دارفور .. حقيقة الصِّراع ومآلاته ، الدكتور عمر مصطفى شركيان.

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 03-29-2024, 01:39 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الاول للعام 2008م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
02-19-2008, 02:05 AM

Khalid Kodi
<aKhalid Kodi
تاريخ التسجيل: 12-04-2004
مجموع المشاركات: 12477

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
دارفور .. حقيقة الصِّراع ومآلاته ، الدكتور عمر مصطفى شركيان.

    دارفور .. حقيقة الصِّراع ومآلاته (1 من 8)


    الدكتور عمر مصطفى شركيان

    [email protected]

    الملايين أفاقت من كراها

    ما تراها.. ملأ الأفق صداها..

    خرجت تبحث عن تاريخها..

    بعد أن تاهت على الأرض وتاها

    حملت أفؤسها وانحدرت من روابيها..

    وأغوار قراها..!

    فأنظر الإصرار في أعينها وصباح البعث يجتاح الجباها

    من أبيات قصيدة "أغاني إفريقيا"

    للشاعر محمد الفيتوري

    مقدِّمة

    حين تأسَّد النِّظام "الإنقاذي" معلناً متحدَّياً المعارضة السُّودانيَّة أنَّ نظامه لا يتفاوض إلا مع الذين يحملون السِّلاح، كان هذا تأبُّطاً في الشر وإخفاقاً في الديبلوماسيَّة وانتهاجاً لسياسة رعناء سرعان ما أخذ أهل دارفور هذا التحدِّي بقوة. ولكن قبل هذا التحدِّي وبعده تكاثفت جملة من العوامل التأريخيَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة لتدفع أهل دارفور إلى تبني ما تبنوه من عمل سياسي وعسكري في الآن نفسه. فعندما وضعت الحرب الأهليَّة الأولي في جنوب السُّودان أوزارها العام 1972م بدأ أهل الجنوب ينعمون بنوع من التمثيل السياسي في المركز (منصب النائب الثاني لرئيس الجمهوريَّة وبعض الوزارات الهامشيَّة)، وفي الإقليم (الحكم الذاتي)، فضلاُ عن تمتُّعهم بالخدمات التنمويَّة والاجتماعيَّة والتعليميَّة. عندئذٍ تيقَّن سكان السُّودان المهمَّشون أنَّ السبيل الوحيد لانتزاع الحقوق السياسيَّة المتمثِّلة في المشاركة في السُّلطة والتَّوزيع العادل في الثروة القوميَّة هو عن طريق حمل السِّلاح. وكذلك ما أن أوشكت الحرب الأهليَّة الثانية في جنوب السُّودان، جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق أن تجد طريقها إلى الحل السياسي حتى تأكَّد أهل الهامش – بما فيهم مواطنو دارفور - في أكثر ما يكون التأكيد بأن سبيل النضال المسلَّح هو الحل، لذلك ارتأينا في وصف الحرب في دارفور بأنَّها "حرب ما بعد حرب". ومن خلال ما سوف نرى يبدو أنَّ جماهير دارفور أتعبها الواقع، وباتت لا ترى حلاً لمشكلاتها السياسيَّة ومشكلات هذا الواقع إلا بالخروج إلى حمل السلاح، وبالنسبة إليها كان هذا الخروج اضطراراً، حتى وإن كانت كلفته أكثر، ومن يركب البحر لا يخشى من الغرق.

    بيد أنَّ ما أسفرت عن الحربين الأهليتين من نتائج إيجابيَّة لأهل الجنوب وغيرهم لم تكن هي العنصر الرئيس في تأجيج الصراع المسلَّح في دارفور، لأنَّ العدائيات المسلَّحة كانت تدور في هذا الإقليم منذ أمد بعيد بشكل أو بآخر، وكانت النِّزاعات القبليَّة قائمة بصورة أو بأخرى، حتى ولو أصبح من الصعب جداُ تحديد على وجه الدقة تأريخ بداية هذه الصِّراعات القبليَّة في دارفور. إذ أنَّ تركيزنا هنا سوف يكون على العدائيات التي نشبت في شباط (فبراير) 2003م، وأخذت طابعاً سياسيَّاً وإقليميَّاً ودوليَّاً، حيث لفتت أنظار المجتمع الدولي، ومنظَّمات الإغاثة المحليَّة والدوليَّة، وجماعات حقوق الإنسان، وحكومات الدول الغربيَّة والإتحاد الإفريقي. وعليه سوف لا نغفل عن الحديث عن النزاعات القبليَّة التي حدثت قبل هذا التأريخ كمحاولة منا لفهم طبيعة أزمة دارفور في المشكل السُّوداني من النواحي التأريخيَّة والأثنيَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة والبيئيَّة. وبما أنَّ لإقليم دارفور حدود مع ثلاث دول هي ليبيا في الشمال، وتشاد في الغرب، وجمهورية إفريقيا الوسطى من الناحية الجنوبيَّة-غربيَّة، كان لمجريات الأحداث في دارفور انعكاسات سالبة على هذه المنطقة من النواحي الإنسانيَّة والأمنيَّة والسياسيَّة، وبخاصة دولة تشاد أو ما بات يُعرَف ب"قلب إفريقيا الميت" (The Dead Heart of Africa)، وذلك لوضعها الانغلاقي وسط القارة.


    دارفور.. الأرض (الجغرافيا) والشَّعب والتأريخ


    إنَّ إقليم دارفور – الذي يعني حرفيَّاً أرض الفور – يمتد تأريخياً بين خطي العرض 10-16 درجة شمالاً، وخطي الطول 22-27 درجة شرقاً، وتبلغ مساحته 140,000 ميلاً مربعاً – أي ما تعادل مساحته فرنسا، ويسكنه حوالي 6,5 مليون نسمة. إذ لم يتم دمجه رسميَّاً في دولة السُّودان إلى بعد هزيمة آخر سلطان دارفور وهو علي دينار العام 1916م. وبما أنَّ لهذا الإقليم طبيعة جغرافيَّة مميَّزة وتأريخ زاخر وتباين أثني، إلا أننا نترك الحديث عن الجغرافيا جانباً، وإن لعبت هذه الجغرافيا أو العوامل البيئيَّة – كما سنبين لاحقاً – دوراً فعيلاً في الأحداث المأسويَّة التي نود الخوض فيها. برغم من ذلك كله، كان علينا أن نشير هنا إلى أنَّ هذا الإقليم تحده من الشمال الصحراء الليبية، ومن الشرق قطاع عريض من التلال الرمليَّة، ومن الجنوب حدود ذبابة التسي تسي التي تمنع توغل الحيوانات إلى ما وراء نهر الجور، الذي سماه السُّودانيُّون المستعربون "بحر العرب" تزويراً للمعالم الإفريقيَّة. بيد أنَّ الجانب الغربي من الإقليم يمثِّل امتداداً جغرافيَّاً بذات الميزات في دولة تشاد. وعليه نجد أنَّ الأحداث السياسيَّة صوب هذا الاتجاه – أي تلقاء تشاد – هي التي تحدِّد مجريات الأحداث في هذا الإقليم، كما سنرى لاحقاً، وليست عوامل التربة، النبات، أو المناخ. وكان ارتباط دارفور بالعالم الخارجي قديماً – أي تحديداً منطقة البحر الأبيض المتوسط – وكان يتم هذا التَّرابط عن طريق درب الأربعين بين أسيوط في مصر العليا وكوبي – العاصمة التجارية لدارفور يومئذٍ، وعن طريق طرابلس مروراً ب"جالو"، كفرة، وايتي ثمَّ دارفور.

    وتسكن في إقليم دارفور – وتساكن فيه – مجموعات أثنية متباينة (الجدول رقم (1)). بيد أنَّه لا يمن تبني هذا التَّواجد القبلي بصورته هذه كنهاية قصوى، لأنَّ هناك قبائل صغيرة لكنها أصيلة ومنتشرة في هذه الولايات، وهناك مجموعات قبليَّة ممتدة على طول الحدود الولائيَّة وعرضها، ثمَّ هناك القبائل التي عبرت – وما زالت تعبر – الحدود الدوليَّة من تشاد أو جمهوريَّة إفريقيا الوسطى واستوطنت في دارفور؛ حيث تزداد هذه الهجرات، إما أولاً بازدياد النِّزاعات المسلَّحة بسبب السلطة السياسيَّة، وإما ثانياً عند اصطراع المجموعات الأثنيَّة المتنافرة حول الموارد الطبيعيَّة التي تنشأ نتيجة الظروف البيئيَّة القاهرة، وإما ثالثاً هروباً من الضرائب والتزامات المواطنة في السُّودان وتشاد – مثلما يفعل الغجر في أوربا (The Gypsies) – فلتجدنَّهم يسجِّلون في السُّودان تارة، ويهربون إلى تشاد تارة أخرى كلما قويت يد الدولة وصارت قابضة. إذ يمكن تصنيف القبائل في دارفور إلى خمس مجموعات رئيسة هي:

    (1) القبائل المستقرة (الإفريقيَّة): وهي الفور، المساليت، الداجو، التُّنجُر، القِمِر، البيرقيد، والبرتي.

    (2) القبائل البدويةَّ أو شبه بدويَّة (الإفريقيَّة): وتشمل الميدوب والزغاوة. وفي كتاب "الزغاوة ماض وحاضر" أورد المؤلفان محمود أبكر سليمان وحمد على أبكر سليمان "الطيناوي" فروع وإدارات الزغاوة وفق ترتيبها الأبجدي وهي: دار الزغاوة الأرتاج، دار الزغاوة البديات، دار الزغاوة التوار، دار الزغاوة أولاد دقيل، دار الزغاوة القلا، دار الزغاوة الكابتنق، دار الزغاوة الكجر، دار زغاوة الكوبي، ودار زغاوة منطقة أنكا "البقيري". والزغاوة يطلقون كلمة بيري على أنفسهم، وهي تعني الزغاوة ويصنِّفون البيري إلى ثلاثة أقسام هي: ويقي، توباء، وكوبارا. ويشمل الويقي الفروع التالية: الأرتاج والقلا والتوار والنيقيري وأولاد دقيل والكجر والكايتنقا؛ أما التوباء فهم البديات، والكوبارا هم زغاوة الكوبي.(1) ولغتهم شبيهة بلغة تابو، وقد تكون لهم صلات بالبر في ليبيا، حيث نجد أنَّ للزغاوة – كأمة من الأمم الإفريقيَّة - في السُّودان امتداد في جنوب ليبيا وتشاد وجمهوريَّة إفريقيا الوسطى. والزغاوة في تشاد قبيلة رعويَّة أكثر من كونها تجاريَّة، وليس كما هي الحال في السُّودان. ويقول الإمام شهاب الدين بن عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي البغدادي إنَّهم "لجنس من السُّودان (...) ومملكة الزغاوة مملكة عظيمة من ممالك السُّودان في حد المشرق منها مملكة النُّوبة، الذين بأعلى صعيد مصر، بينهم مسيرة عشرة أيام، وهم أمم كثيرة، وطول بلادهم خمس عشرة مرحلة في مثلها عمارة متصلة، وبيوتهم جصوص كلها وكذلك قصر ملكهم، وأنَّه إذا اتفق لأحد من الرعية أن يلقي الإبل التي عليه زاده قتل لوقته في موضعه لاعتقادهم بأنَّ ملكهم لا يأكل، وهو يشرب الشراب بحضرة خاصة أصحابه، وشرابه يُعمَل من الذرة مقوَّى بالعسل، وزيَّه لبس سراويلات من صوف رقيق والاتشاح عليها بالثياب الرفيعة من الصوف الأسماط والخز السوس والديباج الرفيع، ويده مطلقة في رعاياه ويسترق من شاء منهم، ومعايشتهم من الزروع، واقتناء المواشي (...)".

    (3) القبائل البدويَّة الأبَّالة (العربيَّة): ومنها الزياديَّة، وهم ينتمون إلى مجموعة فزارة القبليَّة، وإنَّهم لأخوة مع مجموعة دار حامد (المحاميد) القبليَّة في كردفان.

    (4) القبائل المستقرة (العربيَّة): وهي بني فضل، المسيريَّة، والمعاليا.

    (5) القبائل البدوية البقَّارة (العربيَّة): وتشمل الرزيقات (المهيريَّة والنوايبة) وهم من عرب جهينة وجدَّهم الذي ينتسبون إليه هو رزيق، الهبَّانيَّة (التارا والصوت)، التعايشة (الكلاوا والعِرق)، والبني هلبة.

    وتذكر بعض المصادر أنَّ هناك 500 قبيلة في دارفور. فبالإضافة إلى التي سبق ذكرها نجد قبائل البرقو، البرنو، البيقو، المراريت، أولاد راشد، أولاد زيد، الكرتان، الزبلات، الشويحات، الكواهلة، الحسانيَّة، الكسياب، العريقات، العطيفات، الفلاتة، الترجم، الهوارة، الجوامعة، المهادي، المحاميد، الجلول، العطوريَّة، وخزام، والميما، الأرنقا، الأسنقور، السنجار وغيرها.


    الولاية (العاصمة) المساحة (كلم2) السكان (نسمة) القبائل

    شمال دارفور (الفاشر) 260,000 2,000,000 الفور، الزغاوة، الميدوب، المساليت،

    القِمِر، البديات، البرقو، الرزيقات

    الشماليَّة، الزياديَّة، المهادي،

    والتًنجُر.

    غرب دارفور (الجنينة) 150,000 1,900,000 الفور، المساليت، القِمِر، التاما، أولاد

    راشد، أولاد زيد، أولاد علي،

    التعايشة، بني حسين، إضافة إلى

    قبائل أخرى صغيرة.

    جنوب دارفور (نيالا) 137,000 3,964,000 الرزيقات، الهبانيَّة، الفلاتة، الفور،

    التعايشة، بني هلبة، السلامات،

    الداجو، الزغاوة، إضافة إلى قبائل

    أخرى صغيرة.

    الجدول رقم (1): إقليم دارفور.. التقسيم الولائي، المساحة، والسكان.

    المصدر: صحيفة "الحياة"، الثلاثاء، 27/7/2004م، العدد 15096.


    ففي المنطقة الشماليَّة القاحلة من الإقليم تسكن مجموعات ذات أصول إفريقيَّة وأخرى عربيَّة من رعاة الإبل الرحل (الأبَّالة). وتشمل هذه القبائل: البديات والزغاوة غير العربيَّة، وقبائل المهيريَّا (الرزيقات) والعريقات والمحاميد وبني حسين العربيَّة. وتقيم في المنطقة الوسطى الغنيَّة القبائل غير العربيَّة وهي الفور والمساليت والبرتي والبرقو والبرقيد والتاما والتُّنجُر. ثم نجد في المناطق الشرقيَّة والجنوبيَّة شبه الجافة القبائل العربيَّة الرحل (البقَّارة) وهي: قبائل الرزيقات والهبانيَّة والبني هلبة والتعايشة والمسيريَّة. هذا هو التصنيف الجغرافي لسكان دارفور. كذلك اعتمد الباحثان عبد الغفار محمد أحمد وشريف حرير العام 1982م آلية مغايرة لتقسيم سكان دارفور إلى أربعة أقسام هي: البقارة (رعاة البقر) والأبَّالة (رعاة الإبل) والزرقة (السود من غير العرب) وسكان المراكز الحضريَّة. ثمَّ هناك من يقسِّم سكان دارفور – اعتماداً على البعد الثقافي – إلى أربع مجموعات على أساس علاقتها بالدم والثقافة العربيَّة، وهي: العرب والمستعربون تماماً والمستعربون جزئيَّاً وغير العرب. إلا أنَّ سيان أوفاهي قد تبنَّى تقسيماً مختلفاً مستنداً إلى الهجرة والعوامل اللغويَّة وسبل كسب العيش كعناصر لمعرفة التركيب السلالي لسكان دارفور. وأخيراً هناك من يرى أنَّ سكان دارفور يمكن تقسيمهم إلى مجموعتين فقط هما العرب والأفارقة (الزرقة).(2) هذا التعدُّد الأثني يمكن أن يكون مصدراً للاستقواء الاجتماعي والتمكين الثقافي، وذلك في حال وجود قيادة رشيدة قادرة على حل المشكلات السياسيَّة والاجتماعيَّة الناشبة بالحكمة والموعظة الحسنة، وبعيداً عن الأهواء الذاتيَّة والمصالح السياسيَّة سواء المحليَّة أم المركزيَّة. ومن جانب آخر، إذا تم استغلال هذا التعدُّد القبلي في أسوأ ما يكون الاستغلال، وذلك عن طريق تهويل الفوارق العرقيَّة والثقافيَّة، وإحياء جذور الثأرات التأريخيَّة، وإثارة حمية الجاهليَّة الأولى، فلسوف يقود هذا المسلك إلى مشكلات أمنيَّة واجتماعيَّة وإنسانيَّة بالغة التعقيد، كما سوف نرى لاحقاً.

    وعلى كل حال، فسنمضي إلى التأريخ الآن، فهو الذي يمدُّنا بالمعطيات اللازمة للوقوف على مصائر الشعوب الذين عاشوا في تلك الفترة التأريخيَّة في دارفور. وإذا كانت مهمة التأريخ هي إطلاع العصر على حقائق الماضي، فإنَّ الاعتبار بالتأريخ من مهمة الناظر إلى التأريخ، وليس مهمة التأريخ نفسه. إذ إنَّه لمن الأمر العصي جداً التعرُّف الكامل على التأريخ القديم لإقليم دارفور، وذلك لغياب السجلات المدوَّنة وانعدام الدراسات الأثريَّة عن المواقع التأريخيَّة العديدة التي تعج بها المنطقة. بيد أنَّ أ جي آركيل، وهو كان الباحث الحديث الذي قام بدراسات جادة حول التأريخ القديم لدارفور، قد أثبت وجود آثار للمسيحيَّة في دارفور في الزمن الغابر، وذلك بعد الدراسة التي قام بها على بعض القطع الأثريَّة التي عثر عليها في "عين فرح". إذ خلص آركيل إلى القول إنَّ عين فرح ربما كانت عاصمة هذا الإقليم الذي كان حكمه خاضعاً لمملكة النُّوبة المسيحيَّة؛ أو ربما كانت هذه المنطقة مستوطنة نوبيَّة، لكنها سرعان ما أمست مستقلَّة. وكذلك ذكر آركيل أن حكم التُّنجُر في دارفور – تحت حماية مملكة النوبة – ازدهرت بين القرنين الثامن والعاشر الميلاديين. وحينما أخذت مملكة النُّوبة في شمال السُّودان تنهار رويداً رويداً لبثت مملكة التُّنجُر في دارفور ردحاً من الزمان حتى العام 1240م؛ ومن بعد استولت عليها مملكة كانم من الغرب (تشاد حاليَّاً). ثمَّ من بعد ذلك أمسى تأريخ دارفور طي الكتمان لمدة 400 عاماً حسوماً، حيث بسطت مملكة البرنو نفوذاً قويَّاً على دارفور خلال هذه القرون.

    ففي إطار مكوناتها الإفريقيَّة السُّودانيَّة تعاقبت على سلطنة هذا الإقليم عدة سلالات وهي الداجو – وكان أشهر ملوكهم عمر كوسوفرو، الذي أمر رعاياه بتحويل الجبل من موضعه إلى موضع آخر - والتُّنجُر، ومن بعدهم الفور الذين صبغوها بصبغتهم. وقد حكم من الفور أحد الفروع الرئيسة وهم الكنجارة إلى جانب التحالف مع فرعين آخرين هما التومركة والكراكيت. وتمضي التقسيمات الاجتماعية حتى داخل فرع الكنجارة ليصبح الكيرا من بينهم كباراً للقوم.(3) هذه هي الأثناء التي فيها ظهرت إلى السطح العائلة المالكة المعروفة باسم "الكيرا-الفور"؛ إذ ادعى منتسبو هذه العائلة أنَّ حسبهم ونسبهم يرجعان إلى عرب بني هلال دون الإتيان ببرهان مبين. بيد أنَّ البُحَّاث يعتقدون أنَّ أصولهم تعود إلى أهل الكنجارة، وهم فرع من إثنية الفور. إلا أنَّه بعد استيلاء سليمان صولون على العرش العام 1640م بدأت الأضواء تتسلط على تأريخ سلطنة دارفور، وأخذت رقعتها تتسع حتى شملت إقليم دارفور بأكمله وجزءاً من كردفان – كما سنرى لاحقاً. وقد قيل عن سليمان صولون هذا إنَّه لمن بني هلال، وإنَّه قد اقترن بأميرة فوراويَّة. ولتجدنَّ هذا النوع من الأساطير في مملكة تقلي في جبال النُّوبة وغيرها – أي أسطورة الحكيم العربي القادم إلى منطقة إفريقية وإدخال الإسلام وبعض العادات والتقاليد الثقافية التي لم يألفها السكان المحليُّون الأصليُّون من قبل. أيَّاً كان من أمر هذه الأسطورة، فقد حكم سليمان لمدة 40 عاماً وأدخل الإسلام إلى السلطنة. وفي هذه الأثناء تأسست مملكة ودَّاي (هي جزء من الأراضي التشاديَّة اليوم) وسادت بين سلطنة دارفور ومملكة ودَّاي علاقات اتَّصفت بالمد والجزر في أغلب الأحيان وحروبات طاحنة في أحايين أخرى. وفي خلال فترة ال200 عام منذ وفاة سليمان صولون حكم 10 سلاطين سلطنة دارفور، كان أشهرهم السلطان محمد تيراب (1752-1787م)، الذي خاض حرباً ضد الرزيقات بعد أن رفض الأخير دفع الضرائب. وفي آخر أيام حكمه اشتبك السلطان محمد تيراب مع سلطان الفونج في كردفان، حيث بسطت سلطنة الفونج نفوذها على كردفان العام 1650م. ففي نهاية القرن الثامن عشر الميلادي تدهور نفوذ سلطنة الفونج في كردفان بعد تأسيس سلطنة المسبَّعات العام 1753م بواسطة هاشم المسبَّعاوي، وهو كان متمرِّداً على العائلة المالكة في دارفور، وباتت سلطنة المسبعات تشن غارات متكررة على دارفور. وفي نهاية الأمر شن السلطان تيراب حرباً شعواء على سلطنة المسبعات انتهت بهزيمتها، وتقدَّمت جيوش تيراب حتى أم درمان، حيث توفى في هذه الحملة.

    على أيَّة حال، استمرَّ حكم دارفور على كردفان 30 عاماً، حيث انتهت بالغزو التركي-المصري على السُّودان العام 1821م، وهزيمة قوات السلطان محمد الفضل – سلطان دارفور – في بارا، حيث استبسل آخر ملوك النُّوبة في هذه المدينة أي استبسال، مع العلم أنَّ هذه المدينة كانت آخر عاصمة للنُّوبة في السُّودان بعد تقهقرهم غرباً. إذ لم يكن للأتراك-المصريين من الجيوش والمال بما فيهما الكفاية للزحف تلقاء الفاشر – حاضرة سلطنة دارفور، وهكذا لبثت هذه السلطنة مستقلَّة لمدة 53 عاماً. وقد تحدَّت السلطنة الإمبراطوريَّة التركية في مصر في عهد سلطانها محمد الفضل ابن السلطان عبد الرحمن الرشيد، وذلك بعد أن أرسل له محمد علي باشا رسالة العام 1830م فيها يدعوه للتسليم والخضوع له أسوة ببقيَّة بلاد السُّودان. وقد كان خطاب السلطان محمد الفضل – الذي حرَّره الشيخ حسن ولد عماري (العالم الأزهري) – آية من آيات الاعتزاز بالنفس.

    مهما يكن من شيء، فحين جاء الهجوم على دارفور كان من الجنوب بواسطة الزبير باشا رحمة، أي بعد أن خلع عليه الخديوي في مصر لقب الباشا. وقد أتى هذا العدوان الذي شنَّه الزبير على الرزيقات في جنوب دارفور بعد أن نقض الرزيقات عهداً كان قد تمَّ بينهم من جهة وبين الزبير من جهة أخرى؛ إذ يسمح هذا العهد – فيما يسمح – لقوافل الأخير من الرقيق بالعبور وسط ديار الرزيقات إلى أسواق النخاسة في الأبيض، أم درمان، شندي، ثم سواكن إلى شبه الجزيرة العربيَّة، أو شمالاً نحو مصر. وقد هزم الزبير الرزيقات شر هزيمة، وفي هذه الأثناء أرسل السلطان "الدرافوري" إبراهيم قرض جيشاً لطرد الزبير من جنوب السلطنة، واصطدم الجيشان العام 1874م في موقعة منواشي، حيث انتهت المعركة بهزيمة الفور، ومقتل السلطان إبراهيم في المعركة، ودخول الزبير مدينة الفاشر في مستهل تشرين الثاني (نوفمبر) 1874م. وقبل المعركة أرسل الزبير باشا رحمة عدة رسائل إلى السلطان إبراهيم قرض، حيث سمى مجموعة هذه الرسائل "الأبوية السديدة في إنذار وتهديد أهل المكيدة". وقد اتَّصفت هذه الرسائل – كما هو واضح من العنوان - بالكبرياء والإساءة لأهل دارفور. والجدير بالذكر أنَّه كانت هناك نهضة مرموقة في سلطنة دارفور قبل الاحتلال "الزبيري"، وكانت البنت تتعلَّّم قبل الولد، بل كان الشرط الأساس للزواج أن يكون الزوجان متعلِّمين، ولذلك ليس غريباً أن نجد معظم نساء دارفور من كبار السن يعرفن القراءة والكتابة ويحفظن القرآن. وكان مما أُخِذ على الزبير باشا رحمة أنَّه حارب وقضى على دولة تدين بالإسلام، وتتمسك به، وتحرص نساؤها على حفظ القرآن كرجالهم بالفعل، بل كانوا يقومون بإرسال المحمل لكسوة بيت الله الحرام بمكة المكرَّمة سنويَّا. والأهم في هذا الأمر كله أنَّه "ينتمي مسلمو دارفور إلى إسلام هادئ ومتسامح، شكَّل سمة السُّودان في التأريخ القريب، ولا يزال يطبع أهله عرباً وأفارقة"ً.(4)

    برغم من أنَّ الأتراك-المصريين قد سيطروا على بعض الأجزاء من دارفور، إلا أنَّه كان هناك ستة سلاطين توالوا على حكم منطقة جبل مرة، ولم يستطع الأتراك-المصريُّون بسط سيطرتهم الكاملة على دارفور أرضاً وشعباً. وقد أنفق سلاطين باشا، الذي عُيِّن حاكماً لدارفور في شباط (فبراير) 1881م، جهدا جهيداً - طيلة الفترة التي قضاها في دارفور – في محاربة قبائل دارفور التي استمرَّت في عصيانها ومقاومتها للحكم الأجنبي حتى ظهور الثورة المهديَّة. وأخيراً تم القبض على سلاطين وتسليمه للمهدي، حيث بقي أسيراً ردحاً من الزمان في دولة المهدية قبل الهروب إلى مصر والعودة إلى السّودان كرة أخرى كمفتش-عام مع الجيش البريطاني-المصري العام 1898م. وقد دون سلاطين باشا سيرته الذاتيَّة عن تجربته في السُّودان عامة، وبقائه في الأسر خاصة في سفر معروف باسم "السيف والنار في السُّودان".(5) وهنا تجدر الإشارة إلى أنَّ المهديَّة كثورة وطنيَّة ضد الاستعمار الأجنبي قد خلقت وضعاً مثاليَّاً لدي بعض السُّودانيين جعلهم – من واقع الحماس الوطني – يغضُّون الطرف عن كشف عوراتها؛ هذا وإن كان المهدي ذاته قد تعرَّض لمعارضة من أهله في البحر، وبخاصة طائفة الختميَّة وعلماء الدين الآخرين الذين رفضوا الإيمان بمهديَّته. كذلك استقرَّ رأي أهل السُّودان النيلي – أي أولاد البحر – على الحياد، ظناً منهم في بادئ الأمر أنَّ المهدي قد لا يستطيع أن يحقِّق نصرا موزراً على السُّلطات التركيَّة-المصريَّة. غير أنَّ معارضة بعض السُّودانيين للخليفة عبد الله التعايشي كان من نمط خاص، وقد أبانت هذه المعارضة في أفضح ما يكون البيان العلاقة التنافريَّة بين أولاد البحر النيلي وأبناء الغرب السُّوداني. فماذا جرى، إذن، في ذلكم الزمان المنقضي من القرن الماضي؟

    عندما شعر الإمام المهدي أنَّ أهله الأشراف – أولاد النيل "البحر" – غير راضين أن يكون خليفة المهدي من غيرهم، وبخاصة أنَّ المهدي كان قد حسم أمر خلافته للخليفة عبد الله التعايشي بمنشور معروف، ذهب المهدي أبعد من ذلك. فما كان منه إلا أنَّ تبرَّأ منهم، لأنَّهم أبدوا امتعاضهم من أن يتولَّى الخلافة من هو "غريب الوطن والجنس"، فصعد المهدي المنبر في 12 حزيران (يونيو) 1885م، وبعد خطبة الجمعة، وقف قائلاً: "أيها الناس إني قد مللت النصح والمذاكرة لأقربائي الأشراف الذين تمادوا في الطيش والغواية، وظنوا أنَّ المهديَّة لهم وحدهم، ثم مسك ثوبه ونفضه ثلاث مرات، وقال إنا برئ منهم، فكونوا شهوداً عليَّ بين يدي الله."(6) هكذا نرى أنَّ عنصريَّة "أولاد البحر" ضد الخليفة عبد الله التعايشي وأهله من غرب السُّودان لم تأت بعد وفاة المهدي مباشرة، أو حتى بعد استمرار خليفته في الخلافة سنيناً عدداً حتى يظن من يظن ويعلِّل من يعلِّل أنَّ هذه الموجدة ضد الخليفة عبد الله ما هي إلا ردة فعل طبيعيَّة ضد دكتاتوريَّة الخليفة وإخفاقاته في إدارة دولاب الدولة المهديَّة بعد وفاة المهدي. إذ أنَّ التضجُّر ضد الخليفة عبد الله – برغم من عروبته الجهويَّة – يعكس التوجه العنصري لدي ما سموا أنفسهم ب"الأشراف"، مما يعني أنَّه إذا كان هناك ثلة ممن يسمون أنفسهم بالأشراف فلا بد أن يكون هناك ممن هم ليسوا بالأشراف – أي العبيد؛ وأولئك العبيد ينبغي أن يكونوا هم – حسب اعتقادهم وإدراكهم – "أهل الغرب". فهل كان عبد الله التعايشي خليفة المهدي أم خالفته؟ إذ أنَّ الخليفة هو من يقوم مقام السالف ويسد مسده؛ وبهذا المعنى يعني اسم "الخليفة" الرجل الذي يلي السالف، وينوب عنه، ولا يعني من يقوم مقامه. أما الخالفة فهو الذي يأتي بعد السالف، وليس عنده غناؤه، ولا معه خصائصه. فإذا كان عبد الله التعايشي خليفة المهدي فإنَّ النقد المصوَّب نحوه ينبغي أن يوجه للمهدي نفسه، أما إذا كان هو خالفة المهدي – وهذا ما نظن – فإنَّ النقد الموجَّه إليه مبعثه شيئان: التوجهات العنصريَّة لدي الناقدين، ثمَّ ترديد الدعاية الاستخباراتيَّة من قبل الحكومة الثنائيَّة (البريطانيَّة-المصريَّة) ضد دولة المهدي حتى لا تقوم لهذه الدولة قائمة كرة أخرى، ولا يفوتنا أن نذكر أنَّ الثورة المهدية هي التي قتلت الجنرال غردون باشا. هذا لا يعني أنَّ صحائف إدارة عبد الله التعايشي كانت بيضاء من غير سوء، وبخاصة في معاملة رعاياها المعارضين في أقاليم السُّودان المختلفة. إلا أنَّ المعارضين من أولاد البحر و"الأشراف" قد ركَّزوا على الجانب العرقي والجهوي في نقدهم، مما يعبَّر عما كانت تضمره ضمائرهم، وتحويه طبائعهم من غل دفين، وحقد عنصري بغيض. هذه هي الإشكاليَّة الجدليَّة الأولى بين المركز والهامش في تأريخ السُّودان المعاصر، وفي ظل دولة وطنيَّة حكامها مواطنين سودانيين. إذ شكَّل مكان الميلاد بصورة صارخة، والإثنيَّة العرقيَّة بشكل أوضح، مصادر ومكامن هذه الجدليَّة السياسيَّة التي يعيشها أهل السُّودان اليوم، وباتت تأخذ صور الهويَّة الثقافية والاجتماعية التي حولها يصطرع أهل الريف المهمشين ضد أصحاب السلطة في المركز المهيمن.

    ومع هذا لا نكون قد افترينا على الحق إن قلنا إنَّ الذين ليزعمون أنَّ عبد الله التعايشي كان فظاً غليظ القلب يتناسون أنَّ المهدي قد أعدم القاضي ميرغني ود تميم، أحد علماء مملكة تقلي بعد أن طلب منه المثول – مع المك آدم أم دبالو وعشيرته الأقربين - أمامه في الأبيض؛ وسُيق المك آدم مقرَّناً بالأصفاد ليلقي حتفه بالقرب من شبشة بالنيل الأبيض وهم زاحفون نحو الخرطوم. أما العلماء دفع الله بقوي ويوسف أحمد والعالم طه – أولئك الذين كانوا يشكِّلون القيادة الروحيَّة في مملكة تقلي – فقد نجوا من الموت الزؤام، في بادئ الأمر، لأنَّهم تخلفوا عن الهجرة مع المك آدم والقاضي ميرغني إلى المهدي بعد فتح الأبيض وواقعة شيكان، وظلَّوا في الجبال رافضين للمهديَّة إلى أن وجه المهدي حمدان إلى حرب الجبال، وكان مصيرهما القتل. ويتغاضي الذين يتحدَّثون عن قسوة الخليفة، ولا يتحدَّثون عن قسوة المهدي، أوامر الأخير بعد فتح الأبيَّض بقتل اثنين من أعظم أنصاره، وهما المنة إسماعيل وعجيل الجنقاوي، من كبار مشايخ الرزيقات لمناقشة حصلت بينهما وبين الخليفة عبد الله التعايشي. ثمَّ إنَّ هؤلاء الزاعمون بفظاظة الخليفة وغلظة قلبه ليتعامون عن إعدام المهدي لفخر الدين حسن المعلاوي لأنَّه ادعى أنَّه خليفة المهدي، وكاتب المهدي ذاكراً أنَّه قد سمع هاتفاً من عند الله يقول: "إنَّا جعلناك خليفة في الأرض"، مع أنَّ فخر الدين المعلاوي لم يتخذ أي موقف عدائي من نظام المهديَّة، بل طلب مكاناً في إطار نظامها، ويشير المهدي في رسالته إلى ذلك قائلاً: "والحمد لله إذ جئت منيباً بلا سيف فنرجو الله على جوابك هذا أن يزيل عنك كل حيف." وفي نهاية الأمر يمتزج في جريمة فخر الدين العامل الديني بالعامل السياسي.(7) على أي، وكأنَّما أولئك الذين يستدلِّون ببربريَّة الخليفة عبد الله وهؤلاء الزَّاعمون في معصوميَّة المهدي يعتقدون أنَّ كل ما ذهب صواباً في دولة المهديَّة بعد وفاة المهدي كان نتاجاً من تعاليم المهدي نفسه؛ أمَّا ما جاء بعده خطأً فإنَّهم يعزونه – بلا شك – إلى خليفته الذي هم زاعمون أنَّه أخفق في تفسير رسالة المهدي الروحيَّة. هذا التباس في الفهم، وسوء في الاعتقاد.

    مهما يكن من الأمر، فمثلما فشلت السلطات التركية-المصريَّة (1821-1885م) في بسط الأمن والسيطرة الكاملة على دارفور، أخفقت كذلك الدولة المهديَّة (1885-1898م) في إخضاع أهل دارفور بصورة شاملة. فبالإضافة إلى معارضة الأشراف (أولاد البحر) في المركز، تعرَّضت حكومة الخليفة عبد الله التعايشي من تمرد بعض القبائل في الغرب وبعض مناطق السُّودان الأخرى. إذ لم تنجح محاولات يوسف ابن السلطان إبراهيم قرض في إعادة عرش والده في الفاشر ومقتله في هذه المغامرات، ولا تحالف أبو الخيرات – شقيق القتيل يوسف. وكذلك فشلت محاولات محمد زين، الذي اشتهر بلقب أبو جميزة، في دار تاما في القضاء على المهديَّة في دارفور برغم من انتصاراته الأولى ضد جيوش المهديَّة. لم يأت أبو جميزة برسالة جديدة أو ابتداع مذهب مناوئ للمهديَّة، بل اعتبر نفسه واحداً من أتباع المهدي. إذ توفى أبو جميزة – وهو كان فقيهاً لأهل تاما، يفتيهم في أمر دينهم ودنياهم – وهُزِم أهل تاما خارج مدينة الفاشر في 22 شباط (فبراير) 1889م، وهرب أبو الخيرات من المعركة. وحين ضربت المجاعة أهل السُّودان العام 1889م رفض أهالي قِمِر وتاما ومساليت، الذين لم يتم إخضاعهم بعد للمهديَّة، رفضوا تصدير الذرة إلى الفاشر، وقد حاول عثمان آدم – الحاكم المهدوي في دارفور – إخضاعهم بقوة السلاح، لكنه مات بسبب الوباء الذي تفشَّى وسط جنده. وفي العام 1890م قُتِل السلطان أبو الخيرات بواسطة رجاله في ظروف غامضة، وأصبح علي دينار – حفيد السلطان محمد الفضل – سلطاناً رمزيَّاً على دارفور. وفي الأيام الأخيرة من المهدية أمست دارفور هادئة، إلا من بعض الحملات التي قام بها محمود ود أحمد – الذي عيَّنه الخليفة عبد الله التعايشي حاكماً لكردفان ودارفور خلفاً لعثمان آدم – ضد دار تاما العام 1893م. إذ لم يستطع – كذلك - إخضاع المساليت برغم من الحملات المتقطِّعة ضدهم.(8)

    هذه هي حال دارفور – باختصار شديد – عشيَّة وفجر وضحى الغزو البريطاني-المصري للسُّودان العام 1898م. فما هي الدروس والعبر التي أسفرت عنها تجربة الدولة المهديَّة في دارفور قبل وبعد سقوطها في أم درمان – أي بعد موقعة كرري في 2 أيلول (سبتمبر) 1898م؟ نتيجة لحروب المهديَّة في إقليم دارفور، ومحاولة بسط النفوذ العسكري على الأوضاع السياسيَّة والاجتماعيَّة فيه خلقت نمطاً من الكراهيَّة وسط بعض من القبائل الدارفوريَّة ضد المهديَّة. فبعد انهيار النِّظام المهدوي لم يجد قادته أي منقلب عليه ينقلبون في دارفور، وذلك بعد أن أحرقوا صحائفهم بأيديهم، وكان عربي دفع الله عامل الخليفة عبد الله التَّعايشي في الرجَّاف بالإستوائيَّة منذ العام 1893م هو أحد هؤلاء القادة الذي ركله أهل دارفور. فقد أصبح عربي دفع الله طريداً شريداً بعد أن طرده البلجيك في الكونغو، فنزل في بور ومنها إلى جنوب دارفور، ليطرده السلطان علي دينار إلى دار التعايشة، ومنها إلى مكان قصي في الحدود الغربيَّة لإقليم دارفور – أي في دار كارة. وكانت حروبات المهديَّة قد خلقت ظروفاً سيئة في الإقليم، مما دفعت أهله إلى البحث عن الحريَّة وسبل الانعتاق من قيود المركز وربقة التسلطيَّة باسم الدين الإسلامي. وقبل ذلك الحين وحتى اليوم كانت الحروبات الكثيرة في أي مكان تُولد رغبة جامحة جانحة إلى الاستقلال، والحروب الطويلة تفجِّر في نفوس ضحاياها رغائب دائمة في طرق سبل الخلاص من مركز القرار الذي يبعث هذه الحروب ضدهم؛ وهذه الرغائب تثير في نفوس هؤلاء المسحوقين نوعاً من الطُّموح والطُّموع إلى شكل من أشكال التحاكم السياسي الذي يوفِّر لهم الحريَّة والمساواة وذاتيَّة القرار. وأهل دارفور ليسوا هم بمختلفين عن ذلك. هذا فقد وجد السلطان علي دينار في هذه العوامل السياسيَّة والاجتماعيَّة عناصر مساعدة له بالتفرُّد بالإقليم سلطة سياسيَّة، وسيادة إقليميَّة، وإرادة جماهيريَّة؛ هذا ولئن استثنينا بعض النشاطات المعارضة التي تبنَّتها بعض القبائل العربيَّة – ربما من منطلق عنصري، أو لأسباب تأريخيَّة – كما سنرى لاحقاً.



                  

العنوان الكاتب Date
دارفور .. حقيقة الصِّراع ومآلاته ، الدكتور عمر مصطفى شركيان. Khalid Kodi02-19-08, 02:05 AM
  Re: دارفور .. حقيقة الصِّراع ومآلاته ، الدكتور عمر مصطفى شركيان. Khalid Kodi02-19-08, 02:09 AM
    Re: دارفور .. حقيقة الصِّراع ومآلاته ، الدكتور عمر مصطفى شركيان. Khalid Kodi02-19-08, 02:11 AM
  Re: دارفور .. حقيقة الصِّراع ومآلاته ، الدكتور عمر مصطفى شركيان. AMNA MUKHTAR02-20-08, 03:42 PM
    Re: دارفور .. حقيقة الصِّراع ومآلاته ، الدكتور عمر مصطفى شركيان. Khalid Kodi02-20-08, 03:53 PM
  Re: دارفور .. حقيقة الصِّراع ومآلاته ، الدكتور عمر مصطفى شركيان. Khalid Kodi02-27-08, 02:40 AM
    Re: دارفور .. حقيقة الصِّراع ومآلاته ، الدكتور عمر مصطفى شركيان. Khalid Kodi02-27-08, 02:43 AM
      Re: دارفور .. حقيقة الصِّراع ومآلاته ، الدكتور عمر مصطفى شركيان. bakri abdalla02-27-08, 06:42 AM
      Re: دارفور .. حقيقة الصِّراع ومآلاته ، الدكتور عمر مصطفى شركيان. A.Razek Althalib02-27-08, 08:14 AM
  Re: دارفور .. حقيقة الصِّراع ومآلاته ، الدكتور عمر مصطفى شركيان. Khalid Kodi03-05-08, 06:47 AM
    Re: دارفور .. حقيقة الصِّراع ومآلاته ، الدكتور عمر مصطفى شركيان. Khalid Kodi03-05-08, 06:48 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de