خلال هذه المبادرة أن يستثير وعيا لا مناص من استثارته في ظل تلك الأزمة السياسية التي عصفت بالمشهد السياسي السوداني والذي مثله بعصر انتهاء السياسة. وهو مشهد طالما برع الكاتب في وصفه وتحليله في الكثير من أجزاء الكتاب خصوصا المقال الثاني كما سوف نرى. وعصر انتهاء السياسة في تقديره هو:



    "تلك الحالة التي تجد جماعة من العقارب نفسها وهي في زجاجة تلسع أحدها الآخر حتى الموت. فالناس في عهد "نهاية عصر السياسة" لا ينقسمون إلى معارضة وحكومة بل إلى طغم ذات شره قدسي بالحكم وملذاته وعائد. فالسياسة في مثل عهد نهاية السياسة لا تتجه إلى ضبط الجشع ، كما قال انطونيو قرامشي، بل إلى إطلاق سعاره على الناس بغير قيد أو شرط وبصورة فضائحية". (ص7).



    هذا عن عصر انتهاء السياسة، ولكن ماذا عن المبادرة وكيف يراها على أرض الواقع؟ وما الذي ألمّ بفرضية حياد القوات المسلحة؟



    علاقة الإنقاذ بالجبهة الإسلامية: يطفئ جمري أل ما في اعتقادي:



    كان شاعرنا الكبير محمد سعيد العباسي قد كتب قصيدته الغنائية الخالدة (برضي ليك المولى الموالي) مدفوعا بعناد قوامه حالة عاطفية جيّاشة تتأبى على التسليم بحقيقة أن علاقته بمحبوبه قد انتهت لولا أن رشح هذا الشطر من البيت رغم أنف عناده: "يطفيء جمري أل ما في اعتقادي ...." ليكشف واقعا طالما عمل جهده لإخفائه.

    تناهى إلى الذاكرة هذا المشهد وأنا الحظ كيف أن الكاتب وتحت ضغط حقاق الواقع، بدأ يعدل عن وجهة نظره المؤسسة على مسئولية القوات المسلحة الكاملة لانقلاب الإنقاذ، فنجده يشير من هنا وحتى نهاية الكتاب على تورط الجبهة تارة – على نحو ما- وتارة أخرى صراحة وذلك بعد طول إنكار ومكابرة وصلت حد اللوم والتعريض بالمعارضة، وهذا عناد مرده في تقديري تمترس من قماشة المكابرة – وتخريج التعبير ينسب للكاتب- حيال فكرة حياد القوات المسلحة التي تقوم عليها المساومة كما أبنا من قبل. وربما هذا – للمفارقة- هو السبب الذي جعل مثل هذا التصريح لا يخل بالسياق العام للكتاب في أي شيء بقدر ما أنه سيقود مبادرته إلى تبنى أيدلوجية الجبهة في كثير مما يظن أنه يمثل حلا لاشكالات البلاد، وبشكل مثير حقا كما في "اسلمة القوات المسلحة"!!.



    التلاشي المتدرج للنظام نحو الشرعية هي الفكرة المحورية للمبادرة كنهج مفارق لمطلب المعارضة:





    "وقولنا بتلاشي النظام الانقلابي الحالي بعيد عن مطلب المعارضة التي تعمل لتفكيكه وتجريده بصورة متعجلة". (24).



    ولأن الكاتب هنا مطالب بتأكيد أن أهل الحكم زاهدون في البقاء ومن ثم تبقى مساومتهم للتلاشي في الشرعية الدستورية مطلب وطني، كان لابد أن يتبنى نهجا انتقائيا ينصب فيه انقلاب الإنقاذ بأنه حالة استثنائية بقرينة أنه (مشروع إنقاذي) وبالتالي لابد أن يكون زاهدا في الحكم!!، مع أن هذه الإنقاذية هي وصف أضفاه منفذي الانقلاب على أنفسهم وليس بالضرورة توصيفا للواقع المعاش. ولذلك نجده يغدق أمانيه وتفاؤلاته بشأنه:

    "جاء الانقلاب الحالي للحكم بمشروع إنقاذي. والواقع أنه لا بأس في المشروع الإنقاذي في حد ذاته إذا جمع بين اعتناق أساسي للديمقراطية وممارسة إنقاذية فيها قبول قومي وطوعي لأنواع من الحجر والاستثناءات بالنظر إلى مهددات الحرب والشتات الأهلي وقوى الجشع التي تنخر في قماشة بلادنا بلا هوادة".(26-27).



    ورغم أن الكاتب يفرد مساحة لا بأس بها شارحا في منطق متماسك ينم عن معرفة عظيمة لما اسماه بـ"الظاهرة الانقلابية" لا تجد بين ثناياها ما ينم عن أية أمل أو ثقة يمكن أن يوليها إنسان عادي لانقلابي ناهيك عن أن يكون سياسي محترف في حصافة الكاتب:



    "ومع حاجتنا للتعرف النظري الأفضل للظاهرة الانقلابية إلا أنه يسهل التقرير أن الانقلاب عنف صريح من قبل أولئك الذين يريدون حل عقد الحكم والقيادة بتبسيطات إجرائية مثل الحزم والضبط والربط واعلاء أيدلوجية "العمل لا الكلام". ففي أعقاب الانقلاب يأتي التطهير كمخالفة لحق العمل، ويأتي الاعتقال التحفظي كمخالفة لحرية الحركة، والقوائم السوداء كمخالفة لحرية السفر، ويأتي تعيين أهل الولاء كمخالفة لمبدأ الفرص المتساوية، وتأتي دعاوى الديمقراطية الجديدة كغطاء لمصادرة حق التعبير والتنظيم والممارسة. ....." (26).



    إلا أن الدهشة والعجب سيتملكانك حين تجد أن كل هذه المعرفة بخبايا الانقلابات والانقلابيين لا تثنيه عن الإيمان بهذا الانقلاب الاستثنائي والى الحد الذي يدفعه إلى الأمل في نجاح مساومة منفذيه ودفعهم بـ"برفق" نحو الشرعية التعددية فيما اصطلح عليه بـ "التلاشي" التدريجي للانقلاب!!. والأكثر إثارة من ذلك إنّ الكاتب لم يوفر جهدا لتلويم المعارضة حيال موقفها من الانقلاب كمبدأ :



    "ولهذا استعجبت لما رأيت معارضة النظام الحالي لا تكتفي بإدانته كانقلاب لأن أكثر ما يغيظها وتشدد عليه هو أنه انقلاب الجبهة الإسلامية القومية وكأن انقلابا لحزب الأمة أو الاتحادي الديمقراطي أو للشيوعي هو الأفضل أو الأقل ضررا." (26).



    هذا في تقديري انعكاس واضح للاضطراب المنهجي والتفكك المنطقي والتمزق الذي بات يعيشه الكاتب حيال فكرة الحياد التي ما فتئت تتهشم أمام ضغط حقائق الواقع التي لم يعد مجديا إنكارها ، كما سوف نرى، ولكن رغم ذلك نجده يتمسك بالمكابرة واللجوء للتكثيف الدرامي فيما يخص خيبات المعارضة واستخدامها كساتر في محاولة للعبور بفكرة المساومة الهشة إلى درب السلامة. ولما كان ذلك النهج لم يستطع أن يصمد أمام حقائق الواقع، سنجد أن الكاتب قد وجد نفسه مضطرا لأن يسلك نهجا تبريريا انتقائيا ليمرر معه حقيقة قيام القوات المسلحة بالانقلاب لصالح الجبهة الإسلامية بالوكالة وهي حقيقة سنجد أن الكاتب يعمل على تمريرها بالتقسيط في مقبل صفحات الكتاب في محاولة لتجنب آثارها الصاعقة على مشروعه. وسيتبدى في الفقرة التالية بوضوح ما أسميته بتقسيط حقيقة انقلاب الجبهة ، وهو هنا محاولة حذرة تكتفي بتمويه حقيقة العلاقة بين الإنقاذ والجبهة وبشكل يعمل على ترجيح موقفه السابق القائم على استقلالية منفذي الانقلاب أي حياديتهم بتعبير آخر يتسق ومشروع الكاتب:



    "... وقد استنكرت الجبهة الإسلامية القومية فكرة هذا التحالف لأنه في قولها، أن إدخال النقابات والقوات المسلحة حلبة السياسة يخرج بنا عن أصول اللعبة الليبرالية وتمرق الجبهة الإسلامية من العزلة التي بدأت يضرب عليها بإبعادها أو ابتعادها من حكومة الوحدة الوطنية – آخر حكومات الصادق المهدي العديدة- خرجت بنسختها المحدودة من التحالف مع قسم من القوات المسلحة باسم الإنقاذ الوطني. ولعل أكثر ما أضر بالفكرة الإنقاذية الحالية أنها تلبست في أكثر أحوالها برنامج الجبهة الإسلامية القومية حتى أن أكثر نقاطه تطرفا مما جعل المشروع الإنقاذي امتدادا لسياسة الجبهة الإسلامية القومية بطريقة أخرى"!!!.



    كان العباسي في ذلك المشهد الجمالي المهيب يجالد سطوة الحقيقة في سبيل الإبقاء على علاقة عاطفية يبدو أنها كانت تضفي علي حياته معنى بهيا، لذا صادفت كلماته – على مر الأزمان- احتفاءً كبيرا و تعاطفا عظيما، بينما نرى الكاتب الكبير فيما اقتبسناه من فقرات سابقات ولاحقات يمارس إنكارا واضطرابا مفاهيميا يشوش به على حقائق الواقع

    ويدفع بتناقضاته إلى أعلى مستوى كما رأينا وسنرى في لاحق السطور في محاولة غريبة قوامها الاستعانة بالوهم لتغيير الواقع. فالذي أدان من قبل اتهامات المعارضة بضلوع القوات المسلحة ممثلة في البشير بتبني انقلاب لصالح الجبهة الإسلامية وأنبّهم لعدم إحسانهم للرجل أو لانقلابه، يعود ليقر بما أنكره سابقا دون أن يرف له طرف، أو حتى ليراجع موقفه من المبادرة المقترحة إن كان لها حظوظ في ضوء هذه الحقائق "الجديدة" إن كانت جديدة؟ ولكنه بدلا عن ذلك نجده مواصلا انخراطه في نهج رغبوي قائم على ثقة مفرطة في تحول النظام إلى تعددية متدرجة وفي سياق أقرب إلى المعجزة الإلهية:



    "ويتمنى المرء أن نستصحب في عودتنا المتدرجة إلى التعددية وعيا في أحزاب الكثرة أن تسترد نفسها من منطقة الهامش السياسي...... ستعتمد مبادرة المصالحة الوطنية المأمولة على دعامتين أولهما الوطنية السودانية، وثانيتهما التسامح والموهبة في التنازل."!.(30).



    فيما تبقى من صفحات المقال الأول سينحو الكاتب إلى النهج الرومانسي ذلك الذي يطالعك في الكثير مما يعرف بالشعر "الوطني" والذي يدفع الناس إلى التلاحم ونبذ الخلاف .... دون أن يكلف هذا الضرب من الفن نفسه كثيرا بتقصي بنية الأسباب – وهذا مفهوم في سياق علاقة الفنان بالوجود- ولكن ما بال مشتغل عريق في السياسة في قامة كاتبنا لمثل هذا القول:



    "وسنحتاج في باب أخر للوطنية إلى حمل أنفسنا وتدريبها على التنازل أو التخلص من العقائد والمواقف السياسية التي لم نكسب لها جمهرة أو آفاقا في الحوار السياسي الممدود سلما وعنفا. فتمسك كل طرف سياسي بحذافير برنامجه السياسي الممدود سلما – مما تعده الأطراف مبدئية واستماتة وثوابت- قد ينحدر في واقع الأمر إلى نوع من الطائفية لا يطأ ساحتها حوار....... ولعله من الصعب هنا حصر ما يستوجب أن تتنازل عنه الأحزاب السياسية كل على حده لأن هذه الموهبة على التنازل تحتاج إلى ذوق وتدريب تتعهده حركة ثقافية ذات سلطة تربوية.". (32-33).



    وهاهي الرومانسية تبلغ مداها حين يطالب الكاتب الجبهة الإسلامية أن تفاصل في قوانين سبتمبر للصالح العام:



    "تحتاج الجبهة الإسلامية القومية بدورها أن تعترف للآخرين، بعد أن اعترفت لنفسها في مواقع مختلفة، أن قوانين سبتمبر 1983م الشهيرة، هي مجرد اقتراح لقوانين مستمدة من الشريعة وليست الكلمة النهائية لما يمكن أن تكون عليه صورة الشريعة في الدولة السودانية. ولذا صح اعتبار معارضي تلك القوانين من بين المسلمين وغير المسلمين في السودان أناسا ذوي أراء مختلفة ليست بالضرورة ضالة أو ملحدة". (34)



    ومبلغ علمنا أنه يعي جيدا أن قوانين سبتمبر – أو الشريعة في أدبيات الجبهة- هي قميص عثمان الذي زايدت به على جمهرة السياسيين وعامة المسلمين في السودان وبدونه لا يمكن أن تتخيل لنفسها وجودا كتنظيم إسلام-سياسي في المقام الأول معني بامتلاك ذروة السيادة العليا – في تعبير لأركون- بوصفه تجسيدا حيا للمشرع الأعلى. وهي المزايدة التي أكسبتها منعة في الفترة الانتقالية التي أعقبت سقوط نظام نميري وهي التي خرجت منه ملطخة السمعة، فما الذي يجعلها تتنازل عن ذلك وهي في أوج سطوتها بامتلاكها السلطة عنوة؟ ثم أليست الشريعة عنصرا من عناصر قماشة الوعي الجلابي الذي يشتهي تحويل هامشيته في الثغر بين العالم العربي وأفريقيا إلى مركز ذي صلف وغرور؟ (49) لا شيء في حقيقة الأمر سوى تلك الأماني التي ينساق ورائها الكاتب في يقين يحسد عليه. وهو يقين سوف يقوده – كما سوف نرى- إلى طرح مبادرته التي لا يشك في نجاعتها لحظة واحدة:



    ليست مبادرة الخلاص والمصالحة الوطنيتين بحديث خرافة. والواقع أننا نملك أميز مؤهلات هذه المبادرة وهو ما أسميه (الإنهاك الخلاّق)...". (39).



    أما ما هي هذه المؤهلات التي نتميز بها والتي يراهن عليها الكاتب؟ فموعدنا معها في مقاله الثاني والذي كما ذكرنا من قبل أتى بعد 7 سنوات من كتابة هذا المقال.



    هوامش:

    * الإرهاق الخلاّق (دار عزة للنشر والتوزيع – الخرطوم، طبعة 2001م).



    ** د. حسن موسى (أشغال العمالقة – منبر الحوار)



    و لو تفحّصنا مصانعة عبد الله فهي محيرة حين ننظر إليها من مشهد المصانع الكلاسيكي الذي يلجأ للمصانعة كمكيدة تيسر " الفايدة" و الكسب الشخصي السريع.فهي مصانعة بلا فائدة ، مصانعة " حاصل فارغ". ذلك ان عبد الله الذي يعتبره بعض خصومه من " عملاء" نظام الإنقاذ لم يقبض ثمنا يليق بـ " عميل" من عياره الثقيل النادر.فهو لم يتول أي من تلك المناصب، ذات الفائدة، التي يتقاتل من أجلها بعض التقدميين السابقين ( ناس خالد المبارك و الشوش و منو و منو) ممن انبطحوا تماما أمام نظام الإنقاذ.و حتى طلبه بتصديق لاصدار صحيفة لم ينجح في الحصول عليه من سلطات نظام الإنقاذ. فما معنى هذه المصانعة التي لا تعود على صاحبها بأي منفعة مادية؟
    و لو تفحّصنا مساومة عبد الله فهي ليست مساومة الناطق الرسمي باسم مؤسسة جمعية حزبية أو عرقية أو دينية، إنها مساومة فرد ناطق بالأصالة عن ذاته ، لا بغرض الحصول على منافع فردية و إنما للحصول على شروط افضل لممارسة تكاليف العمل العام.و هذا الواقع يمسخ عبد الله لمقام ذلك الرجل الواحد الشجاع الذي يصنع أغلبية("إيميرسون" كان ما نخاف الكضب).و عبد الله بيننا رجل أغلبية،أو هو على اسوأ الفروض: " أقلية ساحقة".
    لكن صبر عبد الله الطويل على شبهات المصانعة و على وحشة المساومة ، ضمن مشهد السياسة الدامي، يحيرني و لا أجد له تفسيرا مقنعا.لماذا يعرض عبد الله نفسه لمكاره موقف " ضد البطل" و البيزنيس البطولي السهل في متناول يده في أي لحظة شاء؟
    هل يمكن تلخيص أمر عبدالله بأن المسألة برمتها ليست سوى تعبير ملتو عن مكابدات شاعر " مجنون" مُحبَط ضل طريقه إلى أرض السياسة ؟و هل انمسخ شاغل الشعر عند عبدالله، الشاعر السرّي ، إلى نوع من إنشغال سياسي عصابي يصعّد الممارسة السياسية لمقام الهاجس الشعري؟ مندري؟، لكن فضاء العمل العام السياسي كان سيفقد الكثير لو كان عبد الله قد استغنى بصناعة الشعر عن صناعة السياسة. و" رزق المساكين عند (الشعراء)المجانين" كما تعبّر حكمة شعبية من تحريفي.

    from sudanile 12 april 2008
                  

04-16-2008, 09:07 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    في نقد "الإرهاق الخلاّق" لعبد الله علي إبراهيم (2-3)

    عبد الخالق السر
    [email protected]

    في هذا المقال يعود الكاتب بعد 7 سنوات ليواصل طرحه لما أسماه بالمبادرة الوطنية. والملاحظ أن هذه الفترة الزمنية الكبيرة ما بين المقالين بكل ما صحبها من أحداث كبيرة ألقت بظلالها على الواقع السياسي في السودان، إلاّ أنها – كما سوف نرى- لم تؤثر بشكل لافت على آراء ومواقف الكاتب التي بنى عليها من قبل مبادرته "الوطنية"، ولكأنها مجرد أرقام وتواريخ من الأيام والشهور لا تنبني عليها أية متغيرات بالضرورة، وهو القائل في معرض تهكمه على المعارضة:

    "ومن مخائل الطائفية الاعتقاد الرصين في دراج الأفكار واعادة إنتاجها بغير اعتبار للمتغيرات". (47).



    كما أن مبادرة الخلاص الوطني التي تشكل جوهر فكرة الكتاب ستتراجع حثيثا للوراء- كما سوف نرى- ليحل محلها دعوة لتقبل أطروحات الإنقاذ الأيديولوجية كسياسة أمر واقع. صحيح أننا سوف نجده بات يعطي اعتبار لحقيقة علاقة الإنقاذ بالجبهة الإسلامية، ولكنه اعتبار محايث يستخدم تارة كتبرير للمضي قدما في المبادرة بشروط مغايرة غير مفصح عنها علنا، وتارة أخرى في سياق مختلف يبدو وكأنه مقحم على فكرة المقال ككل، ينخرط فيه الكاتب محللا للواقع جامعا المعارضة والنظام في سلة واحدة لإضفاء المزيد من التعميم والضبابية للحد الذي يضيع معه مغزى الكتاب من أساسه. وهذا مدخل للإرباك عظيم يسيطر على مجمل بنية هذا المقال والذي يعمل فيه الكاتب ما وسعه للقفز على حقيقة ونوع العلاقة التي تربط ما بين النظام والأيدلوجية التي تقف خلفه – بعد أن أصبحت العلاقة نفسها عصية على النكران كم درج على ذلك في مقالته الأولى. وهو قفز وتخليط تدفعه إليه دفعا فرضية "الحياد" التي عول عليها في مبادرته:

    "أما الجبهة الإسلامية القومية فقد أنهت السياسة فيها بنفسها. فيكفي القول أنها اختارت في مستوى بعض قياداتها الخروج مع القوات المسلحة في يونيو 1989م. ضد الشرعية والدستور، كانت أول ضحايا الانقلاب هو الجبهة الإسلامية القومية ذاتها....". (47).



    فالحديث بعد سبع سنوات من الانقلاب عن خروج "بعض قيادات الجبهة مع القوات المسلحة ضد الشرعية الدستورية" هو بمثابة تغبيش وتخليط للحقائق أكثر من كونه إقرار لحقائق مستجدة – على الأقل بالنسبة للكاتب- ولكنها معلومة باتت متاحة للكل لم تبخل حتى الجبهة نفسها بتأكيدها للداخل والخارج، خطابيا أو على مستوى التطبيق الأيديولوجي للسياسة. وهو على كل حال إصرار غريب لا يرهق الكاتب نفسه في عقلنته لقارئ سطور هذا الكتاب بقدر تماديه وإسرافه في تأكيد على أنه آخر من يعلم طبيعة هذه العلاقة:

    فقد وصف السيد بونا ملوال، الزعيم الجنوبي المعارض، الجبهة الإسلامية القومية ، التي يذاع أنها الحزب الحاكم السري...". (48).



    وكنا قد أشرنا في أكثر من مرة كيف أن الكاتب لا يحترم عقل القارئ حين يراوح به من نفي لعلاقة الجبهة بالانقلابيين أو تأكيد لعلاقتهم من طرف خفي أو صراحة في بعض الأحيان، خصوصا فيما تبقى من هذا المقال، وهي مراوحة سببها افتراض موهوم لم يكلف الكاتب نفسه بتحري صدقيته أو مطابقته لحقائق الواقع، والأكثر دهشة أن يستمر هذا الافتراض كل هذه الأعوام ليغرقنا في لجة التعمية والاستعاضة بالإمعان في تعرية أوجه قصور المعارضة: عقائدية وطائفية -على حد تعبيره- من باب الشوف بعين واحدة. وجريا على عادة القفز بين المواضيع دون اعتبار للسياق أو ترتيب للنسق، يباغتنا هذه المرة بتعرضه لواحدة من اعقد تجليات وجود الجبهة كأيدلوجية حاكمة وتقاطعاتها الحادة مع مأزق الهوية السودانية المستفحل:

    ".. فقد وصف السيد بونا ملوال، الزعيم الجنوبي المعارض، الجبهة الإسلامية القومية ........ بأنها قد حملت الأجندة العربية والإسلامية الجلابية (المجربة الفاشلة) للحكم إلى نهايتها الدموية". (48).



    ويضيف الكاتب في صراحة لا لبس فيها:

    "وقد صدق بونا القول في أن حكم البشير الحالي سيتيح للجلابة أكثر من غيرهم أن يروا أنفسهم في المرايا القديمة المشروخة ذاتها. وهذا تعليق مناسب على خلو وفاض الحكم الحالي ...". (48).



    وهو كما نرى هنا اعتراف صريح لا يحكمه سياق أو يمهد له باعتذار أو تبرير أو حتى يذهب به إلى نهاياته المنطقية، بقدر ما أنه ينخرط فيه بحكم الحقيقة المسلمة ، وهو الذي ما فتئ يرفضها بإصرار. ولكن هذا ليس ما يعنينا في هذه اللحظة بقدر ما أننا معنيون تماما إلى أين يقودنا تحليل الكاتب فيما يخص إشكال الهوية الملتهب؟ وماهي الوجهة التي يركبها منطقه، وان كان من خلاله يمكن إيجاد مخرج صدق للمبادرة الوطنية ؟

    يكشف الكاتب دون مواربة عن خطورة هذا النهج الأيديولوجي وقدرته على التعبئة والتجييش ومن ثم التصادم المحتوم بين الثقافات والاثنيات لأنه على حد تعبيره:

    "... هو أكفأ الأجهزة الجلابية في تعبئة وتعليب المشاعر الدينية والعرقية بين الجلابة. فالحكم مصنوع من قماشة الوعي الجمعي الجلابي الذي يشتهي تحويل هامشيته في الثغر بين العالم العربي وأفريقيا إلى مركز ذي صلف وغرور". (49).



    وكان الكاتب قد وطن نفسه منذ بداية المقال على تسمية السودانيين الشماليين بـ"الجلابة":

    "ورأيت أن استعين بهذه الأمثلة الإنجليزية لكي أراجع السودانيين الشماليين (الجلابة كما سوف تجري تسميتهم طوال هذا المقال..... واصطلح الجنوبيون على إطلاق هذا الاسم على الشماليين قاطبة..) ". (43).

    وهو اصطلاح – كما سوف نرى- يعين الكاتب على سهولة الفرز الثقافي والديني والذي بموجبه سيوجه مشروع مبادرته وجه أخرى تعمل حثيثا للاندماج مع أيدلوجية النظام الحاكم وتستبطن تحريضا واصطفافا لمعشر الجلابة لنصرة هذا النظام ومساومته وفق شروطه– والذي للمفارقة وصف بأنه خالي الوفاض- من منطق أنه لا خيار لهم في ظل واقع الاستقطاب الحاد الذي يلف مشهدهم الوجودي بإطلاق لأن أهل النظام في النهاية هم "إخواننا بغوا علينا" مستشهدا بعبارة وردت في:

    ".... كلمة نشرها السيد وليد مادبو يستنكر على السيد الصادق وضع يده على يد العقيد قرنق لحرب حكومة البشير الإسلامية. وسريعا ما واتاه التراث الإسلامي حين قال أنه مهما وقع لنا من حكم البشير فإنهم "إخواننا بغوا علينا". (51).



    هذا السيناريو المشحون بالدراما والتوترات والتي ليس بالإمكان تفاديها لابد أن يقود إلى اكراهات التمترس خلف أطروحات النظام – مكره أخاك لا بطل- طالما أن النظام خاطر بالاسلام والعروبة:

    "... وهما شارات هوية عزيزة على الجلابي، قد ورطت أيا منا من الجلابة، مهما كان رأيه في الجبهة الإسلامية أو حكم البشير في هذه المغامرة أما بتمنى النجاح أو التوقي لحساب الفشل والخيبة وما سيجره فشل المشروع على الجماعة الجلابية في السودان". (50).



    فالجلابة ، كما يرى الكاتب، "نادي" مهما تباينت مواقف أفراده الفكرية والوجودية والأيدلوجية طالما أنهم مصنوعين من قماشة الوعي الجلابي الذي يشتهي تحويل هامشيته إلى مركز، ولتأكيد هذه الفكرة يحيلنا إلى مسرح التاريخ الذي جسد هذه الاشتهاءات واقعا:

    "خروج المهدي بدعوته يريد أن يفتح المدينة الرومية الكبرى بالتكبير.

    وهتاف الشيوعيون في الخرطوم "لا قومية بل أممية .. سائرين في طريق لينين".

    وعقد الترابي أمميته القومية الإسلامية العربية قصيرة العمر في الخرطوم". (49).



    هذا علاوة على أن ضيق مثقفي هذا النادي الجلابي :

    ".... بخصوبة الخيار، وجدل طيف الألوان مما شهدت به دوائر الخريجين في الانتخابات السودانية...". (49).

    حتما جاعلهم في خصومة مستدامة لا ينفع معها التهوين أو التخبي. وطالما أن هذا هو شأن الجلابي في علاقته بالآخر – أي الجنوبي- فما فعله النظام الحالي ما هو "إلا انهم جعلهم يقفون على منتهى فكرتهم وهويتهم".!! (51) ، ومن ثم فإن:

    "... [و] ادعاء البعض انهم الفرقة الناجية من الورطة هو أسهل الطرق للفرار من تبعة أن نرى أنفسنا بأنفسنا في مرآة محنتنا الوجودية التراثية في السودان". (51)



    هذا الكلام يبدو للوهلة الأولى - وفي تجريده- هو واحدة من محاولات الكاتب المجيدة – بحق- في مقالات سابقة لردع خيلاء ود العرب وشوفنيته الضارة (الماركسية ومسألة اللغة في السودان). ولكن السياق هنا – كما سوف نتتبع- لا يشيء بذلك، بقدر ما أنه حشد في مقابل حشد مضاد طالما أن النظام الحاكم قد ورط النادي الجلابي في استقطاب لا يجدي معه التهرب. ولكي يكتمل مشهد التسليم والخضوع طوعا أو كرها للمشروع الإنقاذي، كان لابد أن يستمر الكاتب في التكثيف الدرامي على طريقة التضاد Contrast عارضا الوجه السالب لـ"الآخر" -والذي يعرف هنا بالجنوبي - الذي لا يرى في الجلابي إلاّ جلابي مرة والى الأبد:

    "فبينما تقرا لجلابة من كل شاكلة ولون تفسيرات متفاوتة الخط في الإقناع لانقلاب عبود 1958م (تفسيرات طبقية، طائفية، حرب باردة، استعمار جديد الخ) لن تجد من بينها تحليلا واحدا يتهم الجلابة، هكذا، بتدبير الانقلاب لإغراق مطالب البرلمانيين الجنوبيين بالحكم الفيدرالي لاقليمهم. وقد كانت مؤامرة الجلابة هذه مما ورد في تحليل الجنوبيين لانقلاب عبود. فالجلابة بلا استثناء حقيقة من حقائق القوى التي تحتل حيزا مقدما في النظر الجنوبي السياسي .......... صب العقيد قرنق جام ماءه البارد على تلك الأفراح (انتفاضة أبريل 1985) قائلا ان الذي جرى هو مجرد تغيير سطحي .....من مايو ون الى مايو تو". (52).



    وفي ظل هذا المشهد الحزين لواقع الاستقطاب الحاد الذي رسمه الكاتب بعناية أصبحت خيارات تعامل الجلابي مع مسائل الآخر الجنوبي في غاية الشح والعنت:

    " ولما كان الطريق إلي السداد السياسي الجلابي حيال الجنوبي محفوفا بالاستحالة لم يعد أمام ساسة الشمال إلا إحدى طريقتين للتعامل مع مسائل "الآخر" الجنوبي. أما الطريقة الأولى فهي الانتهازية التقليدية التي تحول الشأن الجنوبي الى مفردة من مفردات لعبة كراسي الحكم بين أعضاء النادي السياسي الجلابي الحاكم. أما الطريقة الثانية فهي عقدة الذنب الليبرالية/ اليسارية التي تحول المصاب بها إلى طاقة سلبية ،متسخطة، قليل النفع "للآخر" موضوع شفقته وقليل الخير لنفسه وأهله. ولهذه الطريقة مداخلها الانتهازية الخاصة كما سنرى". (55).



    كل ذلك من شأنه أن لا يجعل الجلابي -أي جلابي- أن يطمع في مأمن السداد السياسي حيال مسألة الجنوب والقوميات التي لفت لفه، لأن الجلابي من وجهة نظر "الآخر" الجنوبي:

    "... متورط في جلابيته لأن عنصريته العربية الإسلامية هي مسلمة رئيسية في تحليل الجنوبي ... لوقائع السياسة في السودان. (51).



    هل أبدو متعسفا حيال تصوير الكاتب لواقع الاستقطاب السياسي الحاد كما هو مجسد على أرض الواقع؟ ربما. ولكن ما الحيلة إن كان السياق يجرنا جرا في هذا الاتجاه. فالكاتب الذي حاول تنبيهنا للمأزق الأيديولوجي للنظام الحاكم وتقاطعاته الحادة مع الهوية ، لم يبدي أي موقف واضح اتجاه هذا المأزق – حتى نحسن الظن - بقدر ما أنه انخرط طوعا في الترويج لرؤية النظام – كسياسة أمر واقع جلابي- في بادي الأمر ثم الحماس في تبيين مزاياها كما سوف يرد. هذا دون أن يفطن إلى أنه فقد البوصلة تماما اتجاه مبادرته العليلة أصلا – والتي سيطول انتظارنا جدا لما ستفصح عنه- مفضلا على ذلك لعبة المباغتات والإرباك إمعانا في تشتيت القارئ حتى يجعل من الصعب الإمساك بأفكاره وسياق تسلسلها ووجهه منطقها. ثم أن الإشارات التي يرسلها والتي يمكن الإمساك بها وتحليلها في سياق استسهابه لإشكال الجلابي والآخر الجنوبي تعزز من هذه الفرضية خصوصا وأنه في نهاية المطاف يبدو خالي الوفاض من أي حل موضوعي ينصبه ممثلا للسواد الأعظم الذي من المؤكد أنه لا يشاركه هذا الحل وان شاركه بعض التشاؤم بشأن واقع الحال الماثل ومن ثم فإنه يرفض هذه الصورة القاتمة والحادة لسيناريو الاستقطابات المرسومة بعناية من قبل الكاتب. وتكتمل المفارقة الساخرة حين يعمل الكاتب على تقريع الليبراليين بكشفه زيف حجتهم حيال توقهم لبناء سودان علماني:

    "..إن حجتهم الساطعة لبناء سودان علماني ليست هي توقهم أنفسهم (في حال عروبتهم واسلامهم خاليين من الموانع الشرعية) إلى التمتع بالعلمانية كنظام عصري، أنيق، عادل صالح. فهم يشددون على العلمانية لا كنظام سعيد مقنع في حد ذاته بل لأن الدولة الدينية ستجحف بأهل الملل والنحل الإسلامية في الجنوب..... وقد ساقت هذه الخطة اليساريين والليبراليين الجلابة إلى ضلال كثير فقد نفوا أن يكون إسلامهم أو عروبتهم هي العروبة أو الإسلام المعروفان بالألف واللام، بل روجوا لأن افريقيتهم قد روضت أو لطفت أو مسخت هذا الإسلام والعروبة. وهذا زعم عنصري في حد ذاته غير خليق بالليبراليين لأنه ينطوي على أبغض النظرات حيال الأفريقيين الذين ما اعتقدوا في شيء من إسلام أو مسيحية حتى قيل أن هذه الأديان لم تعد اعتناق الأفريقيين لها كما جاءت من أصولها الأوربية أو الشرق أوسطية، بل تهجنت وباخت وانمسخت". (58-59).



    ليأتي هو بنفسه ليتبنى ذات "الضلال الكبير" حين يعمل على التشكيك في إسلامية سلوك أفراد القوات المسلحة العاملة بالجنوب مستشهدا بكتاب "الإنقاذي" البارز العميد الطيب إبراهيم محمد خير، كما سيرد لاحقا.



    موات الوطن أم فتوى الأسلمة:

    وسط كل هذا الخضم الاستقطابي الحاد للواقع السياسي السوداني يصور لنا الكاتب القوات المسلحة ككائن أسطوري يعمل خارج سياق الواقع السياسي-الاجتماعي الذي تنتمي إليه:

    "... فقد ظلت كالسيف وحدها، وخلال أربع عقود تقريبا، تعمل تحت أمر أزلي لضبط الجنوب في إطار الوطن..". (60).



    ومع أنه سيد العارفين بأن القوات المسلحة منذ سودان ما بعد الاستقلال ظلت بؤرة الاستقطاب السياسي بين أطراف النادي الجلابي المتنازعة على كعكة السلطة وانعكاس فاضح لتوترات واستقطابات هذا الصراع العدمي المنهك، للحد الذي وصل بها في عهد الدولة الدينية الراهن أن تصبح قوى جهادية خالصة ثقافة ووجهة تعمل ما وسعها لتثبيت أركان المشروع الأيديولوجي لدولة الجبهة الدينية حتى ولو كان الثمن الوطن نفسه رغم حرص الكاتب على النفي المتكرر وتلويم من تحدثه نفسه ، مع أن ذلك واقعا معاشا وحده الكاتب الذي لا يرغب في رؤيته:

    "... وليكن في هذا الاستسهال في القول والفعل عظة للجلابة ليعتبروا أفكارا شتى يذيعونها الآن حول القوات المسلحة. فقد فرغ أكثرنا من تصنيفها كمليشيا مسلحة للترابي وصحبه ...". (64).



    فما مرد ذلك إلاّ لأنه لا يصب في مصلحة مساومة هذه المؤسسة والتي وان عزّ أن تكون محايدة كما رهص في مقاله الأول، فلا باس أن يكون نزوعها نحو الأدلجة أو "الاسلمة" – على نحو أصح- له من المنطق والوجاهة ما يجب أن يكون مسئولية تبريره ما يقع على عبئه كدين مستحق:

    "ظل الأمر بالحرب قائما والوطن نفسه كفكرة وكيان يخبو ويتبلد. فلا أحد من ذوي الأمانة يرهن إشباع حاجياته المادية والروحية به. وصوت الناس بأقدامهم المهاجرة يأسا في جدوى الوطن. وأهم من ذلك كله فقد جعل موات الوطن المؤسسة العسكرية في حرج إزاء مهمتها الأولى: الاستشهاد. فكيف يستشهد المرء لفكرة كاسدة ووطن مشوب. وسنتعرض لذلك في حينه حين نناقش أسلمة القوات المسلحة". (61).



    سيغفل الكاتب ، أيضا، في هذا التصوير التراجيدي لمصير الوطن أن يشير إلى أن "ديننة" الدولة على يد النميري بإيعاز من الجبهة الإسلامية كانت عاملا جوهريا من عدة عوامل أسهمت في إشعال فتيل الحرب مجددا ومن ثم موات الدولة المتباكَى عليه والذي لا حل له سوى باسلمة هذه المؤسسة في حادثة "إصحاح سياسي" Political correctness عزّ نظيرها كما سوف نرى.



    الجهاد: هل هو دسيسة ترابية أم واقع مؤسسي؟ (65)

    تحت هذا العنوان يبدأ الكاتب مهمة "الإصحاح السياسي" لكي يكسب مشروع أدلجة القوات المسلحة الذي كان يجري وقتها على قدم وساق مشروعية ومبرر مستفيدا من صورة موات الوطن التراجيدية التي كان قد رسمها، وهي على كل حال صورة بلاغية مستمدة من الخطابات الحماسية "الجلابية" للبشير في أيام الإنقاذ الأولى عاكسا فيها الحالة السيئة للقوات المسلحة وأنه لولا انقلابهم هذا لكان قرنق على مشارف الخرطوم!!.



    يبدأ الكاتب هنا – وكالعادة- بما كان قد نفاه سابقا واستنكره على المعارضة:

    "يحمل المعارضون على الجبهة الإسلامية طبعها حرب الجنوب بطابع "الجهاد" وشحن أداء ورموز الجيش المفروض فيه القومية ، بمفردة ثقافية واحدة وحيدة دون غيرها من زخم المفردات المتنوعة الأخرى في الوطن. غير منكور أن الجبهة الإسلامية القومية سعت سعيا حثيثا للتأثير على القوات المسلحة............ وليست الجبهة بنشاز في ذلك". (65-66).

    ولا يندرج مفهوم الأدلجة هنا في خانة المباح لأن الجبهة ليست بـ"نشاز" في ذلك – وكأن فعل الآخرين يكسب انقلابها وجاهة- بل يستطيل ليأخذ صيغة الواجب الوطني النبيل:

    "ولكن الأهم من ذلك في التحليل الثقافي للجهاد في القوات المسلحة أن نتأمل المحنة التي لمحت إليها آنفا: وهي كساد الوطن بينما المطلوب من القوات المسلحة أن تحمي بيضته". (66).



    أما الأعجب من ذلك في ملابسات هذه التبجيلية أو التظاهرة التسويقية فهو ما يرد في هذه الأسطر:

    "على سلامة القول بأن الجبهة الإسلامية قد طبعت القوات المسلحة بطابع الجهاد، إلا أنه من المفيد أيضا تأمل قابلية هذه القوات للأسلمة في ملابسات الأمر الأزلي (قريب من العبث) لها بالحرب للذود عن بيضة وطن مبني على المجهول....". (68).



    هذا عين الكلام المجاني. فكيف يستقيم منطقا أن تكون القوات المسلحة لها قابلية للاسلمة؟ ولماذا الأسلمة تحديدا في مؤسسة تنتمي لوطن متعدد الأديان؟ هل للأمر علاقة بذهنية الجلابي الذي يسعى الكاتب لتقريعه في مناسبات أخر بينما هو يملأ على الكاتب أقطار نفسه وينصبه وقت "الحارة" وصي وقيّم على هذا الكيان المسمى السودان؟ لن نعدم إجابة على هذه الأسئلة لأن الكاتب فيما تبقى من مشهد "الإصحاح السياسي" لأدلجة القوات المسلحة سينزل إلى الساحة متحزم ومتلزم في لبوس الجلابي دونما مواربة.



    القوات المسلحة النهج الإسلامي، لماذا؟ (68)

    في هذه الفقرة يبلغ الكاتب بـ"الإصحاح السياسي" Political Correctness منتهاه، ويمارس "شقلباظ" لغوي ومفاهيمي حتى تستسيغ فكرة تقزيم مؤسسة يفترض أن تكون محايدة كالقوات المسلحة لكي تعمل كجناح عسكري أيديولوجي يعمل بآمرة النظام الحاكم. ولا يهم الكاتب هنا عن أي إسلام يتحدث فهو يغفل حقيقة بدهية وهي أنه لا يوجد وجه واحد لاسلام متفق عليه بقدر ما أنه توجد أيدلوجيات دينية تمثل تيارات ورؤى متباينة ومتصادمة فيما بينها في أغلب الأحوال، وكلها تتفق أنها في أحسن أشكالها لا يمكن أن ترقى لطموحات مجتمع مدني يستمد من التعددية السياسية عافيته واستقراره . هذا فضلا عن أنه لا يوجد مبرر – على الإطلاق- أخلاقي أو سياسي في أن تتبنى مؤسسة وطنية كالقوات المسلحة عقيدة دينية في بلد متباين العقائد. والغريب أن الكاتب كان قد استهجن في فقرة سابقة عداء الليبراليين اليساريين لحق تقرير المصير ووصفه بالتطفل العجيب على المسألة الجنوبية وذلك حين :

    " استولوا على حق وصف من هو الجنوبي الذي على الخطة الجنوبية الصواب ومن هو المنحرف، والخائن وبائع ذمته للشماليين بحفنة دولارات..". (59).

    ليفاجئنا هو نفسه بتطفل عجيب في شأن من أدق شئون المؤسسة العسكرية يعطي نفسه الحق لتقرير أمره.!! مع أن دوره كمساوم من المفترض أن يحتم عليه بأن لا ينزلق إلى مثل هذه المسالك الوعرة في دروب الأدلجة العقيمة للمرافق الوطنية. إن عقيدة القوات المسلحة تكمن في إيمانها بالوطن، وان فقدت إيمانها بالوطن لا ينتظر من الأيدلوجيات الدينية الضيقة الأفق أن تستعيضه إياها. ولكن الكاتب الذي زهد في مساومة نظام "محايد" لم يعد موجودا بات عازما الأمر على الخوض بنا في دروب تبني سياسة الأمر الواقع لنظام "ابتزنا" – كما يزعم- في أعز ما نملك كجلابة: العروبة والإسلام، ومن ثم لم يعد أمامه سوى تسويق هذه "البيعة".



    المتسبب يصدق الطيب "سيخة":

    هذا مثل من عندياتنا – حق التعبير محفوظ لحسن موسى- وهو يصلح تماما في سياق مقاربتنا لرأي الكاتب فيما يخص اسلمة القوات المسلحة والذي يستند فيه بالكامل على كتاب خاصة العميد طبيب الطيب إبراهيم محمد خير:

    "إننا نحتاج إلى فتح فكري مناسب بشأن أسلمة القوات المسلحة. ويؤسفني أن تكون آلتي إلى هذا كتاب "الطريق إلى بور" للعميد الطيب إبراهيم محمد خير، وزير الإعلام في نظام البشير. فالرجل مختلف عليه جدا كما لا يخفى. وأحسبه ربما ندم أنه استخدم "السيخ" في الاعتداء على معارضيه خلال دراسته الجامعية، حتى سمي بـ"الطيب سيخة" بينما الرجل يملك هذا البيان الطيب. فلو قرأت الكتاب بغير اشتباه، كمرجع نادر، عن باطن حرب الجنوب انصرف أكثره إلي الرواية لا التحليل، لبدأ لك إن الإسلام ربما كان افضل ما حدث للقوات المسلحة في ملابسات القرار الأزلي العبثي لها بحرب الجنوب..." (69).



    كل هذه الاعتذارية واللجلجة على هذه الانتقائية العجيبة لم تسني الرجل عن تبرير أمر في غاية الخطورة يتعلق بواحدة من أهم المؤسسات السيادية بحجة "موات الوطن أو كساده كفكرة ملهمة" ومن ثم بيع مؤسساته في مزادات الإصحاح السياسي لصالح جهابذة الدولة الدينية. أما الفتح المبين في كتاب العميد والذي "اقنع" الكاتب بأفضلية أسلمة المؤسسة العسكرية هو:

    "... تلمس – أي العميد- أنه في غيبة الفكرة العسكرية الوطنية الملهمة وبؤس رباط الخيل، تحول الضباط والجنود إلي عقائد في السحر السفلي مثل ارتداء الحجاب الواقي من الرصاص، والاستئناس بالتلفزيون البشري الذي يجلب المعلومات كفاحا عن العدو، والكجور (اسم للإمام في عقائد جبال النوبة السودانية) الذي يفسد المطر لا يصب في مسار الحملة.....". (69).



    هذه الانتقائية تذكرك بأمر بعض الجماعات السلفية التي تبني رؤاها على أوهى الأحاديث أو حتى المنحولة منها لتثبيت رؤية مسبقة وتنسخ بها أحكام النص المقدس – وكل هذا مفهوم في سياق البنية الذهنية والمفاهيمية التي تحرك هذه الجماعات- ولكن ما بال الباحث الكبير والسادن العريق في دروب المعارف الوضعية؟ هذا – في تقديري- هو حال من لم يعد يأبه بقارئه أو احترام عقله. فعشرات الكتب ومئات المقالات دبجت من مختصين وباحثين في الشئون العسكرية منهم من ينتمون إلي هذه المؤسسة فندوا على مدى أزمان إشكاليات حرب الجنوب والمشكلات المعنوية والمادية للقوات المسلحة ولم نجد واحدا من بينهم يرى الحل في تدينها أو أدلجتها سوى هذا العميد الاسلاموي الأمين لأيدلوجيته. وهو في هذا متسق تماما مع محددات وعيه ورؤيته ومفهومه لما يجب أن يكون عليه الوطن وبالتالي مؤسساته.

    إن الممارسات العقائدية المتفشية داخل القوات المسلحة كواحدة من حقائق الوجود الاثني الديني لمجتمعات السودان لا تخفى على أنثروبولوجي حصيف في مقام الكاتب لولا الانتقائية والغرض الذين يدفعان به لوجه يرومها. أن الذين يعتقدون في هذه الممارسات من كل ألوان الطيف الديني داخل المؤسسة العسكرية لا يتملكهم شك في نجاعتها ولا يفصلونها من أديانهم، وان كان هذا لا يروق للعميد الاسلاموي فلأن هذه الممارسات لا تتسق وأيدلوجيته ، وهذا مفهوم من رجل يمثل واحدا من أكثر الذهنيات دوغمائية – باعتراف الكاتب نفسه- بلغت به الممارسة على أرض الواقع أقصى تخوم التعصب، فبداهة ما يعكسه من احتقار لهذه الممارسات هو انعكاس وإسقاط عمودي لمبادئه وقيمه الأيدلوجية التي يرى أنها العقيدة المثالية للقوات المسلحة. وليس في هذا جديد، إنما الجديد – وبالطبع غير المفيد- أن يرى فيها الكاتب مسوغا لترويج فكرة بائسة بكل المعايير اسمها أسلمة القوات المسلحة. وحتى لو أخذنا منطق الكاتب نفسه المستمد من مرجعية العميد الاسلاموي سنجد أن مآل فكرة الأسلمة على أرض الواقع انتهى بها المقام إلي "الشعوذة" و"السحر" و"الدجل" وليس ذلك بخاف على أحد إلا الكاتب الذي يبدو أنه مهموما بتثبيت ما كان قد نعاه على الآخر الجنوبي بموقفه من "مطلق الجلابي" بأنه جلابي مرة والى الأبد. وها هو ينكص على عقبيه ليؤكد لنا وللآخر "الجنوبي" بأن الجلابي جلابي مع سبق الإصرار:

    "...وكمسلم، فإنني اعتقد أن جيشا محصنا بالإسلام لهو أفضل عندي من جيش يتعاطى السحر ويركن إليه، فإذا كان البديل لجيش محاصر مجهول هو السحر فاسلامه أوقع وأشفى".(70).



    قلت اكثر من مرة أن الكاتب لا يذهب برؤاه إلى نهايتها المنطقية لذلك لا نجده يتوقف كثيرا أو قليلا عند ظاهرة "السحر" والشعوذة" التي آل إليها (الإسلام) في ظل أدلجة القوات المسلحة: فالسحب التي تتدلى لمستوى منخفض لتظلل "المجاهدين" والنحل الذي يقوم بمهمة الجاسوس منذرا بهجوم وشيك، والقرود التي تتقدم الصفوف لتقوم بمهمة تفجير الألغام، ورائحة المسك التي تعطر أجواء القتال حين مقتل أحد المجاهدين، أو ذلك النبع الذي يتفجر من ثقب الرصاصة في جسد الشهيد بدلا عن الدم!!...الخ من الحكايات الراسخة والمتداولة رسميا عبر برامج ساحات الفداء أو الدفاع الشعبي كلها لا تفت من عضد ميزة الأسلمة عند الكاتب لأن الأفضلية هنا مفهوم جلابي يرتقي ويثمن من الدين الإسلامي بين بقية الأديان لأنه شارة هوية عزيزة عليه كما تفضل الكاتب لا فض فوه. إذن ماذا تبقى بعد ذلك من المصالحة أو المبادرة الوطنية؟؟ أو بالأحرى أين هي في زحمة هذا الاستقطاب الذي يخوض فيه الكاتب حتى الركب؟ وحق التعبير محفوظ للكاتب.



    مالآت المبادرة الوطنية: أوب ولع .. أوب طفئ:

    (أوب ولع .. أوب طفئ) من المسرحيات الأخيرة للكاتب، لم اسعد بمشاهدتها إبان وجودي بالسودان في منتصف 2006م، ولكن كثيرا ما شدني عنوانها لما يحمله من ذكريات لصيقة بمرحلة الصبا لنا معشر الإقليميين الذين كان يشكل شح التيار الكهربائي الدائم وتأرجحاته التي تنعكس على أمزجتنا ملمحا بارزا لواقعنا الحياتي الموسوم بالمفاجآت غير السعيدة. والعنوان كما افهمه من دلالاته يرمز إلى خيبة الأمل المخيمة على المشهد الحياتي السوداني مجسدا في واقعه السياسي الذي سرعان ما تموت فيه أي بارقة أمل لتحل محلها الخيبة والإحباط. هذا عين ما نلمسه حين نجيل النظر بحثا عن المبادرة الوطنية التي جند لها الكاتب نفسه والتي لم ينبنا منها في نهاية الكتاب سوى هذا العنوان الشاعري الفخيم ( الإرهاق الخلاّق) ومقدمة واعدة يحسن من خلالها الكاتب وصف واقع الحال الذي أفضى إلى عصر انتهاء السياسة. وهذا عين الأمل الخادع الذي يرسله انبثاق النور فجأة (أمك ولع)، ليلفنا ظلام شامل (أمك طفئ) منذ السطر الأول للمقال الذي حاول من خلاله اختراع حيادية النظام العسكري الحاكم لتنوبنا بذلك مساومة موهومة لا تقف على أرجل بقدر ما أنها تقف معلقة في سماء الأماني. لا يحكها منطق أو موضوعية، يسكننا ظلام تهاويمها وقلبها لحقائق الواقع بشكل مريع لتعود إلينا بعد 7 سنوات في خطاب آخر أكثر شحوبا والتفافية وفي شكل أكثر غموضا والتباسا يقبل كل التفسيرات السالبة. خطاب لا علاقة له بالوسطية أو هموم سواد الناس كما ظن الكاتب. والطريف في الأمر هو أن الكاتب في خضم حمى الاستقطاب الأيديولوجي التي خاضها باسم الجبهة نسى و زهد تماما في مبادرته، واصبح في شاغل عنها بتنويرنا ونصحنا كـ"جلابة" بما يجب علينا عمله في توقي شرور أنفسنا.!! والحقيقة يعجب المرء من هذا التناقض الذي يلف أطروحة الكاتب: فكيف لنا كجلابة أن نتوقى شرور أنفسنا في حين أن كل ما قام برسمه من تصورات لا تعمل إلا على تنشيط وتكريس هذه الشرور الجلابية بموالاتها لاسواء نسخة يمكن أن تنتجها قماشة الوعي الجلابي؟. وفي الختام كإجراء روتيني تقتضيه تقاليد التأليف عاد ليتذكر المبادرة ليختم بها كتابه. لتكون ما اصطلح عليه بـ"لمة البوش" ليتدارك من خلالها الجلابة محنتهم الوجودية:

    ".. فلربما اهتدوا إلى خطة لصون البلد من الشتات، وأحسنوا إلى مساكنيهم في الوطن، وحقنت الدماء....". (73).



    أما اصل وفصل "لمة البوش" هذي فهي "الجودية" على نسق ما كان يقوم به الشنقيطي:

    "وكل بوش جلابي يسبقه "شنقيطي" والإشارة إلى المرحوم محمد صالح الشنقيطي، القاضي والسياسي البارز على أوائل عهد الحكم الوطني الذي صار رمزا لمؤسسة "الأجاويد"...". (74-75).



    هكذا نقنع مما أسماه الكاتب "نحو استراتيجية شاملة للوفاق الوطني في السودان..) (9). بـ"جودية" لا يعرف أحد -حتى الكاتب نفسه- كيف تكون وما هي تفاصيلها، لذلك لا غرابة أن يمطرنا بلغة أشبه بخطبة جمعة كلاسيكية تنتهي عادة بدعوات وأمنيات طيبة:

    "وأعلم أن كثيرين من أمثالي رغبوا وسعوا ، وما زالوا، في اعمار هذا البوش، فالله نسأل السداد بأن ينشق هذا البوش عن أرض السياسة اليباب ويكون في مقام الأفراح الجلابية المباغتة، النشطة، الرصينة التي برع في معمارها وألقها الروائي المرموق الطيب صالح، تلك الأفراح التي يزين بها ليالي القي والخلاء في رواياته، والتي يفد إلى سواحلها الرجال والنساء كل بما من عليه الوهاب من فضائل الإيثار والجمال....". (76).



    وفي "قفلة" درامية تليق بمسرحي كبير في مقام الكاتب يرشح أخاه كشنقيطي لهذا الزمان ليريح الكاتب والقراء من عناء البحث عن مبادرة لم تكن في أي لحظة من لحظات الكتاب موجودة:

    "ولترتيب هذا البوش رأيت أن أرشح شنقيطيا هو أخي وصديقي الأستاذ زين العابدين علي إبراهيم. ولا أرشحه لأنه أفضلنا كلنا وانما أفعل ذلك لأن "بوشي" خلا من التفاصيل ومعرفتي القديمة الجديدة بالزين إنه ماهر في مثل ملأ الإطار العام بالمفردات البليغة.....". (76).



    تلكم هي حكاية "الإرهاق الخلاّق"، فهل ما جاء فيه يمت للخَلق بأي صلة، أم أنه إرهاق الإرهاق – كما أعتقد؟

    هذا ما سوف أتناوله في المقالة الأخيرة مركزا على مفهوم المصانعة أو ضد البطل على حد تعبير حسن موسى واشكالات تبنيه من قبل المثقف في ظل واقع لا يحتاج لأكثر من "خائن" Anti hero .!

    عبد الخالق السر

    هوامش:

    * الإرهاق الخلاّق (دار عزة للنشر والتوزيع – الخرطوم، طبعة 2001م).


    from Sudanile April 16th, 2008
                  

04-17-2008, 05:40 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    عبدالله علي إبراهيم الباحث (الحفار)
    تاج السر مكى
    تاجيج النعرات العنصرية ديدن من يتردون في القاع

    الاولى: عندما زار السودان القس ديزمون توتو (الجنوب افريقي) والحائز على جائزة نوبل للسلام اجرى معه تلفزيون السودان مقابلة قصد منها المحاور ان يجره إلى ادانة الحركة الشعبية لتحرير السودان..فقال له لقد هزمتم نظام (الابرتايد) وحققتم نصراً عظيماً على التفرقة العنصرية في جنوب افريقيا، فاحتفى كل العالم بذلك عندما غسل عاره من انتهاك كرامة الانسان ومن صلف أقلية بيضاء مارست كل انواع الاستعلاء العنصري... واسرائيل دولة عنصرية يتحدث قادتها عن (شعب الله المختار) ويرون في ذلك مبرراً للاستعلاء على الشعوب من حولهم والحركة الشعبية السودانية تستجلب سلاحاً من اسرائيل فماذا تقول في ذلك.؟.فأجاب القس ومن دون تردد : اقول ماذا تفعل بذلك السلاح، هل تستخدمه لغير اغراضها واهدافها التي اعلنتها..؟..ازعجت المحاور تلك الاجابة غير المتوقعة وهكذا اخفق في جر رجل دين عقلاني إلى مصيدة الاستعلاء المتخفي والمشروع السياسي المتهالك.
    الثانية: اسطورة ثلاثة ثيران احدها ابيض والثاني بني والثالث أسود هجم عليها اسد جائع فهربت إلى اقرب كهف وهمس الاسود للبني قائلاً أن الثور الابيض خطر علينا فقد يكتشفه الاسد لبياض لونه فأجدى بنا ان نتخلص منه ورموه فريسة للاسد الذي لم يكتف به وقفز الاسودعلى البني بحجة ان الاسد قد يراه فلم يكتف به واخيراً قفز الاسد على الاسود وبذلك افترس ثلاثتهم...اشار الدكتور منصورخالد إلى هذه الاسطورة وهو يحذر القوى السياسية من مغبة حل الحزب الشيوعي وكتب مقالاً دافع فيه عن الحق الديمقراطي لبقاء الحزب الشيوعي بعنوان أكلت يوم اكل الثور الابيض.
    الثالثة: وظف الدكتور عبدالله علي إبراهيم اسطورة فاطمة السمحة ليكتب ثلاثة مقالات من اجمل ماكتب في الادب السياسي تحذيراً لمن حلوا الحزب الشيوعي، وفاطمة هي البنت الجميلة التي تركها والدها وديعة عند اخيه وترك لها ثروة طائلة، فطمع العم في ثروة ابنة اخيه وقرر قتلها فهربت وطاردها وكلما ماكان يقترب منها تطلب من الارض ان تبتلعها فتختفي وتظهر مرة اخرى لتتواصل المطاردة إلى ان وصل والدها وطارد اخيه فلما اقترب منه طلب الاخ من الارض ان تبتلعه ولكنها لم تفعل فقضى الاب عليه وانقذ ابنته. تزامنت كتابة المقالين مع بعضهما فكانت مقالة منصور خالد على ما اذكر في احد المجلات المصرية ومقالات عبدالله علي إبراهيم في جريدة الميدان.
    لم احظ بمعرفة الدكتور منصور خالد على المستوى الشخصي واعرفه كما يعرفه كثيرون، وكما عرفه العمل العام كأحد النشطاء وعرفته الثقافة والفكر كواحد من فرسانها، غزير الانتاج مثير للجدل يقدم اطروحاته والقارئ الجاد لايستطيع عبورها دون ان يتوقف عندها كثيراً، كتاباته تتميز بكثافة المعلومات (التي اصبحت تهمة) وحسب علمي هو صاحب مركز للمعلومات في نيروبي ظل يستعين به معظم الباحثين عن معلومات دقيقة. سجل من التوثيق هو ماميز كل كتاباته وحواراته وفكره السياسي. كنا نقول في زمان مضى وضمن آخرين انه عميل للاستخبارات الامريكية والتعبير في اصله هو تعبير سياسي لايعني انه قد تم توظيفه في وكالة الاستخبارات الامريكية، ولكنا كنا نقول ذلك من مواقع الاختلاف في الرؤى ففي تقديرنا وقتها ان من يتحدث باعجاب عن الغرب والولايات المتحدة ولانستطيع استصحابه معنا في مشروعنا (عموماً) هو أحد المدافعين عن القيم الرأسمالية وبالتالي فافعاله وكتاباته يفيد منها النظام الرأسمالي وتلك كانت في تقديرنا من أهداف وكالة الاستخبارات الامريكية ومن كان يتعاون مع مجلة (حوار ) الثقافية أو يقرأ باهتمام مجلة En counter الانجليزية الثقافية ومن كان يتعامل مع مؤسسة فرانكلين للترجمة والطباعة فكنا نصنفهم بسهولة كعملاء للاستخبارات الامريكية.. وظل هكذا التعبير سياسياً يتعامل معه الجميع في هذه الحدود وفي تلك الأيام.
    لكن طالعتنا جريدة الانتباهة بعنوان بارز بأن منصور خالد عميل قديم للاستخبارات الامريكية منذ عام 1953م وهو طالب بكلية الخرطوم الجامعية في الصف الثاني من كلية الحقوق ونوهت إلى انها ستنشر وثيقة هامة في ذلك، وجاءت الوثيقة تقول:
    نقلاً عن سودانايل والتي ساهم (الطيب مصطفى) رئيس مجلس ادارة الانتباهة في حجبها وآخريات عشرات المرات وهو رئيس للهيئة العامة للاتصالات باعتبارها مصدراً لافساد الشباب والمواطنين السودانيين وامتداداً لحجبه بعض اجزاء من اجسام الممثلات بشاشته الالكترونية التي ابتدعها وهو مدير للتلفزيون خوف الفتنة كما قال.. وهاهو صديقه صديق محيسي يستعين بها لينقذه كما قال من ورطته القانونية فقد كان يبحث عن بعض مقالات كان قد كتبها الراحل صلاح أحمد إبراهيم يتهم فيها منصور خالد بالعمالة للمخبارات الامريكية وكتابات ايضاً للراحل السفير أبوسن وقال (صديقه محيسي) ان ما كتب لا يرقى أو يشكل دليلاً قانونياً حسب معرفته المتواضعة (للقانون) ..لكنه اكتشف وهو يوالي بحثه لانقاذ صديقه ان الباحث (الحفار) عبدالله علي إبراهيم اعد زلزالاً سياسياً سيزلزل بلا شك كيان منصور خالد الذي طالما انكر هذه التهمة وسفه الذين يروجونها عنه..
    خطر ببالي تعبير جاء في احد المقالات المختارة للراحل الخاتم عدلان في الكتاب الذي صدر بعد رحيله (.فالمنفى وماهو الوطن) بين الدكتور عبدالله علي إبراهيم والاستاذ الشهيد عبدالخالق محجوب قال فيه: يريد عبدالله علي إبراهيم في مسيرته الهابطة ان يقنع الناس انه يسير في صحبة راقية (انتهى).. ويبدو انه عجز عن ذلك وتنكب الطريق فجل الذين يرون في عبدالخالق بطلاً اسطورياً انجبته معاناة حقيقية كانت مخاضاً لميلاد مؤسسة سياسية مهما كان رأي البعض فيها فقد قدمت لشعب السودان الوعي قدرما استطاعت. ان ما يكثر قوله عبدالله علي إبراهيم عن الشهيد واصراره المتواصل ان عبدالخالق شئ والحزب الشيوعي شئ آخر هي درجة من الاسفاف والابتزال..واراه مازال سادراً في غيه ويكابد ليصنع ايضاً خصومة راقية لكنها ساذجة..
    الم يدرك بعد الدكتور (الحفار) ان وكالة المخابرات الامريكية هي احد مؤسسات الدولة الامريكية ومرتكزاً للادارات الامريكية التي يتداولها الجمهورين والديمقراطيون... وإن عميل المخابرات الذي تم اكتشافه وحوكم تصبح الحكومة الامريكية اكثر حرصاً على اعادته بأي ثمن لان هناك مالم يقله بعد ويمكن ان يضر بالوكالة التي هي بالطبع لم يتوقف نشاطها وحتى الآن..وخاصة مايمكن ان يقال عن صلة الوكالة بالزعماء ورؤساء الدول واصحاب المقامات الرفيعة حتى لايكتشف امرهم خاصة واذا كانوا ومازالوا في مواقع التاثير، وكذلك بسبب خشية آخرين من الارتباط بها وهي التي لاتحفظ سر علاقتهم بها..
    ان كل مايقال عن الوثائق التي تكشف عنها الاستخبارات بعد كل عدد من السنوات لاتلغي بها نشاطها الاستخباري أو تبدأ بعدها من جديد لتؤسس مراكز للعمالة وافراد توظفهم لذلك وشخصيات كبرى لينفذوا مخططاتها في بلدانهم وآخرون تخادعهم بتثبيتهم في السلطة وبالدفاع عن استدامة حكمهم.. لكنهم بالتأكيد ومن دون سذاجة ورومانسيات غبية فهم لايقدمون معلومات تؤثر مباشرة على ادائهم في المستقبل خاصة اذا كان العميل المشار إليه أو الذي يمكن ان يعرضوا اسمه لكشف مازال يتمتع بمركز مؤثر يمكن الاستفادة منه في المستقبل ..فاذا باكتشاف الباحث (الحقار) ينسجم مع استنتاجاته لاسباب بالطبع غير رغبته في كشف شخص عميل.. فمنصور خالد كان عام 1953م طالباً في الصف الثاني في كلية الحقوق وزملاؤه من ابناء دفعته الآن محامون أو قضاة أو رجال قانون من اي درجة، لكنه اصبح وزيراً عدداً من المرات ومساعداً لرئيس جمهورية وتسنم مركزاً مرموقا في الأمم المتحدة وقدم للمكتبة الثقافية كتباً جعلته يعد من غلاة المثقفين والباحثين في الشأن السياسي والاجتماعي ومعروف عنه انه المستشار السياسي للراحل الدكتور جون قرنق وقد احتفظ بمكانه خاصة ووزن معتبر بين قادة الحركة الشعبية ورئيسها الحالي واصبح أحد مستشاري رئيس الجمهورية الشراكة وعضو في المكتب السياسي للحركة الشعبية والاحاديث تقول بأنه سيصبح وزيراً للخارجية قريباً وامامه الطريق سهلاً لتقلد أهم المناصب اذا اراد.. فكيف تغامر الاستخبارات الامريكية بكتابة اسمه ضمن أحد عشر لم يذكرهم الباحث ولعلهم مغمورين ..فكيف للاستخبارات ان تتطوع بالكشف عن عميل مازال في موقع يمكنها ان تفيد منه ثم تضع بسهولة اسمه في يد (حفار) صاحب غرض هو ان يستصحب خصومة راقية.
    لايهمني كثيراً موقف الطيب مصطفى من القضية فيكفي انه وفي مطلع الالفية الثالثة قد اختار موقف الاستعلاء العرقي والعالم قد شهد نظام ( الابرتايد) في الجنوب الافريقي ينهار على رؤوس المتطرفين البيض، وديكليرك يخرج من بينهم في شجاعة ليرتبط بتلك النقلة الشجاعة وينال جائزة نوبل للسلام مناصفة مع نيلسون مانديلا الرجل الاسطورة والحكيم الافريقي الذي قضى سبعة وعشرين عاماً في سجن منفرد وانتقل من السجن إلى الرئاسة وتخلى عنها بعد فترة واحدة لتتجدد دماء الحزب والدولة.. وفي نفس الوقت شهد العالم علو شأن حقوق الانسان والعهد الدولي التي شكلت منظماته الشعبية الطوعية مركزاً يهدد الاستبداد والاستعلاء والاستغلال...! واستقبل السودانيون زعيماً جاءهم من أحراش الجنوب ومن اسرة بسيطة فملأ ابناء السودان املاً في المستقبل والعدالة.. رغم كل ذلك فقد انجب الظلام والاستعلاء الزائف منبر السلام العادل احد فضائح من تصدوا باسم الرحمة والدين والقيم ليصبح اخطر دماميل (التقيح) التي تصيب المجمتع مؤججه للعصبيات القبلية والالفية الثالثة تتقدم والانسان يرقي إلى مرافئ الانسانية وهم يتردون إلى قاع اللانسانية.
    يهمني الباحث (الحفار) الذي ظل يتهاوى دون توقف ولنتعرف على اسباب مواصلة هجومه بداية هو مابثته وكالة الصحافة الفرنسية كما كتب (محيسي) (عاجل... عاجل وزير ومستشار سابق للنميري ينضم للمتمردين الجنوبيين) ..لقد كان الخبر في حجم شجاعة الرجل.. انهدش كثيرون لذلك وحسب البعض وعلى رأسهم (الحفار) انها الاستخبارات الامريكية تقدم رجلها لاختراق الحركة الجديدة في تناولها لقضايا السودان القطر الذي اكتسب اهميته من تقديرات صندوق النقد الدولي والذي اعتبره من اغنى الدول بالموارد الطبيعية..لكن الدكتور منصور لم يتوقف عند ذلك باعتباره صاحب المركز المرموق في النظام السوداني (مايو) وقد انضم إلى اهم واشرس خصوم النظام.. بل قدم د. جون قرنق إلى العالم بكتابه (قرنق يتحدث) ووالي كتاباته عن خطل الحركة السياسية وسياستها الخاطئة التي قادت إلى ذلك الحجم من التهميش وعند ذلك الاستعلاء الموروث الذي جعل ابناء الجنوب ومناطق التهميش الأخرى في درجة دنيا في السلم الاجتماعي وسخر منه كثير من المثقفين الذين شكلوا عقبة كأداء امام تطور السودان، قدم في كتبه العديدة سجالات وقراءة للحكم في السودان سجلت مادة غزيرة للمراجعة وقد يختلف أو يتفق معه وطنيون وناشطون ومهتمون بشأن القضية الوطنية ولكنهم لايستطيعون الاستخفاف بما كتب.. والاختلاف معه بالتأكيد لايشكل تهمة من اي نوع فقد كتب ليقارعه الآخرون بالعقل وليفيد من ذلك الوطن..
    اذا فرضنا جدلاً ان منصور خالد كان منافحاً لفكرة التقدم وكان مقلداً ومعجباً مجرد اعجاب بالغرب بسبب عمالة أو مناكفة من اي نوع فما الذي يمنعه من ان يتغير فقد قال (لمحيسي صديق الطيب مصطفى) في لقاء صحفي تحدث فيه عن علاقته بجعفر نميري وكيف تركه وغادر السودان عندما اكتشف انه نظام استبدادي وقال عن محاولاته (الاصلاحية) التي لم تجد فتيلاً من ديكتاتور تحول إلى امام للمسلمين.. ورغم اختياره لهذه الاجزاء من اللقاء ففيها اعترف بالخطاء ومبرر للتحول، فما الذي جعل (الحفار) يتسامى من وجهة نظره ويتهاوى في نظرنا ويمنع منصور خالد ان يتهاوى في نظره ويتسامى في نظرنا..إنه يتحدث عن منصور خالد عام 1953م لكن كيف هو منصور خالد اليوم؟..وماهي اسباب ذلك (الحفر) الذي تواصل ولعل محاضرة الباحث (الحفار) التي قدمها في ابوظبي تشير إلى حماسة (كحفار) حتى وصل إلى مايريد... لخص الراحل الخاتم عدلان أهداف محاضرة عبدالله علي إبراهيم فيما يلي:
    *نحن في السودان الشمال ننتمى إلى الثقافة العربية الاسلامية وهي سوية يمتنع معها التمييز بين اي شمالي أو آخر، سواء كان يساريا أو يمينياً، حاكما أو معارضاً، غنياً أو فقيراً، مجاهداً من أجل المشروع الحضاري، أو مناضلا من أجل السلام، مشرداً عن الوطن أو ناهباً لثرواته، قاهراً لشعبه أو خارجاً من ذلك القهر، داعياً للدولة الدينية أو منادياً بالدولة العلمانية كلنا سواء، اخطاء قاتلة في حق الوطن فإننا نكون قد ارتكبنا تلك الخطايا حتى وإن كانت ضدنا، إذا شن عبود والصادق المهدي وعمر البشير الحرب ضد الجنوبيين فإننا نكون كلنا قد شننا تلك الحرب حتى وان عارضناها، ايادينا ملطخة بالدماء حتى وإن لم يطرأ لنا يوما ان نقتل احداً في الأحلام. وعقابنا جميعاً واحد لاننا مشتركون كلنا في الجريمة وبنفس المستوى، ولذلك فإن مصلحتنا الشخصية مصلحة كل واحد منا هي الا يطالب بعقاب احد لانه ارتكب ذنباً في الجنوب لان العقاب سيطالنا جميعاً.
    * يقول عبدالله في تسويقه لفكرته السابقة (اصبحت السياسة تتكلم عن قطاع عريض، تتكلم الآن مش عن حزب كذا وحزب كذا ومن اخطأ في حق الجنوب وانما بتتكلم عن قطاع عن Raceعن عنصر ودامهم لانودي الوقت بداية دخول فكرة الـRace العنصر يعني تناولنا وفي نظرنا الثقافي والسياسي،يعني نحن كنا بنتكلم عن والله الخطة بتاعة الجمهوريين هي كانت افضل عن الجنوب وانو مثلاً اليسار كان احنى بالجنوب. اليسار الشمالي والجمهوريين الشماليين،لكن السيد الصادق، والنظر العام دي الوقت يقول نحن الشمال السوداني، تتعدد اللافتات والشمال السوداني واحد ، ودامهم لانو نحن دي الوقت بنتكم عن Race عن عنصر كمدخل لدراسة التعقيد الجاري في السودان ودا يزيل المزاعم الخاصة للجماعات السياسية الشمالية في اليمين إلى اليسار إلى الوسط على انها هي الفرقة الناجية في مسألة الجنوب: انا احسن من ديل، انا كنت قدمت الفكرة الفلانية والموقف الفلاني وكذا وكذا).
    * الفكرة الثانية المرتبطة بهذه هي ماقامت به الجبهة الإسلامية في الجنوب ليس أسوأ مما قامت به الاحزاب الاخرى وإن عذرها في ذلك الشفرة الثقافية المركبة فينا جميعأً وحقيقة أن القومية العربية الاسلامية خلقت وطناً اكبر منها وحررته بطريقة خرقاء ومأذومة.
    * تبع من كون القومية العربية الاسلامية خلقت وطناً اكبر منها، وبصورة منطقية، ان تصغر وطنها ليتطابق مع ذاتها وان نترك ما ماعداه لمن لاينتمي إليها، وهي دعوة الانفصال، (يشارك عبدالله فيها عتاة العروبيين الاسلاميين وغلاتهم ويطابق مثل قتلت حمدي) .
    عبدالله من هنا ينطلق (حفره) فانضمام منصور خالد للحركة الشعبية لايتناسب مع دعوته تلك فلماذا لم يرتبك؟ كما يتصور هو ويتمنى ولايقول لا فرق بين كذا وكذا؟ ونحن لانقول ان موقفه ذاك عمالة لاي جهة يكون في مصلحتها اجزال العطاء..لكن هل في موقفه محاولة لتبرير واتساق مع حضوره لمؤتمر الانقاذ الأول؟... منصور خالد الذي يكتب العربية بجزالة ويطوع بلاغتها ليقول ان الثقافة العربية هي احد ثقافات التنوع لماذا لايصبح عروبياً متطرفاً ولماذا لايقترب من ذلك المثلث الذي صوره ذاك العقل الاستعلائي..
    ما أدهشني حقيقة ان يرغب الدكتور منصور في ادانة قانونية لشخص كالطيب مصطفى رغم ان اي كلمة يقولها تدينه وأي فعل منه يشير إلى ضعف ايمانه بمساواة الناس (لافرق بين عربي وعجمي الا بالتقوى)، وهو في كل صباح يؤجج العصبيات (فاعماله تدينه) وادانته في مواجهة من انتمى بشجاعة إلى قضية تعبر عن انسانية المجتمع وكرامة اهله وتمييز الناس بقدر عطائهم فذلك لايشكل اي إضافة للدكتور..
    اما حديث (الحفار) عن سحب الشيوعيين لعميل المخابرات ان لا أقول نيابة عنهم لماذا؟ ولكني ذكرت انه كان تعبيراً سياسياً درجنا على قوله دون حذر ولما اصبح سفاهة كان لابد من ان نكون غير سفهاء فالشيوعيون والتقدميون والديمقرطيون والوطنيون مازالوا يحملون العربة الوية الوعي والدعوة الصادقة إلى العدالة والمساواة، اما من تخلى عنها ودون ان نبدد وقتاً في اتهامه فهذا شأنه..

    http://www.alayaam.info/index.php?type=3&id=2147508448&bk=1

    (عدل بواسطة عبدالله عثمان on 04-17-2008, 06:13 PM)

                  

04-17-2008, 05:41 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    الدكتور عبد الله علي إبراهيم يحلل مسيرة الضلال الوطني ويدعو أخيراً لمخاصمة الانقاذ واليأس من خيرها.
    وصم الدكتور البراجوازية الصغيرة وعيرها بكل عباراته البليغة وحتى كاد ان يقول ان خطاياه واهتزازه وتذبذبه كان بسبب انه برجوازي صغير لكنه لم يستوزر ولم يصبح مديراً ولا سفيراً والا لكان لذلك شأن آخر.. انه فقط عبد الله (ابن الداخلة) الاديب والكاتب الاريب وصاحب الصولات والجولات في ساحات النشاط الطلابي والرائد المؤسس لتجمع الكتاب والفنانين التقدميين والذي عرف فيما بعد بتنظيم (ابادماك) الشهير الذي قاد قافلة ثقافية وفنية جابت قرى الجزيرة بحثاً عن الفنان الشعبي الذي طمره الفقر وبؤس الريف وغياب مؤسسات الوعي والمعرفة الرسمية إلاَّ تلك المؤسسة التي قال عنها هي التي تمثل (صفوة الغلابة) والتي استطاعت بجهدها الصبور والمثابر ان تقدم للمزارعين ما استطاعت من جرعات الوعي التي مكنتهم من انتزاع شرعية اتحادهم والحاكم العام الانجليزي مازال يقيم بيننا.. في تلك الرحلة الشهيرة وصلت قافلة (ابادماك) قرية (بورتبيل) لتقدم من خلالها مسرح الرجل الواحد الشعبي الذي لفت الانتباه الى زخائر الريف والثقافة الشعبية.. جاءت مايو وقبل ان ينتقل عبد الله من حزب احمد سليمان الى حزب عبد الخالق قدم مسرحيته الشهيرة في شارع القصر بالتضامن مع صديقه صلاح قوله (المصري الأصل) ناقلاً بذلك الثقافة الى رجل الشارع والطريق العام.
    اراد الدكتور عبد الله إلاَّ يضعه منصور خالد هو وعبد الخالق وآخرين (لم يفصح عنهم) في سلة واحدة مع بقية الصفوة المدمنة للفشل وليس غرضي تبني وجهة نظر دكتور منصور في الصفوة وادمانها للفشل فللرجل طريقته ومنهجه في التعامل مع استنتاجاته ولا أذكر حسب علمي انه ادعى انه ليس منهم في شيء، مع ملاحظة عابرة هي ان دكتور عبد الله قال في حواره مع جريدة الصحافة الحلقة الثانية بتاريخ 19 نوفمبر: أنا وعبد الخالق وآخرين وهذا التقديم (للأنا) لم أعهده فيه من قبل لكنه لم يفصح عن الآخرين ولعل هنالك قائمة سرية يعد بها البعض ليلهث اللاهثون كما يتصور علهم ينالون حظوة؟ بعد تعريفه للصفوة سأله المحرر من هم صفوة البرجوازية الصغيرة؟.. اندهشت لإجابته التي تقول: منصور خالد انا اعتبره صفوة البرجوازية الصغيرة (هو لوحده، الدهشة مني) لأنه يعطي وقتاً اكبر لمشروع تمكين هذه الفئة الاجتماعية بينما مدير البنك او الطبيب مثلاً لا يعطي وقتاً كبيراً للمشروع وانما يعيش مشروع البراجوازية الصغيرة.. لم ادرك مقصد الصديق (عبد الله) هل لأنه منصور خالد ام لأنه ليس مدير بنك او طبيب، وهل يمكن الحديث عن صفوة لفئة موسومة بكل ذلك القبح والقدرة على قيادة مسيرة الضلال لشعب في قدرات الشعب السوداني ان يكون صفوتها شخص واحد مهما كان مقامه ام انها محاولة متوارية لرد الصفعة؟
    سأتناول قضيتين من تلك القضايا التي تناولها الدكتور في حواره او في الحقيقة قضية واحدة ذات شعبتين شكلتا فكرة المقاومة وداوفع التغيير وضمن ذلك دور المعارضة في درجاتها المختلفة انجازاتها واخفاقاتها.. لقد جاء في الحوار ما قررت الاهتمام به في هذه المداخلة وذلك في رد الدكتور على الصحيفة عندما سأله المحاور: لماذا ترجع الى تحليل المجتمع عبر المنظور الماركسي هذا؟ فقال: لأنني اعتقد انه حصلت خيانة كبرى لغمار الناس حتى في صفوتهم، فالحزب الشيوعي بعد حله عام 1965م ثم مغامرة 1971 واخيراً انقلاب الانقاذ اصيب بجنون الاسلاميين الظلاميين وصارت مسألة الحداثة متمكنة منه أكثر من انه خليفة للكادحين والطبقات العاملة صار الحزب يفضل ان يوصف بالحداثة وان يكون سادنها أكثر من تفضيله لدوره الأساسي في النضال من اجل الكادحين ويتجلى ذلك في هروبه من النفاذ الى مسألة الدين والمجتمع. فبدلاً من معالجة المسألة باعتبار الدين جزءاً من مكون الوعي في المجتمع ونقده انما هو نقد للمجتمع استبد به جنون الاسلاميين الظلاميين كما ذكرنا. لذا صارت الطبقات الكادحة بلا تفكير مستقبلي ولا يوجد من يتخيل لها مستقبلها وسعادتها وهذا دور الصفوة الأمر الذي الجأها لتأكتيكات النضال المسلح لقوى الهامش وحركات التحرير العنيفة والانقلابات العسكرية المضادة غير الناجحة.
    ناصح الدكتور الانقاذ (الانقلاب الناجح) وشارك في مؤتمراتها الأولى كما قال مراعاة لقومية الجيش ووحدته لعدم الاستهانة به لأنه يقف خلفها وقال انه تركها منذ بدأت توقع في اتفاقيات السلام وانتظر من يملأ الفراغ وفي رد على السؤال: هل ترى ان المخرج من حالة الضلال باشاعة وسائط التربية والتعليم فقط؟ اجاب: قطعاً ولكنه مصحوب ايضا بقنوط من اي خير يمكن أن تأتي به الانقاذ، بمعنى الاضراب عن نصحها، ولا يحبط منها احد ولا يتفاءل بها علينا فخاصمتها تماماً لأنه ليس لديها جديد تاتي به ولا شيء لتفيد به الناس ولن نسمع كلام احد، علينا الكف عن نبرة اصلاح النظام، لأنه لن ينصلح ولن يحل مشاكل دارفور ولا الجنوب ولا غيرهما فق اهليته وشرعيته لفعل ذلك. وعلى الجنوبيين ان يعوا اننا لن نستطيع ان نجعل خيار الوحدة جاذباً لهم طالما كانت الانقاذ موجودة وعليهم ان اراداوا الوحدة ان يقاوموا ايضا معنا" انتهى
    اتهم الدكتور الحزب الشيوعي بأنه اصابه جنون الاسلاميين فماذا اصاب الدكتور وبعد كل هذه الفترة المقدرة وهو يتحدث الآن عن قنوط من اي خير يمكن أن يأتي منهم ويدعو لمخاصمتهم ثم اعتبر حالات العنف في رفض سياسات الانقاذ ينبغي ان يدرج في سجل المقاومة الشعبية. لم نسمع عن الدكتور عبد الله انه كان يمثل تياراً داخل الحزب الشيوعي (والذي عاش في قلبه فترة تفرغ امتدت لبضع سنوات) يدعو بأن يمد الحزب الشيوعي يده للمهمشين، هو كان كآخرين يتحدث عن مناطق التخلف ويرى رأي من ينتظر تنمية اقتصادية تنجب قوى (حديثة) يمكنها بالتحالف مع نظيراتها في المدن والطقاع الحديث استكمالاً لبناء الجبهة الديمقراطية لتنجز مهام الثورة الوطنية الديمقراطية.. لم يقل بغير ذلك ولم يكتب في مساهماته العديدة حتى عن (الصحة والتعليم والبيئة والضرائب) ولم نقرأ في كتاباته الغزيرة ما يشير الى ذلك، وقدر اطلاعنا على ما يكتب كنا نحسبه بعيداً عن هموم الناس الحياتية او عن الكادحين الذين من المفترض انه أحد قادة صفوتهم المنظمة.
    حركة الاسلام السياسي الحديثة لم يبدأها الاسلاميون السودانيون قد سبقهم الى ذلك مؤسس حركة الاخوان المسلمين الامام حسن البنا وشكلت الحركة في مصر قوة جماهيرية افزعت حزب الوفد (حزب الاغلبية الوطني) واثرت تأثيراً عميقاً على مجرى العمل السياسي، هناك كانت التجربة غنية بكل خطل الانكفاء على (الاصولية) انها حركة سياسية اتخذت من الدين غطاء لتدافع عن فهمها له. وتداخلت المصالح مع ذلك التفسير واختلط امر الدين بتفسيرهم الخاص له.. وعندما نشأت حركة الاسلاميين في السودان ادركت شريحة منها قضايا المجتمع واهمية الخوض فيها (بابكر كرار ومجموعته) فاختلفت مع الآخرين اختلافاً بيناً ادى الى تكوينها للحزب الاشتراكي الاسلامي الذي لم يحظ بجماهيرية واسعة تجعله يؤثر تأثيراً عميقاً في الحياة السياسية، بينما كوّن الآخرون تنظيم الاخوان المسلمين الذي تحول الى جبهة الميثاق الاسلامي ثم الجبهة القومية الاسلامية واخيراً المؤتمر الوطني والشعبي.
    ان الأمر لم يكن يحتاج الى كل ذلك الوقت والعناء ليدرك الدكتور انه لا خيريرجى منهم.. فعلى رأس الدكتور وجيله تم حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه المنتخبين من البرلمان ليس دفاعاً عن الدين قطعاً بل بسبب الخصومة السياسية والعجز عن المقارعة لكنهم اتخذوا من الدين ذريعة فلم يكن (شوقي) طالب معهد المعلمين الذي تزرعوا بمقولته في دعوتهم لحل الحزب الشيوعي كان أو أصبح رصيداً للشيوعيين ففي حديث له اخيراً قال انه كان سعيداً بذلك الحل.. ولا حتى تلك التجربة العميقة في التمثيل النسبي التي انتظمت الجامعات ومؤسسات التعليم في انتخابات اتحادات الطلاب والتي جوهرها هو الاعتراف بالآخر حدت من غلوائهم في التآمر على حزب يشاركهم اين ماحلوا منافساً ومشاركاً في ازكاء الحيوية في الساحة لقد قرر الاسلاميون ومن ذلك الزمان سحق الآخر ما امكن واختراق التنظيمات السياسية وتخريبها من الداخل ولم يتحلوا بالصدق ولا شرف المنافسة، وكما نعرف كلنا فالحزب الشيوعي لم ينتقد الدين وانما انتقد اصرار الاسلامين على تفسيرهم للدين وزجه في السياسة وجعله اساساً للحكم كما نشاهد الآن.
    قاوم الاسلاميون فكرة الديمقراطية باطروحة ضعيفة عن الشورى وهي في تقديرهم غير ملزمة وتتم مع اهل الحل والعقد وهؤلاء يمكن التحكم في اختيارهم كما نعايش ذلك اليوم.. ولما عادت حركة الاسلام السياسي متصالحة مع مايو قادته الى حالة الهوس الديني التي عاشها وتمخضت عنها قوانين سبتمبر الشائهة والتي كانت حربا على كل المجتمع، على عاداته وقيمه وتهاوى نظام مايو مثخناً بجراحات (المشروع الإسلامي) وفي اثناء ذلك تم اغتيال المفكر الإسلامي محمود محمد طه والذي كان للدكتور شرف تقديمه في محافل الجامعة.. وبعد الانتفاضة جمع الاسلاميون حولهم بقايا مايو من والذين كانوا يخشون محاسبة الشعب لهم لما ارتكبوه من خطايا.
    ما كان الاسلاميون يحتاجون الى مناصحة الدكتور لكنهم اتخذوه وآخرين ديكوراً وما كان الحزب الشيوعي يمكن أن يتحول الى حزب ديني ليعترف بدور الدين كمكون لوعي المجتمع.. ان المجتمع السوداني متنوع ومتعدد الاديان وحرية الاعتقاد فيه تمثل ركيزة للحريات.. قد يكون للحزب الشيوعي قصور في معالجته لكثير من القضايا (بما فيها الديمقراطية داخله) ولكن لم يكن مهوساً ومصاباً بجنون الاسلاميين الظلاميين، كان يعاملهم كخصوم سياسيين وجو الساحة السياسية كان يوحي بحدة الاستقطاب وبالخصومات ولم يكن الحزب الشيوعي استثناءاً بل هو أكثر من تحمل نتاج ذلك.
    اما دعوته للتحديث فمتى كان التحديث يتعارض مع الدفاع عن الكادحين..؟ يذكرني ذلك بكلمة كان يرددها المناضل المرحوم يوسف عبد المجيد (التكديح) ويقصد بها بالطبع تقمص مشاعر الكادح الساخنة والثورية ولكن لم يكن الكدح او التهميش في حد ذاته حالة يدعو المرء الى استمرارها او التمسح بها فهي بؤس وشقاء لكنها حالة يكون النضال من اجل محوها وازالتها قائم ويتم ذلك بنشر الوعي ومهما يتحدث الدكتور عن دور الصفوة وأهميته فهي لن تشكل بديلاً للنضال ولن تتحقق الديمقراطية بممارستها هي وحدها لها واستمتاعها بالقراءة والترجمات وكتابات كتلك التي يقدمها الدكتور خالية من تلك المباشرة الضرورية في علم السياسية.. لن نستطيع أن نستنتج من ان الكتابة في حلقات متعددة عن انتحار شيبون هي دعوة الى (صحة المواطن وتعليمه واصحاح البيئة).. وليس في ذلك بالطبع رفض لمختلف المناشط الانسانية من شعر وموسيقى ورقص وكتابة قصة ورواية ونقد ومسرح وسينما وتشكيل وغيرها، لكن لكل ابداع انساني لغته ودوره في تشكيل الانسان المعاصر، لكن عندما نتحدث بلغة الكادحين والتهميش فلا تصح إلاَّ المباشرة ونحن ندعي بأننا يمكن ان نمثل صفوتهم.. وللحزب الشيوعي اخطاءه وله انجازاته.. انه تاريخ لملحمة معقدة لكن لا يمكن محوها او اغفالها ولا يمكن الحديث عنها بذاك القدر من الاستخفاف مثل القول بأنه حزب للكادحين وليس للقوى الحديثة و(الحناكيش) فكيف ابتلع الدكتور فكره وصف بعض الشيوعيين (بالحناكيش) بعد انسلاله منهم كالشعرة من العجين كما اعتاد ان يقول. أليس في ذلك اقتراب من مقولة (التكديح)؟.. الدكتور لم يسمح لنا بأن نتحدث عن تأثير التجربة السوفيتية على الحركة الشيوعية ثم الستالينية وما خلفته من ادواء والتي لم ينج منها الدكتور وهو المتفرغ الثوري كما زعم انه نجا من تذبذب البرجوازية الصغيرة ودمويتها ويتمنى ان ينجو من سلة منصور خالد التي ادمنت الفشل.
    إذا سلمنا جدلاً ان تجربة الانقاذ كان يمكنها ان ترعوي وتستمع الى مناصحات الدكتور فكيف كان يري تلك الهجمة الشرسة والمباشرة التي طالت معظم البارعين والمبدعين في العمل العام والقيادات النقابية والسياسية فصلاً واعتقالاً دون ان يفلت من بينهم كل من اعتبروه غير مؤيد لمشروعهم او محتمل ان لا يؤيده.. ثم تلك الفترة التي اعلنت الانقاذ انها مرحلة التمكين فتمكنت بها من كل شيء، مفاصل السلطة على كل مستوياتها حتى الخدمة المدنية، ومصادر الثروة وفرص العمل العام والخاص ثم التهديد بالضرائب والاتاوات والجمارك مع ممارسة كل صنوف الارهاب.
    قال الدكتور انه ترك الانقاذ عندما بدأت في توقيع اتفاقيات السلام.. انا اندهش لهذه الجرأة التي قال بها ذلك.. فهل هو ناقم على الانقاذ وهي تتنازل عن بعض سلطاتها ام هو غاضب لأن اتفاقية السلام حققها من لم يكونوا في قائمته السرية تلك (وآخرين) ام هو غير راضٍ عن وقف الاقتتال الذي يوقف الموت وسحل الآلاف وتشريدهم.. صحيح انه لم تذهب الانقاذ بعد تلك الاتفاقيات بل نالت شرعية دولية بتلك التوقيعات فهل لذلك رفضتها (عبد الله) وهو الذي لم يرفضها كلها وهي تتعدى على الشرعية وتتميز بالصلف والاستبداد ومصادرة كل الحريات. لكن بالرغم من ذلك وبعد توقيع الاتفاقية واقرار الدستور الانتقالي اصبح من الممكن الحديث عن الحقوق والحريات.. إذا كان هنالك ما يعيب القوى المناهضة للنظام فهو انها لم تعبئ الجمهور في اتجاه ضرورة تفكيك النظام الشمولي وبناء بديل ديمقراطي، وصحيح من ناحية نظرية ما قاله عن ضعف المعارضة المنظمة وعزلتها، وانه خطل عظيم ان ترتفع اصوات المعارضين وهم يسعون وارء امتيازاتهم فالأمر يحتاج الى خطاب جديد لكنه ليس منقطع الصلة عن تاريخ تلك الدعوة القديمة للعدالة والمساواة وتغيير المجتمع والتي حمل الدكتور مع آخرين لواءها من قبل.
    في احاديث وكتابات عديدة تحدث الدكتور بكثير من عدم الارتياح عن النضال السياسي المسلح وكان يتوارى كعاداته خلف ما يتصوره دعوة للزنوجة المعادية للعربية وثقافتها وها هو يتحدث عن تاكتيكات النضال المسلح باعتبارها اعظم الشرور وكان ينبغي ان يرى ما تمخض عن هذا النضال المسلح فقد اثبتت التجربة انه ليس من الضروري الانتظار في (خطوات تنظيم) الى ان تحقق تنمية وتغدو هناك قوة حديثة لتقوم بالمساعدة في عملية التغيير.
    لقد تكون من اولئك المهمشين جيش سياسي اثر على مجريات الاحداث حتى تمخض عن تلك الاتفاقية التي جعلت الدكتور يخاصم الانقاذ والتي لم يقل حتى عتاة خصومها الحقيقيين انه لا قيمة لها فهم يتوقفون كثيراً عند وقف القتال الذي كان مستعراً وعن الحرب التي خمدت، والدكتور يتحدث عن النضال المسلح باعتباره حالة يقسر عليها المرء ولا يختارها لأنها تقود الى الموت والدمار هذا ما يفهم من حديثه ولكنه يرفض ما تحفق من سلام ويخاصم اخيراً عليه الانقاذ التي حولت الحرب الى حرب دينية دفاعاً عن العقيدة المستهدفة كما تدعي.
    للانقاذ اقسرت على توقيع اتفاقية السلام التي تحتوي على بنود رئيسية تؤسس لمجتمع ديمقراطي عادل فماذا يضير الدكتور في ذلك ... لقد نصح اخيراً الاخوة الجنوبيين وحذرهم من قبح الانقاذ التي لا يرجى منها وهو الذي ظل يناصحها في رفق ويشترك في محافلها فهل كان ذلك بسبب مشروعها الاحادي ورغبتها في بناء دولة دينية وهو يخاصمها الآن ويحرض عليها لأنها وعدت بتنازلات لأبناء الجنوب ودارفور والشرق وجنوب النيل الأزرق وجبال النوبة؟
    البرجوازية الصغيرة التي ظل الدكتور يذمها دون أن يراعي تلك الظروف التي نشأت خلالها ونتاج مشاركتها في العمل الوطني ودورها في المجتمع فيه تجن عظيم عليها وهذا ليس دفاعا مطلقاً عنها كفئة فمنها جاءت حركة الإسلام السياسي وانجبت كبار الوصوليين والذين نافحوا الانظمة العسكرية والدكتاتوريات المدنية والذين اعلنوا كذباً ورياءاً انهم يدافعون عن قضية البسطاء والغلابة ولكنهم اكتفوا بدور الصفوة المتأففة والمتعالية فهم في اسمارهم يقسمون المجتمع على اساس عرقي واثنى وينادون بالوحدة والمساواة في الظاهر.
    قال الكتور باهمية (الصفوات) ولكل الفئات وللبرجوازية الصغيرة بالطبع قدح معلى في تكوينها.. لكن تنظيمات المهنيين والموظفين وأساتذة الجامعات واتحادات المزارعين والحرفيين وسكان المدن في السودان والذين حظيوا بالاستنارة والحد الأدنى من التنظيم في نقابات او جمعيات او اتحادات صادموا الاستعمار والأنظمة الاستبدادية فاكتسبوا كثيراً من الصلابة فكانوا قادة للانتفاضات الشعبية.
    اما عن المعارضة عموماً فهي تلك الاحزاب، ولا ديمقراطية من دون احزاب وما نشاهده هو حال احزابنا وان رفضتها الجماهير فدون الدكتور و(الآخرين) تكوين بدائل متخلصة من مسيرة الضلال.. والاحزاب لا تشتري ولا تقوم نبتاً شياطنياً وانما تتكون بارادة اعضائها وليس هنالك احزاب فاعلة ومؤثرة تجلس قيادتها على كراسي المتفرجين لتصيد اخطاء الآخرين دون ان تمارس نشاطاً يحتمل الخطأ والصواب.
    ما قدمه الدكتور في لقائه يذكرني بما يقال شعبياً عن (علوق الشدة) والرواية البسيطة تقول ان مجموعة الرحل يحرصون على علف زواملهم في فترات الاستقرار استعداداً للرحيل الذي هو آت لا محال ولكن احدهم كان يؤجل ذلك دون اعتبار لعامل الزمن واهمية المشاركة وفي عشية الرحيل اراد ان يعد زاملته كالآخرين فوجدها هزيلة مهملة واراد ان يقدم لها علف ايام غفلته كله في جرعة واحدة.. لكن ذلك لا يفيد، بل قد يكون ضاراً وقاتلاً.

    http://www.alayaam.info/index.php?type=3&id=2147505333&bk=1
                  

04-17-2008, 05:42 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    الدكتور عبد الله علي إبراهيم ومسيرة الضلال الوطني (1)

    تعليق الخطايا على مشاجب (البورجوازية الصغيرة) لا يجدي نفعاً


    اعتاد الدكتور عبد الله علي ابراهيم وهو يتحدث عن الحزب الشيوعي ان يتوارى خلف مقولات جاءت في مساهمات الأستاذ عبد الخالق محجوب قالها هنا وهناك بما في ذلك تلك الجلسة كما قال التي خصه بها واستبان منه حقائق انقلاب مايو في الحياة السياسية السودانية مما جعله يرحل من حزب احمد سليمان الى حزب عبد الخالق بينما قام آخرون بعكس ذلك ثم قال في اول ليلة للانقلاب اخرج عبد الخالق بياناً قال فيه ان هذا انقلاب البرجوازية الصغيرة.. وحذر في بيانه بأن هذه البرجوازية الصغيرة ستغرق البلاد في الدماء نتيجة شرهها وتهافتها على السلطة (جاء ذلك في حوار الصحافة مع عبد الله علي ابراهيم يوم 12 نوفمبر 2006م).
    لقد ابتذل عبد الله علي ابراهيم دور الشيوعيين وهو يشير اليهم (بالرديكاليين) في حديثه ويستند على رؤيتهم وهو يتحدث عن مواقفهم وما ينبغى ان تكون عليها من وجهة نظره وبوصهم مسيرتهم بالضلال الوطني مميزاً دوره وآخرين يذكر منهم دائماً عبد الخالق محجوب، ثم اضاف اليهم اخيراً الشفيع احمد الشيخ وقاسم أمين في معرض هجومه على البرجوازية الصغيرة التي ظهرت في تقديره كفئة اجتماعية صغيرة اصبح منهم سفراء ووزراء ومديرين (فطغى مزاجها على الحزب).. ونسأل كم عدد هؤلاء بل كم عدد الوزراء الذين تناوبوا على الوزارات والادارات والسفارات طوال فترة الحكم الوطني.. ان اختزال نضال الشيوعيين السودانيين في بضع افراد اصبحوا وزراء او مدريين او سفراء واستطاعوا ان يحولوا كل تلك التضحيات والجهد الى ضلال وطني فيه تجن عظيم على تاريخهم ودورهم في الحياة السياسية.
    الوثيقة الملعونة التي قال عنها عمر مصطفى لا تهمني كثيراً انها بيان كتب ويمكن نقاشه وتشريح التقديرات المختلفة في دقتها واستنتاجاتها ولكنها من زوايا عديدة هي وثيقة رغم انها داخلية لكن تحتمل التسرب او هي حقيقة كتبت لتتسرب فالحزب الشيوعي تنظيم سياسي ملك لب الجماهير المستنيرة ورغم قلة عضويته لكن تأثيره في مجرى الحياة السياسية السودانية كان عظيماً التف حول خطه السياسي مجموعة من المؤيدين والمتعاطفين والحلفاء فبرنامج الحزب الشيوعي هو مشروع سياسي مميز يدعو للتغيير ولا يمكن أن يترك لمغامرة كالانقلاب العسكري لتعصف بكل تلك الانجازات وتكفي تجربة (ايديت) في اندونيسيا التي قادت الى تلك المذبحة الخطيرة والتي راح ضحيتها اخيراً سوكارنو ذاته لتكتب نهاية تجربة ذات قيمة خاصة في شرق آسيا.
    اختار عبد الله علي ابراهيم احمد سليمان الذي انضم اخيراً لجماعات الاسلام السياسي وانتهى دوره فيما يبدو بعد وقوع انقلاب الانقاذ.. ولا اعرف لماذا ايضا فاروق ابوعيسى لعل بسبب دوره العظيم في معارضة الانقاذ اما عمر مصطفى المكي فهو من قليلين كتب منتقداً خط الحزب الشيوعي عند انقسامه ثم انتقد قيادته الجديدة في كتاب توفى قبل صدوره باسم تأملات ماركسية في نهج القيادة الحالية للحزب الشيوعي السوداني، وقد اجتهد فيه ويمكن انتقاده بموضوعية.
    في المؤتمر العالمي للاحزاب الشيوعية والعمالية في موسكو في 7 يونيو 1969م الذي انعقد بعد اقل من اسبوعين من وقوع انقلاب مايو في السودان وقد أمته الاحزاب الشيوعية والعمالية من كل انحاء العالم ولا اعتقد ان ذلك المؤتمر كان تمثيلية مقدمة ببراعة وبكل ذلك الترتيب لتظن حكومة مايو في السودان ان الحزب الشيوعي يؤيدها فذلك يمكن ان يتم مباشرة وقد عبر عن ذلك موكب 2 يونيو المؤيد لمايو... ولا أحسب ان خطاب عبد الخالق محجوب السكرتير العام للحزب الشيوعي كان المقصود به تقديم معلومات كاذبة ومضللة قصد بها خداع تلك الاحزاب والدول لتدعم نظاماً يعتقد مقدم الخطاب بانه سيغرق البلاد في الدماء نتيجة لشره البورجوازية الصغيرة وتهافتها على السلطة فخطابه ذلك ترتبت عليه مساعدات كبيرة قدمت لمايو.
    لنقرأ جزءً من الخطاب الذي قدمه عبد الخالق في ذلك المؤتمر والذي كان التمثيل فيه على مستوى سكرتيري الاحزاب وزعماء الحركة الشيوعية ومفكريها:
    تؤكد الخطوة الثورية التي تمت في بلادنا في 25 مايو، انه على الرغم من وجود ثورة مضادة والهجوم المتواصل من جانب الاستعمار الحديث في منتصف الستينات على حركة التحرر الوطني فان ميزان القوى العام لم يتبدل وانه من الممكن ان يخترق هذا البلد او ذاك سياج الثورة المضادة والاحاطة الاستعمارية. لقد انتصرت الثورة المضادة في بلادنا في صيف 1965م لكن الحركة الشعبية استطاعت ان تطبق تكتيكا مرناً يحمي تراجعها ويحافظ على مواقعها الاساسية في المنظمات الجماهيرية، واستطاعت بفضل هذا التكتيك ان تبدأ من جديد تجميع صفوفها خلال الدفاع عن مطالبها ومصالحها الاساسية وبصفة خاصة من اجل الحريات الديمقراطية وضد الأزمة الاقتصادية، وضد فرض دستور رجعي باسم الاسلام يتوج الانتصار الشامل للثورة المضادة، وضد افكار الاصلاح البرجوازي اليميني الهادف الى تجريد شعارات ثورة اكتوبر 1964م السودانية من محتواها الاجتماعي. ظلت الحركة الشعبية تناضل بثبات طيلة السنوات الخمس الماضية حتى الخامس والعشرين من مايو حينما قامت مجموعة من الضباط الوطنيين والتقدميين معبرة عن الاماني الشعبية، بانتزاع السلطة من يد الثورة المضادة ونقلها الى طبقة من قوى الجبهة الوطنية الديمقراطية" انتهى.
    هل يمكن اعتبار ان تعبير مجموعة من الضباط الوطنيين والتقدميين كان يقصد بها تلك المجموعة التي ستغرق البلاد في الدماء.. فكيف يكونوا وطنيين وتقدميين؟ ويواصل خطابه. "في هذا الجو الملئ بالصراع المعقد والمتشعب تحت ظل سلطة الثورة المضادة، جاءت السلطة الجديدة في 25 مايو 1969م واعلنت انها امتداد لثورة اكتوبر 1964م ففتحت الطريق لتحولات كبرى امام قوى الجبهة الوطنية الديمقراطية في بلادنا لتستكمل وحدتها وتنجز مهام الثورة الديمقراطية. وهذه سمة هامة لاحداث السودان الأخيرة. فالتغيير لم يتم بعد اكتمال تكوين الجبهة الديمقراطية او بناء القسم الاساسي منها، وانما جاء اثناء السير نحو هذا الهدف فتوفرت شروط ملائمة لاستكمال بناء الجبهة تحت سلطة احدى طبقاتها"انتهى
    وجاء فيما يعرف برسالة القاهرة التي بعث بها عبد الخالق محجوب وقد نفاه النظام الى القاهرة الآتي:
    "إن تصاعد الصراع السياسي والطبقي في بلادنا والذي اتخذ من مسرح الجزيرة ابا وود نوباوي مسرحاً له ليس امراً عابراً لأننا قد استقبلنا بالفعل نقطة تحول في تطور الحركة الثورية السودانية وفي أشكال الصراع السياسي وانه من المهم دراسة تلك الاحداث بدقة من قبل كل منا في حزبنا والحركة الديمقراطية والخروج باستنتاجات موضوعية ووضع التاكتيكات السليمة لحركة الثورة في بلادنا" الى أن يقول: "التنظيم المسلح في أقصى اليمين كان دائماً العقبة التي تحول دون تطوير الحركة الشعبية بصورة حاسمة.. ويكفي دليلاً على هذا تجربة شعبنا في ثورته الكبرى في اكتوبر 1964م ثم الهجوم العنيف على الحزب الشيوعي في نهاية 1965م ولهذا فان ضرب هذا التنظيم يزيل تلك العقبة ويهيئ ظروفاً افضل لنمو الحركة الثورية ولتعاظم دور الحزب الشيوعي في الحياة السياسية" انتهى.
    إن أمانة التوثيق للاحداث العامة وشفافية التعامل مع الشعب الذي بنى لنا المدارس والجامعات لنستمتع دون اخرين بالمعرفة والاستنارة تستدعي الصدق ورد الجميل له.. ولا اعتقد ان عبد الخالق محجوب كان سيكون سعيداً عندما يستمع الى شخص يستخف بانجازه التاريخي فقد ساهم بالدور الأعظم في بناء امجاد واخطاء الحزب الشيوعي السوداني واستشهد بشجاعة وهو يقول لقد منحت شعبي الوعي بقدر ما استطيع.
    الحديث عن الترسانة الرجعية وعن تأييد "انقلاب تقدمي" وعن دور ضباط تقدميين هي كانت لغة ذلك الزمان ولقد استخدمت في مكانها وأوانها... وقد رعي الحزب الشيوعي تنظيم الضباط الأحرار وساعده في طباعة مجلته السياسية (صوت القوات المسلحة)، قطعاً لم ينظم اولئك الضباط ليقدم بهم طابور شرف يستقبل به خصومه السياسيين ثم كانت هناك تجربة عبد الناصر التي اسقطت مليكاً فاسداً ماثلة في اذهان دعاة التحرر الوطني.. ولم يقل احد حتى الآن ان سقوط الملكية في مصر كان "فساداً" او ضلالاً وطنياً دعك من الحديث عن تجربة الحكم من بعد ذلك.. كان الراديكاليون يتحدثون عن "الديمقراطية الجديدة".. وكانت الدول النامية قد تعرضت لكم هائل من الانقلابات الفاشية والى حكم الديكتاتوريات المسنودة بانظمة تتمتع شعوبها بالحريات والديمقراطية.. ولغة اليوم ليست هي لغة الأمس ومعايير الحكم على الأنظمة تختلف مع اختلاف الأزمان.
    تلوث البيئة وارتفاع درجة حرارة الأرض ومخاطر الحرب والأوبئة ومخزون الغذاء الشحيح وأسلحة الدمار الشامل والإرهاب والتمييز العنصري والمجاعات والتصحر تحاصرها الآن قيم العصر ومنظمات الشعوب وثورة الاتصالات والمعلومات.. والراديكالية تعبير نسبي، لقد انهارت التجربة السوفيتية التي قادها البلاشفة بمعارك اسطورية شكلت غيبيات القرن العشرين.
    كان دور لينين في الثورة البلشفية والحرب الأهلية كبيراً لكنه لم يخلق الاحداث بل كان يوجه مسارها بواسطة نباهته الشديدة وواقعيته وعناده والمطلوب عدم احاطة شخصه بصورة مثالية على عكس ما يقوم به كثيرون.. وسيصبح بالطبع أكثر اهمية بمجرد انتزاع هذه الهالة الصوفية عنه فهو رجل ذو طاقة عنيدة".. ان كل ما نستطيع ان نقوله او نقول جزءاً منه عن عبد الخالق هو انه قائد من طراز فريد ولم يكن عاجزاً عن الافصاح عن رأيه واقناع زملائه فقد كان اكثرهم قدرة على الكتابة والفصاحة والاقناع وقال عنه الكاتب انه في جلسة جعله يستبين حقائق كانت غائبة عليه فلماذا لا يستطيع ذلك تجاه آخرين وهو أكثر التصاقاً بهم، ولعل صديقنا الدكتور نسى انه ويصنف من ضمن تلك البرجوازية الصغيرة الدموية فلماذا لم ينج الآخرون كما نجا هو..
    عبد الخالق محجوب ذلك الشخص النابه والعنيد ظلمته التجربة والتي ساهم في بناء مجدها وصيتها ليس لأنه فوق الخطأ منزهاً ولكن لأن الحزب لا يمكن ان يتفرد أكثر مما هو عليه.. هو حزب سوداني تؤثر عليه سلبيات المجتمع وعيوبه وحسناته فقد نشأ في مجتمع عشائري تغلب عليه الأمية ويحاصره التهميش والفقر... ان انجازات الشوعيين وتأثيرهم على مجري المسار السياسي ينسب لهم جميعاً من خلال خطأ وصواب الذين يعملون.
    الحديث عن البرجوازية الصغيرة وذمها كل حين يأتينا من واقع التجربة الأوروبية فقد نشأت البرجوازية الصغيرة مع نشوء نهضة البرجوازية والتحول الرأسمالي ومع ثوراته الكبرى واهمها بالطبع الثورة الفرنسية والثورة الصناعية في بريطانيا فكانت وظيفتها ان تقدم خدماتها لتلك الفئة الناهضة والممسكة بزمام الأمر والصانعة للتقدم وهكذا نشأت خادماً مطعياً تتطلع إلى اعلى مشرئبة وتخشى من السقوط الى اسفل القاع وتشكل فيها ذلك التذبذب لقد كانت تابعة ولاهثة وغير مستقبلة وبالرغم من ذلك فمن بين افرادها انجبت من قادة ثورات التحول الكبرى ثم تلك المنظمات الشعبية والتي بفضلها نشات حركة التحرر الوطني من الاستعمار وسجلت جل انتصاراتهم في مواثيق لحقوق الانسان الزمت بها فئة البرجوازية التي كونت تراكماتها الرأسمالية من عرق العمال والنساء والأطفال.
    في العالم الثالث وعندما احكم الاستعمار قبضته واستغل موارد تلك البلاد الطبيعية وخاماتها الأولية واسواقها وانسانها، كان لابد من ان تنشأ برجوازية محلية لكنها ولدت خديجاً خائراً وتابعاً فاكتسبت هشاشة.. لم تنهض لوحدها كتلك (الأوربية) ولم تكن افاقها تسمح بتفجيرثورة واحداث تحول كبير ولذلك فقد كان (لبرجوازيتنا الصغيرة) دوراً مختلفاً عن تلك المتذبذبة التابعة لقد تصدت لمقاومة الاستعمار وفجرت انتفاضة 1924م طارحة اعصى قضية (كم نعاني منها حتى الآن) فقد كان تكوينها دعوة لقومية سودانية ويكفي ان قائد تلك الانتفاضة كان على عبد اللطيف المنحدر من ام دينكاوية واب من جبال النوبة وسجل تنظيم اللواء الأبيض في عضويته الكثيرين من أبناء تلك الجهات ورغم تلك الدعاوى العنصرية التي نشأت هنا وهناك لكن (كريزما) ذلك القائد وشوامخ كعبيد حاج الأمين والمطبعجي وحسين شريف فقد تفجر ذلك الحدث الكبير الذي ارعب المستعمر البريطاني وادرك مبكراً ان ذلك التطور يمثل الخطر الرئيسي على حكمه وبقائه فاعدم بشراسة العسكريين ونفى قادة الانتفاضة وغيبهم في السجون فمات علي عبد اللطيف في مصر وعبيد حاج الأمين في جنوب السودان وها نحن اليوم نبحث عن وحدة جاذبة.
    وبعد وقفة لم تطل (في اعمار الشعوب) نشأت الجمعيات الأدبية وجميعات القراءة ثم تكون مؤتمر الخريجين وحاصر الاستعمار بحصافة الفكرة لكنها لم تتمدد إلاَّ في حدود مجموعات المتعلمين في الشمال وبالرغم من ذلك فقد نشأت الاحزاب السياسية وناهضت الاسعمار حتى حققت الاستقلال والجلاء.. خلال هذه الفترة قوى عود (البورجوازية الصغيرة) وهي تقود معارك الاستقلال وكونت نقاباتها المطلبية والمهنية.. لكن دائماً كان هناك من لا مصلحة لهم في هذا النهوض وظل الاستعمار متربصاً يلعق المرارة ويحلم بالعودة الى ممالكه القديمة التي تركها عنوة. كانت لخطط الاستعمار صور جديدة فالتبعية الاقتصادية وبقاء التخلف رهينان بمواصلة استنزافه لتلك الخيرات التي شكلت جزءاً هاماً من مصادر تنميته لنظامه الرأسمالي ثم هنالك تلك البرجوازية التابعة الهشة.. لقد عانت الحركة السياسية كثيراً في مواجهة قضايا ما بعد الاستقلال والنهوض الوطني فنشأت نخب حاكمة سيطرت على موارد الثروة والسلطة واستخدمت كافة الاساليب والوسائل دفاعاً عن امتيازاتها تلك استناداً على (الطائفية، والعشائرية والقلبية، والدين وترسيخ التخلف ما أمكن والامية والانقلاب العسكري) لتكسب بها اغلبية ميكانيكية وظفتها للدفاع عن مصالحها.
    في مواجهة الاغلبية الميكانيكية في الحكم الوطني نهضت قوة بارزة من المهنيين والموظفين والعمال والمزارعين لالغاء القوانين المقيدة للحريات ولفرض شرعية تنظيماتهم النقابية والمطلبية وتفجرت معارك عديدة ميزت كثيراً من افراد البرجوازية الصغيرة فعجمت عودهم ورسخت تقاليد عظيمة في مؤسساتهم النقابية منها تغليب تجويد المهنة وترقيتها لتنهض بمسؤوليتها تجاه الشعب وعضد كثيرون منهم الحزب الشيوعي كرائد للتغيير والتحديث دون حتى ان يكونوا اعضاء فيه. وكون الحزب الشيوعي لم ينجح احياناً في ان يبقيهم اعضاء او حلفاء له لتتفجر قدراتهم وطاقاتهم خدمة لجماهير الشعب وقضايا التغيير فهذا شأن يؤاخذ عليه لقد اعترف بذلك الحزب الشيوعي في لمحات من تاريخه حيث قدم عبد الخالق نقداً موضوعياً لحل الجبهة المعادية للاستعمار التي تحولت الى منبر للحزب الشيوعي دون مبرر سياسي وذلك لعجز الشيوعين في التعامل مع العناصر من غير الشيوعيين.. هذا بالطبع احد اخطاء الحزب الشيوعي.. فقد كان نفوذه السياسي طاغياً لكن عضويته قليلة ولم ينجح في تحقيق ذلك الشعار وفكرة الحزب الاشتراكي او الحزب الديمقراطي الواسع كانت اجتهاداً لتحقيق ذلك الشعار في اطار البرنامج الوطني للحزب الشيوعي.
    ان البراجوزاية الصغيرة حتى تلك الأوروبية واجهت استبداد النظام الرأسمالي وافقاره المتواصل للعمال والمنتجين فتصدت لذلك ولا اعتقد ان الكاتب ينكر ان منظمات المجتمع المدني الشعبية المنتشرة في اوروبا واحزاب الخضر المهتمة باصحاح البيئة وحقوق الانسان وتلك التظاهرات العديدة ضد الحروب والتعديات وأولئك المتطوعين لتكوين درع بشرى دفاعاً عن المدنيين في الحروب الجائرة ما كانت إلاَّ بريادة بعض من تلك (البرجوازية الصغيرة).
    أما إذا كانت هنالك نماذج في ذهن الكاتب ظلت تقلقه فهذا لا يمكن أن يتخذ قاعدة يؤسس عليها تحليلاً ومازلت احتفظ بقدر هائل من التقدير للدور التاريخي السياسي والثقافي للكاتب ومشاركته في التنوير ونشر الوعي في حركة الطلبة فهذا حق له رغم انه (برجوازي صغير) وحتى النخاع.
    يتبع.....

    http://www.alayaam.info/index.php?type=3&id=2147505240&bk=1
                  

04-17-2008, 05:44 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)



    حلفاء وليسوا بخلعاء – حوار مع عبد الله علي إبراهيم (1)
    د. الواثق كمير
    ماذا يريد الشماليون: التفاعل مع السودان الجديد ام الانفعال به؟


    حفزني لكتابة هذا المقال مجموعة كلمات رصينة للدكتور عبد الله على ابراهيم نشرت في كتاب له بعنوان (الثقافة والديمقراطية في السودان) صدر في عام 1996م وعلى وجه الخصوص تلك التي تناولت موضوعات (التعددية الثقافية) و(الغبن الثقافي) ومفهوم (الأفروعربية)، وتعرضت بالنقد الصارم لنهج نشر القومية العربية-الاسلامية عن طريق (الدعاة وليس الرعاة) وهو المنهج الذي يهدم وحدة السودان ونتجت بسببه حرب أهلية ضروس طال أمدها. ولا أهدف الى عرض مجموعة الكلمات هذه، ولكن ما يهمني هنا أمرين اولهما: أن الكاتب يؤرقه مستقبل السودان (ويظاهره في ذلك كثيرون) والذي في رأيه لن تشرق شمسه الا بالسهر على غرس الديمقراطية غرساً عميقاً في الوطن، كما لن تصان وحدته الا باعتراف بوجود قوامين ثقافيين على الأقل، او اكثر. بيد أنه يرهن هذه الوحدة بانصلاح حال (الجماعة العربية الاسلامية) وذلك بانفتاحها على الثقافات الاخرى ونشرها للدعوة بطريقة الرعاة وليس الدعاة، وبالأصالة عن نفسها وليس بالوكالة عن الغير انطلاقاً من موقع السودان (كثغر) أو (كرباط). وهو بذلك يحسب ان احتجاج الجماعات (الأفريقية) على واقع الهيمنة الثقافية والأشكال الاخرى من الهيمنة، وان جنح للعنف، ومن موقف مستقل عن اصلاح (الجماعة العربية الاسلامية) لنفسها، يضر بقضية التساكن القومي.
    ثانيهما: يجسد مثل هذا التناول سلوك نمط آخر من المثقفين الشماليين يتأرجح بين السلبية والتشكك نحو تجاه وحدة السودان ويوفر له الغطاء النظري والمفهومي، في وقت باتت فيه الدعوة للوحدة – ولو على أسس جديدة – تطرح بشدة من حركة شعبية مسلحة أخذت من جنوب السودان قاعدة لها منذ عام 1983م وبعكس ما كان يتم في الماضي، وما صاحب هذا التطور من ملابسات وتعقيدات. ويؤلف بين هذين النمطين من الشماليين (المثقفين) انهما يقفان عند حد (الانفعال) بهذه الوحدة دون (التفاعل الايجابي معها) وما اتقدم به من افتراض في هذه الكلمة وأسعى للتحقق منه، بإقامة الشواهد والبيانات، هو أن متطلبات التساكن أو (التعايش) القومي – على حد قول عبد الله علي ابراهيم – وإنجاز الديمقراطية تستدعي تجاوز محض (الانفعال) بالوحدة ويقتضي النزوع نحو (تفاعل) إيجابي بين كل جماعات السودان المتباينة أثنياً واجتماعياً وثقافياً والى نبذ الاستعلاء القومي والحط من حقوق الغير ومقدراتهم كشرطين أساسييين لأي حوار نافع بين هذه الجماعات.
    أصاب د. عبد الله وسد في نقده لمفهوم (الأفروعربية) الذي بشر الداعون له كتعريف لـ(ذاتية) و(هوية) سودانية جامعة تنصهر فيها كل المكونات الثقافية العربية – الإسلامية والأفريقية، فهو ينظر في تفحصه النقدي هذا، الى (الأفروعربية) كوجه آخر من وجوه الخطاب الإسلامي الغالب (إذ تتفق مع أكثر قسمات ذلك الخطاب محافظة وتبشيرية وهو نظرية السودان البوتقة التي تنصهر فيها كل المفردات الثقافية في ثقافية جامعة ما) ويصدق أيضا حين يرى ان خطابي غلاه الإسلاميين والأفروعربيين لا يختلفان – بصورة قاطعة – إلا في منتوج التمازج. فالتمازج القومي في نظر الغلاة سينتهي بشكل مؤكد لتبني (الجماعة الجنوبية) الإسلام والعربية لأنهما مميزان علويان مقابلة بملل الوثنية ورطانات العجم. فالتمازج في أفق الغلاة هو معسكر دعوة كبير لتغيير الملل واللسان، بينما يحتج (الأفروعربيون) بانه لسداد الأمتزاج يحتاج أهل الجنوب الى تقوية تأثراتهم بالعربية.
    وعليه يكون ناتج الامتزاج بين الجنوب والشمال إعادة لإنسان سنار، الذي هو أساس التركيبة الهجينة للسودانيين الشماليين. فمحصلة الامتزاج بين الجنوب والشمال في نظر الأفروعربيين ستكون بمثابة (طبعة لاحقة للسوداني الشمالي الذي لا عيب فيه حالياً سوى تجاهله لتراثه الافريقي).
    ورغماً عن سحر بيان الأفروعربيين وبلاغة خطابهم، نثراً وشعرا، فقد عجزوا عن استمالة (القوميين الجنوبيين) او غيرهم من (قوميات) الهامش للأخذ بهذه النسبة العربية المقترحة من مثل هذا البيان بجانب نسبتهم الأفريقية المؤكدة، حتى وأن ألزمتهم ضرورات التعايش القومي الى اكتساب اللغة العربية والإسلام أو بعض العادات العربية – الإسلامية. لذا تجدني اهتز طرباً لما خلص اليه د. عبد الله في اكتشافه أن أهدى السبل الى السلام والنهضة الثقافية في السودان هو الإقرار بقوامين، (او اكثر الثقافة السودانية، وقد تمتزج هذه القوميات وقد تتبادل التأثير والتأثر، مع احتفاظ كل منهما باستقلال الدينامية من حيث المصادر والترميز والتفوق. وازداد طربا وتغمرني نشوة عارمة من دقة تحليل د. عبد الله وصرامة كلمته حول العربية والاسلام في السودان بين الدعاة والرعاة، اذ يقول ان الدعوة للعربية والإسلام، كما رسمها منهج الدعوة القومية والإسلامية تعاملت وتتعامل، معه الجماعات الأفريقية المساكنة لنا في الوطن كرجرجة بلا ثقافة ولا دين، كما اتصلت باجراءات الدولة الوطنية لتحطيم المقومات اللغوية والدينية لهذه الجماعات لتستبدل لغته باللغة الصواب (العربية) والدين بالدين الصحيح (الإسلام) وعلى حدة تعبيره (ترتب على هذا الموقف ان نشأ سوء تفاهم أصيل بين الجماعة العربية الإسلامية والجماعات الأفريقية في السودان، وهو سوء التفاهم الذي تفجر في حرب أهلية متصلة ومنقطعة طول الثلاثين سنة الأخيرة منذ نيل السودان للحكم الذاتي في 1954).
    ويستطرد د. عبد الله في هذا المنطق العقلاني والتناول الموضوعي فيشير الى انه اصبح من الصعب عند الكثيرين ممن تشربوا وظيفة الدعوة القومية العربية والاسلامية ان يوازنوا بين مهمتهم كرجال دولة مسئولين عن جماعات وطنية متباينة الثقافات وبين مهمتهم كدعاة دعوة مخصوصة وكثيراً ما تغلب الداعية على رجل الدولة، وهذا يفسر التوتر بل الاخفاق الذي لازم بناء الدولة السودانية لعقود ثلاثة ويستشهد في ذلك بحديث لدكتور جون قرنق (بالرغم من ايراده لهذا الحديث كزعم مما يحمل مضامين استعلائية) قال فيه: ( ان رجال المجلس العسكري الذين حكموا البلاد بعد سقوط نميري بفضل ثورة ابريل 1985 أرادوا استرداد مدينتين كان جيشه قد سبق واستولى عليهما وقد اراد المجلس في زعم قرنق، ان يسترد المدينتين قبل بدء مفاوضات (كوكا دام) الشهيرة ولغاية هذا الاسترداد زعم قرنق ان رجال المجلس العسكري توجهوا الى اقطار عربية مجاورة ليقولوا ان العروبة والاسلام في خطر من جراء نشاط حركته واضاف قرنق (انتبهوا فليس السودان هو الذي في خطر، ان الذي في خطر هو الاسلام والعروبة). أراد قرنق ان يقول: ان العروبة والاسلام هما بعض فعاليات السودان لا الفعالية الوحيدة (او الفعاليتين الوحيدتين) في السودان. وهذا بالضبط ما توصل اليه د. عبد الله نفسه من نقده لأطروحة (الافروعربيين) اذ يقول بالنص (ان اهدى السبل الى السلام والنهضة الثقافية بالسودان هو الإقرار بقوامين أو اكثر للثقافة السودانية) كما فصلنا آنفاً. والافتقار للرؤية التي تشيد علي، وتتمسك بهذا التنوع المضاعف ومتعدد المكونات من طرف النخب الشمالية خصوصاً تلك التي توالت على مقاليد الحكم، أفضت الى مأساة تسببت في حربين أهليتين استنفذتا 30 عاماً من عمر استقلالنا. وتشكل هذه الرؤية الأساس لمفهوم (السودان الجديد) الذي يبشر به السيد قرنق زعيم ما يسمى بجيش تحرير السودان كما يفضل ان يخاطبه د. عبد الله على ابراهيم. فأين موضع الخلاف بين الاثنين أذن؟ بينما يتفق د. عبد الله على حد قوله مع قرنق في مظالمه فهو يختلف معه في جملة تكتيكاته. هذا اختلاف مشروع ولكنه لا يفصح عن ما هية هذه التكتيكات. هل هي اللجوء الى خيار العمل الشعبي المسلح لدفع هذه المظالم؟ ام ان مصدر الخلاف هو أن سيد قرنق توصل لنفس النتائج وسبق د. عبد الله في الاسنتساخ قبل ان يكتب الأخير كلمته هذه؟ أم هل ان الرأي الذي يأتي من (الغير) أي من (الجماعة الأفريقية) بلغة د. عبد الله – مهماً كان سديداً – لا يستساغ كما يصعب هضمه ويصبح غصة عالقة في الحلق؟
    يبدو أن د. عبد الله يريد من قرنق ان يكتفي بعرض حال المظلوم دون ان يتبعه بتكتيكات – لا تحوز رضاء الدكتور – لدرء الظلم وتثبيت قواعد العدل في سياق بناء (السودان الجديد)، بل يأمل في ان يرجئ قرنق تكتيكاته حتى تتهذب الجماعة العربية – الإسلامية كشرط لتحقيق التساكن القومي. وتقوم خطة د. عبد الله على حض هذه الجماعة (للتعرف على اشكالات وجماليات وسياسات هذا التبيان القومي الثقافي) وذلك بدلاً من الاكتفاء بملاحقة الجماعة الافريقية لتبديل جلدتها الثقافية او ليقبلوا صاغرين درجة ثانية من المواطنة في بلدهم. فهو بذلك يترك أمر معالجة تعدد القوامات الثقافية والتنوع القومي لهذه الجماعة (العربية – الاسلامية؟) التي يتوخى فيها، بعد ان تعدل من حالها، ان تتبع منهجاً تستقي به خبرة الإسلام والعروبة لتبني، بفراسة وفطرة، الوطن (العربي – الافريقي) المتباين الشائك في السودان. وهذه خطة سلبية ومنحازة لا تنفذ الى، ولا تصل لمعالجة واقع الهيمنة الذي تعيشه الجماعات غير العربية – الاسلامية بفعالية وفاعلية. حقا ان من البيان السحر!!! فدكتور عبد الله يدرك جيداً انه لو ترك القطا ليلا لنام (يضرب مثلا لمن حمل على مكروه الى غير ارادته ولمن يستشار للظلم فيظلم). ويعيب د. عبد الله تكتيكات قرنق لميلها في كشف المستور في قماشة علائقنا الاثنية العرقية الاجتماعية والثقافية. وقد أصاب د. فرانسيس دينق حين قال: (تكمن مشكلة السودان في ما لا يجاهر به اكثر مما في ما يفصح عنه).
    فمن جهة ينتقد د. عبد الله الجماعة العربية – الإسلامية في تعاملها مع الدعوة بالوكالة لحاجات الجهاد والتبشير الخارجية بدلاً من الانطلاق من وجودها في السودان بالأصالة، ومن جهة اخرى يوكل لذات الجماعة (من موقع الاصالة) مهمة القيام بحل مشكل التساكن القومي بالإنابة عن الجماعة الأفريقية. وينطق هذا الموقف عن استعلاء علي، وعداء بينين لهذه الجماعة (الجماعات) وينم عن إغفال لحقوقها المتساوية مع الآخرين في المساهمة الفاعلة لإعادة صياغة وبناء وطن يتعايش فيه الجميع طواعية وبدون قسر او إكراه. ومن جانب آخر يغيب عن د. عبد الله أو يتجاهل متعمداً أن مسألة التساكن القومي والحوار حول أفلح السبل لحلها في جوهر قضية سياسية تخضع للجدل والصراع حولها ديمقراطياً بما يجنب وطننا حرباً ضروس طال أمدها.
    وبإغفال الطبيعة السياسية للاصطراع الثقافي بين الهويات (العربية – الإسلامية والافريقية) يتحول د. عبد الله إلى داعية لإصلاح منهج الجماعة العربية – الإسلامية في التعامل مع الجماعة الافريقية. فهو يفزع ويصيبه جزع من تحالف سياسي يقيمه من يسميهم باليساريين والليبراليين مع الجماعة الأفريقية (وهو يشير الى الحركة الشعبية لتحرير السودان) مطلقاً عليهم تعبير ( الخلعاء) متضامناً مع وصم السلطة السياسية لهم ب(الطابور الخامس) أو (العملاء) وهو يصف هذه الفرق بـ(الخلعاء) لأنها – في ظنه – تحمل على الثقافة العربية، بحق وبغير حق (وأنهم) لوثوا بيئة التفاعل السياسي في تحالفات غير مدروسة مما حوله الى ضغينة لا براء منها. ولا تغيب على فطنة القارئ أن د. عبد الله يقيم استنتاجه هذا على قراءة غير صحيحة لموقف هؤلاء (الخلعاء) أو بلغة السلطة (أو الغلاة من الجماعة العربية – الإسلامية) الطابور الخامس. فهو يجزم – خاطئاً – ويتبع الدلو بالرشا ان هذه الفرق الخلعاء تعتقد (ان لا سبل الى صلح ثقافي في السودان الا بأن يخلع العرب المسلمون في السودان مداراتهم الثقافية التاريخية التي تنزع فطرياً للغلبة والسيادة ولا ترضى بدونهما ويكون بذلك قد خالف الحقيقة واضحى اسيرا للظنون. فلا الحركة الشعبية ولا من ناصرها يدعون الانتماء الى جماعة افريقية بل هم سودانيون يأملون في التعايش مع سودانيين آخرين يشاركونهم في المواطنة ويختلفون عنهم في الثقافة، ويحلمون بهوية (سوداناوية) تتعدد وتتنوع قواماتها يفخرون بها ويدافعون عنها أمام الآخرين عرباً كانوا أم أفارقة.
    فهؤلاء ليسا (بخلعاء) إنما (حلفاء) اختاروا بالفحص والدراسة ان يتفاعلوا بصدق ولا يكتفوا بـ(الانفعال) مع خطاب الحركة الشعبية حول (السودان الجديد) وهو المفهوم الذي صادف صدى طيباً لدى هذه (الفرق) وخاطب وجدانهم ونفذ الى عقولهم لامتيازه وتميزه على كل ما هو مطروح من كلتا الجماعتين العربية – الاسلامية والافريقية، في تشخيصه ورؤيته (للمشكل السوداني) برمته، كما انه يتفوق على كل ما خبرناه من مناهج ومسالك (السودان القديم). ولا يعني، بأي حال من الاحوال، ان هذه المجموعات في تحالفها مع الحركة الشعبية قد خلعت رداء ثقافتها العربية الاسلامية المستمدة من وجودها الاصيل بالسودان او بدلوا هويتهم بل قصدوا مناصرة الدعوة الى بناء (سودان جديد) يقوم على تعدد وتنوع ثقافي يتجاوز واقع الهيمنة الثقافية السائد وينبذ كل ما يلازمه من أشكال اخرى للهيمنة لمجموعة بعينها تمثل ثقافتها احدى، وليس كافة مفردات النسيج الثقافي السوداني بكل تعقيداته. ولا تقوم هذه المناصرة على نزعة انتهازية غايتها المكسب السياسي انما هي مشايعة على مبدأ رفض كل اجناس الهيمنة والسطوة والاستعلاء الشوفيني، كما لا يطعن هذا التحالف في الثقافة العربية الإسلامية او ينتقص من مكانتها وثراء مكوناتها إنما يفضح خطة جماعة بعينها تبشر بها وتروج لها وهي في فعلها هذا تخلط خلطاً شائها بين مهمة (الداعية) ودور (رجل الدولة) في وطن تتعدد القوميات وتتنوع فيه الثقافات. وان كان د. عبد الله حقيقة – كما يزعم (يحتضن في عرضه عناصر المستقبل والخير في العلاقات التي يتحراها حتى يقدم صورة للمستقبل الرازح في عنت الماضي والحاضر لكان خليقاً به ان يحتفي ويحتفل بهذا التحالف الذي يرمي الى تأسيس بيئة ديموقراطية تتفاعل في سياقها كل القوميات والثقافات المتساكنة في الوطن ولكن ليس بخلع ثقافة فريق لمصلحة فريق آخر بعرض تحقيق مآرب سياسية آنية كما أنه ليس بتحالف هاربين – وهي عبارة خلعها د. عبد الله على الأفروعربيين – وأقول له وان يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر (فان ظلمك قومك لا يظلمك القمر فانظر يتبين لك الأمر والحق).
    ونزوع د. عبد الله في وصف المتحالفين مع الحركة الشعبية بـ(الخلعاء) لا يستقيم ولا يسوغه الحس السليم الا بانتزاع هذا التحالف من مناخه وسياقه السياسيين، اذ انه من المفارقة ان ينشأ بعد استيلاء الجبهة الاسلامية على الحكم، تحالف في شكل التجمع الوطني الديموقطراي، بين القوى السياسية التي تستمد شرعيتها تاريخياً من الثقافة العربية والإسلامية، من جهة، والحركة الشعبية، من جهة اخرى، نبذ الهيمنة بكافة اصنافها وأقر التعددية القومية والتنوع الثقافي. هل تستوي كل هذه القوى مع(الطابور الخامس) وهل يحمل د. عبد الله نفسه الى تسمية كياني الختمية والأنصار وحزبيهما السياسيين: الاتحادي الديموقراطي والأمة بـ(الخلعاء)؟ وأين العيب وما وجه الضغينة في ان يجتمع ابناء وبنات الوطن الواحد في جبهة او تحالف سياسي واحد يكفل تفاعل الثقافات ويصنع مستقبلاً دأبه التفاؤل بالتعدد والتنوع؟ وماذا عن الجبهة الاسلامية التي ما فتئت تتباهى وتفتخر بان عضويتها تضم عبد الله دينق وكبشور كوكو وتتحالف مع رياك مشار وكاربينو كوانين بول؟ فكيف يبرر د. عبد الله موقف هؤلاء جميعاً مع هذا التحالف (الخلع) ولو كان عارضاً؟ وهو الذي يستشهد بأقوال الغلاة من الدعاة الإسلاميين وعلى راسهم الشيخ الترابي والذين ينظرون لمثل هذا التحالف كـ(مجرد حيلة في علم الحيل)؟ اذن، نحن جميعنا ولو اختلفنا في الدرجات إما أن نكون خلعاء أو حلفاء!!
                  

04-17-2008, 05:46 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    حلفاء وليسوا بخلعاء – حوار مع عبد الله علي إبراهيم (2)
    د. الواثق كمير
    ماذا يريد الشماليون: التفاعل مع السودان الجديد ام الانفعال به؟

    يغمط د. عبد الله الحركة الشعبية لتحرير السودان حقها في قلة اعتداده بتحالف (العربو- إسلاميين) معها في التطلع الى قامة سودان تتعدد فيه القوامات الثقافية مع احتفاظ كل منها باستقلاله ويدنمايمته، بينما يقصر هذا الحق على (الجماعة العربية – الإسلامية) بدعوتها للانفتاح على الثقافات المتباينة في السودان، اذ يوحي باستعلاء بائن بأنها الجماعة الوحيدة المؤهلة للمبادرة والقيادة. ومن شب عن طوق هذه الجماعة (المنصلحة) وتحالف سياسياً مع (الجماعة الإفريفية) - أي الحركة الشعبية – فهو مارق وخالع لردائه الثقافي. فهو أولاً: يفرغ كل دعوات تشكيل تكوينات سياسية قومية القوام والوجود والانتشار – بغض النظر عن أشكالها – من محتواها. وثانياً. ان كانت هذه خطة يائسة تهدف الى دس العلمانيين (ذوي الاصول العربية – الإسلامية) مشروعهم بالتستر وراء الحركات الأفريقية كما يزعم د. عبد الله (مظاهرا في ذلك الشيخ الترابي)، فهو يقنع بالوقوف (لفظياً) مع تظلمات هذه الحركات دون يهدينا الى بديل لتفاعل مرغوب ومطلوب بين الثقافات المتباينة. ثالثاً: يعتبر د. عبد الله، خلافاً لما يدعي ويرمي به الآخرين، ان هذا التحالف او التفاعل يمثل تهديداً للهوية العربية الاسلامية في نزوعها (الفطري) للسيادة والغلبة والتي لا ترضى بدونهما. وبهذا المنحى المثير الخطر يوفر د. عبد الله الغطاء النظري والمفهومي والمنهجي لقطاع عريض من الشماليين (مثقفي القوى الحديثة) ممن يشهرون حماساً وانفعالاً ملحوظين بمفهوم (السودان الجديد) الذي تطرحه الحركة الشعبية بينما يفشلون في مد الجسور معها، بيد أنهم ظلوا عاجزين تاريخياً عن بناء تنظيمات سياسية تتمتع بنفوذ شعبي مستقل. ومع انفعال التنظيمات السياسية المنتسبة لهذه (القوى الحديثة)، والتي تنشب من حين لآخر هنا وهناك وتتخذ أشكالاً متعددة، بهذا المفهوم، إلا أنها تتفاعل سلباً مع الحركة الشعبية وتنظر الى ما تطرحه بشك وريبة، كما أنها تتوجس من نوايها ودوافعها وتحط من شانها ومقدرتها على المبادرة – ولو ضمنياً – ولا يتقبلون مجرد احتمال قياداتها. وكما قال د. جون قرنق أن الحركة الشعبية لو قدر لها ان تنطلق من جهة ما في شمال السودان وبنفس برنامجها وتوجهها القومي (المشكوك فيه) لو جدت ترحيباً منقطع النظير ولسقط النظام في الخرطوم منذ وقت طويل. وكما أشار د. منصور خالد لو كان (قرنق يدعي حامد ابو قناية (او حتى حسن بطري) لما تساءل الشماليون: من هو؟ ولما اختلفوا حوا ماذا يريد؟).
    ضعف القدرة على التفاعل:
    فهذا الموقف الذي يتخذه الشماليون (مثقفو القوى الحديثة) وتنظيماتهم حيال الحركة الشعبية يصيب المرء بدهشة وخيبة ظن. وان لم يكن هذا الأمر محيراً فيبدو أنهم (أنفسهم) في حيرة من أمرهم وفي ماذا يريدون؟ هل محض (الانفعال) بالسودان الجديد كما تؤكد أقوالهم أم (الفعل القاصد) والذي يفتقر إليه سلوكهم؟ وربما يكمن تفسير هذه الحيرة وهذا التردد في انكفاءهم الملحوظ على ذواتهم في تنظيمات صغيرة صفوية ومغلقة، تهاب الانفتاح وتشعر بخطر يهدد وجودها ان تفاعلت مع المبادرات التي يقدمها (الغير). وسأسوق في ما يلي عددا من الشواهد التي تقوم على بينات تكشف عن هذه الحيرة وضعف القدرة على التفاعل.
    أولاً: بدأت الحركة الشعبية لتحرير السودان عملياتها العسكرية في (1983) في وقت تزامن مع فرض قوانين سبتمبر الشوهاء وبداية تصاعد متعاظم للحركة الجماهيرية في شمال السودان وخصوصاً وسط قطاعات القوى الحديثة (النقابية). كانت يومها الأبصار شاخصة الى ميدان تلك العمليات العسكرية والآذان صاغية الى إذاعة الحركة وكانت القلوب تخفق والألسنة تردد ان الجنوب هو مقرة الأنظمة العسكرية والشمولية، ولم يمض وقت طويل حتى تبين ان تلك الأبصار لم تبصر شيئاً وان الآذان لم تصغ جيداً، إذ كان ( كل في فلك يسبحون). فبينما لقيت دعوة الحركة الى سودان موحد – ولو على أسس جديدة – استجابة وصادفت هوى في نفوس مثقفي القوى الحديثة في الشمال، اقتصر اهتمامهم على ما يحققه الجيش الشعبي من انتصارات والتي نظر إليها كمجرد عامل مساعد (او الحافز الذي ينتهي دوره عن حد التأثير على الأحداث دون ان يكون محركاً او صانعاً لها). لذا لم تتمعن هذه القوى جيداً في مضمون هذا الخطاب الجديد ولم تلتفت الى اهمية وضرورة التنسيق مع، او اشراك الحركة في صياغة برنامج ووضع منهاج وطة عمل لتحقيق هذا (السودان الموحد الجديد) في أعقاب سقوط نظام نميري، بل اكتفت بكتابة ميثاق والتوقيع عليه بتعجل مع الأحزاب السياسية في الشمال جاءت اجندته محدودة الأفق وبنوده فضفاضة تحمل أكثر من معنى وتخضع لأكثر من تفسير. وظنت هذه القوى لما اعترتها من نشوة عارضة انها امتلكت زمام الامور الى ان فوجئت بان السلطة الفعلية قد انتقلت عن طريق الانقلاب العسكري لرجال الصف الثاني من العسكريين لنظام مايو ومن ثم الى ذات القوى التي دفعتهم لاطلاق صفة (الحداثة) على أنفسهم بقصد التميز عن هذه القوى والنكاية بها. وبدلا عن مراجعة مواقفهم وتقويم خطأهم في التكتيك وتقييم مقدراتهم الموضوعية والذاتية في موازين القوى السياسية، وعوضاً عن تقديم اجابات مقنعة، راحوا يطرحون أسئلة ليتهم لو وجهوها الى أنفسهم عشماً في ان تزيح عنهم عجز فاضح في القوة والتنظيم.
    أولا:ً لماذا لم يعهد قرنق الى الخرطوم؟ (ومن منظورهم أن ذلك كان من شانه أن يحدث تغييراً في موازين القوى)، ثم ماذا يريد قرنق ان يحررنا منه؟ وطوال فترة ترقبتهم ومتابعتهم لأخبار العمليات العسكرية لم تروادهم أو تخطر على بالهم فكرة الاتصال بهذا (القارن) (الذي معه السيف والنبل) لمعرفة ما يبتغيه بالضبط، دعك عن التنسيق معه في الشان السياسي، وان فعلوا ذلك لأصبح السؤال نافلاً وبغير ذي معنى او موضوع. فالإجابات على مثل هذا الضرب من الأسئلة لا تقوم الا على استماع وحوار جيدين وبدون ذلك تصير مثل هذه الاسئلة مماحكة لا طائل فيها ولا منفعة. فقد سكب فيها حبر ممدود ودارت حولها أحاديث مطولة لا مكان لاجترارها في هذا المكان. وما يهمني هنا هو التنبيه الى ان هذا المنهج، وهو ياتي من قوى الحداثة يعد مثالاً في عدم المصداقية وينطق عن استهانة بقدرات الآخرين وانتقاص من مكانتهم وهو في نهاية التحليل لا ينفع قضية الوحدة الوطنية وبناء السودان الجديد بل يلحق بها ضرراً بالغاً.
    ثانيا:ً دعاة قادة انشقاق الناصر الذي وقع في صفوف الحركة الشعبية سبتمبر 1991م الى فصل الجنوب، ضمن مطالب أخرى داخلية تتصل بالحركة بدعوى عدم واقعية السعي لإقامة سودان موحد والحركة تخوض حرباً طال أجلها ويقدم فيها الجنوبيون الضحايا والتضحيات بينما يقوم الشماليون بدور (الفراجة). وفي أعقاب ذلك مباشرة خرج اجتماع لقيادة الحركة بما سمى وقتها بـ(مقررات توريت) والتي هدفت الى ترتيب اوضاع الحركة ومعالجة ما ترتب على الانشقاق والتي أثارت ولأول مرة قضية حق تقرير المصير، وحينها قامت الدنيا ولم تعقد من طرف القوى السياسية الشمالية وانزعجت بعض دوائر المثقفين الشماليين (المحسوبين على القوى الحديثة) وساد جو من الإحباط إذ قرأ البعض القرارات كتراجع في موقع الحركة من السودان الموحد واعتبرها مجموعة من الاجراءات التي تمهد تدريجيا لتكريس واقع الانفصال. وقد كتبت حينها كلمة (الوفد، 9 اكتوبر 1991) قلت فيها (أولاً)، ان ما جاء في مقررات توريت لا يفصح عن تديل في موقف الحركة انما الجديد هو الدعوة للانفصال داخل صفوفها وفي ظل متغيرات إقليمية ودولية مما يستدعي وبالضرورة الاستجابة الموضوعية لهذا الواقع وتفصيل تكتكات تصون التوجه الوحدوي للحركة، ثانيا:ً ان الدعوة للانفصال تعتبر اختباراً حقيقاً لمصداقية كل القوى الوطنية (الشمالية) من قضية وحدة السودان القائمة على العدل والمساواة وعلى طواعية الاختيار، ثالثاً: عمل هذا التطور على نقل قضية الانفصال الى شمال البلاد، فالسؤال الذي يطل برأسه الآن لا يدور حول إمكانية فصل الجنوب فحسب إنما عن دور الشمال وقواه السياسية في التصدي لمثل هذا الاحتمال وفي مساندة قيادة الحركة لإضعاف هذا التيار ومن ثم خلق حركة سياسية عريضة تؤمن بالوحدة القائمة على الديمقراطية والعدالة.
    اوحى الاستهجان الذي قابل به نفر كثير من المنفعلين بالسودان الجديد، مقررات توريت بان مسألة وحدة السودان أمر يخص الجنوبين وحدهم وكأنما الدعوة للانفصال لم تجد لها قوة دافعة في ممارسات الشماليين ونخبهم. فهؤلاء المستهجين لم يكلفوا أنفسهم حتى عناء التساؤل عن لماذا تنامي تيار الانفصال ابتداءاً؟ واستطرداً، قلت وقتها أيضا ان الموقف السياسي النظري الذي يقف عند حد الاسنتكار وإصدار بيانات الشجب والإدانة لا يتناسب مع ضخامة الحدث المتفجر حول وحدة السودان القومية، إنما علينا نا نتخذ مواقف أكثر عملية على صعيد العمل السياسي بكل أشكاله التنظيمية والتعبوية. رابعاً: وان كان ذلك في عام 1991م فقد صدق حدسي اذ لم تتنكب الحركة الشعبية – بالرغم من مقررات توريت التي أثارت الشكوك وأيقظت كوامن الثقة المفقودة (المتبادلة) – عن طريق السودان الجديد او الوحدة القائمة على أسس جديدة وفي سياق أوضاع تعاظم فيها التيار الانفصالي. وأطمأنت القلوب ولو قليلا، وبدأ كثيرون يتفهمون بموضوعية ممارسة حق تقرير المصير كآلية تحقق التساكن القوي ديموقراطرياً وعن اختيار طوعي وليس وحدة قسرية تفرض بالقوة كدأب السودان القديم. وخليق هنا ان نحيي التجمع الوطني الديمقراطي وقواه الوطنية القمين (خصوصاً الامة والاتحادي) على إعادة قراءة التاريخ بصدقية وجرأة شديدتين إذ تضم قواعدهما من يحسب الانفصال كفراً وخروجاً على الملة. أيقنت هذه القوى أن في ممارسة حق تقرير المصير، مع تقديم خيار الوحدة، ودعم كل فصائل التجمع له بما في ذلك الحركة الشعبية، الصيغة الديموقراطية الوحيدة التي تضمن وقف الحرب وإحلال سلام دائم وعادل. وتشكل مقررات اسمرا برنامجا قومياً يجمع كل هذه القوى للعمل على تهيئة مرحلة انتقالية تتسم ملامحها الرئيسية بتوفير اكبر قدر من الديموقراطية التي تقوم على التعددية واحترام حقوق الانسان وسيادة القانون وتمهد للانتقال من السودان القديم الى السودان الجديد.
    غير ان بعض شرائح القوى الحديثة – او من ينطق باسمها – ما زال يعيب على الحركة الشعبية تحالفها مع باقي القوى الوطنية في اطار (التجمع الوطني) ظنا بان لكل منهما اجندته الخاصة التي يسعى لتمريرها، ولذا يرتابون في أمر هذا التحالف (الغير مقدس) في نظرهم. وحتى وان صح توجسهم، فان انفعالهم بالسودان الجديد لا يخلو من اجندة خفية. فهؤلاء يعتقدون بشدة بانهم – وهم مخطئون ويستندون على تقييمات ذاتية – الورثة الشرعيين للقوى التقليدية الشمالية وياملون ان يعملون على نفيها وعزلها عن جماهيرها بعد ازاحتها عن السلطة في السودان الجديد والذي لم يفلحوا بعد في تعريفه وتحديد هويته. وفات عليهم ان هذه القوى التي يطمحون في وراثتها – وهي ما زالت على قيد الحياة – تستند على قاعدة اجتماعية عريضة وصلبة لا ينكرها الا غافل أو مكابر وستظل باقية حتى بعد زوال نظام الجبهة الاسلامية. فان كانت هذه الشرائح تتمثل – حقيقة – لقواعد المماسة الديموقراطية والتعددية فلتلتقي مع باقي (قوى السودان الجديد) في منبر مشترك وليس في تنظيم سياسي مواز للتجمع الوطني او مناهض له او تحت ستارة ولتهيئ نفسها للمنافسة الديموقراطية في التبشير ببرنامجها لـ(السودان الجديد) والترويج وكسب السند والتأييد الشعبيين له.
    مصداقية الحركة الشعبية:

    رابعاً: يعضد اعتقادي في ارتياب بعض اقسام القوى الحديثة من الشماليين في مصداقية الحركة الشعبية وجديتها في التعامل مع هذه القوى، موقف هذه الاقسام من مبادرة الحركة التي اطلقت عليها اسم لواء السودان الجديد (فبراير 1995). لا يجرؤ احد على القول بان المبادرة تخلو من العيوب سواء في محتواها او اسلوب اخراجها او الطريقة التي اعلنت بها أول الامر. الا ان الدفوع التي تقدمت بها هذه الاقسام، حتى بعد تعديل وثيقتها الأساسية والتطو الذي طرأ عليها نتيجة لإَضافات نفر من اصحاب الرؤى، وبالرغم من موضوعية بعض هذه الدفوع، الا انها في نهاية الامر، تركت جوهر المبادرة المطروحة جانباً، واخذت من الشكل موضوعا.ً وما استشفيته من حوارات متعددة حول المبادرة، مع مجموعات وافراد، وما خرجت به من استنساخ قوي فكرت فيها ملياً، اما ما يقف مانعا لاستيعاب المبادرة او قبولها – وفهما في سياقها الصحيح – لا يكمن في ان الحركة الشعبية ليس بالمثال الديمقراطي، او انها حركة قومية، جنوبية دينكاوية او انها تسعى لابتلاع قوى السودان الجديد في الشمال، كما زعم الكثيرون في هذه اللقاءات (وانا هنا لا أهدف الى مناقشة هذه الحجج او تقنينها، فهذا موضوع انوي التطرق له في كلمة اخرى) انما يتملكني يقين قوي بان عقول المثقفين الشماليين لم تزل جبيسة لمفهومي (الحداثة) و(التقليدية) في سياق تطور الحركة السياسية في شمال السودان، كما أنها لا تقبل بان يكون مصدر التغيير وقيادته من الجنوب او من مكان آخر بالسودان لم تألفه القلوب. وتأبى هذه العقلية بصلف ان تراجع مثل هذه المفاهيم او ان تتراجع عنها، بينما في نفس الوقت تهتف بـ(السودان الجديد) وتنادي به. وما لم تدركه هذه العقول ان مفهوم (السودان الجديد) والقوى المكونة له لا يتطاق او يتماثل مع مفهوم (السودان الحديث) وقواه. وان كان أمر القيادة هو ما يؤرق القوى الحديثة فقد كان من الممكن وفي أكثر من لحظة في تاريخ السودان ان تتصدر هذه القوى حركة التحول عن جدارة. ولكن لضعف في النظرية وخطأ في المنهج والتكتيك لم تعد هذه القوى تمتلك القدرة على التغيير- إلا بقدر حجمها ونفوذها الحاليين – ولكنها في ذات الوقت ما فتأت تلفظ وبعنت وغرور شديدين مبادرات الآخرين من السودانيين والتي، في نظرها، لا تتعدى ان تكون عرقية، قبلية، غير ديمقواطرية ومعادية للعروبة والإسلام.
    قصدت بهذه الكلمة عرض وفضح موقف نوعين من المثقفين الشمالين، يجمع بينمهما الاعتراف بتعدد القوامات الثقافية والقومية والتوق الى سودان موحد. كما يؤلف بينهما ان ميلهما لهذه الوحدة، من واقع سلوكهما تجاهها وفهمهما للواقع السياسي، لا يعدو ان يكون انفعالاً لا يرمي الى التفاعل ولا يرقى الى الفعل القاصد واللذان بدونهما لن نفلح في تخطي السودان القديم والا الشروع في بناء السودان الجديد، بل في نهاية التحليل سينتهي بنا الامر الى سودانات متعددة. كما لن يتسنى لنا الانتقال من حالة الانفعال الى جنس الفعل القاصد الا بالتفاعل الحقيقي من خلال الممارسة والعمل المشترك بين قوى السودان الجديد في شمال الوطن وقوميات السودان المتباينة في الجنوب ومناطق الهامش الاخرى. ولن يتأتى ذلك إلا بإقرار مسئولية السياسات الخرقاء التي خطتها حكومات الخرطوم المتعاقبة وسلوك بعض الشماليين في تعاظم المد الانفصالي، من جهة، وضرورة مشاركتهم في تحجيمه ولجمه، وذلك بمد الجسور الى الحركة الشعبية والحركات القومية في مناطق السودان الاخرى، من جهة اخرى. وانها لخطة بائرة وطريقة يائسة ان نظل نردد ما ملته الاسماع منذ عقود: ان هناك عوامل تاريخية لها طابع عرقي – اثني وثقافي واجتماعي – ظلت تحول دون التقاء الشمال والجنوب، وتشيع جوا من فقدان الثقة والشك والارتياب في نوايا واهداف بعضنا البعض.
    لا شك في ان هنالك بعض حواجز موضوعية لا يجوز القفز فوقها، ولكن في الوقت ذاته لا يمكن معالجتها او تصحيح ما خلفته من مرارات باجترارها، بمناسبة وغير مناسبة، بل لابد من مقاربتها بالحوار والتفاعل بين كل من انفعل بالدعوة الى (السودان الجديد) وليكف الشماليون عن المماحكة والإدعاء بان توجهاتهم اكثر قومية ووطنية وانهم اكثر تفوقاً وإنفذ بصيرة وحكمة، وبالتالي اكثر تأهيلاً للريادة او القيادة، وأن ما يأتي من غيرهم لا يعدو ان يكون (جنوبياً) او (دينكاوياً) او (بيجاوياً) او (غرباوياً) دون ان يكون سودانيا في المقام الاول. فهذا نهج أعوج العود وقصير النظر، ولنقيم احكامنا على متانة المنهج وصلابته، واستقامة المنطق وعمق الرؤية وعلى وحدة الهدف والمقصد. فان انطبقت هذه المعايير على مجموعة من الرباطاب او الحمر او الزغاوة او النوير، فلنترك المزايدة في شان (سودانيتنا) جانباً فكلنا (اولاد قبائل وابناء أصول)..

    http://www.alayaam.info/index.php?type=3&id=2147507364&bk=1
                  

04-17-2008, 06:06 PM

بهاء بكري
<aبهاء بكري
تاريخ التسجيل: 08-26-2003
مجموع المشاركات: 3518

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)

    تعليق الخاتم عدلان علي محاضرة الدكتور عبدالله ابراهيم التي قدمها بابو ظبي في 11/7/2001 والتي نشرنا نصها في بوست خاص،
    ولاهمية مساهمة الاستاذ عدلان راينا ان نعيد نشرها في بوست منفصل



    *أحب أولا أن أعبر عن شكري الجزيل للأخ عبد المنعم عجب الفيا، على وضعه لفكر صديقنا الدكتور عبد الله علي إبراهيم، في بؤرة الضوء، سواء محاضرته في أبوظبي التي نشرها عجب الفيا في هذا الموقع بعد نيل موافقة المحاضر على سلامة النص، وهو تقليد حميد اقتضته الأمانة ، أو ورقته بعنوان تحالف الهاربيين حول «مدرسة» الغابة والصحراء، أو كتاباته اليومية في الصحف السودانية. وبالطبع فإنني أوافقه على المجرى العام لحجته الراجحة كما يتضح من مداخلتي الحالية.

    وأبدأ بأن هناك إختلال أعتبره جوهريا في نقاش أفكار عبد الله على إبراهيم، هو غياب الرجل نفسه عن ساحة الحوار. وهو غياب بغير حجة على ما أعتقد، لأن عبد الله، حسب ما ذكر في هذه المحاضرة وفي مواضع غيرها، مطلع على ما يدور في الإنترنت، وخاصة حول أفكاره وآرائه، وقد شاء مرة أن يرد عليها بصورة غير مباشرة في موضع غير موضعها. غياب عبد الله عن المحاورة يشعر بعض المشاركين فيها أنهم ربما يخرقون قواعد « الفروسية الفكرية» إذ ينازلون رجلا لا ينافح عن نفسه بما يملك من العدة والعتاد، بل ربما يشعر آخرون بأنه ألقى سلاحه وهرب من ميدان المعركة كليا. وهذا الغياب نفسه هو الذي دفع آخرين، لا يتفقون تماما مع عبد الله، إلى تبني قضيته، وربما بحماس أكثر من حماس صاحبها نفسه، وهذا يجلب التشويش أكثر مما يحقق الوضوح الذي هو بغية الجميع. وقد وصفت نصوصه بأوصاف ربما توحي إلى البعض بأنهم غير مؤهلين بصورة ما لمناقشتها، وتحت مثل هذه الأوصاف ترقد أنواع من المجاملة أو الغفلة، بل حتى المبالغة والتخويف، لا يبررها لعبد الله، ماضيه أو حاضره.

    من أجل تلافي هذا الخلل الذي أشرت إليه أرجو أن نوجه الدعوة لعبد الله أن يشارك في التوضيح والشرح والرد، والدفاع، عما طرحه هنا من آراء، حتى نصل إلى نتيجة ما، بضمير مرتاح وشعور وافر باللياقة الفكرية.

    النص المقدم هنا يصعب أن يطلق عليه مصطلح المحاضرة، فهو ينطوي على إهمال كبير وارتجال فتك بالإبانة فتكا غير رحيم، كما به من التهافت من حيث البناء المنطقي ما قل أن نجده حتى في نصوص العوام. وهي أمور يمكن إقامة الدليل عليها بالإقتطاف المباشر من النص المبذول بين يدينا، والذي تشهد كل عبارة فيه تقريبا على ما نقول. وربما يغريني توفر مثل هذه الأمثلة بكثرة جالبة للملل، على تتبعها وإبرازها، ولكني لا أريد أن أسير في هذا الطريق. أولا لأن فطنة القراء لا تحوجني إليه، وثانيا لأنني مهتم بالمفهومي في نص عبد الله، حتى وإن توارى تحت عويش من الكلام، أكثر من طريقته في التعبير عنه. ولن أتعرض للتعبير إلا في إطار ما أراه فضحا للمفهوم الثاوي تحت طياته.

    أستطيع أن ألخص أهداف محاضرة عبد الله، مع تحفظي حول الإسم، فيما يلي:

    • نحن في السودان الشمالي ننتمي إلى الثقافة العربية الإسلامية، وهي سوية يمتنع معها التمييز بين أي شمالي أو آخر، سواء كان يساريا أو يمينيا، حاكما أو معارضا، غنيا أو فقيرا، مجاهدا من أجل المشروع الحضاري، أو مناضلا من أجل السلام، مشردا عن الوطن أو ناهبا لثرواته، قاهرا لشعبه أو خارجا ضد ذلك القهر، داعية للدولة الدينية أو مناديا بالدولة العلمانية. كلنا سواء: إذا ارتكب قادة الحكومات المتعاقبة، الديكتاتورية اوالديمقراطية، أخطاء قاتلة في حق الوطن، فإننا نكون كلنا قد ارتكبنا تلك الخطايا حتى وإن كانت ضدنا. إذا شن عبود والصادق المهدي وعمر البشير الحرب ضد الجنوبيين فإننا نكون كلنا قد شننا تلك الحرب حتى وإن عارضناها. أيادينا ملطخة بالدماء حتى وإن لم يطرأ لنا يوما أن نقتل احدا ولو في الأحلام. وعقابنا جميعا واحد لأننا مشتركون كلنا في الجريمة وبنفس المستوى. ولذلك فإن مصلحتنا الشخصية، مصلحة كل واحد منا هي ألا يطالب بعقاب أحد لأنه ارتكب ذنبا في الجنوب لأن العقاب سيطالنا جميعا.

    • يقول عبد الله في تسويقه لفكرته السابقة: « أصبحت السياسة تتكلم عن قطاع عريض، تتكلم الآن مش عن حزب كذا وحزب كذا، ومن أخطأ في حق الجنوب. وإنما بتتكلم عن قطاع، عن « ريس»، عن عنصر، ودا مهم لأنو دي الوقت بداية دخول فكرة الريس، العنصر، يعني في تناولنا وفي نظرنا الثقافي والسياسي، يعني نحن كنا بنتكلم عن والله الخطة بتاعت الجمهوريين هي كانت أفضل عن الجنوب وإنو مثلا اليسار كان أحنى بالجنوب، اليسار الشمالي، والجمهوريين الشماليين. لكن السيد الصادق والنظر العام دي الوقت يقول نحن الشمال السوداني، تتعدد اللافتات والشمال السوداني واحد. ودا مهم لأنو نحن دي الوقت بنتكلم عن ريس، كمدخل لدراسة التعقيد الجاري في السودان ودا بزيل المزاعم الخاصة للجماعات السياسية الشمالية من اليمين إلى اليسار إلى الوسط على أنها هي الفرقة الناجية في مسألة الجنوب: أنا أحسن من ديل، أنا كنت قدمت الفكرة الفلانية والموقف الفلاني وكذا وكذا.»

    • الفكرة الثانية المرتبطة بهذه هي أن ما قامت به الجبهة الإسلامية في الجنوب ليس أسوأ مما قامت به كل الأحزاب الأخرى وأن عذرها في ذلك هو الشفرة الثقافية المركبة فينا جميعا، وحقيقة أن القومية العربية الإسلامية خلقت وطنا أكبر منها وحررته بطريقة خرقاء ومأزومة.

    • يتبع من كون القومية العربية الإسلامية خلقت وطنا أكبر منها، وبصورة منطقية، أن تصغر وطنها ليتطابق مع ذاتها، وأن تترك ما عداه لمن لا ينتمي إليها، وهي دعوة إلى الإنفصال، يشارك عبد الله فيها عتاة العروبيين الإسلاميين وغلاتهم.

    • بعد أن يتساوى الوطن مع القومية العربية الإسلامية فإن الدعوة موجهة لنا جميعا لدخول برج الإنقاذ حتى وإن كنا نكرهه لأن دخوله يعني أننا لن نراه.

    وإذا كانت هذه هي القضايا الاساسية التي طرحها عبد الله في هذه المحاضرة، فما هي علاقتها بالثقافة؟

    الإجابة على هذا السؤال تدخلني إلى تكتيكات عبد الله في تسويق افكاره، وفي الإيحاء للكثيرين، من خلال هذه التكتيكات، وكما ظهر في تقديم الأخ محمد عبد القادر سبيل، بأنه عالم لا يشق له غبار، وأنه مؤلف للنصوص الكبيرة، وأنه علم من أعلام التنوير في بلادنا. وهي اوصاف تجانب حقيقة عبد الله مجانبة تكاد أن تكون كلية، وخاصة بعد أن سبق عليه كتاب الإنقاذ وزلزله نداؤها من ابواب الجحيم، وهو أمر سأوضحه في نهاية هذه المساهمة.

    التكتيك الأول: إخفاء الموقف السياسي المباشر في طيات الرطانة الثقافية، التي غالبا ما تكون خالية كليا من المعنى. فعندما أراد عبد الله أن ينفي حجج المعارضة السودانية في إدانة الإنقاذ لأجندتها العروبية الإسلامية الأصولية قال:

    « دا ما صحيح، الصحيح هو أنو نظام الإنقاذ مستل من شفرة في الثقافة ومن مستودع في الثقافة ومن دلالات في اللغة ومن دلالات في الثقافة بحيث إنو لربما كان الأخير في زمانه ولكن جاء بما لم تستطعه الأوائل من حيث البشاعة « ضحكة» لكن البشاعة، إذا شئت إنه في بشاعة أو أنو في عنف، أو في، هو مستل من شفرة أساسية وهذه الشفرة الأساسية زيادة على الثقافة العامة التي درجنا عليها، لكن تأسست بشكل أساسي في فترة الحركة الوطنية.»

    فهذا الحديث المكتسي جلال الثقافة خاو تماما من المعنى. فما معنى أن يكون الإنقلاب العسكري الذي نفذته الجبهة الإسلامية عن طريق التأمر يوم 30 يونيو، مستلا من شفرة ثقافية عربية أو غير عربية؟ الشفرة الوحيدة في إنقلاب الإنقاذ هي «سر الليل» الذي استخدمه الإنقلابيون في تلك الساعات الأولى من الصباح، وهي شفرة فشل في حلها أحمد قاسم فلقي حتفه صباح ذلك اليوم، رغم ما يحمله، حسب عبدالله، من شفرة ثقافية عربية أسلامية أصيلة. وهل يمكن الحديث عن شفرة ثقافية، كما نتحدث مثلا عن شفرة جينية؟ هل إندغمت الثقافة في مفاهيم عبد الله الحديثة جدا في البيولوجيا؟ ومن كان يملك تلك الشفرة: الترابي مجدد العصر، الذي هجره المفتونون به عندما فقد السلطة، أم علي عثمان الذي أكتشف البعض قرابتهم معه بعد أن آلت إليه الأمور؟ وهل الشفرة الثقافية العربية الإسلامية واحدة؟ بحيث يتساوى فيها محمود محمد طه وقاتلوه؟ هل كل مسلم هو بالضرورة أخ مسلم؟ ما هذا الحديث الفج عن الشفرات الثقافية، بينما المقصود معنى سياسي واضح هو الدفاع عن الإنقاذ وجرائمها.

    • لا يستخدم عبد الله الثقافة وحدها في الدفاع عن آرائه السياسية، بل يستخدم كذلك الهراء المحض. وأنا استخدم كلمة «الهراء» هنا، بالمعنى الذي استخدمها به أحمد بن الحسين، عندما فسر الهراء بأنه : « الكلام بلا معاني»:
    ولولا كونكم في الناس كانوا "هراء كالكلام بلا معاني"

    • . فلنستمع لعبد الله مرة أخرى وهو يحاول أن يدمغنا جميعا بما أقترفه نظام الجبهة الإسلامية من خطايا في حقنا، وأقصد نحن كجنوبيين وشماليين:
    « نحن كلنا إذا كنا سودانيين شماليين في هذا اللقاء، لنا إشكال في شفرة ثقافتنا، وفي رموز ودلالات لغتنا وفي شحناتها التاريخية وفي علاقاتها التاريخية بحيث أنه يصبح مفهوم الفريق الناجي ضئيل جدا. وبحيث تكون التبعة والذنب والخطأ هو الخيط الذي يصل بين الجماعات الشمالية كلها.»
    ولاحظ هنا أن الإستنتاج السياسي، وهو تجريم الجميع، واضح جدا ومقيل بلغة لا لبس فيها ولا غموض، لغة سياسية صافية، أما المبررات فهي الهراء المحض الذي لا معنى محددا له، والذي يلوذ بالشفرات والرموز والدلالات والشحنات.

    • لقد تساءلت بيني وبين نفسي: هل أنا مسؤول عن الجرائم التي حاقت بأهلي في الجنوب؟ هل ساهمت فعلا في قهرهم؟ بل هل توانيت في استخدام كل ما أملك من طاقات للدفاع عنهم من مواقعي؟ وأجبت بضمير مرتاح: أنني لست مذنبا. صادقت الجنوبيين والجنوبيات منذ نعومة أظفاري، لم أشعر بتفوق عليهم، وإن شعرت بتفوق الكثيرين منهم عليّ، ولم أحتج في ذلك إلى جهد كبير، لأنني تحررت من أوهام التفوق العرقي وأنا لم أشب بعد عن الطوق، في عام 1969 اقترحت في أتحاد طلاب جامعة الخرطوم أن نبعث لجنة لتقصي الحقائق في الجرائم التي ارتكبت في الجنوب عامي 1965 و1966، وذهبنا في وفد من أربعة أعضاء في اللجنة التنفيذية، هم أبدون أقاو، وحاتم بابكر، وعبد الله حميدة وشخصي، وحققنا في جرائم الملكية في جوبا، وفي مذبحة العرس في واو، وهددنا مدير المديرية الإستوائية، يوسف محمد سعيد، بالسجن لأننا رفضنا لغته المسيئة ومفاهيمه النازية، وتضامنا مع صديقنا ورفيقنا أبدون أقاو، ضد تهجمه الشخصي.
    وعندما عدنا إلى الخرطوم عرضنا الحقائق الدامغة في مؤتمر صحافي غطته كل الصحف في اليوم التالي، وأصدرنا إدانتنا الدامغة للجيش السوداني و قيادته السياسية. وكنا نسعى إلى المواصلة لولا قيام إنقلاب مايو بعد ذلك بأقل من أسبوع. وفي 1970 ذهبت ضمن مجموعة كبيرة من أعضاء جمعيتي الثقافة الوطنية والفكر التقدمي إلى جوبا وواو وملكال، وعشنا مع الناس واقمنا الفصول للطلاب والاسواق الخيرية لصالحهم وحلقات محو الأمية للكبار، وساعدنا النساء والعمال على التنظيم وخرجنا من كل ذلك بصداقات باقية حتى نهاية العمر. صادقت أخوتي الجنوبيين في الجامعة، وصار «بيتر نيوت كوك» أعز أصدقائي وأعتبره عالما، ديمقراطيا، مثقفا، وقانونيا ضليعا، ضمن مثقفين وعلماء كثر يعج بهم هذا السودان. أيدت نضال الحركة الشعبية لتحرير السودان منذ أن إنشئت، وأشدت ببرنامجها ودافعت عنها في جميع المنابر دفاع من لا يلوك كلماته أو يخشي في نصرة الحق لومة لائم. وناديت في رفق من يفهم ظروفها، والتعقيدات المحيطة بها، والشروط التاريخية التي لا تملك منها فكاكا، وليس المتحامل عليها من مواقع التآمر السياسي مع الطغاة الأصوليين، إلى تحولها إلى حزب سياسي من حلفا إلى نمولي كما يعبر قادتهأ، واقمت مع هؤلاء القادة أنفسهم ومع أسرهم علاقات حميمة وقوية.

    • كيف إذن يحملني عبد الله علي إبراهيم بدوافع تواطئه المذموم مع الجبهة الإسلامية الخطايا التي ارتكبها القتلة والمجرمون والمهووسون في نظام الإنقاذ أو خارجه؟ وقد تحدثت عن نفسي هنا، ليس لتفرد موقفي أو شخصي، بل لإعطاء مثال محدد لا يستطيع عبد الله أو غيره أن ينازعني عليه. مع علمي أن موقفي هذا هو الموقف المشترك، وإن اختلفت التفاصيل، لمئات الآلاف من أبناء وبنات وطننا الكبير الذين لا يكنون لأخوتهم الجنوبيين سوى الإعزاز. وليس سرا أن عشرات الآلاف من أبناء وبنات الشمال قاتلوا في صفوف الحركة الشعبية طوال هذه السنين، وبلغوا في ذلك شأوا لم نبلغه.

    • هل معنى ذلك أن « الثقافة العربية الإسلامية» وحتى في أكثر صيغها رقيا، خالية من النزعات الإستعلائية، المحقرة للآخر والمقصية له من مجال الكرامة، أو حتى من مسرح الحياة نفسها؟ طبعا لا. ولكن القول بأننا جميعا مشتركون في هذه المفاهيم الحاطة من قدر الإنسان وكرامته، هو القول المرفوض والمردود في تهجمات عبد الله الغليظة علينا جميعا. شخصيا، لا أحمل من هذه النزعات شيئا كثيرا أو قليلا، بل سخرت عمري حتى الآن لمحاربتها ودفعت مستحقات موقفي. وهنا أيضا لا أتحدث عن تفرد شخصي، بل أريد أن أقيم الحجة على عبد الله بصلابة لا يستطيع أن يتخطاها أو يلتف حولها، وأعلم في نفس الوقت أن مئات الآلاف من أبناء السودان وبناته يحملون الموقف ذاته، ومنهم من يعبر عنه بعمق أكثر مما أستطيع، ويدفع مستحقاته بتحمل أقدار من الظلم لم تطالني بنفس الدرجة. كما أعرف أيضا أن عبد الله سار في هذا الطريق لبعض الوقت، وهاهو قد سبق عليه كتاب الإنقاذ، فتنكب ذلك الطريق، وصار يقبل من الثقافة العربية نفسها أكثر جوانبها معاداة للديمقراطية والإستنارة، وتغييبا للإنسان.

    • ليس صدفة أن عبد الله يتحدث عن شفرة ثقافية، غير عابئ بالخلط بين العلوم والتخصصات والفلسفات. فغرضه من ذلك تحقيق سوية غير متمايزة من الشماليين جميعا، ليسوقهم، بالتخليط والتشويش، وبالإبتزاز الصريح المستند إلى الجدار القمعي الحاكم في السودان، والمعتمد في المدى البعيد على مستودعات التجهيل التي أشاعتها الإنقاذ، إلى خطيئة واحدة، وثقافة واحدة ، وتاريخ غفل من الفعلة، وجرائم غاب مرتكبوها في سديم الشفرات. ولا يجد عبد الله صعوبة في كل ذلك، نتيجة للتشويش الفكري الذي يعاني منه هو شخصيا، لإفتقاره للأدوات الدقيقة التي تصنف المفاهيم وتحدد الدلالات وتزيل التناقضات.

    • ماهي هذه الشفرة الثقافية يا ترى؟ ما هي طبيعتها؟ كيف نفك رموزها ومن يملك تلك الرموز؟ أيملكها حسن عبد الله الترابي أم علي عثمان محمد طه أم البشير؟ أم يملكها عبد الله شخصيا ولا يريد أن يجود علينا بأسرارها؟ أمن ضمنها الأصولية الإسلامية والدولة الدينية، والحرب الممتدة، والتطهير العرقي والإسترقاق، وإضطهاد النساء والبتر والقطع والصلب والخلافة عن الله؟ أمن ضمنها الطغيان والدكتاتورية؟ أمن ضمنها النهب الإقتصادي والأثرة والأنانية والشراهة التي تغطي عوراتها بالنصوص المقدسة؟ أمن ضمنها تقسيم البلاد إلى حاكورات يملكها أهل الإنقاذ فيسدون أبواب الرزق على كل من عداهم من أهل هذه البلاد؟ أية شفرة يتحدث عنها عبد الله؟
    • يسهل على عبد الله أن يتحدث عن سوية غير متميزة، لأنه يعتقد أنه يمكن حتى الآن، أن نتحدث عن المجتمع، وهو هنا المجموعة الشمالية العربية المسلمة، في تصنيف عبد الله، وكأنها «جوهر» مستقل عن خصائصه! وهو في ذلك يتخطى إلى الوراء، وفي قفزات نكوصية مذهلة، إرث أكثر من ألفي عام من المنطق الفلسفي والعلمي، وتلك نقطة سنعود إليها في غير هذا السياق.

    • يهمني أن أقول هنا، أنني، ولإنتمائي لشعبي، لا أنتمي لمقولة عبد الله الذهنية حول «الجماعة العربية المسلمة»، بل أنتمي لهوية أوسع هي الشعب السوداني، المتمايز قوميا ونوعيا وطبقيا ودينيا وثقافيا، والذي يشد عراه مع ذلك إنتماء جامع إلى وطن واحد، نحاول أن نوسعه ليشمل الجميع ويحتفي بالجميع. المقولة الذهنية الخاصة بعبد الله، تقوم على فكرة هجرتها البشرية حاليا، هي فكرة النقاء العرقي، بل إن كل قرون إستشعار المخاطر المحدقة، تستيقظ وتدق أجراسها عندما تسمع من يردد هذه الفكرة التي تترتب عنها مناهج في التفكير أورثت البشرية اضرارا فادحة. وقد دفعنا ثمنها في السودان، قبل أن تجيئ حكومة الإنقاذ، ولكن حكومة الإنقاذ حملتها إلى نهاياتها الأكثر دموية وعنفا. وإن أي تحليل يحاول أن يطمس الحدود بين الإنقاذ وما عداها، ويساوي بينها وبين من سبقها، أو حتى يساوي بينها وبين من يحمل هذه الافكار نفسها ولكنه لم يشأ أن يطبقها أو لم يجد وسيلة لتطبيقيها، لهو تحليل معطوب ومتنكب للصواب. ولذلك فإن وضع عبد الله الطيب، أو الطيب صالح على سبيل المثال، في نفس معسكر الترابي والبشير، وإن حمل الرجلان بأقدار متفاوتة مفاهيم عروبية ذاهلة عن حقيقة شعبهما ونفسيهما، من الأخطاء المنهجية الكبيرة التي تورط فيها البعض دون أن يستبينوا الخطل فيما يزعمون.

    • إنتمائي للسودان كهوية جامعة لا ينفي بل يغذي، الإنتماء لهويات أصغر، شريطة ألا تتعارض تلك الإنتماءات، أو تلك الهويات الأصغر، مع المباديء الجامعة للجماعة السودانية، الشمالية الجنوبية الشرقية الغربية الوسطية، وهي مبادئ المساواة والعدالة والرفاه والكرامة والحقوق الإنسانية المملوكة ملكية جماعية. أي أنها لا تتعارض مع الإسلام المستنير، بل تتقف مع جوهره الخير الداعي للحرية، والمتصالح مع العلمانية، وحقوق الإنسان وكرامته. وما العلمانية سوى إدارة الناس لشؤون دنياهم بعيدا عن أي كهنوت. وهي بهذا المعنى حركة مجتمعات لا محيد عنها ولا مهرب منها، طالما أن المجتمعات تسير دون هوادة في إتجاه الإمساك بمصائرها، وإقامة بنائها على أساس من العدل والرشد. وهذا قول يحتاج إلى تفصيل لا يتسع له المقام الحالي. كما لا تتعارض مع المسيحية أو الديانات العريقة المبجلة للطبيعة او للجوهر الإنساني، ولا تتعارض مع علوية الإنسان من حيث هو إنسان، بل تمتد بهذه العلوية إلى آفاق أكثر رحابة باستمرار, وتتسع الهوية السودانية الجامعة لكل الهويات العرقية الأصغر، ومنها الهوية العربية بخصائصها السودانية التي وصفناها. أقول السودانية، وأعتبرها مركز جملتي، لأن الأوطان تصبغ خصائصها وتعطي إسمها لكل الجماعات الوافدة عليها، وحتى وإن كانت وفادتهم تدشينا لعهد جهد جديد، ومرحلة تاريخية متطورة. وهي تعطيهم إسمها، وسماتها، وخيراتها، وتفرض عليهم واجبات حمايتها، وتصوغهم وفق قوانين اجتماعها، في نفس الوقت الذي تتسع لمواهبهم وثقافاتهم وألسنتهم وأديانهم أو تتبناها. وهذا أيضا يحتاج إلى تفصيل لا يتسع له المقام الحالي. ولا ترفض الهوية السودانية الجامعة بالطبع، اللغة العربية، ولكنها لا ترفض كذلك اللغات الأخرى بل تحتفي بها. ونسبة لحاجة الجماعة الموحدة في الوطن إلى لغة مشتركة، فنحن نرشح اللغة العربية لتكون ذلك الوسيط، على أن تتطور هي نفسها لتكون لغة عالمية، علمانية لا يشعر المتحدث بها أنه ملزم، لهذا السبب، بالإيمان بدين غير دينه. أي فك الإرتباط الأيديولوجي بين اللغة والمكونات الثقافية الخاصة بجماعة في الوطن دون سواها، وتوسيع القطاع العلماني في التعبير بطابعه الإنساني الشامل، المتمايز عن الخطاب الديني الأصولي، الذي يحاول في كل مناسبة أن يستر ضعفه ويخفي تهافت منطقه، بالتحصن والتسلح والتصفح، بالنصوص المقدسة التي يحرفها عن مواضعها ويستغلها في استدامة أنماط تفكيره وإحكام أدوات سيطرته على العقول. وهو ما فعلته كل اللغات المتطورة في العصر الحالي، دون أن تكون عاجزة بالطبع عن التعبير عن القيم الدينية لمن يريد أن يعبر عن تلك القيم. ويتبع ذلك رفع الحرج، التأصيلي، الذي ابتليت به اللغة العربية على أيدي بعض ممثليها من حراس القديم، والمتمثل في تحفظها في الأخذ من اللغات السودانية الأخرى، من نيلية وحامية ونوبية بدويت، ومن الدارجة السودانية وترقية تعابيرها ورفعها كل يوم إلى مصاف اللغة الفصحى، كما ترفع الفرق الكروية التي تتميز في أدائها إلى المستويات الممتازة، باعتبار هذه اللغات هي المستودع الذي لا تنضب مياهه للتعبير اللغوي المعاصر والمتطور والذكي والطريف. وباعتبار قربها من الوجدان الشعبي ومقدرتها على التعبير عن أدق خلجاته. ويمتد رفع الحرج إلى الأخذ من اللغات العالمية كل ما تحتاج |ليه لغتنا لتكون بالفعل لغة للعلوم والفلسفة والإزدهار الأدبي والثقافي. ونخص هنا اللغة الإنجليزية، مذكرين بما حدث لهذه الأخيرة نفسها في بداية النهضة الصناعية، إذ تمثلت في ظرف عدة سنوات أكثر من عشرة ألاف كلمة من اللغة الفرنسية التي كانت أكثر تطورا منها، ليس في مجال اللاهوت، بل من حيث قابليتها للتعبير عن النهضة العلمية الكاسحة التي شهدتها بريطانيا في ذلك الوقت. ولا يساعد على تطور اللغة العربية في هذا الإتجاه، خطاب المهووسين من الأصوليين، الذين يريدون أن يوحوا في كل ما يكتبون بأن إجادة اللغة العربية مرتبطة باعتناق الإسلام. كما لا يساعد فيه ما يوغل فيه بعض اليساريين السابقين، من إبداء طقوس تدينهم في كل حرف يكتبونه، تملقا للمهووسين. وليربأ هؤلاء بإيمانهم من هذا الإستخدام غير الوقور. وهم على كل حال لن ينالوا رضا الأصولين ولن يأمنوا شرهم عن هذا الطريق. فأنت لا تأمن شر الإنقاذيين إلا بالإذعان لهم، إذعانا كليا، أو النهوض في وجوههم وكسر شوكتهم. فهم يفضلون الإذعان على الإيمان، في حالة التخيير بين هذا وذاك. وهم ليسوا وحدهم في ذلك، فجنود إبن العاص كانت تصد أفواج الفلاحين المصريين عن دخول الدين الجديد، لأنهم حينها لن يدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون، والصغار هو الإذعان كما تعلمون. نرشح اللغة العربية، ونعتقد أنها يمكن أن تقوم بهذا الدور، دون استبعاد لأية لغة أخرى، وتجيئ المسألة كاقتراح لأن المجال مفتوح أمام تنافس لغوي لا يمكن حسم نتيجته بصورة مسبقة. وهذه أيضا من أمهات القضايا التي لا بد أن يدور حولها الحوار المفتوح والمثقف.

    • « الجماعة العربية الإسلامية »، التي يتحدث عنها عبد الله علي إبراهيم، هي جماعة عربية نقية العروبة، لم تخالطها دماء زنجية أو حامية، ربما لأن الجماعة العربية الإسلامية التي جاءت إلى السودان، أبادت شعبه الأصلي، من بناة الحضارات القديمة، الذين تمتد جذورهم إلى ما وراء التاريخ، والذين اختلطوا بهذه لأرض، يأخذون سيماءها وتأخذ سيماءهم، ويغيرونها بالفعل المديد، وتمتد فيهم وتخالط منهم الدماء. ربما أبادتهم القبائل العربية الباحثة عن الأرض والفضاء والماء والمرعى، والضائقة بمن لا ينتمون إلى شفرتها الجينية من الشعوب.« يسميها عبد الله الشفرة الثقافية» ربما ابادتهم هذه القبائل، لأننا لا نجد عند عبد الله تفسيرا لمقولته الذاهلة، حول النقاء العرقي لهذه القبائل، وحول أختفاء هذه الشعوب التي صارت أثرا بعد عين. إن أقل إتهام نوجهه لعبد الله هنا، هو أنه ذاهل كليا عن النتائج المترتبة على مقولته، وأنه عن طريق الخرق " بفتح الخاء والراء" الفكري القليل المثال أزال شعبا كاملا من الوجود دون أن يشعر أنه مطالب بأن يقول شيئا، ولو قليلا، عن هذه الصور التوراتية لزوال الشعوب. فهل جاءت القبائل العربية بنظرية عرفناها بعد ذلك عند اليهود، وهي قصة شعب بلا أرض، يبحث عن أرض بلا شعب؟ ولكن التاريخ والحقيقة أكثر حكمة من عبدالله، وأحكم منه كذلك جميع المؤرخين وعلماء الأنثربولوجيا والآثار، الذين قالوا، وأطنبوا في القول، أن الجماعات العربية الوافدة إلى السودان اختلطت بشعبه، وأن اختلاطها قد أذاب العنصرين في هوية جديدة، لا يمكن أن نسميها عربية خالصة إلا بمصادرة غافلة عن الحقيقة والواقع، ولا نفعل ذلك إلا لأننا نحقر جزء أصيلا من مكونات الهوية الجديدة، مما يفتح الأبواب لانفصامات النفس وفساد الوجدان وخلل العقل. ولا أحب أن أوحي من قريب أو بعيد، بأن عملية الإختلاط هذه شملت الجميع من العنصرين، بل لا أستطيع أن أحدد لها نسبا كمية دقيقة. كما لا أحب أن أتبع المنهج الشيلوخي في تقسيم الإنسان إلى أرطال من اللحم أو أوقيات من الدم، أضع لها قيما متفاوتة كما يفعل القصابون. ولكني اقول باطمئنان أن هذا الإختلاط وإن لم يشمل أغلبية العناصر السودانية العريقة، فإنه شمل الاغلبية العربية الوافدة، ودون أن يحط من شأن هؤلاء أو يعلي من أقدار أولئك. وهذه هي الحقيقة الهامة فعلا، وهي وحدها كافية لدحض مقولة عبد الله عن النقاء العرقي العربي.

    • والجماعة العربية المسلمة، في تعريف عبد الله، أصولية العقيدة محكومة بالشريعة الإسلامية في اقصى صورها بعدا عن العصر، وهي دعوة دعا إليها عبد الله مرارا وتكرارا، وطالب الآخرين بالإنتماء إليها. والجماعة العربية الإسلامية إنقاذية الإنتماء السياسي، منكفئة على ذاتها، رافضة للآخرين، كارهة للتعددية بكل أشكالها وألوانها. إنها سوية أيديولوجية غير متمايزة، مقولة ذهنية في ذهن "مرهق"، ذاهل عن العصر. أقول لعبد الله ولأمثال عبد الله، إنني شخصيا لا انتمي إلى هذه المقولة الذهنية. فليكف عن تصنيفي على هذا الأساس. إنني أنفي عن نفسي فكرة النقاء العرقي، بل تجري في عروقي دماء الأقوام السودانية العريقة، كما تجري في عروقي دماء عربية لا أنكرها ولا أتيه بها على الآخرين. وعندما أتحدث عن الدماء فإنني أتحدث بكثير من المجاز، لأن الموضوع الوراثة يتعلق بالحامض النووي، وبالمورّثات عموما، والتي تعطي الفرد خصائصه الجسدية، ومصطلح الدم، كمحدد للهوية، مثله مثل مصطلح القلب كمكمن للعواطف، مصطلح مجازي تخطته العلوم. ولا فرق بين دماء عربية أو زنجية، حامية أو سامية، ملكية أو عامية. كما يمكن للإنسان أن يغير دمه كليا ولا تتغير هويته في قليل أو كثير، وهو أمر يحدث أمام أعيننا كل يوم. ولا يقتصر الأمر على الذين يغيرون دماءهم لأمراض تصيبهم، بل إن الناس جميعا تتغير دماؤهم كليا أو جزئيا عدة مرات في العام الواحد. وقد آن لنا أن نتحرر من جهالاتنا "الدموية"! الدم حامل للحمض النووي ولكنه متمايز عنه تمايزا كليا. وإذا كان الأمر لا يتعلق بدماء نقية أو ملوثة، نحسها تجري في عروقنا، بل يتعلق بشفرة جينية، تكاد أن تكون، من فرط دقتها، مفهوما رياضيا، فإن جوهر المسألة يصبح هو قبولنا لأنفسنا وتأمل ذواتنا في مرايانا الخاصة، وليس النظر إليها بمرايا الآخرين. حينها سنكتشف كم هي جميلة هذه الهوية السودانية، وكم هي متمايزة عن الآخرين في نفس الوقت. ولكن مرايانا نفسها تحتاج إلى التطوير والصقل، لترى تلك القوى الهاجعة في بطن هذه الأم الرؤوم المعطاءة، "المملوءة الساقين أطفالا خلاسيين." وحينها سيكتشف السودانيون أن ما يطلبونه، أي يبحثون عنه، " قد تركوه ببسطام" كما نقل عبد الحي عن فتوحات إبن عربي المكية. فقد تميز السودانيون في كل أرض حلوا بها، لأنهم يملكون طاقة التميز والفوت، عندما يتعلق الأمر بالخصائص الجوهرية في الإنسان، أي علمه، وعمله، وأخلاقه وكرامته. أي لم يكن أكثرهم تفوقا، بالضرورة، أولئك الذين يحملون سمات خارجية أقرب إلى تلك المجتمعات الجديدة التي حلوا بها. ومن يتأمل هذا الأمر يعود إلى ذاته راضيا عنها مرضيا.

    • أتحدث عن نفسي في قضية الهوية، لدوافع ذكرتها تتعلق بالإختيار، وهذا زمن الخيارات الحاسمة، ولكني أعتقد أن ما أقوله عن نفسي ينطبق بصورة أو أخرى، وبهذه الدرجة أو تلك على كل هؤلاء المتحاورين حول الهوية، ومنهم عبد الله علي إبراهيم، كما ينطبق على زعمائنا جميعا دون استثناء. ينطبق على الشريف زين العابدين الهندي، الذي قال أننا جئنا إلى هنا وتزوجنا الإفريقيات، ومن هنا جاءتنا هذه "الشناة"، في مناسبة حضرتها شخصيا، وفي قول أورده صديقي الباقر العفيف الذي تناول الهوية وكتب عنها ما لم يكتبه سواه، وحلل كلمات الهندي بما لا يحتمل الزيادة، كما تنطبق على أحمد الميرغني، وعلى أخيه محمد عثمان، وعلى الصادق المهدي، وعلى حسن عبد الله الترابي، وعلى محمد إبراهيم نقد وعلى عثمان محمد طه وغير هؤلاء. وقد طالبت هؤلاء جميعا، بأن يبرزوا " أشجار نسبهم" السودانية الحقيقية، التي يخفونها كما يخفي الإنسان عورته، كما ابرزوا من قبل أشجار نسبهم العربية المؤسطرة والمتخيلة، لأنهم إن فعلوا ذلك، فإنما يقدمون لأهلهم خدمة جليلة، تفتح لهم الطريق إلى التصالح مع أنفسهم، وإطراح الأوهام التي تضر ولا تفيد، عن أصلهم المتميز والمتفوق.

    • ثم يصل عبدالله بعد ذلك إلى قمة محاضرته، وهي في نفس الوقت قاعها، وهي دعوة الجميع إلى دخول برج الإنقاذ. يقول: « في هذا الصدد أري إنو يجب أن نعترف أننا كلنا ننتمي إلى النظم السيئة، مش النظم السياسية. ننتمي إلى الشفرة الثقافية الموصوفة بالسوء. بقول كان البروفسور إدوارد سعيد ضرب مثل، وأنا أستعين بيهو هنا، قال إنو في كاتب فرنسي كان يكره برج أيفل جدا، لا يطيق رؤية برج إيفل، وكان حله لما يضيق به الضيق النهائي، ويصبح برج إيفل بالنسبة له شبح وكذا، يصعد البرج ويجلس في مطعم البرج ويأكل. قيل له: ليه. قال، لانو تلك اللحظة الوحيدة التي لا أرى فيها البرج «ضحكة». فيا أخوانا نظام الإنقاذ أنا بصفه بأنه برج أيفل لينا « ضحكة ». لا نطيقه، مزعج، كلنا عندنا مواقف حتى أنصاره « ضحكة ».»

    • دعوة عبد الله هنا هي أن ندخل برج الإنقاذ « ونأكل» منه حتى لا نراه. وهو يستعين على دعوته هذه، بالأمثلة، ويعاني في طرحها حرجا عظيما تنوء به الجبال، تظهره الضحكات العصبية المستوحشة، وتظهره العبارة المتهالكة، المستعصية على الفهم، ويظهره تداخل الكلام بعضه في بعض، و الزوغان في نهاية العبارة من معناها الواضح الصريح. ما الذي يجبر عبد الله على كل هذا العناء وهو المشفق على الجميع من الإرهاق؟ ودعونا هنا نناقش المثال الذي أورده عبد الله، وهو يقع في مجال المجاز، وإذا كانت لعبد الله مساهمة متميزة فهي في مجال المجاز وحده وليس سواه. رجل وحيد، غريب الأطوار، يكره برج إيفل، وليس غريبا أن يكون الرجل وحيدا وغريب الأطوار، لأن من يكره إنجازا حضاريا مثل برج إيفل يجب أن يكون كذلك. فهو يكره إنجازا حضاريا يمثل مصدر فخر للشعب الذي شيده، وتفخر به البشرية في عمومها لأن من عاداتها أن تفخر بمثل هذه الإنجازات. هذا الرجل يعتقد أن برج إيفل هو مظهره الخارجي وحده، أي هذا الإمتداد الفولاذي الذي يشق عنان السماء، وليس باطنه، بما فيه من عجائب هندسية ورؤية ساحرة، وأماكن للترويح عن النفس من ضمنها المطاعم التي يأكل فيها ذلك الرجل. رجل يجهل حقيقة يدركها كل الناس وليس السواح وحدهم، وهي أنك عندما تدخل برج إيفل فإنما تراه بصورة أفضل، بل يعتقد أنك إذ تدخله لن تراه. ما الذي يقابل هذا الرجل عندما يتعلق الأمر بمن يكرهون الإنقاذ؟ وما الذي يقابل برج إيفل عندما يتعلق الأمر ببنائها الداخلي؟

    • إن حقائق الواقع الماثلة تقول أن الاغلبية الساحقة من شعب السودان تكره الإنقاذ، لأسباب أقوى بكثير من تلك الأسباب التي تحمل بعض الشعوب على كراهية حكوماتها. والاغلبية الساحقة إن كرهت نظاما سياسيا فإنما تسقطه ولا تدخله. وهذا هو الطريق الذي يسير فيه شعب السودان حاليا، بعد أن ساعدته الحركة الشعبية لتحرير السودان على قطع نصف الطريق. ومهما تغيرت الأساليب فإن الغاية واحدة، وهو إسقاط نظام الإنقاذ وتفكيكه طوبة طوبة، طال الزمن أم قصر. ولكن ذلك سيحدث عن طريق صعود الشعب السوداني مراقي جديدة في التمسك بحريته وحقوقه، وامتلاكه أدوات جديدة، سلمية في غالبها. وهذا أمر طبيعي فالإنقاذ بكل ما تمثله من فكر وممارسات عملية ليست سوى بثور علقت بهذا الجسم الجميل وهي لا شك زائلة. وهذا من طبائع الأشياء لأن الشعب الفرنسي، وليس ذلك الرجل الغريب الأطوار، إذا كره برج إيفل، فإنه سيقتلعه من " الجذور"، ليزيل الأذى عن خط باريس السماوي. ومن الناحية الأخرى، هل يمكن المقارنة بين الإنجاز الحضاري المتمثل في برج إيفل، و"المشروع الحضاري" المتمثل في الإنقاذ؟ ندخل برج إيفل فنأكل الفروي دوميغ، والكوت دو بوف،والفياند سينيان، وبعضنا يأكل شكروت الألزاس، وما يصاحبها من الأجبان والنبيذ المعتق. فماذا نأكل عندما ندخل الإنقاذ؟ عبد الله نفسه يعطينا مثالا عمليا على ما يمكن أن نأكله، فمن ضمنه الدعوة الصريحة إلى الباطل الصريح ومن على رؤوس البيوت، وخيانة المثقف لواجبات التنوير وإستخذاؤه للطغاة، فقط لأنهم طغوا. وهو طريق لم يختره أولئك الفتية الذين حاضرهم عبد الله في أبي ظبي، أو نشر عليهم افكاره في السودان وفي بلدان الشتات. خيانة النفس، إذن، والتنكر لرسالة المثقف ، هي أفضل وجبة يمكن أن تقدمها إلينا الإنقاذ. ولكن ليس ذلك بالنسبة لها سوى "المقبلات". إذ تجيئ بعد ذلك الوجبة الرئيسة وهي مشاركتها في خطاياها جميعا، المكسوة بالقمع والمتوجة بالإبادة الجماعية للاقوام والشعوب، أما " التحلية" فهي إقامة الرفاه المادي للقلة الغليظة الحس، على خلفية من الإفقار المطلق لشعب كريم. "ثم ثانيا" كما يقول أحد أصدقائي وهو يطرح نقطته الخامسة: إذا كان ذلك الرجل يأكل في برج إيفل ويذهب إلى بيته، فهل يمكن الأكل في برج الإنقاذ والخروج منها بعد ذلك، وكل ليلة؟

    • أقول لصديقي عبد الله: دعوتك مرفوضة يا " أخا العرب"، لأنه مهما بلغ حب الناس لك، فإنه لا يبلغ مبلغا يجعلهم يختانون أنفسهم. فهم لم يحبوك على باطل، بل أحبوك على حق. فهل تسير وحدك في دربك الموحش؟ هل تواصل وحدك " رحلة بائسة"؟ هل تتوغل وحدك في صحراء الإنقاذ؟ هل تخوض وحدك في وحلها؟ وهل صار حتما مقضيا أن تقطع رحلة الألف ميل وقد بدأت بخطوة واحدة؟ الخيار خيارك يا عبد اللهّ. وأقول "وحدك" مشيرا إلى وحشتك في قطيع من الذئاب، وليس إلى خلو المكان من الآخرين، ومنوها بمجدك الذي بنيته على بسط ثوب الإستنارة عندما كتبت عن " الناس والكراسي" مذكرا اللبراليين الذين تعثرت ألسنتهم عن إدانة العدوان البربري على تراث الشعب، الذي قامت به عام 1968 هذه الفئة نفسها التي تدعو الناس إلى دخول برجها اليوم، بتلك اللحظات التي تعثرت فيها أرجلهم في باحات الرقص والمخاصرة في جامعات الغرب، وبذلك الفرح الخجول الذي لا يريدون أن يدفعوا مقابله شيئا.

    • سألت في موقع سابق من هذا المقال عما يجبر عبد الله على مثل هذا المآل، وعما يدفعه إلى تحمل هذا الحرج الكبير. ولو وضع عبد الله في موضع يجبره على الإجابة على مثل هذا السؤال، لتعلق أيضا بمقولة ثقافية ما ، غالبا ما تكون خالية من المعنى. وكما أوضحت أن دوافع عبد الله سياسية بحتة، مكسوة بجلال كاذب ومغشوش، فإني أقول أن بداية التحول الفكري لعبد الله، كانت سياسية أيضا، أو قل أنها كانت سياسية نفسية. وهي تتعلق تحديدا بموقفه من الإنقلاب العسكري الذي حدث صبيحة الثلاثين من يونيو 1989. موقف عبد الله كديمقراطي، وموقفه كعلماني، وموقفه كتقدمي، كان يملي عليه، كما أملى علينا جميعا، أن يرفض ذلك الإنقلاب، حتى ولو لم يكن قادرا على مقاومته. هذا الموقف لم يستطعه عبد الله، ليس لأنه كان طامعا في منصب أو مال أو جاه، ولكن لأنه لم يجد في ذاته قوى وطاقة كافية تسنده ليقف ذلك الموقف. ولذلك عندما دعته السلطة الإنقاذية المغتصبة، إلى المساهمة في إعطائها شرعية أمام الشعب، وخاصة من مثقف تقدمي مثله، له كل هذه الشنة والرنة، فإن عبد الله لم يستطع سوى أن يلبي النداء، وشارك في "مؤتمر الحوار الوطني" وشاهده الناس جميعا، وعلى وجهه ذلك الحرج الأسطوري، وهو يقبل الإنقاذ كبديل للديمقراطية، ويقبل النكوص كبديل للتقدم والتنوير والإنفتاح. وقدفعل عبد الله ذلك والدماء التي أسالتها الإنقاذ ما تزال حارة فوارة، كما أنه في طريقه إلى " المؤتمر" قد مر بالجثة الكبيرة لكيونونة كانت تسمى الديمقراطية الثالثة. تلك خطيئة لم يفق منها عبد الله بعد ذلك، مع أن الطرق كانت أمامه مفتوحة لإنقاذ النفس من "الإنقاذ". عندما خرج عبد الله من السودان، كان يمكن أن يوضح أن موقفه نتج عن غريزة حب البقاء، وهي غريزة مركبة في الناس جميعا، ولكنهم يتعاملون معها بطرق مختلفة، تتراوح بين البطولة والتقية والمخاتلة وتصل إلى قبول الموت المعنوي إنقاذا للجسد. وكان يمكنه أن يعتذر إعتذارا خفيفا، ويواصل الدعوة إلى ما كان يدعو إليه قبل الإنقاذ. ولكن عبد الله لا يجيد الإعتذار، بل لا يقبله حتى وإن كان مستحقا، كما قال في محاضرته هذه، ولذلك اختار أن يحول الموقف الناتج عن ارتخاء الركب، إلى موقف فكري شامل ومحيط. وذاك لعمري اختيار بئيس.

    • في نفس الوقت الذي نشرت فيه محاضرة عبد الله، كنت أعيد قراءة سيرة سقراط، كما جاءت في محاورات أفلاطون، وخاصة كتاب "الدفاع": أبولوجيا. صعقتني المفارقة بين هذا وذاك. فهذا الرجل الذي عاش قبل ألفين وخمسمائة عام لديه ما يقوله لنا حتى اليوم. فعندما قالت عرافة دلفي، وهي إلهة في ذلك الزمان، وناطقة باسم الآلهة وخاصة زيوس، أنه ليس بين البشر من هو أكثر حكمة من سقراط، حار سقراط حيرة شديدة في هذا الأمر. فهو يعلم أنه لا ينطوي على قدر يؤبه له من الحكمة أو المعرفة، ولكنه يعلم في نفس الوقت أن الآلهة لا تكذب، ولم تغب عن فطنته بالطبع أن شهادة الآلهة لم تكن فقط في صالحه، بل تتوجه حكيما على كل البشر. لم يقبل سقراط، لما ركب فيه من هذا العناد البشري المتطاول، حكم الآلهة، لا من حيث قداسته وتنزهه عن الكذب، ولا من حيث أنه جاء في صالحه وحده دوه سواه. فصار يزور أولئك الذين اتصفوا بالحكمة، من حكام ومفكرين وشعراء وأدباء، فاكتشف لدهشته أنه أكثر حكمة من هؤلاء جميعا، لأنه كان يسألهم عما اشتهروا بإتقانه والتخصص فيه، ويظهر لهم من خلال إجاباتهم وبتلك الماكينة العقلية الهائلة التي كان يملكها، أنهم لا يعرفون، معرفة حقة، ما يدعون أنهم يعرفون. وتوصل إلى أنه أكثر حكمة منهم، لسبب بسيط جدا، وهو أنه يعرف أن معرفته متواضعة، وأن الكون لم يكشف له إلا شيئا قليلا من أسراره، وأن عليه أن يمضي دون هوادة في الإستزادة من المعرفة، بينما تربع هؤلاء على حصاة من المعرفة ظنوها جبالا شوامخ. وقال سقراط وهو يشرح ما توصل إليه من علاقة بين المتعالمين الذين يدعون معرفة ما لا يعرفون، والناس العاديين المتواضعين رغم معارفهم وحكمتهم: "أثناء بحثي في خدمة الإله، وجدت أن أولئك الأكثر شهرة والأكثر ذيوعا في الصيت، هم في الغالب الأكثر نقصا، بينما أولئك الذين يعتبرون أقل شأنا هم الأكثر معرفة. ( ترجمة غير رسمية). "رحلة " عبد الله القاسية من بداية محاضرته وحتى نهايتها أثبتت شيئا عكسيا تماما لمسيرة سقراط. فقد وضح أن هذا المفكر الوحيد في السودان، إن كان في السودان مفكر، كما قال مقدمه الكريم، هو الأكثر جهلا بموضوعه من جميع الذين كان يحاضرهم. ولا شك أنهم كانوا يمدون أرجلهم قليلا قليلا، كما فعل أبو حنيفة، كلما أوغل المحاضر في باطله وهرائه، حتى مدوها عن آخرها في نهاية المحاضرة، هذا إذا لم يفكر بعضهم في إطلاقها للريح. وأكاد أرى صديقي محمد الحسن محيسي، المتبحر في كثير من ضروب المعرفة، وهو يفعل ذلك تحديدا. وأحصر المقارنة مع سقراط هنا فقط، فالمقام لا يسمح بالحديث عن محاكمته وموته.

    • وأخيرا، دخل عبد الله في قلوب وخرج من قلوب، وهو بينما يستطيب الدخول فإنه يكره الخروج، ويحاول جهده الجمع بين هذا وذاك، ولا يعتقد ذلك ممكنا إلا لأنه لا يضع للمنطق في تفكيره ورغباته، وزنا كبيرا. وهو يعتقد أنه بالقاء بعض الملاحظات العابرة، لصالح جمهوره القديم، يمكنه أن يكسب هؤلاء وأولئك في نفس الوقت. أنظر إلى إشارته إلى موت جوزيف قرنق "الباسل"، مع أن محاضرته تلزمه أن يقول أن جوزيف قرنق مات من أجل قضية ليست قضيته، مات من أجل جماعة شمالية عربية مسلمة لا ينتمي إليها، مات من أجل وطن يضع عبد الله يده حاليا في أيادي من يريدون تمزيقه، وتقليصه ليكون في حجم مقدراتهم على القهر والتنكيل والسيطرة. أقول لصديقي عبد الله، خيارك الحالي يمكن ألا يكون نهائيا، إذا التفت قليلا إلى الوراء لترى أن مطارديك أصابهم الإعياء والإرهاق "غير الخلاق"، وبالرغم من أنهم لم يكفوا عن المطاردة إلا أن الصمود في وجههم ممكن وميسور، وقد استطاعه كثيرون لم يدقوا الطبول إعلانا عن صمود، فكيف تدق الطبول إعلانا عن هروب؟


    الخاتم عدلان
                  

04-17-2008, 07:38 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)



    المثقف والسلطة: مصائر فاجعة

    د.محمد المهدي بشرى

    تدرس هذه الورقة مآلات ومصائر بعض المثقفين في مراحل تاريخنا المعاصر، خاصة تلك المصائر الفاجعة لأولئك الذين دفعوا حياتهم ثمناً لافكارهم ومبادئهم، مقابل هؤلاء الشهداء والمنارات نجد مثقفين انتهوا إلى مصائر تتناقض تماماً مع ما ملأ جوانحهم من أشواق، وهؤلاء انقلبوا على أنفسهم وانحازوا لأنظمة استبدادية نكلت بالشعب وأذاقته الويلات، ويمكن القول أن المثقف هو الجلاد والضحية، وخير مثال للطائفة الأولى من المثقفين الشهداء الحسين الزهراء ومحمود محمد طه وعبد الخالق محجوب، وخير مثال للطائفة الثانية الضحية والجلاد جمال محمد احمد وصلاح أحمد إبراهيم ومنصور خالد وعبد الله علي إبراهيم؛ وهؤلاء هم نماذج فحسب فالقائمة تطول على مر الزمان، خاصة في عهود الاستبداد، حيث تهافت المثقفون على السلطة وتساقطوا حولها كالفراشات، وعلى الرغم من التجارب المريرة التي راكمها تاريخنا السياسي، برغم هذا ظل العديد من المثقفين على ضعفهم وهوانهم. فالعسكري يتفق بليلٍ مع هؤلاء من زملائه العسكريين على الإستيلاء على السلطة، وما أن ينبلج الصبح حتى يتم الأمر دون عناء يذكر، وتهدر في الشوارع المواكب التي تهلل وترحب بالمنقذ والمهدي المنتظر، وسرعان ما نجد ذلك الضابط المغمور وقد أطاحت هالة من السلطة حول شخصيته التي كان حتى مساء أمس نكرة لا بريق لها أو مجداً، وسرعان ما يهرول المثقفون والأكاديميون من أصحاب الدرجات العلمية الرفيعة نحو القائد الذي سيصحب القائد الملهم ومجدد العصر... إلخ، خير مثال لما نقول ما تم في عهد مايو (1969-1985م) حيث تمت صناعة ديكتاتور اسمه جعفر نميري وقد درس محمود قلندر هذا الأمر في كتابه سنوات النميري (قلندر: 2005م).
    تقول قلندر "منذ أن توجهت سفينة مايو عن سواحل الماركسية بعد يوليو 71، بدأت الانتلجنسيا الوطنية هي الأقرب من مايو. وكان اقترابها أول الأمر في خطى كسولة مترددة، ثم ما لبثت تلك الخطى في الشارع بعد فترة قصيرة."(نفسه: 265)، ومن الواضح أن قلندر يسعي لتبرير مواقع هذه "الانتلجنسيا الوطنية." التي لم تتقرب من مايو إلا بعد أن تخلى عن الماركسية، وكأن هذه الانتلجنسيا لم تكن مدفوعة بمصالحها الذاتية الضيقة ورغبتها في التمرغ في تراب النميري، الأمر الذي اعترف به بعض أفراد هذه "الانتلجنسيا" مثل منصور خالد الذي نجده يقول: "قلة يومئذ [مايو] كانت تعف عن المغنم، ويا له من مغنم، وكثر كان لهم في ظل السلطان مبيت ومقيل يترجعون فتاته." (خالد: 2001م).
    =====

    عبد الله علي إبراهيم:

    أما عبد الله علي إبراهيم فقد انتمي لليسار في سن مبكرة وذلك بحكم نشأته في مدينة عمالية هي مدينة عطبرة التي كانت واحدة من قلاع النضال الوطني، وفي جامعة الخرطوم تفتحت مواهب عبد الله ككاتب وقاص وكرَّس هذه المواهب للدفاع عن الفكر الماركسي وأطروحاته، وصار من قيادات الحركة الطلابية في جامعة الخرطوم، وكان واحداً من ضحايا القمع والتشريد اللذين كانا ديدن النظام المايوي خاصة بعد فشل حركة 19 يوليو الانقلابية، وبرغم القمع والإرهاب إلا أن عبد الله ظل واحداً من قيادات الحزب الشيوعي النشطة وظل يواصل مهامه في مخبئة السري لأكثر من خمس سنوات، لكن عبد الله خرج من المخبأ بعد المصالحة الوطنية في 1979م وأعلن استقالته عن عضوية الحزب الشيوعي، واصل نشاطه الإبداعي والفكر المستقل كمثقف ديمقراطي يساري، ورجع لوظيفته كأستاذ بجامعة الخرطوم وأنجز رسالة دكتوراه في الفوكلور في الولايات المتحدة، وفي عام 1988م أعلن إنشائه لمركز الدفاع عن الديمقراطية وظل يساهم بحماس بكتاباته العلمية والصحفية. وبقيام انقلاب الإنقاذ في يونيو 1989م كان عبد الله من أول المؤيدين للانقلاب منذ ساعاته الأولى، وظل يشارك في مؤتمرات الإنقاذ بنشاط وفاعلية. وخلال هذه الفترة أصدر عبد الله بعضاً من مؤلفاته المهمة التي تدل على هويته كمثقف ديمقراطي، وعلى رأس هذه المؤلفات مؤلفه المهم الذي يدرس فيه الثقافة السودانية من منظور ديمقراطي (إبراهيم: 1996م) وظل يواصل كتاباته مركزاً على نقد غياب الديمقراطية في الحزب الشيوعي السوداني؛ الأمر الذي تأكد في تقريره بضلوع الحزب في انقلاب 19 يوليو 1971م، يقول عبد الله "ألقى انقلاب يوليو بظلال كثيفة على دفاع الحزب الشيوعي عن الديمقراطية الليبرالية والتغيير الاجتماعي (...) وألمت بالحزب مصائب الانقلابات التي حرمته من التصالح المشكوك فيه مع الديمقراطية الليبرالية." (إبراهيم: 1999م) وبرغم نقده المستمر للكثير من ممارسات الحزب الشيوعي نلاحظ أن عبد الله يسعى لتجميل صورة الشهيد عبد الخالق محجوب ونفي تهمة مسئوليته في الأخطاء التي ارتكبها الحزب، وعبد الله يشبِّه عبد الخالق بالتشيللو المنفرد كناية عن تفرده وعبقريته (إبراهيم: 1999م) وفي دفاعه عن عبد الخالق يرفض عبد الله آراء بعض خصوم عبد الخالق، خاصة صلاح أحمد إبراهيم الذي يشبِّه عبد الخالق بـ(نانسي) أو العنكبوت المخادع، يقول عبد الله "أما صلاح فشهادته مطعون فيها وتحامله وارد على عبد الخالق الذي يظن صلاح أنه السبب في طرده من الحزب دون وجه حق." (نفسه) وفي جانب آخر نجد عبد الله يقرظ أفكار عبد الخالق محجوب حول الدين (إبراهيم: 2001م) وربما هنا تكمن إشارة عبد الله لعبد الخالق بالتشيللو المنفرد، يقول عبد الله "من المؤسف أن نظرات عبد الخالق حول غربة الماركسية والدين لم تجد من الحزب الشيوعي لا تجديداً ولا تطويراً." (نفسه) ويضيف عبد الله "لم يتسنَّ للشيوعيين وهم بهذا الانشغال بـ(تهويس) الدين أن ينموا فكرة عبد الخالق عن يوتويبا الإسلام التي تعبئ المسلمين حول المثال الباكر لمجتمع النبي (صلي الله عليه وسلم) والصحابة الذي اتسم ببساطة الحكم وكرامة الرعية." (نفسه) ولا شك أن عبد الله كان يتمني لو كرس الحزب الشيوعي مبادئ الديمقراطية ولم ينحرف عنها، وعبد الله هنا يعيد أفكاره حول التعددية، وهي الأفكار التي ظل ينادي بها إبان الديمقراطية الثالثة، فنجده مثلاً يكتب في عموده (ومع ذلك) "لقد أقنعتنا سنوات عجاف من الديكتاتورية في ظل الفريق عبود بأن الديمقراطية الليبرالية ليست كلمة جوفاء، وتعلمنا في ظل نظام نميري الطويل أن الديمقراطية الجديدة أو الثورية في تعبير فريد لعبد الخالق محجوب، "ليست صراخاً من أعلى البيوت (...) واستقر عندنا لذلك أن المساواة الاجتماعية، الكفاية والعدل، لا يمكن أن تقوم لها قائمة إلا من فوق ممارسة نشطة وتمثل عميق للحقوق الأساسية المكفولة في الديمقراطية الليبرالية." (إبراهيم: 2001م) ونجد عبد الله يتحدث عن ضرورة التمسك بالديمقراطية، فعلى سبيل المثال نجده بعد إستيلاء حركة التمرد على الكرمك، يقول"علينا ألا نمل القول أن الذي ندافع عنه من حول الكرمك هو النظام البرلماني التعددي الذي حصل عليه شعبنا بعد جهاد [هكذا] طويل، من أجل هذا النظام لأنه هو وحده الذي يعطينا حق الخلاف وبناء وحدة بلدنا من واقع التنوع." (إبراهيم: 2001م) ونجده كذلك يعبر عن هواجسه وشكوكه حول قدرة العساكر على حماية الديمقراطية الأمر الذي يعني تخوفه من حدوث إنقلاب يقضي على الديمقراطية، يقول في هذا الصدد "أجد في نفسي شخصياً صعوبة جمة في تعليق الأمل على العسكر في الدفاع عن الوطني ككيان ديمقراطي ولا أخيراً، وهذه الصعوبة ناجمة عن أن مثل قلمي قد نشأ وتربى في لعن العساكر." (نفسه)، ومع إيمان عبد الله بالديمقراطية وتمسكه بها ظل معادياً لحركة تحرير السودان وقائدها جون قرنق، وهو لا يرى في الحركة سوى دمية في يد النظام الاثيوبي برعاية زعيمه السابق الديكتاتور منقستو هيلا مريام، نلمس هذا في قول عبد الله "هذا النظام هو الذي تستعلي عليه تكتيكات العقيد جونق قرنق المغامرة التي ترعى بقيد النظام الإثيوبي المفارق للديمقراطية في نشأته وتقاليده وتوجيهاته، ففي الكرمك إذا تصطدم قوى الديمقراطية وقوى الحروب والعنهجية."(نفسه) وبرغم دفاع عبد الله عن الديمقراطية إلا أنه لم يتردد في تأييد نظام الإنقاذ الذي قضى على الديمقراطية الثالثة، بل يدافع عن النظام ويبرر قيامه، وهو يرى أن قيام الإنقلاب بقيادة الجبهة الإسلامية القومية أمر طبيعي وهو ينطوي على رد من قبل الجبهة الإسلامية ضد القمع الذي مارسته الأحزاب والجماعات السياسية في حقها، وعبد الله يجيب على تساؤل الطيب صالح الذي أطلقه في مقالته الشهيرة من أين أتى هؤلاء؟ إضافة لكل هذا فإن عبد الله ظل على عداء مع التجمع الوطني المعارض لنظام الإنقاذ.
    وفي عموده (الذي يصلحك) الذي كان يحرره في صحيفة الصحافي الدولي، ظل عبد الله يعلن موقفه المتعاطف مع سلطة الإنقاذ والرافض لأطروحات المعارضة، خاصة التجمع الوطني، وفي آخر كتاباته في تعليق له على مذكرة د.فاروق محمد إبراهيم التي بعث بها إلى عمر البشير حول واقعة تعذيب تعرض لها (إبراهيم: 2001م) وطالب عبد الله أن يبادر كل من أذى فاروق بالاعتذار له وطلب الصفح قبل أن تجعل الإنقاذ ذلك سياسة مقررة (نفسه) ويعلق عبد الله على هؤلاء بقوله "وأنا حسن الظن بهم لأنهم رجال دين هم أكثر من فاروق حاجة إلى طلب العفو لأنه يطهرهم ويزكيهم." (نفسه).
    ولعله من الغريب جداً تأييد عبد الله لنظام ظل يعلن أن الحرب الأهلية ضد الأخوة في جنوب السودان حرب مقدسة، فعبد الله معروف بمناداته بالحوار بين الثقافات، ففي لقاء معه حول هذا الحوار في أوائل الثمانينيات يؤكد ضرورة التعايش بين الثقافات السودانية ويخلص إلى أن هذا الحوار يحتاج إلى خيال خلاق وشروط ديمقراطية متسامحة للتساكن الثقافي في السودان، ويقع عبء هذه الشروط أول ما يقع على الثقافة العربية الإسلامية وهو خيال وشروط هي مناط إعلان 9 يونيو 1969م (ابراهيم: 1981م).
    نخلص للقول أن عبد الله علي إبراهيم مثله مثل أغلب المثقفين السودانيين يدافعون عن الديمقراطية نظرياً فحسب لكن على مستوي التطبيق يختلف الأمر كثيراً.
    وهكذا تباينت مصائر ومآلات المثقف مع السلطة في السودان منذ ظهور الدولة بشكلها الحديث، فالسلطة المركزية التي يسيطر عليها الديكتاتور تتربص بالمثقف وتغازله، فإذا أذعن لها وتغنى بفضائل وعبقرية الدكتاتور فهو الفائز برضا ومحبة الديكتاتور، ويكون له مبيت ومقيل في السلطة على حد قول منصور خالد. إما إذا تمسك بأفكاره وقال (لا) ساعتها لن يتردد الديكتاتور في إهدار حياة هذا المثقف، وهذا ما حدث مع الزهراء ومحمود.
    نخلص للقول إن الاحترام والتوقير للمثقف لا يتم إلا بإرساء قواعد الديمقراطية والشفافية وبانهاء ثقافة العنف والإقصاء في حياتنا السياسية.

    محمد المهدي بشري
    أكتوبر/2007م
    عبد الكريم ميرغني

    المراجـع:

    إبراهيم عبد الله علي 1968م الصراع بين المهدي والعلماء
    الخرطوم: جامعة الخرطوم، أبحاث السودان كراس رقم (3)
                  

04-17-2008, 08:01 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    بين الدكتور عبد الله على إبراهيم،
    والأستاذ الشهيد عبد الخالق محجوب:
    التآمر والإعدام المعنوي والمزاوجة المستحيلة
    الخاتم عدلان

    لا يكتفي الدكتور عبد الله علي إبراهيم، بأقل من الإعدام المعنوي لليسار، ممثلا في واحد من أوضأ رموزه: الأستاذ الشهيد عبد الخالق محجوب. ومن خلال إشارات مبثوثة في عدد لا يحصى من المقالات، يحاول عبد الله على إبراهيم أن يمدح عبد الخالق محجوب بأن ينسب إليه قيما ومواقف لم تكن حياة الشهيد وموته، إلا نفيا ودحضا لها. وإذا كان ما حدث لعبد الخالق محجوب صبيحة الثامن والعشرين من يوليو 1971، إعداما جسديا إجراميا نفذه حاكم معتوه، فإن رد فعل عبد الخالق عليه، قد مثل الدرجة العليا من التسامي الفردي، والبطولة الإنسانية، والشجاعة العقلية، التي ألهمت أجيالا من الشعراء والرسامين والمبدعين، بقدر ما ألهمت المناضلين في كل الدروب. ومصدر الإلهام هنا لم بكن تلك الوقفة الأسطورية وحدها، بل كانت السيرة كلها، والقيم التي أضاءت تلك السيرة، والتي لم يزدها الإعدام الجسدي إلا جلاء. أي أن عبد الخالق محجوب، لم يعد منذ تلك المأثرة الباهرة التي خطها بموته، سوى تلك القيم التي عاش من أجلها، وجاد بروحه ودمائه لإضاءتها وسقياها. وهو قد قال لنا بفعله ذاك: جسدي فداء لفكري، دمي زيت لقيمي، عبوري ثمن لبقاء معناي. فإذا أتي من ينسب لعبد الخالق قيما ومواقف نقيضة لما كان يؤمن به، ويرفعها علما على ذكراه، مع كل آيات التمجيد الزائفة وحسرات الفراق المفتعلة، فإنه يحاول إتيان جريمة أفظع من القتل الجسدي، وهي قتل المعنى. وهذا هو ما ظل يمارسه عبد الله علي إبراهيم منذ أن زلزلته الإنقاذ بحضورها الرهيب، وخلعت فؤاده وكسرت جبارته.
    في كتابه عن الترابي كزعيم للتجديد الإسلامي في السودان، وعن إمكانية حكم البلاد بواسطة فئة القضاة الشرعيين، يورد عبد الله علي إبراهيم الإهداء التالي:
    " إلى أستاذنا المرحوم عبد الخالق محجوب
    كنا قد إئتمرنا أو " تآمرنا" على شيئ من هذا الكتاب في فترة من الزمان عند منتصف ستينات القرن الماضي. واستعجلت أنت تخطو وئيدا شجاعا في السكة الخطرة. أو أبطأت أنا. وهذا بعض كسبي من " المحضر السابق" صدقة جارية لروحك السمح العذب، يا أيها الرجل الوسيم."
    ألاحظ عرضا هنا إستخدام عبد الله على إبراهيم، في إهداء يوجهه إلى عبد الخالق محجوب، لمصطلحين أساسيين في فكر حسن عبد الله الترابي، هما مصطلح الإئتمار، الذي يفضله الترابي لمعناه المزدوج، الظاهر المتعلق بعقد المؤتمرات، والخفي الذي يعني التآمر، فالترابي يعشق مثل هذه المصطلحات ويهيم بها هياما لا فطام منه. ومصطلح "الكسب"، الذي يصور العمل السياسي والفكري، ليس كعطاء يجود به المرء طوعا على الآخرين، بل ككسب يأخذه الفرد عنوة من الجماعة، ويأخذه الحزب غصبا من المجتمع. وأتجاوز عن ظاهرة ذلك المستعجل الذي " يخطو وئيدا"، في مزاوجة مستحيلة بين نوعين من المشي، وأنفذ إلى جوهر فكرة عبد الله، وهي إشراك عبد الخالق في تأليف كتاب لم يكن ليتردد في إستنكار كل مقولة أساسية وردت فيه، ودحضها بحزم فكري عرفه عنه عبد الله قبل سواه. والدليل الذي يسوقه عبد الله على إشتراك عبد الخالق معه في فكرة هذا الكتاب، هو تآمر سري، بينه وبين عبد الخالق.
    وهي فكرة ليست كاذبة فحسب، بل هي غبية كذلك. لقد أتهم عبد الخالق محجوب بالتآمر في أشياء كثيرة، في مراحل مختلفة من حياته، من مؤامرة الشيوعية الكبرى، وحتى مؤامرة الإنقلاب العسكري. وكانت الإتهامات ذات طابع سياسي واضح، لأن عبد الخالق كان قائدا سياسيا فذا، من أخمص قدميه إلى شعر رأسه. ولكن أحدا لم يتهم عبد الخالق بمؤامرة فكرية. في مسائل الفكر كان عبد الخالق واضحا كالشمس. بل كان يوصي الشيوعيين بأن يكونوا واضحين فكريا مثله، وألا ينحشروا في مواقع الدفاع، حتى لا يتهموا بالإنتهازية. فكيف يمكن لرجل هذا شأنه أن يتآمر مع عبد الله على أفكار هابطة مثل تولية شؤون الدستور والحكم لفئة القضاة الشرعيين، إذا كان ذلك هو الجزء من الكتاب موضوع التآمر، أو تنصيب الترابي زعيما للتجديد الديني، إذا كان موضوع التآمر هو الجزء الثاني من الكتاب؟ وكيف يمكن لعبد الخالق أن يتآمر على كل تاريخه الفكري؟
    التآمر المشار إليه هنا، لا يعني سوى أن عبد الله، وقد سار في الدروب الموحشة، بدلا عن "السكة الخطرة"، يريد أن يدعي أنه يفعل ذلك وهو في صحبة رفيعة، كما يريد أن يتأبط ذراع عبد الخالق إلى قبره المعنوي، الذي أعده بدافع الكراهية العميقة التي تسمي نفسها حبا خالدا. وسأوضح ما أجملته هنا عندما أتناول في مقالات قادمة، كتاب عبد الله المدوّن بمداد التهافت المنطقي والمرجّب بعمد الحجج الخاوية.
    وما أجمله عبد الله هنا في كلمة إهدائه المسمومة، فصله شيئا ما في مقدمته لكتاب عبد الخالق: أفكار حول فلسفة الإخوان المسلمين الذي كتبه الشهيد أواخر الستينات. ولأن الرسالة التي حددها عبد الله علي إبراهيم لنفسه، إزاء عبد الخالق، لا يمكن أن تكون مستقيمة، وإلا كشفت نفسها للدحض المباشر، فإن إلتواءها قد ظهر هنا بأجلى ما يكون الظهور. إن عبد الله إذ يقدم لكتاب، ينتقد دون رحمة، وباستقامة فكرية عظيمة، عرفت عن الشهيد، أفكار الإخوان المسلمين، لا يورد حرفا واحدا، أو فكرة واحدة من الكتاب الذي بين يدي القاريئ، بل يلجأ إلى نسبة أفكار نقيضة لما ورد في الكتاب إلى مؤلفه، بإعتماد مراجع أخرى ليست بين يدي القارئ ولا يؤمل أن يحصل عليها حتى إذا شاء! والأخبار غير السارة بالنسبة لعبد الله، إننا حصلنا على بعضها، ونعمل على الحصول على الأخريات ولو طال السفر، فليكفهر وجهه ما شاء له الإكفهرار!
    يقول عبد الله علي إبراهيم أن عبد الخالق محجوب، لم يكن معترضا على دعوة الدستور الإسلامي، عند ظهورها، بل كان محبذا لتلك الفكرة، منشرحا إزاءها، ومحتفيا بها. وربما يكون رد فعل كثير من القراء، وهم يطالعون هذه الدعوة الغليظة، أنني أتجنى على الرجل، وأرجمه بالغيب، وأتهمه بما لا يمكن أن يكون قد صدر عنه. ولا أستطيع أن أرد على هؤلاء إلا بكلمات عبد الله علي إبراهيم نفسه الواردة في مقدمته تلك لكتاب عبد الخالق. يقول في صفحة 11 ما يلي:
    " ويذكر الشيء بالشيئ، فأريحية عبد الخالق الفكرية حيال مشروعية، بل وسداد الدعوة إلى الدستور الإسلامي قديمة. فقد تقبل هذه الدعوى بطيب خاطر في كتابات باكرة له بجريدة الميدان عام 1957، والدعوى إلى مثل هذا الدستور في طفولته بعد" (الدعوى بدلا عن الدعوة وطفولته بدلا عن طفولتها، نقلتها كما وردت في الأصل.)
    ولكن التأييد المزعوم للدستور الإسلامي، المنسوب لعبد الخالق محجوب، وإيمانه ليس فقط بمشروعية الدعوة، بل بسدادها، لا يتوقف على مقال نشر عام 1957 عندما كان عمر عبد الخالق 30 عاما، بل يمتد معه في دعوى عبد الله حتى مماته على ما يبدو، يقول على ص 13 من مقدمته:
    " وعليه لم يكن عبد الخالق في عام 1958م، كما لم يكن في عام 1965 م، ممن أستثقل أو إستفظع أو إسترجع –أي جعلها رجعية باطلاق- الدعوة إلى الدستور الإسلامي، بل كان أكبر همه فحص إن كانت الدعوة إليه قد جاءت من باب المواتاة السياسية أم أنها صدرت عن إنشغال سياسي محيط بالخطر الوطني والحضاري بالإستعمار، الخصم الأكبر، وعن عزيمة كتأمين السيادة الوطنية على أساس من العدل الإجتماعي. والدليل على رحابة صدر عبد الخالق لخطاب الدستور الإسلامي هو تنبيهه إلى أن المناقشات التي جرت حول وجوب تطبيقه في ما بعد ثورة أكتوبر 1964م " ولدت وعيا بين الناس لا سبيل إلى إنكاره ولفتت الإنتباه لأول مرة في بلدنا للنظر للدين من زاوية المؤثرات والتقدم الذي أصاب الإنسان في القرن العشرين."
    وربما يكون روع القاريئ قد هدأ حاليا، بعد أن وقف من عبارات عبد الله، على أنني لم أنسب إليه ما لم يقله. فالعبارات رغم حظها الضئيل من الإبانة، ورغم ما فيها من اللغو والعويش، إلا أنها توضح موقف صاحبها بصورة كافية. إذن كان عبد الخالق محجوب منشرحا لدعوة الدستور الإسلامي، محتفيا بها، غير منكر ولا "مسترجع" لها. كل إعتراضات عبد الخالق محجوب، إنطوت على اعتبارات ثانوية، مثل أنها طرحت في غير محلها، وأنها لم تتشرب بصورة كافية بعداء الإستعمار، كما أنه لم يكن واثقا من أنها "صدرت عن إنشغال سياسي محيط بالخطر الوطني والحضاري بالإستعمار، الخصم الأكبر" أو كما قال!
    هنا أيضا، يريد عبد الله علي إبرهيم، في مسيرته الهابطة، أن يقنع الناس أنه يسير في صحبة راقية. وهنا أيضا يحاول أن يسوق عبد الخالق محجوب إلى قبره المعنوي، بعد أن تكفل الآخرون بقتله الجسدي. والواقع أن عبد الخالق لم يكن في أية لحظة من لحظات حياته المدونة، من دعاة الدستور الإسلامي، سواء بتوضيحاتها أو بدون توضيحاتها. بل كان خصما لدودا، ومجادلا عميقا عارفا، ضد ذلك الدستور وتلك الدولة، وما كتابه هذا الذي يقدم له عبد الله علي إبراهيم، ولا يذكره بكلمة واحدة، سوى شهادة دامغة على ما نقول. مواقف عبد الخالق محجوب في المعركة الممتدة ضد الدستور الإسلامي معروفة وموثقة، وخطبه داخل الجمعية التأسيسية عندما كان نائبا من نوابها معروفة للجميع، تسميته لتلك الدعوة بالمشبوهة والرجعية معروفة كذلك، ويعرفها عبد الله علي إبراهيم أكثر من سواه. وهذه كلها شواهد سنوردها ونفصل أمرها. ولكنا هنا نكتفي بالدحض المنطقي لمقولات عبد الله علي إبراهيم المتهافتة حول موقف عبد الخالق محجوب. فإذا كانت الرواية التي أعتمدها عبد الله لتلك المقالة التي نشرها عبد الخالق صحيحة، وليس لدي ذرة من الثقة في أمانة عبد الله، فإن جوهر حجة عبد الخالق هي أن المعركة في ذلك الوقت، كانت هي الوحدة ضد هجمة الإستعمار، وليست الفرقة حول الدساتير. هذا لا يعني أن عبد الخالق كان يؤيد الدستور الإسلامي، بل كان يرى أن من يطرحونه إنما يريدون خلط الأوراق، والهروب من المعركة الماثلة إلى معارك أخرى سيأتي أوانها. فلنحارب الإستعمار جميعا كسودانيين، ثم نتعارك بعد ذلك حول الدساتير. وهذا موقف لا أستبعد أن يكون عبد الخالق قد وقفه بناء على التحليل الماركسي في التناقضات الأساسية والثانوية، المعروفة لدى عبد الله دون ريب. وبمعنى أوضح إذا كان عبد الخالق يدعو إلى دستور علماني، وقد كان يدعو إليه حتى إستشهاده، وهو بعض من معانيه الباقية، فإنه يقول دعونا نعرض حاليا عن طرح الدساتير، ودعونا نتوحد ضد الإستعمار وأذناب الإستعمار، وبعد أن نزيح ذلك الخطر فليطرح كل منا دستوره، وفي هذه الحالة فإنني سأعترض على دستوركم الإسلامي، طارحا دستورا علمانيا مستقيما. هذا كل ما يمكن أن يستشفه المحلل الأمين من مواقف عبد الخالق محجوب.
    المهم أن عبد الخالق محجوب لو كان يدعو إلى الدستور الإسلامي، فإن معانيه كلها تكون قد جفت تقريبا، بقيام الدولة الإنقاذية الأصولية التي ألتحق عبد الله بخدمتها الفكرية، من مواقع الإلتواء والخفاء الشديد والنكران. وإذا كان ذلك مبتغى عبد الخالق، فإن إعدامه المعنوي يكون قد إكتمل. فكيف يمكن أن يكون عبد الخالق داعية للإشتراكية والعدالة والعلمانية والشيوعية، إذا كانت أحلامه تنتهي عند عتبة الدولة الدينية؟ ولست مندهشا لمحاولات عبد الله إعدام عبد الخالق معنويا، لأن ذلك يمثل بالنسبة إليه حاجة نفسية قاهرة. فهو لم يكن ليقدم على مثل تلك المحاولة لولا أنه اختار الإعدام المعنوي لذاته أولا، في مواجهته لأخطار لم يكن من ضمنها الموت. وذلك على النقيض تماما من عبد الخالق محجوب الذي اختار الفناء الجسدي، والبقاء المعنوي، وهو عارف تماما بتبعات خياره.
    ولا يكتفي عبد الله بمقالات مجهولة كتبت عام 1957، بل يورد وثيقة قضايا ما بعد المؤتمر كشاهد على أطروحته. وهذا ما سنعالجه في حلقة مقبلة.
                  

04-20-2008, 00:18 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    رداً على الدكاترة عبدالله علي إبراهيم ومحمد المهدي بشرى


    بقلم/التجاني الحاج عبدالرحمن



    تناولت الكثير من الأقلام في الفترة الأخيرة، ومن خلال منابر مختلفة، التطورات داخل التحالف الوطني السوداني/قوات التحالف السودانية،. قدمت تحليلات ووجهات نظر متباينة حول هذه التطورات وإتهامات عديدة سيقت ضد بعض من قيادات التحالف، وصلت حد الإسفاف. وأشير إلى بعض الذين كتبوا حول الموضوع، فمنهم الصحفي محمد محمد خير، د.عبدالله علي إبراهيم، د. محمد المهدي بشرى وآخرين. سأحاول التعليق على ما كتبه كلٍ من د. عبدالله على إبراهيم ود. محمد المهدي، وأستثني منهم محمد محمد خير، إستناداً على أن الرد على ما كتبه هؤلاء، من غير المستساغ خلطه بما كتبه محمد محمد خير بالصحافة. فهذين مستويين متعارضين من الكتابة، في التعاطي مع الإشكالية رغم الإختلاف.



    كتب د.عبدالله على إبراهيم في عموده "ومع ذلك" تحت عنوان: "تقاطع السياسة والأخلاق في إحتجاز أبوخالد" قائلاً ((...في خضم سباق القوى السياسية وتحفزها لدخول مرحلة ما بعد إتمام إتفاقية السلام أطبق الصمت على مصير قائد قوات التحالف وعضو قيادة التجمع الوطني الديمقراطي العميد عبدالعزيز خالد ففي مقابلة أجرتها الصحافة مع أبي خالد قبل بضعة أيام ذكر بأنه رهن الإحتجاز القسري لدى السلطات الإرترية وكذلك أورد الصحفي البريطاني أليكس دي وال تحقيقاً يسند ما أوردته الصحافة...))



    وكعادة الكتّاب الأكاديميين في التعليق، يتقيدون بإيراد "القضية"، والمصادر(الأسانيد)، لتثبيت الموضوع في ذهن المتلقي بإعتباره "عين حقيقة" بالرجوع إلى شهاد فلان وعلان، وهذا منهج معروف ولا خلاف حوله. لكن دائماً ما تكون الثغرة في مثل هذه المنهجية، هي المصادر نفسها، وهذه من حيل الكتابة معروفة. وقد تعلمنا، أن كثرة تعدد المصادر لتأكيد الخبر، تتناسب طردياً مع درجة مصداقيته، وهذا يستلزم في حالة تناول قضايا خلافية، على سبيل المثال داخل المؤسسات السياسية، أن تفتح أبواب الحوار لوجهات النظر المختلفة، أو يجب إستنطاق/إستكتاب الجهات المختلفة بهدف الوصول إلى الحقيقة. وهذه هي نقطة الضعف فيما كتبه د.عبدالله علي إبراهيم، وإذ نقر أن لاخلاف منهجي حول طريقته في تناول الموضوع، نتوقف عند مرجعياته ومصادره، وبالتالي إستنتاجاته التي بناها من بعد. والتي سنتحاور فيها معه إن كان على إستعداد ـ مع علمي التام أنه يعرف تمام المعرفة الدروب التي تربطه إلى هذه المصادر المتعددة.



    والموضوع الذي يطرحه د. عبدالله علي إبراهيم كما النص المنقول عن مقاله عاليه؛ إن سعادة العميد عبدالعزيز خالد رهن "الإحتجاز القسري"، مستشهداً بما قاله وأورده الصحفي البريطاني ألكس دي وال، وتصريحات العميد (م)عبدالعزيز خالد نفسه بالصحافة. رد د.عبدالله علي إبراهيم ذلك(أي إحتجاز سعادة العميد) في مطلع مقاله ـ إن فهمت النص ـ إلى سباق التنظيمات لكسب غنائم السلام، في إشارة إلى أن الأسباب التي تكمن وراء المصائب التي حلت بالرجل مؤخراً(تجميد مهام وصلاحيات سعادة العميد من رئاسة المكتب التنفيذي للتحالف) لا تعدو كونها إستبعاد له من موقعه القيادي، جرياً وراء مصالح السلام، وهو الأمر الذي أعتبره تقييم للأمور لا يليق بالمكانة الأكاديمية التي يتبوأها الدكتور عبدالله علي إبراهيم وتاريخه السياسي وهو سيد العارفين بمثل هذه الأمور، فضلاً عن أن مثل هذه الطريقة تفرغ قضية ما دار داخل التحالف مؤخراً من المضمون الحقيقي للمسألة، وهذا ما سأتناوله لاحقاً.



    ما أود التأكيد عليه في هذا المقام مبدأً أن سعادة العميد عبدالعزيز خالد عثمان الرئيس السابق للمكتب التنفيذي للتحالف ليس رهن الإعتقال القسري كما يقول د.عبدالله علي إبراهيم حملاً على أكتاف إستشهاداته، وهو حر طليق بأسمرا، ويسكن بمنزله الكائن بأرقي أحياء المدينة(حي ترافولو) على بعد خطوات من مقر سكن سعادة سفير جمهورية السودان، ويرتاد "كل الأماكن" بالمدينة ويزور الأصدقاء ويعود المرضي بالمستشفيات، ويذهب إلى مكاتب التجمع الوطني الديمقراطي بأسمرا وقابل مولانا محمد عثمان الميرغني رئيس التجمع ود.جون قرنق عند حضورهما إلى أسمرا مؤخراً، ولديه تيلفون بالمنزل مملوك لشركة الإتصالات الإرترية ومن أراد التأكد يمكنه الإتصال بالرقم (182972)، خاطب من خلاله طلاب جامعة الخرطوم، وأقام مؤتمراً صحفياً ذكر فيه أنه ليس قيد الإقامة الجبرية(راجع المؤتمر الصحفي الذي عقده سعادة العميد مع غازي سليمان المحامي بمكتب إتحاد طلاب جامعة الخرطوم). وسعادة العميد وحسب علمي مسموح له بمغادرة الدولة في أي وقت شاء وعبر المطار أو أي منفذ بري أو بحري إن أراد، ودولة إرتريا لم تقف حائلاً دون ذلك، بل أبلغته بأنه يمكنه أن يغادر متى شاء وإن أراد البقاء فالخيار متروك له أيضاً. إن القضية ليست في أن ما حل بسعادة العميد من تجميد لنشاطه بواسطة مؤسسات تنظيمه، هي مجرد سباق مصالح من أجل السلام دفعت بآخرين لأقصاء سعادة العميد كما يوحي خطاب الدكتور، فهذا تقدير مخل للمسألة، بل هي أزمة داخل هذه المؤسسة(التحالف) ممتدة الجذور ولها تاريخ، وصلت نهايتها العظمى في الفترة الأخيرة. وتتلخص في الآتي:




    1. طريقة/أسلوب قيادة سعادة العميد للتنظيم خلال الفترة الماضية والتي تسببت في أضرار سياسية/تنظيمية/ميدانية بالغة أدت لإنحسار التنظيم لأسباب؛ وبعد البحث والتقصي، إتضح أنها طريقة إدارة لعمل بمؤسسة، إرتبطت بتجاوزات متعددة الأوجه والنتائج، ومؤخراً تفصح لنا الكثير من الوثائق أنها لم تكن تجاوزات حمكتها شروط التجربة ذاتها ورحلة البحث عن الصحيح عن طريق التعلم من الخطأ. بل كانت ذات عمق ودلالة سياسية مناقضة للمبادئ والإهداف التي من أجلها قام وناضل التحالف ودفع بالكثيرين شهداء من أجل هذه المبادئ والأهداف.



    2. إتصالات لسعادة العميد بالنظام تمت من وراء ظهر مؤسساته التنظيمية مستجدياًً فيها الوساطة، مع النظام الذي يصفه بالإرهابي الشمولي. ووهو يفعل ذلك يكون قد إخترق حاجزين مهمين: الأول: حاجز المؤسسة نفسها، وهذه قضية قانونية/لائحية، والثاني: تجاوز إستراتيجية التنظيم وحلفائه في طرق الإتصال والتفاوض مع النظام، وهذه قضية سياسية مبدئية، مما أعطي، وأكد لاحقاً، على وجود صفقة تمت ما بين الإثنين(سعادة العميد والنظام).



    القضايا في (1)،(2) تمت ملاحظتها من بعض أعضاء المكتب القيادي بالتحالف والتي رفع بعض أعضائها مذكرة بتاريخ 15 يوليو 2003م. والتي شرحت كافة هذه القضايا ونبهت إلى خطورة مثل هذا السلوك على المستقبل السياسي للتنظيم. طرحت هذه المذكرة أمام سعادة العميد في محاولة في ذلك التاريخ لإحتواء هذه الأزمة في مراحلها الأولى من داخل هيئات التنظيم القيادية. وقد أنكر حينها سعادة العميد كل ما وجه له من نقد، وأصر على أن اتصالاته مع النظام مجرد إشاعات لا أساس لها من الصحة، وأنه قابل الوزير كاشا في مناسبة إجتماعية، وهو قريبه وكعادة السودانيين فمهما إختلفت المواقف فهذا لا يعني أن يتجاهله..وإلخ. لاحقاً وفي 2004م عاد سعادة العميد وأقر بكل ما تم توجيهه له في إجتماع جزئي للهيئة القيادية للتحالف، بعد أن وصلت الأوضاع إلى حافة الهاوية. عند هذه النقطة طلب منه زملاؤه أن يجمد (هو) نشاطه كرئيس للمكتب التنفيذي للتحالف طواعية لتجاوز الأزمة إلى حين إنعقاد المؤسسات التشريعية للتحالف للبت في القضايا التي يواجهها، لكنه رفض قائلاً: "ما بقيف ولا يومين". ولم يجد هؤلاء النفر(وفيهم القانوني الضليع) بد من أن يجمدوا (هم) نشاطهم بالمكتب التنفيذي إلى حين إنعقاد هذه الهيئات العليا للتنظيم. وبالفعل تم ذلك. ولكن لاحقاً قام سعادة العميد بفصلهم تحت سند "الشرعية الثورية"!!!!.



    إنعقدت هذه الهيئات التشريعية(المجلس المركزي) في أبريل 2004م وتداولت ملف رئيس المكتب التنفيذي وقضايا أخرى. تم توجيه الدعوة له من أكثر من وفد من الوفود التي حضرت الإجتماع ولكنه رفض الحضور والمشاركة والدفاع عن نفسه أمام ما يواجهه من إتهامات مبررا موقفه هذا بأن إجتماع المجلس غير شرعي، مع ملاحظة أن نفس هذا المجلس هو الذي إتخذ قرار الوحدة مع الحركة الشعبية لتحرير السودان في فبراير 2002م وكان هو جزء من هذا المجلس ومن صناع هذا القرار، لكن ها هي الأيام تكشف نمط من القادة يعتقدون إنهم فوق المحاسبة ومنزهين عن الخطأ، بجرة قلم أصبحت هذه المؤسسة غير شرعية عندما جاءت لتمارس دورها في محاسبته ديمقراطياً.



    خلص الإجتماع إلى تجميد المكتب التنفيذي ورئيسه وتعيين لجان تسيير إلى حين إنعقاد المؤتمر العام للتنظيم، وذلك بعد الإطلاع على أدلة مادية تثبت تورط سعادة العميد في إتصالات "خفية مرتبط بمصالح تخصه" مع النظام. والجدير بالذكر أن هذه ليست القضية الوحيدة، وملف سعادة العميد متخم بالكثير الذي ستكشفه الأيام.



    هذه هي الرواية د.عبدالله علي إبراهيم، وكما ترى، إن القضية هنا ليست خلاف بين معسكرين يصدرها البعض، إنما بين نمطين من القيادة الأولي ترى أنه يجب مواجهة الأزمات الداخلية بكل شجاعة وبكل ما تملك من روح ديمقراطية وسبل مؤسسية، وهذا ما تم في السرد الذي ذكرته لك. أما الثانية فتعتقد أنها ملهمة ولا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها وأنها دائماً على حق والآخرين مارقون عن الملة، ومفارقون لجادة الصواب، وعنصريين وأن أي خيبات تصنعها بأيديها تبررها هذه القيادة دائماً تردها إلى مصدر خارجي، مثال أن إسرائيل والصهيونية العالمية والإمبريالية من خلف ما يحدث. وهذه إكليشيهات ظللنا نجترها منذ خمسينيات القرن الماضي كلما فشلنا في مواجهة مشاكلنا. وقد كانت ولا زالت هذه هي أزمة السياسة السودانية.



    أما قولك أستاذنا الجليل د. عبدالله علي إبراهيم بأن ((...مثل هذه المشكلات لا تحل بالإنقسامات والتجريم المتبادل وتسويد الصحف بل بتغليب المصالح العليا لحركتهم والبلاد والسعي بقدر الأمكان لتوسيع دائرة المشاركة في القرارات الكبيرة...))، أتفق معك على هذا المبدأ، ولاتنتطح شاتان حول أنه الطريق الأمثل للمضي بالحركات السياسية إلى الأمام، لكن دعني أتطاول وأسأل سيادتكم، هل تصورتم في أي لحظة من اللحظات، أن مثل هذه الخطوة تمت أم لا؟؟؟، وكم من الطرق والأساليب و"الجوديات" التي تدخلت لوضع حد لأزمة التنظيم في مراحلها المختلفة قبل أن تصل نقطة اللاعودة ولم تجدي فتيلاً؟ لقد كان دائماً سعادة العميد وبنفس العقلية التي ذكرتها لك آنفاً يرفض أن تحل هذه المشاكل، لا وبل ينكرها من أساسها. أورد لك نموذجاً موثقاً، إذ كتب شخص يدعى دانيال دينق(عقيد شرطة متقاعد) مذكرة في 6 مايو 1996 مشخصاً نفس الإشكاليات التي دعت إلى كتابة مذكرة أعضاء المكتب التنفيذي في 15 يونيو 2003م، وحملت المجلس المركزي في أبريل 2004م لإتخاذ ما إتخذه من إجراءات ولما أعيت الحيلة الأخ دانيال دينق حينها أمام عناد سعادة العميد، حزم حقائبه ورحل إلى المنافي، وكثير من العسكريين إختلفوا مع سعادة العميد وفضلوا نار الإغتراب والوقوف في صفوف الضمان الإجتماعي وإعادة التوطين بأوربا وأميركا على جنان النضال، وآلاف غيرهم من المقاتلين الذين هجروا ميادين القتال، وعدد لايحصي من المثقفين المرموقين. إن هذه الهجرة ومن كافة القطاعات تثبت إن سعادة العميد كان ـ ومازال ـ هو من فارق جادة الصواب. وهو الأمر الذي يعيدنا إلى النقطة التي يطلب فيها د.عبدالله علي إبراهيم معارضي عبدالعزيز خالد بالإحتكام إليها وهي بالدارجي كدا "لم الموضوع" وأقول أن الأزمة وصلت إلى نقطة اللاعودة وفي هذه الحالة تقتضي الحكمة والسلوك المتحضر الإحتكام إلى القوانين واللوائح والمؤسسات لوضع حدٍ لذلك بدلاً من اللجوء للتصفيات. وعندما حدث ذلك ـ ولا أخال أن أحداً قد يختلف معي على أنها طريقة ديمقراطية نزيهة ونظيفة ـ فضل سعادة العميد سياسية الهروب إلى الأمام والبكاء والعويل بأنه رهن الإقامة الجبرية، وأنه وأنه وأنه. لكن، يبقى سؤال، ان كان بالفعل وكما أدعي أنا، ان سعادة العميد حر طليق، فلماذا يدعي هو خلاف ذلك؟؟؟ في تقديري انه يفعل ذلك لسبين:



    الأول: إنه يقوم بمناورة واسعة النطاق على مستوي الإعلام بغرض التغطية على القضية الأساسية ولب الصراع داخل التحالف والمتمحور حول تجاوزاته وإتصالاته مع النظام وفي هذا يستخدم كرت الإقامة الجبرية لإستدرار تعاطف السودانيين تاركاً لهم من خلال طرحه لمسألة أقامته الجبرية المزعومة فتح ملفات حقوق الإنسان وتعبئة المجتمع الدولي والراي العام العالمي والداخلي، مستخدمين وواصفين الآخرين بالعمالة وغيرها. صفوة القول إنه يريد التغطية على أزماته الداخلية بالتنظيم وتجاوزها عن طريق عوامل خارجية مستغلاً ضعف تمرير المعلومات وكيفية تصور الآخرين لما هو عليه الحال حقيقة وواقعاً.



    الثاني: إحراج وضغط الدولة الإرترية ـ والتي حملته على كفوف الراحة لثمانية أعوام خلت حتى صارت المعارضة الإرترية بالخارج تطلق عليه لقب حاكم الإقليم الخامس تندراً ـ لإقصى حد ممكن لدفعها لإتخاذ أى إجراء ضده سواء بالطرد أو غيره لتثبيت واقعة تدخلها في شئون التحالف الداخلية.



    لذلك تنهار قضيته الأولى متى ما ثبت عدم إعتقاله قسرياً(وهو الأمر الحادث بالفعل)، وتظل القضية الثانية رهينة بإرادته في الخروج فمتى ما فعل سقطت كل إدعاءاته بأنه "مسجون". عليه فأنا أتوقع أن سعادة العميد لن يغادر أسمرا أبداً وإن فعل ـ وقد يحدث ـ سيكون على مضض، وسيظل يلعب هذا الدور(دور سجين زندا The Prisoner of Zenda) لأنه المخرج الوحيد له للخروج من نفق أزماته وتجاوزها إلى مرحلة جديدة للصراع الداخلي. أو يعود ليعيش في السودان كما عاد وعاش مصطفى سعيد بطل رواية موسم الهجرة إلى الشمال.



    أما ردنا على د. محمد المهدي بشرى والذي نقل رسالته أيضاً د. عبدالله علي إبراهيم.



    كتب د. محمد المهدي معلقاً على ما قالته الأستاذة أمل قرني ((.. في واقع الأمر لاحظت تدهور صورة المناضل منذ بداية التسعينيات في القرن السابق. وهذا التدهور المستمر لم يحدث نتيجة للهجوم من قبل الخصوم نظام الجبهة مثلاً. وإنما بفضل سلوك مناضلي ومناضلات الساعة الخامسة والعشرين...))



    ويتساءل الدكتور من أين أتي هؤلاء؟؟؟ واصفاً المقاتلة أمل عمر قرني بالإنتهازية في سياق الوصف العام لمناضلي الساعة الخامسة والعشرين كما يقول، مستنداً إلى سقوطها في إمتحان إعتقال عبدالعزيز خالد عثمان، مستطرداً في الوصف بأن ((.. بدت لي هذه المناضلة بخطابها الديماغوجي ولغتها التبريرية مناضلاً لم يحمل سلاحاً في حياته، ولم يعاني مرارة الإعتقال أو السجن في حياته، بل هو مناضل صنعه الكلام وبراعته في إلباس كل حالة لبوسها..)) وأن أمثال هؤلاء يسعون للهجرة والحصول على الجوازات الأمريكية، والبريطانية..إلخ.



    أولاً الأستاذة أمل عمر قرني هي أبنة سعادة سفير السودان الأسبق بالسويد، الأستاذ عمر قرني والذي فصلته الجبهة الإسلامية بعد إنقلابها، وهي الآن مديرة منظمة السودان للرعاية الإجتماعية التي تعمل وتقدم الخدمات الصحية بالمناطق خارج سيطرة النظام وتكافح السل وسوء التغذية وغيرها من الأمراض التي تفتك بأهلنا بشرق السودان. والأستاذة امل زارت مناطق بشرق السودان لا أعتقد أن الدكتور يعرف حتى مجرد إسمها، وجلست الأستاذة مع المقاتلين في الخنادق الأمامية في أحلك الساعات والظروف وكانت تذهب بأرجلها إلى مناطق، زرعتها الجبهة الإسلامية بالغام المشروع الحضاري، أقول ذلك شهادة في حقها ورداً لمن يكتبون وهم لا يدرون ماذا يكتبون أو ممن تملى عليهم الخطابات لتسويدها بالصحف. وإن كان واجباًً التساؤل من أين أتي هؤلاء فيجب على الدكتور أن يوجه هذا السؤال إلى آخرين يعرفهم ويعرفون أنفسهم. والأستاذة أمل هي واحدة من قلة من النساء السودانيات الشماليات اللائي تركن نعيم أوربا وأمريكا وجئن إلى شرق السودان بقين بعد د.أميرة زاهر ومريم الصادق المهدي، وسمية قسم، واللائي قاتلن بالجبهة الشرقية كما لم يقاتل الأبطال، وهناك الكثيرات من رفيقات أمل قرني لا يسع المجال لذكرهن، ومنهن من صعدن إلى السماوات العلى في درب النضال من أجل الحرية والديمقراطية وكرامة الإنسان السوداني.



    وإن كانت قد قالت في سعادة العميد ما ذكره الدكتور ـ ولا أعتقد أنها فعلت ـ فهذا لا يليق(وما ليها حق)، ولكني أجزم بأن ذلك لم يحدث ولسبب بسيط، وهو أن المقاتلة أمل تعلم أن سعادة العميد ليس بالحجز القسري، وهذا هو لب الموضوع، وكلمات الأسى والأسف التي تدفقت كالسيل من على لسان الدكتور على أجيال الساعة الخامسة والعشرين كما يصفهم، ليست بذات معنى إذا أدركنا أن سعادة العميد حر طليق، وهو الأمر الذي ذكرته في معرض ردي على د. عبدالله علي إبراهيم.



    إن كل دعاوي الدكتور قامت على إفتراض غير صحيح، وكما يقولون النتائج الخطأ دائما تنبني على فرضيات خطأwrong conclusions based on wrong assumptions لذلك تسقط دعوى الدكتور وإتهاماته من أساسها. لكن يتبقي لنا التساؤل لماذا نحا سيادة الدكتور هذا المنحي؟؟ هل لشح المعلومات؟ أم لأغراض أخرى؟؟ في تقديري أن وراء خطاب الدكتور ما وراءه، وأتمنى أن لا يكون قد سقط في الوحل الذي سقط فيه محمد محمد خير، لعلمي التام سعادة الدكتور لديه الطريق الذي يوصله إلى المعلومات الصحيحة أسوة برفيقه د. عبدالله علي إبراهيم.



    أما ذهاب الدكتور في التأسي على حال الشباب السوداني الطامح في جوازات سفر أمريكية وغيرها بدلاً من ممارسة "النضال الدؤوب"، فلماذا لا يطرح على نفسه سؤال، وما الذي يدفع هؤلاء الشباب إلى المنافي طلباً لهذه الجوازات؟؟؟ هل حباً فيها أم أنها ظروف قاهرة دفعتهم دفعاً إلى المنافي، وهناك من يقف من خلف ذلك؟؟؟ وهل قلل ذلك من إسهاماتهم في النضال "الدؤوب" من أجل قضية وطنهم؟؟ وأشير هنا إلى أنه حتى أبناء سعادة العميد عبدالعزيز خالد يملكون عن بكرة أبيهم جوازات اليانكي ومقيمين ويدرسون بدار الإمبريالية، فهل قلل ذلك من عطائهم النضالي من أجل قضايا وطنهم؟؟ ومالنا نذهب بعيداً وأمامنا الدكتور عبدالله علي إبراهيم نفسه والذي يقطن الآن بالولايات المتحدة الأمريكية وبالرغم من ذلك فله أسهاماته تجاه قضايا وهموم الوطن، فهل يمكن إعتبار ذلك نقيصة في حق الرجل وتقليل من نضاله بدعوى حصوله على جواز سفر أمريكي مثلاً والسؤال لماذا هو هناك أصلاً إن كنت تعتبر ان مثل هذه المواقف نقيصة في حق الأستاذة أمل قرني؟؟.
    وأكتفي بذلك حول هذا الموضوع


    http://www.alsahafa.info/index.php?type=3&id=2147490333
                  

04-20-2008, 04:17 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    الانتماء للعروبة لا يلغي الخصوصبة الثقافية

    خصوصية السودان في هذا المزيج الفريد للثقافتين العربية والافريقية

    قيمة اي كاتب تاتي من تعبيره عن افكاره وارائه بشجاعة وضوح ومن تحمله المسؤلية الكاملة في الدفاع عن هذه الافكار وهذه الاراء .واذا ما تبين له في اي وقت ان رايه في هذه المسالة او تلك لم يكن صحيحا فعليه ان يواجه نفسه بكل شجاعة ويعترف انه كان يري كذا والان تبين له ان الصحيح هو كذا .
    اضطررت لهذه المقدمة لتكون مدخلا لمناقشة ما جاء في محاضرة د.عبدالله علي ابراهيم التي قدمها بالمجمع الثقافي عن مازق الثقافة السودانية والتي اوردت اخبار العرب تغطية موجزة لها في عدد سابق .

    ومصدر خلافنا مع الدكتور عبدالله علي ابراهيم هي، انه يحمل افكارا وخواطر لا يريد التعبير عنها بصراحة ووضوح لاسباب يعلمها هو قبل غيره .لذلك فهو يلجا الي طرح هذه الافكار ،بالمدارة خلف الاساليب اللغوية الفضفاضة .واسلوبه هنا يشبه الي حد كبير اسلوب الدكتور حسن الترابي الذي افتتن به اخيرا بعد ان انفض حيرانه من حوله ،ليقدمه كنموذج للمفكر الاسلامي الذي نجح في الجمع بين الحداثة والتقليد.
    وكثيرا ما يعتمد الدكتور عبدالله علي سمعته التي خلقها له اليسار الماركسي ،في تمرير الكثير من الاراء التي تفوت حقيقتها حتي علي اكثر المعجبين به فطنة وكياسة.ومن عجب ان اليسار الماركسي السوداني لا يزال يراهن علي الدكتور باعتباره فارسه الوحيد في حوبة الفكر السوداني ،بالرغم من انسلاخه عنه منذ اكثر من ربع قرن .

    ولكن الدكتور قد كشف اخيرا، عن افكاره الحقيقية التي ظل يداريها ولا يبوح بها طيلة ،سنوات مشواره في الكتابة ،في شان الثقافة السودانية .ففي المحاضرة التي القاها بالمجمع الثقافي بابوظبي امسية الاربعاء 11/7/2001 ، قطع الشك باليقين ،ووضع النقاط فوق الحروف كما يقولون ،وقال بصريح العبارة ،انه معني بشان الجماعة العربية المسلمة في شمال السودان وان شفرة الثقافية لهذه الجماعة ،هي القومية العربية الاسلامية ،.وقال ان ان اس البلاء ، ومثار النزاع الحالي في السودان ،هو ان هذه الجماعة عندما ارادت " ان تبني وطن ،بنت وطنا اكبر في رقعته ، من رقعتها ".وقال ،ان من بعض متاعب السودان ، هو" هذا الخليط من الهويات ".

    وهكذا لم يعد يجدي الحديث الموارب ،عن التنوع الثقافي والدفاع عن حقوق الاقليات وافتعال المعارك مع جماعة الغابة والصحراء وغيرهم من الافروعروبيين .فالدكتور يوجه الدعوة بهذا الحديث ،الي الجماعة العربية المسلمة ،لتفكيك السوان ، واقامة وطن يخص هذه الجماعة العربية المسلة وحدها .انها دعوة للجماعة العربية المسلمة في شمال السودان ،ان تقول للجماعات الاخري :يلا بلاش لمة !فليفتش كل عن وطن !فليفتش اهل الجنوب وناس جبال النوبة ونوبة الشمال واهل دارفور من غير العرب ،والبجة والانفسنا ،عن اوطان لهم !فهذا الوطن يخصنا وحدنا ،نحن الجماعة العربية المسلمة!!

    وعلي ضوء هذه الدعوة يمكن قراءة كل الاراء التي وردت في المحاضرة .مثل موقفه من نظام الانقاذ ،واعتراضه علي فكرة الاعتذار للجماعات الافريقية عن الانتهاكات التي وقعت في حقها ،وتنديده بمناسبة وبدون مناسبة بكتاب بلدو وعشاري ،عن مذبحة الضعين التي وقعت احداثها في سنة 1987 والتي قتل وحرق فيها عشرات الجنوبيين .

    فقد استهل الدكتور حديثه في المحاضرة بالتعليق علي النداء الذي وجهه الصادق المهدي - لم يحدد اين وجه المهدي هذا النداء- الي الجماعة العربية المسلمة في الشمال ،الاعتذار الي الجماعات الافرقية الوثنية علي حد تعبيره ،عما ارتكب في حقها من ممارسات وذلك لاثبات حسن النوايا .وقال ردا علي ذلك ،انه لا يري ضرورة لهذا الاعتذار ،لان هذا الاعتذار لا يعدو ان يكون نوعا من "عقدة الذنب الليبرالية التي ينبغي التخلص منها .فالمهم عنده ،هو "ان كل انسان يشوف امتيازاته ،مش يشوف تظلمات الاخر ".
    ان موقف الدكتور من فكرة الاعتذار ،ينسجم تماما مع تنديده بكتاب مذبحة الضعين .فالكتاب يكشف المزيد من الممارسات والانتهاكات التي يابي مجرد فكرة الاعتذار عنها .وفي الوقت الذي يرفض فيه الحديث عن مذبحة الضعين ،نجده من ناحية اخري ، في مقاله تحالف الهاربين ،يتخذ من احداث التمرد الاول بالجنوب والتي راح ضحيتها اعدادا من الشماليين ،مثالا يسوقه للتدليل علي عدم رغبة الجنوبيين ،في التعايش السلمي مع الشماليين في وطن واحد ،وليدحض به صورة الجنوبي المسالم البري ،التي وردت في اشعار المجذوب التي عرفت بالجنوبيات .

    ولنفترض ان الجماعة العربية في الشمال اقامت دولتها الخاصة بها علي اساس شفرة الثقافة العربية الاسلامية القومية،فهل ها سيجردهم من انتماءهم للثقافة الافريقية ؟
    اليسوا هم اصلا مزيجا للثقافتين العربية والافريقية؟
    ان الانتماء للثقافة العربية لا يلغي بالضرورة خصوصية كل بلد عربي ،وخصوصية السودان هي في هذا المزيج الفريد للثقافتين العربية والافريقية .ولكن الدكتور يرفض رفضا باتا اي كلام من هذا القبيل ويعتبره غش ثقافي ، ودسيسة استعمارية روج لها المستشرقون، بقصد تحجيم انتماء السودان للعروبة والاسلام!

    ولما كان الدكتور ،قد اشار ، في بداية حديثه ، الي ان الشفرة الثقافية للسودان الشمالي هي ،القومية العربية الاسلامية ،ياتي ليقول ،ان نظام الانقاذ الحاكم في السودان ،"مستل من هذه الشفرة ". كانما يريد ان يقول ،ان الشعارات التي يرفعها نظام الانقاذ ،كافية لاعطائه المشروعية طالما ان هذه الشعارات ،جزء، لا يتجزأ من الثقافة العربية الاسلامية! لذلك فهو يوجه الدعوة للجميع، للانخراط في هذا النظام، عندما يصف هذا النظام ببرج ايفل .حيث يقول :ان هنالك كاتبا فرنسيا كان يكره برج ايفل جدا ولكنه كان يذهب احيانا الي البرج لتناول وجباته فيه .وعندما سئل عن سر هذا التناقض .اجاب ،ان اللحظة الوحيدة التي لا يري فيها البرج هي لحظة دخوله فيه !!!

    عبد المنعم عجب الفيا
    جريدة اخبار العرب(ابوظبي ) - 19/7/2001
    * حذفت بعض الفقرات الصغيرة التي رايت ان فيها تكرارا
                  

04-30-2008, 05:36 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)





    Last Update 28 ابريل, 2008 07:46:23 PM

    في نقد "الإرهاق الخلاّق" لعبد الله علي إبراهيم (3-3)

    المثقف و"الحكيم" الصيني

    عبد الخالق السر
    [email protected]

    كنت قد أشرت في المقال الأول لتحليل الدكتور حسن موسى لموقف المصانع في أدب عبد الله السياسي، والذي أرجعه إلى أن:

    "عبد الله الذي لا ينشد الراحة زاهد في منصب "أشجع أبطال المسرح السياسي"، و لو شئت الدقة لقلت بأنه الأشجع بين ذلك النفر الذي يعرّف في التقليد المسرحي بعبارة "ضد البطل"( "آنتي هيرو") Anti hero.... من منظور "نقد الذهن المعارض" ضد الصورة الأيقونية البسيطة للبطل الوطني التي لا تستغني عن صورة "الخائن الوطني" واختصار التاريخ لمجرد "إذاعة ذكر الأبطال وتحقير الخونة" هو عند عبد الله زوغان عن "الشوف الشامل" في الظاهرة التاريخية.."

    من خلال تتبعنا لمقالتي الكاتب اللتين بنى عليهما كتاب "الإرهاق الخلاّق" وجدنا أن مساومته ، كما في قول مستلف من حسين مروة: "تستبطن رؤية دون الرؤيا ووجهة للإبحار مع الأحلام كيفما اتجهت أشرعتها الأسطورية في المتاهات المتناقضة في عوالم الافتراضات، محذرة من الاتجاه مع رؤية الواقع كما هو واقع".. والاستعاضة عن ذلك بتبني "مساومة" من نسيج رؤية النظام الحاكم، والتي هي كأية رؤية للعالم لها أصولها ومفرداتها التي تشكل خصوصيتها أي بنيتها الثقافية وأساسها الاجتماعي- الاقتصادي الذي يحيلها إلي طبقة مسيطرة تعمل من بعد بوسائل القهر المادي والمعنوي إلى صياغة ثقافية شاملة للعقل الجمعي تعمل من خلاله على تمويه أهداف انقلابها الطبقي. أي أن الكاتب في نهاية المطاف- كما تتبعنا- كان يدفعنا دفعا لـ "مساومة" تتواطأ مع الأسس الأيدلوجية لسلطة برجوازية تبعية جديدة تعمل بهمة لالحاقنا بركب النيو رأسمالية السائدة. وبالطبع هذا ما يثير الاستغراب من كاتب ماركسي عتيد في مقامه. وكان حسن موسى قد أشار – بحق- إلى الحيرة التي تنتاب كل متفحص لمصانعة عبد الله التي تبدو أنها بلا فائدة أو مصانعة "حاصل فارغ" على حد تعبيره لأنها:

    "محيرة حين ننظر إليها من مشهد المصانع الكلاسيكي الذي يلجأ للمصانعة كمكيدة تيسر " الفايدة" و الكسب الشخصي السريع.فهي مصانعة بلا فائدة ، مصانعة " حاصل فارغ". ذلك ان عبد الله الذي يعتبره بعض خصومه من " عملاء" نظام الإنقاذ لم يقبض ثمنا يليق بـ " عميل" من عياره الثقيل النادر.فهو لم يتول أي من تلك المناصب، ذات الفائدة، التي يتقاتل من أجلها بعض التقدميين السابقين ( ناس خالد المبارك و الشوش و منو و منو) ممن انبطحوا تماما أمام نظام الإنقاذ. و حتى طلبه بتصديق لإصدار صحيفة لم ينجح في الحصول عليه من سلطات نظام الإنقاذ. فما معنى هذه المصانعة التي لا تعود على صاحبها بأي منفعة مادية؟ “



    ومما يزيد الأمر تعقيدا ،في تقديري، حيال هذه المصانعة "البلا طائل" هو أن النظر من قرب في سيرة الرجل الشخصية والعامة ينفيان بقوة فرضية المصانع الكلاسيكي الباحث عن منفعة شخصية. وهي مصانعة إن وجدت لكانت أراحت الله وخلقه، وكفتنا كل هذا العنت. فالرجل كمثقف حقيقي وسياسي ملتزم كان وما زال دائم الحذر والتنبيه من الوقوع في حبائل شخصية "الأفندي" أو البرجوازي الصغير المدفوع بأنانيته المفرطة ورغائبه الشخصية التي لا تنفد والتي كبدت ،وما زالت، البلاد والعباد أفدح الأثمان.

    لن أتوقف هنا طويلا أمام هذه الحيرة حد الإعياء والتي على حد تعبير حسن موسى لا يوجد لها تفسيرا مقنعا سوى القول أنها برمتها:

    "ليست سوى تعبير ملتو عن مكابدات شاعر " مجنون" مُحبَط ضل طريقه إلى أرض السياسة ؟و هل انمسخ شاغل الشعر عند عبد الله، الشاعر السرّي ، إلى نوع من انشغال سياسي عصابي يصعّد الممارسة السياسية لمقام الهاجس الشعري؟" مندري؟..."



    بل سأنفذ إلى ما بعد ذلك مبديات عدم موافقتي لشخصية "ضد البطل" التي اقترحها حسن موسى لتحليل مفهوم المصانعة في أدب عبد الله السياسي. وتقديري للأمر ينصب في إغفال حسن موسى أن المسرح السياسي السوداني أصلا موسوم بشخصية الخائن كما تجسده الحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال بامتياز، ولا يحتاج إلى خائن آخر أو حتى صاحب خائن ليكتمل مشهد الشوف الكامل كتجسيد لحكمة ونصاحة المثقف ، خصوصا وأن المعارضة هي الأخرى دأبت على تجسيد شخصية غير مألوفة للبطل تظهره كفاقد للحكمة والرشد. وهذا كما يبدو للوهلة الأولى سيناريو غريبا ومشوشا لا يتفق والتيمة المكرورة للبطل موفور الذكاء والقدرات الخارقة والمنتصر أبدا للخير والحق والعدل على قوى الشر والظلام. هذا الوضع الغريب والشاذ لشخصية "البطل" غير المتصف بالحكمة أو "المخستك" – والمخستك في لغة "الرندوق" هو ذلك المجبول على الإتيان بكل ما هو محبط، أو الذي يتفوق "على سوء الظن" في تعبير آخر ينسب للأستاذ الشهيد محمود محمد طه- و"الخائن" الذكي الفاهم لأصول اللعبة لا نجد له معادل إلا في النسخة الكلاسيكية لأفلام الكاراتيه الصينية. ولكن لحسن الحظ فإن العبقرية الصينية قد زودتنا في نفس الوقت بشخصية "الحكيم" لحل هذه الإشكالية وإضفاء بعد روحي ومعنوي لقوى الخير حتى يتبدى انتصاره النهائي معقولا وموضوعيا ويخضع لشروط الواقع. فالحكيم في هذه الأفلام يطّلع بأدوار معقدة تعمل جميعها على تهذيب البطل روحيا وخلقيا وجسديا. لذلك يبدو شديد القسوة اتجاه هفوات بطله في عدم تقديره للأمور، ومن جملة ما يعلمه للبطل كيفية احترام خصمه (الخائن) وعدم الاستخفاف والاستهانة بقدراته. والأصل عندي أن هذا عين ما مطلوب من المثقف أن يلعبه من دور في المشهد السياسي السوداني. فالشدة وتبيان أوجه قصور أداء المعارضة وحثها على سعة الرؤية والتعامل مع خصمها والاستعداد له بما يتوافق وقدراته الحقيقية لا يعني الوقوع في غرام "الخائن" وحث البطل على صداقته كما شاهدنا في نسخة "الإرهاق الخلاٌّق"، وهذا هو الفرق الجوهري بين شخصية "ضد البطل" – المصانعة- التي يرومها الكاتب وشخصية "المثقف-الحكيم" التي تعلم وتقدر في نفس الوقت حجم الشرور التي تحدق بالمجتمع في ظل وجود الخائن.



    الإرهاق الخلاق أم إرهاق الإرهاق؟

    هذا ما كان من أمر كتاب الإرهاق الخلاّق. وهو في تقديري واحد من أضعف ما انتج الكاتب فكريا، ومن الصعوبة بمكان لقارئ ملتزم ومتابع جيد لأفكاره أن يجد أدنى صلة بما جاء فيه وبين ما أثرى به المكتبة السودانية من كتابات في غاية العمق والتماسك الموضوعي والتحليل النوعي والثراء المعرفي جعلت منه واحدا من اكثر الكتاب المعاصرين مهابة وإثارة للجدل. أما هذا الكتاب فيبدو للقارئ مرتبكا فاقد للموضوعية مشوش السياق بشكل يوحي أن كاتبه قد صدره في واحدة من تلك اللحظات النادرة التي يطال فيها العدم كل شيء ويتحول إلى ثقب أسود يبتلع كل ما حوله. وحتى حين عمد في لحظة يائسة أن يراهن على الفنان بداخله على طريقة الخليل الفريدة حين أنهك المرض اللعين جسده: "من حطامك أنا هسه وارق..."، فأهدانا هذا العنوان البديع: "الإرهاق الخلاّق" إلا أنه على ما يبدو كان إرهاقا تمكن بقوة من عصب فكر الرجل، ليعكس – للمفارقة- إرهاقه الشخصي إضافة لإرهاق الوطن ليكون الناتج "إرهاق الإرهاق" على وزن التعبير العامي البليغ (تعب التعب). وهو إرهاق ربما نعزيه ".. لصبر عبد الله الطويل على شبهات المصانعة وعلى وحشة المساومة..." على حد تعبير حسن موسى والذي اتفق معه في أنه لا يوجد له تفسيرا مقنعا في ظل الغموض والعدمية التي تكتنفه.

    هوامش:

    د. حسن موسى (أشغال العمالقة – منبر الحوار
                  

05-01-2008, 07:34 PM

Rayah
<aRayah
تاريخ التسجيل: 08-26-2007
مجموع المشاركات: 158

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)

    تصحيح للتوثيق

    أغنية (برضي ليكا المولى الموالي) هي للشاعر ابراهيم العبادي وليست للشاعر محمد سعيد العباسي


    محمد عبدالله الريح

    (عدل بواسطة Rayah on 05-01-2008, 07:35 PM)

                  

05-03-2008, 03:16 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    الإنترنت قربت المسافات،

    د. حيدر إبراهيم في قطار الافتئات علي ع ع إبراهيم (1-3)

    محمد عثمان إبراهيم
    [email protected]

    www.mohamed-ibrahim.blogspot.com

    " لحيدر منطق مثل سيف تيمورلنك في تسليب "المثقفين" لا تنجو منه رأس قط"

    د. عبد الله بولا ، جريدة الخرطوم ( العدد 1815) ، الأحد 31/5/1998 م

    لم يكن الدكتور بولا علي خطأ مطلقاً حين ذهب إلي توصيف منطق الدكتور حيدر إبراهيم علي بسيف تيمور لنك فالمقارنة ذات الدلالة البينة التي ذهب إليها التشكيلي و الأكاديمي المرموق لم تأت إعتسافاً في حق الرجل إذ لم يقتصر تبنيها علي بولا وحده و إنما كان هذا رأي الكثيرين فقد طعن الدكتور حسن أبشر الطيب في مقال نشره بجريدة الصحافة السودانية عام 2004 م قراءة د. حيدر نموذج للتفكير السلبي في فكر حيدر و أشار إلي " هذه الوقفة الإستعلائية التي يقفها د.حيدر ، يخيل إليه ، أو علي أقل تقدير يعطيك هذا الإنطباع، أنه في جبل المعرفة و ما سواه في سفح الجبل " .. حتي يختتم الجملة بنصيحة لازمة " الإنصاف جميل و التواضع أجمل يا دكتور" و لم يسع الطيب في مقالته الحري إلا أن يلوم حيدراً علي ما إكتنف مقالة له عن مشروع بحثي تصدي له الدكتور كامل إدريس عن مستقبل السودان عام 2020 م " من سقط القول الذي يبعد كلياً عن منهج العلماء" .

    و تناولت الأستاذة رباح الصادق المهدي حالة العداء التي يستلذ بها حيدر و يتبناها كلما كتب شيئاً عن أي شيء فقد أخذت عليه في مقال لها بعنوان تعقيباً على الدكتور حيدر إبراهيم علي في مقاله حول نوم النواطير و قالت إنه " للحقيقة و الإنصاف ، فإن الدكتور حيدر إبراهيم لم يستثن أحداً ، فقد قال في غضبة عدمية ( لأنها لن تؤدي إلا إلي العدم ) قال : " النواطير النائمة هي قيادات الأحزاب السياسية و كودرها و عضويتها ، و ضمنها أيضاً منظمات المجتمع المدني و الصحافة و الحركة الثقافية " فهو لم يستثن نفسه و لا المنظمة التي ينتمي إليها أو العمود الذي يكتب فيه جاعلاً النوم للجميع"

    و بعنوان د. حيدر إبراهيم يخرج عن قواعد الأمانة العلمية «1» كتب عوض الكريم موسي واصفاً " معالجة د. حيدر لقضية التخطيط الإستراتيجي في بلادنا إنما هي معالجة سياسية دارجة تعوزها الحصافة السياسية ، دع عنك الرصانة العلمية التي تنبغي لمن يقود مركزاً للدراسات السودانية ، فهي تعج بالمهارشة و المماحكة ، و لاتقدم لقارئها من وراء ذلك شيئاً ذا بال ، و سأسعي ما وسعني الوسع إلي عملية إنتقاء عسيرة لفرز الموضوعي من غير الموضوعي ، و لو من باب التقدير النسبي .."

    و رغم هذا الحديث الذي جاء هنا من أكثر من كاتب و مثقف فإن الدكتور لم ( يتبن ) رأسه عملاً بالحكمة الشعبية التي تنصح بذلك إذا ما اتفق لإثنين أن ابلغا واحداً بأن رأسه غير موجود.

    خرج د. حيدر في 15 مارس 2008 م بمقال عجيب وسمه بعنوان عبد الله علي ابراهيم بين الصحفنة و الفكرنة و الأكدمة يتهجم فيه علي منتوج الأخير الإبداعي و الفكري و ربما ( الأخلاقي) و يريد إستتابته علي طريقة ( صيد الساحرات ) و هي طريقة سنأتي علي وصفها لاحقاً . و إذ قرأت الجزء الأول منه أشفقت علي نفسي فلولا إن كاتب المقال هو د. حيدر الذي يحمل درجة علمية رفيعة و ظل يسهم – ما شاء له الله أن يسهم – في حياتنا الثقافية و الفكرية طوال العقدين الأخيرين عبر مؤسسة نشر مخصوصة ( هي مركز الدراسات السودانية ) لقلت أن المقال مبتذل و لا يثير شيئاً مثل عنوانه.

    فمنذ البداية يبدأ الكاتب بتلبيس الهجوم معني النقد حين يقول أنه " ليس من أغراض هذه الكتابة نقد عبد الله أو الهجوم عليه " و " و لكن خيبة الأمل في مثقف " كنا ندخره ليوم لقا و بدميها يتوشح" يكون أقرب إلي المرثية.." و إذا تجاوزنا الترادف المتعسف بإيراد الهجوم و النقد في موازنة و سطها كلمة ( أو ) فإن بقية الجملة تشي بحق الكاتب في مصادرة مستقبل منتوج الدكتور عبد الله لصالح أجندة يلمح إليها بإشارة (يوم لقا) و في هذا تغول كبير علي حق إنسان يفكر و يكتب ما يعتقد إنه الحقيقة أو ما يعتقد إنه يعبر عنه علي أقل تقدير.

    و يمضي الكاتب ناعياً إهدار قدرات الدكتور عبد الله النادرة في اللغة و التحليل و إنسيابها " إلي برك راكدة و لا تكون التتابع المعطاء أبداً" و قد وضعت خطاً تحت هذه الجملة لفتاً للإنتباه إلي العي و الحصر اللذان يلازمان صياغتها و هذا باب شيق في قراءة كتابة الدكتور حيدر حيث يقول في جملة عجيبة من حيث المعني – و هو علي كل حال معني مستنبط لا تفصح عنه الصيغة ال (معقود) لسانها- " فقد كان موضوعاً من موضوعات نقاشات شرسة مع المرحوم عمك يونس الدسوقي . فحين تمر سيرة عبد الله ، أقول له :- و الله أنا زعلان للزول دا كان ممكن يكون جمال الغيطاني قبله بكثير" .. حتي يصل إلي جملة في نهاية الفقرة أعتقد أنه قصد بها أن تكون ذات محمول لغوي بديع " و بالفعل كانت كتابات عبد الله القديمة العبقة بعطر من التاريخ بلا افتعال" فأنظر كيف تكون الفرادة!

    و إذ إجتهدت لتفسير ما ذكره د. حيدر عن جمال الغيطاني في هذا السياق فإنني لم أظفر بشيء سوي أن الكاتب عقد مقارنة- ظالمة – بين رجلين سمقت قامتهما كل في مجاله و ليس بين مسارات الرجلين تداخل يبرر المقارنة بينهما مثلما لا يمكن عقد مقارنة بين مكي سنادة و ريكاردو علي سبيل المثال ن فصاحب الزيني بركات – الذي لم يتلق تعليماً جامعياً قط - روائي و مراسل حربي و صحفي ( في الصحافة الثقافية) بينما صاحب ( السكة حديد قربت المسافات) أكاديمي و كاتب مسرحي و صحفي و باحث و فوق كل ذلك ناشط سياسي أنفق عقداً من عمره تحت الأرض – بتعبير الدكتور حسن موسي- وفاء لفكرة و إرتهاناً لقرار عصبة إمتثل لها حيناً من الدهر ثم أعرض عنها لا يبالي.

    علي كل فإن المقارنة التي عقدها الدكتور حيدر بين المبدعين تشي بأنه إما لم يقرأ جمال الغيطاني و ربما لم يشاهده في برنامجه التلفزيوني الراتب ( مع جمال الغيطاني) و إما أنه إقتصر علي قراءة الصفحة الأولي ل ( الصراع بين المهدي و العلماء) مضيفاً إليها مقالة د. عبد الله ( شهادات عن التجاني الماحي ) التي أشار إليها و إلي تأريخ صدورها في صلب مقاله مما يجعلنا أميل إلي الإقرار بأنها فعلاً بين يديه.

    علي العموم ليس فيما ذكرنا سبقاً فقد اتهمه د.حسن أبشر الطيب بأنه زعم بقراءته لكتاب كامل إدريس في حين أن الكتاب موضوع المقالة لم يكن قد ورد إلي الطباعة حين نشر هو مقالته و هو ما دعي حسنا ( اً) إلي إيراد النكتة عن المحامي الذي ترافع عن متهم بسرقة حمار واصفاً الحمار بأنه كان ضالاً في وقت لم يجهد المحامي الهمام نفسه في تقصي أن الحمار موضوع الدعوي كان مشجباً للملابس لا غير.

    و علي هذا المنوال يواصل د. حيدر مقالته التي لا يربط بين فقراتها منهج سوي جهد كاتبها لتقريع عبدالله بعبارات مرسلة من نحو " صرت كثير الكتابة و الكلام" التي تنحو بالمقالة إلي طابع الرسالة الخاصة ثم تعود إلي ما يشبه رصانة المقالة و الإشارة للكاتب موضوع ( التقريع ) فيها بضمير الغائب ، لكن بعبارات مرسلة أخري لا تقوم علي أي ساق من السند العلمي نحو " كان عبد الله يجلد طبقة الأفندية أو البرجوازية الصغيرة....لكنه الآن يقف في صفها و يدعمها ، ليس لأنه إختار ذلك ، و لكنه رفض الحداثة ، و التجديد ، و الإنفتاح علي الآخر ، و الأصالة" و العبارة علي كونها مرسلة فإنها تصور أن الوقوف مع طبقة الأفندية أو البرجوازية الصغيرة هو أمر مرذول علي الإطلاق ينبغي التبرؤ منه بإعتبار أن تلك الطبقة (وهذا إجتهاد مني ) مناهضة لفئة المسحوقين و الفقراء و (البروليتاريا ) الذين ينبغي قصر المؤازرة عليهم . كل هذا و أستاذ الإجتماع لا يقول لنا ماذا كسبنا بمناهضة الأفندية و أين يصنف هو نفسه ذاته المفكرة.

    الكتابة علي هذا النمط لا تتوقف عند حيدر إذ يصف عبد الله بأنه يمثل مأساة يونانية في زمن جديد – هكذا- شارحاً مأساة عبد الله بأنها تتلخص في بحثه عن مكان يخفي فيه تاريخه و يدفنه و الأهم من ذلك ألا يلاحقه هذا التأريخ.

    طوال ما يكتب لا يغادر د. حيدر مقعد المعلم و لا حجر عليه في ذلك فهو قد استحق هذا المقعد بمثابرة و جلد و اجتهاد و ليس ثمة من يرغب في نزع ذلك منه لكن عليه و هو هناك ألا يجلس الآخرين في مقعد التلميذ فكراسي الفلاسفة تتسع للكثيرين و توضع في صدر المجالس إذا كانت مخصصة لمن هم في مثل علم و معرفة د. عبد الله علي إبراهيم .

    يقول حيدر " كان المعلمون و الفلاسفة يسألون طلابهم الجدد و زملاءهم :-

    - ما عطشك ؟

    فما عطشك يا عبد الله حين تكتب و بهذه الكثرة؟"

    ليست هناك حاجة عند حيدر للحصول علي إجابة فهو يواصل ( مونولوجه ) إذ يقول " قد أعطي نفسي الحق في الإجابة عن سؤال لماذا يكتب عبد الله طوال السنوات الممتدة من نهاية السبعينات؟ يكتب عبد الله و في ذهنه كيف يكيد و يغيظ الأعداء و هم كثر في مخيلته " يا للخطورة وصل الأمر إلي سبر مخيلة الدكتور عبد الله و كشف ما فيها من أعداء كثر!

    علي كل " لا يناقش حيدر إستشهاداته ، و لا يأخذها بما ينبغي للباحث المدقق أن يأخذ به مصادره من الدقة و الفحص الإشكالي. فقد قرر حيدر مسبقاً ، في ما بيدو، أن يشوي المثقفين" أو كما قال عبد الله بولا في الحلقة السادسة من مساجلته المطولة حوارية لاهاي، رد علي رد (الخرطوم 31/5/1998م ).

    نواصل ..

    from sudanile May 3rd, 2008
                  

05-04-2008, 01:07 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    Last Update 03 مايو, 2008 06:56:52 PM

    الإنترنت قربت المسافات،

    د. حيدر إبراهيم في قطار الافتئات علي ع ع إبراهيم (2-3)

    محمد عثمان إبراهيم
    [email protected]

    " كان رجل من التجار له ولد يتقعر في كلامه ، و يستعمل الغريب ، فجفاه أبوه إستثقالاً له و تبرماً به ، و مما كان يأتي به ، فاعتل أبوه علة شديدة أشرف منها علي الموت . فقال أشتهي أن أري ولدي ، فأحضروهم بين يديه و أخر هذا ثم أخر حتي لم يبق سواه، فقالوا له : ندعو لك بأخينا فلان؟ فقال : هو و الله يقتلني بكلامه، فقالوا: قد ضمن ألا يتكلم بشيء تكرهه ، فأذن لهم. فلما دخل قال : السلام عليك يا أبت ، قل أشهد أن لا إله إلا الله ، و إن شئت قل أشهد أنّ لا إله إلا الله ، فقد قال الفراء : كلاهما جائز، و الأولي أحب إلي سيبويه. و الله يا أبت ما شغلني غير أبي علي ، فإنه دعاني بالأمس فأهرس و أعدس ، و أرزز و أوزز ، و سكبج و سبج، و و زربج و طبهج ، و أبصل و أمصل ، و دجدج و افلوذج و لوزج.

    فصاح أبوه العليل : السلاح السلاح ، صيحوا لي بجارنا الشماس لأوصيه أن يدفنني مع النصاري و أستريح من كلام هذا البندق". جمع الجواهر في الملح و النوادر- الحصري.

    بدأ د. حيدر الجزء الثاني من مقاله الصحافة 22 مارس 2008 م " ترددت بين تعريف المصطلحات التي تعلو المقال ، و بين البحث عن مدخل مريح عن شخصية الموضوع نفسها لتسبيب و ليس تبرير كتابة الموضوع أصلاً" و لا يغيبن علي فطنة أحد إحتباس المعني المكنون - إفتراضاً - في تجاويف هذه الجملة التي قد يصعب شرحها و الربط بين ما يمكن أن يكون جملاً مفيدة في ثناياها فإستخدام كلمة (بين) للإفادة عن وقوع الكاتب بين خيارين هو إستعمال عجيب يكاد الخياران فيه لا يلتقيان حتي لو وضعت بينها عشرات الأدوات من علي شاكلة (بين) و حتي نكون منصفين فإن الخيارين موضع الحيرة هما ما بين:

    1) شرح ( المصطلحات) أو كما سمي الكاتب مفردات صحفنة و فكرنة و أكدمة ، و..

    2) البحث عن مدخل مريح عن شخصية الموضوع ( نفسها ) لا حظ نفسها و ليس نفسه .

    حتي يصل إلي " كنت مكرهاً لإستعمال هذه المصطلحات التي تبدو متقعرة و شاذة ، و لكن أجبرتني تطورات اللغة العربية في توليد و صك مفاهيم و مصطلحات و تعابير جديدة جديدة تعبر عن واقع جديد" هكذا قال دون أن تجبره تطورات هذه اللغة للنظر في أساسياتها و إستخدام (مكرهاً علي) عوضاً عن (مكرهاً ل..) الموغلة في النشاز .

    و ينقلنا الكاتب للتدليل علي صحة مصطلحاته التي صكها إلي اللغة الإنجليزية التي يحاول الكثير من الكتاب و المثقفين إرهاب ( الناس ) بها بتكثيف الإحالات إليها و الإسراف في أستخدام كلمات منها بين أقواس تزيد من غموض النص لكنها – و كما هو مطلوب منها تماماً – تضعه ( أي تضع النص ) في مكان ربما حسبه الناس لجة فكفوا عن الخوض فيه . و في المقال أورد د. حيدر كلمة ( Tattoo) لشرح كلمة وشم ( التي لا تحتاج إلي مزيد من الإيضاح ) .

    علي كل يصعب الإقتناع بأنه كان لزاماً علي د. حيدر إستخدام تلك المفردات الثلاثة معاً إذا ارتضينا - جدلاً - قبول إحداها . و ما ذكره الكاتب من إنها تأتي " للتعبير عن سيرورة أو حالة إنتقال و تحول إلي وضع آخر" لا يجد له سنداً فيما تلي ذلك من شرح فقد أورد الكاتب إن " المقصود بالصحفنة التوجه نحو أن يكون كاتباً صحفياً و في نفس الوقت ألا يكون مجرد صحفي بل يضيف إليها كونه مفكراً، و هي الصفة التي توزع بكرم بلا معيار دقيق. و في نفس الوقت لا يريد أن ينسي إنه في الأصل أكاديمي" .

    إذن لا يمكن شرح صحفنة دون ربطها بفكرنة و أكدمة كما تؤكد الجملة أعلاه و هكذا فإن كلمة (صحفنة) كلمة غير مفيدة في ذاتها و لا يمكن إستيعابها دون أن تتبعها ( فكرنة ) و ليس أي كلمة أخري و إن جاءت علي نفس التفعيلة. إذن ليست لدينا حظوة في إستخدام هذا المصطلح الذي فرضته تطورات اللغة دون أن نأخذ الحزمة ( ربما Package) كاملة و إلا فلا.

    حين صرخت الشاعرة المصرية فاطمة ناعوت في حوار مع السفير اللبنانية ذات مرة معربة عن حسرتها من وجود ( أدباء ) مكرسة أسماءهم و يفشلون في إقامة جملة عربية سليمة ، لم يخطر قطعاً ببالها أن يكون د. حيدر ضمن من عنتهم لكنني أذكر عبارتها كلما قرأت له فهو – بلا شك- كاتب مكرس و لو من خلال جهده الشخصي و نشاطه الجم و دأبه علي الكتابة و النشر بشكل كتب عنه د. عبد الله بولا مخاطباً د. حيدر " يا شيخ حيدر حبل المهلة يربط و يفضل . و إني لأراك علي عجلة شديدة في إطلاق العبارة و الفكرة. و قد أقول كأن العبارة أصبحت تسبق الفكرة عندك" ( الخرطوم، الأحد 19/7/1998 م ).

    هذا من ناحية ( التكريس ) أما من ناحية اللغة فلن تتكبد كثير عناء لتصل إلي ما وصل إليه د. بولا أو د. حلمي شعراوي أو غيرهما ، و دونك جملة أخري كتبها ( بل أحياناً العاطلين من المعرفة و الموهبة ) بدلا ً عن ( العاطلين عن ..) المتواتر ورودها في كتب اللغة و الأدب، و دونك أيضاً إلتباس نظر د. حيدر إلي اللغة نفسها.

    أدناه نموذجان متناقضان لرأي د. حيدر في لغة الإمام الصادق المهدي:

    - " ترددت كثيراً قبل ان أصل إلي صياغة هذا العنوان و لكن السيد الصادق المهدي شجعني حين إستخدم كلمة السحسحة و أدخلها ، بحصافته و حسه اللغوي العالي ، إلي قاموس السياسة و الكتابة في الشأن العام". الحنكشة و نوعية الحياة في السودان .

    - " و قد يكون السبب و لع الرجل باللغة و هو يبني عالمه من الكلمات و هي في أحيان كثيرة مجازية و غير حقيقية ، فأصبح في أحيان كثيرة ينفصل عن الواقع و يسكن في كلماته. فقد يكون إعجابه بمصطلح جديد كافياً لجعله يتخذ موقفاً جديدا بينما هي مع الكلمات و التعبير و الإصطلاحات و ليس المهم واقعية الموقف و لكن جاذبية الكلمة" و دون أن نسأل كثيراً عن إسم الإشارة (هي ) الوارد تحته خط و كيف هبط علي هذه الجملة فإن هذا الإستشهاد مأخوذ من مقال د. حيدر السيد الصادق المهدي:- تساكن المجاز و الواقع

    أنظر كيف تحول الإمام بين جملتين إثنتين من الحصافة إلي الولع بالمفردات المجازية غير الحقيقية

    ( أي التي لا تعبر عن معني و لا تحمل دلالة).

    و في سياق شرحه لمفردة ( فكرنة ) دلق د. حيدر – كالعهد به – بضع عبارات تحط من قدر المثقفين السودانيين و من قدر إسهاماتهم من علي شاكلة وصف حواراتهم بالمناوشات التي تبدو أقرب إلي تقاتل الديكة من نوع افشارة إلي أن صفة مفكر صارت صفة مجانية توزع بكرم بلا معيار دقيق.

    و مع قناعتنا الراسخة بعادة السودانيين عموماً في المجاملة و التي تأتي في أحيان كثيرة علي حساب قيم أخري أدناها الصدق مع الذات فكم رأينا من شاعر كبير يخلط بين السين و الثاء و (دكتور) معروف للقاصي و الداني إنه لم يحصل علي شهادة بذلك ، إلا إننا نقر بالطبع بصدق عبارة د. حيدر.

    و لعل صدق هذه العبارة يجعلنا نعود لمساءلة المعايير التي حصل بها د.حيدر نفسه علي لقب مفكر إذ ليس سراً إن د. حيدر ظل يقدم في كثير من المنابر بهذه الصفة بدءاً من جريدة ( الإتحادي الدولية ) التي كانت تصدر في القاهرة إلي صحف الداخل و منابره الإعلامية و الثقافية ( و الفكرية ) الأخري.

    و قد يكون من المفيد هنا أن أشير إلى حوار نشرته جريدة الصحافة مع د. حيدر وضعت له عنوان من الصعوبة الحديث عن فكر سوداني و هذا لا يعني إلغاءه أطنبت فيه الصحيفة في وصف حيدر بالمفكر و قالت " الدكتور المفكر حيدر إبراهيم علي مفكر و كاتب ناشط علي الصعيدين السوداني و العربي ، و هو مؤسس مركز الدراسات السودانية و مديره. إستطاع عبره أن يوصل الفكر السوداني للمحيط الدولي .. و للدكتور مؤلفات فكرية عديدة تعني بدراسة الفكر السوداني داخل بنيته القومية الثقافية. كان لنا معه هذا اللقاء حيث ألقي الدكتور حيدر أضواء علي القضايا الثقافية المعاصرة علي المستويين القومي و الكوني."

    بالطبع لم يعترض د. حيدر – لا بإسم المعايير العلمية ولا بأي إسم آخر – علي إطراء الصحيفة له كما لم يسائل مرة – فيما قرأنا- أي كاتب أو صحفي عن معاييره العلمية التي جعلته يصفه بالمفكر ( سواء وصفه بأنه مفكر سوداني أم قومي أم كوني).

    لكن الدكتور عينه لا يهدر فرصة واحدة لتبخيس جهد الاخرين حتي لو كان أولئك الآخرون البروفيسور الراحل أحمد الطيب زين العابدين إذ يعرض ب( سودانوية ) الرجل في نفس الحوار الآنف الذكر مع جريدة الصحافة "كنت أتساءل دائماً : ألا تكفي السودانية، فلماذا السوداناوية ؟ لأن النسبة في هذه الأخيرة قد يقصد بها الإدعاء أو المبالغة، فالعلمية غير العلماوية، فهل المقصود في هذه الحالة سودانية فائقة أو زائدة؟ أم هو مجرد تعبير عفوي ؟ لست أدري لماذا سوداناوية؟" و من الواضح إن د.حيدر في هذا لا يحفل بإجتهادات من كتبوا عن السودانوية أو من قدموا أي مساهمات في إطارها سواء كان أولئك الكتاب يقفون منها موقف ال ( مع ) أم ( الضد) أم ( البين بين ) فهذا لايهم!

    و فيما يسخر من كلمة سودانوية التي أبلي كثيرون في شرحها و التي ربما تناولها بعض المهتمين بوصفها – و هذا هو الحد الأدني - ترجمة لمفردة ( Sudanism ) وفق السياق المستخدم عربياً بإضافة (وية) عوضاً عن لاحقة (ism) مثل أمثلة كثيرة كإسلاموية (Islamism) و شعبوية التي تكرم د. حيدر نفسه بشرحها في مقال له بعنوان إشكاليات الدين و الوطن علي النحو ( المحكم ) التالي : " الفرق بين الشعبوية Populist تهتم بتهييج و تعبئة الجماهير و الشعبية Popular هي التي تكسب تأييد الجماهير برضاها و قناعتها ) عظيم و ليت د. حيدر أضاف كلمة ( إنها) قبل كلمة (تهتم ) لتستقيم الجملة لكن لا علينا الآن بهذا ، المهم هو إن هذا الشرح يصلح لأن يكون قاعدة فلماذا لم يقم الدكتور بتجريبه ( أو تجربته ) علي السودانوية ؟

    نواصل..
                  

05-13-2008, 04:48 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)




    د. حيدر إبراهيم في قطار الافتئات علي ع ع إبراهيم (3-3)

    الإنترنت قربت المسافات،

    محمد عثمان إبراهيم
    www.mohamed-ibrahim.blogspot.com

    " لا أحب الخروج من البيت خوفاً من أن تعكر بشاعة العالم مزاجي"

    محمد الماغوط

    تري هل يمكن إستعارة عبارة الراحل العظيم للحديث عن شبكة الإنترنت و بصورة أكثر تحديداً للحديث عن أناس إختاروا أن يحملوا عن الجميع وزر تلطيخ هذا الأكتشاف الإنساني الهائل بالبشاعة. هل قربت شبكة الإنترنت المسافات بين الناس إلي هذا الحد المهول و هل أصبحت الكتابة عمن هم مثل د. عبد الله علي إبراهيم بهذا اليسر و هل أضحي الإفتئات عليهم بهذا القدر من السهولة و المجانية؟

    تفكر في الصباح في الخروج من البيت ( بيتك / عالمك ) إلي بيت العالم ( علي الإنترنت) فيقابلك صيادو الساحرات و المكارثيون . يكتبون بأسمائهم علناً ..لا يستحون من فعلتهم . ذات يوم ( ربما ) أبلغهم كاتب مكرس ( من الذين عنتهم فاطمة ناعوت) بأن عبد الله علي إبراهيم مع العرب ضد المهمشين فطفقوا يحملون معاولهم ضد الفراغ و عبد الله يكتب و يجادل .يملأ هؤلاء ببشاعتهم العالم المفترض علي الإنترنت فتخشي علي مزاجك من التعكير.

    في الماضي كان الدهماء يحرقون الكتب و الناس ( أنفسهم ) في بعض الأحيان.في مسرحيته الرائعة البوتقة (The Crucible ) و التي كتبها إبان عهد المكارثية في الولايات المتحدة يذكرنا آرثر ميللر بعملية إصطياد الساحرات في قرية أمريكية و محاكماتهن التي غالباً ما انتهت بالإعدام و هي المحاكمات التي بدأت ب ( أبيجيل و يليامز) ذات الأحد عشر عاماً فقط و التي لم تنته عندها.نجح المهرجون في إنتزاع إعتراف من الطفلة البريئة بممارسة السحر ضد صديقتها و رفيقتها في اللعب و الرقص و اللهو البريء و ما زالت أخبار تلك المحاكمات تتلي حتي الآن ( هنا ). الآن صارت مثل هذه المحاكمات صعبة الحدوث لكن البعض ما زال يبتكر من أساليب الإستتابة ما شاء الله له أن يبتكر و هي إستتابة لا تستهدف – برأي الكاتب المسرحي المصري علي سالم - تخلي الكاتب عن أفكاره بل تسعي لدفعه إلي الكذب العلني و هي إستتابة لا تهدف إلي الرجوع عن الفكرة المضادة بل تهدف إلي القضاء علي صاحبها بدافع من العجز عن إستيعابها أو الخوف منها أو كراهيتها.

    كثيرون من حملة راية مناوأة د. عبد الله لم يقرأوا ما كتب الرجل سواء في نصوصه الإبداعية أو دراساته الأكاديمية المهيبة أو مقالاته الصحفية و أخشي أن يكون د. حيدر من هؤلاء فهو و إن لم تعرف عنه مناوأة لعبد الله إلا أنه اتهمه بأنه يكتب في كل شيء لكي يلحق بموعد المقال الراتب و إنه تحت ضغط الزمن يحاول الجري و الطيران و كأن عبد الله لم يكتب سلسلة ( لو كنت من مازن) و ( ومع ذلك) و غير ذلك من عشرات بل مئات المقالات الصحفية علي مدي عقود.

    صيادو الساحرات إختاروا الإنترنت ساحة للضغط علي عبدا لله بهدف استتابته عن أفكار لم يحظوا بالتعرف عليها و قد قرأت لواحد منهم قوله أن لديه رأياً حاداً في ( ع ع إبراهيم ) لكنه لم يطلع أحداً علي هذا الرأي و إنما حمل قلمه ( كناية عن لوحة مفاتيحه) و طفق يقيم المكالم ( جمع مكلمة و تعني في عامية بعض أهل مصر جلسة النميمة) عن عبد الله مبتدراً هذه المكالم بعبارات من علي شاكلة ( إن ع ع ابراهيم كثير الحظوة هذه الأيام بالإستضافة في تلفزيون الإنقاذ..) و ما ينفك ( صائدو الساحرات) يعملون تحليلاتهم العجيبة بأن الرجل ( كوز من أولئك النفر) و إن تخفي !

    دخل صاحب ( المكالم ) علي محاورة إبتدرها د. حسن موسي مبيناً رأيه في كتابة الشاعر محمد المكي إبراهيم عن عبدالله بولا فكتب " إن مواقف كبارنا و د المكي و صلاح تستحق الرد القاسي و دا (يقصد دي) قضايا الرحمة فيها ما بتجوز. لكن يا اخوي دكتور عبد الله علي إبراهيم أصبح يروج لمواقف فكرية مناقضة لمواقفه السابقة يؤيد حكومة الإنقاذ و يصف البشير بالحكمة و يشيد بالقضاة الشرعيين و يهاجم جون قرنق و محمود طه و يصمت قلمك عنه". هكذا كتب لا فضت ( لوحة مفاتيحه) محرضاً و (محرشاً لا مقاتلاً) و حسناً فعل حسن موسي حين رد عليه بأن دونه ع ع إبراهيم و نصوصه إذا كان مستعجلاً لتصفية حساب له مع الرجل أما هو ( أي حسن ) فليس ضمن أولوياته نقد كتابات عبد الله في الوقت الراهن.

    لم يكن توجس ع ع إبراهيم ( أو دعنا نقول رفضه) لمشروع ( السودان الجديد ) الذي تناوله خطاب الزعيم الراحل د.جون قرنق جديداً فقد كتب – وحيداً- إبان الديمقراطية الثالثة إلي سفارة ألمانيا ( الغربية ) معترضاً علي استضافة البرلمان الألماني لزعيم الحركة الشعبية قائلاً " و أهم من ذلك كله إن خطاب العقيد حول السودان الجديد الذي يدعو له إما ساكت عن اشكال و ملمس التعددية الحزبية أو انه يدعو إلي ديمقراطية جديدة مبهمة فيها مخائل و مخاطر التحول إلى دولة كلانية مسدودة" ( نشرت المذكرة بصحيفة سودانايل الإلكترونية قبل أعوام ضمن مقالة {اليسار و الديمقراطية الليبرالية : ( و حتعمل بيها إيه يا جلق)؟}.

    لا مناص إذن من الإعتراف بأن موقف ع ع إبراهيم سابق لحكومة الإنقاذ التي خرج في عهدها من السودان و بالتالي فإن فرية إتهامه بموالاتها لا تعدو أن تكون وسيلة من وسائل الإستتابة التي أشرنا إليها .

    علي كل لا يخفي د. حيدر شغفه بفكرة التخلص من المثقفين ففي مقال له بعنوان المجتمع المدني السوداني: رؤية من الداخل أورد أسماء حوالي السبعين شخصاً من ناشطي العمل السياسي و الفكري و الثقافي متمنياً التخلص منهم جميعاً قائلاً في عبارة تنقصها الجزالة و يسيطر عليها كما غالب المقال خطل الصياغة " كان الخليفة عبد الله يتضايق من بعض المعارضين و تقعير المثقفين (يعني إيه ؟) ، يذهب بهم إلي الأسكلة و ينقلون إلي جبل الرجاف حتي يقضي الله أمراً. و أقول في نفسي ماذا لو أنقذتنا السماء بخليفة ينقذنا من مجتمعنا المدني الحالي، لكي نجبر علي بعث مجتمع مدني حقيقي". اشهدوا يا ناس: يريد د. حيدر أن تنقذه السماء بنظام أكثر قسوة مما كان عليه النظام الحالي الذي كمم الأفواه و طرد مئات الآلاف من البلاد و شرد عشرات الآلاف من وظائفهم و قتل الخصوم و سجن العلماء و اخترع بيوت الأشباح و أركب المثقفين فيها كالأنعام بعضهم فوق بعض. نظام خرج في عهده ع ع إبراهيم نفسه و خرج يوسف الموصلي و عادل القصاص و يحيي فضل الله و الياس فتح الرحمن و المئات من الكتاب و المبدعين و المثقفين و التشكيليين و المسرحيين حتى صار عددهم كافياً لإنشاء الروابط و الجمعيات في بقاع كثيرة من العالم و دونكم إتحاد الصحفيين السودانيين بالولايات المتحدة. فأي النظامين كان علي المثقفين و المبدعين أرحم : نظام الخليفة عبد الله أم نظام الإنقاذ في عهد الترابي؟

    خرج كل هؤلاء فلماذا لم نجبر على بعث مجتمع مدني جديد؟

    ثم هل المجتمع المدني ضنين المسالك إلي هذا الحد الذي نحتاج فيه للتخلص من هؤلاء بغية فتح الطريق أمام الآخرين؟ و كيف علم الله د.حيدر هذه ( الأسماء ) كلها و أنبأه أن بذكرها ينغلق كتاب المجتمع المدني في السودان كله؟ ببساطة أجد د. حيدر مخطئاً و هو يقول إن غياب هؤلاء يفسح المجال أمام مجتمع مدني جديد ، و أجد د. حيدر مخطئاً و هو يغلق المجتمع المدني السوداني كله على هؤلاء فقد رأينا المجتمع المدني دون أن نمنحه هذا الإسم ( الرنان) في قرانا القصية و شهدنا قادة ذلك المجتمع ( المدني ) يكثرون من العمل دون أن يتحدثوا عما يفعلون و ربما أعجزهم ذلك فهل اقتصر المجتمع المدني علي أولئك السبعين فقط مع عميق الإحترام؟.

    يتحدث د. حيدر في الجزء الثاني من مقاله عن الصحافة في العهد الحالي و يتناول ما أسماه ( هبوط المهنية) فيها و يبدو إن الدكتور لم يجهد نفسه ليجد عبارة أفضل لكنه يغفل كل هذا و ينصب من نفسه حكماً لانتقاد الصحافة إذ يقول " و يمكن متابعة هذا التدني و التدهور في أشكال عديدة بدءاً من المواقف من حرية التعبير حتى اللغة و الأسلوب المستعملين في الكتابة"

    ينثر د. حيدر في سياق مقاله عبارات وثوقية ( دوغمائية ) يصعب على القارئ تلقيها من أكاديمي له حضور مثل حضوره. عبارات من علي شاكلة " و من المعروف أن هبوط المهنية يتبعه سقوط أخلاقيات المهنة" ، " أدركت سريعاً لماذا تخلف السودانيون و تقدم غيرهم". و إذا اتفقنا جميعاً إن السودانيين (كلهم علي الإطلاق ) متخلفين كما تقول العبارة، فهل يمكن لأكاديمي متخصص في علم الإجتماع أن يتمكن من إدراك علة مقعدة و معقدة الأسباب مثل تخلف شعب كامل بهذه السرعة؟ إذن لماذا يجهد الناس أنفسهم في البحث و التقصي و التجريب؟

    كل هذا شيء و إقحام أسماء المصريين شيء آخر فمثلما أقحم إسم الروائي جمال الغيطاني كما أشرنا سابقاً أقحم أيضاً إسمي علي الدين هلال و محمد السيد سعيد حين ذكر أن استاذاً جامعياً سودانياً يعمل مستشاراً صحفياً لإحدي صحف الفضائح . يقول حيدر " و عقدت مقارنة سريعة بين ما يكتبه أساتذة في مصر مثل علي الدين هلال و محمد السيد سعيد" و حتي لا يبيعنا الدكتور الترام نقول إن مثل هذه المقارنة لا محل لها في الإعراب حيث لا يعمل الدكتور هلال في الصحافة و لم يشتهر بالكتابة فيها و إنما نال معظم شهرته بسبب صعوده في سلم الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم و توليه الوزارة و هو مثل غالب وزراء مصر من التكنوقراط البعيدين عن العمل السياسي و الذين يستقطبهم الحزب الحاكم لتولي وظائف الدولة التنفيذية كل في مجاله. كذلك الأمر بالنسبة لمحمد السيد سعيد المثقف و المفكر الناشط في مجال حقوق الإنسان و المجتمع المدني ، ثم ثانياً و هو الأهم إن النظر في كتابات هؤلاء لا تمنح ( المنجمين و لو صدقوا ) القدرة علي الكشف السريع عن أسباب تخلف السودانيين و تقدم غيرهم.

    يعود د.حيدر في نهاية مقاله إلي ما حذره منه حسن أبشر الطيب من الإساءات إذ قال الطيب في مقال أوردنا ذكره سابقاً عن نقد د. حيدر " مثل هذا القول ليس من باب النقد الموضوعي في شيء و إنما هو من سقط القول و باب الشتائم" . وصف حيدر المناخ الصحفي بأنه مناخ فاسد مثقل بالرشاوى ملمحاً إلي استحالة إحتفاظ عبد الله بنقائه في مثل هذا المناخ بعبارته " هذا هو باختصار وضع الصحافة و الصحفنة الذي يريد أن يحتفظ عبدالله علي إبراهيم، ضمنه بنقائه الفكري و سموه الأكاديمي و لكن يبدو لي أن التيار الجارف كان قوياً" . من يقول إن هذا لا يدخل في ( باب الشتائم)؟.

    لا يصبر د. حيدر علي عبارته تلك لكنه يمنحها مزيداً من الإيضاح إذ يقول " و استطاع عبد الله بذكائه و دهائه أن يلتقط سريعاً : ماذا يريد شباك التذاكر ؟ كما يقول أهل المسرح أو السينما حين يريدون تبرير هبوط مستواهم " ! و إضافة إلى ما في كلمة دهاء من محمول دلالي سالب في الثقافة العربية يشي بإعمال الخديعة فقد ورد حيدر مورداً حذره د. بولا من العلل منه و النهل قبل حوالي العشر سنوات بقوله" و في خصوص تشبيه حيدر لي ب " الهابطين " و " الهابطات " من الممثلين المصريين ، فلا أجد له وصفاً أقل من أنه محض ابتذال، و هبوط بمستوى الخلاف في الرأي إلى درك لم يكن يخطر ببالي قط أن يأتي من مثل حيدر" ( حوارية لاهاي ، رد على رد/ الحلقة (12) / الخرطوم العدد 1851 بتأريخ 12يوليو 1998 م). لم يغادر د. حيدر مقعده الذي نهاه بولا عن الجلوس فيه قبل عقد من الزمان!

    علي كل لم ينته حديث د. حيدر عن عبد الله علي إبراهيم إذ قال في نهاية الجزء الثاني من مقاله إن ما كتبه مدخل رأي "أنه ضروري قبل التعمق في نقد شامل لكتابات عبد الله علي إبراهيم خلال الأعوام الماضية" و كل ما نأمله من د.حيدر في نقده الشامل –إن تأتي- أن يحتفظ لعبد الله بحقه في الإختلاف و في أن تكون كتابته كما يري أو يشاء.



    from Sudanile May 12th, 2008
                  

05-13-2008, 05:17 AM

mohmmed said ahmed
<amohmmed said ahmed
تاريخ التسجيل: 10-25-2002
مجموع المشاركات: 8788

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)

    اشار محمد عثمان
    الى ما كتبته فى بوستات
    عن حظوة ع ع ابراهيم
    عند تلفزيون الانقاذ
    اها الكلام دا ما صاح
    كتب ايضا
    ان من ينتقدون ع ع ابراهيم
    لم يتابعوا او يطلعوا على ما يكتب

    اها نقول ليك نتابع كل ما يكتب منذ كتابات الحساسية الشيوعية فى الماضى وحتى كتاباته المتحسسة من الشيوعية فى الحاضر

    يستشهد محمد عثمان بحسن موسى ويردد ان لنا حسابات نصفيها مع ع ع ابراهيم
    يازول انا لا عندى حسابات لا مع ع ع ابرابراهيم ولا مع حسن موسى حقك دا

    وطيب نحنا عندنا ثار شخصى مع ع ع ابراهيم
    امشى اقرا مقالات عطبراوى الناقدة بحزم وقوة لافكار ع ع ابراهيم مع تاكيد عطبراوى بمحبته له


    بعدين
    انت وكت الانترنيت دا بيعكر مزاجك
    ما تر غادى وتسبح بحمد شيخك ع ع ابراهيم
                  

05-13-2008, 05:17 AM

mohmmed said ahmed
<amohmmed said ahmed
تاريخ التسجيل: 10-25-2002
مجموع المشاركات: 8788

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)

    اشار محمد عثمان
    الى ما كتبته فى بوستات
    عن حظوة ع ع ابراهيم
    عند تلفزيون الانقاذ
    اها الكلام دا ما صاح
    كتب ايضا
    ان من ينتقدون ع ع ابراهيم
    لم يتابعوا او يطلعوا على ما يكتب

    اها نقول ليك نتابع كل ما يكتب منذ كتابات الحساسية الشيوعية فى الماضى وحتى كتاباته المتحسسة من الشيوعية فى الحاضر

    يستشهد محمد عثمان بحسن موسى ويردد ان لنا حسابات نصفيها مع ع ع ابراهيم
    يازول انا لا عندى حسابات لا مع ع ع ابرابراهيم ولا مع حسن موسى حقك دا

    وطيب نحنا عندنا ثار شخصى مع ع ع ابراهيم
    امشى اقرا مقالات عطبراوى الناقدة بحزم وقوة لافكار ع ع ابراهيم مع تاكيد عطبراوى بمحبته له


    بعدين
    انت وكت الانترنيت دا بيعكر مزاجك
    ما تر غادى وتسبح بحمد شيخك ع ع ابراهيم
                  

05-13-2008, 05:17 AM

mohmmed said ahmed
<amohmmed said ahmed
تاريخ التسجيل: 10-25-2002
مجموع المشاركات: 8788

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)

    اشار محمد عثمان
    الى ما كتبته فى بوستات
    عن حظوة ع ع ابراهيم
    عند تلفزيون الانقاذ
    اها الكلام دا ما صاح
    كتب ايضا
    ان من ينتقدون ع ع ابراهيم
    لم يتابعوا او يطلعوا على ما يكتب

    اها نقول ليك نتابع كل ما يكتب منذ كتابات الحساسية الشيوعية فى الماضى وحتى كتاباته المتحسسة من الشيوعية فى الحاضر

    يستشهد محمد عثمان بحسن موسى ويردد ان لنا حسابات نصفيها مع ع ع ابراهيم
    يازول انا لا عندى حسابات لا مع ع ع ابرابراهيم ولا مع حسن موسى حقك دا

    وطيب نحنا عندنا ثار شخصى مع ع ع ابراهيم
    امشى اقرا مقالات عطبراوى الناقدة بحزم وقوة لافكار ع ع ابراهيم مع تاكيد عطبراوى بمحبته له


    بعدين
    انت وكت الانترنيت دا بيعكر مزاجك
    ما تر غادى وتسبح بحمد شيخك ع ع ابراهيم
                  

05-14-2008, 04:13 AM

mutwakil toum

تاريخ التسجيل: 09-08-2003
مجموع المشاركات: 2327

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: mohmmed said ahmed)

    up
                  

05-17-2008, 11:23 AM

بهاء بكري
<aبهاء بكري
تاريخ التسجيل: 08-26-2003
مجموع المشاركات: 3518

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)

    موقف مفعم بالحياة .. صاحبه رحل

    وموقف في غرفة الإنعاش .. صاحبه على قيد الحياة



    محمد سليمان – الدوحة



    في المحصلة النهائية قد لا تستحق المعارضة الشمالية لنظام الإنقاذ لتأبينها خيراً من شماتة عبد الله علي ابراهيم (غيرت بلداً ببلد وتكتيكاً بتكتيك ولؤماً بخبث ثم عادت بخفي الحنين ملومة حسيرة تلحس أصابع الإنقاذ والحركة الشعبية). بل ولعلها الآن في عزلتها الخانقة تنازع سكرات موتها أحوج ما تكون إلى دروس من عالم في فنون الدبارة والتكتيك (ليروا أن السياسة دبارة وهي علم قوامه سداد التكتيك) عل ذلك يعينها على عذاب القبر, بعد أن فاتتها الاستفادة من حكمته في الدبارة وهي على قيد الحياة. بيد أن المفارقة العميقة تكمن في أن ما قاد المعارضة الشمالية إلى مآلها هذا الذي جعلها موضعا لسخرية وتندر وشماتة عبد الله علي ابراهيم ليس هو عجزها المخزي في النهاية وإنما نجاحها المبشر في البداية, وليست هي خيبتها في المقاومة وإنما تصديها للمقاومة, وليس هو فشلها الذريع في القيام بواجبها كمعارضة لنظام شمولي قمعي فاسد وإنما هو محاولتها, حتى وإن لم تكن جادة في ذلك, طرح بدائل ووسائل للتعامل مع النظام غير تلك التي اتبعها عبدالله ثم شكّرها (كدلاكتها) وأوصى المعارضة وصية بخيل, بعد أن انكسرت الجرة, باتباعها, في مقدمة أوراقه الإنقاذية وحلقته الأخيرة منها مقارنا فيها موقفه بموقف البروفيسور المرحوم محمد عمر بشير من مؤتمر الحوار الوطني الذي دعى له الإنقاذيون في باكورة أيامهم.



    فيما سرده عبدالله نجد أنفسنا إزاء موقفين, موقف عبدالله الذي قبل الدعوة وشارك في ذلك المؤتمر وموقف البروفيسور بشير الذي رفض الدعوة وقاطع المؤتمر. ورغم زعمه بغير ذلك, يعود عبدالله بعد ستة عشر عاما إلى موقفه محاولاً ترقيع ثقوبه الواسعة ورفي أطرافه المهترئة باستلاف خيوط وقطع من قماشة موقف محمد عمر بشير بعد تمزيقها وخياطتها من جديد لتناسب مقاسات عبدالله . ولكن رغم محاولته إلباس موقفه ثوب البروفيسور بشير إلا أن البون بين الموقفين يظل شاسعاً، ويظل موقف عبدالله ميتاً إكلينيكياً في غرفة الإنعاش يتعلق بالحياة بواسطة المضخات والأجهزة تضخ فيه كل يوم تفسيراً جديداً، ويظل موقف البروفيسور، بعد عقد أويزيد من غيابه، ناصعاً، باهراً، نابضاً بالحياة يتحدث بلسان مبين عن نفسه دونما حاجة لتفسير.



    أستولى الإنقاذيون على السلطة وعبدالله مشغول بالتحضير للسفر لطوكيو, كما قال, وهي مشغولية كما يعلم كل متابع للصحف اليومية آنذاك, لم تمنعه من الانشغال بالشأن العام تسفيهاً وتشويهاً وتزويراً لمواقف اليسار عموما ومن أسماهم باليسار الجزافي خصوصا ممن تنبهوا لمخاطر ما كان يخطط له الإسلاميون وطفقوا يفضحونه داعين الخلق لإعداد العدة لمواجهته. شغلة عبدالله بسفره لم تتح له كما ذكر (فرصة مناسبة لتأمل هذا التغيير السياسي سوى الإطلاع على تراجم قادة الإنقلاب), وهو أمر غريب تماما أن يضيع منافح عن الديمقراطية وحقوق الإنسان كعبدالله السويعات القليلة الثمينة المتبقية لديه قبل السفر منقباً في السير الذاتيه ذاهلاً عن كنه التغيير السياسي موضوع التأمل ذاته وعن حقيقته الساطعة كانقلاب على الشرعية والديمقراطية وأداة مسمومة لانتهاك الحريات وحقوق الإنسان . فلا غرابة إذن إذا كانت (الحقيقة البشعة) التي استخلصها عبدالله علي ابراهيم من اطلاعه ذلك على تراجم قادة الإنقلاب هي طعنه هو في السن, فأكبرهم بمثابة أخ أصغر وأصغرهم بمثابة إبن له . إنها حقيقة بشعة حقا, لايفوقها بشاعة إلا قرار عبدالله بالمشاركة في المؤتمر إذا كان قد بناه عليها . إذا كان بعض الناس قد عاب على الصادق المهدي قوله أنه أختبأ في مطلع أيام الإنقاذ ليعرف إن كان الإنقلاب وطنياً فيفاوض أصحابه أو أجنبياً فيقاومهم, باعتبار أن الإنقلاب على الديمقراطية لا جنسية له, فلا شك أن حديث عبدالله علي ابراهيم الآن عن بشاعة ما وشت به أعمار الإنقلابيين سيجعلهم يعيدون النظر في تقييمهم للصادق .



    خرج عبدالله من البلاد عن طريق مطار الحرطوم على عينك يا تاجر والإنقاذ في أيامها الأولى, وعاد إليها بعد شهرين عن طريق ذات المنفذ في وضح النهار لا متستراً ولا متخفياً, وتلك أيام دهم ومطاردة وملاحقة في عصر رعب لم تشهد البلاد له مثيلاً في تاريخها الحديث, ثم ذهب إلى منزله (ولان العاقل من تدبر حشوت حقيبة صغيرة لي بحاجة المعتقل من ملبس ونحوه في انتظار طارق ليل النظام الجديد). لماذا هذا التشكيك في كفاءة أجهزة أمن الجبهة في المطار وهي تراقب عبدالله يخرج ويدخل عبرها كما شاء؟ ولماذا هذا الإيمان الصحابي بألا مفر من طول يد أجهزة أمنها الأخرى إلا (الفرار الى دار القرار)؟



    دعي عبدالله علي ابراهيم (ضمن جمهرة كبيرة من الناس) عن طريق أجهزة الإعلام للاشتراك في مؤتمر الحوار الوطني من اجل السلام, فوطن نفسه على المساهمة فيه رغم أن نفسه اقشعرّت (لا من الدعوة للمهمة بل من اسلوب الدعوة من خلال المذياع) مما استدعاه لاحقاً لتسجيل احتجاجه علي أسلوب الدعوة كتابة للعقيد خليفة, وتلك بصيرة إن كانت لا تتفوق كثيرا على بصيرة من سرق منه الصندوق فظل فرحاً مطمئناً أنه لا زال محتفظاً بالمفتاح, إلا أنها دبارة جيدة ممن يرى أن قضاته هم الشعب ويتحسب ليوم الحساب بشهادة موثقة من العقيد خليفة، ما شأننا؟ ولكن إن كان غمار الناس الذين يدعي عبدالله أنه بقى وسطهم (لا البرجوازيين الصغار الثرثارين), يعرفون الجواب من عنوانه, ألم يك قمينا به أن يدرك أن أسلوب الدعوة المرفوض لم يكن إلا عنواناً فاضحاً بمضمونها الذي فتش عبدالله انحاء نفسه عن الموقف منه (فلم يجد مثقال ذرة من عزوف او تردد).



    يزعم عبدالله أن المرحوم محمد عمر بشير, الذي لم يحتج على أسلوب الدعوة كتابة أو شفاهة, ذكر له أنه لا مانع عنده من المشاركة في المؤتمر (غير انهم يجب ان يكفوا عن اعتقال الناس وتشريدهم والتضييق على الحريات) وحينما سأله عبدالله إن كان سيجعل من ذلك الكف شرطاً للمشاركة أجاب المرحوم بالنفي, ولكن محمد عمر بشير مع ذلك قاطع المؤتمر, لا نتيجة قراءته الواعية للأحداث ولا بتقديره السليم لمعنى المشاركة بل ولا بخبرته الثرة في أساليب وبروتوكولات الدعوة للمؤتمرات, وإنما لأن (جماعة من مريديه الشباب قد راجعوه في قراره الاشتراك في المؤتمر وحملوا ذلك محمل اضفاء الشرعية على نظام مارق). هل كان من هو في قامة محمد عمر بشير في حاجة لمراجعة من مريديه؟ وهل, إن صحت رواية عبدالله, يعيب البروفيسور أنه رأى الصواب في رأي تلامذته فاحتذاه؟ ومحمد عمر بشير فوق هذا وذاك كله هو مؤسس المنظمة السودانية لحقوق الإنسان , عقب انتفاضة أبريل 1985 , ورئيسها الأول , وهي المنظمة التي حلها نظام الإنقاذ في أول بياناته التي حظر فيها جميع مؤسسات المجتمع المدني (ما عدا الجمعيات الدينية) , ألم يك ذلك كافياً له لمقاطعة المؤتمر.



    ذكر عبدالله أن كلمته في المؤتمر كانت بمثابة نواة لنشأة طائفة من اعضاء المؤتمر جاهرت برأيها في تعديات النظام على حقوق الانسان , و ذكر لتلك الطائفة وقفتين مهمتين بشأن حقوق الانسان , إحداهما (حين قطعنا الشك، بواسطة شهادة صدق، ان محاضرا بطب جامعة الخرطوم قد جرى تعذيبه في معتقلات النظام) فتدخلت لدى العميد عثمان الذي تكرم فأطلق سراح الطبيب بعد زيارة له في السجن غداة ذلك اليوم! ألا رحم الله كل ضحايا التعذيب والإرهاب في معتقلات وبيوت أشباح النظام الذين لم يقيض الله لهم شهادة صدق لدى عبدالله علي ابراهيم كانت كفيلة بإنقاذهم. هكذا تضحي مجمل ممارسات النظام وتصريحات قادة الإنقاذ أنفسهم وكل تلك القوانين الذميمة وغياب أي ضمانات للتحقيق والتقاضي النزيه والعادل, بل وإعداد عبدالله حقيبة الإعتقال الصغيرة دونما جريرة ارتكبها سوى سفره لطوكيو, مجرد أكاذيب تطلقها تلك المعارضة اللئيمة, ويراد لنا أن نؤمن بأن ما أخرج الرقاب من تحت المقاصل لم تكن هي تلك الحملة الدولية الناجعة التي قادها الأستاذ فاروق أبو عيسى وإنما (شهادة صدق) لدى عبدالله علي ابراهيم !



    من تلك الرؤية وذلك الأسلوب في الدفاع عن حقوق الإنسان يذهب عبدالله للتحسر على ما آل إليه حال الدفاع عن حقوق الإنسان ويسأل نفسه "كيف كان سيكون حال الشكل المؤسسي والروحي لحقوق الانسان في السودان اذا لم يغير المرحوم رأيه في المساهمة في مؤتمر الحوار الوطني). هكذا يصبح المرحوم الذي حلت منظمته الوليدة للدفاع عن حقوق الإنسان مسئولا بغيابه عن ذلك المؤتمر عما آل إليه الحال, لا النظام الذي الذي لم يكن التعدي على تلك الحقوق جزءا من ممارساته فقط إنما قاعدة جوهرية من قواعد فلسفته وركناً أساسياً من أركان آيديولوجيته. ولا يكتفي عبدالله بالتحسر فقط, بل و يغالط التاريخ قائلا (بدا لي دائماً انه قد اتيحت لنا في تلك الايام فرصة لتشكيل حركة غير حزبية جامعة لحقوق الانسان ولكنها ضاعت من بين ايدينا لجملة من الاسباب). فإذ يتذكر عبدالله عن المرحوم البروفيسور محمد عمر بشير كل شئ حتى مريديه وتلامذته ينسى أو يتناسى أن تلك الحركة التي تمناها كانت موجودة تماما وأن مؤسسها كان هو البروفيسور المرحوم محمد عمر بشير نفسه وأنها لم تضع لجملة أسباب وإنما لسبب واحد واضح بين وهو قرار حلها الذي لم يوضح لنا عبدالله لِم لم يتوسط هو وطائفته تلك لدى العمداء والعقداء الودودين الأتقياء لإلغائه!

                  

05-17-2008, 06:40 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: بهاء بكري)

    تشكر بهاء على المرور والمشاركة
                  

05-17-2008, 08:05 PM

طلعت الطيب
<aطلعت الطيب
تاريخ التسجيل: 12-22-2005
مجموع المشاركات: 5826

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)

    الاخ الفاضل عبد الله عثمان
    تحية وود
    ادناه مقال آخر يمكنك وضعه فى ميزان (حسنات) الرجل لأن من كتب عنهم فى هذا المقال هم انا وزميل آخر بالبود، سأعود لاحقا للتعليق وتوضيح انعدام الامانة فيما كتب


    عبد الله على ابراهيم يكتب: يا نقد.. الرأسمالية كيف؟

    تواترت على السيد محمد إبراهيم نقد جملة نصائح من فوق منبر "سودانيزأونلاين" من مغتربين مشغولين بالسياسة حول أمثل السبل لقضاء أيامه بلندن التي زارها مؤخراً. ولا يعلو حتى نقد بالطبع على النصح. ولكن أزعجني أنها نصائح لم تراع اعتبارات مطلوبة في حسن الخطاب وبلاغته من حيث الحديث بمقتضى الحال. فقد اتسمت بوصائية وترفع نزعت عن نقد ملكة النباهة، واشتبهت في يقينه، وطعنت في إدراكه لما هو فيه من شغل لنحو نصف قرن من الزمان.
    فقد طلب ناصحو نقد منه أن ينتهز فرصة زيارته للندن ليطوف بأناة على العالم الرأسمالي الذي دخله آمناً. وهو عالم رمى نقد طوبته منذ عهد بعيد بتبنيه العضوض للماركسية. ويريد له الناصح أن يقف على ملامح هذا العالم الحضارية وموازين العدل فيه وحريات التعبير فيه. ويبدو أن الناصح لا يريد لنقد أن يقيم الندوة المعلن عنها ليحدث الناس بل عليه أن يتعلم من مجتمع أصر على الجهل به او استجهاله. فنصوص نقد الماركسية (أو رقياته) قد رَثَّت ولن تحيط بمجتمع مثل المجتمع الإنجليزي الوثاب. ومتى مر نقد بالإنجليز في شوارع لندن واستفتاهم سيجد أن زمن دعوته قد فات ومغنيها مات. ويريد الناصح لنقد متى عاد إلى السودان بهذه المعرفة "حَمَام التايمس" أن يغير ما بحزبه وهو أمل مرتجى. ونسج ناصح آخر على هذا المنوال. واقترح على نقد أن يزور مقر شركة بريطانيا للبترول ليقف على نظمها الإدارية المستحدثة التي انتقلت بها في ظرف عقدين من منظمة بروقراطية فاشلة تدار من مركز إلى كيان نابض يدار بصور متعددة.
    وفي هذا استعلاء غير خافٍ. ولكن الغريق لقدام. فقد طلب ناصح لنقد من شيعته أن ينقلوا عنه له أنه يقف في وجه تواصل الأجيال حين يصر على الماركسية التي هي منتهى اجتهاد جيله. ثم ألغى فرع الحزب الشيوعي بلندن ندوة معلنة لنقد معتذراً بظروف غير مرئية اضطرته للعودة للسودان. فاستنتج الناصح من سياق الإلغاء أن نقد ربما توعك توعكاً حال دون الندوة. وأردف (وهو الذي يعتقد بأن نقد عجوز قاعدة برة لمنع تواصل الأجيال) بأن "الناس ديل كبروا والعمل السياسي اليومي أصبح شيئاً لا يتناسب مع ذلك الجيل، وهو بالمناسبة آخر من تبقى لنا من جيل الاستقلال." وهذا جفاء غريب بدا لي فيه الناصح كمن انتهز واقعة الغاء الندوة (بسبب المرض وهو مجرد اجتهاد منه) ليكسب نقطة على نقد العجوز وماركسيته الهرمة. وهذا إزراء بالعمر لا مكان له في إعراب حقوق الإنسان التي يقال إنها تاج رأس الغرب الرأسمالي. وذكرتني هذه الكزازة (وهي الجفاء) موقفاً بجامعة الخرطوم في الستينيات. فقد اجتمع البروفسير عبد الله الطيب بفرقة التمثيل الجامعية التي زكى لها أن تقوم بتمثيل واحدة من مسرحياته التاريخية. ويبدو أن ذلك تكرر منه أو أن بعضهم كان يريد مسرحاً معاصراً مما ملأ الدنيا وشغل الناس في مصر. وجرؤ واحد من هؤلاء ليقول كل ذلك لعبد الله الطيب في وجهه بغير تلطيف أو مراوحة في العبارة. واندهش البروف وفغر فاه بطريقة معروفة عنه وقال للرجل باسمه "يا فلان أنت قح." وسارت بالكلمة الركبان. ونصح الناصحين لنقد في عباراتهم المعلومة قحاحة.
    ولا تثريب في كل ذلك لو كان الناصحون براء من الغرض المسبق. فلو كانوا كذلك لحملنا قولهم على حسن النية وخيانة التعبير. ولكن الناصحين كانوا في حزب نقد سنين عددا. وخرجوا منه وعن الماركسية وكونوا تنظيم حق المعروف. وقالوا عن الماركسية إنها مما يستعذبها من هم دون الأربعين ولكن من تعلق بها وقد أربى على الأربعين (مثلي ومثل نقد وسليمان حامد كمان معانا) فقد ضل ضلالاً بعيدا. ولا تثريب في كل ذلك. ولكن من القحاحة أن ينتهزوا زيارة نقد للندن ليجددوا نزاعهم معه بصورة شخصية ومباشرة: في وجهه كذا. فقد "قببوه"، وشهروا بعقيدته، وقرروا عليه القيام بعمل ميداني في شوارع لندن ليمحو أميته عن مجتمع زاهر يعاديه عن غفلة، ثم عابوا عليه شيخوخته التي لم تعصمه عن "الكنكشة".
    ما تورط فيه ناصحو نقد تعقب(stalking) مؤذ ويقع تحت طائلة القحاحة. وهو من جهة أخرى فرح بما هم فيه من عيش بالغرب أي تكسب بالغرب. وهي بعض حربائية الصفوة السودانية اليسارية. فهم خلو من ملكة نقد المواطن التي يحلون بها في الغربة. فكل مكان ينبت العز طيب. فقد عاشوا في المجتمع الاشتراكي السابق في هناءة ودعة لم يهتز لهم قرن استشعار بينما ذلك المجتمع ينخر فيه الدود حتى تطربق عليهم وهم لا يشعرون. ثم انتقلوا غرباً. وكل مكان ينبت العز طيب. ولم يتركوا عاداتهم في الحربائية يدبجون الأماديح في الغرب الحر: معبد عبادتهم السياسية الجديدة. وهذه طائفية محضة.
    وسنعود إلى حديث وجوب تنمية حس بنقد الغرب ومنهج له حتى يسلم اليسار من هذا الحشو والتسميع.

    نقلاً عن صحيفة الرأى العام
                  

05-17-2008, 08:16 PM

طلعت الطيب
<aطلعت الطيب
تاريخ التسجيل: 12-22-2005
مجموع المشاركات: 5826

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: طلعت الطيب)

    كتب د.ع ع ابراهيم المقال اعلاه تأسيسا على ما كنت قد كتبته فى هذا البوست
    الأستاذ محمد إبراهيم تقد يتحدث بلندن يوم السبت 10 مايو ‏‏2008‏
    Quote:
    وكنت قد كتبت:
    الاخ د.صدقى كبلو
    خالص تحياتى
    ارجو تبليغ التحية للاستاذ محمد ابراهيم نقد
    حقيقة لو كنت من مضيفى الاستاذ بالمملكة المتحدة لما ترددت للحظة واحدة فى تنظيم زبارة لمقر شركة البترول الانجليزية BPوالاطلاع على تجربتها الادارية فى الانتقال من منظمة بيروقراطية فاشلة تدار مركزيا الى منظمة تحكمها اطر ومبادىء وممارسات الادارة الحدبثة بل والتحول الى شركة خضراءGREEN COMPANY تساهم فى تنظيف البيئة بقدر ما ساهمت فى تلوثها، وكيف حدث ذلك فى عقدين من الزمان.
    كذلك ارجو ان تنقل عنى الى الاستاذ اتهامى له بانه يقف امام تواصل الاجيال وانه ينحاز الى ابناء جيله حينما يصر على ان تكون الماركسية هى المنظور الاجتماعى الوحيد اى حينما يقول (نحن حزب ماركسى)
    واخيرا انقل اليه اعجابى بقدرته العالية على التضحية والالتزام


    ثم كتبت:

    Quote: محزن هو عدم قيام الندوة
    اتمنى الاّ تكون صحّة الاستاذ محمد ابراهيم نقد هى من وراء ذلك الالغاء المباشر. الناس ديل كبروا والعمل السياسى اليومى اصبح شىء لا يتناسب مع ذلك الجيل، وهو بالمناسبة آخر من تبقى لنا من جيل الاستقلال.
    عفوا د. صدقى اقول ذلك مجرد احساس خارج السياسة واتفاقها واختلافها ، فالسنين تمر ويحدث تبادل الاجيال وتبقى الكلمة الطيبة والذكرى العطرة ، اكاد اعانق الخمسين واحس بفداحة السن ومعنى التقدّم فيه عضويا ووجدانيا، فما بالك بجيل ناس نقد.. ربنا يديهو الصحة وطول العمر
                  

05-17-2008, 09:06 PM

طلعت الطيب
<aطلعت الطيب
تاريخ التسجيل: 12-22-2005
مجموع المشاركات: 5826

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: طلعت الطيب)

    Quote: فقد اتسمت بوصائية وترفع نزعت عن نقد ملكة النباهة، واشتبهت في يقينه، وطعنت في إدراكه لما هو فيه من شغل لنحو نصف قرن من الزمان.

    يلاحظ ان كاتب المقال قد استنكر (تجرأنا) ونقدنا، بل اعتبرها نوعا من الوصائية وعدم تقدير لتجربة الاستاذ محمد ابراهيم نقد لنصف قرن فى العمل السياسى وكأننا نسقط تجربته هذه لمجرد نقدنا له ولكن كاتب المقال يناقد نفسه حينما يبتدر مقاله بعبارة ان الاستاذ نقد ليس فوق النقد. نقدى كان منصبا حول قضية الاصلاح الديمقراطى وفى اطار نقدى لمبدأ المركزية الديمقراطية رايت اهمية الاطّلاع على تجربة ادارية هامة اصبحت هى المتشرة فى عالم اليوم اسمها ديمقراطية المشاركة وقدمت التجربة الادارية لشركة البترول الانجليزية كنموذج واقترحت على السيد امين عام السكرتارية المركزية فى الحزب الشيوعى زيارة الشركة والاطّلاع على تلك التجربة فهل هناك انسان فوق النقد والنصيحة. وهل قضية الاصلاح الديمقراطى مجرد كماليات حتى نتهم بالتعالى والوصائية حينما نتطرّق اليها (نحن معشر المشغولين بالسياسة على حسب تعبيره)!

    Quote: ونسج ناصح آخر على هذا المنوال. واقترح على نقد أن يزور مقر شركة بريطانيا للبترول ليقف على نظمها الإدارية المستحدثة التي انتقلت بها في ظرف عقدين من منظمة بروقراطية فاشلة تدار من مركز إلى كيان نابض يدار بصور متعددة.


    Quote: وفي هذا استعلاء غير خافٍ. ولكن الغريق لقدام. فقد طلب ناصح لنقد من شيعته أن ينقلوا عنه له أنه يقف في وجه تواصل الأجيال حين يصر على الماركسية التي هي منتهى اجتهاد جيله.

    هذا غير صحيح ان من اتهم نقد انه بتمسكه بالماركسية كمرجعية فكرية وحيدة يحاول فرض افكار جيله هو انا وليس احد من شيعته والحقيقة ان شيعته هم من استنكروا علىّ هذا الحديث على اعتبار ان كلّ اعضاء الحزب الشيوعى يوافق نقد حول جعل الماركسية مرجع فكرى وحيد.. يرجى العودة للتأكد من ذلك فى المداخلة السابقة لأن بها ما كنت قد كتبت

    Quote: ثم ألغى فرع الحزب الشيوعي بلندن ندوة معلنة لنقد معتذراً بظروف غير مرئية اضطرته للعودة للسودان. فاستنتج الناصح من سياق الإلغاء أن نقد ربما توعك توعكاً حال دون الندوة. وأردف (وهو الذي يعتقد بأن نقد عجوز قاعدة برة لمنع تواصل الأجيال) بأن "الناس ديل كبروا والعمل السياسي اليومي أصبح شيئاً لا يتناسب مع ذلك الجيل، وهو بالمناسبة آخر من تبقى لنا من جيل الاستقلال." وهذا جفاء غريب بدا لي فيه الناصح كمن انتهز واقعة الغاء الندوة (بسبب المرض وهو مجرد اجتهاد منه) ليكسب نقطة على نقد العجوز وماركسيته الهرمة. وهذا إزراء بالعمر لا مكان له في إعراب حقوق الإنسان التي يقال إنها تاج رأس الغرب الرأسمالي

    اعلاه استنتاج غير صحيح واترك للقارىء ذلك فهل ما كنبت ادناه يشوبه اية نوع من عدم الاحترام؟
    هذا ما استند اليه د.ع ع ابراهيم:
    ( محزن هو عدم قيام الندوة
    اتمنى الاّ تكون صحّة الاستاذ محمد ابراهيم نقد هى من وراء ذلك الالغاء المباشر. الناس ديل كبروا والعمل السياسى اليومى اصبح شىء لا يتناسب مع ذلك الجيل، وهو بالمناسبة آخر من تبقى لنا من جيل الاستقلال.
    عفوا د. صدقى اقول ذلك مجرد احساس خارج السياسة واتفاقها واختلافها ، فالسنين تمر ويحدث تبادل الاجيال وتبقى الكلمة الطيبة والذكرى العطرة ، اكاد اعانق الخمسين واحس بفداحة السن ومعنى التقدّم فيه عضويا ووجدانيا، فما بالك بجيل ناس نقد.. ربنا يديهو الصحة وطول العمر
    انظر لحديثى هنا ، فهل هناك ما يدل لى عدم احترام للاستاذ نقد؟)
    Quote: واخيرا انقل اليه اعجابى بقدرته العالية على التضحية والالتزام

    ولكن رغم ذلك يقول كاتب المقال جزاه الله عنا كل خير:
    Quote: ولا تثريب في كل ذلك لو كان الناصحون براء من الغرض المسبق. فلو كانوا كذلك لحملنا قولهم على حسن النية وخيانة التعبير. ولكن الناصحين كانوا في حزب نقد سنين عددا. وخرجوا منه وعن الماركسية وكونوا تنظيم حق المعروف. وقالوا عن الماركسية إنها مما يستعذبها من هم دون الأربعين ولكن من تعلق بها وقد أربى على الأربعين (مثلي ومثل نقد وسليمان حامد كمان معانا) فقد ضل ضلالاً بعيدا


    اهمل تماما ما ذكرته حول اننى اعانق الخمسين فيما كتبته هنا:

    Quote: عفوا د. صدقى اقول ذلك مجرد احساس خارج السياسة واتفاقها واختلافها ، فالسنين تمر ويحدث تبادل الاجيال وتبقى الكلمة الطيبة والذكرى العطرة ، اكاد اعانق الخمسين واحس بفداحة السن ومعنى التقدّم فيه عضويا ووجدانيا، فما بالك بجيل ناس نقد.. ربنا يديهو الصحة وطول العمر


    Quote: ولا تثريب في كل ذلك. ولكن من القحاحة أن ينتهزوا زيارة نقد للندن ليجددوا نزاعهم معه بصورة شخصية ومباشرة


    (ثم عابوا عليه شيخوخته التي لم تعصمه عن "الكنكشة".)

    Quote: ما تورط فيه ناصحو نقد تعقب(stalking) مؤذ ويقع تحت طائلة القحاحة. وهو من جهة أخرى فرح بما هم فيه من عيش بالغرب أي تكسب بالغرب. وهي بعض حربائية الصفوة السودانية اليسارية. فهم خلو من ملكة نقد المواطن التي يحلون بها في الغربة. فكل مكان ينبت العز طيب. فقد عاشوا في المجتمع الاشتراكي السابق في هناءة ودعة لم يهتز لهم قرن استشعار بينما ذلك المجتمع ينخر فيه الدود حتى تطربق عليهم وهم لا يشعرون. ثم انتقلوا غرباً. وكل مكان ينبت العز طيب. ولم يتركوا عاداتهم في الحربائية يدبجون الأماديح في الغرب الحر: معبد عبادتهم السياسية الجديدة. وهذه طائفية محضة.


    لم ارى الدول الاشتراكية فى حياتى ولا اعتقد ان زميلى الاخر الذى تعرّض للنقد كان قد عاش فى دولة اشتراكية!!!


    Quote: وسنعود إلى حديث وجوب تنمية حس بنقد الغرب ومنهج له حتى يسلم اليسار من هذا الحشو والتسميع.


    واخيرا يتهمنا الكاتب بأننا ناس (حشو وتسميع) فاين التعالى واين عدم اللياقة؟
    هناك سؤال هام وهو لماذا يحاول الكاتب تصوير من يقومون بنقد الفكر الشمولى ويهتمون بالاصلاح الديمقراطى انهم اصحاب غرض دون تقديم دليل واحد مقنعK ولا يهتم بنقد الرسالة نفسها؟
    لماذا محاولات شخصنة الصراع؟

    اما الفاظ مثل (الحربائية) (والقحاحة) ومثلها من تعابير غير محترمة فى مخاطبة الاخرين فاتجاوز عنها
    ليبقى ما ينفع الناس

    (عدل بواسطة طلعت الطيب on 05-17-2008, 09:16 PM)

                  

05-17-2008, 11:42 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: طلعت الطيب)

    شكرا طلعت
    ساعود انشاء الله
                  

05-18-2008, 05:10 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    شغل" الكبار".

    الأخ محمد سيدأحمد
    تسألني لماذا سكت قلمي عن مؤاخذة عبد الله علي ابراهيم على ما اعتبرته في مقام التواطوء السياسي مع نظام الإنقاذ و على هجومه على قرنق و على محمود محمد طه بينما أنا آخذ على محمد المكي ابراهيم إنكاره لشعر شبابه؟
    قبل مباشرة الإجابة تلزمنا وقفة عند الإضمار الماثل في ثنايا العبارة: " مواقف كبارنا".فضمير الجماعة يغطي مجمل أعلام حركة الحداثة في السودان بدون فرز.أعني بدون فرز بين المبدعين( في حزب الفن) و الناشطين السياسيين ـ ولا يغيب على فطنتك أن حكاية " حزب الفن " دي دايرة ليها جكـّة براها فاصبر علي ـ.
    أقول : أن عبارتك " كبارنا" تبيّت إضمارا لا يفرز بين كبار مبدعينا و كبار ساستنا.و ربما أمكن تفسير غياب الفرز بتداخل الحدود بين الممارسة الإبداعية و الممارسة السياسية عند عدد من مبدعينا الذين يتعاطون السياسة و عدد من سياسيينا الذين عرّجوا على أرض الإبداع في لحظة من لحظات مسارهم السياسي ، ناهيك عن ميل المؤسسة السياسية الطبيعي للإنتفاع بالثقل الإعلامي للمبدعين حين تتبدّى فرص تكريسهم ـ بشكل أو بآخر ـ كأيقونات سياسية في مقام" شاعر الشعب" أو " فنان الأمة " أو " صوت الجماهير" إلخ.
    و اللبس بين" حزب الفن" و حزب السياسة باب كبير في كتاب التاريخ السياسي الحديث ، ربما لأن هذا التاريخ الذي تأسس ضمن ملابسات النضال ضد المستعمر، إنما انكتب في السودان بأقلام أشخاص كانوا يمارسون السياسة كنوع أدبي( رومانتيكي) مثلما كانوا يمارسون الخلق الأدبي كنوع سياسي ( طوباوي )فقبل" القيود" التي " اشتعلت جدلة عرس في الأيادي " كتب إدريس جمّاع في ديوان " لحظات باقية" عن طغيان الحاكم العام البريطاني الذي مسخ البلاد سجنا كبيرا للوطنيين:
    "
    طغى فأعدّ للأحرار سجنا و صيّر أرضنا سجنا مشاعا
    هما سجنان يتفقان معنى و يختلفان ضيقا و اتـّساعا ".

    إلى آخر كلام الشعراء لو كان لكلامات الشعراء آخر.
    ولو جاز لي القول بأن حركة العمل العام السياسي قد استفادت كثيرا من طاقة المبدعين الأدباء و حماسهم الوطني ، فمن الصعب الإقرار بالعكس.
    بل أن عادات الخلق الأدبي المنخرط طوعا في ضرورات العمل العام السياسي قد ساهمت ـ بطريقة أو بأخرى ـ في إفقار الممارسة الأدبية و حجبها عن التوغل في دروب المغامرة الوجودية للكاتب كذات ناطقة عن فرادة النفس المبدعة.
    ترى هل يصلح هذا الكلام كتفسير لكون أدباء السودان ظلوا ـ لأجيال ـ يحتفون بصيغة الـ " نحن" و يتجاهلون صيغة الـ " أنا" ؟
    هل يصلح هذا كتفسير لكون كتاب السودان ظلوا ـ لأجيال ـ ينطقون عن جسد الـ " أمة " الخيالي أدبا يحجب جسد " الزول" الفرد و يغمطه و يزدري به، بل و ينفيه من ملكوت الواقع الحي الحيوان؟
    و هل يمكن القول بأن كل هذا الإحتفاء المفرط بصورة الـ " نحن" المجيدة ما هو إلا مكيدة بائسة من طرف أولاد المسلمين للهرب من مواجهة شقاء صورة الـ "أنا" المقهور المسحوق المدمّم؟
    و هل يمكن تفسير حظوة كاتب كالطيب صالح بدون التأنـّي عند حساسيته الأدبية عند تقاطع نص الجسد و جسد النص؟ و بدون الإشاره إلى خروجه من مقام جسد نص الجماعة،الذي هو مقام نص جسد الجماعة الحضرية العربسلامية المتصلب المعسّم الذي" لا تملك الخمر لبه و لا يثقب سمعيه اليراع المثقّب"؟(البارودي)
    مندري؟
    لكن لو عدنا للتعارض بين حزب الفن و حزب السياسة ضمن المشهد السوداني للمسنا بسهولة أن أهل السياسة إنما يلجأون لأرض الفن حين تضيق بهم أرض السياسة أو حين تنبهم أمامهم دروبها. و الأمثلة كثيرة. فأكثرنا لم ينس لحظات القهر البوليسي الحالكة بين 1972و 1973 التي كابدها الديموقراطيون المتعاطفون مع الشيوعيين السودانيين.في تلك اللحظات انكمش كل حضور الأدب السياسي الواسع للحزب الشيوعي السوداني المستشري في المشهد العام منذ " ثورة اكتوبر 64، انكمش لبضعة وريقات تحوي كلمات محجوب شريف،كلمات شاعرات وقفن سدّا باسلا ضد طوفان البروباغاندا الإنتقامية التي غمرت الإعلام الرسمي و طالت بعض أعلام الأدب و الفن الغنائي و المشهدي و محقت كرامتهم و سحقتها سحقا في بعض الحالات. كان الناس يتناسخون كلمات محجوب شريف العنيدة تلك بحدب و يمرّرونها خلسة، من يد ليد، كمثل شمعة ممنوعة بأسها الرمزي مجدول من بساطة شكلها الشعري و من هشاشة وسيطها المادي، مرة منسوخة بالكربون و مرات منسوخة، بتضامن أكثر من يد، على ورق الدفاتر المدرسية الرخيص. و في منتصف السبعينات تبنّى الحزب الشيوعي استراتيجية إستغلال أشكال العمل العام المشروع لتنظيم المقاومة السياسية ضد نظام النميري. في ذلك الزمان لعب المبدعون الديموقراطيون المتحركون في مجالات الفن الغنائي و الفن التشكيلي و الأدب و المسرح دورا كبيرا في صيانة " جبهة" الإبداع بعيدا عن متناول أجهزة البروباغاندا المايوية.و قد جاءت وثيقة الحزب " نحو حساسية شيوعية تجاه الإبداع و المبدعين"، و التي صاغها قلم عبد الله علي ابراهيم( قومسير الحزب السياسي المتفرغ لـ " جبهة الأبداع")، جاءت تحمل تعريف الحزب الشيوعي للعلاقة مع المبدعين و لدور "جبهة الإبداع" ضمن مشهد العمل العام السياسي الذي يهيمن عليه
    " كساد الردّة".و قد توصّلت ورقة " نحو حساسية.." (في أبريل 1976)،و
    " بإطمئنان"، إلى الإقرار بأن " جبهة الأدب و الفن إجمالا ، تتخطى حاليا الإنعكاس الخصوصي للردة وسطها. فهي تبطل سياسيا مشروع الردة الديماغوغي الذي افترض، و ما يزال ،تطور هذه الجبهة في غير شروط الحرية..".و في الوثيقة توجيه للشيوعيين بمظاءرة المبدعين و دعمهم في وجه السلطة السياسية، بناءا على قولة ماركس: " الشعراء بحاجة إلى فيض إعزاز". و قد قرأت للصديق الفنان صلاح حسن عبد الله في موقع " سودان أرتيستس غاليري" أن الحزب الشيوعي أصدر جزءا ثانيا من و ثيقة " نحو حساسية" و أن الصديق الفنان أحمد البشير الماحي ساهم في إعداد جزء ثالث من نفس الوثيقة في الفترة التي غادر فيها عبد الله الحزب الشيوعي في نهاية السبعينات.

    و" إعزاز" المبدعين في منظور الحزب الشيوعي إنما ينبني ـ من جهة أولى (جهة لينينية) ـ على مبدأ العناية بـهذه الـ " جبهة" ذات المردود السياسي النوعي الثمين في بلد كالسودان، قدرة مبدعيه على بناء علاقة ثقة مع الناس تفوق بمراحل قدرة سياسييه. و من الجهة الثانية، فعناية الشيوعيين بالمبدعين و إعزازهم إنما تقوم على بداهة القربى العضوية لقوم تمخض عنهم رحم واحد هو رحم حركة اليسار في السودان.ذلك ان معظم الكتاب و الفنانين في حركة الثقافة الحديثة إنما شبّوا (و شابوا) في ظل الخطاب الطوباوي اليساري الذي استنبته الشيوعيون السودانيون و صانوا لبُعده المحلي جسورا و أنفاقا متنوعة مع حركات التحرر العالمية ،و هو حال تشهد عنه "حفريات" الذاكرة الديموقراطية في تجربة الشعب الذي ما زال يطرب لـ " تحية آسيا و أفريقيا"( و إن تملص عنها شاعرها و مغنيها كما روى الفاضل الهاشمي).
    إعزاز المبدعين ما هو إلا واحد من دروس العمل السياسي الحديث التي بذلها الشيوعيون السودانيون لحلفائهم، مثلما بذلوها لخصومهم، في المؤسسات السياسية السودانية.ورغم أن نظام النميري كان هو أول من ثبّت " إعزاز" المبدعين في أداء مؤسسات الدولة إلا أن نظام النميري لم ير في إعزاز الدولة للمبدعين أكثر من بُعد المكيدة السياسية ذات العائد السياسي السريع ، كون الدولة البوليسية تنتفع بالتكريم الدوري للمبدعين ، من جهة أولى، في ترميم التردّي اللاحق بصورتها كدولة ديكتاتورية عسكرية دموية، مثلما تنتفع بع، من جهة ثانية، في رشوة رموز الحركة الإبداعية بالأوسمة و الأنواط و العطايا و المناصب التي يجود بها رئيس الدولة بشكل دوري.ولم يغب على المبدعين السودانيين في عهد النميري أن النظام الذي كان يوسّمهم بأوسمته المدمّمة إنما يفعل ذلك لإختلاس شيئ من رصيد الإعزاز العفوي الطبيعي الذي يتمتعون به وسط السودانيين، مثلما لا يغيب علي المبدعين الذين تداهنهم مؤسسات نظام الإنقاذ الراهنة في هذه الأيام غاية الإستخدام الأداتي لرصيد شعبيتهم بين الجماهير.
    و سلطات نظام الإنقاذ ـ في نهاية تحليل ماـ لم تفعل أكثر من مواصلة تقليد مداهنة المبدعين الذي استنته سلطات نظام النميري.
    لكن " إعزاز " المبدعين لم يعد شأنا يخص المتربعين على سدة السلطة وحدهم، فالمعارضون في ساحة السياسة السودانية انتبهوا لضرورة مقاربة المبدعين و مخاطبتهم في الشأن الأبداعي كشأن إجتماعي ذي عواقب سياسية.و ليس من مثال أنصع من مثال الصادق المهدي الذي تجشم مشقة إجتراح " مشروع قومي للفن التشكيلي" في المنتدى الذي نظمته مؤسسة أروقة للثقافة و الفنون بالتعاون مع الإتحاد العام للتشكيليين السودانيين و جمعية التشكيليين السودانيين و المجلس القومي للثقافة و الفنون في 5 مارس عام 2003.و أنتباه مؤسسة سياسية تقليدية كحزب الأمة لحضور المبدعين في نسيج العمل العام السياسي يعبر عن نقلة نوعية جبارة في أسلوب عمل هذا الحزب الذي قيل أنه أشاح بوجهه متوجسا من طلب العضوية الذي قدمه محمد عبد الحي.تلك الواقعة ـ لو صحّت ـ فهي بلا شك حسرة مؤلمة لمحمد عبد الحي (افتحوا حراس سنار أبواب المدينة)، لكنها في منظور حزب الأمة
    " طبزة" سياسية كبرى.
    و في الورقة التي قدمها، يخاطب الصادق المهدي التشكيليين السودانيين" في موضوع مشروع قومي للفن التشكيلي في ظل مشروع ثقافي قومي للسودان" و يقول:
    "منذ حين تعاظم في ذهني ان نجاة السودان من التردّي رهينة بمولد ثان مبرّأ من عيوب المولد الأول. و في كتابي ".."[ الصادق المهدي، السودان و حقوق الإنسان، دار الأمين ـ القاهرة 99ـ ـ ترجمة عبد الرحمن الغالي"] تناولت شروط المولد الثاني في كافة المجالات.ههنا سوف أتناول الجانب الثقافي عموما و أركز على الفني منه.خطابي هذا المساء يقع في ثلاثة أقسام:
    القسم الأول : متعلق بمشروع قومي ثقافي.
    القسم الثاني:يتناول الشبهات حول الدين و الفن.
    القسم الثالث: يرسم الطريق نحو مشروع قومي للفن التشكيلي في ظل المشروع القومي الثقافي"( أنظر"جهنم" رقم 23 ـ أبريل 2004).
    و تفاكير الصادق المهدي تملك ان تتجاوز منطقة إعلان النوايا الطيبة و شبهة مداهنة المبدعين المهتمين بالتشكيل لو استطاع حزب الأمة ان يوفر لها الكوادر المبدعة التي تتولى تجذيرها في تربة الحوار الفكري الدائر بين السودانيين حول دور الإبداع في دفع أسئلة الديموقراطية و التنمية الإجتماعية في السودان.السؤال الذي لا يملك أحد الإجابة عليه حاليا،ـ و هو سؤال يتجاوز أهل حزب الأمة ليشمل كل القائمين على المنظمات السياسية السودانية ،هو: ما مصلحة السياسي الحالي في صيانة محل حقيقي للمبدع داخل الآلة السياسية السودانية ؟و لو شئت قل: ما مصلحة المبدع السوداني في مرافقة السياسي الذي لا يوليه اعتبارا إلا حين تستفحل الأزمة و تنبهم دروب السياسة فيصير في مكان حرج من الوزّة و يتوكّل و " يفتح خشم البقرة".أي و لله "خشم البقرة" فتحه نفر من أعلام السياسة السودانية و وجدوا فيه أبيات محمد عبدالحي الشهيرة في هويولوجيا التمازج و استغنوا بها عن قراءة بقية أثر الشاعر و تناسوا ان عبد الحي شاعر(" و الشعراء قليل") خارج حدود الفضاء السياسي لـ :" العودة إلى سنار"


    و قد جرّتني ملابسات المناقشة التي ثارت حول دعوة نظام الإنقاذ لعدد من أعلام الإبداع السوداني لفعاليات " الخرطوم عاصمة الثقافة العربية"، إلى الخوض في موضوع الفرق بين المبدع و السياسي ضمن مشهد العمل العام الذي يجمعهما.فقد أثارت تلبية الطيب صالح وابراهيم الصلحي ( و آخرين) لدعوة " هؤلاء الناس" حفائظ نفر واسع من مثقفي السودان المعارضين لنظام الإنقاذ، فاستهجنوا و استعاذوا و فيهم من عيّر الطيب صالح بالخيانة عديل. و في هذا السياق كتب عادل عبد العاطي، الناشط الشيوعي السابق ،متخذا هيئة من يدافع عن الطيب صالح ، بينما هو يصفي حساباته القديمة مع رفاق الأمس،كتب بأن الطيب صالح ليس وحده يحمل عار التواطوء مع " هؤلاء الناس"، لأن شخصية قيادية يسارية في وزن سكرتير الحزب الشيوعي قد انخرطت في زفة " الخرطوم عاصمة الثقافة العربية".و قد جاء عنوان بوست عبد العاطي في منابر الأسافير الآتي:
    :" ما رأي من جرّموا الطيب صالح؟ نُقُد في فعاليات عاصمة الثقافة".
    و قد علقت حينها على اللبس الماثل في عنوان عبد العاطي الذي يضع المبدع و السياسي في سلة واحدة.
    "و قد أدهشني وضع عادل عبد العاطي لكل من الطيب صالح و نقد في موضع المقارنة.و ذلك رغم أن عادل بخبرته السياسية و الادبية يعرف الفرق الكبير بين طبيعتي دوريهما.فالطيب صالح مبدع ينطق عن فرادة نفسه و أصالتها الوجودية، بينما نقد كادر سياسي ينطق عن ارادة المنظمة السياسية التي فوّضته. و لو مات نقد غدا فان منظمته السياسية ستفوض غيره ليواصل الحديث باسمها،اما لو مات الطيب صالح غدا فلن يكون هناك في الوجود من يمكن أن يواصل الحديث باسمه.و فرادة الطيب صالح حظوة ما بعدها حظوة كونها تخلّقت على قاعدة المصداقية الابداعية المجانية التي لا تأبه بالكسب المادي الشخصي (و التي لا يأبه بها أهل السياسة). و هذه الصفة تكسب سلوك المبدع ثقلا خاصا يميزه عن السياسيين من كل المشارب. و في هذا المنظور تتأسّس شرعية المبدعين كـ" أقلية ساحقة" في مواجهة السلطات السياسية و غير السياسية. وفي تحليل نهائي ما، يبدو لي أن الفرق بين الطيب صالح و نقد لا يغيب على فطنة عادل عبد العاطي ، و أغلب الظن أن الاخ عادل عبد العاطي قد سعى لاستخدام الطيب صالح لنيل بعض الكسب السياسي بالطعن في المصداقية الاخلاقية و السياسية لخصومه السياسيين في أرض اليسار السوداني الذي يمثله نقد. و الطيب صالح في هذا المشهد ليس سوى" شاشة" يسقط عليها خصوم السياسة السودانية حزازاتهم و تظلّماتهم أمام الجمهور الحاضر في الصالة بذريعة الطيب صالح.أو قل أن الطيب صالح يصبح رهينة يتخاطفها الخصوم السياسيون و يبتزّون باسمها عواطف الجمهور الاعزل من النقد ، كونهم استشعروا أن الجمهور قمين باتباع المدافعين عن رموزه الابداعية العزيزة كلما شعر بأن هناك خطرا يتهددهم .."(أنظر " دليل الفالح في استخدامات الطيب صالح"، سودانفورأول دوت أورغ).


    شغل الــمُـصانـِِع:
    محمد سيدأحمد،
    لنقفل، مؤقتا، قوس الأستطرادات في عواقب ضمير الجماعة الماثل في عبارتك " كبارنا"، و لنرجع لبقية الكلام في الفرق بين عبد الله علي ابراهيم و محمد المكي ابراهيم.
    لو رغبت في إجابة بسيطة لقلت لك أن الفرق بين عبد الله علي ابراهيم و محمد المكي ابراهيم هو أن عبد الله لم يكتب " امتي"(وقد"لا ينبغي له").و هذه ـ في نظري الضعيف ـ إشادة عالية بقدر" شاعرنا"ـ و لو شئت قل هي :" فيض إعزاز" عديل ـ و ذلك دون ان تكون إقلالا من شأن عبدالله السياسي.
    ذلك أن الشاعر ساحر يخلّق المعاني تخليقا من فرادة روحه و من قلقها الوجودي قبل أن يجود بها ـ و" الجود قطعا في الجلود" ـ للفقراء والغاوين و أبناء السبيل، أبناء الشعب، فتسكّن الأفئدة الملتاعة و أيهان.
    ذلك أن الشاعرـ " ذلك المحسن حيّاه الغمام" ـ يبرّنا بحياته حين يفتح صدره ليطعمنا من لحمه ويسقينا من دمه حتى تكون لنا( و لهُ) " حياة أبدية".
    ذلك أن الشاعر خارج معارض لكل الأنظمة السياسية و غير السياسية مثلما هو أيضا صنايعي مخترع خامته لغة موجودة بين اللغة المتاحة وتلك الكامنة في رحم المجهول ، لغة يعرف كيف يَئـِر لنارها في لحم الخاطر حتى يكون الدفء في القلوب اليتيمة فنحيا و نهزم الفقر بأي وسيلة و.. أيهات.
    محمد سيد أحمد،
    لو قبلت إجابة بسيطة فقل أن محمد المكي ابراهيم ( بتاع "أمتي") شاعر ـ " و الشعراء قليل" في نظر مولانا الأمين علي مدني ـ بينما عبد الله علي ابراهيم سياسي يتمتع بـ "حساسية شيوعية " تجاه الممارسة الشعرية. عبد الله ناشط سياسي "مساوم" و" مُصانِع"( و لو شئت ضف " مشاكس") من طينة الرجال البراغماتيين كبابكر بدري أو الشيخ أبوالقاسم أحمد هاشم أو " فيدل كاسترو" بينما محمد المكي ابراهيم شاعر من نسل الأمين علي مدني و" أرتور رامبو" و " شي غيفارا" و غيرهم من المجانين الذين لا يخافون الله و لا خليفة المهدي زاتو.و الشاعر بعشوم " مابوالف كان صغير ربّوه" كما تعبّر حكمة الأهالي.فماذا يا ترى أصاب "شاعرنا" شاعر" أمتي"(أمتنا؟) حتى استكان و نام هذه النومة الطويلة في دهاليز الشعر الدبلوماسي قبل أن يوقظه مرض بولا ،العملاق السوداني، و يذكّره بقيمة شعر " أمتي"؟..( أنا جاييك يا شقليني لحكاية الشعر الدبلوماسي بتاع ناس أدونيس و وزير الداخلية "الشيراكي" دومينيك دوفيلبان )
    المهم يازول
    محمد المكي ابراهيم (بتاع "أمتي" و أشياءا شيقة أخرى) شاعر " بلا قيد و لا شرط".و الشاعر " بلا قيد( و بلا أجندة خارج اجندة الكتابة الإبداعية) رجل مشاتر و " مجنون" ( جن الأمين علي مدني )، وشتارته غير مأمونة العواقب كونه ينساق وراء اللعب بالكلمات و لا يبالي بما قد يصيب أهل التشاشات في سوق النزاع السياسي.طبعا المشكلة مع الشاعر المجنون هي أنه لا يجد من يصدقه لو عن له أن يترك جنونه و يتلبس لبوس الرصانة. و الرصانة في الشاعر أشنع من السرج على الكلب.و يبدو ان جنون الشاعر هداه ـ في لحظة جذب ـ إلى الخوض في ماء الرصانة الذي يحيط بـ : "الفكر السوداني" فأوقعه ذلك في شر أعماله. بينما عبد الله علي ابراهيم، الذي أنفق عقدا من عمره" تحت الأرض"، متفرغا للعمل العام داخل المؤسسة الحزبية اللينينية، رجل سياسي لا يعرف اللعب إلى قلبه سبيلا. عبد الله سياسي يتوسل للعمل العام بوسيلة الباحث الأكاديمي و بحساسية الناشط اللينيني الذي يعجم أدواتهو يعرّف اولوياته و ينبري لا يلوي على غيرها.و عبدالله يقيم بيننا ضمن قلة من السياسيين السودانيين المتمكنين من وسيلة اللغة و العارفين بفنون القول .و هو لا يني ينقـّب ويقلّب صفحات المتاع الشعري صفحة صفحة و يفاوض الكلم كلمة كلمة بسبيل الوقوع على:
    "إفتح يا سمسم"...
    تلك الكلمة السحرية التي تسحر الجمهور و تفتح مغاليق الواقع السوداني.
    و في مساره الطويل خبر الرجل أكثر من كلمة سحرية ابتداءا من " يا عمال العالم و شعوبه المضطهدة اتحدوا" لـ " الصراع (الطبقي) بين المهدي و العلماء" ،مرورا بصيانة الهويولوجيا العربسلاميةفي مواجهة (أو في مقارنة مع) الهويولوجيا الأفريقانية، لغاية رد الإعتبار للميراث الحقوقي للقضاء الشرعي.و من الضروري التنويه إلى أن مسار عبد الله ـ و تقافزه ـ بين كلماته السحريات ارتهن دوما بالسعي الجاد لفهم و تحليل ملابسات الواقع السياسي السوداني من موقع المراقب و الباحث الميداني.و هذه ميزة لا تتوفر في الكثيرين من أهل الأدب السياسي في السودان.و لا عجب فعبد الله يرتاد أرض العمل العام السياسي دون أن ينسى أدوات الباحث الميداني مثلما هو يركّب نصوصه السياسية دون ان يهمل هم التعبير الأدبي "والتعبير نصف التجارة"كما جاء في الأثر .


    محمد سيدأحمد،
    لو قبلت بتعريفي لعبد الله كسياسي فذلك يجعلنا نحاكمه محاكمة السياسيين.
    و في هذا الأفق فـ " هجوم " عبد الله على قرنق أو على محمود محمد طه إنما ينطرح كحديث سياسي يخاطب خصومه السياسيين.و في هذا المشهد
    " السياسي" فأنت مطالب بتفصيل قولك لأبعد من مجرد تلك العبارة العجولة التي أطلقتها في حق عبد الله لمجرد أنه حضر مؤتمر الإنقاذ الأول أو كتب يدافع عن هوية العربسلاميين أو أيّد عمر البشير أو هاجم جون قرنق.و لعبد الله ـ و لغيره ـ الحق في تناول قولك بالنقد أو بالتأييد و كل حشاش يملا شبكتو.و في نهاية تحليلي أشك في أن عبدالله يحتاج لدفاع أو لتبرير يمكن أن يصدر من جهة غيره. فالرجل موجود في ساحة المناقشة السياسية كل يوم و هو يدافع عن اطروحاته بكفاءة يحسد عليها.و أنا شخصيا اتفق مع عبد الله في بعض تفاكيره و أختلف معه في بعضها الآخر. لكن شرح خلافي مع تفاكير عبدالله ـ السياسية (و الجمالية)، ومع تفاكير آخرين غيره، ليس في قائمة أولوياتي الراهنة.و لو كنت أنت يا صديقي مستعجلا على تصفية حساب عبدالله علي ابراهيم فدونك الرجل و نصوصه مبذولة لكل من يرغب في التصدي لها. و سننتفع جميعنا بكل نقد " بنـّام "(و هو النقد البنـّاء الهدّام) يطال تفاكير عبدالله المركبة، سيّما و أننا نقرا كل يوم في كلامات الحانقين على عبدالله من مختلف المشارب (و المآكل) نصوصا لا علاقة لها بالنقد ،ناهيك عن نصوص " أولاد العرب" الخارم بارم التي لا علاقة لها بـ"كلام العرب" و لا "كلام الطير" و لا حتى بأي كلام.


    قلت ان عبد الله سياسي، وبحكمة السياسي الواعي بقدر نفسه و العارف بسعة ماعونه توصّل لموقف المصانع المساوم كخيار سياسي، و هو موقف غير مريح فداحته ووعورته تملك أن تثني أشجع أبطال المسرح السياسي السوداني، إلا أن عبد الله الذي لا ينشد الراحة زاهد في منصب "أشجع أبطال المسرح السياسي"، و لو شئت الدقة لقلت بانه الأشجع بين ذلك النفر الذي يعرّف في التقليد المسرحيي بعبارة "ضد البطل"( "آنتي هيرو")
    Anti hero

    على صورة الشيخ أبو القاسم أحمد هاشم، مؤسس معهد أمدرمان العلمي، الذي وقع عبد الله في سحر شخصيته الوطنية المغايرة و انتفع به ، كـ " ضد البطل" ، في التأسيس لمفهوم " نقد الذهن المعارض" ضد الصورة الأيقونية البسيطة للبطل الوطني التي لا تستغني عن صورة " الخائن الوطني".و إختصار التاريخ لمجرد " إذاعة ذكر الأبطال و تحقير الخونة" هو ، عند عبدالله زوغان عن " الشوف الشامل" في الظاهرة التاريخية.و " ادراك " الشوف الشامل"( و الحقوق محفوظة للشاعرة عائشة بت الملازمي) لا يكون بغير " ذكرى المصانعين" من نوع" ضد البطل" " ممن لن تكتمل معرفتنا بالأبطال بغيرهم، فضلا عن عدم جواز التاريخ ـ كعلم ـ إلا بهم" ( جريدة الصحافة 5 ـ 4 ـ 1980 أنظر " عبير الأمكنة " دار النسق 1988)


    .و أظن ان جذور موقف المصانعة عند عبد الله تعود لسنوات ما بعد أحداث يوليو الدامية التي تكشف للرجل فيها أن الحزب القوي المتجذر في تربة المجتمع السوداني، الحزب الذي صنع " ثورة أكتوبر" والذي كان الإعلام الغربي و العربي يوصّفه بصفة " أقوى حزب شيوعي في المنطقة" قد انمسخ بين يوم و ليلة دامية لحفنة من الناشطين المعزولين المطاردين المضطرين للحياة تحت الأرض.
    و لوكان لعبد الله أن يبقى في حصن المؤسسة الحزبية لبقي آمنا و لما كلفه ذلك جهدا.فهو كان يحتل منها موقع حظوة كمشرف على جبهة الثقافة في الزمن العصيب. و أغلب الظن انه كان سينمسخ إلى نوع من أيقونة لينينية للبطولة أو نوع من شيخ ثوري حكيم يحفظ تجارب الحزب و يوزّع النصائح للشباب الناهض مقابل آيات التبجيل و الرضاء العام و هو مرتاح في صدفة المؤسسة الحزبية.فالحزب درع عالي الكفاءة يحمي أهله كما الحصن الحصين.لكن عبد الله فضّل المخاطرة و المشاجرة مع خلق الله في العراء.و مرق للتلاف يناكف خصومه و يثير حفائظهم بأدواته النقدية الفتاكة و لا يوفـّر حتى حلفاء الآيديولوجيا و المتعاطفين معه من تقدميي الطبقة الوسطى " الهاربين " في الغابة من عسف الصحراء، فيتحرّش بهم،و يهجوهم هجاء غرائب الإبل و يزعزع طمأنينة الأعيان و الوجهاء بين عشائر التقدم، فكأنه يبذل الجهد الجهيد ليبقى مخلصا لموقف " شِقِتـّت" الشقي الذي " كان يمسح رجله بالزيت و يعرض للناس في "درب الترك" فإذا اتسخت بالغبار جعل ليلهم أظلم من سجم الدواك".(من "الإهداء" الذي صدّر به عبدالله كتابه الأول" الصراع بين المهدي و العلماء")


    اختار عبد الله " الشقي"، " حنك البليد البوم"، المخاطرة و المشاجرة في منطقة" المصانعة"و "المساومة" الحرجة و ظهره مكشوف للمؤججين من هواة الضربات السهلة بين رفاق الأمس الذين صاروا يصمونه بوصمة الخيانة و الإرتزاق و يكفنون في ثوبه "ميته" معارضتهم الطقوسية و هم في مأمن داخل حصن الرضاء الغوغائي العام.لكن "الفولة ابتمّلي و الفلاتة بجوا"،و ترجمتها في لغة " أولاد أمدرمان": الحساب ولد.
    أقول أن انخراط عبد الله في خيار المصانعة و المساومة قديم و سابق بسنين لمساومته و مصانعته مع نظام الإنقاذ.. فالمصانعة في الأصل موقف دفاعي.بل هي ـ في تجربة الحزب الشيوعي السوداني مكيدة استراتيجية أصيلة ، بدونها ما كان لهذا لحزب " الطليعي"(إقرأ : الصفوي) الصغير عدديا أن يبقى و يقيم على كل هذا البأس الرمزي الذي يتمتع به، " حدّادي مدّادي"، وسط قطاعات واسعة من السودانيين المتعاطفين مع أطروحاته دون ان يجرهم التعاطف للإنخراط في الحزب كعضوية منظمة. و ضمن استراتيجية الدفاع تمكن الشيوعيون السودانيون في أكثر من مناسبة ،من استثمار قوة خصومهم المهاجمين و تحريف إتجاهها و تملكها كوسيلة في رد الأذى السياسي عن جسم الحزب المعنوي و المادي.
    و في هذا يحفل ادب الحزب بلقيّات مقدّرات مثل رد فعل الشيوعيين السودانيين على الهجمة المركّبة التي كابدها الحزب، من داخله و من خارجه في نفس الوقت ، في منتصف الستينات، و القوم مازالوا سادرين في إجترار مجد الحزب بعد ثورة أكتوبر 1964.فقد فوجئ الشيوعيون السودانيون بحل الحزب الشيوعي المصري عام 1965 تحت تأثير الصعود الثوري للناصرية ضمن ملابسات الحرب الباردة.و قد ارتفعت أصوات تقدمية تتساءل عن ضرورة حزب طليعي ماركسي لينيني في مجتمع كمجتمع السودان.و برزت في تلك الظروف " الدعوة الى تكوين حزب اشتراكي و حل الحزب الشيوعي و دمجه في ذلك الحزب الذي ما زال في طور التكوين، و إنشاء تنظيم في داخله يسمى " القلب الثوري"(أنظر محمد سعيد القدال، معالم في تاريخ الحزب الشيوعي السوداني، دار الفارابي 1999، ص 173)و في نفس الوقت تم استهداف وجود الحزب من خارجه فيما عرف ب" حديث الإفك في معهد المعلمين" ، حين وقف طالب، أعلن انه ماركسي ، في ندوة نظمتها جبهة الميثاق الإسلامي حول موضوع البغاء،" و قال إن الزنا كان يمارس في بيت الرسول".."و فجر الحديث مشاعر غاضبة وسط جمهور الطلبة " .." كما اصدرت رابطة الطلبة الشيوعيين بيانا وضحت فيه ان الطالب ليس عضوا في الحزب الشيوعي".."و يبدو أن الأحزاب السياسية قررت استغلال الحادثة لتصفية حساباتها مع الحزب الشيوعي" (القدال، 153)
    و قد تميز رد فعل الشيوعيين على حادثة طالب معهد المعلمين(نوفمبر 1965) الذي استغلته الأحزاب اليمينية لحل الحزب و منع نشاطه و للتخلص من نواب الحزب في البرلمان.تميز بذكاء سياسي كبير،فقد قام الشيوعيون بتنظيم دفاعهم على محورين ، محور قانوني و محور سياسي. فعلى المستوى القانوني " رفع الحزب الشيوعي ثلاث قضايا دستورية، الأولى ضد تعديل الدستور ،و الثانية ضد قرار الحل، و الثالثة ضد طرد النواب. و أدى رفع القضايا الدستورية إلى نقل الأزمة من إطار التهريج باسم الدين و وضعها في حجمها السياسي" (القدال 159). و على المستوى السياسي تمكن الشيوعيون من أستنفار شبكة واسعة من الشخصيات و المنظمات و الهيئات الحزبية و النقابية، ليس للدفاع عن الحزب الشيوعي، و إنما للدفاع عن الديموقراطية.فانتشرت مسيرات الإحتجاج في مدن الأقاليم " و بلغت المسيرة في العاصمة 60 ألفا"( القدال 159).و قد استفاد الماركسيون المتمسكون بمفهوم الحزب اللينيني الطليعي من زخم التضامن الشعبي حول الحزب للتخلص من دعاوى خصومهم الذين كانوا ينادون بحل الحزب و دمجه في الحزب الإشتراكي الجديد.
    محمد سيدأحمد
    كما ترى فشجون الحديث عن دروس الحكمة الدفاعية للشيوعيين السودانيين طويلة، لكني لست بصدد بحث تراث " غريزة البقاء" في مشهد حزب الشيوعيين السودانيين، و إنما جرني لهذا الإستطراد إهتمامي بتقصي أصل مسلك المصانعة و المساومة عند قيادي شيوعي من عيار عبد الله علي ابراهيم.و أظن ان المصانعة عند عبدالله هي المرحلة الأولى من المساومة، فالمصانع شخص محاصر و ظهره للحائط و أولويته كسب الوقت الضروري لطرح مادة المساومة، و المساومة عملية تعليمية غايتها تفهيم الخصم القوي بمصلحته في الإبقاء على الخصم الأضعف.و على أثر المساومة تتم المفاوضة و هكذا.
    و قد استرعى انتباهنا فترة الصمت الطويل نسبيا الذي التزم به عبد الله أثر خروجه من الحزب الشيوعي في نهاية السبعينات .أذكر انني عند وصولي لفرنسا بعدها بحوالي عام سألني بولا: " و عبد الله عامل كيف؟" في معنى: عبد الله رأيه شنو؟ فقلت له شيئا مثل: عبد الله عامل ميّت..أعني ميتا كما الثعلب الذي يتظاهر بالموت حين يحس بالحصار يضيق عليه في مسد ضيق.و أظنها فترة تشاغل عبد الله فيها بشاغل البحث الأكاديمي و تراجع السياسي ليفسح المجال للباحث في الثقافة الشعبية و وقائع الشأن الثقافي العام.و أظن أن عبد الله قد بدأ ينظّر لمفهوم المعارض المساوم مع مطلع الثمانينات حيث أتاحت له الملابسات مسافة حرية مريحةفي التفكير و في التعبير باستقلال عن رفاق المؤسسة الحزبية التي هجرها و مسافة عمل عام مواتية بالنسبة لأجهزة النظام السياسي المايوي التي لم ينخرط فيها.كانت تلك أيام الثعلب المتظاهر بالموت و و العدو من ورائه و العدو أمامه.و لا أعرف بعد إن كان عبد الله قد ساوم ثمن مسافة الحرية التي حصل عليها من رفاق الأمس و كم دفع مقابل النجاة من طوائل " معارضة التأجيج و الفضح السياسي" ، فعبد الله لا يسهب في الحديث عن ملابسات خروجه من الحزب.لكنه بالمقابل لا يتردد في شرح و تبرير موقف المعارض المساوم الذي داوم عليه في ثمانينات عهد النميري و واصله في تسعينات عهد الإنقاذ.و هو شرح و تبرير موضوعه " نقد الذهن المعارض" كما جاء في عنوان مقدمته لـ " عبير الأمكنة".( الصادر عن دار النسق، 1988)
    كتب عبد الله عن مساهمته بالكتابة في صحف نظام النميري في 1980 ، و هي النصوص التي جمعها في كتابه " عبير الأمكنة"،
    "كتبت هذه الكلمات مساوما.
    كتبتها في صحيفة هي لسان حال الحزب الفردي الحاكم.. الإتحاد الإشتراكي سيء السمعة. و كانت المعارضة الرسمية لنميري لا ترى بشكل عام صواب الكتابة في مثل هذه الصحيفة لإلتزامها الحرفي بسياسة النظام " رضينا أم أبينا". و في هذا الموقف صواب كثير و خطل كثير أيضا. فالتزام الصحيفة بسياسة النظام و حجرها على كل نقد له مما لا يحتاج إلى بيان.غير أن هناك مساحة للحركة ما تزال و لا ينبغي ان تلغى جزافا. و لنتذكر ان الحركة الثقافية، الرازحة مثل غيرها تحت ترسانة القوانين المعادية للحريات ـ واصلت في الصحف المؤممة تطوير أفضل تقاليدها و هو الصفحات و الملاحق الثقافية و الأدبية".."و بهذا فقد كتبت هذه الكلمات في الحيز الذي سمح به النظام. بالأحرى كتبت هذه الكلمات في الحيز الذي يفرضه، بإطلاق، صدور صحيفة ما حتى على نظام موسوس مثل نظام نميري.
    و كتبت هذه الكلمات معارضا في المعاني التي ذكرتها آنفا. و هي معارضة قد استهون خبرها المعارضون المعتمدون لنظام نميري. و خطرها عندي أخطر لأن ثمارها عي الثمار المؤكدة التي نحملها معنا كتقليد فكري بعد زوال الطغيان لنستعين به في إعادة بناء الوطن في مثل الذي نحاول الآن.و هو تقليد يقوم على تنمية الحس بالملاحظة ، و النفاذ إلى الدقائق بالكشف المحيط للظاهرة للوقوف على نطاح الجدل فيها. و هذا التقليد شرط أول في معرفتنا بقسمات الوطن و اعلان باكر محبتنا له. و من شأن هذا الأداء الفكري أن ينزل بمعارضتنا من خفوق الشعار إلى رؤوس التفاصيل الشائكة الملهمة، و أن ينقلها من التباكي إلى الفعل. و سيغيرنا ذلك تغييرا كبيرا حين يحررنا من قلة الحيلة المستعان عليها بشراسة التعبير إلى التعبير المزلزل، المغير فالمنجز. و حينها تكون الكتابة شفاء في الوطن لا تشفيا منه".


    و لو تفحّصنا مصانعة عبد الله فهي محيرة حين ننظر إليها من مشهد المصانع الكلاسيكي الذي يلجأ للمصانعة كمكيدة تيسر " الفايدة" و الكسب الشخصي السريع.فهي مصانعة بلا فائدة ، مصانعة " حاصل فارغ". ذلك ان عبد الله الذي يعتبره بعض خصومه من " عملاء" نظام الإنقاذ لم يقبض ثمنا يليق بـ " عميل" من عياره الثقيل النادر.فهو لم يتول أي من تلك المناصب، ذات الفائدة، التي يتقاتل من أجلها بعض التقدميين السابقين ( ناس خالد المبارك و الشوش و منو و منو) ممن انبطحوا تماما أمام نظام الإنقاذ.و حتى طلبه بتصديق لاصدار صحيفة لم ينجح في الحصول عليه من سلطات نظام الإنقاذ. فما معنى هذه المصانعة التي لا تعود على صاحبها بأي منفعة مادية؟
    و لو تفحّصنا مساومة عبد الله فهي ليست مساومة الناطق الرسمي باسم مؤسسة جمعية حزبية أو عرقية أو دينية، إنها مساومة فرد ناطق بالأصالة عن ذاته ، لا بغرض الحصول على منافع فردية و إنما للحصول على شروط افضل لممارسة تكاليف العمل العام.و هذا الواقع يمسخ عبد الله لمقام ذلك الرجل الواحد الشجاع الذي يصنع أغلبية("إيميرسون" كان ما نخاف الكضب).و عبد الله بيننا رجل أغلبية،أو هو على اسوأ الفروض: " أقلية ساحقة".
    لكن صبر عبد الله الطويل على شبهات المصانعة و على وحشة المساومة ، ضمن مشهد السياسة الدامي، يحيرني و لا أجد له تفسيرا مقنعا.لماذا يعرض عبد الله نفسه لمكاره موقف " ضد البطل" و البيزنيس البطولي السهل في متناول يده في أي لحظة شاء؟
    هل يمكن تلخيص أمر عبدالله بأن المسألة برمتها ليست سوى تعبير ملتو عن مكابدات شاعر " مجنون" مُحبَط ضل طريقه إلى أرض السياسة ؟و هل انمسخ شاغل الشعر عند عبدالله، الشاعر السرّي ، إلى نوع من إنشغال سياسي عصابي يصعّد الممارسة السياسية لمقام الهاجس الشعري؟ مندري؟، لكن فضاء العمل العام السياسي كان سيفقد الكثير لو كان عبد الله قد استغنى بصناعة الشعر عن صناعة السياسة. و" رزق المساكين عند (الشعراء)المجانين" كما تعبّر حكمة شعبية من تحريفي.

    شغلنا كلنا


    http://sudaneseonline.com/forum/viewtopic.php?t=2042&post...8ad71d4dd16a8098de08
                  

05-18-2008, 10:34 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)



    حول مفهوم "ضد البطل" أو "الانْتِي هِيرُو" وتمتنع قراءته بـ "اللابطل".
    عبد الماجد محمد عبدالماجد

    هذا المفهوم ضروري لفهم رؤية د. حسن موسى للدور الذي يلعبه د. عبدالله علي إبراهيم في مسرح الحدث السياسي السوداني ويفسر ما يتراءى للبعض من أن حسناً يغضّ الطرف عن عثراتٍ ما أو سقوط ما لعبدالله. والذي أراه أن د. حسن موسى قد رفع من شأن د. عبدالله على إبراهيم عالياّ. وتلك رفعة لا نعنى بإنكارها أو تأكيدها (في هذه المرحلة من النقاش) . فلربما استحق عبدالله ذلك الوصف وذلك التبجيل مما أهله لأن يكون كما يرى حسنُ رجلاّ من طراز فريد. هو (أقلية تصنع أغلبية)وإذا اعتبرنا علاقة التناص القوية بين ما اقتبس حسنً من إيمرسون وما ورد في سورة النحل نستطيع القول بأن عبدالله أصبح في مصاف إبراهيم إبي الأنبياء: أي كان أمّة.
    والسؤال الذي يطرح نفسه بشدة هو كيف يستقيم أن يوصف الآنتي هيرو بصفات هي بطولية في المقام الأول. أليس هو "من يناضل أصالةًًًَ عن نفسه وظهره على الحائط "؟ لا يكون مثل هذا - منطقيا – ضدّ بطل بل يلزم أن يكون هو البطل نفسه.
    ولأن مفهوم الآنتي هيرو هو مفهوم يرتبط بالنقد الأدبي للقصة والرواية فقد ينظر لاستخدام حسن موسى له نظرة انتقاد: بمعنى أنه نقل المصطلح لحقل العمل الكتابي عموما وسحبه على مؤلفين وليس على مؤلفات، غير أن ذلك يمكن تجاوزه باعتبار أن الحياة برمتها هي عبارة عن رواية أو أقصوصة يمكن أن نتعامل مع الأفراد فيها باعتبارهم شخوص رواية عملية عريضة. هذا النقل للمصطلح لا غبار عليه – من وجهة نظري – وفي الحقيقة فيه توسيع محمود للمصطلح (لأنه لم ينقله إلى حقل مختلف ولكن نقله لمسرح الحياة الواسع).
    ونعود للتساؤل عن كيفية اضفاء صفة الانتي هيرو (ضد البطل) لشخص وُصفَ أيجابيا مرّات عديدة بصفات لا يوصف بها إلا الأبطال، كما ذكرت. إن مفهوم الضد بطل ليس مطابقا لمفهوم اللابطل أو الشرير كما يبدو للقارئ العجل، ومن الخطأ الجسيم أن يفهم المصطلح بمعنى اللابطل. والفهم الصحيح للمصطلح لا بد أن ينظر فيه للصفات التي تميّز البطل عن ضده وهي تتلخص في قيم أخلاقية استعارها النقاد لدراسة للشخوص وتتلخص في قيم أساسية هي الشجاعة والنبل والمثابرة والتحلي بخلق رفيعة عند اختيار الوسائل ( شجاعة + مثل عليا). فإذا سعى شخص لإدراك الغايات النبيلة بوسائل غير نبيلة ستنتفي عنه صفة البطولة ولكن لن تنتفي عنه صفة ضد البطل لأن من خصائص ضد البطل (الآنتي هيرو) أن يقدم خدمات تساعد البطل في تحقيق أهدافه (يقنطر له الكرة ليُصوّب الأهداف). وهذا ما يقوم به رجالات الأمن وأعين الأنظمة ودهاقنة المكر. إنهم ليسوا بشجعان ولا بأخلاقيين ضرورةً ولكنهم نافعون. وهكذا يضع د. حسن موسى عبدالله على إبراهيم في خانة الذي يؤدي أعمالا سينتفع بها الأبطال الحقيقيون. ولكن من هم هؤلاء الذي يجهز . عبدالله علي إبراهيم لهم الكرات؟ مندري( وحقوق انتشال الاستفهام البلاغي من الدارجة محفوظة لحسن موسى) . ولكن عبدالله نفسه يقول عن نفسه أن من مشاريعه تصفية الإسلام السوداني من الشوائب وتخليصه من المعوقات التي تعرقل تطوره بحيث يستوعب أفكارا علمانية (خاصة بعد خيبة أمل في الحزب الذي كان أحد أمنائه). وهكذا لا يخلو مشروع عبدالله من أن يكون إصلاحاً للإنقاذ من داخلها أو خلخلةّ لمشروعها الأساسي وتمهيداَ لبهاليل سيقدمون علينا بنظام لا هو يخرج عن الإسلام ولا هو يوقع في شراك التخلّف الذي تمثله مؤسسة الفقيه التقليدية. وأرجح أن د. حسن موسى متفائل بأن جهود عبدالله ستقرّب الشأن السوداني من مجتمع لا يعود الدين فيه أداة تسلط. والناظر لأعمال عبدالله على إبراهيم لا شك سيخرج بانطباع بأن الرجل فقد الثقة في الكل عدا شيخه الشهيد عبدالخالق محجوب (البطل). وهنا يبدو عبدالله كمن أورثه البطل تركة ثقيلة برغم أنه ليس ببطل ولكنه ضدّ بطل. ومن خصائص اللابطل ان يسلك كل السبل للإبقاء على مأثر دماغه الشبحي (عقلية عبدالخالق ونبله) حتّى يأذن المستقبل بشيخ مماثل ومؤسسة لا تنهار بفقدان حفنة من الأبطال. وإذا صح هذا يكون عبدالله هو الأقرب من أضدادّ البطل للبطولة الكاملة. أحس بأن هذا ما عناه حسن موسى تلميحا. وإذا صدق إحساسي فإن ثمة حلف ما أو مصلحة (غير مادية) تجمع ما بين حسن وعبدالله (وأستبعد أن يكونا قد تواطآ على ذلك). إلا أنه يجب ملاحظة أن حسناَ لم يضفِ جملةَ المثل العليا اللازمة للبطل على د. عبدالله. ولعل هذا ما جعله يضع الرجل في مرتبة البطولة الصغرى (الضد) واضعا في ذهنه أساليب المداراة والمصانعة التي تتنافي مع صفة البطولة المطلقة. هذا الذي أكتبه الآن لا يمكن أن يكون رأياً نهائياَ لي أو لغيري (وهل يوجد رأيٌ نهائي حقّاً؟) ولكنه مقدمة لتفكيك هذا البوست العصي (وقد حشاه حسن موسى بثمار كثيرة كما تحشى علبة الكبريت وبإبرٍ ومخارز أيضا).

    كانت هنا فقرة بنيتها على غلط فحذفتها فالمعذرة والاعتذار.

    وسوف أرجع لأكتب عما قرأت في محاكمة ود المكي ولكن ليس قبل أن أقف على بعض أعماله الأخيرة ودراسة ما كان دار بين ود المكي من جهة ود. بولا ود. حسن من جهة أخرى. ولإن تحدثت عن السقوط في مرحلة سابقة فلم أتحدث عن سقوط شخص معين (ولا ينبغي لي التسرع) ولكن أتحدث عن سقوط جماعي فشا في أحزاب ومؤسسات كثيرة راغبا في التوصل إلى معرفة أسبابه التي ربما كانت طردا من مواقع قديمة أو جذبا لمواقع جديدة. إنّ شيئا ما يحدث في بلادنا ولا يغير في خرائط السياسة فحسب بل يغير في طرائق التفكير. هذه ليست مصادفات. هناك حالة تحتاج لتشخيص دقيق.

    http://sudaneseonline.com/forum/viewtopic.php?t=2042&post...4d42136e357ab51eebea
                  

05-18-2008, 11:24 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)



    في وصف زعيم تحرير سوداني بـ "صديق جنوبي جيّد"

    محجوب التجاني

    4 ديسمبر 2004

    الصحافة (30 نوفمبر 2004) زعم د. عبد الله على إبراهيم أنه كان شيخاً يسارياً . مع ذلك، كان عبد الله بداية يمينياً تحالف مع اليسار السوداني في الستينيات قبل أن يتحوّل فرحاً إلى يساري بالكامل .. شيخاً مع يمينيي القرن الحادي والعشرين!

    ذلك هو السبب في أن يفترض الصحفي اللبيب، الأكاديمي والشيخ اليساري عبد الله إمكانية القيام بأنشطة ديمقراطية منتظمة في ظل حكم الجبهة القومية الإسلامية القمعي بالنسبة لمنظمة حقوق إنسان غير حكومية جرى حرمانها من العمل داخل الوطن بل وحتّى انطلاقاً من أماكن أخرى في الخارج، وظلّت مع ذلك تعمل بإصرار في المنفى وداخل البلاد من أجل قضية حقوق الإنسان.

    مع ذلك، فان ما أثار هذا التعقيب ليس وثيق الصلة بالصحوة المفاجئة للشيخ اليساري للحط من قدر جهود المنظمة خلال 15 عاما لترقية حالة حقوق الإنسان في السودان، بينها مناشدات متواصلة للأطراف المتحاربة لوقف إطلاق النار، صنع السلام، والتهيؤ لإعمال مباديء حقوق الإنسان الدولية دون تمييز في كافة أرجاء البلاد بإستخدام آلية لجان عامة لتقصي الحقائق يُراعى فيها ديمقراطية التمثيل إضافة إلى لجان تحقيق قضائي مستقلة لضمان المحاسبية الكاملة للسلطة في تعاون تام مع المجتمع المدني السوداني، مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان وغيرهما من مجموعات حقوق الإنسان والديمقراطية الأخرى.

    جرى إصدار عشرات البيانات والنشرات الصحفية من قبل المنظمة العاملة في المنفي خلال 15 عاماً من النضال الشاق لأجل تيسير الدفع بالحكومة-الأحزاب المعارضة نحو السلام الدائم والديمقراطية الطبيعية. في حين استجابت المعارضة الديمقراطية ببطء، بما يحق لها، لمناشدات حقوق الإنسان بالعمل المشترك مع العديد من منظمات العمل الإنساني، مناصري الديمقراطية، المؤسسات الدينية، وما تزال مطالبة بقوّة بالعمل عن قرب مع مجموعات حقوق الإنسان، فان حكومة الجبهة القومية الإسلامية لم تتوقف على الإطلاق من مضايقة مجموعات حقوق الإنسان في داخل البلاد وخارجها أو من منحها الحق لتوفير العون التقني و/أو الإنساني للسكان المحتاجين.

    مع ذلك، فان الشيخ اليساري عبد الله يثور غضباً لأنه يريد من المنظمة العاملة في المنفى أن تدين مجموعات المعارضة بنفس القدر الذي جرؤت به على إدانة حكومة الجبهة القومية الإسلامية رغم أن أياً من المجموعات المتحاربة لم تغترف قدر ما اغترفته الحكومة من مجازر واسعة أو كانت محل الإدانة الدولية التي طالت الحكومة بسبب جرائمها ضد الإنسانية بحق السكان الفقراء خلال نحو عقدين من الحكم المناهض للديمقراطية.

    مثيراً للتساؤل حول النشاط المنظمي للمجموعة العاملة في المنفى، فان عبد الله، مع ذلك، يتجاهل جزلاً حقائق العلاقات المتصادمة بين المجتمع المدني السوداني داخل البلاد وخارجها، ومن بينها المنظمة التي أثارت غضبه، وديكتاتورية الجبهة القومية الإسلامية.

    لوهلة، قد يظن القاريء أن الشيخ اليساري إنما قصد، عن غير انتباه، بسخريته اللجان الحكومية في مكتب النائب العام التي زعمت دون حياء أنها تكوينات "غير حكومية" في وقت يواصل فيه المكتب التنكيل -في تعاون تام مع جهاز أمن الدولة- بالصحافة الحرة وجماعات حقوق الإنسان ... حتّى نداء دارفور الذي جاء كجهد شعبي سلمي تمّ إجهاضه بواسطة السلطات، رغم أنه هدف إلى مجرد توفير العون الإنساني للضحايا الأبرياء في دارفور.

    ما حدا بهذا الكاتب لتناول زخرفة إبراهيم حول التحالفات الوطنية، مع ذلك فهو الطريقة التي حرّف بها الذكرى بالغة الدلالة للزعيم السوداني المتميّز الراحل صموئيل قاي توت، الذي كرّس كاتب هذا التعقيب تخيلداً لذكراه كتاباً حول حقوق الإنسان في افريقيا (يصدر عن ادوين ميلين، نيويورك، في 2005). أشار د. إبراهيم للزعيم السوداني الإفريقي توت بـ "صديق جيّد لمحجوب الذي ذُهل حين أبلغوه في الشبكة بأن صديقه تمّ قتله من قبل الحركة الشعبية لتحرير السودان".

    كما هو متوقّع، يتجاهل الشيخ اليساري مغزى المعلومة حول فقد السودان للسيد توت، الذي كرّر الكتّاب مراراً حزنهم له سواء أكانوا من أنصار الحركة الشعبية لتحرير السودان أو من معارضيها.

    أشارت المعلومة إلى أن تفاصيل القضية تستدعي المزيد من التحقيق من جانب الحركة الشعبية لتحرير السودان وأيضاً من جانب منافحي حقوق الإنسان. إن الوقت المناسب لعمل من هذا القبيل بشأن هذه القضية وغيرها سيكون على الأرجح مع تحقّق الاستقرار القضائي، الإداري والسياسي المرتقب للحكومة القادمة لجنوب السودان التي يتعلّق مصيرها، مع ذلك، على النوايا الخبيثة لحكومة الجبهة القومية الإسلامية المعادية للسلام.

    إن كمّاً هائلاً من انتهاكات حقوق الإنسان جرى إلحاقه بضحايا ينتظرون من الحكومة الانتقالية القادمة في السودان أن تحقّق في أعمال القتل خارج نطاق القضاء، التعذيب، السلب، الاغتصاب وغيرها من الجرائم ضد الإنسانية التي تمّ ارتكابها في القسط الأعظم من عمر حكومة الجبهة القومية الإسلامية، جلّها في المناطق المنكوبة بالحرب في السودان إضافة إلى المركز. شيخ اليسار، مع ذلك، لا يريد أن ينظر لجرائم حقوق الإنسان الفاضحة من قبل حكم الجبهة القومية إذ أن نظره الصائب (مقارنة بالنظرة الحوصاء لمنظمة حقوق الإنسان في المنفى) يركّز فقط على انتهاكات المواطنين المضطهدين ضد ممارسي الاضطهاد بسند الدولة.

    إن التحوير غير المسئول لإشارة كاتب هذا التعقيب إلى الزعيم السوداني الإفريقي صموئيل توت إلى "صديق جنوبي جيّد" ربما كان محاولة لا شعورية للإنتقاص من قيمة علاقة وطنية صادقة وتحويلها إلى مجرد صداقة "جنوبية-شمالية" شخصية غير ذات ضرورة، كما لو أن الوطنية السودانية لا وجود لها إلا في الحدود الشخصية وداخل منطقة أو اقليم بعينه.

    هذا الأسلوب المُبخس يحتاج إلى إعمال أكبر قدر ممكن من النظرة النقدية الفاحصة، وذلك لسببين اثنين. الأول: لم يهتم الشيخ اليساري بأن ينقل بشكل صحيح العلاقة مثار التناول، والتي لم تتم الإشارة إليها في الأصل للتعبير عن مشاعر شخصية، بل كانت جزءاً من مناقشة جادة حول الايديولوجيات العربية-الافريقية السودانية والعلاقات السياسية بتركيز خاص على مدى استعداد العقلية العربية المفترضة للقبول بالمشاركة في السلطة مع المواطنين الأفارقة السودانيين في وطن سوداني متّحد.

    ثانياً، أعاد عبد الله تذكير هذا الكاتب بالمحنة المؤسفة للعقلية العربية المفترضة التي عملت باستمرار، وبشكل آلي، على تشويه، وتحطيم، والحط من علاقات سودانية طبيعية إمّا بمهاجمة الحركة الافريقية السودانية للحركة الشعبية لتحرير السودان أو بتجاهل معايير التحرير الفكرية للقيادات الافريقية السودانية من نحو تلك التي كان يعبّر عنها الراحل صموئيل قاي.

    مقارنة بإلتزام د. ابراهيم القوي بإلقاء اللائمة عن الصراعات الجنوبية-الجنوبية على مواطني الجنوب دونما ذكر للدور الرئيسي الذي لعبته الحكومات المركزية (الجبهة القومية الإسلامية حالياً) في هذه الصراعات عبر المليشيات المسلّحة والسياسات العنصرية، يبدو أن عبد الله يدرك القليل جداً عن مشاعر أو تطلّعات الإفريقيين السودانيين جميعاً. مع ذلك، لم يكترث عبد الله البتّة بالتساؤل: ما الذي عناه الراحل صموئيل توت بين آخرين عديدين من الزعماء الأفارقة السودانيين بالنسبة لقضية التحرير، السلام، والديمقراطية في القارة الأم افريقيا والمنطقة العربية، بشكل عام، والسودان بشكل خاص.

    إن هذا الموقف الأخير هو تخريبي. إنه للأسف جزء من تصنيفات العقلية العربية المفترضة الإثنو-عرقية واللغوية التي تمثّل الفكر الأكثر عداءً في مواجهة عملية السلام طويل الأمد في السودان، بصرف النظر عن شكل أو أسلوب يساري أو علماني.

    إن المثقفين السودانيين الذين يخاطبون أنفسهم أمام العامة هذه الأيام لمسئولون تماماً عن وضع حد لمثل هذا الموقف التمييزي. ومن ضمنهم عبد الله، فهم مطالبون بإلحاح أن يولوا انتباهاً خاصاً لوضع ودور رصفائهم الإفريقيين السودانيين في الحياة العامة بغية تطوير التحوّل الجاري للحكم الديمقراطي. إنهم مطالبون أكثر وبإلحاح لتشجيع، دعم وإعانة بناء الثقة المفقودة بين أعضاء المجتمع السوداني. ليست هناك حاجة للقول بأن الأكاذيب، الأفكار المفترضة، أو أعمال التقييم المشكّكة، لن تعين على الإطلاق في هذا المشروع النبيل.

    مع ذلك، من المهم حث الشيخ اليساري عبد الله علي ابراهيم أن يبذل بعض الجهد لإستعادة توجهات شبابه، التي ركّزت بمضاء على الديمقراطية الوطنية، العدل الإجتماعي، والإحترام والإهتمام العميق بحريات وحقوق الأقليّات المحرومة على امتداد البلاد في مقابل شياخته الذاتية الراهنة على يسار الجناح اليميني للجبهة القومية الإسلامية في البلاد، التي خرّبت بشدّة الدولة السودانية المتحضّرة، الأقليات المستهدفة في البلاد، وتعترض بشكل مراوغ عملية السلام.
                  

05-19-2008, 00:02 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    على ضوء المساءلة العامة
    الحــــــزب الشيـــوعي في الميـــــزان
    صلاح شعيب
    الكتابة عن اليسار مشكلة، وعن الحزب الشيوعي تساوي مشكلات عدة، والسبب بسيط: هو أن المراجع التي تناولت اليسار قليلة ومتناثرة وفي أحيان كثيرة تأخذ طابع المذكرات، وما كتب عن الحزب الشيوعي من نقد كان معظمه أميل للتشفي أو الهجوم المدمر الذي لم يأت في كثير من محبة، هذا الأمر تم من قبل الذين كانوا يعتقدون فيه وفي إيمانه بالقضايا التي تبناها تاريخياً ثم خرجوا عن الحزب نادمين أو مغبونين «صلاح أحمد إبراهيم، أحمد سليمان، عبدالله علي ابراهيم، بقادي، الخاتم عدلان، وراق وآخرون»، أما باقي نقدة الحزب فقد جاءت مشاريعهم بعد التقاعد نتاج كتابة خصوم من إسلاميين وغير إسلاميين، هؤلاء الذين لم ينظروا للتجربة الماركسية في السودان ضمن رؤى موضوعية ترتبط بالظروف التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والاقليمية التي كفلت الوجود القدري للحزب، كما أن بعضاً من الخصوم إشتطوا في نقده ولم يروا في الحزب إلا مسألة من قبيل الإلحاد والتفسخ كما أرادوا بذلك لحرقه ولم يفتشوا بشفافية على جهة الأخطاء الموضوعية أو المنافع الأيديلوجية الماركسية التي يتبناها الحزب وأثرها على النسيج المجتمعي السوداني، أو حتى أثرها على الدائرة الحضارية التي نستند عليها في كثير من رؤانا الفكرية والثقافية.
    هناك مشكلة أخرى تواجه النقاد حين يتناولون أمراً يخص الحزب وهي الحساسية العالية للأفراد الشيوعيين تجاه الانتقادات التي تواجه الحزب وربما يعود ذلك إلى نوع من غياب الأنتلجنسيا اليسارية عن تأسيس خطابات ناقدة، وذلك بقناعة أن النقد هو سبيل الأنتلجنسيا وغيرهم لمراجعة تجاربهم في إنزال مفاهيم تقدم وعدالة اجتماعية وشؤون للديمقراطية والتنوير الفكري أو الثقافي. وقد يتجاوز هذا الغياب في التفاكر الذهني ليشمل طبيعة المجتمع السوداني المجبول على النفسية المتسامحة حتى تجاه ما هو عام.
    إلى ذلك فإن طبيعة التكوين الداخلي للحزب كان حرمت المهتمين من متابعة حصاد النقد الذاتي الذي هو مفهوم -بطريقة ما- لضرورات العمل السري، بيد أن المرء ليستغرب كيف أن تجربة الحركة الإسلامية مثلاً، وخصوصاً قبل وبعد ما سمي «بالمفاصلة التاريخية» شهدت ولا تزال إجراءات نقدية صارمة نهض بها أكابر الشخصيات التاريخية في الحركة وبعضٌ من رموز الجيل الثاني، وكان يمكن أن تظل تلك الإجراءات داخلية أو حبيسة الصدور، ولكنها في خاتم المطاف خرجت إلى فضاء العمل السياسي العام من دون أن يخرج أصحابها أو يتنصلوا عن الحفاظ على مسافة ممكنة لترميم الجسم العام للحركة الإسلامية، وفي ذهني الآن مذكرة العشرة التي حوت أدباً سياسياً للخلاف في ظروف بالغة الحرج بالنسبة للحركة آنذاك، وكذلك يتذكر المرء محاولات الدكتور عبدالوهاب الأفندي والطيب زين العابدين وعمار محمد آدم والمرحوم محمد طه محمد أحمد ومحجوب عروة وعثمان ميرغني وغيرهم من من بقيت كتاباتهم إجتهادات جريئة للحفاظ على جوهر الحركة الإسلامية رغم فداحة الأعباء وعظم النائبات.
    وصحيح أن محاولات الإسلاميين للجهر بالحوار بينهم عجلت بها إنحرافات السلطة التي تماهى الحزب فيها ولكنها مثلت -المحاولات- في الواقع إنفراجاً للضغط السياسي على الحركة الإسلامية على الرغم من إنشطارها، وفي ذهني أيضاً أن هذا الإنشطار يمثل جزءاً لانشطارات حزبية عايشتها كل الفاعليات السياسية ولكن لم تستثمرها للبحث عن الدوافع الحقيقة له كما استثمرته الحركة الإسلامية. ونعود لهذا الانشطار فيما بعد.
    ولكن في خاتم المطاف إن الاسلاميين إلتفوا حول إنشطارهم رغم بعض الجراحات المرة وظلوا يتغازلون بإمكانية معالجتها ولا يستبعد المرء رغم مراراتهم إنهم سوف يجدون في التصالح سبباً لوجودهم البارز في الساحة السياسية السودانية، وربما رأوا أن لا أحد يمكن أن يستغني عن آخر منهم إذ أن مستقبل العمل السياسي القادم، إذا تم تجاوز معضلات دارفور والجنوب والشرق، يفترض اتحادهم، وخصوصاً بعد تواتر أنباء بأن هذا الشهر قد يشهد تقارباً بين الجناحين المتصارعين على خلفية تصريح البشير بقوله إن كل الأشياء واردة حين سؤل مرة عن توحيد حزبي المؤتمر الوطني والشعبي ضمن تنازلات هنا وهناك ووفق رؤى إستراتيجية عن مستقبل العمل السياسي الإسلامي.
    نعم إن المرء ليستغرب وعي الحركة الإسلامية بأهمية النقد المكشوف أكثر مما هو حادث في الحزب الشيوعي السوداني الذي أصبح أبناؤه الذين استحقوا وضعيتهم السياسية عبره يحاولون في نقدهم له كما لو أنهم يضربون كعبة الحج السياسي السابقة بالمنجنيق، ليس هذا فحسب وإنما يلجأ بعضهم إلى حافة «اليمين الخصم» إنضماماً أو مهادنة أو مغازلة، هذا الأمر حدث لأحمد سليمان الذي بقي مشروعه السياسي، فيما بعد، الإنتقام من كل إرثه وإرث الحزب، حتى أن خبراته السياسية تم توظيفها ضمن التيار اليميني ولا ينسى القراء الكرام التقارب السياسي والفكري الذي تم بين الشاعر صلاح أحمد ابراهيم والنظام، وهو الشاعر نفسه -الله يرحمه- الذي وصل به الطلاق البائن مع فكر اليسار والحزب الشيوعي إلى أن يهجوا المرحوم الزعيم عبدالخالق محجوب بقصيدة وصفته بكل ما هو مشين، وفي هذا الإطار يتذكر البعض مقالاته الساخنة التي بادل بها الراحل عمر مصطفى المكي والتي حفلت بما لا يدخل في شرف الخصومة السياسية، وهناك عبدالله عبيد ومحمد سعيد معروف اللذان إنتهيا إلى أدوات طيعة للإسلاميين وكذلك ميرغني حسن علي الذي صار يغرد كما يغرد شنان! أما عبدالله علي ابراهيم فقد بدت مقالاته تبطن «عداءً فناناً» للحزب والقوى التقدمية وتجاهلاً مشكوكاً فيه لأخطاء اليمين السوداني والذي هو الآن بيده مفاتيح ومغاليق الأزمة، وربما يكاد المرء أن يقول إن الدكتور إبراهيم وهو المعتبر من أكثر اليساريين علماً ونقداً ومسرحاً يبدو الآن في ممارسة الردة عن تاريخه، متجاوزاً القضايا الفصل ومتعمداً الكتابة حول إسقاطات الأشياء أكثر من سبر غور العوامل التي أدت إليها، وذلك بأسلوب أدبي راقٍ ، ولقد كان الإعتقاد أن عبدالله بما اكتسب من ريادة وذائقة نقديتين هو الأكثر تأهيلاً في الكتابة عن شؤون الحزب الشيوعي والتجربة اليسارية في السودان عموماً، وذلك بما يفيد الأجيال الراهنة والقادمة بما ذهب خطأ في مشوار التحديث والتنوير الفكري والثقافي، ولكن يبدو أنه لم يمتح من بئر مؤسسة بنقدة حميمين بالحزب واليسار معاً وكل ما سعى إليه أنه أعاد إنتاج مذكرات أحمد سليمان ومعروف ويس عمر الإمام، وفي معمة الحديث عن تنكر أبناء الحزب فإننا لا ننسى الأستاذ أحمد علي بقادي الذي وجد في كتابة المذكرات الصحفية مجالاً لتأكيد ما فعل وليس لنقد ما فعل الآخرون، والآخرون إذا كانوا هم تقويم الحزب يتجاوزهم التأريخ الشخصي.
    طبعاً، هناك بعض رموز للشيوعية السودانية مِنْ مَنْ لاذوا بالصمت لحسابات شخصية أو لحساسية نقد كل ما هو مرتبط بالحزب أو لاعتبارات اجتماعية ونفسية، وفي تقديري أن الشيوعيين عموماً لا يحفلون بالنقد أيَّاً كان خصوصاً حين يرتبط بزميل سابق، كما دلت تجربة الخاتم، ومن جهة ثانية إن طبيعة العمل التنظيمي كما قلت تستدعي سرية النقد إذا كان داخلاً في الحاجة للإصلاح التنظيمي، أما الشيوعيون الملتزمون بعضويتهم فلا مجال أمامهم لنقد الحزب علنياً وإلا فإن ذلك يعد خرقاً لللائحة، وربما هذه واحدة من الأسباب التي أدت إلى أن يتعرض الحزب في السنين الأخيرة إلى إنشقاق مجموعة متميزة من كوادره بقيادة الخاتم عدلان ووراق وهشام عمر الأمين واللذين رأوا أن الحق معهما لتكوين «حق» وفيما بعد اختلفوا بمرارة، ومضى كلٌّ إلى حال سبيله، صار الخاتم رئيساً لقسم الترجمة بصحيفة «الشرق الأوسط»، غير متحرج من كون أن الصحيفة مدعومة من اليمين الوهابي الذي لا تستطيع نقده وهو اليمين المصنف عالمياً ضمن اليمينيات الداعمة للإرهاب والعاملة ضد حركة التاريخ نحو التقدم الإنساني، أما الحاج وراق فلا يجد شكوكاً في التعاون إن لم يكن التحالف السياسي مع قوى سياسية، دعامتها اليمين الطائفي، وربما تقوده -وراق- أفكاره الجريئة للتضامن مع إسلاميين منشقين ومستثمرين لناحية بلورة مشروع إعلامي طموح مثل «الوسائط» وبغير ذلك فإن وراقاً لا يعدم وخز اليسار والحزب رمزياً عبر مقالاته السابقة من دون أن يفيد الحركة السياسية السودانية بمشروع سفر نقدي حول تجربته مع الحزب الشيوعي، هذا لو إن كتب عن ما ذهب خطأ في التجربة التي أفنى جزءاً من عمره فيها، ولكن أنى لوراق أن يأتي بما لم يستطعه الأوائل، فإرث الأنتلجنسيا اليسارية لم يقدر بعد على فتح الأوراق القديمة ونقدها على ضوء محاولة موضوعية وحميمة للتدارس، فالحساسية من الفقد الاجتماعي للأصدقاء الذي ارتبط بهم واردة برغم أن النقد لا يعني بالضرورة إفساد الود كما نعلم.
    إن العلاقات المميزة التي نماها الأستاذ وراق داخل الحقل الصحفي كان يمكن أن تساعده في فتح ملف اليسار أو الحزب الشيوعي وذلك بإستضافة رموز عاملة وصامتة أمثال كمال الجزولي وفاروق كدودة ومحجوب شريف وابوبكر الأمين ومحمد عوض كبلو وكبج وغيرهم، ولكن عوَّل وراق على حقيقة الإبتعاد عن الهم والغناء له بمقالاته، كما أن التجربة لم تتح له الإستناد على هامش المناورة أو المبادرة السياسية للأعضاء إلا إذا كانت هذه المبادرة تتخذ نشاطاً آخر مثل نشاطات الشعراء والأدباء والفنانين والذين دائما ما يبهرون القاعدة التائقة للتغيير بمبادراتهم الرائعة «وفي الأمثلة» كمال الجزولي حين يقتحم فضاء الصحف الممولة إسلامياً ليكتب درراً من الدراسات والمقالات ومصطفى سيد أحمد حين يتعاون مع الشاعر عبدالقادر الكتيابي ذي الميول الإسلامية، وبشرى الفاضل حين لا يرى حرجاً في المشاركة في مهرجانات ثقافية في الداخل التسعيني لتمرير فكرته التقدمية وابوعركي البخيت حين لا يلتزم التعاون مع كثير من شعراء الحزب مثل إلتزامه في التعاون مع الشاعر هاشم صديق ووردي حين لا يجد حرجاً في الإلتقاء بقيادات إسلاموية ويكرم عبرهم.
    كل هذه المواقف تجعلنا نطرح أسئلة من شاكلة هل إن «السياسي الفنان» أكثر إستلهاماً وثقة في ذاته من السياسي الملتزم باللائحة التي صممت على ألا تمسها «الحداثة أو التحديث».. الحداثة نفسها التي ألهمت الفنان ولا يستطيع أحد محاسبته أو التشكيك في أنه المتخاذل.. أو الخوان الكفور؟ وهل يتأخر السياسي دائماً عن فتح شرفات التجديد، وهل استطاع الفنان السياسي الإلتفات إلى أهمية التجديد والاستجابة إلى التحولات الداخلية والخارجية وأن يعبر عنهما أكثر مما فعل نديمه السياسي..؟
    إن المشكلة التي تعاني منها تيارات اليسار الإشتراكي عموماً في منطقتنا العربية والإسلامية خصوصاً تتمثل في كساد المرجعية التي ينطلق منها الآن في مقارعة إشكالات الحاضر ومراجعة المتراكم الماضوي، وبالحق إنه لم يسع رغم ذلك الكساد، إلى إستلهام أفكار عملية جديدة تستوعب عناصر ملهمة في التفكير من الوسط ويسار الوسط ويسار اليمين والمستقلين والليبراليين والذين هم أيضاً عناصر مشتغلة على ضوء مفاهيم العقلانية ومبدأ التنوير عند النظر إلى الواقع الإجتماعي لنشله من بؤرة التخلف، بل ويقاسمون اليسار الإشتراكي خطوط التفكير والعمل التقدمي، ولقد كان متوقعاً في الحزب الشيوعي أن يشكل قفزة نوعية في زيادة عضويته ولملمة هذه الطاقات عبر تحالف سياسي عريض وجديد من شأنه، إذا تم التقعيد الفكري المتين، أن يحقق وثبات على مستوى العمل السياسي ويسهم فيما بعد في إنجاز مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والتنمية الحضرية وتطوير بنى الأجهزة الحكومية والاهتمام بمشاكل الجماعات الإثنية وتجديد النظر في العلاقة بين دول العالم العربي وافريقيا ومراجعة مواقفنا تجاه العالم والإنسانية.. وفي الحقيقة أن هذه المفاهيم لم تعد مرهونة بكونك منتمياً للحزب الشيوعي أو عدمه، إنما صارت مفاهيم عالمية وهماً إنسانياً لا يتعارض مع فكر الإتجاه السياسي الذي تنتمي إليه.
    مضافاً إلى هذا أن واحدة من حزمة القضايا التي ترتبط في بلداننا بالتنمية الشاملة هي مسألة الموقف من توظيف الدين بالشكل الصحيح وبالطريقة التي يستحقها تأثيره المجتمعي، فالدين يلعب دوراً عظيماً في حيوات الشعوب، وما جاءت ظاهرات الإسلام السياسي، المعتدل والمتطرف فيها، إلا للفجوة الحادثة في أدبيات الأحزاب اليسارية. إذا أخضعنا الإسهام الفكري للحزب الشيوعي السوداني لدرس الدين تاريخياً وفقهياً ومعاملاتياً، فإننا لا نجد تفرغاً بحثياً أو أكاديمياً بذلته الوحدة الفكرية للحزب ليوازي عطاء التفرغ الذي أنتج مباحث مقدرة بأقلام محمود محمد طه ومحمد ابوالقاسم حاج حمد والصادق المهدي وعبدالله النعيم وحيدر ابراهيم، ونورد هؤلاء كمثال لما توصلوا إليه في أبحاثهم وليس إتفاقاً على ما طرحوه من تنظيرات حول الدين، وخارجياً ربما وجدنا جرأة محمد سعيد العشماوي -ومهدي عامل والطيب تزيني ونصر حامد ابوزيد وسيد القمني والعفيف الأخضر وحسن حنفي وغيرهم من المفكرين المنتظمين سياسياً أو الليبراليين منهم- وقد كان لها تأثيرها الإيجابي.
    إن تعامل الحزب الشيوعي مع مسألة الدين لم يتبعه تنوير خلاق عن دوره الإيجابي في الحفاظ على القيم وضبط المعاملات الإنسانية وتأثيره الضخم الذي أنتج هذه الأجيال الجديدة من الإسلاميين على النطاق الداخلي والخارجي، ولقد ظل تعامل الحزب مع الدين تعاملاً خاضعاً للفعل ورد الفعل واستطاع اليمين السوداني عموماً توظيف تجاهل الحزب للمسألة الدينية ودمغه بالالحاد والتفسخ في بيئة لا تزال تشكل الغيبيات أساس إيمانها وتقواها وموقفها نحو الخطأ والصواب.
    لقد كان جميلاً أن يسعى الأستاذ نقد حول البحث والتأليف، ومقدر جهده في كشف علاقات الرق التاريخية، ولكن ألا يهم بالنسبة للزعيم نقد، وهو المعروف بتدينه الشخصي، البحث في علاقات العلمانية والإسلام في هذه اللحظة التاريخية بإنعكاساتها المحلية والخارجية، حيث صار الدين محركاً أساسياً للجماهير ومستغلاً بكل ما وسع لتطويق رغباتها، ثم لماذا يظل اليسار السوداني عموماً متلقياً في مسائل التنظير الديني عبر وسائط اليمين السودانيين والعرب منهم أو حتى عبر رؤية اليساريين العرب أنفسهم في مسائل الدين.. ولماذا لا يوجد لدينا باحث شيوعي، ولو على سبيل العمل الأكاديمي، ليقدم جهداً علمياً رفيعاً في إمكانية فهم الدين معرفياً؟
    من جهة أخرى كان يحسب للحزب الشيوعي تأثيره القوي على المجالات الفكرية والأكاديمية والتربوية والثقافية والفنية والاعلامية والعسكرية ربما وكذلك تأثيره غير القابل للجدل وسط النقابات وأجهزة الخدمة العامة، ولا يزال الحزب يمارس بعض النشاطات في هذه المجالات رغم الضربات المتلاحقة التي تعرضت لها الكوادر من قبل النظام سواء بالفصل التعسفي أو التشريد إلى الخارج، غير أن كل هذه المعطيات جديرة بالمراجعة لخلق البدائل الممكنة حتى يحتفظ الحزب بحيويته، فعلى جهة الخدمة العامة لا يشك عاقل إن الانقاذ كانت ولا تزال مارست إحلالا كادرياً يصعب تجاوزه، وعلى ناحية أخرى فإن كوادر الحزب قد هاجرت إلى الخارج ضمن هجرات ضخمة للكوادر اليسارية وأصبح للأسف أن رصيد هؤلاء الفكري مرتبطاً بظروف المعاش والاستقرار هناك.
    صحيح أن الحزب الشيوعي قد إجتهد ولا يزال وشأنه هو شأن أحزابنا الأخرى التي أخفقت في جانب بسبب الظروف التي تعرضت لها من الأنظمة الديكتاتورية، وما من شك إن الحزب كان لديه طموحات لخدمة جماهير الشعب، والموضوعية تحتم القول إن النضال الذي قدمه الحزب لم يقل عن نضال أي حزب آخر، كما لا يجهل للحزب ريادته في تبني القضايا الاجتماعية وعمق نظرته لجذور الصراع السوداني وصلابة المواقف تجاه الأنظمة الشمولية والتزامه جوانب التعريف بالعطاء الفكري الإنساني، غير أن هذا الموروث السياسي بحاجة إلى طاقات جديدة ومراجعات للفكرة والمسيرة تسمح بإنفتاح الحزب أمام الطاقات المتوثبة للعمل والتي لم تجد في أحزاب أخرى مجالاً للإبداع والمشاركة الفاعلة وتتوق الآن إلى ماعون سياسي حديث وأوسع فشلت بعض الأحزاب والاتجاهات التقليدية في خلقه وعليه غداً أن أعداداً هائلة من الجماهير والانتلجنسيا تبحث عن بديل لاسطورة اليمين واليسار الثابتة لأجل أن يمارس هذا البديل القطيعة مع مفهوم الحزب السياسي التقليدي ويتجه بالطاقات والمواهب إلى مجالات التفجير والنماء.
    ختاماً إذا جاءت هذه الكتابة عن الشيوعي السوداني ضمن مساءلة عامة مطلوبة لكل أقسامنا السياسية الملتزمة عملياً بدفع الوطن نحو ما نرغب فإن المرء لا يسعه إلا الأمل أن تثير هذه المساهمة المتواضعة والقاصرة عن الإحاطة الكاملة بأمر الحزب الشيوعي الاختلاف الخلاق أكثر من الاتفاق المستحيل، ذلك أن الاختلاف بحميميته ومراراته يفتح مجالاً للجدل والتأويل والتقصي، ألا يعني الاختلاف إنه عامل صحة ونذير رحمة أيضاً.

    http://alsahafa.info/index.php?type=3&id=2147506926&bk=1
                  

05-19-2008, 05:45 AM

mohmmed said ahmed
<amohmmed said ahmed
تاريخ التسجيل: 10-25-2002
مجموع المشاركات: 8788

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)

    كان أفندية الخرطوم في الستينات متى نعوا حظهم لميلادهم في بلد تعيس هو السودان قالوا :"السودان حفرة". ولم يلتزموا مع ذلك بقانون الحفر. وهو أنك متى وجدت نفسك في حفرة فتوقف عن الحفر. ولم يتوقفوا حتى توطنت حفرتنا فتوهطنا قرارها العميق. وحفر إيدك وغرَّق لك. وليس غزو حركة العدل والمساواة لام درمان قبل أيام سوى مخالفة خرقاء لقانون الحفر. فقد حفرت الحركة حيث ينبغي لها الكف عن الحفر وسوت فيها "ضراع".

    تفاءلت وأنا أقرأ للأستاذ عبد الله آدم خاطر قبل أيام عن اجتماع كلمة أهل الفنون على الصلح القومي بأمر الإبداع. فقد اتفقوا في طقسهم الأخير الذي أقاموه لنصرة دارفور على أن ما أصابنا بلاء ولا تكفه سوى بليلة الكرامة. ورأيت في ذلك مؤشراً على أننا بلغنا من الإعياء حداً أفقنا به إلى مصادر ثقافية أصلية للتعافي والتصالح مع أنفسنا من شرور أنفسنا. بل انتبهت عرضاً لقول الدكتور حسن الترابي في مؤتمر حزبه بمدينة سنار إنه قد عفا عمن أودعوه السجن وأنه ضد الانقلاب العسكري ما عاش. وقلت ربما كانت كلمة الترابي هي من باب التوقف عن الحفر.

    لقد وقعت واقعة السبت وغَرَّقت الحفر. والحمد لله ثم الحمد لله. ولكن ما وجبت الخشية منه أن يكون بعض تحليلنا وردود فعلنا لها هو الحفر الأصعب. وقد وقفت عند نظرات للمعلقين وعامة الناس خشيت أنها ربما عمقت الحفرة لأنها جانبت الصواب بسعيها تحميل الغزوة مشتهيات سياسية خاصة بهم.

    وجدت من يصف من استنكروا غزوة السبت بأنهم مصابون ب "الغضب التفضيلي" (selected rage)ومعنى هذا أن من أغضبهم هذا الغزو للخرطوم من حركة دارفورية هامشية لا يغضبون بالمثل لاستيلاء شماليين للحكم بانقلاب مثل انقلاب الإنقاذ. وهذا منطق فاسد. فلا يدري المرء متى سنكف عن الرد على انقلاب الانقاذ بانقلاب أو غزو بعد أن صار فينا لنحو عشرين عاماً ومرت مياه كثيرة ودامية تحت الجسر. فمهما يكن فقد تهيأت للبلاد منذ عهد نيفاشا وتوابعه فرصة لتجديد الحياة السياسية. وهي فرصة قبلها الإنقاذ صاغراً يجرر أقدامه نحوها جرجرة. والسبيل للجم نظام الإنقاذ دون غرائزه في الانفراد بالأمر ليس بإعادة إنتاج بداياته في خرق الدستور بل في حمله بلزوم هذه العهود عبر تحالفات سياسية ذات سند شعبي. فإذا لم تجتمع كلمة الأمة على نبذ العنف (في أشكاله جميعاً بما في ذلك نقض العهود من موقع الجاه) صرنا نستنسخ معارضتنا لانقلاب الإنقاذ من يوم ولد لا من حيث يخرق للعهود السياسية على أيامنا هذه. وهذه هي المعارضة بأثر رجعي. وهي في لغة السجون "تأبيدة" تسجننا في ما مضى وفات. ولن نصبح بمثل هذا النهج الثأري على المقبل كما قال عثمان دقنة. ومثل هذا التحليل الدبري لا يخدم غرضاً وهو بمثابة الحفر في الحفرة فتزداد عمقاً.

    ومن الحفر في الحفرة شكوى الناس من أن غفلة الأمن هي التي مكنت للعدل والمساواة اقتحام صحن الدار. ومع تقديري الشديد للناقدين للحكومة على هذا التهاون لأنه مرتبط ب "تولا" (ولا بد للحكومة من بيان على مآخذ الناس عليها من هذه الجهة) إلا إن الإلحاح عليه قد يوحي لنا بأن غزوة السبت هي عثرة أمنية فحسب يكون علاجها في مزيد من الأمن. ولا أعتقد أن هناك مزيد أمن بعد كل ما صرفناه على أجهزته. فلقد بلغنا من ذلك الغاية بل فوقها بكثير. وإذا تعثر أمننا في مثل واقعة السبت ولم يسعف إلا متأخراً صح أن ننظر في تقصي سبب الغزوة إلى سياسة الحكومة لا أمنها. فانشغالنا بأمن الإنقاذ دون مؤاخذة سياستها هو حفر في الحفرة. وهي سياسة معروف أنها قصيرة النظر ،خلو من حسن النية، في شأن دارفور. فهي مثلاً غشت في التحقيق في مقاتل الدارفوريين وفي منبر حوار الدارفوريين. بل يحتار المرء إن كان زمام الإنقاذ السياسي قد انفرط وأصبحت تكلها على أمنها حين أعيت الهموم الوطنية الثقيلة الحالية طاقمها السياسي المتناقص. فقد اشتكى السيد منى أركوى منذ أيام أن اتفاقية أبوجا ظلت ترواح مكانها منذ رحيل السيد مجذوب الخليفة.

    ومن باب خرق قانون الحفر هو استعذابنا القول إن أم درمان-الخرطوم حصينة وهي مقبرة الغزاة. وهو قول مريح وفيه عزاء ونخوة ولكنه غير مفيد على علاته. فمقارنة غزوة السبت بحادثة "المرتزقة" لعام 1976 فيها شطح. فالمرتزقة هي ثمرة نشاط لأحزاب مركزية مهما كان الرأي فيها متحالفة ضد نظام سياسي منها وفيها بينما غزوة السبت هي تعبير إقليمي. بل وهناك من يصفه بالإثنية. فقد أرادت الغزوة حمل مسألة دارفور إلى صحن دار السلطان: أي إلى الخرطوم حيث "محل الرئيس بينوم والطيارة بتقوم" كما قال خليل للأستاذة صباح أحمد. والغزوة ربما كانت بوجه من الوجوه سباق من العدل والمساواة لتبرهن للسودانيين والعالم قاطبة أنها الحركة التي عليها الرك في أي مفاوضات قادمة بعد أن تفرقت غريمتها حركة التحرير شيعاً. وقد قال الدكتور خليل إبراهيم لصباح "إن الحشاش سيملأ شبكته" حين سألته عن ميزانه وميزان الحركة. وربما كان وجه المقارنة القوي بين غزوة السبت و"مرتزقة" 1976 هو غلبة الدارفوريين بين جندها. ولهذا أصاب من حذر من العقلاء الحكومة والإعلام والناس عامة من التمادي في وصف دارفوريّ غزوة السبت ب "المرتزقة" و"الأجانب" وما يجره ذلك من عنصرية وانفلات وسوء في الأخاء السوداني لطويلة. فقد شذَّ نظام النميري المخلوع شذوذاً كبيراً حتى صار يميز المرتزق المزعوم من السوداني بالنظر إلى لهجته أو لغته في بلد يتحدث أهله 150 لساناً أو تزيد. وقد أوحت لي تلك الملابسات الظالمة بكتابة "الماركسية ومسألة اللغة في السودان" الذي صدر عن الحزب الشيوعي في 1977م.

    واستغربت لقول الأمدرمانيين أن مدينتهم حصينة. وكنت أظنهم كمشتغلين بكرة القدم قد استقوا الحكمة من شاخور الذي قال إنك متى أكثرت الشوت في المرمى أحرزت إصابة طال الزمن أو قصر. وقد ظل كل خصوم الإنقاذ يشوتون في قون الإنقاذ يريدون بلوغ الخرطوم - أم درمان. والله ما أراد. وفعلها خليل وحده في ملابسات إقليمية (وعالمية ربما). ولن تتحصن أم درمان إلا حين نتطهر تكتيكياً من خطة "حرب التحرير" الصينية التي يتعبأ بها الريف ضد المدينة الظالم أهلها حتى يقهرها. وجاءت بهذه الخطة الحركة الشعبية لتحرير السودان. وإن خامرت اليساريين طويلاً من مثل رفضهم لاتفاقية الحكم الذاتي لعام 1953 لأن الاستقلال لا يأتي إلا عن طريق فوهة البندقية أو جماعة القيادة الثورية التي دعت إلى مقاومة نظام عبود عسكرياً أو جماعة الجيفاريين. وقد خرج من أم درمان وغيرها نفر من اليساريين إلى الهامش يعبئونه ضد المدينة بعد يأسهم من حركة العمال والمزارعين والطلاب والمثقفين الوطنيين والرأسمالية الوطنية التي سددت لها النظم العسكرية (وتجاوزات الأحزاب لاستقلالها) ضربات مميتة أخرجتها من الحلبة السياسية فسادت العصب المسلحة بقواعدها الإثنية. ولضمان سلامة العاصمة حقاً ،لا زعماً، وجب أن نتخلص من سذاجة سياسية شائعة. فأنت تسمع من بعض من حملوا السلاح يبررون ذلك بقولهم إن الرئيس البشير هو الذي استفزهم وطالعهم فخرجوا له عراة حين جاءهم متحزماً. و"يطرشنا" لم نسمع عن التكتيك السياسي يفصل في مقاس استفزاز الخصم. فمثل هذه المبارزة الساذجة ميدانها بُطان الجعليين بالسوط لا ميدان السياسة.

    كانت غزوة السبت فاجعة. اللهم أرحم أموات المسلمين.ولكن سيفاقم من فجيعتها أن نضل في التحليل أو نتشفى به فيكون حفراً في حفرة نحن فيها بدلاً من يكون قنطرة إلى وطن متآخي تكون به نهاية الأحزان.

    مقال د ع ع ابراهيم بجريدة الراى العام 17 مايو 2008
                  

05-19-2008, 05:45 AM

mohmmed said ahmed
<amohmmed said ahmed
تاريخ التسجيل: 10-25-2002
مجموع المشاركات: 8788

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)

    كان أفندية الخرطوم في الستينات متى نعوا حظهم لميلادهم في بلد تعيس هو السودان قالوا :"السودان حفرة". ولم يلتزموا مع ذلك بقانون الحفر. وهو أنك متى وجدت نفسك في حفرة فتوقف عن الحفر. ولم يتوقفوا حتى توطنت حفرتنا فتوهطنا قرارها العميق. وحفر إيدك وغرَّق لك. وليس غزو حركة العدل والمساواة لام درمان قبل أيام سوى مخالفة خرقاء لقانون الحفر. فقد حفرت الحركة حيث ينبغي لها الكف عن الحفر وسوت فيها "ضراع".

    تفاءلت وأنا أقرأ للأستاذ عبد الله آدم خاطر قبل أيام عن اجتماع كلمة أهل الفنون على الصلح القومي بأمر الإبداع. فقد اتفقوا في طقسهم الأخير الذي أقاموه لنصرة دارفور على أن ما أصابنا بلاء ولا تكفه سوى بليلة الكرامة. ورأيت في ذلك مؤشراً على أننا بلغنا من الإعياء حداً أفقنا به إلى مصادر ثقافية أصلية للتعافي والتصالح مع أنفسنا من شرور أنفسنا. بل انتبهت عرضاً لقول الدكتور حسن الترابي في مؤتمر حزبه بمدينة سنار إنه قد عفا عمن أودعوه السجن وأنه ضد الانقلاب العسكري ما عاش. وقلت ربما كانت كلمة الترابي هي من باب التوقف عن الحفر.

    لقد وقعت واقعة السبت وغَرَّقت الحفر. والحمد لله ثم الحمد لله. ولكن ما وجبت الخشية منه أن يكون بعض تحليلنا وردود فعلنا لها هو الحفر الأصعب. وقد وقفت عند نظرات للمعلقين وعامة الناس خشيت أنها ربما عمقت الحفرة لأنها جانبت الصواب بسعيها تحميل الغزوة مشتهيات سياسية خاصة بهم.

    وجدت من يصف من استنكروا غزوة السبت بأنهم مصابون ب "الغضب التفضيلي" (selected rage)ومعنى هذا أن من أغضبهم هذا الغزو للخرطوم من حركة دارفورية هامشية لا يغضبون بالمثل لاستيلاء شماليين للحكم بانقلاب مثل انقلاب الإنقاذ. وهذا منطق فاسد. فلا يدري المرء متى سنكف عن الرد على انقلاب الانقاذ بانقلاب أو غزو بعد أن صار فينا لنحو عشرين عاماً ومرت مياه كثيرة ودامية تحت الجسر. فمهما يكن فقد تهيأت للبلاد منذ عهد نيفاشا وتوابعه فرصة لتجديد الحياة السياسية. وهي فرصة قبلها الإنقاذ صاغراً يجرر أقدامه نحوها جرجرة. والسبيل للجم نظام الإنقاذ دون غرائزه في الانفراد بالأمر ليس بإعادة إنتاج بداياته في خرق الدستور بل في حمله بلزوم هذه العهود عبر تحالفات سياسية ذات سند شعبي. فإذا لم تجتمع كلمة الأمة على نبذ العنف (في أشكاله جميعاً بما في ذلك نقض العهود من موقع الجاه) صرنا نستنسخ معارضتنا لانقلاب الإنقاذ من يوم ولد لا من حيث يخرق للعهود السياسية على أيامنا هذه. وهذه هي المعارضة بأثر رجعي. وهي في لغة السجون "تأبيدة" تسجننا في ما مضى وفات. ولن نصبح بمثل هذا النهج الثأري على المقبل كما قال عثمان دقنة. ومثل هذا التحليل الدبري لا يخدم غرضاً وهو بمثابة الحفر في الحفرة فتزداد عمقاً.

    ومن الحفر في الحفرة شكوى الناس من أن غفلة الأمن هي التي مكنت للعدل والمساواة اقتحام صحن الدار. ومع تقديري الشديد للناقدين للحكومة على هذا التهاون لأنه مرتبط ب "تولا" (ولا بد للحكومة من بيان على مآخذ الناس عليها من هذه الجهة) إلا إن الإلحاح عليه قد يوحي لنا بأن غزوة السبت هي عثرة أمنية فحسب يكون علاجها في مزيد من الأمن. ولا أعتقد أن هناك مزيد أمن بعد كل ما صرفناه على أجهزته. فلقد بلغنا من ذلك الغاية بل فوقها بكثير. وإذا تعثر أمننا في مثل واقعة السبت ولم يسعف إلا متأخراً صح أن ننظر في تقصي سبب الغزوة إلى سياسة الحكومة لا أمنها. فانشغالنا بأمن الإنقاذ دون مؤاخذة سياستها هو حفر في الحفرة. وهي سياسة معروف أنها قصيرة النظر ،خلو من حسن النية، في شأن دارفور. فهي مثلاً غشت في التحقيق في مقاتل الدارفوريين وفي منبر حوار الدارفوريين. بل يحتار المرء إن كان زمام الإنقاذ السياسي قد انفرط وأصبحت تكلها على أمنها حين أعيت الهموم الوطنية الثقيلة الحالية طاقمها السياسي المتناقص. فقد اشتكى السيد منى أركوى منذ أيام أن اتفاقية أبوجا ظلت ترواح مكانها منذ رحيل السيد مجذوب الخليفة.

    ومن باب خرق قانون الحفر هو استعذابنا القول إن أم درمان-الخرطوم حصينة وهي مقبرة الغزاة. وهو قول مريح وفيه عزاء ونخوة ولكنه غير مفيد على علاته. فمقارنة غزوة السبت بحادثة "المرتزقة" لعام 1976 فيها شطح. فالمرتزقة هي ثمرة نشاط لأحزاب مركزية مهما كان الرأي فيها متحالفة ضد نظام سياسي منها وفيها بينما غزوة السبت هي تعبير إقليمي. بل وهناك من يصفه بالإثنية. فقد أرادت الغزوة حمل مسألة دارفور إلى صحن دار السلطان: أي إلى الخرطوم حيث "محل الرئيس بينوم والطيارة بتقوم" كما قال خليل للأستاذة صباح أحمد. والغزوة ربما كانت بوجه من الوجوه سباق من العدل والمساواة لتبرهن للسودانيين والعالم قاطبة أنها الحركة التي عليها الرك في أي مفاوضات قادمة بعد أن تفرقت غريمتها حركة التحرير شيعاً. وقد قال الدكتور خليل إبراهيم لصباح "إن الحشاش سيملأ شبكته" حين سألته عن ميزانه وميزان الحركة. وربما كان وجه المقارنة القوي بين غزوة السبت و"مرتزقة" 1976 هو غلبة الدارفوريين بين جندها. ولهذا أصاب من حذر من العقلاء الحكومة والإعلام والناس عامة من التمادي في وصف دارفوريّ غزوة السبت ب "المرتزقة" و"الأجانب" وما يجره ذلك من عنصرية وانفلات وسوء في الأخاء السوداني لطويلة. فقد شذَّ نظام النميري المخلوع شذوذاً كبيراً حتى صار يميز المرتزق المزعوم من السوداني بالنظر إلى لهجته أو لغته في بلد يتحدث أهله 150 لساناً أو تزيد. وقد أوحت لي تلك الملابسات الظالمة بكتابة "الماركسية ومسألة اللغة في السودان" الذي صدر عن الحزب الشيوعي في 1977م.

    واستغربت لقول الأمدرمانيين أن مدينتهم حصينة. وكنت أظنهم كمشتغلين بكرة القدم قد استقوا الحكمة من شاخور الذي قال إنك متى أكثرت الشوت في المرمى أحرزت إصابة طال الزمن أو قصر. وقد ظل كل خصوم الإنقاذ يشوتون في قون الإنقاذ يريدون بلوغ الخرطوم - أم درمان. والله ما أراد. وفعلها خليل وحده في ملابسات إقليمية (وعالمية ربما). ولن تتحصن أم درمان إلا حين نتطهر تكتيكياً من خطة "حرب التحرير" الصينية التي يتعبأ بها الريف ضد المدينة الظالم أهلها حتى يقهرها. وجاءت بهذه الخطة الحركة الشعبية لتحرير السودان. وإن خامرت اليساريين طويلاً من مثل رفضهم لاتفاقية الحكم الذاتي لعام 1953 لأن الاستقلال لا يأتي إلا عن طريق فوهة البندقية أو جماعة القيادة الثورية التي دعت إلى مقاومة نظام عبود عسكرياً أو جماعة الجيفاريين. وقد خرج من أم درمان وغيرها نفر من اليساريين إلى الهامش يعبئونه ضد المدينة بعد يأسهم من حركة العمال والمزارعين والطلاب والمثقفين الوطنيين والرأسمالية الوطنية التي سددت لها النظم العسكرية (وتجاوزات الأحزاب لاستقلالها) ضربات مميتة أخرجتها من الحلبة السياسية فسادت العصب المسلحة بقواعدها الإثنية. ولضمان سلامة العاصمة حقاً ،لا زعماً، وجب أن نتخلص من سذاجة سياسية شائعة. فأنت تسمع من بعض من حملوا السلاح يبررون ذلك بقولهم إن الرئيس البشير هو الذي استفزهم وطالعهم فخرجوا له عراة حين جاءهم متحزماً. و"يطرشنا" لم نسمع عن التكتيك السياسي يفصل في مقاس استفزاز الخصم. فمثل هذه المبارزة الساذجة ميدانها بُطان الجعليين بالسوط لا ميدان السياسة.

    كانت غزوة السبت فاجعة. اللهم أرحم أموات المسلمين.ولكن سيفاقم من فجيعتها أن نضل في التحليل أو نتشفى به فيكون حفراً في حفرة نحن فيها بدلاً من يكون قنطرة إلى وطن متآخي تكون به نهاية الأحزان.

    مقال د ع ع ابراهيم بجريدة الراى العام 17 مايو 2008
                  

05-19-2008, 05:45 AM

mohmmed said ahmed
<amohmmed said ahmed
تاريخ التسجيل: 10-25-2002
مجموع المشاركات: 8788

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)

    كان أفندية الخرطوم في الستينات متى نعوا حظهم لميلادهم في بلد تعيس هو السودان قالوا :"السودان حفرة". ولم يلتزموا مع ذلك بقانون الحفر. وهو أنك متى وجدت نفسك في حفرة فتوقف عن الحفر. ولم يتوقفوا حتى توطنت حفرتنا فتوهطنا قرارها العميق. وحفر إيدك وغرَّق لك. وليس غزو حركة العدل والمساواة لام درمان قبل أيام سوى مخالفة خرقاء لقانون الحفر. فقد حفرت الحركة حيث ينبغي لها الكف عن الحفر وسوت فيها "ضراع".

    تفاءلت وأنا أقرأ للأستاذ عبد الله آدم خاطر قبل أيام عن اجتماع كلمة أهل الفنون على الصلح القومي بأمر الإبداع. فقد اتفقوا في طقسهم الأخير الذي أقاموه لنصرة دارفور على أن ما أصابنا بلاء ولا تكفه سوى بليلة الكرامة. ورأيت في ذلك مؤشراً على أننا بلغنا من الإعياء حداً أفقنا به إلى مصادر ثقافية أصلية للتعافي والتصالح مع أنفسنا من شرور أنفسنا. بل انتبهت عرضاً لقول الدكتور حسن الترابي في مؤتمر حزبه بمدينة سنار إنه قد عفا عمن أودعوه السجن وأنه ضد الانقلاب العسكري ما عاش. وقلت ربما كانت كلمة الترابي هي من باب التوقف عن الحفر.

    لقد وقعت واقعة السبت وغَرَّقت الحفر. والحمد لله ثم الحمد لله. ولكن ما وجبت الخشية منه أن يكون بعض تحليلنا وردود فعلنا لها هو الحفر الأصعب. وقد وقفت عند نظرات للمعلقين وعامة الناس خشيت أنها ربما عمقت الحفرة لأنها جانبت الصواب بسعيها تحميل الغزوة مشتهيات سياسية خاصة بهم.

    وجدت من يصف من استنكروا غزوة السبت بأنهم مصابون ب "الغضب التفضيلي" (selected rage)ومعنى هذا أن من أغضبهم هذا الغزو للخرطوم من حركة دارفورية هامشية لا يغضبون بالمثل لاستيلاء شماليين للحكم بانقلاب مثل انقلاب الإنقاذ. وهذا منطق فاسد. فلا يدري المرء متى سنكف عن الرد على انقلاب الانقاذ بانقلاب أو غزو بعد أن صار فينا لنحو عشرين عاماً ومرت مياه كثيرة ودامية تحت الجسر. فمهما يكن فقد تهيأت للبلاد منذ عهد نيفاشا وتوابعه فرصة لتجديد الحياة السياسية. وهي فرصة قبلها الإنقاذ صاغراً يجرر أقدامه نحوها جرجرة. والسبيل للجم نظام الإنقاذ دون غرائزه في الانفراد بالأمر ليس بإعادة إنتاج بداياته في خرق الدستور بل في حمله بلزوم هذه العهود عبر تحالفات سياسية ذات سند شعبي. فإذا لم تجتمع كلمة الأمة على نبذ العنف (في أشكاله جميعاً بما في ذلك نقض العهود من موقع الجاه) صرنا نستنسخ معارضتنا لانقلاب الإنقاذ من يوم ولد لا من حيث يخرق للعهود السياسية على أيامنا هذه. وهذه هي المعارضة بأثر رجعي. وهي في لغة السجون "تأبيدة" تسجننا في ما مضى وفات. ولن نصبح بمثل هذا النهج الثأري على المقبل كما قال عثمان دقنة. ومثل هذا التحليل الدبري لا يخدم غرضاً وهو بمثابة الحفر في الحفرة فتزداد عمقاً.

    ومن الحفر في الحفرة شكوى الناس من أن غفلة الأمن هي التي مكنت للعدل والمساواة اقتحام صحن الدار. ومع تقديري الشديد للناقدين للحكومة على هذا التهاون لأنه مرتبط ب "تولا" (ولا بد للحكومة من بيان على مآخذ الناس عليها من هذه الجهة) إلا إن الإلحاح عليه قد يوحي لنا بأن غزوة السبت هي عثرة أمنية فحسب يكون علاجها في مزيد من الأمن. ولا أعتقد أن هناك مزيد أمن بعد كل ما صرفناه على أجهزته. فلقد بلغنا من ذلك الغاية بل فوقها بكثير. وإذا تعثر أمننا في مثل واقعة السبت ولم يسعف إلا متأخراً صح أن ننظر في تقصي سبب الغزوة إلى سياسة الحكومة لا أمنها. فانشغالنا بأمن الإنقاذ دون مؤاخذة سياستها هو حفر في الحفرة. وهي سياسة معروف أنها قصيرة النظر ،خلو من حسن النية، في شأن دارفور. فهي مثلاً غشت في التحقيق في مقاتل الدارفوريين وفي منبر حوار الدارفوريين. بل يحتار المرء إن كان زمام الإنقاذ السياسي قد انفرط وأصبحت تكلها على أمنها حين أعيت الهموم الوطنية الثقيلة الحالية طاقمها السياسي المتناقص. فقد اشتكى السيد منى أركوى منذ أيام أن اتفاقية أبوجا ظلت ترواح مكانها منذ رحيل السيد مجذوب الخليفة.

    ومن باب خرق قانون الحفر هو استعذابنا القول إن أم درمان-الخرطوم حصينة وهي مقبرة الغزاة. وهو قول مريح وفيه عزاء ونخوة ولكنه غير مفيد على علاته. فمقارنة غزوة السبت بحادثة "المرتزقة" لعام 1976 فيها شطح. فالمرتزقة هي ثمرة نشاط لأحزاب مركزية مهما كان الرأي فيها متحالفة ضد نظام سياسي منها وفيها بينما غزوة السبت هي تعبير إقليمي. بل وهناك من يصفه بالإثنية. فقد أرادت الغزوة حمل مسألة دارفور إلى صحن دار السلطان: أي إلى الخرطوم حيث "محل الرئيس بينوم والطيارة بتقوم" كما قال خليل للأستاذة صباح أحمد. والغزوة ربما كانت بوجه من الوجوه سباق من العدل والمساواة لتبرهن للسودانيين والعالم قاطبة أنها الحركة التي عليها الرك في أي مفاوضات قادمة بعد أن تفرقت غريمتها حركة التحرير شيعاً. وقد قال الدكتور خليل إبراهيم لصباح "إن الحشاش سيملأ شبكته" حين سألته عن ميزانه وميزان الحركة. وربما كان وجه المقارنة القوي بين غزوة السبت و"مرتزقة" 1976 هو غلبة الدارفوريين بين جندها. ولهذا أصاب من حذر من العقلاء الحكومة والإعلام والناس عامة من التمادي في وصف دارفوريّ غزوة السبت ب "المرتزقة" و"الأجانب" وما يجره ذلك من عنصرية وانفلات وسوء في الأخاء السوداني لطويلة. فقد شذَّ نظام النميري المخلوع شذوذاً كبيراً حتى صار يميز المرتزق المزعوم من السوداني بالنظر إلى لهجته أو لغته في بلد يتحدث أهله 150 لساناً أو تزيد. وقد أوحت لي تلك الملابسات الظالمة بكتابة "الماركسية ومسألة اللغة في السودان" الذي صدر عن الحزب الشيوعي في 1977م.

    واستغربت لقول الأمدرمانيين أن مدينتهم حصينة. وكنت أظنهم كمشتغلين بكرة القدم قد استقوا الحكمة من شاخور الذي قال إنك متى أكثرت الشوت في المرمى أحرزت إصابة طال الزمن أو قصر. وقد ظل كل خصوم الإنقاذ يشوتون في قون الإنقاذ يريدون بلوغ الخرطوم - أم درمان. والله ما أراد. وفعلها خليل وحده في ملابسات إقليمية (وعالمية ربما). ولن تتحصن أم درمان إلا حين نتطهر تكتيكياً من خطة "حرب التحرير" الصينية التي يتعبأ بها الريف ضد المدينة الظالم أهلها حتى يقهرها. وجاءت بهذه الخطة الحركة الشعبية لتحرير السودان. وإن خامرت اليساريين طويلاً من مثل رفضهم لاتفاقية الحكم الذاتي لعام 1953 لأن الاستقلال لا يأتي إلا عن طريق فوهة البندقية أو جماعة القيادة الثورية التي دعت إلى مقاومة نظام عبود عسكرياً أو جماعة الجيفاريين. وقد خرج من أم درمان وغيرها نفر من اليساريين إلى الهامش يعبئونه ضد المدينة بعد يأسهم من حركة العمال والمزارعين والطلاب والمثقفين الوطنيين والرأسمالية الوطنية التي سددت لها النظم العسكرية (وتجاوزات الأحزاب لاستقلالها) ضربات مميتة أخرجتها من الحلبة السياسية فسادت العصب المسلحة بقواعدها الإثنية. ولضمان سلامة العاصمة حقاً ،لا زعماً، وجب أن نتخلص من سذاجة سياسية شائعة. فأنت تسمع من بعض من حملوا السلاح يبررون ذلك بقولهم إن الرئيس البشير هو الذي استفزهم وطالعهم فخرجوا له عراة حين جاءهم متحزماً. و"يطرشنا" لم نسمع عن التكتيك السياسي يفصل في مقاس استفزاز الخصم. فمثل هذه المبارزة الساذجة ميدانها بُطان الجعليين بالسوط لا ميدان السياسة.

    كانت غزوة السبت فاجعة. اللهم أرحم أموات المسلمين.ولكن سيفاقم من فجيعتها أن نضل في التحليل أو نتشفى به فيكون حفراً في حفرة نحن فيها بدلاً من يكون قنطرة إلى وطن متآخي تكون به نهاية الأحزان.

    مقال د ع ع ابراهيم بجريدة الراى العام 17 مايو 2008
                  

05-19-2008, 06:02 AM

mohmmed said ahmed
<amohmmed said ahmed
تاريخ التسجيل: 10-25-2002
مجموع المشاركات: 8788

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: mohmmed said ahmed)

    ((فمقارنة غزوة السبت بحادثة "المرتزقة" لعام 1976 فيها شطح. فالمرتزقة هي ثمرة نشاط لأحزاب مركزية مهما كان الرأي فيها متحالفة ضد نظام سياسي منها وفيها بينما غزوة السبت هي تعبير إقليمي. بل وهناك من يصفه بالإثنية. فقد أرادت الغزوة حمل مسألة دارفور إلى صحن دار السلطان: أي إلى الخرطوم حيث "محل الرئيس بينوم والطيارة بتقوم" كما قال خليل للأستاذة صباح أحمد. ))

    كعادته ينبرى د ع ع ابراهيم لانتهاز الفرص لتقديم الدعم والتبرير لنظام الانقاذ

    فاول ما يتبادر للذهن عندما نتابع هوجة اعلام الانقاذ عن الاحداث الاخيرة سؤال منطقى بسيط

    وهو ما الفرق بين ما حدث وبين احداث يوليو ضد نميرى
    يقفز د عبد الله على المشترك بينهما
    وهو
    الاستعانة بدول خارجية
    استخدام العنف المسلح

    ويفتش فى رقراق الاختلاف
    ويقول ان ما تم ضد النميرى قامت به قوى سياسية متحالفة
    هل هذه القوى تمثل كل الطيف السياسى السودانى وهل اذا نجحت فى استلام السلطة سوف تسمح للقوى السياسية الاخرى بحرية العمل

    تبريرات كثيرة جادت بها قريحة قادة الانقاذ لتفادى المقارنة بين ما قاموا به وما قامت به حرحة العدل والمساواة كلها غير مقنعة ولا تصمد امام القراءة الفاحصة
    ولكن د ع ع ابراهيم يظن انه الاكثر ذكاء
    فى بحثه عن ما يبرر لهذا ويدين لذاك
                  

05-19-2008, 06:02 AM

mohmmed said ahmed
<amohmmed said ahmed
تاريخ التسجيل: 10-25-2002
مجموع المشاركات: 8788

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: mohmmed said ahmed)

    ((فمقارنة غزوة السبت بحادثة "المرتزقة" لعام 1976 فيها شطح. فالمرتزقة هي ثمرة نشاط لأحزاب مركزية مهما كان الرأي فيها متحالفة ضد نظام سياسي منها وفيها بينما غزوة السبت هي تعبير إقليمي. بل وهناك من يصفه بالإثنية. فقد أرادت الغزوة حمل مسألة دارفور إلى صحن دار السلطان: أي إلى الخرطوم حيث "محل الرئيس بينوم والطيارة بتقوم" كما قال خليل للأستاذة صباح أحمد. ))

    كعادته ينبرى د ع ع ابراهيم لانتهاز الفرص لتقديم الدعم والتبرير لنظام الانقاذ

    فاول ما يتبادر للذهن عندما نتابع هوجة اعلام الانقاذ عن الاحداث الاخيرة سؤال منطقى بسيط

    وهو ما الفرق بين ما حدث وبين احداث يوليو ضد نميرى
    يقفز د عبد الله على المشترك بينهما
    وهو
    الاستعانة بدول خارجية
    استخدام العنف المسلح

    ويفتش فى رقراق الاختلاف
    ويقول ان ما تم ضد النميرى قامت به قوى سياسية متحالفة
    هل هذه القوى تمثل كل الطيف السياسى السودانى وهل اذا نجحت فى استلام السلطة سوف تسمح للقوى السياسية الاخرى بحرية العمل

    تبريرات كثيرة جادت بها قريحة قادة الانقاذ لتفادى المقارنة بين ما قاموا به وما قامت به حرحة العدل والمساواة كلها غير مقنعة ولا تصمد امام القراءة الفاحصة
    ولكن د ع ع ابراهيم يظن انه الاكثر ذكاء
    فى بحثه عن ما يبرر لهذا ويدين لذاك
                  

05-19-2008, 06:02 AM

mohmmed said ahmed
<amohmmed said ahmed
تاريخ التسجيل: 10-25-2002
مجموع المشاركات: 8788

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: mohmmed said ahmed)

    ((فمقارنة غزوة السبت بحادثة "المرتزقة" لعام 1976 فيها شطح. فالمرتزقة هي ثمرة نشاط لأحزاب مركزية مهما كان الرأي فيها متحالفة ضد نظام سياسي منها وفيها بينما غزوة السبت هي تعبير إقليمي. بل وهناك من يصفه بالإثنية. فقد أرادت الغزوة حمل مسألة دارفور إلى صحن دار السلطان: أي إلى الخرطوم حيث "محل الرئيس بينوم والطيارة بتقوم" كما قال خليل للأستاذة صباح أحمد. ))

    كعادته ينبرى د ع ع ابراهيم لانتهاز الفرص لتقديم الدعم والتبرير لنظام الانقاذ

    فاول ما يتبادر للذهن عندما نتابع هوجة اعلام الانقاذ عن الاحداث الاخيرة سؤال منطقى بسيط

    وهو ما الفرق بين ما حدث وبين احداث يوليو ضد نميرى
    يقفز د عبد الله على المشترك بينهما
    وهو
    الاستعانة بدول خارجية
    استخدام العنف المسلح

    ويفتش فى رقراق الاختلاف
    ويقول ان ما تم ضد النميرى قامت به قوى سياسية متحالفة
    هل هذه القوى تمثل كل الطيف السياسى السودانى وهل اذا نجحت فى استلام السلطة سوف تسمح للقوى السياسية الاخرى بحرية العمل

    تبريرات كثيرة جادت بها قريحة قادة الانقاذ لتفادى المقارنة بين ما قاموا به وما قامت به حرحة العدل والمساواة كلها غير مقنعة ولا تصمد امام القراءة الفاحصة
    ولكن د ع ع ابراهيم يظن انه الاكثر ذكاء
    فى بحثه عن ما يبرر لهذا ويدين لذاك
                  

05-19-2008, 06:50 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: mohmmed said ahmed)



    عرمان محمد احمد

    يكشف الدكتور "عبد الله علي عبد الله" في مقاله الكثير المخفي كعادته، ويذكرني بقول ابن ابي سلمي "ومها تكن عند امرئ من خليقة وان خالها تخفي علي الناس تعلم" حيث يقول :

    "وزاد الفكر الجمهوري في جفائه لهذا التقليد الشرعي بجعله هدفاً لحملات نقد وتنقيص. وقد كتبت مرة في جريدة الميدان السرية في منتصف السبعينات التمس من الجمهوريين أن يلطفوا عبارتهم في نقد القضاة مع علمي بمحنة الجمهوريين وما نالهم من القضاة و الوعاظ في المساجد من أذى وترويع. ومغاضبة الجمهوريين لم تقع من جهة احسان ذلك التقليد الشرعي أو اساءته بل من إرث مواجهة سياسية راجعة الى ايام الحركة الوطنية. فقد صنف من ظنوا في انفسهم مجاهدة الاستعمار من امثال المرحوم محمود القضاة الشرعيين والاعيان وزعماء القبائل والطوائف بأنهم من اعوان الاستعمار. وهذا كلام جاز طويلاً غير أنه خاضع للنظر والمراجعة الآن. ويكفي أن تقرأ ما كتبه الدكتور حسن احمد ابراهيم عن السيد عبدالرحمن المهدي لكي تتشكك في صواب هذه الذائعة عن أولئك الرجال. وقد دق حكم المحكمة الشرعية بردة المرحوم محمود محمد طه، عليه الرحمة، في 1968 إسفين الخصومة بين القضاة والمرحوم واختلط حابل تطوير الشريعة بعاديات السياسة وأطوارها وبمنطويات النفوس."

    · يقول الدكتور والشيوعي السابق عبد الله علي ابراهيم :

    " فقد صنف من ظنوا في انفسهم مجاهدة الاستعمار من امثال المرحوم محمود القضاة الشرعيين والاعيان وزعماء القبائل والطوائف بأنهم من اعوان الاستعمار"

    وحديث الاستاذ محمود محمد طه عن القضاة الشرعيين الذي كان يعتبره بعض الرفاق "قاسيا" ولا يخلو من " منطويات النفوس" حسبما ورد في اشارة الدكتور عبد الله وكشفه عن الحديث المكتوب في عدد الميدان "السري " وطلب الكاتب الشيوعي آنذاك من الجمهوريين

    " ان يلطفوا" من عباراتهم في مخاطبة القضاة الشرعيين قد جاء في بيان صدر عقب حكم محكمة الردة في عام 1968 ومما قاله الأستاذ في مواجهة اصحاب حملات النقد والتنقيص التي كانت اتتهمه بالردة :

    "انتم اذل واخس من ان تطمعوا في، فلقد كنت اقوي واصلب من قاوم الإرهاب الإستعماري في هذا البلد، حين كنتم انتم تلعقون جزم الإنجليز.. واما اعلانكم ردتي عن الاسلام فما اعلنتم به غير جهلكم الشنيع بالاسلام وسيري الشعب ذلك مفصلاً في حينه"!!..

    · ويبدو لي ان الذي كان يضايق الشيوعيين و ربما لايزال هو قول الأستاذ:

    "فلقد كنت اقوي واصلب من قاوم الإرهاب الإستعماري في هذا البلد ".. وذلك لأنهم قوم يحبون "احتواء" كل المواقف المشرفة، والأشياء الجميلة ونسبتها لأنفسهم، بما في ذلك مقاومة الأستعمار والحكم الدكتاتوري والدفاع عن حقوق الإنسان،.. وهم في ذلك " يحبون ان يمدحوا بما لم يفعلوا" ويؤذيهم كثيراً ان ينال ذلك الشرف غيرهم، في الميدان السياسي، ممن ليس بوسعهم احتوائه .. وقد كتب الدكتور "عبد الله علي عبد الله " مقالة شيقة ساعمل علي نشرها في الصالون حول اسلوب الشيوعيين فيما اسماه " تسفيه" آراء و مواقف من يظنونهم من منا فسيهم او معارضيهم او اعدائهم.

    · و لعلهم من اجل ذلك كانوا يحاولون تصوير مقاومة الأستاذ محمود للإستعمار، والتي تجلت بوضوح في ثورة رفاعة، علي اساس انها لم تكن سوي دفاع عن عادة "الخفاض الفرعوني" كما ذهب الي ذلك المؤرخ الشيوعي المعروف الدكتور القدال، وغيره ممن تربطهم علاقة بالحزب الشيوعي في المضي والحال، وهو امر لم يجر من كل هؤلاء علي سبيل المصادفة !! .. وقد اشرت من قبل الي ان الأستاذ محمود محمد طه طلب من الدكتور القدال في حياته، تصحيح معلومة تاريخية هامة، اوردها في كتابه
    بصورة خاطئة وتخلو من المسئولية العلمية
    .. وهي ان الجمهوريين في ثورة رفاعة لم يكونوا يدافعون عن عادة الخفاض الفرعوني، وانما كانوا يحاربون المستعمر..

    · وانا اعتقد ان مايجب ان تعرفه الأجيال الجديدة، هو ان ثورة رفاعة كانت مقاومة حقيقية للإستعمار، و مقالة الدكتور خالد المبارك التي حولتها من قبل للإخوان وطلبت منا قشتها، وتصدي الاخوان خالد الحاج وعمر القراي وياسر الشريف وطه ابو قرجة لها بالرد، قد اتاحت فرصة كبيرة لإلقاء المزيد من الأضواء علي هذا الامر .. ولا تزال هناك حاجة لتوضيح ان تلك الثورة ً كانت ايضا دفاعاً عن حقوق المراة السودانية، وليس انتهاكاً لها كما ذهب الي ذلك الدكتور "محمد احمد محمود" في بحثه المنشورة في احدي الدوريات العلمية، مع ان الدكتور محمد احمد محمود " صديق" للجمهوريين وقد جاء في الكتاب المقدس " اللهم احمني من اصدقائي، اما اعدائي فأنا كفيل بهم"!!


    · و القول بأن "القضاة الشرعيين والاعيان وزعماء القبائل والطوائف كانوا من اعوان الاستعمار " هو في الحقيقة قول و رأي الشيوعيين الحقيقي في هؤلاء.. وهو الرأي الذي يحاولون الأزورار عنه في عهد " نقد" المعروف بتملقه للطائقية.. وساتعرض لهذا الامر في مقال جديد تحت الاعداد الآن بعنوان "السيد نقد يخترع التاريخ".. وسابين كيف يحاول زعيم الشيوعين المختفي الآن كتابة تاريخنا من "الخيال" بدلاً عن "الذاكرة" لخدمة اغراض سياسية ساذجة ..

    ليتك يا اخ عبد الله عثمان تجد لنا نسخة من عدد "الميدان السري " الذي اشار اليه الدكتور "عبد الله علي "..اما موضوع فاطمة احمد ابراهيم وصراعاتها الحالية مع رفيقاتها وغيرهن، و التي صارت تقحم فيها "التقاليد والدين والعرض والشرف" علي طريقة الشيوعيين واساليبهم المعروفة، فموضوع آخر ولا اظنه يستحق ان نخوض فيه الآن..!!

    عرمان محمد احمد



    راجع :

    مقال د. القراي في الرد علي د. محمد احمد محمود

    http://www.omdurman1.com/Elagaqrrarticle1.htm

    حول نقد وكمال الجزولي والطائفية انظر
    http://www.alsaloon.org/forum/viewtopic.php?t=637
                  

05-24-2008, 02:00 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)
                  

05-24-2008, 08:08 PM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عبدالله على إبراهيم: أهى فتنة؟؟ (Re: عبدالله عثمان)


    شيبون وصلاح أحمد إبراهيم: حصارُ الشائعات والاتهامات..! (8)
    خالد أحمد بابكر

    (لغدر (أنانسي) أغني
    لمجد الخداعِ لؤم الطباع،
    له ولمستسلم بانصياع
    أغني كمال الجريمة)
    (صلاح أحمد إبراهيم)

    نُسجت حول شيبون حكايات فاقت ما نسجه زهير لهرم بن سنان. ودُبِّجت بحقه شائعات مغرضة كان هدفها الحطُّ من قدره وتشويه صورته. فمن الحكايات العجيبة ما قيل عن علاقته العاطفية بزميلة أخته التي كانت في الكُتّاب يومذاك – بحسب الأستاذ محمد خير حسن سيد أحمد. وقد أسفت كثيراً لما أورده صديقنا الدكتور عبد الله علي إبراهيم في هذا الشأن، فهو قد انتهى إلى أن شيبون: «عشق صبية في عمر أخته. أحبها وأحبته. وقد كانت تزورهم لماماً متصنعة صداقتها لأخته.. فهي تأتي إليه ضمناً ولأخته معنى». ويضيف أن الصبية أخيراً تركته، ولما لم يحتمل، انتحر... لا ندري من أين جاء د. عبد الله علي إبراهيم بهذه الترهات التي لا تحمل أدنى صلة بمن هو في مقامه وعلمه. فهو لم يبيّن حتى مصدر هذه الحكاية ولم ينسبها للشخص الذي أخذها عنه. وهذا هو المنهج الذي سبق ووصفناه بالتدليس والتحريف في الوقائعية التاريخية.
    لقد ذكر الأستاذ محمد خير سيد أحمد (زميل شيبون) في إفادته لنا بأن رواية د. عبد الله حول علاقة شيبون بزميلة أخته محض افتراء. وقال بأن شيبون لم تكن له علاقة عاطفية بهذه الصبية بتاتاً، وهو يعلم ذلك أكثر من غيره. وأشار إلى أنه في مرة وجد شيبون يكتب رسالة، فداعبه قائلاً: أهي رسالة رومانسية؟ قال: فغضب شيبون غضباً تغيرت من فرطه ملامحه ولم يكلمه إلا بعد أن اعتذر له وأخبره بأنه يمازحه. فقال له شيبون أنا لست من هذا النوع الذي يمارس الرومانسيات. فهل في مثل هذه الحال يصح أن نأخذ بمن كان موجوداً وقريباً من شيبون – كالأستاذ محمد خير؟ أم نأخذ بروايات سماعية يتناقلها الناس أينما وجد محرِّف ومؤتفك ومنصاع، وربما لا تربطهم أدنى معرفة بشيبون؟. وهناك من يحتج على وجود هذه العلاقة (المتوهمة) بقصيدة لشيبون يقول في مقطع منها: (صدري وصدرك للرصاص وللفداء). وهي أيضاً لا تصلح حجة لإثبات هذه العلاقة. فكم من الشعراء خاطبوا فتيات في خيالهم، لم يكن لهن وجود واقعي في الحياة.
    هنالك شواهد كثيرة تدل على تجنب الدكتور عبد الله علي إبراهيم لرواية من كانوا شهوداً أوان انتحار الشاعر. فهو – على سبيل المثال – تجاهل الأخذ برواية الأستاذ محمد خير سيد أحمد فيما رواه عن واقعة الانتحار!. فقد قال د. عبد الله (الرأي العام 17/6/ 2007م): « ومع ذلك، فهناك رواية عن الواقعة استبعدتها على بلاغة وأسر شحنتها اللغوية. فقد قال محمد خير إن أخت شيبون كانت مع والدتها حين وجدت ابنها معلقاً من مرن الحمام. وقال إن الأم جرت نحو شباك الحمام بعد أن أعياها فتح الباب. وكان الشباك مغطّى بسلك (نملي) رفيع. واندفعت الأم نحو الشباك ومزقت سلك (النملية) كأنها تريد أن تدخل على ابنها من الشباب. وهنا صاحت الأخت الصبية: لكن ما قطعتي نملية الحكومة يا يمة». ونحن نسأل لماذا استبعد الدكتور عبد الله علي إبراهيم رواية محمد خير – مع أنه قال ببلاغتها وأنها تحمل شحنة آسرة؟ فهل هاتان الصفتان كفيلتان بالقدح في هذه الرواية؟ أم ماذا يرمي من وراء استبعاده لها؟
    مثلما حوصر شيبون بالشائعات والاتهامات المغرضة، فإن صديقه صلاح أحمد إبراهيم فُعل به فعلاً شنيعاً، حين اختلق المرحوم عمر مصطفى المكي حكاية (بيت الإيجار) الذي زعم أن صلاح استأجره لجوغته. وأن ذلك البيت (المزعوم) شهد ما شهد من مظاهر التبذُّل!، يقول في (الصحافة 30/7/ 1968م): « بيت العباسية يا صلاح أحمد إبراهيم الذي أجرته وسكنت فيه منفرداً عازلاً نفسك عن أسرتك – هل كان مخصصاً (للاختلاط بالعمال).. للعمل الثوري.. للفكر والنضال؟ هل ما شهده ذلك البيت من مظاهر التبذُّل يصلح للنشر؟». وذهب عمر مصطفى المكي أبعد من ذلك، حيث وصف اسم صلاح بالملوّث، وأنه شريد انحرافاته وأسير أحقاده، يقول:« أنا لا أريد أن أقول لك يا صلاح أحمد إبراهيم أنك لست من الرجال الذين يبيحون لأنفسهم التطاول على عبد الخالق محجوب أو على أي واحد من المناضلين الشرفاء في هذا البلد.. إن مجرد الربط بين اسمك الملوّث واسم أي واحد منهم هو تجن على الفكر والأخلاق والقيم الثورية.. ولا أريد أن أقول لك يا صلاح أحمد إبراهيم أنك تسكن بيتاً من الزجاج ولا يحق لك أن تقذف الرجال بالحجارة فمن بيوت الزجاج ما يستعصي على الحجر وحتى على الرصاص.. إنك يا صلاح إنسان في العراء بلا بيت.. بلا مأوى.. وستظل هكذا شريد انحرافاتك.. وأسير أحقادك.. طريد القيم إلى يوم نهايتك، وهو ذلك اليوم الذي تنزل فيه إلى مستوى قدرك الحقيقي في موازين الرجال.. وفي موازين المفكرين والثورين.. وهو المستوى الذي سنضعك فيه مهما كان إصرارك على الجدل وعلى المكابرة وعلى لوي عنق الحقائق والتجني على التاريخ وعلى أقدار الرجال».
    هذه الشتائم المقذعة جاء بها المرحوم عمر مصطفى المكي ليصرف الناس عن جوهر الموضوع الذي تناوله صلاح أحمد إبراهيم حين انتقد قيادة الحزب الشيوعي وطالب بالنقد ومحاسبة القيادة على الأخطاء التي ارتكبتها في حق الحزب. وقد رد صلاح على عمر في كلمته (عمر.. وحديث الإفك) في (الصحافة 31/8/ 1968م)، واستهل حديثه ببيت لأحمد شوقي:
    نحن اليواقيت خاض النار جوهرها
    ولم يهن بيد التشتيت غالينا
    لولا اشتعال النار فيما جاورت
    ما كان يعرف طيب نفح العود
    وأورد صلاح في رده رسالة كتبتها أخته الكبرى رداً على افتراءات عمر لأنها صاحبة البيت المذكور:« يقول مسيلمة النجاركوك (بيت العباسية يا صلاح أحمد إبراهيم الذي أجّرته وسكنت فيه منفرداً عازلاً نفسك عن أسرتك الخ..) حتى قوله (وهل ما شهده ذلك البيت من مظاهر التبذل يصلح للنشر؟) كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولوا إلا كذباً. أي مظاهر التبذل شهده ذلك البيت وأين هو إن لم يكن وسط أهلي وأقاربي وأهل حيي وجدرانه من القِصَر بحيث يمكن للجيران أن يشهدوا كل ما يجري فيه، ويقفز إلى داخله أعضاء نادي العباسية الثقافي – جيراني من الجهة الأخرى – لأخذ كرة (الفولي) دون استئذان. عضو اللجنة المركزية والمكتب السياسي – يا للعار – يكذب وكأنه وَلَد في الكُتّاب. حقاً إن صاحب الحاجة أرعن. والغرض مرض. والمضطر يركب الصعب ولأمرٍ ما جدَعَ قصيرٌ أنفه. فانتهازية عمر كما أسلفت القول انتهازية مكينة لن تزايله حتى يدخل البكماء ويهجم الدود على الدود. لقد ألحت أختي الكبرى – وهي أم مثالية – لتسع كبراهم بالجامعة – وهي بجانب ذلك ذات نشاط ملحوظ في الاتحاد النسائي بودمدني – أن أنشر لها الكلمة التالية بعنوان للحقيقة والتاريخ يا سيد عمر مصطفى تقول له: أولاً هدئ زوبعتك وخفف من غبارك الذي أثرته وملأته قاذورات تزكم الأنوف. يا أستاذ عمر إن المنزل الذي تدعي، امتداد لمنزل الأسرة ولا يبعد عن منزل والديه سوى أقدام معدودة وكل معيشته معهم ابتداء من شاي الصباح وذلك فقط لضيق المحل بمنزل الوالدين الذي لا يسع كُتُب صلاح ولا هو مريح لكتاباته إذ ما به زيادة سوى غرفة واحدة وحتى هذه حركتها مستمرة ولا سبيل للراحة فيها. لذا يسكن صلاح بمنزلنا الآخر ومعه بعض أفراد الأسرة في أغلب الأوقات وليتك قمت بزيارة لذلك المنزل المفترى عليه لترى الكتب المبعثرة التي بمنزل صلاح عسى أن تجد بينها بعض الكلمات المهذبة التي تصلح لمقارعة الحجة لمبارزة خصومك في الرأي مبارزة عفة يستفيد منها القارئ. كما يجب أن تتحرى الحقائق قبل أن تكتب».
    في سياق آخر، كان الأستاذ صلاح أحمد إبراهيم قد تحدث في (الصحافة 23/7/ 1968م) عن جرأته في قول الحق، فهو القائل:« في مخطط عملي أن أعرض للناس التجارب التي مررت بها في حياتي ولا أخالني أقل جرأة في قول الحق حتى على نفسي من (أندريه جيد) مثلاً». لكنّ هذا القول لم يعجب عمر مصطفى المكي واعتبر صلاحاً لا يشبه نفسه إلا بالعمالقة، حيث انتهى به القول في كلمته (بطاقة مبارزة – الجولة الثانية) في (الصحافة 30/7/ 1968م):« إنّ المارشال حتى في اعترافاته النصفية لا يشبه نفسه إلا بالعمالقة.. بالكبار الذين وضعوا لبنة في بناء الفكر.. إنه واحد منهم!! وأخطاؤه لا تشبهها إلا أخطاؤهم واعترافاته لا تشبهها إلا اعترافاتهم!! وأكثر من ذلك.. أن صلاح أحمد إبراهيم يناقش علناً – وعلى عينك يا تاجر – في مجالسه الخاصة فيقارن نفسه بـ (أوسكار وايلد)!! وأنا لا أريد أن أضيع وقت القارئ في مقارنة بين القيمة الأدبية لأوسكار وايلد والقيمة الأدبية لصلاح أحمد إبراهيم لأن في هذا تجنياً على الأدب لا أقترفه». عندي أن ما رمى إليه المرحوم عمر مصطفى المكي يبدو واضحاً من حيث ظلمه الفادح لأديب كبير وشاعر مجيد في قامة صلاح أحمد إبراهيم. وهذا شأن الخصومة السياسية، فصلاح – مهما قيل فيه - لا يقل قدراً عن أولئك الكبار، وإن غمطه خصومه حقه.
    وجاء عند صلاح في معرض الرد على عمر مصطفى المكي (الصحافة 31/8/ 1968م) قوله:« ويسوء مسيلمة النجاركوك أنني أحاول الإقتداء والتشبه بالقمم وهذا يعكس صغر نفس (الدخان الذي يعلو بنفسه إلى طبقات الجو وهو وضيع) فمن غيرهم أحاول الإقتداء والتشبه يا نجاركوك؟ لماذا تنفس على صلاح إن لم يحاول أن (يشبه نفسه إلا بالعمالقة.. بالكبار الذين وضعوا لبنة في بناء الفكر.. إنه واحد منهم (على حد قولك). ألم يقل شاعرنا العربي (وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم). ألم يأتِ في التعاليم الموجهة للملك (مري كارع) من بردية ليننجراد:«أنسج على منوال آبائك السالفين الذين سبقوك. أنظر! إن كلماتهم لا تزال خالدة تنبض بالحياة فيما خلفوه من كتب. افتح الكتاب واقرأ ما فيه واستفد بعلم أجدادك واتبع تعاليمهم يصبح المرء عالماً حكيماً مثلهم».. وأنت بمن تحاول أن تشبه نفسك يا نجاركوك بعد أن أشحت وجهك عن العمالقة و(الكبار) الذين وضعوا لبنة في بناء الفكر.. بالرفيق (بيريا) مثلاً؟ بالرفيق راشد؟».
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 2:   <<  1 2  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de