دارفور .. حقيقة الصِّراع ومآلاته ، الدكتور عمر مصطفى شركيان.

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-25-2024, 08:15 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الاول للعام 2008م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
03-05-2008, 06:47 AM

Khalid Kodi
<aKhalid Kodi
تاريخ التسجيل: 12-04-2004
مجموع المشاركات: 12477

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: دارفور .. حقيقة الصِّراع ومآلاته ، الدكتور عمر مصطفى شركيان. (Re: Khalid Kodi)

    دارفور .. حقيقة الصِّراع ومآلاته (5 من 8)


    الدكتور عمر مصطفى شركيان

    [email protected]


    الحركة الإسلاميَّة وصناعة الحركات المسلَّحة في دارفور


    وكما شهدنا فإنَّ أزمة دارفور هي محصلة تراكمات تأريخيَّة لمشكلات متباينة. بيد أنَّ سياسة الجَّبهة القوميَّة الإسلاميَّة قد سارعت في إخراجها للسطح، وبصورتها الوحشيَّة هذه، وبخاصة إذا راجعنا أقوال الدكتور حسن عبد الله الترابي، وأمعنا فيها النَّظر. والمعروف أنَّ الترابي لم يكن يوماً من النوع الذي يمضغ كلماته كثيراً قبل أن ينطقها أو يكتبها – بحسب تعبير فرنسي شهير مفاده أنَّ من لا يمضغ كلامه، هو الذي يطلق كلامه على عواهنه. فماذا قال الترابي بصدد دارفور؟ لقد "أصدر التَّرابي، عندما كان عرَّاباً للجَّبهة (القوميَّة الإسلاميَّة)، ويمسك بمقود وكل مفاصل النِّظام، فتوى تبيح تمزيق دارفور الكبرى لقيام حزام أمني عربي إسلامي، هو في الواقع تأمين لدولة عربيَّة إسلاميَّة في السُّودان بما فيه كل الغرب. (وقد) جاء في تلك الفتوى التي أصدرها الدكتور حسن الترابي: إنَّ الإسلاميين من القبائل الزنجيَّة صاروا يعادون الحركة الإسلاميَّة، وتهدف خطة الجبهة (القوميَّة) الإسلاميَّة إلى تأييد القبائل العربيَّة بإتِّباع الخطوات التالية: التهجير القسري للفور من جبل مرة وحصرهم في وادي صالح، ونزع سلاحهم كليَّاً، وإعادة توطين المهيريا والعطيفات والعريقات (وهي قبائل عربيَّة)، وعدم إعادة السِّلاح للزغاوة وتهجيرهم من كتم إلى أم روابة (في ولاية شمال كردفان)، وتسليح القبائل العربيَّة وتمويلها، بحيث تكون نواة التجمع العربي الإسلامي". هذه الفتوى تمثِّل الأساس الذي انبنت عليه الخطة "الترابيَّة" وجرى تنفيذها حرفيَّاً في دارفور حتى بعد انتزاع مقود السُّلطة من الترابي العام 1999م.(35)

    ومن ذا يكون أعلم – أو أشدَّ مراساً - من الدكتور فاروق أحمد آدم بدور الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة غير المرئي في تأجيج المشكلات أجيج مشكلاأ

    السياسيَّة في دارفور. ففي إيضاحه عن هذا الدور قال الدكتور فاروق أحمد آدم – العضو السَّابق في الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة، والعضو القيادي في الحزب الاتحادي الدِّيمقراطي: "(إنَّ) سياسة الجَّبهة (القوميَّة الإسلاميَّة) تجاه غرب السُّودان – وفي واقع الأمر – ربما (تكون) غير (ملموسة) من الناس كما لمسته بحكم عضويَّتي في الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة، وهي حزب محدود العضويَّة، تتركز في محاولة تمكين الأقليات لحكم غرب السُّودان، وحكم دارفور بالتحديد." ويستطرد الدكتور آدم قائلاً: "وقد كانت هذه السياسة مصدر خلاف واسع داخل أجهزة الجبهة في دارفور، وانتقل هذا الخلاف إلى مستوى المركز، وشهد طرفاً منه الدكتور حسن عبد الله الترابي، وكانت هذه السياسة يقودها الدكتور على الحاج محمد، وله اعتقاد بأنَّ دارفور ينبغي أن تتفتَّت وأن تضعف القبائل الكبيرة، بل يضعف كل من يأتي من هذه القبائل الكبيرة، وتمكن الأقليات لكي تحكم دارفور (...) ويعتقد بأنَّه لا بد أن يحزم أمره لكي يحدِّد موقفاً من الظلامات التي تأتي من المركز." عليه، عندما تدفَّقت الأموال العربيَّة والإسلاميَّة منذ السبعينيَّات على السُّودان، وبخاصة في الثمانينيَّات حينما اجتاحت السُّودان المجاعة، كانت سياسة الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة هي التركيز على عزل دارفور عن الاستفادة من هذه الأموال؛ ولم يُنشأ فرع لبنك فيصل الإسلامي في الفاشر إلا بعد جهدٍ جهيد وصراع مرير. وكانت هناك ثلاثة ملايين دولار مرصودة لإغاثة دارفور تحت اسم "منظَّمة الإغاثة الإفريقيَّة"، حيث لم يصرف على الإقليم إلا قي حدود ثلاثمائة ألف دولار، أما المبالغ المتبقية فكانت توظف لصالح الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة، ولتركيز سياستها الاقتصاديَّة. إذ كان الإقليم مصدراً لجلب الأموال من الخارج كي تُوظَّف في مجالات أخرى مختلفة. ثم يؤكِّد الدكتور آدم "أنَّ الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة كانت لديها سياسة مقرة مركزيَّاً بتهميش دارفور، وتفتيت أبناء الإقليم كي لا يتوحَّد صفهم، أو تتَّحد كلمتهم، بل نلاحظ أنَّ الناشطين من أبناء دارفور في الجبهة هم مهمَّشون تماماً منهم نصر الدين محمد عمر، الدكتور أبو سم، التيجاني سراج، أمين بناني، وهم رموز للحركة الإسلاميَّة (الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة) في المركز، إلا أنَّه بعد استلام الجبهة للسلطة تمَّ تهميشهم تماماً." إنَّ عوامل الظلم والتَّهميش لهي الأسباب التي دعت المرحوم داؤود يحيى بولاد للخروج من الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة، ويحمل السلاح ضدها كما سنبين لاحقاً؛ وكذلك هو الأمر الذي دفع الدكتور فاروق أحمد آدم وعبد الجبار آدم عبد الكريم أن يستقيلا من الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة العام 1987م، وكانا أعضاء في الجمعيَّة التأسيسيَّة (1986-1989م) باسم الجَّبهة، التي باتت تشكِّل خطراً على بلاد السُّودان عموماً، وعلى إقليم دارفور خصوصاً، وذلك من جراء السياسات التي كانت تنتهجها والمرامي البعيدة التي كانت – وما زالت - تريد أن تقود البلاد والإقليم إليها.(36)

    حين تيقَّن داؤود يحيى بولاد من دعم السلطة المركزيَّة للعدوان على قبائل الزرقة – بما فيها الفور، وهي قبيلته – قصد الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان يطلب سنداً ومدداً. إذ تدخَّلت الحركة آنذاك لمصلحة الفور فأرسلت كتيبة من الجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان في تشرين الأول (أكتوبر) 1991م إلى جنوب دارفور، ووصلت حتى مناطق حفرة النحاس، سنغو، أم دافوق، وأم دخن؛ والتقت قبائل عربيَّة مثل الحمر والتعايشة وبني هلبة وبني حسين والمهيريَّة وأم جلول. كذلك التقت هذه الكتيبة بقبائل الزغاوة والفلاتة، وشرح لهم الجيش الشَّعبي أهداف الحركة الشَّعبيَّة لتحرير السُّودان فاستجابوا، ولم يحصل تصادم معهم برغم من محاولات الحكومة "الإنقاذيَّة" ممثلة حينذاك بوالي دارفور العميد (طبيب) الطيب إبراهيم محمد خير بزرع الفتنة بين القبائل وتحريض العرب ضدهم.. وحصلت صدامات مع القوات المسلحة الحكوميَّة في تلك المناطق. لكن المفاجأة كانت في تدخل ميليشيات قبائل "الجنجويد" بعدما كانت رفضت المشاركة في القتال في بادئ الأمر، وأُطلِق على تلك المليشيات اسم "فرسان العرب".(37) إنَّ الخلفيَّة التأريخيَّة لنزاع دارفور هي الجفاف والتصحُّر الذي أجبر البدو الرحل على البحث عن الماء والكلأ في مناطق جديدة؛ فهناك تنازع حقيقي لمصالح متضاربة، واختار النظام "الإنقاذي" أن يقف مع الرعاة العرب من الناحية العرقيَّة والاقتصادية، وذلك لما تملكها هذه المجموعات العربيَّة من ثروة حيوانيَّة هائلة. وكما شهدنا كيف وقفت الحكومة المركزيَّة إلى جانب الأثنيات العربيَّة في دارفور ضد الأفارقة – أو الزرقة، وبخاصة بعد تحالف هذه القبائل العربيَّة من داخل إقليم دارفور وخارجه ضد الفور العام 1987م، ومن بعد فكَّرت القبائل الإفريقيَّة مليَّاً في حماية أنفسهم وممتلكاتهم وأعراضهم، وهنا نشأت فكرة ميليشيات "البشمرقة" و"التورا بورا" الإفريقيَّة، التي شكَّلت نواة حركة وجيش تحرير السُّودان فيما بعد. هذا، وقد هاجمت ميليشيات "البشمرقة" مدينتي اللعيت جار النبي وطويشة – مسقط رأس والي شمال دارفور، عثمان محمد يوسف كبر، واختطاف الناظر الصَّادق عباس ضو البيت (ناظر عموم قبائل شرق دارفور)، ومدير البنك الزراعي باللعيت، والقاضي المقيم.(38)

    هذا فقد أخذ نشاط أهل دارفور طابعاً عسكريَّاً وسياسيَّاً منظَّماً العام 2000م باسم "حركة وجيش تحرير السُّودان" برئاسة المحامي عبد الواحد محمد أحمد النور، الذي تخرَّج في جامعة الخرطوم العام 1995م، واشتغل محامياً بعد تخرُّجه، وأمينها العام مني أركو مناوي، إلا أنَّ الحكومة السُّودانيَّة نعتها ب"حركة تحرير دارفور" لإلصاق الصبغة الجهويَّة أو الإقليميَّة عليها، ووصفها بالانفصاليَّة أو "العنصريَّة" كما يحلو دوماً لحكام الخرطوم نعت الحركات المطلبيَّة لأهل الهامش بهذه النعوت المنكرة. فالسيد مني اسمه بالكامل سليمان أركو مناوي؛ أما قصة تسميته ب"مني"، فإنَّ قبيلة الزغاوة تُكني من يُسمَّى سليمان ب"منا أو مني"، مثلما يقولون ل"عبد الله" دلي، وهكذا. وهو من مواليد مدينة فوراويَّة في شمال غرب مدينة كتم بولاية شمال دارفور العام 1968م، وقد درس المراحل التعليميَّة في مدرسة فوراويَّة الابتدائيَّة، ثم مدرسة كرنوي المتوسطة، ثم التحق بمدرسة الفاشر الثانويَّة، وبعدها عمل مدرساً بمرحلة الأساس لمدة العام (1994-1995م) بمدينة فوراويَّة، وبعدئذٍ غادر إلى دولة تشاد فدرس اللغة الفرنسيَّة لمدة العام (1995-1996م)، ثم التحق بجامعة لاغوس ودرس اللغة الإنكليزيَّة، وبعد تخرجه عمل في مجال الأعمال التجاريَّة الحدوديَّة متنقلاً بين الكاميرون ونيجيريا وليبيا، وأخيراً التحق بالعمل العسكري الميداني العام 2001م.(39) على أيَّة حال، فقد كان أول ما فعلوه - حين ظهورهم وظهور رغباتهم الثوريَّة - أن نفَّذوا عمليات عسكريَّة صغيرة العام 2001م لينتقلوا إلى عمليات أكبر في شباط (فبراير) 2003م، حيث كان الميلاد الحقيقي للحركة، أي عندما استولت على محافظة قولو في جبل مرة لتعلن وجودها السياسي والعسكري. ومن ثمَّ تلتها هزيمة كتائب القوات المسلحة السُّودانيَّة حول جبل مرة، نيالا، مليط، الطينة، وكتم. بيد أنَّ الهجوم الذي قامت به قوات الحركة على مطار الفاشر في نيسان (أبريل) 2003م قد شكَّل منعطفاً خطيراً في عملياتها العسكريَّة، وكانت هذه الإغارة أكبر عمليَّة عسكريَّة تقوم بها قوات الحركة ضد القوات المسلحة السُّودانيَّة، وكانت بمثابة نذير لثمة أشياء قادمة، حيث دمَّروا ست من الطائرات في مطار المدينة، وقُتِل عدد من القوات الحكوميَّة، وجُرِح آخرون وأُسِر البعض الآخر، بما فيهم اللواء بسلاح الطيران إبراهيم البشرى المسيري.

    أما "حركة العدل والمساواة" فيرأسها الدكتور خليل إبراهيم محمد، وهو طبيب من قبيلة "الزغاوة"، وهو كان قد تخرَّج في كلية الطب بجامعة الجزيرة العام 1984م، وكان يعمل وزيراً للتعليم في ولاية شمال دارفور حتى استقالته العام 1999م. وقد زامل الكاتب الطالب خليل إبراهيم في جامعة الجزيرة، وكان خليل كادراً نشطاً في "الاتجاه الإسلامي" – وهو اسم الحركة الإسلاميَّة (أو الإخوان المسلمون) في الجامعات والمعاهد العليا حينئذٍ. ثم كان خليل عضواً في اتحاد طلاب جامعة الجزيرة ممثلاً لذلكم التنظيم، ويذكر الكاتب خروج خليل وزمرته الإخوانيَّة في تظاهرة للتأييد والتهليل لقوانين أيلول (سبتمبر) 1983م – أو القوانين "السبتمبريَّة" المسماة بقوانين الشريعة الإسلاميَّة – حيث جابوا شوارع مدينة واد مدني، وبعد عودتهم مع مجموعة من "إخوان المدينة"، وثبوا على الطلاب المستقلين الذين وقفوا في وجهم في الجامعة، وأوسعوهم ضرباً، وكان يتقدَّمهم خليل، حيث كاد أن ينهي حياة أحد زملائي، بعد أن طرحه أرضاَ وأشبعه ضرباً بفرع شجرة اقتطعها من أشجار الجامعة المورقة في الكليَّة الإعداديَّة. وكنا نشاهد هذا، فنكشِّر أنيابنا مستهجنين ساخرين. هذا ما كان من أمر خليل الذي ذكر أنَّه أسس حركته منذ العام 1993م، وأعلنها العام 2003م، أي بعد انتظار دام حقبة كاملة، وبعدما أنفق ريعان شبابه جنديَّاً مستميتاً كل الاستماتة في صفوف الحركة الإسلاميَّة. هؤلاء هم قادة الحركتين المسلَّحتين، اللتين ظهرتا في دارفور، وأضحوا يتحدَّثون عن التَّهميش. فالتَّهميش واقع يعتاشه أهل السُّودان في الأمصار وفي الضواحي أطراف المدائن. وقد أوفى الدكتور حامد البشير مشكل التَّهميش حقه في التفنيد الاجتماعي والتعليل العلمي. إذ كتب دكتورنا الألمعي يقول: "إنَّ التمايز الاجتماعي والبناء الطبقي والتراتبية الاجتماعية في السودان قد أخذت – خلال سنوات الإنقاذ – شكل التلاحم الحميم بين الإثنية والطبقية، أي بين الانتماء الطبقي والانتماء الأثني. وهذا التطابق هو الذي ولد شعوراً كاذباً بالاستعلاء لدى البعض، وربما ولّد غبناً واحتقاناً لدى الطرف الآخر. وفي خلال هذا السياق يمكن فهم العلاقة الجدلية بين التهميش والجريمة، وبالطبع بين التهميش و(العقاب)، والجريمة في المحصلة النهائية هي نتاج لخيار يائس يختاره اليائسون، الذين حرموا من التعليم، ومن الزرع، ومن الضرع، ومن الاندماج الثقافي والاقتصادي (Empowerment)، ومن انعدام الخيارات ومن غياب آليات الرفع والدعم الاجتماعي والاستقواء، وحرموا أيضاً حتى من فرص اندماجهم مع ذواتهم المقهورة، وذلك من خلال تغييب آليات تحقيق الذات (Self-realisation). إذن الجريمة التي تعج بمرتكباتها السجون من صانعات الخمور البلدية ومن ضحايا السرقات الصغيرة ومن الأطفال المشردين هي كلها تمظهرات للفقر (الأثني) والذي أضحى بدوره أول نتائج للتهميش والإقصاء لهذه الكيانات الأثنية والجهوية التي ظلت تعيش لعقود من الزمن تحت خط الفقر ودون الوصول إلى الخدمات الضرورية، التي تعين على الترقي والنمو الاجتماعي داخل تراتبية المجتمع، وأصبح حال هذه المجموعات أشبه بحال الذي تعطل نموه وتوقف. وقد أصبح الفقر هو الشيء الوحيد الذي تتوارثه الأسرة عبر أجيال وبالطبع للأنثى مثل حظ الذكرين، وبخاصة أنَّ الفقر الحضري أصبح أهم ما يميزه هو التأنيث في ظل استشراء الطلاق للإعسار والترمل بسبب الحروب والتيتم (femininisation of poverty) بموت الأب والأم والابن العائل أحياناً، وكذلك أصبح الفقر الحضري يتميز ببروز ظاهرة التأثين (Ethnicisation of poverty). حيث أن المجموع الأكبر والتمثيل الأكبر وسط شريحة الفقراء هم الأثنيات من الأقاليم الهامشية الذين ألقت بهم أقدارهم في الأحياء الطرفية العشوائية في تركيبة المدينة الكبرى في السودان، إنها أحياء أشبه بأحياء سويتو، وفي واقع سياسي قابض أصبح أشبه بحالة الأبارتهيد الذي كان يديره ديكليرك في جنوب إفريقيا في تلك الأيام الكالحات." ثم يمضي الدكتور حامد يتساءل موضوعيَّاً: ما هو الحل؟ ويرد على تساؤله على الناس "إنَّ الحل حتماً ليس في معالجة التمظهرات للتهميش وما أفرزه من تمييز واضح في بنية المجتمع وفي الفرص المتاحة لأفراده .. إنَّ العلاج الناجع المفضي إلى التوحد والوئام الاجتماعي ليكمن في معالجة الأسباب الجذرية لهذا الإقصاء ولنتائجه من خلال توزيع عادل لفرص التعليم والصحة وبرامج محاربة الفقر وتحقيق الاستقواء الاجتماعي والاقتصادي، وكل ذلك يتم من خلال برامج طموحة لتعيد لهؤلاء المهمَّشين كينونتهم وذاتيتهم، وترد لهم اعتبارهم المفقود، وفوق ذلك نعيد دمجهم في المجتمع من خلال ترتيبات إصلاحية وإدارية، مثل التمييز الإيجابي وإتباع نظام الكوتا (Affirmative Action or Positive Discrimination) والتخصيص حتى تتحقق المساواة المفقودة في المجتمع."(40)

    هذا هو التَّهميش بكل أنماطه، والذي يذهب البعض في سبيل البحث عن مسبِّباته إلى إرجاعه لظروف زمانيَّة ومكانيَّة، واستظهار الاستعمار، واستبعاد العامل البشري المتحكِّم في شمال السُّودان من أيَّة مسؤوليَّة تجاه ذلك. ففي عمودها اليومي "صدى" في صحيفة "الصحافة" الخرطوميَّة، كتبت الأستاذة آمال عباس عن "اختلال ميزان السلطة والثروة في السُّودان"، فقد كتبت – فيما كتبت - تقول: "في الأصل الحقيقة غير ذلك تماماً (...)". ف"مشاكل أقاليم السُّودان التي تبدو وكأنَّها تغول وظلم يوقعه أهل الشمال على البقية، بينما الحقيقة (...) ترجع لظروف تأريخيَّة، وسياسيَّة، واقتصاديَّة (...) لا لأهل الشمال فيها يد على باقي الأقاليم." ومضت آمال تقول: "فقضية التنمية والهُويَّة تدافعت إلى تشكيلها عوامل تأريخيَّة واقتصاديَّة وعرقيَّة وجغرافيَّة من أزمان سحيقة"، وخلقت "واقع مكوناتنا التأريخيَّة والعرقيَّة والمعتقديَّة والثقافيَّة".(41) بيد أنَّ الأستاذة آمال تناست أن تذكر العناصر التي تصنع التأريخ وتساهم في حركة الثقافة والتنمية والاقتصاد وغيرها سواء في السُّودان خصوصاً أم في العالم عموماً. أفلم يكن للبشر يد في هذه الحركة؟! وفي حال السُّودان ألم يكن لأهل الشمال وصفوتهم الحاكمة دوراً رئيساً في هذه الحركة العرقيَّة والتنمويَّة والتأريخيَّة وغيرها قبل وبعد استقلال السُّودان العام 1956م؟! إنَّ طبيعة المشكلات والتناقضات التي تطوَّرت من بعد في دارفور – خصوصاً حيال العشرين سنة الأخيرة – قد تمَّ نسيانها، ذلك لأنَّ تحليل المشكل السياسي السُّوداني ظل مقتصراً إما على المناطق الأساسيَّة للشمال أو طبيعة العلاقة بين الشمال والجنوب. إنَّ دارفور – مثل بقية المناطق المهمَّشة الأخرى (البجة، ومعظم إقليم النيل الأزرق وجبال النُّوبة) – لم تلق إلا النذر اليسير من الاهتمام. ففي كتابه "دارفور.. الحالة المبهمة للإبادة" يشير المؤلف جيرارد برونيه إلى التجاهل الإداري والتنموي في ظل الحكومات الاستعماريَّة والوطنيَّة، إذ "كانت كلها متجاهلة للإقليم". ثم يعطي أمثلة قائلاً: "إنَّه في العام 1935م كان في دارفور كلها 4 مدارس ابتدائيَّة حكوميَّة فقط، وفي العام 1929م لم يكن بين طلاب كليَّة غردون التذكاريَّة (جامعة الخرطوم لاحقاً) – وعددهم آنذاك 510 (خمسمائة وعشرة طلاب) لم يكن بينهم طالب واحد من دارفور، بينما حظيت الخرطوم وحدها ب311 طالباً. وحتى مطلع الخمسينيَّات فإنَّ من بين ثماني عشرة مستشفى للولادة في السُّودان لم يكن نصيب دارفور منها شيء البتة."(42) كذلك "يضرب المؤلف مثلاً أنَّه في العام 1952م كان في دارفور مدرسة حكوميَّة متوسطة واحدة من جملة 23 مدرسة متوسطة في السُّودان (...) (و) بنهاية فترة الحكم الثنائي فإنَّ 56% من المشروعات الاستثماريَّة ظلَّت في الخرطوم وكسلا والشماليَّة يقابلها 17% فقط لكل من دارفور وكردفان (...) (و) إنَّ هذا التفاوت الكبير في توزيع العائدات والخدمات ليبدو فادحاً حين يعلم المرء أنَّ الجزء المستفيد بالقسط الأكبر وقتذاك كانت كثافته السكانيَّة 2,5 مليون (مليونان ونصف المليون)، بينما كان سكان كردفان ودارفور آنذاك 3 ملايين نسمة".(43) وتحت إشراف الدكتور علي حسن تاج الدين تمَّ إحصاء لعدد مواقع وكيل وزارة، وكانت النتيجة على مستوى الخرطوم 350 وظيفة، بينما أربع وظائف يحتلها أبناء دارفور بالتحديد. أما على مستوى السفراء فأول مرة يتم فيها تعيين سفير من دارفور كان العام 1992م، وهو الدكتور التيجاني صالح فضيل. فلم يكن من باب الصدف، إذن، إن أحصى كاتبو الكتاب الأسود التعيينات الدستوريَّة في السلطة التنفيذيَّة والتشريعيَّة والقضائيَّة والديبلوماسيَّة والإعلاميَّة وهلمجراً، وكيف استحوذت أقاليم بعينها وأثنيات معينَّة بنصيب الأسد، وذلك عشيَّة الاستقلال حتى اليوم. ثمَّ فصَّل الكتاب صوراً من اختلال الميزان في تقسيم الثَّروة القوميَّة في البلاد.(44) ومن هنا ندرك أنَّ العصيان العسكري في إقليم دارفور قد جاء نتيجة أحداث مريرة استوجبت الثورة وحتَّمت قيامها، ولم يكن مجرَّد تمرُّد مفاجئ، أو عدوان مدبَّر بدون أسباب.

    ومثلما ركَّزت حركة وجيش تحرير السُّودان على النِّضال المسلَّح، اهتمَّت كذلك بالعمل التنظيمي والبناء السياسي. ففي المؤتمر التأسيسي للحركة، الذي عُقِد بحسكنيتة بولاية جنوب دارفور خلال الفترة من 28 تشرين الأول (أكتوبر) – 5 تشرين الثاني (نوفمبر) 2005م، أُجيز النظام الأساس للحركة ودستورها الذي قنَّن اختصاصاتها وهياكلها الإداريَّة بصورة واضحة، واُنتخب السيد مني أركو مناوي رئيساً لها بدلاً من الأستاذ عبد الواحد محمد أحمد النور الذي قاطع المؤتمر. كما اُنتخب نائباً للرئيس وأميناً عاماً للحركة، واُنتخب كذلك مجلساً ثورياً للحركة هو بمثابة البرلمان واُنتخب رئيساً له، واحتوى الهيكل الإداري للحركة على ثماني عشرة أمانة متخصصة، تم ملؤها بشخصيات ذات تأهيل وكفاءة عالية مع تحديد الاختصاصات بدقة لكل مستوى من المستويات الإداريَّة والشخصيات التي تشغله.

    ومع ذلك لم تنج الحركة من الآفات التي تصيب الحركات التحرُّريَّة أو التحريريَّة في أي مكان وزمان. إذ إنَّ أكبر المشكلات التي تعصف دوماً بالحركات التحرُّريَّة أو التحريريَّة – التحرُّريَّة من جميع الأطر والقيود الرجعيَّة الاستعماريَّة أو الإمبرياليَّة، والتحريريَّة من التحرير السياسي والاجتماعي والهيمنة الثقافيَّة الظاهر في استقلال كل دولة على حدة داخل حدودها الوطنيَّة الملغومة - هي التشظي إلى حركات متناثرة، إمَّا لتتباعد نهائيَّاً وتبدأ في انشغالها بمحاربة أو معاداة بعضها بعضاً بدلاً من العدو المشترك، أو لتعيد صياغة نفسها وتكوِّن تحالفات جديدة مع إقصاء البعض الآخر من هذه المعادلة الجديدة. ويلعب العامل القبلي، وحب السُّلطة، والوقوع فريسة للإغراء المالي والخديعة السياسيَّة من عدو الأمس، والجهل أحياناً بقوانين اللعبة السياسيَّة تلعب كافة هذه العوامل وغيرها دوراً رائساً في هذه الانشطارت. وحال الحركات المسلَّحة في السُّودان ليست باستثناء فسواء في حال الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان أو الحركات المسلَّحة في شرق السُّودان في الأمس القريب، أو حركتي تحرير وجيش السُّودان أو العدل والمساواة في دارفور. إذ نضرب مثلاً على ما نقول إنَّه في يوم الجمعة 20 كانون الثاني (يناير) 2006م تمَّ بالعاصمة التشاديَّة – إنجمينا – توقيع تحالف سياسي وعسكري بين حركة وجيش تحرير السُّودان برئاسة مني أركو مناوي، وحركة العدل والمساواة بزعامة الدكتور خليل إبراهيم محمد، والقائد خميس عبد الله أبكر وحركة وجيش تحرير السُّودان (جناح عبد الواحد محمد أحمد النور) تحت مسمى "تحالف القوى الثوريَّة لغرب السُّودان". لكن هذا التحالف الوقتي لم يدم طويلاً، فسرعان ما مضت كل حركة إلى سبيلها، بل تقسَّمت أشلاءاً – كما سنرى لاحقاً. أيَّا كان من الأمر، فقد ظهرت حركتا تحرير السُّودان والعدل والمساواة في وقت ساعدتهم الظروف العالميَّة لإبراز قضيَّة دارفور في الإطار الإقليمي والمجتمع الدولي، وكان للإعلام العالمي والأمم المتحدة ونشاطات منظمات حقوق الإنسان دوراً مشهوداً على تنوير الرأي العام العالمي بالتجاوزات الفظة لحقوق الإنسان في دارفور. وقد امتازت حركة العدل والمساواة بإمكانيات مادية هائلة أمكنتهم من تمويل حركتهم والمشاركة في المنتديات الإقليمية والدوليَّة لإعلام العالم بمشكل دارفور، إلا أنَّ تشدُّدهم العقائدي وضبابيَّة رؤيتهم حول مسألة الدين والدَّولة – وربما لأسباب أخرى – قد باعدتهم من حركة وجيش تحرير السُّودان، برغم من تعاونها معها في القضايا الجوهريَّة حول تقسيم السُّلطة والثروة وخصوصيَّة إقليم دارفور. وتدعو الحركات المسلحة في دارفور إلى مواجهة جذور الصِّراع السياسي في دارفور، والقضايا الدستوريَّة مثل نظام الحكم، وحقوق الإنسان، وفصل المسائل الدينيَّة عن الأمور السياسيَّة، والتنمية الاقتصاديَّة العادلة للمناطق المهمَّشة. وهكذا نجد أنَّ الحركات المسلَّحة الحالية في دارفور قد تطوَّرت من المقاومة الطبيعيَّة المستمرة ضد التَّهميش المتعمِّد والتجاهل المقصود للإقليم إلى مرحلة إشهار السِّلاح. وإذا كان هناك من ثمة شيء فعلينا أن ندرك أهميَّة فصل الدين عن الدَّولة، لأنَّ رواة التأريخ الإسلامي الحديث وأهل السيرة يُحدِّثوننا أنَّ الدولة الكهنوتيَّة قد فُهِمت فهماً نفعيَّاً، ومن ثَمَّ عملت بما فهمت. أي أنَّها عملت في ظل الثنائيَّة الموحدة – الدِّين والدَّولة – فسارت بعكاز واحد، واتَّخذت من الكهنوت عكازاً غليظاً، فعبثت ولهت وحوَّلت الرِّسالة الدينيَّة – بشهادة وقائعها وتطبيقاتها – إلى رسالة منفعيَّة ذرائعيَّة تستهدف بناء الفرد، لا بناء الفكرة، ودعم العشيرة لا دعم الإنسانيَّة، وكانت هي الحال في سودان "المشروع الحضاري".
                  

العنوان الكاتب Date
دارفور .. حقيقة الصِّراع ومآلاته ، الدكتور عمر مصطفى شركيان. Khalid Kodi02-19-08, 02:05 AM
  Re: دارفور .. حقيقة الصِّراع ومآلاته ، الدكتور عمر مصطفى شركيان. Khalid Kodi02-19-08, 02:09 AM
    Re: دارفور .. حقيقة الصِّراع ومآلاته ، الدكتور عمر مصطفى شركيان. Khalid Kodi02-19-08, 02:11 AM
  Re: دارفور .. حقيقة الصِّراع ومآلاته ، الدكتور عمر مصطفى شركيان. AMNA MUKHTAR02-20-08, 03:42 PM
    Re: دارفور .. حقيقة الصِّراع ومآلاته ، الدكتور عمر مصطفى شركيان. Khalid Kodi02-20-08, 03:53 PM
  Re: دارفور .. حقيقة الصِّراع ومآلاته ، الدكتور عمر مصطفى شركيان. Khalid Kodi02-27-08, 02:40 AM
    Re: دارفور .. حقيقة الصِّراع ومآلاته ، الدكتور عمر مصطفى شركيان. Khalid Kodi02-27-08, 02:43 AM
      Re: دارفور .. حقيقة الصِّراع ومآلاته ، الدكتور عمر مصطفى شركيان. bakri abdalla02-27-08, 06:42 AM
      Re: دارفور .. حقيقة الصِّراع ومآلاته ، الدكتور عمر مصطفى شركيان. A.Razek Althalib02-27-08, 08:14 AM
  Re: دارفور .. حقيقة الصِّراع ومآلاته ، الدكتور عمر مصطفى شركيان. Khalid Kodi03-05-08, 06:47 AM
    Re: دارفور .. حقيقة الصِّراع ومآلاته ، الدكتور عمر مصطفى شركيان. Khalid Kodi03-05-08, 06:48 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de