ردا على عبد الرحمن الزومة ... قبح العلمانية ام شرور الاخوان المسلمين ....؟

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-27-2024, 03:42 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة معالى ابوشريف (الكيك)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
04-24-2008, 10:53 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ردا على عبد الرحمن الزومة ... قبح العلمانية ام شرور الاخوان المسلمين ....؟ (Re: الكيك)

    العَلمانية ليست كفرًا


    فريدة النقاش
    2006 / 7 / 1


    نجح خصوم الديمقراطية وبخاصة تيارات الإسلام السياسي بمختلف اتجاهاتها في تشويه العَلمانية ومحاصرة معانيها والأفكار والتاريخ الطويل الذي ارتبط بها، وفعلوا ذلك حين قرنوا بينها وبين الكفر والإلحاد رغم أنهم يعلمون جيدا أن هناك ملحدين كثيرين ليسوا علمانيين، وأن هناك علمانيين ليسوا ملحدين، ويعلمون أيضا أن الإلحاد ينتمي إلى ميدان الفلسفة وأنه وجد مبكرا جدا في تاريخ البشرية حتى قبل عصر الديانات؛ ويعلمون أيضا أن العلمانية تنتمي إلى ميدان الفكر السياسي، وأننا إذا شئنا تقديم تعريف مبسط لها فسوف نقول إنها فصل الدين عن السياسة والدولة وليس فصله عن المجتمع والحياة. ذلك أن الدولة الدينية هي بالضرورة دولة استبدادية ليس فقط لأن هذا هو التاريخ الذي عرفناه عن الدولة الدينية سواء كانت تلك التي هيمنت عليها الكنيسة في التاريخ الأوروبي في العصور المظلمة، أو كانت دولة الخلافة الإسلامية التي كانت دولة استبداد وفساد في غالبية عهودها وكانت سنوات العدل والشورى والرحمة فيها هي الاستثناء والنشاز.
    ليس لهذه الأسباب التاريخية فقط، ويصبح فصل الدين عن الدولة ضرورة وإنما أيضا لأسباب فكرية عميقة هي جوهر السلطة الدينية، أي الدولة الدينية تتخلص هذه الأسباب في حقيقة أن النظرة الدينية للعالم تستبعد الآخرين عامة، لأنها هي التي تمتلك الحقيقة المطلقة ولابد أن تأتي بكل الآخرين علي أرضها لأنهم ضالون، وما سعيها لحاقهم بها إلا عملية إنقاذ لأرواحهم الهائمة في عالم الضلال، وتصحيح لمسارهم في الدنيا والآخرة.
    لذلك حين تتأسس دولة علي هذه الرؤى والأفكار والمفاهيم فإنها تخاصم الديمقراطية والتعددية من حيث المبدأ، إذ إن الديمقراطية والتعددية تبقي مفاهيم غريبة علي أساسها وبعيدة عنها كل البعد. ولم يكن أحد زعماء الجبهة الإسلامية للإنقاذ مخطئا حين قال عشية بوادر نجاح الجبهة في الانتخابات التشريعية في الجزائر مطلع التسعينيات: إنها الديمقراطية لمرة واحدة لأن الديمقراطية قرينة الإلحاد وهي قيمة مستوردة من الغرب، ولذلك فإن مطلب تداول السلطة كمطلب ديمقراطي أصيل وركن من أركان الديمقراطية يظل بدوره مطلبا غريبا علي الإسلاميين، فمع من سوف يتداول السلطة هؤلاء الذين يملكون الحقيقة الإلهية ويتحدثون باسم الله ويقيمون شرعه علي الأرض؟ إن مجرد احتمال أن يقضي مثل هذا التداول إلي تغيير الحكومة التي تتحدث باسم الله وتنتمي لدولة لها دينها سيكون عدوانا أثيما علي شرع الله الذي تقيمه هذه الحكومة.
    كذلك فإن النظرة الدينية للعالم وللعلاقات الاجتماعية ولصراع الأفكار والرؤى وهو صراع دائر رغم كل تحوطاتها ترفض من حيث المبدأ مسألة الحوار، وتضع الطاعة الكاملة لأولي الأمر في مكانه، سواء كان أولو الأمر يتربعون علي عرش الحكومة أو الحزب أو المؤسسة أي أن هناك خصومة ضمنية مع العقلانية التي تتعامل عادة مع بدائل هي بنت الحوار والصراع والعقل النقدي الحر، ذلك العقل الذي يطرح الأسئلة علي الوجود والكون والعلاقات الاجتماعية وعلاقة الفرد بالجماعة وبخالقه وحينه يرفض دعاة الدولة الدينية القول بأن علاقة الإنسان بالله هي مسألة شخصية تخص كل فرد على حدة وهو مسئول عنها طبقا للأقوال الشعبية التي تتضمن حكمة عميقة واحتراما أصيلا لحرية الفرد: كل واحد متعلق من عرقوبة أو رب الكل يحاسب الكل- حين يرفضون هذه الرؤية المنفتحة التي أستطيع أن أسميها عَلمانية فطرية إنما يتطلعون للتوسط بين البشر وإلههم فيصبحون هم المرجع المعتمد، وكم أفضى مثل هذا التوسط القسري إلى مآس وعنف وقتل ودماء على مدار التاريخ، وارتكب كل هذه الأفعال الوحشية من فوضوا أنفسهم متحدثين باسم الله ونوابا عنه وأوصياء علي البشر في دينهم ودنياهم في ملبسهم ومأكلهم وطريقة تفكيرهم وخياراتهم كافة باعتبار أن الإسلام دين ودينا كما يقولون.
    ولذا كله لا بد من تشويه الفكرة العلمانية التي تتجنب المطلق، وتبقي في مجال النسبي، وتفكر في النسبي بما هو نسبي، وتؤمن أنه لا سلطان على العقل الإنساني إلا العقل ذاته. ويبقي إيمان الإنسان بربه شأنا خاصا بينهما. ولم تكن العلمانية لا لدى نشأتها ولا في مسار تطورها تشترط الإلحاد أو تبشر به إلا فيما ندر بين بعض فلاسفة التنوير في صراعهم ضد الكنيسة.
    لكن، ولأن الذين يرتبون لهذه الحملات ضد العلمانية يدافعون عن مصالح هائلة يحيمها الاستبداد المدني والديني، تعمدوا أن يلمسوا هذا الوتر الحساس لدى المؤمنين، بل ونقلوا معركتهم حول الكفر والإيمان والدولة الدينية والدولة العلمانية من ساحة الفكر والجدل الديني إلي ساحة البسطاء والفقراء ليحشدوا جمهورا ضد الفكرة العلمانية وأساسها الديمقراطي العقلاني وكونها شرط أساسي للمواطنة الحقة وللتعايش الخلاق علي أساس الاحترام المتبادل بين الديانات جميعا.
    لذلك يتعين علي دعاة العلمانية أن يخوضوا معركة الدفاع عنها في الأوساط الشعبية وبين المؤمنين مسيحيين ومسلمين ليمزقوا تلك الستر الزائفة السوداء التي ألقي بها مغرضون على الفكرة العلمانية والدولة العلمانية التي هي دولة كل المواطنين بصرف النظر عن الجنس أو اللون أو العقيدة وليست دولة المؤمنين بالإسلام وحده، وهي أصلا لا تنهض علي الإيمان إنما على المواطنة.
                  

04-27-2008, 09:13 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ردا على عبد الرحمن الزومة ... قبح العلمانية ام شرور الاخوان المسلمين ....؟ (Re: الكيك)

    العدد رقم: 881 2008-04-27

    حديث المدينة
    أصحى.. يا بريش..!!

    عثمان ميرغني
    كُتب في: 2008-04-27

    [email protected]


    سألني باحث بريطاني يزور السودان هذه الأيام.. سؤالا افتراضيا جديراً فعلا بالإجابة المتأنية العميقة.. قال لي ( اذا افترضنا ان أحد أعضاء الحركة الإسلامية في السودان نام في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي.. ولم يستيقظ إلا الآن.. ثم سار في الشوارع وقرأ الصحف وتأمل في المجتمع والدولة.. دون أن يقدم له أي فرد مساعدة للتعرف على ما تغير خلال العشرين سنة الماضية.. فهل يستطيع ان يعرف أن الأمور كلها خلال فترة نومه كانت تخضع لحكم جماعته..؟؟)
    قلت له.. ولو أُعطي (خيارات!!) فلن يستطيع تخمين الإجابة الصحيحة..
    سأتقمص السياق الافتراضي الذي اختاره الباحث البريطاني.. وأتصور أن هذا الرجل ( وربما يكون من قيادات الحركة الإسلامية).. وبعد ان استيقظ..اول ما فعله وبكل شوق ولهفة أن ذهب الى منزل (الشيخ!) حسن الترابي.. وجلس في طرف الصالون بكل هدوء يسمع تصريحات وتحليلات الشيخ للأوضاع.. وكأني بهذا الرجل الذي استيقظ من منامه يقول في قرارة نفسه.. وهو يسمع لكلام الشيخ الترابي..( إذن لقد فعلها الشيوعيون.. !!).. ثم واذا به وهو راجع (بالمواصلات طبعا).. بشارع أفريقيا وجوار مدخل المطار.. تكاد تربكه الدهشة.. وهو يكمل الجملة (.. ويصَّلون..الشيوعيون !!).
    وربما وقع في حيرة ودهشة اهل الكهف.. حينما قالوا لأحدهم أذهب بورِقِنا هذا فلينظر أيّها أزكى طعاما.. فقدم ورقه (العملة) للتجار فنظروا اليه وسألوه من أي عهد تاريخي سحيق هبط..
    المعايرة القياسية التي طلبها الباحث البريطاني للفرق بين النظرية والتطبيق.. تحتاج اولا وقبل الغوص فيها الى استنباط وحدة القياس..حتى يمكن معايرة الطرفين والكتلتين بنفس الوحدة القياسية.. فلا يمكن – مثلا معايرة جسمين واحد بالكيلو.. والآخر باللتر.. أو بالمتر..
    ماهي وحدة القياس التي تحسب المسافة الفاصلة بين النظرية والتطبيق..
    اقترح استنباط وحدة قياس نطلق عليها (كيلو انسان).. الوزن المعياري للانسان.. على هدى معادلة بسيطة تفترض أن (الكيلو إنسان) هو الناتج الطبيعي لحصيلة جمع التنمية والخدمات والمشاريع التي تقدم له مع الحقوق التي يكتسبها.. فإذا توفرت للانسان مشاريع ضخمة وخدمات مترفة وتنمية هائلة.. ونال معكوسها من الحقوق الذاتية والمعنوية فإن (الكيلو انسان) يصبح في وزن الذبابة..
    بوحدة القياس هذه يمكن إجراء اختبارت خارجية في دول أخرى.. والتأمل في ناتج (الكيلو انسان) فيها.. فدول عملاقة من فرط جبروتها خرقت غلاف الكرة الأرضية وارتفعت بإنسانها الى الفضاء الخارجي. لكن انسانها على الأرض كان لا يساوي إلا قيمة تافهة من الـ(كيلو انسان).. وكانت النتيجة الطبيعية بالتحديد انهيار منظومة (الاتحاد السوفيتي).. وحلف وارسو ودخول بعضها في حلف الناتو..
    الأمثلة كثيرة.. وبعضها لا يزال شاخصا.. وسنة الحياة البشرية ان الانسان هو محور الحياة.. وأكدها القرآن الكريم الذي جزم ان كل ما في الحياة الدنيا هو مسخر لأجل الانسان. في البر والبحر والفضاء..
    إذن فلنستخدم مسطرة أخينا الدكتور أمين حسن عمر الشهيرة.. ونحسب كم (كيلو انسان) يسوى السوداني..؟؟



    hgs,]hkn
                  

04-27-2008, 11:12 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ردا على عبد الرحمن الزومة ... قبح العلمانية ام شرور الاخوان المسلمين ....؟ (Re: الكيك)

    العلمانيه .... طريقنا للخلاص من الأستبداد الدينى
    ناصر الياسرى
    watan_1957@yahoo
    2006 / 7 / 10


    لعل من اكثر المصطلحات التى تعرضت للتشويه و التضليل هو مصطلح ( العلمانيه ) لكونه مصطلح جديدا على مسامع المواطن العربى وكثيرا ما ربط هذا المصطلح مع مبداء الغاء الدين او حتى الالحاد !! الا ان الطرح الجديد الذى بشر به المفكر الاسلامى السيد اياد جمال الدين والذى اوضح فيه مفهوم ( العلمانيه ) بانه حفظ للدين من مخالب السلطه بالرغم من ان هذا الطرح لم يجاهر به اى مفكر عربى وحتى المفكرين اليساريين فكيف وهو يطرح من قبل رجل دين شيعى ويعتمر عمامة رسول الله!!
    واكد بأنه يؤيد قيام دولة علمانيه ديمقراطية كى ينقذ الدين من مخالب السلطة يومها علق البعض على ماقاله هذا الرجل الشجاع وهم غير مصدقين من هذا الطرح وقد وجدوه وهويعلوا بصوته الرخيم قائلأ : كفى خطفا للدين منذ أربعة عشر قرنا كفى من الأستبداد الدينى
    لقد كان فقهاء السلطان ألعوبة بيد السلطه يفتون لها بما يشاء بحق او بدون حق !!
    لقد كانت زوجة الرشيد تفتى ثم تبعث بورقه الفتوى لفقيه السلطتن ليمهرها بختمة دون نقاش !!
    ان دفاع السيد أياد عن العلمانية هو دفاعا عن الدين ومن أجل أن يكون الدين بعيدا عن أ نياب السلطة الذى استعبدتة طوال اربعه عشر قرنا ان اعداء العلمانية موجودون على الساحة السياسيبة لأن تطبيقها سوف يضر بمصالحهم السياسية ويذهبون الى الهدف السهل ويصبون غضبهم ليكرروا ذات الخطأ المتوارث عبر اللأجيال والذى يفترضون وجود حركة علمانية ثم يقرن العلمانية بالألحاد مع انها لست كذلك فالعلمانى فى البلاد التى تطبق العلمانية شخص مؤمن وكل ما فى الامر انه يحكم القانون المدنى فى تفاصيل حياته اليومية والدكتور فؤاد زكريا صاحب الفضل على الفلسفةالأسلاميةالمعاصرة وجد الموقف العلمانى فى السياسةضرورة حضارية لاتنتقص من شأن الشريعة اللأسلامية فالأسلام يحكم ولا يحاكم.
    والدولة مؤسسة تتعرض للمحاكمات والأنتقادات و المعارضة وبالتالى فأن ربط حركتها با القانون المدنى أفضل لها وللشريعه والتى يجب ان لاتتحمل اخطاء البشر
    ان العلمانية وكما يفهما السيد أياد هى حكومة مدنيه منزوعة الأضافر وتحارب مخلصة لعدم تسيس الدين الحنيف والأبقاء على نقائة بعيدا عن حلبة الصراع السياسى ولعدم تسخير الدين لأغراض سياسية دولة ضعيفة وشعب قوى دوله تعتاش على الشعب لا الشعب يعتاش عليها
    لقد سالت انهار من الدماء خلال تاريخنا الأسلامى لأن ما سل سيف فى الاسلام بكثافة ماسل فى خلافات الأمامة . حسب تعبير( الشهرستانى ). فالأمام كما هو معروف هو القائد الروحى والسياسى ولافصل بين الوظيفتين نظريا وعمليا عند معظم المذاهب.
    ان العلمانيه لا تأتى من فراغ ولابد ان يسبقها عصر تنوير طويل . لم نصلة بعد رغم كل ما يقال وهذا ما يحاول ان يمهد له السيد اياد جمال الدين وبصعوبه نظرا لما تعرض له الشعب العراقى من تغييب وعيه الفكرى و الثقاقى .والاجتماعى سابقا وحاليا
    لقد انتظرت فرنسا قرنا كاملا لتنظيم تنوير عصر جان جاك روسو وفولتير قبل ان تحيل ذلك الحراك الأجتماعى والعقلى الى قوانين حاكمة باتفاق الاغلبية. وبما ان الطريق لازال طويلا امامنا من اجل تحقيق هذا الحلم فيجب ان يكون لدينا العشرات من أمثال السيد أياد جمال الدين وان يظهر لنا ألف جان جاك روسو و الف فولتير جديد
                  

04-27-2008, 11:15 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ردا على عبد الرحمن الزومة ... قبح العلمانية ام شرور الاخوان المسلمين ....؟ (Re: الكيك)

    العلمانية والديمقراطية وجهان لميدالية ذهبية واحدة
    سعيد علم الدين
    [email protected]
    2006 / 7 / 10


    يكفي العَلمانية فخرا أنها فكرة إنسانية المنبع واللب. ثابتة الخطوة خفيفة الحركة لا تلتفت يمينا أو يسارا ولا تتراجع إلى الوراء، ولم تقع حتى الآن على الوجه طَبْ، بل سارت وتسير مرفوعة الرأس، عامرة الصدر، دافئة القلب، مستقيمة القامة على الدرب. لم تتعثر مرة وان تعثرت قليلا نهضت من جديد، استقامت وأصلحت أحوالها، ثم تابعت سيرها السوي دون تعب، ترافقها الديمقراطية يدا بيد.
    فالعلمانية والديمقراطية وجهان لميدالية ذهبية واحدة اسمها الحرية.
    ومن دون الحرية فلا ديمقراطية، ومن دون الديمقراطية فلا علمانية، ومن دون العلمانية وفصل الدين عن السياسة فصلا قاطعا، فلا صحوة فعلية، ولا نهضة ثقافية، ولا نقلة حضارية للمجتمعات العربية والإسلامية. التي وللأسف إذا استمرت بها الأحوال بهذا الوبال وعلى هذا المنوال: دق الرأس بالجدار، على هدى ابن لادن الغدار، أو قطع العنق بالسيف على طريقة أبي مصعب الجزار. أو الانتقال من أنظمة الاستبداد السياسي الحزبي القمعي إلى أنظمة الاستعباد الديني الشمولي الهمجي، ومن استعمار غربي إلى استحمار شرقي، ومن صدام إلى بشار. فإننا سنتصومل جميعا دون أدنى شك وسنتحول إلى دجاجات خانعة لتقديم قرابين البيض، وسيحكمنا ديوك أمثال الأسد القرد، ونأكل أجساد بعضنا بتلذذ كما تفعل حيوانات الغابة بالطبع. وندك رؤوسنا المتخلفة بالمدفعية القريبة المدى وبمختلف أنواع الصواريخ وآلات الحرب الحديثة دَك. ولن نبني دولا حديثة ومجتمعات عصرية متطورة وحضارات، وإنما مسالخ ومعتقلات وأقبية مخابرات، وستنتشر الشيع والمذاهب كالفطر فوق الأرض وكالجراد تغزو بعضها البعض، سلبا وسبيا وقتلا ونهب. وستتحرك مجموعات بشرية مبرمجة كآلات الروبوت تفجر نفسها في مساجد الأشقاء بحقد، بدل أن تحترم بيوت الله وتتعبد.
    وكما أن الديمقراطية وقيمها الأخلاقية السامية في الحفاظ على التعدد والمساواة في الحقوق والواجبات واحترام الآخر تستوعب في دولة واحدة ما هب ودب من أحزاب وأفكار وأديان ومذاهب وشيع وتيارات ونظريات وفئات وتجمعات وتكتلات وأعراق وقبائل وأجناس ولغات وأقليات ولهجات، وتمنحهم ما لهم من حق، وتعاملهم سواسية دون فرق. فالعلمانية هدفها الأساسي أن تكمل صورة ذلك المجتمع السامي وتكون حَكَما حَكيما منصفا نزيها، وعَلما عليما يَفْصِلُ بين الجميع لكي لا يطغى زيد على عمرو وبالدولة يستبد:
    هذا باسم بوذا وآخر باسم يهوذا، وثالث باسم الله ورابع باسم الرب.
    فالعلمانية موضوعية علمية، ترفض المداهنة والسمسرة والفوضوية على حساب المصلحة الوطنية. ولمصلحة الوطن العليا ترفض أيضا السياسة عندما تصبح خلطا بين عالم الحقيقة والواقع من ناحية وعالم الدين والغيب من ناحية أخرى وتقول: من يريد في مهنة السياسة وفن الحكم أن ينخرط فأهلا وسهلا به ولكن بشرط: أن يحلق اللحية ويخلع الجبة والعمامة والصليب والقلنسوة ويضعهم على جنب. وعندها يستطيع الدخول في خضم هذا المعترك الصعب، وذلك لكي لا يستغل باسم الدين والمذهب، عواطف البسطاء والعامة من أبناء الشعب، ويجلب للبلد المهالك والفتن.
    العَلمانية سهلة بسيطة وليست فلسفة معقدة في العمق. حيادية ليس في قلبها كُرهٌ لأحد أو بُغض. تُفْصِلُ فقط بحكمةٍ، الديوكَ المتصارعةَ في المجتمع عن بعض. محترمة بنت بشر وناس وليست بنت آلهة وأباليس، ولهذا فهي مسالمة لا تعتدي على أحد، وليس لها هالة وتقديس، ولا تحتاج إلى صلوات وعبادة وقداديس، في مسجد أو معبد او كنيسة أو كنيس .
    عقلانية التفكير لا تخلط الهزل بالجد. يتطاول عليها الغوغاء والجهلة أصحاب الشغب. ويحقد عليها للأسف معظم المسلمين دون سبب. ويكرهها الكثير من العرب، ليس لرشاقتها وخفة دمها، وإنما لعدم محاولتهم فهم مقاصدها والأرب. ولهذا لا بد من توضيحها، رغم أنها واضحة وضوح الشمس، خاصة عندما ينزاح عنها الضباب الحالك وتنقشع السحب. وهذا ما سنسعى إليه في عملنا هذا عن كثب.
    العلمانية مشرقة كالشمس أبدا. لا تغيب ولا تغرب، إلا أن بعض سكان المعمورة من نور الحقيقة إلى كهوف العتمة تهرب. وإشراقتها مفيدة جدا وصحية جدا لقيام الدولة الحديثة بدورها على أكمل وجه . ولهذا فنورها للمجتمعات البشرية ضروري كالماء العذب، يروي العطشان في لحظات القيظ. وهو أغلى بكثير من النفط الأسود والذهب.
    وما نفع دولة فيها الخيرات بالقناطير، وذهبها الأسود يقدر بمليارات البراميل، وشعبها جائع البطن ينام أرقا على الحصير، تتقاذفه من كل الجهات الأعاصير، وتستبد به أصحاب العمائم واللحى بلا ضمير، وتحكمه ساسة مهابيل؟
    ساهمت العلمانية بتواضع في صيانة المجتمعات الحديثة التي أخذت بها. وعملت على تطور تلك المجتمعات بدل الوصاية عليها وتقهقرها. زوبعة الحجاب التي أثارتها حركات التطرف الإسلامي مؤخرا في فرنسا، وأرادت من خلالها التسلل إلى خلخلة أسس المجتمع الفرنسي العلماني من خلال إثبات وجودها العقائدي السلفي، أثبتت أن العلمانية الفرنسية عينها يقظة، واستطاعت بمرونة فائقة وحسم مطلوب التعامل مع هذه الحركات المسيسة للدين وإخماد سعير الفتنة بين أبناء المجتمع.
    فالمجتمعات الديمقراطية التي طبقت فكرة العَلمانية بحذافيرها وفصلت بين الدين والدولة، انسجمت مع نفسها فكريا ونجحت سياسيا، وتألقت أخلاقيا، وتعملقت اقتصاديا، وأشعت حضاريا، واستقرت اجتماعيا وحلت مشاكلها العديدة إلى حد ما بشكل مرضي لها وللعالم. ككل الدول الأوروبية شرقا وغربا، وكالصين واليابان وأمريكا الشمالية واستراليا وماليزيا؟ والهند وغيرها من الدول العلمانية.
    من ناحية أخرى فالمجتمعات التي تتعامل مع هذه الفكرة حسب الرغبة والأهواء، ساعة تأخذ بها من مؤخرتها حسب المزاج الشعبي العام كالنظام المصري العالق بين مطرقة الإخوان وسندان الشريعة والأوهام، أو تطبقها خطأً كالنظام السوري كيفما يشاء، أو تحاول تطبيقها كالنظام الأردني بكل عناء، أو لا تطبقها أبدا كالنظام الإيراني، أو تحاربها كالوهابية السعودية حربا شعواء، فهي مجتمعات غير منسجمة فكريا مع نفسها، متناحرة مذهبيا، خاوية دينيا، وتتخبط أخلاقيا، وتتراجع اقتصاديا، وتخبو حضاريا وغير مستقرة اجتماعيا وفاشلة سياسيا في حل مشكلة واحدة من مشاكلها العديدة بل وتصدر مشاكلها إلى جميع أنحاء العالم بالجملة والمفرق وعلى ظهور الإبل لولا اختراع السفينة الحديثة والطائرة الأسرع. ككل الدول العربية والإسلامية حيث الخلط بين السياسة والدين هي سياسة بحد ذاتها، أدت إلى هيمنة رجال الدين على السياسة واستغلال رجال السياسة للعواطف الدينية إرضاء للجماهير وعلى حساب العقلانية والموضوعية.
    يكفي العلمانية فخرا أنها لم تهبط إلينا بالمظلة من الفضاء الخالي في ساعات الفجر الأولى كنصوص جاهزة للتطبيق دون تجربة وتحقيق. ويكفيها فخرا أنها لم تأت من هضاب الصحراء الكبرى أو فراغات الربع الخالي، وإنما هي ابنة المخاض الإنساني المرير عبر العصور لتنوير هذا الإنسان التنين من اضطهاد أخيه الإنسان باسم الدين، ولتحرير الدولة والسياسة من سيطرة الخرافات والأوهام والشياطين. العلمانية هي ابنة حقبة تاريخية مليئة بالحروب والنزاعات والدماء ونتاج تجربة أليمة كلفت الإنسانية صراعا مريرا على مدى قرون بين حق الدين الإلهي في الهيمنة على الحكام والسياسة والوصاية على الثقافة والفكر والعلم والتسلط على الناس والمجتمع والحياة وبين محاولة الحكام الإفلات من هذه القبضة. ما يحدث اليوم في العالم العربي ليس صراعا على النفوذ في المجتمع بين رجل الدين ورجل السياسة وإنما هو تقاسم لهذا النفوذ بشكل مؤذ جدا وعلى حساب أي تطور اجتماعي. هذا التقاسم أدى إلى الخلط بين الدين والسياسة أو هيمنة الفكر الغيبي الشمولي المقدس المهاجم على الفكر التجريبي الإنساني العلمي المدافع. هذا الوضع المرضي الخطير تعاني منه حاليا كل المجتمعات العربية والإسلامية، ولا خلاص لها ولا مناص إلا بالفصل النهائي بين الدين والسياسة. مثلا ظهور الرؤساء في صلاة الجمعة على التلفزيون هو خلطا بين الدين والسياسة الهدف منه واضح ليس الصلاة وإنما النفاق بالتأثير على عواطف الناس المؤمنة من خلال الإعلام. الرئيس الذي يريد حقا الصلاة والتعبد يستطيع الذهاب بصمت إلى الجامع أو الكنيسة دون ضجة وإعلام ويكون بذلك صادقا مع نفسه والمجتمع
                  

04-29-2008, 05:46 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ردا على عبد الرحمن الزومة ... قبح العلمانية ام شرور الاخوان المسلمين ....؟ (Re: الكيك)

    لماذا ننادي بعلمانية الدولة
    عبدالله المدني
    [email protected]
    2006 / 7 / 1


    علمانية الدولة ببساطة شديدة هي أن تقف الدولة موقف الحياد من العقائد و المذاهب التي تدين بها مكونات شعبها، بمعنى ألا تكون في قراراتها و سياساتها و خططها و تعييناتها – بما في ذلك مناهجها التعليمية وسياساتها الإعلامية و الثقافية - منطلقة من مذهب أو عقيدة أو مرجعية دينية معينة و إن كانت عقيدة و مرجعية الأغلبية، لما في ذلك من تهميش لعقائد الآخرين و تمييز ضدهم و إخلال بمباديء المساواة و العدالة و المواطنة.

    ومن هنا حرصت البلاد التي انتهجت الديمقراطية الليبرالية الحقة و أقامت الدولة المدنية الحديثة على عدم تضمين دساتيرها ما يفيد بديانة الدولة. و لا يعنى هذا البتة التقليل من شأن الدين و مكانته السامية في النفوس و دوره المؤثر في المجتمع، بل على العكس من ذلك. فالدولة العلمانية بعدم إقحامها الدين الذي هو حزمة من القواعد المقدسة و الأحكام الربانية الثابتة في الشأن السياسي اليومي المتحول أو في اللعبة السياسية المتذبذبة يسارا و يمينا، إنما تحفظ للدين هيبته ومنزلته و تنزهه من السقوط في وحول السياسة التي تتغير قواعدها و آلياتها بتغير الأهواء و الظروف و الشخوص و المصالح.

    و خلافا لما هو شائع في البلاد العربية و بعض البلاد الإسلامية، و لاسيما في أوساط البسطاء و الدهماء، فان العلمانية لا تهدد الدين و لا تحاربه ولا تسعى إلى سلخه من أفئدة الناس، بدليل أن المجتمعات التي طبقت علمانية الدولة لا تزال شعوبها كما كانت دوما مؤمنة بعقائدها و ممارسة لطقوسها الدينية بحرية و ماضية في بناء دور عبادتها دون قيود، هذا إن لم تكن درجة النزعة الإيمانية قد زادت بفضل ما هو متاح من حريات دينية أمام أتباع مختلف المذاهب و الطوائف.

    أما سبب شيوع الفهم الخاطيء للعلمانية في مجتمعاتنا، فتسأل عنه حركات الإسلام السياسي التي دأبت على تشويه هذا المفهوم مثلما شوهت الكثير من المفاهيم العصرية و الحضارية الأخرى، فجعلتها في أعين البسطاء مرادفة للكفر و الإلحاد و الإفساد و الانحلال و التغريب، و ربطتها بالمؤمرات الاجنبية على الإسلام و المسلمين، دون إبراز أي دليل عملي على ما تقول. و هي في كل هذا لا تنطلق من غيرة حقيقية على الدين و ما في الدين من تبشير بالمساواة و العدالة و التسامح و الإخاء و السلام، بقدر ما تنطلق من رغبتها الجامحة في الهيمنة على المجتمع و إقصاء المختلفين معها، بل من خوفها على تراجع مكانة رموزها و مصالحهم إن طبقت علمانية الدولة.

    إن إقامة الدولة المدنية العلمانية وفق الصورة المنوه عنها، باتت ضرورة لإخراج مجتمعاتنا المتخلفة من شرنقة الجدل و حالة اللاحسم حول الكثير من القضايا الصغيرة و الكبيرة التي لا تزال تراوح مكانها بسبب إقحام الدين فيها و بالتالي الاختلاف المرير حولها، فيما المجتمعات الأخرى حسمت خيارها و تجاوزت الجدل العقيم و انصرفت بكل قواها نحو البناء و التنمية و الإبداع.

    وعلينا أن نتذكر أن الغرب لم يحقق نهضته الراهنة و لم يصل إلى ما وصل إليه من إنجازات في شتى المجالات الإدارية و الحقوقية و التربوية و العلمية و الصناعية و الاقتصادية إلا حينما تحرر من سطوة مؤسسة الكنيسة و تفسيراتها المتشددة و دورها البطريركي الرهيب – و ليس من الدين نفسه – و أقام الدولة المدنية العلمانية. و لو انه ارتضى بما كان يجرى من قمع لحرية التفكير و حجر على العقول و تدخل في كل قرار دنيوي على يد أرباب المؤسسة الدينية و تفسيراتهم، لكان حاله اليوم مزريا.

    لكن لماذا نتحدث عن المجتمعات الغربية ذات الظروف و الخصائص التاريخية المختلفة، و أمامنا مجتمعات شرقية عالمثالثية استطاعت بفضل نهجها العلماني تحديدا أن تحقق ما لم تحقق مجتمعاتنا العربية حتى عشره. لنفكر فقط في شبه القارة الهندية التي انقسمت في عام 1947 إلى كيانين احدهما ديني ممثلا في باكستان و الآخر علماني ممثلا في الهند، و لنسأل أنفسنا أين تقف الأولى اليوم و أين تقف الثانية؟

    إن الكثيرين عند حديثهم عن الهند و ما حققته من استقرار و نهضة و قوة في سائر المجالات يشيرون إلى نظامها الديمقراطي الليبرالي فقط، و ينسون أن هذه الديمقراطية ما كانت لتترسخ و تقي البلاد شرور التشرذم و الانقسام و الانقلابات العسكرية و الحركات الانفصالية المنطلقة من منطلقات دينية أو عرقية أو ثقافية، لولا وجود دعامتين يسندانها هما: العلمانية و الفدرالية. وإذا كانت الفيدرالية ضمنت للولايات الهندية أن تدير شئونها بنفسها و بالتالي تشبع طموحات سكانها المتباينة اقتصاديا و اجتماعيا و ثقافيا، فان العلمانية كانت ضرورة للتعامل مع مختلف الأديان و المذاهب التي يدين بها الهنود على قدم المساواة و بالتالي التعامل مع كافة أتباعها كمواطنين لهم نفس الحقوق و عليهم نفس الواجبات، بما في ذلك حقهم في شغل مناصب الدولة الكبرى.

    إنها العلمانية وحدها التي اتاحت في الهند لابن صياد فقير (الدكتور زين العابدين عبدالكلام) من الأقلية المسلمة التي لا تشكل سوى 15 بالمئة من إجمالي السكان أن يصل إلى منصب رئاسة الدولة، و اتاحت لرجل من الأقلية السيخية (الدكتور مانموهان سينغ) التي لا يتجاوز عدد أتباعها نسبة 3 بالمئة من السكان أن يتبوأ منصب رئاسة الحكومة المحوري، و اتاحت لسيدة كاثوليكية من أصول إيطالية و لم يمض على حصولها على جنسية البلاد سوى عقدين و نيف من الزمن مثل سونيا غاندي أن تحتل موقع رئاسة الحزب الحاكم أي حزب المؤتمر التاريخي الذي تحقق على يديه استقلال الهند، فيما الأقليات في دولنا العربية اللاعلمانية تجاهد من اجل الحصول على حقيبة وزارية ثانوية يتيمة دون جدوى. و باختصار اتاحت هذه العلمانية لثلاث شخصيات من الأقليات أن تقرر مصير امة غالبيتها الساحقة من الهندوس، دون أن يصدر من هؤلاء اعتراض أو تذمر أو عصيان.

    ثم لنسأل لماذا لا نجد هنديا مسلما واحدا على قائمة الإرهابيين الذين زرعوا العالم رعبا و قتلا و تفجيرا في السنوات الأخيرة رغم وجود أكثر من 150 مليون مسلم في الهند و رغم انتشار المدارس و الجمعيات الإسلامية فيها، فيما القائمة ذاتها تحتوي على مسلمين من مختلف الأقطار العربية و الإسلامية دون استثناء؟ الإجابة تكمن في علمانية الدولة الهندية وحدها، و ما وفرته من احترام لكل الأديان و مساواة في التعامل مع رموزها وحريات كاملة لأتباعها في الكتابة و التعبير و العمل و التنافس و التقاضي و الإبداع و تولي المسئوليات العامة.

    ومرة أخرى إن علمانية الدولة و ما يتفرع عنها من حقوق المواطنة الأصيلة و بالتالي السؤال حصريا عن ولاء المواطن لبلاده و كفاءته – لا دينه و مذهبه - حين التعيين في الوظائف الرسمية،هي التي أتاحت لجنرال تايلاندي مسلم أن يجلس على رأس قيادة جيش بلاده البوذية، و مكنت شخصية مسلمة من احتلال منصب رئاسة البرلمان في بلد جل سكانه من البوذيين أو المسيحيين مثل سنغافورة.

    أما فيما يتعلق بالبحرين، التي تمثل حالة خليجية متميزة بفضل ما بلغه أبناؤها من مستوى تعليمي و ما تحتضنه بالتالي من كوادر مثقفة، و بفضل تاريخها الطويل كمجتمع منفتح و متسامح و وعاء حاضن لثقافات و أعراق و مذاهب متنوعة، فإنها مهيأة أكثر من غيرها لتكون نموذجا للدولة المدنية العلمانية لولا سطوة الإسلام السياسي الحركي الطارئة. و لا أبالغ لو قلت أن مجتمعنا البحريني للأسباب التي ذكرتها آنفا هو علماني بطبعه، بمعنى انه غير متطرف دينيا. و بعبارة أخرى فهو لئن كان محافظا و ملتزما بأهداب دينه الإسلامي، فانه في الوقت نفسه يحترم أتباع الديانات و المذاهب الذين يشتركون معه في المواطنة، و لم يصدر عنه في الغالب ما يشير إلى تبنيه لنزعة اقصائية أو مطالبته بفرض أحكام عقيدته على الآخرين أو تحبيذه لإقامة الدولة الدينية على أنقاض ما هو قائم.

    و حينما ننادي بعلمانية الدولة و مدنيتها في البحرين ، فإننا بهذا لا ندعو إلى تهميش الإسلام و دوره في حياتنا بقدر ما ندعو إلى عدم إقحامه في كل صغيرة و كبيرة من الأمور الدنيوية الخالصة. إننا ببساطة لا نريد أن نصل إلى وضع يصبح فيه موضوع مثل تحية العلم الوطني، مسألة جدلية يستدعى رجال الدين للإفتاء بصحتها من عدمها مثلما حدث مؤخرا في دولة مجاورة، أو إلى وضع يتدخل فيه لابسو العباءة الدينية في مسألة مثل أداء الجندي للتحية العسكرية أو مدى صحة دفاعه عن دولته إذا كانت هذه الدولة لا تطبق الشريعة بحذافيرها مثلما حدث في دولة مجاورة أخرى.
                  

05-08-2008, 04:15 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ردا على عبد الرحمن الزومة ... قبح العلمانية ام شرور الاخوان المسلمين ....؟ (Re: الكيك)

    أي شريعة هذه التي تنتصر بجماجم الاطفال ..؟


    خالد ابواحمد
    [email protected]
    الحوار المتمدن - العدد: 1444 - 2006 / 1 / 28


    بطبيعة الحال أن كل الذين شاركوا في الحرب اللعينة التي قتل فيها السوداني أخوه (السوداني) سواء في جنوب، أو في شرق أو غرب السودان، تمر عليهم الكثير من الذكريات المؤلمة، أنني شخصيا أشعر بتأنيب ضمير شديد عندما كنت في تلك الساحة في ديسمبر من العام 1995م فيما يعرف برد الهجوم الذي أطلقت عليه الحركة الشعبية بقيادة الفقيد جون قرنق (الأمطار الغزيرة) هذه العملية العسكرية الكبيرة والتي قتل فيها المئات بل آلاف السودانيين من الجانبين، تختلف عن كل العمليات العسكرية في جنوب السودان لما فيها من مفارقات وتجاوزات إنسانية، تجعل من الهدف الكبير للحرب ضد (المتمردين) علامات استفهام كبيرة متمثلة في الموقف اللا إنساني للحكومة السودانية إذ استعانت لفترات طويلة بجيش الرب اليوغندي الذي يتزعمه المتمرد اليوغندي جوزيف كوني وهذا الجيش للأسف استعان بمشاركته إلى جانب الحكومة بحوالي 2000 طفل تبلغ أعمارهم ما بين الثامنة والرابعة عشرة عاما من الجنسين.

    كانت لحظات محزنة وشعرت فيها بالألم النفسي لوجود هولاء الأطفال معنا في مكان واحد وكان منظرهم يدمي القلوب وهو يحملون الآليات والأسلحة الثقيلة، ومهما يحاول المرء لا يمكن أبدا أن يصور هذه المناظر المرعبة، عشرات من الأنفس البريئة كانت تطوف حولنا في مساء يوم بارد استعدادا للهجوم على أكبر معسكرات (الحركة الشعبية) في الميل 72 في طريق مدينة نمولي الحدودية مع يوغندا في يوم 12 ديسمبر 1995م، أطفال في سن البراءة الواحد منهم يحمل فوق طاقته وما زنته 40 كيلو جرام أو أكثر من العتاد العسكري الثقيل وصناديق الذخيرة، والذين حملوا مثل هذه الصناديق يعرفون كم هي قاسية الحمل في مسيرة قد تبلغ الساعات الطوال، وأحيانا اياما من السير في الطرق الوعرة، والرطوبة العالية حيث تتبلي الملابس تماما مما تصيب المرء بالإعياء وفي الغالب التهاب الصدر و المفاصل الذي يعيق الحركة، وهذا ما حدث لي شخصيا، فكيف بالأطفال..!!
    ... يا إلهي.. انه أمر فظيع..

    مهما أحاول لا يمكن أن أصور شكل الدموع الجافة على وجوه الصغار لا أجد لذلك سبيلا، ولم يكن هناك جنودا كبار السن وهولاء لا يتعدون العشرين من بين المئات من الجنود (الصغار) بالكاد تميز بين الذكر والأنثى، يساقون كالقطيع تماما يشهد الله على ذلك، وعلى بعد كل مائة (طفل) هناك جندي يوغندي يحث الأطفال بسرعة التحرك، و يضرب أحيانا الطفل في مؤخرته أو ظهره كي يستعجل ولا يبطي، في أجواء غريبة على عالم الطفولة، صوت الدبابات والمجنزرات وهي تتحرك إلى مكان قريب من بداية المعركة، مع صوت أجهزة الاتصالات اللاسلكية،، لحظات من التوجس والترقب والأوامر العسكرية من القادة هنا وهناك بالعجلة، وطقطقة الأسلحة الشخصية كل هذه الضجة تجعل المحارب يعيش في لحظات غريبة، والمحارب أو المقاتل قاب قوسين أو أدنى من الموت،، لحظات صعبة حتى على كبار السن،، فكيف بالأطفال الصغار..!!

    عندها كان ابني (أحمد) لا يتعدي الثلاث سنوات، وأبني (أواب) رضيعا في حضن أمه، لكن رغم ذلك تخيلت أن (احمد وأواب) من بين هؤلاء الجنود المحملين بالسلاح و العتاد، وثمة آخرين يضربونهم ويذلون كرامتهم، ولذا كنت كثير التفكير في مضمون هذه الحرب التي اندلعت من أجل الدفاع عن الأرض والعرض، والمفارقة أن الجانبين المتقاتلين يحاربون تحت راية واحدة هي الدفاع عن الوطن و تحرير الأرض من الأعداء .. ولكن ما بال هولاء الأطفال والنفوس التي خلقها الله كي تنعم بالأمن والأمان تحتاج إلى الرعاية والاهتمام تقاتل وتحمل روحها بين جنبيها وفي تلك الساحات تتعدد الأسباب والموت واحد،، الأمراض والإعياء والإرهاق الجوع والمسغبة وضرب القادة العسكريين.

    وأنا ومن معي في تلك الغابات الكثيفة كنا نتساءل أين ذهبت الحيوانات التي اشتهرت بها غابات جنوب السودان، ولماذا هربت حتى الطيور من هذا المكان، وكان واضحا ان لون الأخضر قد تحول إلى ألوان أخرى بسبب الحرب، ولم يبغي من الغابة إلا اسمها،، تتزايد الأسئلة الملحة في مخيلتي كلما نظرت لجنور جيش (الرب) وهم يحملون الأثقال،، لماذا ترضى الحكومة السودانية صاحبة المشروع (الإسلامي الحضاري) باستغلال هؤلاء الأطفال القصر والزج بهم في حرب ضروس لا غالب فيها ولا مغلوب..؟!
    ألم تكن الحكومة هذه قد وقعت على كافة قوانين الأمم المتحدة التي تحظر الإساءة إلى الأطفال، وتشدد على تقديم الخدمات لهم، وأليس هذا أمرا مهولا ومستغربا أن تنفذ الحكومة في السودان حملات التطعيم ضد الشلل للأطفال بميزانيات طائلة على كامل التراب الوطني، وتقتل أطفالا آخرين في الجنوب..؟ .
    وتحت أي مصوغ.. ديني وسياسي تم ذلك؟؟
    وأي مكاسب هذه التي تجنيها الحكومة السودانية على حساب هؤلاء الأطفال الصغار، ولماذا يستخدم جيش الرب أطفالا قصر في حربه ضد الحكومة اليوغندية..؟؟.
    يا إلهي ما هذا الذي يحدث.. وثمة أسئلة كثيرة كانت تصول وتجول في ذهني ولا تجد الإجابات الشافية،، وتزداد الأسئلة إلحاحا كلما نظرت تجاه هؤلاء البؤساء الذين كان قدرهم أن الله جلت قدرته ولحكمة يعلهما وهو وحده ..أوجدهم في هذا المكان من العالم..
    ولمن لا يعرف فإن أطفال جيش الرب اليوغندي يبلغ عددهم حسب إحصائية للأمم المتحدة حوالي 40 ألف طفل،يشكل القصّر ما يقارب 90 بالمائة من جنود جيش الرب للمقاومة، ويتم ضمهم إلى الجيش من خلال الإغارة على القرى، فتتم معاملتهم بوحشية وإجبارهم على ارتكاب ‏الفظائع في حق أقرانهم من المختطَفين، بل وحتى ضد أخواتهم. أما من تسول له نفسه الفرار، فيتم ‏قتله، بذلك يصبح العنف بالنسبة لهؤلاء الأطفال الذين يعيشون في حالة من الخوف الدائم أسلوباً للحياة.
    في تلك اللحظات عندما أتذكر أبنائي فإن أول ما يتبادر إلى ذهني طفولتهم البريئة وعفويتهم الصادقة، وفرحهم الذي يتجسد من خلال لعبهم وألعابهم المتنوعة التي يعبرون فيها عن ذواتهم، والتي تنمي مداركهم العقلية والذهنية حيناً، وتبعث في نفوسهم الفرح والسعادة والضحك في أحيان أخرى كثيرة، وأتذكر أن سعادة أبنائي هي غايتي وهدفي الدائم في الحياة، فكيف بالله أتحمل رؤية أطفالا مدججين بالسلاح الثقيل، ودموعهم يبست ولم تجد من يمسها، وصرخات أناتهم لا تجد من يوقفها بكلمة حلوة أو قبلة ترسم في وجوههم أهميتهم في الحياة.
    ولكن ثمة سؤال لم أجد له إجابة حتى اللحظة.. أي شريعة هذه التي تنتصر بجماجم الأطفال..؟؟.

    رداً على د. محمد وقيع الله

    أحلام وقيع الله التي تحققت ..!!





    خالد أبواحمد [email protected]

    صُدمت كما صُدم غيري من الصورة التي أعتبرها قبيحة تلك التي ظهر بها د. محمد وقيع الله والتي لا اعتبرها زلة قلم بل هي مكمن الداء للكثير من دعاة التبصر، الذين يرون أن علومهم النظرية التي تلقوها تجعلهم على بصيرة من أمور الحياة أكثر من غيرهم، ولو كان الاخرين قد اعتمدوا على التجربة بالبرهان والدليل العملي بعيدا عن التنظير.

    كنت أضع في ذهني صورة جميلة للغاية عن د. محمد وقيع الله ولو أنني لم ألتق به إلا مرات قليلة وعلى عجالة أيام فترة التنظير للحركة الاسلامية في منتصف الثمانينيات وكنت أقرأ له كثيراً عندما يكتب عن الفكر الإسلامي،وتشدني مقالاته الرصينة، ولا زلت استمتع بها بين الفينة والأخرى أطالعها عبر موقع الجالية السودانية بالولايات المتحدة الأمريكية.

    وفي فترة من الفترات أيام الديمقراطية الثالثة كانت هناك أقوال تتداول داخل مجتمعات الحركة الإسلامية مفادها أن د. حسن الترابي سئل ذات مرة عن خليفته في قيادة الحركة، وتقول الرواية أن الترابي قال "محمد وقيع الله- التجاني عبد القادر- أمين حسن عمر"، وفي رواية أخرى قيل "أحمد عثمان مكي قائد ثورة شعبان عليه رحمة الله ومغفرته- محمد وقيع الله – المحبوب عبد السلام" وهنالك روايات أخرى، والشاهد في المسألة أن اسم محمد وقيع الله ورد في كل الروايات المتداولة الأمر الذي جعل له حظوة واحترام القاعدة له وتقديره، ونحن السودانيون جميعنا نحتفي بالعُلماء وأهل الذكر، ونطرب لمطالعة إنتاجهم الفكري والأدبي مثلما أطربتنا من قبل مقالات مالك بن نبي ومحمد عبده والإمام حسن البنا إلخ، وقبل عقود من الزمان كان هذا الإنتاج له قيمته الفكرية والحضارية ولعب دوراً كبيراً في فتح الآفاق نحو التزود بالعلم وبالمزيد من التفكر والتأمل في هذا الكون العجيب.

    المهم كان محمد وقيع الله يمثل بالنسبة للشباب الإسلامي القدوة الحسنة والأمل المُرتجى، وشخصي الضعيف سعدت أيما سعادة لكون واحداً من نخبة الإسلاميين الشباب يتزود بالعلم من الجامعات الأمريكية والغربية بحيث يُصبح رصيداً للحركة الإسلامية مع باقي الكفاءات والكوادر التي تقود دولاب العمل الإسلامي، لكني لم أتوقع ألبته أن أفجع في محمد وقيع الله هذه الفجيعة،لكن..

    ولكن هذه تقطع القلب .. وتهده هداً..!

    وعندما جاءت مساجلة د. وقيع الله مع د. الأفندي سقط في مخيلتي ذلك (المثال) الجميل والذي كنت أحبه وأترقبه كلما أصدر نتاجاً،،، مقالاً كان أو محاضرة تتداولها المجتمعات بالرصد والإعجاب والمفاخرة.

    ولكنه سقط تماماً مثل أصنام كفار قريش، كانوا يصنعون التماثيل من العجوة، وعندما يجوع أحدهم يأكله ويسد به رمقه، أو صنماً من الخشب عندما تضيق به الدنيا يكسره ويرفسه رفساً برجليه..!.

    كنت أقرأ ردود د. محمد وقيع الله باندهاش شديد وما فيها من سب وشتيمة وهمز ولمز لا تليق أبدا بالعُلماء ولا بالسنوات الطويلة والعجاف التي قارع فيها وقيع الله المكتبات وأُمهات الكُتب والمراجع، وحقيقة لم يسقط في عيني بل في عيون الجميع الذين أتوقع أن يكونوا قد صُدموا أكثر مني، وعندما يكون السب والشتم وعدم المصداقية ديدن العالم (بكسر اللام) فما شان ضئيلي المعرفة من أمثالي، ليته وقف عند سب وشتم (الأفندي) إذا به يُعدد خمسين انجازاً لحكم (الإنقاذ) ليس هذا فحسب بل طفق ينتقد مواقف الآخرين من القائمين على السلطة التي قال فيها من لم يقله مالك في الخمر..

    ومبعث الألم هنا أنني يوما ما كنت أظن و(أن بعض الظن اثم) أن الاسلاميين أكثر من غيرهم إعمالاً لأدب الحوار تنزيلاً لكل معاني الدين القيم على أرض الخلافات، لكن للأسف بالدليل العملي سقطت لدي هذه النظرية وخاب ظني تماماً خاصة في مرحلة الخلافات فيما عرف بالرابع من رمضان، ثم جاء د. محمد وقيع الله ليؤكد أنه حتى قادة الشباب من المفكرين هم على الدرب سائرون ومُقتدون..!!

    ويوماً ما تابعت بسعادة غامرة مساجلات تحلت بالأدب الرصين والاخلاق الاسلامية الحقة في حوارات جمعت د.منصور خالد والاستاذ محمد ابوالقاسم حاج حمد عليه الرحمة والمغفرة، تعلمت منها الكثير من القيم والمبادئ، ثم تابعت مساجلات اخي العزيز المرحوم طه أبوقرجة مع د. خالد المبارك وما اتسمت به من أخلاق رفيعة في أدب الحوار، ثم أصبحت أقرأ لـ د. الطيب زين العابدين و للأساتذة أبوبكر القاضي و كمال الجزولي والحاج وراق وعثمان ميرغني، وجدت واقعية وأدب حقيقي في التناول جاء به الاسلام، لكنني لم اتوقع أبدا أن تكون هنالك مساجلة لـ د.محمد وقيع الله بهذا المستوى من الانحطاط بل الحقد والكراهية على كاتب عالم ومفكر بسبب أنه انتقد النظام نقد موضوعي وبأدب اسلامي رصين، ولم يجنح إلى الشتيمة والهمز واللمز.

    لا أحمل كراهية ضد الأخ محمد وقيع الله ولا أعتبر نفسي في هذا المحك مُنافساً له فهو رجل قد رزقه الله تعالى ويسر له الدراسة وتلقي العلوم حتى نال درجة الدكتوراه وهنيئاً له بذلك، أما العبد الفقير لله لم أنل حظاً من العلم الأكاديمي كما أوتي وقيع الله، والآن أسابق الزمن مع أولادي لتلقي العلم، لكنني أفتخر بتجاربي في الحياة وخبرتي الطويلة في المجال الإعلامي التي بلغت قرابة الربع قرن من الزمان والحمد لله ، واعتبر نفسي استفدت من الحركة الإسلامية أكثر بكثير من أخي وقيع الله لأن تجربتي هنا تجربة متكاملة نظرية وصقلت بالعمل في ظل (الإنقاذ) التي عصفت بنا في كل أرجاء السودان شرقاً وغرباً وجنوباً وشمالاً وهذا فضل من الله لا يُقدّر بثمن، ونلت معرفة لم ينلها الأخ وقيع الله، فكل دراسته الأكاديمية المرتبطة بجوانب الفكر الإسلامي ما هي إلا تجارب نظرية فقط، مهما وصل صاحبها من علوم نظرية لا يمكن باي حال من الأحوال أن يصل للنتائج التي وصلنا إليها نحن الذين عشنا فترة التنظير والتطبيق، وشاهدنا بأم أعيننا مخازي ومآسي وكوارث التطبيق.



    السقوط المدوي

    والدكتور محمد وقيع الله في موقفه من تقييم نظام (الإنقاذ الوطني) مثل ذلك الطالب الذي غاب عن الدراسة سنوات طويلة ثم رغب آخيراً في مواصلة دراسته لكن مع دفعته الدراسية، وأصر إصراراً شديداً على أن يمتحن معهم ففعل لكنه سقط سقوطاً مدوياً..!!

    شخصياً أحسب أن الحركة الإسلامية في السودان مدرسة كبيرة نال كل منا نصيبه من المعرفة حسب استعداده الشخصي وميوله والبيئة التي عاش فيها، لكن أخينا محمد وقيع الله غاب عن هذه المدرسة سنوات طويلة وحضر معنا مرحلة من مراحل التنظير، وقبل مرحلة التطبيق بكثير غادر السودان ولم يعش معنا مراحل الابتلاءات ولا مراحل الفتن، وجاء مُؤخراً في مرحلة السقوط والانهيار لمبادئ الحركة، يُريد أن يغالط الحقائق والواقع والمنطق والشواهد التي لا ينكرها إلا عليل سقيم، وكان يكفيه فقط أن يذهب الى تجمعات جرحي الحرب من ضحايا الألغام يدرك حجم الأسى وحجم ما وقعت فيه (الانقاذ) وكان يكفي محمد وقيع الله أن يذهب الى منظمة الشهيد ويفتح الملفات ليعرف الأعداد الحقيقية لضحايا الحرب في السودان من الكفاءات والخبرات ومن طلبة الجامعات في كل التخصصات ليدرك بوعي كامل حجم الدمار والخسارة التي اوقعتها (الانقاذ) في السودان.

    وعندما يُعدد الأخ وقيع الله انجازات (الإنقاذ) المادية فإنه لم يأت بجديد فلم ينكر أي من المعارضين للحُكم هذه (الانجازات) المادية التي أبعد ما تكون عن جوهر ما جاءت به الحركة بعد الانقلاب المشئوم في 1989م، كما انه ليس من المنطقي أن نحكم على النظام بالانجازات التي ذكرها وقيع الله، حتى الانجازات التي تحدث عنها وقيع الله إذا تطرقنا إليها التفصيل سنثبت الكثير من الأخطاء والعواقب المستقبلية التي تحيطها والقنابل الموقوتة في أكثر من مكان، لكن السودانيين يحاسبون النظام بالنهج الذي جاء به، وبالبرنامج الذي أعلنه من خلال حركته اليومية في الإعلام والعلاقات الدولية والدبلوماسية، كما لم يكن في حسابات الذين اجتمعوا في ذلك الشهر من العام 1989م ليقرروا ما إذا كانت ساعة التغيير حانت أم لا أن يضعوا الانجازات المذكورة في حساباتهم، أبداً كان الهم الكبير يتلخص في (التمكين لدين الله في السودان)، وقد طالع القُراء مقالات محمد وقيع الله التي عدّد فيها انجازات النظام انه هرب بشكل واضح وجلي من التطرق إلى نتائج الحكم في تردي الأخلاق وانتشار الدعارة بكل أنواعها والجريمة المنظمة، والزيادة الفلكية في أعداد المصابين بالإيدز (الآن يعقد في العاصمة الخرطوم مؤتمر دولي يبحث مشكلة انتشار المرض في السودان) وانتشار المخدرات بين طلبة الجامعات، والازدياد الخطير في معدلات الطلاق، والهجرة الى الخارج، وهرب د. محمد وقيع الله هروب النعامة من الملفات التي تتحدث عنها الصحافة السودانية في ذات الايام التي كان صاحبنا يدبج في مقالاته مُعدداً إنجازات دولة بني أمية في السودان، هارباً من ملف (الأطفال مجهولي الوالدين) وموتهم بالعشرات يومياً ودفنهم بعيداً عن الأعين.

    انجازات (الإنقاذ)

    تحدث وقيع الله عن انجازات النظام على محيط (التدين) والارتقاء بالإنسان السوداني، هذا هو المحك الحقيقي لكنني هنا لا بد أن أقدم مختصراً للدروس العملية التي غاب عنها الأخ وقيع الله سنين عدداً، وشخصي صحفي وإعلامي وحركي غصت في أعمق مؤسسات الحركة الإعلامية والجهادية والتنظيمية، الأمر الذي يؤكد أن ما أقوله ليس أكاذيب ولا إملاءات من أحد انما أحداث عشتها لحظة بلحظة.



    التجاوزات الإنسانية وانتهاك التشريعات الإسلامية والدولية..!!

    كل السودان عاش سنوات الحديث عن تمسك الحكومة بالإسلام بل والدفاع عنه من كيد المتربصين، لكن من خلال معايشة في "مؤسسة الفداء للإنتاج الإعلامي" كمعد للبرنامج التلفزيوني الشهير بدأت تتكشف لي من خلال الأشرطة الخام التي كانت تأتينا من مناطق القتال ما لا يمكن أن يتصوره عاقل، و تحديداً من أحد الأشرطة الخام التي جاءتنا من منطقة شمال أعالي النيل متحرك (هدير الحق) عندما دخلوا منطقة شالي في النصف الثاني من التسعينات وهرب جنود الحركة الشعبية كان هناك طفل في الـ 14 أو 15 من عمره لم يتمكن من الهرب قاموا بقتله مع صيحات التكبير والتهليل وتم قتل كل الأسرى الذين كانوا داخل المعسكرات، وكان الشريط الخام يحتوي على مشاهد ليس لها أي علاقة بمن يدين بالإسلام ديناً، وعندما كنت أشاهد الشريط لفت بي الدنيا وكنت أحسب نفسي في كابوس لكنها كانت الحقيقة، علماً أن الأشرطة التي كانت تصلنا من مناطق القتال لا يشاهدها إلا مُعد الحلقة والمخرج، ويمنع منعاً باتاً للآخرين مشاهدتها لما فيها من تجاوزات.

    وفي الكثير من الأشرطة التي كانت موجودة في مكتبة المؤسسة كانت مشاهد دخول القوات الحكومية إلى بعض القرى في جنوب السودان منظراً لا يمكن أن يمحى من ذاكرتي أبداً، حيث يتم حرق البيوت المصنوعة من القش في مشاهد همجية وأحياناً يكون هناك بشر داخل هذه البيوت وتسمع صراخ العساكر وهم في حالة هستيريا ويطلقون النار عشوائياً، لا يمكن أبداً أن يكون ذلك إسلاماً مهما كانت المبررات، وضرب بالقرآن الكريم والحديث النبوي الواضح عرض الحائط إذ يقول النبي الأمي صلى الله عليه وسلم:

    "لا تغدروا ولا تغلوا ولا تقتلوا وليداً ولا إمرأة ولا شيخاً فانياً ولا مُنعزلاً بصومعته, ولا تحرقوا نخلاً ولا تقطعوا شجراً ولا تهدموا بناء"، لكنهم يا رسول الله عليك أفضل الصلاة وأتم التسليم فعلوا أكثر من ذلك بكثير...

    المؤسسة نفسها (ساحات الفداء) تعج بالفساد المالي والإداري وكان يرأس مجلس إدارتها الوزير الحالي أسامة عبد الله محمد وزير الدولة بالري المسؤول الأول عن خزان مروي، ويديرها مدير مكتب المؤتمر الوطني بالقاهرة حالياً كمال حسن علي، وكان نفر من السُراق يلعبون بالمال لعباً باعتبار المؤسسة فوق الجميع، والكُل يخاف منها حتى رئاسة الجمهورية كانت تخشى سؤال القائمين على أمر المؤسسة خوفاً من ردة الفعل، حيث كان القائمين على المؤسسة يذكرون للبعض أن (ساحات الفداء تابعة لأمن الثورة) وكان البعض يقول (ساحات الفداء تابعة لإبراهيم شمس الدين) في حين أن المرحوم العقيد إبراهيم شمس الدين نفسه كان يتحفظ على ما يحدث في المؤسسة من تصرفات ومن ألاعيب.

    ويوماً ما كان لدي عمل مع الناطق الرسمي باسم القوات المسلحة اللواء آنذاك عبد الرحمن سرالختم باعتباره المسؤول عن التوجيه المعنوي وكان اللقاء بخصوص إنتاج حلقة خاصة بمناسبة عيد الجيش الذي يحتفل به سنوياً في 14 أغسطس، وبعد الانتهاء من الحديث والنقاش حول الحلقة، قام سرالختم بإغلاق باب مكتبه وقال ليّ ضاحكاً ( وهو الآن حي يُرزق) " ياخي بكل الصراحة أنا عاوز أعرف إنتو تابعين لمنو..؟؟" فضحكت ولم أرد، فكرر سؤاله مرة أخرى "إنتو تابعين لمنو ومن حقي أن أعرف إنتو تقوموا بشغلنا ونحن سعيدين بذلك لإمكانياتكم الضخمة وعملكم المُتقن، وانا ما عارف انتو مدنيين ولا عسكريين، لكن قول لي انتو مع سعادة إبراهيم شمس الدين..؟؟ ولا تابعين للتنظيم؟؟"، ومن هنا يدرك القاري كيف أن القائمين على المؤسسة كانوا يلعبون على ضبابية أيلولة المؤسسة، وهذه المسألة كانت تعود بالفائدة على هولاء من كل النواحي الاجتماعية والأدبية والمالية.

    فعلاً كانت أسئلة عبدالرحمن سرالختم وجيهة للغاية وقد لا يتصور المرء المنصب الكبير للناطق الرسمي والمكانة الكبيرة التي يتميز بها ومدير المكتب برتية عميد والموظفين العسكريين بالرتب العالية، ورتبة لواء في الجيش السوداني ليس بالأمر الهين، كونه لا يعلم شيئاً عن جهاز إعلامي كبير يتقمص دور إدارة التوجيه المعنوي بالقوات المسلحة، وليس له أي سلطان عليه، والميزانية كانت مفتوحة ويتم شراء الأجهزة من دبي بدون مناقصات، وقد أثري مجموعة من ثلاثة أو اربعة أشخاص ثراءً كبيراً بسبب موجات الشراء العشوائية، وتم نشر كل ما يتعلق بالفضائح المالية، ولا حياة لمن تنادي ذلك لأن الفساد انتشر في السواد الأعظم من دولاب الدولة، فيما مؤسسات الحركة (الإسلامية) بعيدة كل البعد عن الرقابة المالية، ليس هذا فحسب بل مؤسسة مثل (ساحات الفداء) يخاف منها الكثير من الناس، الأمر الذي جعل وزارة المالية تصرف للمؤسسة شهريا مبلغاً كبيراً بدون وجه حق، في حين أن الامكانيات التي تزخر بها المؤسسة يجعلها داعمة وليس متلقية للدعم، لا رقابة مالية ولا إدارية والمسئول الأول من المؤسسة أحد (رجالات) علي عثمان محمد طه ومرفوع عنه القلم..!!



    دولة العدل الرشيدة..!!

    وقد لا يصدق المرء أن القائمين على هذه المؤسسة هم أنفسم القائمين على أرواح أبناءنا في معسكرات الخدمة الالزامية، فمجموعة من رجال المستقبل طلاب على أبواب الجامعات ماتوا ضرباً مبرحاً داخل معسكرات الخدمة (الوطنية) الإلزامية، وعندما ذهبت إحدى أسر الضحايا إلى وزيرالعدل تشتكي القوات المسلحة بعد أن أكد تقرير الطبيب الشرعي د.عبد الله عقيل بمشرحة مستشفى الخرطوم أن الوفاة كانت لنتيجة ضرب في أماكن مختلفة ومنها الرأس قال لهم وزير العدل آنذاك (عل محمد عثمان ياسين)" أذهبوا أن القوات المسلحة مؤسسة سيادية لا أحد يستطيع محاكمتها".

    اخي وقيع الله التقرير الطبي موجود والشهود موجودين والدكتور الطبيب الشرعي عبد الله عقيل سوار موجود، ليس قضية واحدة بل قضايا كثيرة..!! هذه دولة الإنقاذ التي تدافع عنها وتطلب وُدها..!!

    كلما أسرد هذه الواقعة أتذكر نفسي وأنا أنشد وأهتف باندفاع الشباب

    لا أبالي لا أبالي انني شعبُ رسالي********** قد تربى بين قرآن وساحات القتال

    مسلم قالت جموعي لست بعثي لا شيوعي *** عانقت أصلي فروعي رافضاً أي انفصال

    سوف نبني بالعقيدة دولة العدل الرشيدة****** لا دويلات عديدة شيدت فوق الرمال

    قد عشقت البندقية هاتفاً عندي قضية ******سحق حزب الماركسية انه حزب ضلالي

    وقد بان أن كل ماكانت تخالفه الابيات أصبح واقعاً..

    السودان وقد أصبح دويلات عديدة- انفصل عن كل تجاربه السياسية السابقة وعن محيطه الاسلامي بهذه التجربة التي لا يمكن أبداً أن نجد لها وصفاً يمكن ان يليق بما فعلته في السودان- حزب الماركسية الشيوعي السوداني ما أظن أنه اذا استلم الُسلطة يوماً أن يفعل في السودان ما فعلته (الانقاذ) وأهم شئ أنه سوف لا يتاجر بالدين ولا يرفع شعار الاسلام، وأن البندقية التي استخدمتها الحركة الاسلامية لم تجلب لنا إلا الدمار والقتل والابادة الجماعية التي أصبحت وصمة عار في جبين الحكم وهو يتحدث ويرفع شعار الاسلام، وقد بان واضحاً أن القضية هي الانتصار للنفس وقد سادت عقلية (التكويش) وقريباً ستظهر العقارات التي تم شراؤها في تركيا وفي ماليزيا، حتى زوجة الرئيس الجديدة أصبحت تنافس كبار التجار في العاصمة وقد تم إعطاؤها مشروع صالات وقاعات كبيرة لعدد من الجامعات،وقامت بشراء منتجع كبير في إحدى دول النمور الآسيوية، وبعد أن كانت محبوسة بين جدران بيوت جهاز الأمن بالقرب من المطار أصبحت ست أعمال كبيرة تتحدث بالارقام الكبيرة، فيما تم إعطاء أصغر أشقاء الرئيس رخصة لتصدير الماشية السودانية التي أصبحت حكراً على أشخاص بعينهم.. رحمك الله أخي عثمان حسن البشير طبت في عليائك بُعداً عن أكل السحت وقد كنت تقود الموتر (السوزوكي الأسود) وتجتهد في تعليم الناس قراءة (القرآن الكريم) وتحتفل وتسعد عندما تجد الجميع قد جلس على الأرض وبدأت التلاوة وزرفت الدموع الحرى محبة في الحبيب المصطفى.



    فساد المهندس..!!

    وثالثة الأثافي أن (المهندس) المدير العام لمجموعة شركات أحد البنوك السودانية المشهورة قد أفسد فساداً ليس له نظير في تاريخ السودان، وقد كُنا في الوسط الصحفي في فترة ( 1994-1998) نتبادل وثائق فضائحه المالية ونحن صحفيي الحركة (الإسلامية) نعرفه جيداً ونعرف الفاسدين معه وعندما أصبحت المسالة حديث كل مجالس الحركة الإسلامية قررت إحدى الجهات وضع حداً لفساد الرجل المهندس فتم تشكيل لجنة لتقصي الحقائق، وأعرف شخصياً رئيسها وقدم ملف الفساد بالأدلة إلى ديوان الثراء الحرام وأثناء البحث والتقصي ودراسة القضية جاء وفد من جهة عليا وطلب ملف المهندس الفاسد وعرّف أحدهم نفسه بأنه مرسل من (رئاسة الجمهورية) لاستلام ملف فساد الشخص المعني بل قام بتأنيب القائمين على أمر الديوان على فعلتهم ونيتهم في محاسبة الرجل.. وإلى هذه اللحظة لم يُقدم الرجل للمحاكمة أما مجموعة البنك فقد راحت في خبر كان، هذه قصة يعرفها كل قيادات وأعضاء الحركة الإسلامية وكل المنتمين للمؤتمرين الوطني والشعبي..!!.



    هذا قليل من كثير..!!

    هرب وقيع الله هروباً مخزياً عن ملفات الفساد المالي ووهنا أقتبس فقرة من مقال الاستاذ أسامة بابكر حسن في رده على وقيع الله "فطوال عمرنا هذا لم نسمع بأي مسؤول، صغيراً أو كبيراً في حكومة الإنقاذ وقف أمام محكمة في أي قضية، بينما وقف الإمام العظيم أستاذ الإنسانية علي بن أبي طالب الذي منح هالرسول (ص) صفة " أقضى الناس" أمام قاضي دولته في خلاف مع يهودي على درع، والإمام يعلم كذب اليهودي في دعواه، لكنه وقف أمام القاضي لكي تنتظم ثقافة العدل المجتمع ليثبت في المجتمع حديث الرسول (( الناس سواسية))، ولكن حدث ذلك في أمريكا في عهد كلينتون الذي لا يحكم بالإسلام ووقف حاكم أكبر دولة في العصر الحديث أمام المحكمة وهو لم يضع قانوناً للحسبة شرط به أئمة المساجد آذان الناس تنظيراً".!!

    أطفال جيش الرب

    بطبيعة الحال أن كل الذين شاركوا في الحرب اللعينة التي قتل فيها السوداني أخوه (السوداني) سواء في جنوب، أو في شرق أو غرب السودان، تمر عليهم الكثير من الذكريات المؤلمة، فأنا شخصيا أشعر بتأنيب ضمير شديد عندما كنت في جنوب السودان في ديسمبر من العام 1995م فيما يعرف برد الهجوم الذي أطلقت عليه الحركة الشعبية (الأمطار الغزيرة) هذه العملية العسكرية الكبيرة والتي قتل فيها المئات بل آلاف السودانيين من الجانبين، تختلف عن كل العمليات العسكرية في جنوب السودان لما فيها من مفارقات وتجاوزات إنسانية، تجعل من الهدف الكبير للحرب ضد (المتمردين) علامات استفهام كبيرة متمثلة في الموقف اللا إنساني للحكومة السودانية إذ استعانت لفترات طويلة بجيش الرب اليوغندي الذي يتزعمه المتمرد اليوغندي جوزيف كوني وهذا الجيش للأسف استعان بمشاركته إلى جانبنا بحوالي الألف طفل من مجموع 2000 طفل كانوا موجودين تحت قيادة جيش الرب في المنطقة الاستوائية، والأطفال اليوغندين التابعين لجيش الرب الذين كانوا معنا في ذلك اليوم تبلغ أعمارهم ما بين الثامنة والرابعة عشرة عاماً من الجنسين، وبالكاد تميز الذكر من الأنثى.

    كانت لحظات محزنة وشعرت فيها بالألم النفسي لوجود هولاء الأطفال معنا في مكان واحد وكان منظرهم يُدمي القلوب وهو يحملون الآليات والأسلحة الثقيلة، ومهما يحاول المرء لا يمكن أبدا أن يصور هذه المناظر المرعبة، عشرات من الأنفس البريئة كانت تطوف حولنا في مساء يوم بارد استعدادا للهجوم على أكبر معسكرات (الحركة الشعبية) في الميل 72 في طريق مدينة نمولي الحدودية مع يوغندا تحديداً يوم الأربعاء الموافق 12 ديسمبر 1995م، أطفال في سن البراءة الواحد منهم يحمل فوق طاقته وما زنته 40 كيلو جرام أو أكثر من العتاد العسكري الثقيل وصناديق الذخيرة، والذين حملوا مثل هذه الصناديق يعرفون كم هي قاسية الحمل في مسيرة قد تبلغ الساعات الطوال، وأحيانا اياما من السير في الطرق الوعرة، والرطوبة العالية حيث تتبلل الملابس تماما مما تُصيب المرء بالإعياء وفي الغالب التهاب الصدر و المفاصل الذي يعيق الحركة، وهذا ما حدث لي شخصيا، فكيف بالأطفال..؟!.

    ... يا إلهي.. انه أمر فظيع..

    مهما أحاول لا يمكن أن أصور شكل الدموع الجافة على وجوه الصغار لا أجد لذلك سبيلا، ولم يكن هناك جنودا كبار السن فهم لا يتعدون العشرين من بين المئات من الجنود (الصغار) يساقون كالقطيع تماما يشهد الله على ذلك، وعلى بعد كل مائة (طفل) هناك جندي يوغندي يحث الأطفال بسرعة التحرك، و يضرب أحيانا الطفل في مؤخرته أو ظهره كي يستعجل ولا يبطئ، في أجواء غريبة على عالم الطفولة، صوت الدبابات والمجنزرات وهي تتحرك إلى مكان قريب من بداية المعركة، مع صوت أجهزة الاتصالات اللاسلكية،، لحظات من التوجس والترقب والأوامر العسكرية من القادة هنا وهناك بالعجلة، وطقطقة الأسلحة الشخصية كل هذه الضجة تجعل المحارب يعيش في لحظات غريبة، والمحارب أو المقاتل قاب قوسين أو أدنى من الموت،، لحظات صعبة حتى على كبار السن،، فكيف بالأطفال الصغار الذين استخدمتهم (الانقاذ) يا د. محمد وقيع الله..!!

    تصور يا وقيع الله كم هي مكلفة تلك الحملة التي اقامتها حكومة (الانقاذ) عندما تم خطف أطفال دارفور من قبل منظمة فرنسية..؟؟ تتذكر كيف أن الحكومة السودانية جيشت الإعلام والرجرجة والدهماء وتباكت على الأطفال والطفولة البريئة، وكيف أن التلفزيون السوداني جند كل برامجه ضد المنظمة الفرنسية المسكينة لخطفها الأطفال..!!

    دارفور وأحداث تشاد

    د. محمد وقيع الله لم يعش معنا المرحلة العملية في حياة الحركة الإسلامية التي نعتبرها الميدان الحقيقي للكفاءة والانقياد لأوامر الدين الحنيف، ومرحلة التنظير كانت جميلة وزاهية ولكن ميدان العمل أظهر أننا ضُعاف أمام حقائق الحياة، نعم هناك انجازات مادية ولكنها لا تساوي شيئاً ألبته مع الكوارث والمآسي التي جلبتها (الإنقاذ) للشعب السوداني ومهما حدث من انجازات في نظره ونظر الآخرين لا يمكن أبداً رُؤيتها عندما ننظر إلى كارثة دارفور، أخي وقيع بكل الأمانة والصدق أن قادة (الانقاذ) هم الذين تسببوا في اندلاع شرارة مشكلة دارفور،كنت أعمل في صحيفة (دارفور الجديدة) ليس لي مصلحة في أن أكذب على النظام لكن الحقيقة الساطعة كالشمس أن الذين تذكر انجازاتهم عندما غرتهم الحياة الدنيا لم يتحملوا مطالبة الأهل في دارفور بحقوقهم، فقاموا بضربهم بالطائرات قاذفة اللهب وحرقوا بيوتهم، وأظنك طالعت أحاديث د.علي الحاج في صحيفة (الصحافة) في اللقاء الصحفي وكيف أن عنجهية أهلنا الشماليين وعنصريتهم هي التي كبدتنا جميعاً ملايين الضحايا في الجنوب والغرب ومكنت من دخول القوات الدولية بلادنا..!!.

    ومن إنجازات (الانقاذ) التي تحدث عنها وقيع الله هي أن الشرخ بل الجرح الكبير الذي حدث في السودان بسبب مشكلة دارفور لا يمكن ألبته علاجه بالساهل ويحتاج لعقود من الزمان بعد حل المشكلة (إذا تم حلها)، ولدي الكثير من الاخوة الاعزاء من أبناء دارفور الذين راحت أسرهم ضحايا لمجازر القوات المسلحة السودانية في قراهم، أحد الاخوة قد وصل من بعد معاناة ومطاردة من أجهزة الأمن السودانية الى تشاد ثم الى الكاميرون ثم الى فرنسا فالسويد واتصل بي هنا بتوقيت مكة المكرمة الساعة الثانية صباحاً حكى لي كيف ان طائرات الجيش غارت على منطقتهم في غرب الجنينة وكان سارحاً مع الماشية وعندما رأي الطائرة في الجو تدق الارض بقذائفها جرى مسرعاً إلى منطقته ثم الى بيت فرأى والدته وشقيقاته على الأرض والدماء قد أغرقت المكان، وكان يحكي لي ويبكي بأعلي صوته ويسألني " أبواحمد انت عشت معنا هل نحن انفصاليون..؟؟" و"هل نحن أشرار يرسل أخواننا في الخرطوم الطائرات لتقتلنا..؟؟" كانت لحظات صعبة للغاية ولم أنم ليلتها ولم أهنأ بالنوم منذ تلك المكالمة قبل أكثر من 3 سنوات.

    الآن في الوقت الراهن كل العالم أصبح يدرك بوعي تام أن الحكومة السودانية لا تريد حسم قضية دارفور، وقد كشفت التقارير الإخبارية أن أيادي حكومة (الانقاذ) في أحداث شاد كانت واضحة جدا جداً وقد راح ضحية لذلك عشرات الأنفس البريئة، وعندما حاولت بعض الصحف نشر جزء بسيط جداً من معلومات خاصة بتدخل أيادي حكومية في أحداث تشاد تم اعتقال رُؤساء تحرير تلك الصحف، وأفرج عنهم بعد ضغوط شديدة من الحركة الصحفية في بلادنا وقد أصبحوا هم خط الدفاع الأول عن السودان وليس الحكومة التي تدافع عن انجازاتها.



    محاولة اغتيال مبارك في أثيوبيا 1995م

    من أكثر الفترات العصيبة التي مر بها السودان كونه يتهم لأول مرة في تاريخه الطويل بمحاولة اغتيال رئيس دولة مجاورة هو محمد حسني مبارك في أثيوبيا، وأتذكر أن الرئيس البشير ود.حسن الترابي كانا قد أقسما بالله قسماً غليظاً بأن السودان برئ من محاولة اغتيال الرئيس مبارك لكن المخابرات المصرية قد قامت بخديعة مخابراتية تم الكشف بعدها عن الذين قاموا بالمحاولة من أكبرهم الى أصغرهم، وتم تصفية عدد من (الصغار) وفي وضح النهار، وقد كسبت مصر (أخت بلادي) معركتها ضد السودان التي استمرت آلاف السنين وانتصرت آخيراً حيث وضعت السودان في (مُخباها) بالمعنى البحريني وفي (جيبها) بالمعنى السوداني تلعب به كما تشاء، وبسبب محاولة الاغتيال هذه نالت مصر ما لم تنله من السودان لآلاف السنين وهي الآن تدافع عن السودان دفاعاً مستميتاً وقد وُهبت الأرض في الشمال وأدخلت شركاتها العقارية للعمل في السودان (عايرة وأدوها صوت) لتبني لنا المباني الفخمة الخدمية منها والعامة..!!.

    أحلامنا التي .....

    لا يستحي د. محمد وقيع الله عندما يقول أن "أحلامنا تحققت" ... يا الله.. يا الله....كم هذا الكلام مُقزز ومُبكي..إذن كان حلم وقيع الله كابوس في ليلة شديدة العتمة نام صاحبها نجساً والعياذ بالله ويمضي ويقول:

    "لكن الحركة الإسلامية ماضية تحقق إنجازاتها غير مبالية بهم كثيرا أو قليلا"،

    قد يكون قد تحققت لـ د.محمد وقيع الله كل أمنياته لكن أعضاء الحركة الإسلامية المنتشرين في كل بقاع العالم يؤكدون عكس ذلك تماماً فالانجازات لا تتعدى البترول الذي لم ينتفع به الشعب السوداني ولا من المؤمل ان ينتفع به في القريب غير عوض الجاز وزمرته، الخدمة المدنية وقد دُمرت تماماً فحتى درجة وكيل الوزارة أصبحت وظيفة سياسية بالتعيين السياسي وقد كانت هي المرجعية المهنية والقانونية في كل وزارة، وكان وكيل الوزارة دائما هو القبلة التي يتجه اليها الجميع في كل شئ، هو الأب والأخ والصديق والزميل وهو المسؤول الأول والأب الروحي للجميع بدون فرز، أما وأن (الانقاذ) قد أحالت هذه الخاصية إلى الصالح العام، وأصبحت الوزارات تدار بالكذب والنفاق والتملق، والخدمة المدنية ليس بالشي الهين الذي نتقاضى الحديث عنه، فهي العمود الفقري للتطور البشري على مر العصور.

    وعن مشاريع التنمية حدث ولا حرج وقد بيعت كل المشاريع التي كانت تُوفر الغذاء للمواطنين (الرهد الزراعي- النيل الازرق- النيل الابيض – السوكي – الشمالية-إلخ).

    التجارة أصبحت فقط للموالين للنظام وكذلك التصدير والاستيراد لقادة النظام وأعضاء المؤتمر الوطني من العضوية النشطة سياسياً واقتصادياً، منظمات النفع العام جميعها للموالين، أما التي يقودها غير موالين للحكم توضع العقبات في طريقها حتى يتعذر عليها الاستمرار في العمل.

    الصناعات كذلك غالبيتها لأعضاء النظام خاصة القطاعات المؤثرة وهولاء تُوفر لهم التمويلات المصرفية وتزال من أمامهم كل المعوقات.

    التعليم والتعليم العالي.. لا يحتاج مني لحديث فالكل يعلم والأمر جلي للعامة وباعتراف الكثير من المسؤولين في النظام.

    الدبلوماسية أيضاً كتاب فاضح مفتوح الكل قرأه وقد تحولت السفارات جميعها الى مراكز مخابرات في الخارج والعمل القنصلي ما هو إلا ديكور، والعقلاء من السودانيين في الخارج يعرفون حتى رتب الدبوماسيين الأمنية وتخصصاتهم الأمنية، والآن قد عرف السودانيين من خلال ما ينشر في الاعلام أن ضباط الأمن هم الذين يتولون المناصب المهمة في سفارات السودان في الخارج.

    ومن هنا لا أرى أي انجازات غير استخراج البترول وتصديره، دون أن يرفع من المستوى المعيشي للمواطنين.

    لكن حلمنا في الدولة الاسلامية قد تحول إلى كابوس، بل أصبحت دولة مافيا اقتصادية بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى.

    هذا الحديث يذكرني أحد الاخوة من الصادقين عندما كنا في انتخابات الإعادة في دائرة أمبدة 1988م بعد وفاة نائبها المرحوم صلاح الصديق المهدي كنا في مدينة امدرمان مستنفرين للعمل في هذا الدائرة التي تنافس فيها الشيخ صادق الكاروري من الجبهة مع أحد قادة حزب الأمة، وعندما كانت تأتي بنا الحافلة في منتصف الليل او الساعات الأولى من الصباح كان يحدثني أخي ويقول الظاهر قصة الدولة الاسلامية بعيدة جدا" ورحنا نتذكر الصحابة الأجلاء ثم شهداء الحركة أمثال عبدالإله خوجلي و حسن سليمان و عبدالله ميرغني والامام الهادي المهدي (تقبلهم الله في الخالدين)، فبكى أخي بكاءً كثيراً، وحقيقة أن أشواقنا للدولة الإسلامية الحقة لا يمكن أن يصفها إنسان، فهي دولة العدل.. ودولة الدين.. دولة الرحمة.. دولة الصدق.. ودولة التسامح الديني، دولة نعيش فيها كلنا مسلمين ومسيحيين ويهودا ووثنيين في مكان واحد، نعم نختلف في عقائدنا لكن نحتمي ببعضنا البعض ونهرب من بعضنا لبعضنا البعض لا تفرق بيننا المناطق ولا الجهويات ولا القبليات ولا الكسب الدنيوي.

    ترى كم من الآلاف من كادر الحركة الذين خرجوا من النظام مبكراً عندما تأكد لهم أن النظام يسير نحو عكس ما كانوا يعملوا من أجله السنين الطوال..؟؟؟ ترى كم من الشباب الذين غادروا محطة (الانقاذ) وهربوا بدينهم من جحيم زيد وعبيد، ترى كم من الآلاف الذين قدمتهم الحركة في جنوب السودان ، مسيرة طويلة من الصديقين والشهداء الذين عافت أنفسهم نعيم الدنيا من شهداء 1973م إلى عبيد ختم البدوي وأحمد عثمان مكي ومحمد عثمان محجوب مرورا بالهيثم عبدالهادي الحسن ويوسف سيد والبادرابي والمنصوري وعلي عبدالفتاح، وعبدالله جابر وعبدالله بابكر، وحسين سرالختم وشقيقه خالد، والكثير من الذين لا يعرفهم د.محمد وقيع الله باعوا حياتهم رخيصة من أجل دولة العدل الرشيدة.

    ومن هنا أسأل الله للدكتور محمد وقيع الله أن تكون هذه شهادته لـ (الانقاذ) فيُبعث بها يوم القيامة يوم تصطف الخلائق جميعها أمام رب العزة والجلالة كل بمظلمته وذنوبه،حينها يكون الكثير من الناس في موقف لا يحسدون عليه، فشهادة للنظام الذي قتل الأبرياء في الجنوب وفي دارفور والشرق وداخل المعتقلات وداخل معسكرات الخدمة الإلزامية لا يمكن بأي حال من الأحوال إلا أن يكون من أهل الجحيم لأن ما قاموا به من مجازر حقيقة وليس إدعاء كاذب، كل الشواهد والأدلة ستقف أمام رب العالمين في يوم يخسر فيه الظالمين ومن أيدهم وساندهم.

    فإذا كنت قد دافعت عن (الانقاذ) كل هذا الدفاع (بالصح والكضب) فمن الذي يدافع عنهم يوم العرض..يوم الدين.. يوم الحساب،وإذا كان للنظام أقلامه وكُتابه وقنواته الفضائية تمجد كل أعماله وتصدق أكاذيبه فتذكر أخي د. محمد وقيع الله قول الله عز وجل وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء [ابراهيم:43،42]..

    وقوله سبحانه: أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى [القيامة:36].

    وقوله تعالى: سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [القلم:45،44]. وقوله : إن الله ليملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته ثم قرأ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102].

    وفي يقيني التام أن الظالم مهما مكث في كرسي الحكم يوما ماً سيطاله الحساب في الدنيا والاخرة والتجارب علمتنا ذلك من الديكتاتورصدام حسين الذي أصبح يمثل أكبر النماذج القريبة جدا لعالمنا ولواقعنا، وأمامنا قوله تعالى: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ الشعراء:227

    هذه بعض من صفحات من تاريخ النظام المخزي كُتبت بصدق وبأمانة ويكفي أن كاتبها خارج السودان يعاني البعد عن الأهل وعن الأسرة، ويُعرف لدى الجميع في البحرين أنه أبعد الناس عن ممثلية النظام وحتى عن مقر الجالية، سبع سنوات خارج الوطن..

    أتمنى من الاخ د. محمد وقيع الله أن يطالع هذه السيرة وان يسأل عن كاتبها وعن صحة ما كتبه

    وإذا ادعت الامور لكي أزيد فيما كتبت فسوف آتي لا محالة..
                  

04-29-2008, 05:47 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ردا على عبد الرحمن الزومة ... قبح العلمانية ام شرور الاخوان المسلمين ....؟ (Re: الكيك)

    لماذا ننادي بعلمانية الدولة
    عبدالله المدني
    [email protected]
    2006 / 7 / 1


    علمانية الدولة ببساطة شديدة هي أن تقف الدولة موقف الحياد من العقائد و المذاهب التي تدين بها مكونات شعبها، بمعنى ألا تكون في قراراتها و سياساتها و خططها و تعييناتها – بما في ذلك مناهجها التعليمية وسياساتها الإعلامية و الثقافية - منطلقة من مذهب أو عقيدة أو مرجعية دينية معينة و إن كانت عقيدة و مرجعية الأغلبية، لما في ذلك من تهميش لعقائد الآخرين و تمييز ضدهم و إخلال بمباديء المساواة و العدالة و المواطنة.

    ومن هنا حرصت البلاد التي انتهجت الديمقراطية الليبرالية الحقة و أقامت الدولة المدنية الحديثة على عدم تضمين دساتيرها ما يفيد بديانة الدولة. و لا يعنى هذا البتة التقليل من شأن الدين و مكانته السامية في النفوس و دوره المؤثر في المجتمع، بل على العكس من ذلك. فالدولة العلمانية بعدم إقحامها الدين الذي هو حزمة من القواعد المقدسة و الأحكام الربانية الثابتة في الشأن السياسي اليومي المتحول أو في اللعبة السياسية المتذبذبة يسارا و يمينا، إنما تحفظ للدين هيبته ومنزلته و تنزهه من السقوط في وحول السياسة التي تتغير قواعدها و آلياتها بتغير الأهواء و الظروف و الشخوص و المصالح.

    و خلافا لما هو شائع في البلاد العربية و بعض البلاد الإسلامية، و لاسيما في أوساط البسطاء و الدهماء، فان العلمانية لا تهدد الدين و لا تحاربه ولا تسعى إلى سلخه من أفئدة الناس، بدليل أن المجتمعات التي طبقت علمانية الدولة لا تزال شعوبها كما كانت دوما مؤمنة بعقائدها و ممارسة لطقوسها الدينية بحرية و ماضية في بناء دور عبادتها دون قيود، هذا إن لم تكن درجة النزعة الإيمانية قد زادت بفضل ما هو متاح من حريات دينية أمام أتباع مختلف المذاهب و الطوائف.

    أما سبب شيوع الفهم الخاطيء للعلمانية في مجتمعاتنا، فتسأل عنه حركات الإسلام السياسي التي دأبت على تشويه هذا المفهوم مثلما شوهت الكثير من المفاهيم العصرية و الحضارية الأخرى، فجعلتها في أعين البسطاء مرادفة للكفر و الإلحاد و الإفساد و الانحلال و التغريب، و ربطتها بالمؤمرات الاجنبية على الإسلام و المسلمين، دون إبراز أي دليل عملي على ما تقول. و هي في كل هذا لا تنطلق من غيرة حقيقية على الدين و ما في الدين من تبشير بالمساواة و العدالة و التسامح و الإخاء و السلام، بقدر ما تنطلق من رغبتها الجامحة في الهيمنة على المجتمع و إقصاء المختلفين معها، بل من خوفها على تراجع مكانة رموزها و مصالحهم إن طبقت علمانية الدولة.

    إن إقامة الدولة المدنية العلمانية وفق الصورة المنوه عنها، باتت ضرورة لإخراج مجتمعاتنا المتخلفة من شرنقة الجدل و حالة اللاحسم حول الكثير من القضايا الصغيرة و الكبيرة التي لا تزال تراوح مكانها بسبب إقحام الدين فيها و بالتالي الاختلاف المرير حولها، فيما المجتمعات الأخرى حسمت خيارها و تجاوزت الجدل العقيم و انصرفت بكل قواها نحو البناء و التنمية و الإبداع.

    وعلينا أن نتذكر أن الغرب لم يحقق نهضته الراهنة و لم يصل إلى ما وصل إليه من إنجازات في شتى المجالات الإدارية و الحقوقية و التربوية و العلمية و الصناعية و الاقتصادية إلا حينما تحرر من سطوة مؤسسة الكنيسة و تفسيراتها المتشددة و دورها البطريركي الرهيب – و ليس من الدين نفسه – و أقام الدولة المدنية العلمانية. و لو انه ارتضى بما كان يجرى من قمع لحرية التفكير و حجر على العقول و تدخل في كل قرار دنيوي على يد أرباب المؤسسة الدينية و تفسيراتهم، لكان حاله اليوم مزريا.

    لكن لماذا نتحدث عن المجتمعات الغربية ذات الظروف و الخصائص التاريخية المختلفة، و أمامنا مجتمعات شرقية عالمثالثية استطاعت بفضل نهجها العلماني تحديدا أن تحقق ما لم تحقق مجتمعاتنا العربية حتى عشره. لنفكر فقط في شبه القارة الهندية التي انقسمت في عام 1947 إلى كيانين احدهما ديني ممثلا في باكستان و الآخر علماني ممثلا في الهند، و لنسأل أنفسنا أين تقف الأولى اليوم و أين تقف الثانية؟

    إن الكثيرين عند حديثهم عن الهند و ما حققته من استقرار و نهضة و قوة في سائر المجالات يشيرون إلى نظامها الديمقراطي الليبرالي فقط، و ينسون أن هذه الديمقراطية ما كانت لتترسخ و تقي البلاد شرور التشرذم و الانقسام و الانقلابات العسكرية و الحركات الانفصالية المنطلقة من منطلقات دينية أو عرقية أو ثقافية، لولا وجود دعامتين يسندانها هما: العلمانية و الفدرالية. وإذا كانت الفيدرالية ضمنت للولايات الهندية أن تدير شئونها بنفسها و بالتالي تشبع طموحات سكانها المتباينة اقتصاديا و اجتماعيا و ثقافيا، فان العلمانية كانت ضرورة للتعامل مع مختلف الأديان و المذاهب التي يدين بها الهنود على قدم المساواة و بالتالي التعامل مع كافة أتباعها كمواطنين لهم نفس الحقوق و عليهم نفس الواجبات، بما في ذلك حقهم في شغل مناصب الدولة الكبرى.

    إنها العلمانية وحدها التي اتاحت في الهند لابن صياد فقير (الدكتور زين العابدين عبدالكلام) من الأقلية المسلمة التي لا تشكل سوى 15 بالمئة من إجمالي السكان أن يصل إلى منصب رئاسة الدولة، و اتاحت لرجل من الأقلية السيخية (الدكتور مانموهان سينغ) التي لا يتجاوز عدد أتباعها نسبة 3 بالمئة من السكان أن يتبوأ منصب رئاسة الحكومة المحوري، و اتاحت لسيدة كاثوليكية من أصول إيطالية و لم يمض على حصولها على جنسية البلاد سوى عقدين و نيف من الزمن مثل سونيا غاندي أن تحتل موقع رئاسة الحزب الحاكم أي حزب المؤتمر التاريخي الذي تحقق على يديه استقلال الهند، فيما الأقليات في دولنا العربية اللاعلمانية تجاهد من اجل الحصول على حقيبة وزارية ثانوية يتيمة دون جدوى. و باختصار اتاحت هذه العلمانية لثلاث شخصيات من الأقليات أن تقرر مصير امة غالبيتها الساحقة من الهندوس، دون أن يصدر من هؤلاء اعتراض أو تذمر أو عصيان.

    ثم لنسأل لماذا لا نجد هنديا مسلما واحدا على قائمة الإرهابيين الذين زرعوا العالم رعبا و قتلا و تفجيرا في السنوات الأخيرة رغم وجود أكثر من 150 مليون مسلم في الهند و رغم انتشار المدارس و الجمعيات الإسلامية فيها، فيما القائمة ذاتها تحتوي على مسلمين من مختلف الأقطار العربية و الإسلامية دون استثناء؟ الإجابة تكمن في علمانية الدولة الهندية وحدها، و ما وفرته من احترام لكل الأديان و مساواة في التعامل مع رموزها وحريات كاملة لأتباعها في الكتابة و التعبير و العمل و التنافس و التقاضي و الإبداع و تولي المسئوليات العامة.

    ومرة أخرى إن علمانية الدولة و ما يتفرع عنها من حقوق المواطنة الأصيلة و بالتالي السؤال حصريا عن ولاء المواطن لبلاده و كفاءته – لا دينه و مذهبه - حين التعيين في الوظائف الرسمية،هي التي أتاحت لجنرال تايلاندي مسلم أن يجلس على رأس قيادة جيش بلاده البوذية، و مكنت شخصية مسلمة من احتلال منصب رئاسة البرلمان في بلد جل سكانه من البوذيين أو المسيحيين مثل سنغافورة.

    أما فيما يتعلق بالبحرين، التي تمثل حالة خليجية متميزة بفضل ما بلغه أبناؤها من مستوى تعليمي و ما تحتضنه بالتالي من كوادر مثقفة، و بفضل تاريخها الطويل كمجتمع منفتح و متسامح و وعاء حاضن لثقافات و أعراق و مذاهب متنوعة، فإنها مهيأة أكثر من غيرها لتكون نموذجا للدولة المدنية العلمانية لولا سطوة الإسلام السياسي الحركي الطارئة. و لا أبالغ لو قلت أن مجتمعنا البحريني للأسباب التي ذكرتها آنفا هو علماني بطبعه، بمعنى انه غير متطرف دينيا. و بعبارة أخرى فهو لئن كان محافظا و ملتزما بأهداب دينه الإسلامي، فانه في الوقت نفسه يحترم أتباع الديانات و المذاهب الذين يشتركون معه في المواطنة، و لم يصدر عنه في الغالب ما يشير إلى تبنيه لنزعة اقصائية أو مطالبته بفرض أحكام عقيدته على الآخرين أو تحبيذه لإقامة الدولة الدينية على أنقاض ما هو قائم.

    و حينما ننادي بعلمانية الدولة و مدنيتها في البحرين ، فإننا بهذا لا ندعو إلى تهميش الإسلام و دوره في حياتنا بقدر ما ندعو إلى عدم إقحامه في كل صغيرة و كبيرة من الأمور الدنيوية الخالصة. إننا ببساطة لا نريد أن نصل إلى وضع يصبح فيه موضوع مثل تحية العلم الوطني، مسألة جدلية يستدعى رجال الدين للإفتاء بصحتها من عدمها مثلما حدث مؤخرا في دولة مجاورة، أو إلى وضع يتدخل فيه لابسو العباءة الدينية في مسألة مثل أداء الجندي للتحية العسكرية أو مدى صحة دفاعه عن دولته إذا كانت هذه الدولة لا تطبق الشريعة بحذافيرها مثلما حدث في دولة مجاورة أخرى.
                  

05-04-2008, 11:07 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ردا على عبد الرحمن الزومة ... قبح العلمانية ام شرور الاخوان المسلمين ....؟ (Re: الكيك)

    سلوك الإسلاميين والدولة

    صلاح شعيب
    [email protected]

    هل يفترض المرء ان الاخوة الاسلاميين السودانيين ينبغي أن يتحلوا بسلوك جيد ومختلف عن الذين ينتقدونهم .. على اعتبار انهم يحاولون أن يظهروا لنا عيانا بيانا أن حساسيتهم «السياسية/الدينية» أعمق، أم أن هذا الافتراض سيكون ساذجا بالنظر إلى حقيقة أن سلوك المرء لا يختبر من خلال تنظيمه السياسي، وإنما عبر تربيته التي تبدأ من البيت ثم المدرسة، وتنتهي بالتنمية الذاتية المستمرة لمدونة السلوك في عقل المرء، وربما ضميره حتى مماته؟..

    هذا السؤال قد يفرع آخر مؤداه هو: هل أن منظومة السلوك الاجتماعي الطيب تتعلق بفكر سياسي دون غيره أم أن السلوك، طيبه وسيئه، مشاع على قارعة كل طريق ايديولوجي... شيعي، بوذي، هندوسي..إلخ؟

    لا احبذ هنا وضع إطار فلسفي للموضوع، بقدر أن المحبذ لدي هو طرح التساؤل، ولعل الهدف منه كيفية فهم الذهن الإسلاموي الذي يتقدمنا في الدفاع عن الله ورسوله من بوابة دولة السياسة، كما تمظهر. إذ أن منهج سياسة الدولة ليس هو منهج التشبث بقيم الدين. والنهج الأخير هذا يبدو صعبا خلطه بالأول، مهما حاولنا لجم أنفسنا واحطناها بالتعوذ من الشيطان ولعنا ـ من ثم ـ سنسفيل تربصه بنا بأغلظ الايمان. وهل حقا أن معنى أن تكون سياسيا هو أنه لا بد أن تفهم لعبة المناورة والمراوغة، وإلا سوف لن تتقاعد سياسيا ناجحا أو مسلما حسن الصهر عبر تجربة رئاسة أو توزير أو إدارة ـ هذا إذا كنت تظن أنك دخلت السياسة لإقامة الدولة الدينية..؟

    أهلنا يقولون «راكب سرجين وقيع وساير دربين ضهاب»، ولعل فرص الربط بين الدولة والدين مهدت لنا معرفة مكر «البني آدم» السوداني في مزاوجته المقدسة بين إعادة إحياء الدولة بقيم الدين القويم لتحقيق نموذج للتفاني يؤثر فيه الناس على أنفسهم من أجل تحقيق الخير للمسلمين وغير المسلمين في السودان.

    وبطبيعة الحال فإن المضمون من هذا التساؤلات الابتدائية لا ينفي حقيقة أنك يمكن أن تدخل السياسة بأمل ألا تسرق و ألا تستغل ذلك المنصب لتحسين وضعيتك فقط على حساب الناس، وألا تنحاز لأسرتك أو لأهلك عندما تتوزر، أو ألا تبني بيتا يتطاول على كوخ جارك، وألا تقتني سيارة فارهة، أو ألا تجلس على منصب هناك من هو أحق منك به، ويستطيع من خلاله أن يخدم مصالح الناس بأفضل منك، أو ـ بالكثير ـ وألا تتسبب في فقد أحدهم لمصدر رزقه دون تعويضه بعمل آخر.. ما دام أنت المسؤول عن الرعية..

    وهناك غيرها من الممارسات التي مطلوب ألا تضعك في تناقض مع اصول وفروع دينك الذي تؤمن به.. وتستطيع أن تدخل بوابة السياسة بإيمان وسلوك ديني قويم.. وتستطيع أن تخرج من السلطة دون أن تضعف أمام مغرياتها. ولكن يجب أن تعلم أن فرصتك في الحرص على السلوك الديني المستقيم لن تتيح لك مجالا للطموح السياسي من الوزن الثقيل.

    إذا أردت مجدا سياسيا خلاقا يجب ـ على حسب تجربة الانسان التاريخية مع السياسة ـ أن تفهم الشروط الاولية لعلم السياسة، أما إذا اردت أن تخدم الدين فيجب أيضا أن تعي ضرورات التقيد بجوهره لا الوعي فقط بكيفية تبرير فعلك الخاطئ بنصوص من الكتاب الكريم. وصفاء الدين هو في صفاء فعلك لا في شكل أو مظهر توظيفك له. ومتى ما أردت خدمة متخيلة للدين اعلم انك متحرر من ذاتك لصالح الجماعة، بيد أن شيطان الدولة لا يتركك تذهب بعيدا دون أن تسفك الدماء ـ مثلا ـ حتى تثبت وضعيتك أمام الطامعين في الكرسي، وإلا أصبح الصبح ووجدت ذاتك كعصفور حزين في قفص لا يحسد عليه.

    وإذا كان عدم اقتراب الشخص نفسه عن السياسة بشروطها ـ من مراوغة أو مناورة ـ لا ينجيه من مغريات الدنيا، فما بالك أن تنمي سلوكا اسلاميا ممتازا داخل دولاب الدولة، وكلنا يعلم أن الحفاظ على هذا الدولاب يتم بالبطش والقمع الذي لا يرضي الله ولا رسوله وكذلك صحبه الغر الميامين.

    ومنهج «السياسة الرسالية» حتى الآن لم يكتمل نظريا أو لم يتم التفكير فيه أصلا، بحيث أن تقام أعمدة هذه الرسالية المظنونة على هدى من أخلاق رفيعة. وحتى نتلمس فرضيات هذه الرسالية السياسية ونقنع بها، إذا كان من الممكن، فإننا نبقى على تفحص علاقات السياسة بسيوسيولجي الوجود، أي التجربة التاريخية.. وليس الاسلامية فحسب، وإنما أيضا المسيحية أو اليهودية أو الميثلوجية الافريقية أو اللاتينية او الآسيوية..أو .. أو ..إلخ.

    طبعا من الناحية المبدأية يصبح من المشروع سياسيا أن تطرح طرحا عقلانيا عن كيفية جعل تشريعات الدولة متطابقة للنص الديني المعني، وبحيث أن تسير السلطة التنفيذية وفق التوراة والانجيل، وأن تتم ممارسة السلطة القضائية انطلاقا من قوانين سماوية. وهذا يعني أيضا أن لا مشاحة في تنفيذ هذه الافكار أيضا ما دام انها تتوسل بالطرق الديمقراطية، ولكن تبدو محاكمة هذا الطرح العقلاني وتنفيذه وفقا لنتائج الغايات التي نتحصل عليها من خلال الممارسة. فالاديان غايات وليست وسائل، متى ما خدمت غاية البشر ومصالحهم كان ذلك هو المطلوب، ومتى ما حادت عن هذه المصلحة، فإن الحاجة للتدبر فرضت علينا إعادة التفكير في المنهج الذي به أردنا مسبقا تنزيل الدين بين أزقة الحكومة.

    وإذا احتكمنا إلى الغاية التي ارادها الإخوة الاسلاميون بالسودان، واسقطنا إجرائيا كل رأي حول صدقهم أو عدمه، وبحثنا إمكانية اختبار سلوكهم الديني الظاهر ومقاربته بالغاية الاولية لتحكيم «شرع الله» أكثر من المقاربة بالفشل البائن للدولة في حل مشاكل الناس، فإن المرء يصل إلى القول ان معظم الاسلامويين لم ينتهوا فقراء، أو بأحسن التقدير إلى مشابه للوضع الاجتماعي الذي كانوا عليه ما قبل الحصول على الدولة.

    وإذا تركنا أيضا جانب الخطأ والصواب ـ إجرائيا ايضا ـ في تجربة «بيوت الاشباح»، إلى قتل الذين استخدموا نفس منهج الإسلاميين «المجاز» إسلاميا في الانقلاب، إلى إعفاء الآلاف من الخدمة المدنية دون إيجاد البديل لهم في الرزق، إلى التخبط في العمل السياسي وافتقار المنهجية في التعامل مع الاحداث التي ألمت بهم، إلى وراثة الوظائف في مقابل عدم العدل في توزيعها، إلى التعامل مع المكون القومي في الجنوب ودارفور خصوصا، إلى ـ حتى ـ اختلافهم عن بعضهم البعض بالكيفية التي شهدنا، إلى زعزعة الاستقرار في الجوار العربي والافريقي، وإلى التعامل مع أخوانهم «المجاهدين» العرب والمسلمين.. وإلى .. وإلى..إلخ، فإن الحيرة تملأ المرء من الهيئة التي انتهى إليها غالب الكادر السياسي الإسلاموي على مستوى الاستفادة من خدمة النفس عبر هذه الخدمة التي بذلها للغاية الاسلاموية، وهي قد أبانت لنا عن خواتيمها الآن، ولسنا بحاجة للاستشهاد ببعض اسلاميين كثر ـ وليس علمانيين ـ على نقدهم لنموذج الدولة الإسلامية والذين عدوا التجربة «مأسوية» على البلد، في أحسن الافتراضات.

    طبعا يستطيع من هم ينافحون ـ ولا نقول يكابرون ـ عن نجاعة فكرة اسلمة الدولة، أن يعدوا كل هذه المثالب التي افرزتها تجربة الدولة الدينية في السودان ان يبرروا «المآلات» التي بدا عليها واقع المسلمين في السودان، بل يستطيعون أيضا ان يحملوا الفشل إلى عوامل خارجية غذت آثارها «دول الاستكبار والصهيونية والعلمانيين والزنادقة والزراليخ والوطاويط»، على اعتبار أن هؤلاء «الخونة» لا يريدون «حكم الله ولا يعترفون برحمته» وما إلى ذلك من التقديرات التي نتلمسها بين الفينة والاخرى.

    ولكن السؤال الجوهري الذي يتفاداه الاسلاميون هو: ولكن ماذا عن النعم الوفيرات التي انعم الله بها من هم تجشموا عناء انجاز غاية الاسلام في الوقت الذي تباعدت مسافة «الوضعية الاجتماعية المريحة» ما بينهم وجيرانهم من وقود الطبقة الوسطى أو الفقراء؟

    ليس من وظيفة هذا الكتابة التعميم، وذلك على حسب اننا في مفتتحها قلنا إن السلوك الاجتماعي يبدأ من البيت، وأن السلوك الاجتماعي الطيب لا يرتبط بحزب دون آخر. بمعنى أن بين الاسلامويين ـ وهم دعاة ايديولوجيا ـ بعض عضوية لم يثر على حساب مسيرة توطين القيم الاسلامية، وهناك بعض من الاهل والاصدقاء من الاسلاميين اعرف فقرهم، إما لقلة حيلتهم في الخروج من المولد بـ «الغنيمة» أو لحرمان الواعز الديني لهم من السقوط في حبائل الضعف الإنساني أمام خيرات الدولة.

    فالمقال يخاطب بالدرجة الأولى ضمير غالبية معتبرة من الكادر القيادي الاسلاموي الذي أثرى من خلال الوظيفة بالمال أو الطموح، أو من السوق حين تم توجيه الناس إلى إهمية الاهتمام بالغدو والرواح بين المنزل والمسجد، بين المكتب والزاوية. وهذا يعني أننا لا نفتئت على كل الاسلاميين ما دام أن هناك ايمانا راسخا لدينا بأن بعض الاسلامويين حتى هذه اللحظة ونتيجة لـ «عوامل مركبة» تتعلق بـ «أ» تركيبتهم الفكرية الصمدة و«ب» غياب البديل السياسي و«ج» ضمور الثقة في القيادات السياسية والضعف النظري في خطاباتها الفكرية ـ لا يرون في التجربة المائلة إلا خدمة للدين والسودان، وأن بالامكان ليس أفضل مما كان من نتيجة تحقيق الغاية الدينية.

    إن مشكلة الأخوة الإسلاميين ستكون متعمقة أكثر في حال عدم اعتبارهم لدراسة تجربة الدولة القائمة في تأثيرها على سلوك كوادر الاتجاه الاسلامي، السلوك المتعلق باستباحة المال العام، والتعامل غير السوي مع الآخر المسلم وغير المسلم، والهرولة نحو طلب واستغلال الوظيفة، وعدم القدرة على مراجعة أنفسهم أو محاسبتها، والتحيز للأقرباء مع ظلم الابعدين، وغيرها من مظاهر السلوك التي أفسدت قيادات التنظيم، وصعبت من بعد الإمكانية لإيجاد الحلول للورطة التي أدخلوا فيها التنظيم والبلد والمواطنين.

    كل المشاكل التي نعايشها الآن تعود إلى الفكرة التي حاولت قسريا أسلمة الدولة، وهي ذات الفكرة التي قادت دعاة الإسلام السياسي إلى ترك مضامين القرآن الكريم والسنة النبوية التي يقنعون بها الناس جانبا منذ أولى مراحل التمكين، ووراثة خيرات البلد وتقصيرها على العضوية.

    والآن سيدرك هؤلاء الدعاة وحدهم إلى اي مدى تنبض ضمائرهم بالارتياح لما بذلوه لصالح تثبيت أهم دعائم الاسلام في أرض السودان، كما إنهم سيدركون حتما إلى أي مدى خدمتهم «الموهبة السياسية المقدسة» في إبراز القدرات الادارية المبدعة التي تستطيع تسيير دولاب الدولة وبالشكل الذي يفيد الامة.

    ولعل من السهل جدا لأي إسلاموي بذل محاولات دؤوبة لإقناع المواطنين بأن الحركة الاسلامية قادرة على حماية البلد والانتقال بها من واقع أقرب للانهيار ـ بالنسبة لنا ـ إلى مستقبل أفضل تمكينا لشرع الله، ولكن من الصعب بالنسبة لقادة الحركة الاسلامية إقناع ضمائرهم ـ في لحظات الصدق ـ أن كل شيء فعلوه كان لله.




    الدعوى والدعاية الفارغة

    عمر القراى

    الذين درسوا في جامعة الخرطوم، من منتصف السبعينيات إلى منتصف الثمانينيات، وربما بعدها بقليل، لا بد ان يكونوا قد شاهدوا الوعود العجيبة، والادعاءات العريضة، التي يقوم بها الاتجاه الإسلامي، قبيل انتخابات اتحاد جامعة الخرطوم. فالجامعة تملأ بالملصقات بمختلف الألوان، تتحدث عن (الاتجاه الإسلامي.. أصلب العناصر لأصلب المواقف) وكيف أن الاتجاه الإسلامي سيسحق (كل الأحزاب الهزيلة المتحالفة) ضده، وكيف أنه (سيسحق حكومة العسكر).. وأنه أكفأ (من يقدّم الخدمات لجموع الطلاب). أما في برنامجه الانتخابي، فإنه كان يعد الطلاب، بزيادة (المنحة الدراسية)!! ويعدهم بـ(فتح داخليات الطالبات للزيارة على مدى 24 ساعة في اليوم)!! ورغم أننا كنا نرى أن الانتخابات تصيب الأحزاب المتنافسة، بحمى تجعلها تلجأ للمبالغة، وتضخيم انجازاتها، والتقليل من شأن منافسيها، وقطع الوعود على نفسها، وهي لا تملك تحقيقها، إلا أننا كنا نأخذ على الاتجاه الإسلامي، مفارقته لأخلاق الدين، باللجوء للكذب، والمبالغة، والتضليل من أجل الفوز السياسي..
    تذكرت كل ذلك، وأنا أقرأ الخبر التالي: (شدد مساعد رئيس الجمهورية نائب رئيس المؤتمر الوطني للشؤون السياسية والتنظيمية د. نافع علي نافع، على أن التعاون والتعامل مع الأسرة الدولية لن يكون ثمنه التنازل عن الشريعة الإسلامية ونحن لسنا غافلين ولا واهمين ولا حالمين ولن نطلب الصلح والود والمعاملة من أحد. وقال نافع لدى مخاطبته لقاءً جماهيرياً بالجزيرة أبا عقب بيعة الزيادية للمؤتمر الوطني إن حزبه ماض في عرض برنامجه عبر الانتخابات القادمة ببرنامج يتركز على تقديم الخدمات والتمسك بقيم الإسلام ومبادئه، ودعا القوى السياسية لعرض برنامجها السياسي وأن يكون خطابها مبنياً على الحجة والمنطق والصدق والشفافية. وأكد أن المؤتمر الوطني لا تهزمه الشعارات الجوفاء لأنه صاحب فكر ومبدأ، وأضاف أن المشروع الحضاري مشروع الإنقاذ والمؤتمر الوطني لم يصبه الوهن. وقال إننا سندافع عنه بكل الوسائل وأن فجر الشمس الصادق سيخرج من السودان لكل المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها). (الصحافة نقلاً عن سونا 25/4/2008م).
    ونحن نتساءل ما هو المحتوى النظري للمشروع الحضاري الذي جاءت به الإنقاذ، وهل حقاً ما زال ذلك المشروع باقياً، وما زالت شعاراته عالية كما كانت؟! أما محتوى المشروع الحضاري، فإنه معيشة قيم الإسلام، بكل ما تحوي من معاني العدل والرحمة، وتحقيق الرخاء، والأمن، والسلام، لكافة المواطنين، الذين قامت ثورة الإنقاذ لتنقذهم، مما كانوا يعانون منه من الفقر، والقهر، والمرض. كما حوى المشروع الحضاري، الهجوم على أعداء الإسلام من الغرب، وتوعد أميركا بأنه قد دنا عذابها. ورفع شعارات عزة الوطن، وعدم الرضوخ للقوى الأجنبية. كما وعد بتوفير الخبز والمسكن والمأوى لكل مواطن.
    ومعلوم أن حكومة الإنقاذ قد استغلت الإعلام، لترويج أطروحاتها، والتركيز عليها بصورة مكررة حتى صدقتها قاعدة التنظيم من البسطاء، والمضللين باسم الدين.. ولكن الواقع أصدق من الأقاويل، والتجربة أبلغ من الخطب الرنانة. فهل يعتمد د. نافع على ضعف ذاكرة الشعب، حين يصر على أن المشروع الحضاري باق، ولم يصبه الوهن؟!
    عندما قامت الجبهة القومية الإسلامية، بانقلابها في 30 يونيو 1989، سمت نفسها حكومة الإنقاذ الوطني، وأعلنت أنها جاءت لتنقذ البلد من الوضع الاقتصادي المتردي، وأوضحت أن وسيلتها لتحقيق هذا الإنقاذ، هي البرنامج الحضاري الذي تعني به تطبيق الشريعة الإسلامية.. وحتى تحكم قبضتها، عزلت كل من لم يكن من الموالين لها، من الخدمة، واستبدلتهم بكوادرها، دون اعتبار للكفاءة، مما زاد من تدهور الخدمة المدنية.. (راجع مقالنا حول اعتراف السيد نائب رئيس الجمهورية بذلك في ارشيف الصحافة)، ثم اعتقلت كل من تتوقع أنه مخالف لها، أو من معارضيها، وسعت إلى ارهابهم بأساليب من التعذيب، في «بيوت الأشباح»، لم يعهدها السودان من قبل، كان بعض أعضائها قد تدرّب عليها في إيران.. ولقد مات عدد من السودانيين الشرفاء، تحت وطأة التعذيب، وأصابت الإعاقة عدداً آخر من الذين لم يقض عليهم بالموت.. واتجهت حكومة الجبهة إلى ارهاق كاهل المواطنين، الذين شردوا من أعمالهم، بالضرائب الباهظة، وبالزكاة على ما لا تجب فيه الزكاة، حتى تسيطر على كل الثروة من جهة، وحتى تشغل الناس بالسعي خلف لقمة العيش، عن أي تنظيم أو تخطيط لعمل سياسي، من الجهة الآخرى.. كما أنها ركّزت على ازاحة التجار من السو ، بتعقيد الإجراءات عليهم، وتسهيلها لمنافسيهم من كوادر الجبهة، حتى سيطر على السوق أيفاع الجبهة، وأرغم على الخروج منه، كبار التجار والمستثمرين، الذين ظلوا فيه، لفترات اكبر من اعمار اولئك الايفاع.
    ولقد بلغ الشعب السوداني، من الفقر والفاقة، على يد حكومة الجبهة، ما دفع الحرائر إلى الانحراف، ومع ذلك كان اعضاء الجبهة، يبنون العمارات العالية، ويركبون العربات الفارة، وكلما ازداد المواطنون جوعاً، ازدادوا هم تخمة، ووظفوا أموالهم للمزيد من إفساد الفقراء، واستغلالهم.
    ولقد تردى التعليم، بفقد أبسط مقوماته (المدرس والكتاب)، وعوضت حكومة الجبهة عن التردي في جامعة الخرطوم، بإنشاء عدد من الجامعات كاسماء بلا محتوى ولا إمكانات.. إذ كانت وما زالت نسبة الإنفاق على قطاع التعليم أقل من (1%) من الدخل القومي.. أما قطاع الصحة، فقد كان أسوأ من قطاع التعليم، إذ أصبح المرض، حتى لو كان مجرّد ملاريا، يعني الموت!! ولقد عجزت حكومة الجبهة، عن أن توفر أبسط الأدوية أو العناية في مستشفى الخرطوم، دع عنك الأقاليم.. ولقد نزح آلاف المواطنين من الريف إلى العاصمة، لعدم وجود الحد الأدنى من الخدمات الأساسية في الأقاليم.
    ثم إن حكومة الجبهة، وجهت كل صادرات السودان، على محدوديتها، لشراء السلاح، وأنشأت قوة مسلحة جديدة، سمتها الدفاع الشعبي زودتها بالسلاح، والعتاد، لتدعم بها الجيش النظامي، ظناً منها أنها بذلك سوف تقضي على المعارضة المسلحة في الجنوب.. وبالإضافة إلى الانفاق على أعضاء الجبهة، من الوزراء والوكلاء والوجهاء والمسؤولين السياسيين الذي تضخّمت أعدادهم بسبب ارضاءات الكوادر، زاد الصرف على أجهزة الأمن، باعتبارها أهم الأجهزة التي تحافظ على السلطة.. ثم صرفت أموالاً لا حد لها، على الحملة الإعلامية الضخمة، التي قصد منها تعبئة الشعب في اتجاه الحرب، وصاحب هذا التضليل المنظم، الذي اتجهإلى غسيل مخ الشباب، استغلالاً بشعاً للدين في حرب جائرة لا علاقة لها بالإسلام من قريب أو بعيد.. فقد قتل آلاف المواطنين في الجنوب، وفي جبال النوبة، ونزح الملايين من قراهم، مما أساء إلى سمعة السودان، حين أصبح ملفه من أسوأ الملفات، لدى المنظمات الدولية لحقوق الإنسان كافة..
    وبعد سنوات من الفقر والقهر والفشل الذريع، أدى المشروع الحضاري، الذي كان يفترض أن يوحد السودانيين، إلى انقسام الجبهة على نفسها، بين جماعة البشير وجماعة الترابي، الذين انشغلوا بكيل التهم لبعضهم البعض (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب).. ووضح للشعب، بعد هذه التجربة المريرة، الماثلة، أن هذه الجماعة لا علاقة لها بالعدل والخير، الذي تبشر به الأديان، وظهر أنها مجموعة من السياسيين المنافقين، يصطرعون على كراسي السلطة، دون أي اعتبار للقيم أو الخلق أو الدين..
    ولقد وضح للعقلاء، وغير المنتفعين مباشرة من أعضاء الجبهة الإسلامية، أن هنالك مشكلة.. وبدأنا نقرأ هنا وهناك، لكتَّاب إسلاميين، ينقدون تجربتهم، ويكشفون عن بعض أخطائهم.. وسمعنا لآخرين منهم اعترفوا بذنوبهم، وعزوا فشلهم إلى تكاتف العالم ضدهم، واضطرارهم إلى التنازل، وقبول اتفاقية السلام، وقبول القوات الدولية، كما نسبوا لانشقاق الحركة، كل ما اعتراها من فشل، وما اعترى مشروعها الحضاري من ضمور، وفهموا الانشقاق على أنه السبب وراء الضعف والتنازل عن الشعارات، بدلاً من أن يروا أنه نتيجة لها..
    على أن الإشكالية، إنما تكمن في المجموعة المتطرّفة، التي لا تزال تصر على أن المشروع الحضاري ما زال قائماً.. وأن الحكومة ما زالت تطبّق الشريعة الإسلامية، وأن المؤتمر الوطني هو الحزب المؤهّل لحكم السودان، والذي سيفوز بالانتخابات، حتى لو تكتلت كل الأحزاب ضده، وهو لم، ولن، يتهاون مع المجتمع الدولي، ولن يخضع لقراراته.. وهو سينشر الإسلام في جميع أنحاء العالم!! وهذا الاتجاه الدعائي، هو الذي برز في حملة السيد نائب رئيس المؤتمر الوطني، في طوافه على الأقاليم.
    أما السيد رئيس المؤتمر الوطني، فقد كان أكثر صدقاً وموضوعية.. فقد جاء (وامتدح البشير مجهودات السويدان في تأهيل الشباب المسلم باعتبارهم يمثلون مستقبل الأمة، مشيراً إلى أن معظم قادة الإنقاذ الآن من الشباب الذين تدربوا وتأهلوا في قيادة النضال ضد حكم الرئيس نميري. وأضاف أن تصورنا لدولة الخلافة الراشدة فيه تجاوز كبير للواقعية)!! (الأحداث 26/4/2008م).






    نقلا عن الصحافة

    (عدل بواسطة الكيك on 05-04-2008, 11:25 AM)

                  

05-13-2008, 09:28 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ردا على عبد الرحمن الزومة ... قبح العلمانية ام شرور الاخوان المسلمين ....؟ (Re: الكيك)

    الاسلام والليبرالية
    سليم سوزه
    [email protected]
    2008 / 4 / 28


    في البداية يجب التفريق بين الاسلام كديانة رَسَمَت شكل العلاقة بين المخلوق وخالقه عن طريق جملة من التشريعات والعبادات، وبين السياسة التي تُستوحى منه في طريقة ادارة الحكم والتعامل مع الشعوب او الامم الاخرى، فالمعروف ان كل التيارات والتوجّهات والاحزاب لديها مشروع محدّد تعمل على تطبيقه في المجتمع وفق سياسة تعتمد على انسب واقرب الطرق لتحقيق ذلك المشروع .. وليست هذه حيلة شرعية او انتهازية كما وَصَفها الأخ الكاتب عبد العالي الحراك في مقاله (الدين والليبرالية .. هل يلتقيان؟) والمنشور في عدد من مواقع النيت العالمية، بقدر ما هي عملية بحث مستمرة لأيجاد الميكانيزم الأصلح تطبيقاً من اجل الوصول الى الهدف المنشود. وطبعاً عملية ايجاد هذا الميكانيزم ليست عملية مستقلة عن الظروف والبيئة التي تحكم هذه الظروف، ولو كانت منطلقة من ارضية بعيدة عن هموم المجتمع واحتياجاته فسوف لا تكون الاّ افكاراً نرجسية خيالية لا تصلح للتطبيق، بمعنى آخر يوطوبيا جديدة كالتي اوجدها افلاطون في جمهوريته الفاضلة .. افكار تمثل ترفاً لا تصلح الاّ في القصص دون الواقع.

    وبمناسبة الانتهازية، ينبغي لنا ان لا نعوّل كثيراً على هذا المصطلح لانه وصف اُطلق على كل فكر سَبَقَ عصره وخالف المشهور والجمهور حينها، فقد وُصفت الافكار النيتشوية بالانتهازية في تلك الفترة، وسُمّي الاسلام السياسي منذ الفترة الاولى الذي نشط فيه بالفكر الانتهازي .. وكما ان الليبرالية افكار انتهازية بالنسبة للمعارضين لها، فان الشيوعية ايضاً وُصِفت كذلك ابّان الثورة البلشفية وما لحقها من استغلال واضح لشعارات البروليتاريا (البرجوازية الجديدة). لهذا لا ارى الانتهازية الاّ مصطلح يُطلق على فكر (الآخر) الذي لا يستقيم مع فكر (الانا) مع التأكيد في نفس الوقت انها مسالة موجودة فعلاً ولا يمكن لنا نفيها خصوصاً عند الاحزاب التي تعمل وفق المبدأ البراغماتي (الغاية تبرّر الوسيلة).

    من هذه المقدّمة البسيطة نستطيع ان نقارن فيما اذا كان الاسلام كسياسة يتقاطع او يتوازى مع الليبرالية، وهل ان الليبرالية متهمة من وجهة نظر الاسلام ؟ ام ممكن ايجاد الوسيلة التي من خلالها تتعايش الليبرالية مع الاسلام ضمن الحدود والثوابت الدينية المُعتبرة.
    لانه ليس المطلوب ان نكون ليبراليين في طريقة وضوئنا او تحرّرين من اجل تقليص عدد ركعات الصلاة مثلاً، بل ان الموضوع متعلّق بالسياسة والاداء الذي يحقق اهداف الاسلام السياسية في الادارة والحكم.

    صحيح ان الاسلام قد يقترب من الاشتراكية في بعض الامور لكنه وفي نفس الوقت لا يتقاطع مع الليبرالية التحرّرية في قضية التوازن بين الحاكم والمحكوم، اي عملية توازن السلطات بين المجتمع والحاكم .. هذا التوازن الذي لا يتحقق من وجهة نظري الا بتوزيع السلطات بين المجتمع والحكومة، وعليه عملية حصر السلطة السياسية والاقتصادية بيد السلطة الحاكمة قد تولّد اشد انواع الدكتاتورية. لذلك كانت الاشتراكية ارضية صالحة لنشوء الدكتاتوريات بل هي دكتاتورية مقنعة بسبب الخلل الواضح في ميزان السلطة والانحياز المُطلق للسلطة الحاكمة في تمشية الامور السياسية والاقتصادية والتي بالضرورة ستكون حاكمة على القضايا الاجتماعية كذلك. اما الليبرالية التي نشأت وترعرعت بعد نشوء الديمقراطية السياسية، فقد نادت بحرية الفرد من كل النواحي، بما فيها النواحي الاقتصادية، واعطت توازناً فذاً بين السلطة والمجتمع من خلال الدعوة الى جعل السلطة الاقتصادية بيد المجتمع في مقابل السلطة السياسية التي تحتكرها السلطة الحاكمة، ولهذا كانت وما زالت الليبرالية عاملاً جيداً في الحد من الدكتاتورية.

    اذا كانت الشيوعية الاشتراكية تدعو الى المساواة بين الافراد بطريقة ربما قسرية، فالليبرالية دعت اليها عملياً من خلال اعطاء نفس الفرص لكل افراد المجتمع واعتبارهم متساوي الحقوق والواجبات امام القانون والدولة.

    الديمقراطية والليبرالية متلازمتين لا يمكن الفصل بينهما اذا اردنا بناء مجتمع حر وسليم بعيد عن الدكتاتورية بالرغم من ان الديمقراطية نشأت قبل الليبرالية، فالليبرالية كمّلت الديمقراطية عملياً لانها ضمنت المساواة بين الافراد وحققت التوازن بين المجتمع والسلطة من خلال القوة الاقتصادية التي اعطتها للمجتمع مقابل قوة السلطة السياسية، فضلاً عن حماية حقوق الاقليات الموجودة في المجتمع الديمقراطي .. يقول الاستاذ رجاء بهلول في كتابه - حكم الله، حكم الشعب - (ان الديمقراطية تعني دوماً وحتماً التسليم والاعتراف بالحريات الليبرالية، وان الحريات الليبرالية لا توجد بمعزل عن ممارسة الديمقراطية، وبعبارة اخرى ان الديمقراطية الليبرالية تعني حكم الاغلبية زائداً حماية حقوق معينة تعود الى افراد، اي وجود مجال خاص لا تتدخل فيه السلطة الحاكمة مهما كان حجم الاغلبية خلفها) انتهى كلام بهلول.

    من هنا فان الديمقراطية تعني عملياً وضع السلطة السياسية بيد الاغلبية، اما الليبرالية - التي اصبحت شرطاً اساسياً من شروط نجاح الديمقراطية فيما بعد - فتعني وضع السلطة الاقتصادية بيد المجتمع من اجل تحقيق التوازن بينهما، وان لا تتحول الديمقراطية الى دكتاتورية (دكتاتورية اكثرية) كما آلت اليه الشيوعية في نهاية المطاف. وبعد كل الذي تقدّم، هل هناك شكّ بأن الايمان بالديمقراطية هو ايمان بصورة او باخرى بالليبرالية مهما تظاهر البعض في رفض ذلك ؟!

    باعتقادي ان الاسلام يمثل حالة وسطية بين الفكرين الشرقي والغربي مثلما ركّز القرآن على الوسطية التي ذكرها صراحة ً في الآية التي تقول (وكذلك جعلناكم امة ً وسطاً) .. وعليه فالاسلام اشتراكي المنحى عندما يُفلسف للملكية العامة وضرورة دعم الدولة مالياً في مجالات القضاء على الفقر عن طريق الضرائب التي يفرضها تحت عنوانين متعدّدة وكذلك حينما يضع قيوداً معيّنة على التجارة والاموال باعتبارها ملك للمجتمع وليس فقط ملك الفرد، وفي نفس الوقت ليبرالي التوجّه في اصل حرية الفرد في العمل ومشروعية الاقتصاد الحر دون ان تُمارَس القسرية الشيوعية عليه. لا نتناول هذه المصطلحات من زاوية علاقتها بالميتافيزيقيا بل من ناحية سياسية واقتصادية بحتة لا علاقة لها بالفكر والعبادة وغيرها من الامور الغيبية.

    عندما نقول بأن هناك اسلاميٌ - ونعني به الذي يؤمن بالسياسة الاسلامية ويدعو لها - يؤمن بالديمقراطية فلا نعني هنا الاّ باسلامي يؤمن بالليبرالية كذلك، لانها متلازمة فكراً ومضموناً مع الديمقراطية كما اسلفنا اعلاه. وبالتاكيد لا نقصد الايمان بطابعها العلماني الرافض للتديّن، بل بمفاهيمها التي تضمن الحرية والمساواة وحماية الاقليّة في المجتمع، مع مراعاة ضرورة تقنين حجم الليبرالية الاقتصادية وتحديد السقف المفتوح لأقتصاد السوق بشيء من المعقولية كي لا يكون مصير الدولة مرهون بحفنة من الرأسماليين الوحشيين كما هو حاصل فعلاً في بعض البلدان بدرجة لا يمكن نكرانها.

    الاسلامية الليبرالية لا تؤمن بالليبرالية على اطلاق معانيها، بل بما لا تتقاطع مع الثوابت الدينية، والتي يُمكن لها ان تُعالج مشاكل الدول التي تضم في ثناياها قوميات وطوائف متعددة لا يمكن حكم الاسلام فيها .. وان آمنوا الاسلاميون او اقتربوا من اي فكر آخر كالليبرالية في بعض مفاهيمها، هذا لا يعني انهم آمنوا بفصل الدين عن السياسة بمعناها الجاف والمتشدّد. فمثال الصين وهي تتعامل باقتصاد السوق رغم شيوعيتها، وامثلة دول الاسكندنافية الرأسمالية في اجراءاتها الاجتماعية والاقتصادية ذات المستوى العالي من العدالة والاشتراكية، امثلة موفقة جداً على ما نطرح نحن هنا وليس العكس، لأنها كانت نماذج ناجحة في تكييف رؤيتها وتلقيحها مع الافكار والنماذج العالمية الاخرى، وبالتالي اثبتت نجاحها على الاقل لحد هذه الفترة. وما الاسلامية الليبرالية الاّ مُحاكاة لما قامت به هذه الدول في طريقة تفكيرها حول النظام الاصلح والانجح في ادارة الدولة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً بغض النظر عما اذا كانت هذه الافكار مهجّنة او اصيلة طالما تعطي نماذج ناجحة .. فليس هناك فكراً خالصاً نشأ بمعزل عن مكتسبات الانسان على طول التاريخ. وليست الافكار كلها غير قابلة للتطوّر الاّ بالخروج عن اسسها ومبادئها ... هذه راديكالية مُجحفة.

    نعم .. لست رافضاً لحكم الله في الارض، لكني في نفس الوقت لست فارضاً له على الآخرين المخالفين، فقد علّمنا القرآن الكريم كيف ندعو الآخر الى المشتركات الموجودة بيننا وفق قاعدة (قل يا اهل الكتاب تعالوا الى كلمة ٍ سواء بيننا وبينكم) .. وهو ما يعني ان الاسلام تنازل عن نبوّة محمد (ص) مُقابل نقطة الاشترك الموجودة (كلمة ٍ سواء) بين الاديان كلها وهو (الله) عز وجل.

    فهل من سبيل لاحترام الآخر والقبول به وباختلافه سوى بالليبرالية التي لا تتقاطع مع الاسلام!!
    واذا كان الاسلاميون قد آمنوا بالديمقراطية دون اي حسّاسية، فما المشكلة في الايمان بالليبرالية بعد
                  

05-28-2008, 04:30 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ردا على عبد الرحمن الزومة ... قبح العلمانية ام شرور الاخوان المسلمين ....؟ (Re: الكيك)

    الفضيلة والعلمانيه
    هاشم الخالدي
    [email protected]
    2008 / 5 / 19


    ماهي الفضيله ؟...
    كما نعلم ان الانسان كائن غريزي معتدل القامه متحرر الذراعين يتميز بالادراك وعيا ووحيا بمستويات مختلفه ,وقد شرحت ذلك بمقالات سابقه.
    اما الفضيله فهي قيمة انسانيه معنويه مصدرها الايمان بالله كقوه مهيمنه لها الكلمه العليا, لذلك هي حركة انسانيه نحو الغاية كقيمة عليا ,وان الايمان صفه خاصه بالانسان لكونه قادرا على الادراك وحيا تنعكس في معاملة ادراكه وعيا, اي ان الفضيلة انطباع في عقله ونفسه لكنها تختلف عن انطباع الوعي الذي هو معرفه, اما هي أي الفضيله فغاية أو شكل من الحلم والوحي, ورغم ان الحلم يقترب من الخيال الا ان الخيال شكل من الوعي فهو شيئ من التحسب يحتمل الصح والخطأ لانه يخضع لحركة الجدل اما الحلم- الفضيلة فلا يحتمل الصح والخطأ لانه غير خاضع لحركة الجدل ,فالفضيله هي انعكاس لوحي المطلق او الايمان بالله لذلك هي شاخصه في جميع مراحل الوعي, وان من يخضع للجدل ليس هي وانما الوعي نفسه و لهذا هي لا تتناقض مع حركة التاريخ و تطورها عبر علاقته الجدليه , فالفضيله تبقى غاية عليا مهيمنه فوق علاقة الوعي -الواقع بالغريزه, مفتوحة الافق للتطور المعيشي باتجاه قيم تتحقق في ارض الواقع نسبيا وتدرجيا من خلال التعبير عنها في الوعي الاخلاقي والسلوكي لكنها تبقى نسبيه التحقق ما دام الصراع قائما بتخادم قوتي الغريزه و الادراك وعيا الملازمتين للانسان في سعيه المشروط أي في العمل, وان في اطلاق العنان لهذا التخادم بين الغريزه والادراك وعيا لولا وجود الايحاء بها قد يفقد السيرورة قيمتها فيؤدي الى الرذيله, الا ان ارتباط الانسان بسمة الادراك وحيا حتما هو الضمان لهيمنة الفضيله, ,فالفضيله نتاج الايمان بالله الذي هو سمة متاصله فيه حتى لو تنكر له بالحاده فالادراك وحيا هو ظاهرة موضوعيه سواء رغب الانسان ام انكر, الفضيلة اذن ليست نتاج فقه و اجتهاد انما الفقه والاجتهاد هو متغير معرفي يعيد تفسير انطباعات الانسان , اما الانبياء والصديقين والاصفياء فهم اول وفي مقدمة الفضلاء باثر الوحي , ان الحاجة الى الدين هي من الحاجه الى الايمان لذلك لا يمكن التفريط او الاستغناء عن رجال الدعوة من اجل الفضيله الى جانب الحاجه الى المعرفه والعمل والانجاز مع ما يكتنف تلك السيروره دوما من اثر النازع الغريزي للتطور التاريخي الانساني , وبهذ المعنى فان التنكر الى الدين هو تجاوز على الفطرة الانسانيه وبنفس الوقت فان تحول الدين الى حركة ايديوجيه سوف يفقده غايته القيميه ,اذ ان الايديولجيه تخضع للتغيير عبر مسيرة التطور فهي انعكاس للصراعات الانسانيه الماديه والمعرفيه بكل ما تتضمنه من انجازات علميه وتطبيقيه اما الدين فهو في جوهره وليس في شكله الظاهر المختلف عبر الزمان والمكان, فالشكل هو تعبير عن مرحلة ما, واما جوهره فهو قيم عليا مرشده ,فالدين في جوهره هو واحد ذاته مهما اختلفت نماذجه واطواره,لذا فمهمة الحركه الدينيه هو الارشاد القيمي وليس الدخول في تلك الصراعات ,كما ان اية ايديولوجيه لا تسترشد بتلك القيم سيكون مصيرها التعثر وربما الفشل حيث ستسود عندئذ قيم الغريزه الحيوانيه حتى لو زالت الطبقات وانتهى الصراع الطبقي فظهور البريروراطيه التي اهلكت المنظومة الاشتراكيه هي دليل على ذلك فسيادة النزعه الغريزيه هو ما يقدر ويعتبر رذيلة بقياس القيم المعنويه , كم ان اية ايديولوجية تدعي ممثلة للفضيلة هي تزوير للحقيقه لذلك نرى ان في حركات مثل حزب الله او الحزب الاسلامي او اي حركة سياسية تتخذ من نفسها ممثلة الى الدين هو تجاوز على قيمه لانها ليست سوى حركة ايديولوجيه باي حال من الاحوال وهي تعكس ذلك الصراع الدنيوي الواقعي الزماني والمكاني حتى وان كانت تمثل الشرائح والطبقات الكادحه. ان الاختلاف الايديولوجي هو عامل اساسي في التكوين الانساني الى جانب عوامل اخرى علميه وتطبيقيه وان التدافع بين الايديولوجيات هو انعكاس للطبيعة الانسانيه وقدرتها على الانجاز ,فالانسان هو الكائن الوحيد القادر على الانجاز وتوريث انجازاته عبر الاجيال وبهذ المعنى فهو خليفه ويتفرد بخاصيته تلك عن كل الكائنات الحيوانيه لذلك فأن له تلك الخاصيه في حركته وان من جعله خليفة في الارض لم يتخصص بها كائن انساني معين دون اخر فكل انسان هو خليفه, اما دور الانبياء والرسل فهو دور مكلف بايحاء من الله في الفضيلة,الا ان انقطاع الرسل والانبياء لن يغير من دور الفضيله فهي غاية اصيلة في الانسان وان محمد(ص) هو خاتم الانبياء والرسل, كما ان الخليفة هو الانسان من ادم وبنيه وليس فقط الانبياء والرسل لذلك فالامام ايضا ليس هوالمقصود بالخليفه, وفي كل الاحوال فان مهمة الامام في كل زمان ومكان هو ارشاد الناس الى قيم الفضيله وليس الاحلال بديلا عنهم في سمتهم التي منحهم الله لهم في ايته الكريمه اني جاعل في الارض خليفة , وختاما من حق بني الانسان بجميع اديانهم ومذاهبهم ان يؤمنوا بالدين المهدي ,ولكن هذ لا يلغي الدور الذي كفّل به الله للانسان فتحملها امانة بعد ان كان جهولا قبل نفخة الروح الالاهيه التي منحته قدرة الادراك وعيا ووحيا, فتلك مسؤولية عظيمة داعيه ان يسجد له الملائكة اجمعين.
                  

06-23-2008, 05:12 AM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ردا على عبد الرحمن الزومة ... قبح العلمانية ام شرور الاخوان المسلمين ....؟ (Re: الكيك)

    أي موقع للسلطة الدينية الإسلامية في الدولة الحديثة، عندنا؟


    ياسين الحاج صالح
    [email protected]
    2008 / 6 / 23


    في المجرد، هناك واحد من ثلاثة مواقع للدين في الدولة الحديثة.
    إما أنه إحدى سلطات الدولة، ما يقضي بأن ينضبط بمبدأ فصل السلطات، فنتكلم على سلطة دينية على نحو ما نتكلم على سلطات تنفيذية وتشريعية وقضائية، لا تتدخل أي منها في شؤون الأخرى. وفي هذه الحالة تدين السيادة لمبدأ يوحد هذه السلطات جميعا ويعلوها، هو الدولة ذاتها.
    أو أن السلطة الدينية خارج الدولة، ويتعين في هذه الحالة أن تنضبط علاقتها بالدولة بمبدأ العلمانية، أو الفصل بين الدين والدولة. وبينما تبقى الأخيرة مقرا للسيادة للعليا، فإن "المجتمع المدني" هو "خارج الدولة" الذي تقر فيه السلطة الدينية الفاقدة للسيادة، أي لكل من صفتي العموم والقسر.
    لكن ثمة صيغة ثالثة هي صيغة "الحاكمية الإلهية" كما بلورها كل من أبي الأعلى المودودي وسيد قطب. الدولة هنا ضمن الدين أو تحته، إحدى وظائفه. مقر السيادة هو الدين وليس الدولة التي لا تعدو كونها أداة ضرورية للحكم، لا شخصية لها ولا تحوز أية شرعية ذاتية. والصحيح أن دعوى الحاكمية، إن أخذت بحرفيتها، تلغي الدولة رأسا، وتجعل الإسلام ذاته دولة.
    لكن ما لا يتوفر "الحاكميون" على إجابة عليه هو أن الباري لا يحكم مباشرة، وأن "شريعة الله" لا لسان لها وتتكلم بألسنة بشرية، وأن البشر ليسوا محض وكالات أمينة وشفافة للمقصد الإلهي الأصلي والأصيل. وليس احتمالا أن يؤولوا "دين الله" بما يناسب بقاءهم في موقع السلطة العليا، بل إن هذا محتوم كما ينبئ تاريخ الديانات جميعا، وتاريخنا نحن أيضا. ما الذي يضمن، تاليا، ألا يستخدم وكلاء الحاكمية الإلهية الدين من وراء زعم أنهم يخدمونه؟ وما الذي يمنعهم من توسل "الحكم بما أنزل الله" كي يضفوا القداسة والإطلاق على سلطتهم هم، فيؤسسون حكما طغيانيا مقدسا ينزل المعارضين منزلة كفار يستحل دمهم؟ هذا إلا إذا افترضنا أن النظام الحاكمي يغير الطبيعة الإنسانية ذاتها، الأمر الذي لا دليل عليه، لا في العقل ولا في التاريخ ولا في النصوص.
    وهو ما يعيد طرح المسالة السياسية من أولها: كيف نضبط السلطة؟ كيف نحد من الاستبداد؟ كيف نضمن مصالح الأمة؟ وهو ما يقودنا إلى قضايا السيادة الشعبية والتمثيل والتفويض، ويعيدنا إلى مبدأ فصل السلطات.
    ***
    فبأي من هذه النماذج الثلاثة تنضبط العلاقة بين الدين والدولة في البلدان العربية؟ ولا بأي منها.
    فلا توافق العلاقة بين السلطتين نموذج فصل السلطات الليبرالي رغم أن السيادة مقررة للدولة، وأن الدين أقرب ما يكون إلى إحدى سلطاتها: ثمة وزارة أوقاف وكليات شريعة ومفت عام ومساجد تسيطر عليها الدول، وخطباء تحدد لهم مضمون خطابهم الديني ووجهته العامة. وهم في الغالب يضمنون خطبهم ثناء على الحكام وتمجيدا لهم. لا تنضبط علاقة الدين والدولة بنموذج فصل السلطات لأن السلطات غير منفصلة، والدولة لا تعدو كونها سلطة تنفيذية توسعية محتلة لأراضي السلطات الأخرى، بما فيها الدينية.
    كما لا توافق علاقة الدين والدولة نموذج العلمانية رغم أن السلطة الدينية محكومة وليست حاكمة في جميع الحالات تقريبا، ورغم أن السلطة السياسية منفصلة واقعيا عن السلطة الدينية. هذا لأن الفصل الواقعي لا يكفي لإثبات العلمانية، ويحتاج إلى ثقافة تنظمه وترسخه وتضفي عليه صفة طبيعية وإيجابية، ثقافة علمانية مهيمنة. هذا غير محقق في أي من بلداننا. وفي أكثرها ثمة مادة دستورية تقرر أن الإسلام هو دين الدولة أو دين رئيسها. مادة رمزية لا تلغي الانفصال الواقعي بين السلطتين، أو علمانية الأمر الواقع، إلا أنها تؤكد ضعف ثقافة الفصل وتبقي العلمانية الواقعية معدومة الشخصية.
    كذلك لا تنتظم علاقة الدين والدولة وفقا لنموذج الحاكمية في أي من الدول العربية. ثمة أجسام تشريعية في أكثر دولنا، ومجال تطبيق "الشريعة الإسلامية" قد يكون واسعا في بعضها إلا أنه ليس شاملا في أي منها. وفي سياستها الخارجية والداخلية معا تنهج دولنا وفق منطق يطابق بين السيادة والدولة وليس بين السيادة والدين.
    ليس نظام العلاقة بين الدين والدولة منضبطا بأي من النماذج الثلاث، فكيف نصفه؟ وهل يعني انفلات العلاقة بين السلطتين من النماذج المعروفة أن هذه النماذج غير مناسبة وينبغي تاليا تطوير نموذج رابع مختلف؟ أم أن هناك خللا بنيويا في كل من السلطتين يحكم بتعذر انضباط علاقتهما وفقا لأي نموذج متسق؟
    نرجح الإجابة المتضمنة في السؤال الأخير. إذ تعرض السلطة الدينية نزوعا إل التناثر والتبعثر يطعن في شرعية القول بأن هناك سلطة دينية موحدة في أكثر بلداننا. لا نتكلم على التعدد الديني والمذهبي، وهو معطى لا يمكن تجاوزه في أي من بلداننا، بل على توزع السلطة الدينية في عالم الإسلام السني ذاته إلى ثلاث سلطات على الأقل: الإسلام الحكومي الذي أشرنا إلى مكوناته (مساجد وخطباء وكليات شرعية ووزارة أوقاف..)، وإسلام إخواني سياسي يصف نفسه بالوسطية وعلى خصام مع الحكومات القائمة، وإسلام سلفي جهادي على حرب مع الدول ومع العالم. والسلطات هذه متنازعة فيما بينها وقلما تتوافق. وهي فوق تنازعها تصدر عن ثقافة أو وعي ذاتي لا يتصور استقلالها الذاتي بأمر الدين وعن سلطة الدولة، ما يتسبب في عسر عقلنة التفكير والسلوك والعمل الديني. ففرص العقلنة، كما سبق لماكس فيبر أن لاحظ، تكبر حين يكون الاختصاصيون الدينيون منظمون في هيئات دينية مستقلة، وتنحدر حين يكون هؤلاء تابعون للسلطات السياسة، أو مندمجون بالكامل وسط الجمهور الذي قد يستفيد من خدماتهم الدينية. في العالم الإسلامي يتولد نقص العقلنة عن التبعية للسلطة السياسية، لكن أيضا عن تجزؤ وتناثر السلطات الدينية، وأكثر عن "ثقافة سياسية" إسلامية تنكر استقلال مجال ديني خاص. ومهما بدا ذلك غريبا فإن عسر استقلال الدين عن الدولة مسجل في عدم استقلال الدين عن "الإسلام"، أي عن التشكل المؤسسي التاريخي للإسلام في أمة ووطن ودولة متخيلة. ورغم أن الإسلام لم يكن "دولة" إلا في سنوات تأسيسه القليلة، فإنه لا يزال دولة في المخيلة. وعن هذه الدولة المتخيلة، حصيلة التمأسس الخيالي للإسلام، لا يكاد يتمايز دين أو يستقل بمقام ذاتي. وقبل أن يرفض الإسلاميون انفصال الدولة السياسية عن الدين، فإنهم يرفضون أصلا استقلال الدين ذاته أو انفراده بقوام ومقام خاص. فإذا صح ذلك، كان أوجبَ العملُ على الفصل بين الدين و"الإسلام"، كمدخل إلى انفصال السلطتين الدينية والسياسية عن بعضهما.
    ***
    هذا عن اضطراب تشكل السلطة الدينية، فماذا عن تشكل السلطة السياسية؟ هنا أيضا نواجه اختلالا لمصلحة البعد الجهازي والقسري المتضخم على حساب البعد الفكري والقانوني الضامر للدولة. ومنذ سنوات يجري التمثيل على هذا الشرط (في سورية) بالكلام على حلول السلطة محل الدولة. أو قد يكون أصح على عدم استقلال الدولة عن السلطة. أو أفضل بعدُ على أن الدولة بالمعنى العربي القديم، أي كنوبة حكم يوكل "تداولها" إلى "الدهر" أو "الأيام"، تحتل الدولة بالمعنى الحديث للكلمة. هذا هو مغزى الكلام على "سورية الأسد" مثلا، أو أيضا على "دولة البعث". وعليه يكون فصل "الدولة" (دولة الحزب أو الحاكم) عن الدولة مدخلا إلى العقلنة السياسية، ويكون استقلال الدولة برأسها السياسي شرطا لاستقلالها عن رؤوس أخرى، الرأس الديني بخاصة.
    إصلاح أمر كل الدين والدولة قد يكون، إذاً، هو الخطوة الأولى نحو انتظام العلاقة بينهما وفق نموذج متسق.
    ومن شأن استقلال الدين في الذهن أو تولد مفهوم عن الإسلام كدين، وكذلك استقلال الدولة عن السلطة، أن يدفع باتجاه انتظام العلاقة بين السلطتين الدينية والسياسية وفق النموذج العلماني. إن نموذج فصل السلطات يضيق على الدين ويسرف في تسييسه وإخضاعه للسلطات الدنيوية، أما نموذج الحاكمية فيفسد الدين أكثر بجعله دولة.
    والثابت عندنا أنه لا مجال للجمع بين استقلال الدين وسيادته. فإن كان سيدا فلن يكون مستقلا عن الدولة، ولا يمكن أن يكون مستقلا دون أن يفقد السيادة لمصلحة الدولة الحديثة.
                  


[رد على الموضوع] صفحة 2 „‰ 2:   <<  1 2  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de