د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-السبت

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-05-2024, 07:34 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثالث للعام 2007م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
07-29-2007, 03:41 PM

على عمر على
<aعلى عمر على
تاريخ التسجيل: 12-13-2003
مجموع المشاركات: 2340

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
sssss
د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-السبت


    د التجاني عبدالقادر
                  

07-29-2007, 03:43 PM

على عمر على
<aعلى عمر على
تاريخ التسجيل: 12-13-2003
مجموع المشاركات: 2340

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا (Re: على عمر على)

    الجالية السودانية الامريكية
    سكرتارية الشؤون الثقافية
    منتدى الجالية الثقافي


    يسر منتدى الجالية الثقافي دعوتكم لحضور الندوة الكبرى التى يقدمها
    الدكتور/ التجانى عبدالقادر

    بعنوان

    حول تجربة الحركة الأسلامية فى السودان
                  

07-29-2007, 03:47 PM

على عمر على
<aعلى عمر على
تاريخ التسجيل: 12-13-2003
مجموع المشاركات: 2340

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا (Re: على عمر على)

    المكان :
    أكاديمية الجالية للكمبيوتر
    6295 Edsall Rd #220
    Alexandria, VA, 22311


    الزمان:
    الساعة السادسة مساء
    السيت 4 أعسطس 2007


    ( الرجاء من الجميع الحرص على الحضور في الوقت المحدد لمنح فرصة المشاركة لأكبر عدد من الراغبين/الراغبات ، سوف تمنح فرص المناقشة بأسبقية الحضور)

    الأراء والأفكار التي تطرح في جميع منتديات الجالية سواء كانت من ضيوف المنتدى أو أعضاء الجالية أو أعضاء اللجنة التنفيذية لا تعبر عن موقف الجالية انما تعبر عن أصحابها فقط ………………………………………………………………………….




    د/صلاح الزين
    السكرتير الثقافى للجالية السودانية الامريكية

    http://www.sacdo.com
                  

07-30-2007, 02:30 AM

على عمر على
<aعلى عمر على
تاريخ التسجيل: 12-13-2003
مجموع المشاركات: 2340

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا (Re: على عمر على)
                  

07-30-2007, 01:46 PM

على عمر على
<aعلى عمر على
تاريخ التسجيل: 12-13-2003
مجموع المشاركات: 2340

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا (Re: على عمر على)

    أخواننا المهلوسون
    أحــــاديث فى الخصــــوص
    د التجاني عبدالقادر


    لقد أخذت على نفسى أن أكتب فى السياسة، حينما أكتب، بأقصى درجة ممكنة من «الموضوعية». والموضوعية عندى لا تعنى الحياد المطلق، أو التجرد الكامل من الذات، فليس ذلك فى مقدور البشر، وانما تعنى أن يجتهد الكاتب فى البحث عن الحقيقة، وألا ينكر الحقائق التى يثبتها الحس السليم ويشهد بها العقل الراشد، وألا يضيق بالرأي المخالف، وألا يحقر صاحبه، وألا يختلق له «صورة» من عنده ثم يلبسها له قسرا،وأن يبتعد عن المطاعنة والملاعنة وفاحش القول وبذيئه. هذا من حيث المنهج، أما من حيث الهدف فنحن نعمل من أجل تحريك حوار عام وعميق عن أمور مشكلات تتعلق بالتنظيم السياسى والدولة والمجتمع، باعتبار أننا نمر بمرحلة عصيبة فى تاريخ الحركة الإسلامية وفى تاريخ السودان، وباعتبار أنه اذا تم تبادل للأفكار، وتمحيص دقيق للآراء، ومراجعة أمينة للأخطاء، أمكننا أن نستبين الوجهة الصائبة فنسعى نحوها دون صراخ أو تشنج، أو خبط بالأيدى أو دبدبة بالأقدام.


    وكنا وما نزال نتوقع شغبا من هنا وهناك، ولكننا نحرص على تجنبه، اذ أن أكبر ما يعوق حركة المراجعة والإصلاح، ويقطع عليها الطريق، هو «الأعشاب الضارة» التى تحول الحوار الفكرى الجاد الى شغب وهياج. ثم قرأت شيئا مما كتبه الأخ الصديق الأستاذ عبد الرحمن الزومة فى عموده اليومى بصحيفة «السودانى»، فوجدته يضيق بالموضوعية التى نلتزمها ويعتبرها سبة، ويسخر من اللقب العلمى «الأنيق» الذى نحمله، ويعتقد أن المقالات التى قمنا بنشرها لا تحتوى على فكر وانما هى ضرب من الدعاية السوداء والعمالة الرخيصة.


    ثم وجدته قد صمم لشخصى الضعيف «سيرة» ذاتية كاملة، «اكتشفت» فيها أننى أعيش فى أمريكا، ليس كما يعيش عامة الناس وانما أعيش فى «مأزق»، وانهم هناك «أقصد الأمريكيين الملعونين» يطلبون منى ومن أمثالى أن نتخلى عن مسلماتنا، وأن ندفع «ثمنا مذلا ومهينا»، «يتمثل فى بعض الأمور الإجتماعية الخاصة بتربية الأولاد و«البنات»»؛ وأنهم، قاتلهم الله، يطلبون منا «فاتورة» أخرى ستتعلق باعلان البراءة من المشروع الاسلامى». ثم يؤكد الأستاذ الزومة، وقد بلغت هلوسة «الفاتورة» مداها أن: «الذين يعيشون فى أمريكا ومن بينهم بالطبع التجانى عليهم دفع هذه «الفاتورة» شاءوا أم أبوا»، ولكنه يعود ويضع لنا خيارا فيقول: «طبعا هناك حل آخر وهو العودة الى ديار الإسلام «أى الخرطوم/مدينة الرياض، حيث يقيم الزهاد من أهل الصفة»، ثم يستدرك: «ولكنه حل صعب لمن «افتتن» بالحياة فى أمريكا»؛ ويختتم مقالته بلغة الخبير النفسانى: «هؤلاء الأخوة لا يقبلون هذا التحليل« مثلنا طبعا مثل كل المرضى النفسانيين»، ولكن الواحد منهم عندما يضع رأسه على مخدته ليلا، فان أكثر ما يبعد عنه النوم هو هذا «الثمن» المهين الذى عليه أن يدفعه مقابل تلك الحياة الفانية فى أمريكا»؛ وهكذا، فنحن عند الأستاذ الزومة لسنا مجرد عملاء وانما نحن مرضى نفسيا، وهو يراقبنا فى غبطة وسعادة ونحن نأخذ الثمن المهين، ثم يراقبنا ونحن نضع رؤوسنا على مخداتنا بالليل وقد أرهقنا السهاد.


    قرأت هذا فقلت لنفسى: أليست هذه هلوسة؟ فالمهلوس لغة هو الذى يصنع صورة مقلوبة للواقع، ثم يدخل معها فى مناطحة، مستخدما كل ما يقع على يده من أسلحة الدمار الشامل، فاذا استيقظ على لكزة من صديق،أدرك أنه كان فى معركة وهمية مع «صور» لا علاقة لها بالواقع. ان صديقنا الزومة رجل «ملتزم»، قضى نحو عقدين من الزمان مغتربا فى السعودية، يحج ويعتمر ويحسن أحواله المعيشية على مقربة من البيت الحرام، فى وقت كان معظم أعضاء الحركة الإسلامية فى السودان يمرون بأحلك الظروف، ما بين معتقل ومشرد ومطارد، حتى اذا عبرت الحركة الاسلامية من حالة الإستضعاف الى حالة «الإنقاذ» عاد الأخ الزومة من السعودية لينفض الغبار عن «أسلحته» القديمة ليدافع عن المشروع الإسلامى ضد أمثالنا من «المارينز السودانيين» الذين يذمون الحركة الاسلامية ويشوشون عليها. غير أن النقطة الأساسية التى بنى عليها كل هذه المعركة الهائلة، والاتهامات المهولة هى أننى أعيش فى أمريكا، وأن القراء يشترون مقالاتى لا لشىء الا لأنى أكتب من أمريكا. وهى نقطة غير صحيحة البتة، ولا أظنه يقصد الكذب، ولكن لعله لم يسمع بأنى قد غادرت الولايات المتحدة منذ سنوات عديدة، طائعا مختارا، وأنى أقيم الآن فى أحدى الدول الإسلامية«كما كان هو يفعل»، وأكتب منها هذه المقالات، وليس على أن أتخلى عن معتقداتى أو أساوم فى تربية أولادى و«بناتى» كما تصور ونشر على الناس.


    ولكن هب أنى مقيم فى أمريكا، فمن أين أتى بهذه الصورة «الكاذبة» عن المسلمين هناك؟ صورة المسلمين الذين تحولوا الى خونة وعملاء ومنافقين؟ واذا كانت هذه الصورة صحيحة فلماذا يحدثنا فى أحد أعمدته «28/2/7» وفى فرحة غامرة عن مخاطبة الرئيس البشير عبر الاقمار الصناعية جمهور المصلين فى مسجد ديترويت بولاية متشيجان الأمريكية عقب صلاة الجمعة، ويعتبر ذلك «أمرا مهما وتطورا غير مسبوق فى المسيرة السياسية والإقتصادية والفكرية فى السودان» ثم يبشرنا بميلاد محور جديد هو محور الخرطوم ديترويت «هلوسة..هلوسة»، ولكن السؤال هنا: لماذا تقيم حكومة الإنقاذ محورا مع المسلمين العملاء الذين أعلنوا البراءة من الإسلام وقبضوا «الثمن» من الحكومة الأمريكية؟


    ثم قلت لنفسى مرة أخرى لعل هذه حالة واحدة من حالات الهلوسة النادرة، والنادر لا حكم، فلماذا لا نتمهل لنقرأ جزءا آخر من أعمدته الخمسين التى تثبتها الصحيفة على الإرشيف.وقمت بالفعل بقراءة سريعة فى مقالاته السابقة، فتوقفت عند مقال له يعرض فيه رسالة من أحد القراء الذين وصفوه بأنه «من المنافحين عن الإنقاذ بينما كثير من الإعلاميين الذين دربتهم الحركة الإسلامية انحنوا للهجمة الشرسة التى تقودها اقلام «المارينز السودانيين»؛ ويعلق الزومة على ذلك قائلا:ولم يوضح من يقصد بهؤلاء المارينز غير أننى عرفتهم، مؤكدا أنه قد بدأ الدفاع عن هذا المشروع الاسلامى فى وقت كان بعض هؤلاء المارينز أطفالا لا يحسنون الحديث، ويلبسون «العراريق» المثقوبة فى بعض الأصقاع السودانية النائية،«ولك أن تلاحظ عبارة «أصحاب العراريق المثقوبة» ثم عبارة الأصقاع النائية، وما فيهما من ايحاء طبقى بغيض بأن السيد الكاتب ينحدر من طبقة اجتماعية لا يلبس أطفالها «العراريق المثقوبة»، أما من يخالفونه الرأي فقد كانوا فى طفولتهم من المشردين، أنصاف العراة، من أبناء الأصقاع«وليس الأقاليم أو الولايات» النائية.


    وقد لا يدرك القارىء أن عبارة «الإعلاميين الذين دربتهم الحركة الإسلامية ثم انحنوا للهجمة الشرسة وصاروا مارينز سودانيين» هى تعريض ببعض الأفراد الذين بعثتهم الحركة الإسلامية فى أواسط الثمانينات من القرن الماضى ليكملوا دراساتهم العليا فى الولايات المتحدة، ولكنى لم أكن منهم كما يتوهم الكاتب، اذ أننى تلقيت دراساتى كلها، ما دون الجامعة وما فوقها، على حساب الشعب السودانى الأبى، الذى لا يتبع صدقاته منا ولا أذى، وبالتالى فليس هناك «فاتورة» يجب على سدادها،كما يتوهم الكاتب الصديق.أما أولئك الأشخاص الذين يعرض بهم ويسخر منهم فلا نعرف عنهم الا خيرا، وأغلبهم يوجد الآن على مقربة منه فى حكومة الإنقاذ، يدافعون عنها بأحسن مما يفعل.
    على أننا لم نفرغ بعد من الحديث عن الاشارة الى أصحاب «العراريق المثقوبة» و «الأقاليم النائية»، اذ أنها ليست مجرد اشارة عابرة بقدر ما هى مفهوم يتكرر فى كتابات الأستاذ الزومة، فهو مثلا حينما يريد أن ينال من مثلنا من «الإسلاميين الذين يعيشون تحت وهم الموضوعية واختاروا الإقامة فى بلاد الغرب» لا ينتقد أفكارنا، أو مناهجنا فى البحث والتحليل، أو أدلتنا، وانما يمتن علينا بالمشروع الإسلامى «الذى رفع من قدرنا وأعطانا ما لم نكن نحلم به وبعث بنا الى بلاد الأفرنج...الخ.»؛ أى أنه يعود مرة أخرى ليخلع علينا الصورة ذاتها: صورة اللقطاء والمشردين«أصحاب العراريق المثقوبة من أبناء الأصقاع النائية»، ثم ليذكرنا بأن «المشروع الإسلامى» هو الذى رفع من قدرنا،«والمقصود بالمشروع الاسلامى فى هذا السياق ليس الاسلام ذاته، اذ أننا كنا مسلمين والحمد لله قبل الدخول فى الحركة الاسلامية، ولكن المقصود هو النخبة المباركة التى يتقدمها الأستاذ الكاتب أو يتوسطها «من أصحاب العراريق غير المثقوبة ومن أبناء «الأقاليم» غير النائية».
    على أن الذى يحيرنى هو هذا «النمط» من الخطاب «الصراعى- الخارجى»، والذى يتصور أصحابه أن كل مشاكل الحركة الاسلامية تأتى من «الخارج»، والخارج عندهم يبدأ بالشيوعيين، الأموات منهم والأحياء، ثم القوميين «على غير تمييز بينهم»، ثم اسرائيل وأمريكا، ثم مجلس الأمن وإبليس.وأن أى ناقد أو دارس للحركة الأسلامية «أو حتى لحكومة الإنقاذ» لابد أن يكون واحدا من هؤلاء«الأنجاس المناكيد»، أو أن لم يكن منهم فهو على صلة بهم، وأن تلك الصلة لا يمكن أن تكون صلة فكر أو منهج وانما هى دائما صلة «عمالة» مدفوعة الثمن، أيا كان ذلك الثمن، ولذلك فان ما يكتبه هؤلاء ليس فكرا يستحق القراءة والنقد وانما هو مجرد تشويه للحركة الاسلامية يقوم به «عدو لدود» تجب محاربته، و«فقع» مرارته، و«هرد» أحشاءه، و«فرم» كبده كما ورد فى الميثاق الصحافى الجديد الذى أعلنه السيد الزومة«19/2/07».هذا الأسلوب الهوسى/التشنجى كنا نحسبه قد أنقرض، خاصة بعد أن انتهت الحرب الباردة، وسقط الاتحاد السوفيتى، وتبعثرت منظومة الدول الشيوعية، وما سبق ذلك ولحقه من تصدع للحركات الناصرية والبعثية، وكنا نمنى أنفسنا بأن الحركة الإسلامية قد تجاوزت مراحل الطفولة السياسية، فاذا بالأسلوب القديم يطفح مرة أخرى، فلا ندرى هل هذا جزء من استراتيجية اعلامية جديدة، تقوم على «هرد» الأحشاء و«فرم» الأكباد كما يبشرنا الأستاذ الزومة، أم هى مجرد «اجتهادات» منه.أما ما نعلمه يقينا فهو ان مشاكل الحركة الإسلامية توجد فى «داخلها»، وأن بداية الإصلاح تكون بمواجهة الذات والإنتصار عليها قبل مواجهة الخارج. «أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا، قل هو من عند أنفسكم، ان الله على كل شىء قدير» «آل عمران:165».صدق الله العظيم.

    http://www.alsahafa.sd/Raay_view.aspx?id=33192
                  

07-30-2007, 01:53 PM

عز الدين بيلو
<aعز الدين بيلو
تاريخ التسجيل: 07-15-2007
مجموع المشاركات: 1909

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا (Re: على عمر على)

    ما يحمد له أن الدكتور التجاني عبد القادر من الكوادر المستنيرة في الحركة الإسلامية

    وقد أثارت مقالاته الأخيرة الكثير من ردود الأفعال داخلها

    وثقتي أن الندوة ستكون ناجحة
                  

07-30-2007, 02:20 PM

على عمر على
<aعلى عمر على
تاريخ التسجيل: 12-13-2003
مجموع المشاركات: 2340

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا (Re: عز الدين بيلو)

    التنظيم والقبيلة.... وأشياء أخرى
    د التجاني عبدالقادر


    تمهيد: أود فى هذه المقالة أن أقدم للقراء "والشباب منهم خاصة" لونا من الكتابة، أجمع فيه شيئا من التاريخ والسياسة والفكر، وهى وان بدت فى ظاهرها ذكريات شخصية وانطباعات عابرة، الا أننى أظنها ستكشف الستار عن خلفيات مهمة تساعد القارىء فى التعرف على المناخ الذى تولدت فيه العديد من الأفكار، وصنعت فيه العديد من القيادات، وهى الأفكار والقيادات التى صار لها تأثير قوى فى واقع السياسة السودانية الراهنة، ثم ان هذه المقالات وان تركزت فى مجملها حول لقاءات وحوارات جرت مع بعض الشخصيات ذات التأثير فى الحياة العامة، الا أنها تشتمل أيضا على لقاءات وحوارات مع الذات، اذ ما هى الفائدة فى لقاء الآخرين والحديث معهم ونقدهم أن لم يتحول ذلك الى حديث مع النفس ونقد لها ومراجعة لمسيرتها.

    تعود المرة الأولى التى التقى فيها لقاءً عاماً وعابراً مع الدكتور حسن الترابى الى أوائل عام 1965م، في أعقاب ثورة أكتوبر الشعبية التى أطيح فيها بنظام الفريق عبود "1958-1964م"، كان اللقاء في حوش حسن علام بمدينة أم روابة في شمال شرق كردفان. الحشد الجماهيرى كان هائلا، اذ ظلت الدعوة اليه تتردد مرارا من مكبرات صوت وضعت على سيارة مكشوفة ظلت تطوف شوارع المدينة الصغيرة تنادى الجميع للخروج والاستماع للرجل الذى "أطلق" شرارة أكتوبر، وكان الذى ينادى من السيارة هو الشاب آنذاك ميرغنى عبد الرحمن، وقد كان ميرغنى هذا مثقفا ذا التزام اسلامى، ورجل أعمال موسر "يعمل هو وأسرته في مجال صناعة الزيوت"، وقد سبب له التزامه ذاك مضايقات داخل أسرته، حيث كان والده وعمه من أقطاب وممولى الحزب الاتحادى. استمعنا في تلك الليلة للدكتور الترابى، الذى لم يكن يتجاوز الثلاثين الا بقليل، واستمتعنا بخطبته النارية، فقد كنا صغارا في مراحل الدراسة الوسطى، وقد كانت الكلمات تخرج من فمه بطلاقة ويسر وسرعة لم نكن نعهدها فيمن كانوا يعلموننا اللغة العربية أو يخطبون على المنابر في الجمع. ثم أنشئت فى صبيحة اليوم التالى دار لجبهة الميثاق الإسلامى "وأظن أن ذلك كان هو الغرض الأساس للزيارة والمحاضرة". افتتحت الدار في دكان صغير كان مطلا على الشارع الرئيسى، ثم ترشح ميرغنى عبد الرحمن في الانتخابات العامة ممثلا لجبهة الميثاق منافسا لأبيه الذى كان يمثل الاتحاديين، وكان الموقف عصيبا، وبالطبع لم يفز ميرغنى في تلك الانتخابات، أو لعله تنازل في اللحظات الأخيرة "الجدير بالذكر أن ميرغنى هذا قد تخلى لاحقا عن تنظيم الإخوان المسلمين الذى صار يعرف بالجبهة الإسلامية، وعاد الى حزب أبيه وعمه، فصار عندئذٍ وزيرا للتجارة، ثم انضم الى المعارضة حينما استولى أخوانه الإسلاميون على السلطة في عام 1989م، وقيل أنه قد أصابه بلاء فى سجونهم".


    لم التق مع الدكتور الترابى مرة ثانية الا في عام 1974م، بعد عشر سنوات من اللقاء الأول، وذلك في أعقاب ثورة شعبان الطلابية ضد نظام النميرى. كانت مياه كثيرة قد جرت في النهر، قرأت فيها كثيرا وسمعت كثيرا وصرت يومها طالبا بكلية الآداب في جامعة الخرطوم التى تزعمت انتفاضة شعبان الطلابية، كما صرت عضوا في المكتب التنفيذى للاتجاه الإسلامى، وذهبت اليه بصفتى تلك شاكيا من تدخلات مسؤول مكتب الطلاب الذى كنا نراه متعسفا في الإشراف ومبالغا في المحاسبة والمراقبة "وقد صار هذا الأخ فيما بعد اداريا ناجحا، ولكنه مع ذلك لم يأخذ الوضع الذى يستحق بين قيادة الحركة الإسلامية". كان الترابى قد خرج من السجن لتوه بعد ان قضى فيه نحوا من أربع سنوات تقريبا 1969-1973م، ولكنه مع ذلك كان يفرض عليه نظام الإقامة الجبرية، ولما لم يكن له منزل خاص فقد كان يقيم في منزل بمدينة المنشية بالخرطوم يخص أخيه الأكبر الدكتور دفع الله الترابى الذى كان آنذاك مغتربا بالسعودية على ما أظن. كانت تلك هى المرة الأولى التى أذهب فيها الى المنشية، وقد أعلمت سلفا أنه لا توجد بصات أو مواصلات عامة اليها، فأخذت بص الجريف الى آخر محطاته ثم انطلقت راجلا. كان الطريق موحشا، لم أشاهد أحدا من رجال الأمن أو غيرهم، وكنت أعجب ممن يسكن في ذلك المكان القصى. وجدت الترابى يفترش أمامه قاموسا عربيا عتيقا "لعله القاموس المحيط" وكانت تلك المرة الأولى التى التقى معه في مكان واحد وجها لوجه. لم يسألنى عن اسمى ولم أذكره له، ولم يسألنى عن الوسيلة التى وصلت بها الى المنشية، أو عن الكلية التى أدرس بها، كما لم يسألنى بالطبع عن الأسرة او القبيلة التى أنتمى اليها، كان ينظر ويستمع فقط دون أية حركة أو ايماءة تدل على اهتمام أو على عدمه بما أقول، وهذا غير مألوف عند كثير من السودانيين الذين يكثرون من هز رؤوسهم ويحدثون طقطقة بألسنتهم تشير الى حسن الاستماع والاهتمام بالمتحدث، وعندما فرغت قال لى: سأتحدث مع "فلان" حتى لا يتدخل في شؤونكم فيحدث لكم (frustration) قال ذلك بالإنجليزية برغم وجود الفيروزبادى بين يديه، وانتهت المقابلة.


    لم أخرج من ذلك اللقاء بانطباع حسن، شعرت كأننى كنت في مقابلة مع مدير لأحدى الشركات. الحديث المقتضب، والإجابات القصيرة القاطعة، وسد كل نافذة تقود الى الثرثرة في الأمور الشخصية والهموم الإنسانية الجانبية. أدركت فيما بعد حينما توغلت فى دراسة النظم الاجتماعية، أن ذلك نمط من أنماط القيادة "الرشيدة" التى تقود المؤسسات "العقلانية" الحديثة، والتى يوصى بها أصحاب نظرية الحداثة، حيث لا ينظر المدير أو صاحب العمل الى الإنسان كله، وانما ينظر فقط الى جزئه الذى يدخل في العملية الانتاجية. ويعتقد البعض أن هذا النمط من الحداثة والمؤسسية هو "السر" الذى استمد منه الترابى قوته، اذ استطاع بهذا اللون من الحيادية الباردة، والصرامة الإدارية أن يوجد ثقافة تنظيمية جديدة تقضى على ثقافة التسكع والثرثرة، وان يبنى في فترة وجيزة تنظيما محكما يتجاوز به التنظيمات اليسارية والحزبية التقليدية، أما خصومه فيرون أن مثل هذا الجفاف الإدارى هو الذى يقضى على روح الأخوة، وأن تحويل التنظيم الإسلامى الى ما يشبه الشركة يشكل انحرافا عن المنهج الذى وضعه حسن البنا "وقد ورد مثل هذا الانتقاد في بعض المنشورات التى وزعتها جماعة صادق عبد الماجد في آواخر السبعينيات".


    الغريب في الأمر أننى حينما صرت بعد سنوات قليلة مسؤولا عن بعض القطاعات الطلابية صرت اتصرف في بعض الأحيان بنفس طريقة الترابى تلك، يأتى الى منزلى طالب من جامعة القاهرة أو الجزيرة، فاستمع الى تقريره أو شكواه ثم أصرفه، كأننى مدير شركة. كان أبى الذى جاوز التسعين يومذاك يسألنى كلما دخل داخل أو خرج خارج: من هذا، فأقول له أنه أخونا فلان، ومن أى بلد هو، فأقول: والله لا أدرى، ومن هم أهله؟ فأقول: والله لا أدرى؟ فيسألنى متعجبا: وكيف تجالس شخصا وتسارره وأنت لا تعرف أهله ولا بلده؟ أى نوع من الأخوة هذا؟ لم أعرف الفرق بين النموذج "التقليدى" الذى كان عليه أبى، والآخر "الحداثى" الذى كنت وكان عليه الترابى الا أخيرا، حينما صار من كنا نسميهم "أخواننا" مسؤولين في الأجهزة العليا للأمن والسياسة والاقتصاد. يلقاك أحدهم بوجه عبوس، ثم يصرف لك التعليمات كأنما هو نابليون، ولكن الدكتور الترابى قد بدأ- على ما اعتقد- يلاحظ هشاشة النموذج الحداثى ويتخلى عنه بصورة غير معلنة، حيث صار "بعد عقود من السودنة" يتقبل لقب "الشيخ" هاشا باشا، واذا قدر لك أن تراه بالملفحة والمركوب الفاشرى وهو يستقبل زعماء الرزيقات والمسيرية والزغاوة والبرنو ويأخذ منهم "البيعة" لرأيت الحداثة وما قبلها يجتمعان في المنشية.


    أما متى بدأ مثل هذا التحول الاستراتيجى من التنظيم الحديث الى القبيلة وهل كان مقصودا ومخططا، فلا أستطيع أن أقطع فيه بشىء، ولكنى أتذكر أن الدكتور الترابى سألنى ذات مرة ان كنت انحدر من شخص زعيم، شيخ أو عمدة أو نحو ذلك من الزعامات. لم أفهم حينها مغزى السؤال، كما غابت عن ذاكرتى سيرة جدى الأعلى رحمة ود منوفل الذى قاد عربان الجوامعة وأسقط حامية بارا، مما يسر على المهدى اسقاط مدينة الأبيض فى أواخر القرن التاسع عشر، ويسر على أبناء رحمة من بعد أن يكونوا شيوخا وعمدا "ولرحمة هذا قبر يُزار فى حمد النيل بأم درمان". غاب عنى هذا التراث لأنى كنت أعتقد أن تلك أمة قد خلت، وأن الدخول فى التنظيم الإسلامى يجُب ما قبله من القبيلة والعشيرة، ثم أخذت ألاحظ لاحقا من خلال العديد من الاشارات والتلميحات أن "الدكتوراة" التى حصلت عليها فى السياسة قد اتخذها البعض وسيلة لابعادى تماما عن السياسة وتحويلى الى "مفكراتى"، وهذا مصطلح يستخدمه الترابى ثم يردده عدد من الأمناء الدائمين فى مكتبه التنفيذى وفى صالونه، اشارة تهكمية الى كل من ليس له تجذر فى النسيج القبلى، أو القطاع الاقتصادى، أو الأمنى، فقد كانت المرحلة كما اعتقد مرحلة تحالف استراتيجى بين دوائر ثلاث متداخلة: القبيلة، والتجارة والأمن، فمن لم يكن منضويا تحت واحدة أو أكثر من هذه الدوائر فهو اما "مفكراتى" فارغ، أو مغفل نافع بحسب اصطلاحات الشيوعيين.


    ولم يمر عام آخر الا وقد قام العقيد حسن حسين بانقلابه المشهور ضد نظام النميرى فى عام 1975م، فشل الانقلاب كما هو معلوم، وسيق العسكريون والسياسيون من الإخوان المسلمين وحزب الأمة والاتحاديين الى المعتقلات والمحاكم، فأعدم من أعدم، "ومن بينهم حسن حسين وعباس برشم، رحمهما الله" وأحيل الآخرون الى سجن كوبر، ولما كان رئيس اتحادنا الأخ داؤود بولاد "رحمه الله" قد اعتقل ضمن عدد آخر من الطلاب، فقد تم اختيارى على عجل رئيسا للاتحاد بدلا عنه، فكان على أن أقود الاتحاد ولكن من تحت الأرض، اذ كانت أجهزة الأمن تلاحقنا بشراسة. لم تطل فترة اختفائى اذ سرعان ما ألقى القبض على وأودعت سجن كوبر العمومى، فالتقيت بالترابى للمرة الثالثة في ظروف أسوا كثيرا من سابقتيها. كنت في قسم الشرقيات وكان الترابى في قسم آخر "يسمى المديرية" يشاركه فيه العميد سعد بحر والأستاذ الحسين اسماعيل وشخصان آخران، وكان اذا اقبل المساء وانصرف الحراس أقبل بعضنا على البناية التى بها الترابى يتحدثون معه من خلال نافذة صغيرة على الحائط الذى يفصل بيننا، ولما كنت أصغر المجموعة سنا، ولم تكن بينى وبين الترابى ذكريات مشتركة أو علاقة خاصة، فقد كنت لا أجد فرصة واسعة للحديث معه كما كان يجد الآخرون، وأذكر منهم يس عمر ومحمد صادق الكارورى وابراهيم أحمد عمر والطيب عابدين وأحمد عثمان مكى وسليمان سعيد، فكان هؤلاء يستحوذون على جل وقته واهتمامه، ولكنه نادانى ذات مرة "لا أدرى لماذا" وطلب منى أن أكتب تصورا لمستقبل النشاط الطلابى في جامعة الخرطوم، لم تكن سلطات السجن تسمح بتداول الأوراق والأقلام، ولذلك كنا نعمد الى أكياس الاسمنت فنبللها ونمسحها بالصابون حتى تزول خشونتها، وقد كان الصابون ذاته لا يقل خشونة عنها، وهو صابون من النوع الردىء الذى يصنع خصيصا للمسجونين كجزء من العقوبة على ما أعتقد، ثم نتركها تجف قليلا ونضغط عليها بالمكواة حتى تصير ورقا مصقولا، وقد توفر لدى دفتر من هذا النوع لخصت فيه شيئا كثيرا من فلسفة رينه ديكارت وديفيد هيوم وكتاب "قصة الإيمان" لنديم الجسر وجزءا من كتاب "تأريخ الفلسفة" لبرتراند رسل، وقد كنت مولعا بعض الشىء بالفلسفة، وقد استعرت هذا الكتاب من الدكتور الترابى نفسه اذ كان يسمح له باحضار كتبه، وعلمت أنه قد قرأ ذلك الكتاب قراءة متأنية، لأنى كنت ألاحظ ذلك من العلامات التى يضعها على بعض المواقع "ويستخدم عادة أسهما صغيرة ليشير الى الموضع الذى يريد" ومن تلك المواقع التى أشر عليها فقرة عن الجدل بين دعاة "الكليات" من أتباع أفلاطون، وأنصار "الجزئيات" من أصحاب أرسطو، وأظن أن اهتمام الترابى بهذه المسألة يعود الى اهتمامه بمسائل أصول الفقه ولاتصال هذه بتلك، وأرجعت اليه الكتاب وتناقشنا قليلا حوله، ثم طلبت منه في نهاية اللقاء أن يعيرنى كتاب "مقالات الإسلاميين" للأشعرى، فقال لى: وماذا فيه؟ كأنه كرهه. وكانت هناك مساجلات تجرى بينه وبين الدكتور ابراهيم أحمد عمر في مسائل المنطق وأصول الفقه، وقد كان الترابى بحكم خلفيته الدستورية يتخذ موقفا معارضا لمن يقول من الأصوليين "الشافعى مثلا" بأن السنة قاضية على الكتاب، فالسنة عند الترابى تحتل مرتبة تالية للكتاب "كما يقول بهذا عدد آخر من الأصوليين"، فلا يمكن لسنة أن تنسخ قرآنا أو تأتى بحكم مغاير لما جاء به القرآن. وقد تعمق الترابى في فهم هذه المسألة وفى صياغتها والاحتجاج لها، حتى صارت فيما بعد تمثل القاعدة الأساسية التى تتفرع منها معظم اجتهاداته وآرائه في الفقه والسياسة والاقتصاد وغيرها. أما بقية الأخوان في المجموعة المشار اليها فلم يكن لدى العديد منهم اهتمام بمسائل المنهجية والأصول ولم يولوها اهتماما خاصا كما كان يفعل الترابى، وقد كانت تلك الفترة التى نضجت فيها آراء الترابى، وبدأت تتميز فيها ملامحه الفكرية، ولكن لم تكن هناك فجوة فكرية كبيرة بينه وبين زملائه في تلك المجموعة، ولم يكن أحد منهم يشير اليه بأى لقب علمى أو قيادى، وانما كان الجميع ينادونه بـ "الأخ حسن" مما يدل على أن لقب "الشيخ" الذى يطلق عليه الآن قد ظهر في فترة متأخرة عن هذا التأريخ. هذا ولو كنت استمعت لجدالهم كما استمعت، وخبرت أنماط تفكيرهم كما خبرتها، لأدركت أن الكارورى وابراهيم والطيب سيسيرون في طريق غير الذى سيسير فيه الترابى وأحمد عثمان.

    وقد كان بعض الأخوان يتهامسون حول غرابة الفكر الذى يطرحه الترابى، ولكن ذلك الهمس لم يبرح مكانه ولم يتجاوز أصحابه، ثم انصرف الترابى من شؤون الفكر والمنهجية الى شؤون السياسة السودانية، فوضع مسألة جنوب السودان على بساط البحث، ودار جدل واسع بين مجموعتنا حول الوضع المتصور لجنوب السودان في داخل دولة اسلامية "أقول مجموعتنا لأن الورقة التى كتبتها عن السياسة الطلابية ساعدتنى في اكتساب وضع لا بأس به، وأهلتنى لتلقى بعض المعلومات عن الوضع في خارج السجن وللمشاركة في الحوار الداخلى". كان رأى الأكثرية منا أن السودان سيظل برغم حدوده الجغرافية الراهنة، وبمجموعاته السكانية المتنوعة، وثقافاته المختلفة، سيظل قطرا واحدا تحت نظام اسلامى حديث، على اختلاف في درجة الحداثة ونوعها، وتبنى أفراد من المجموعة "على رأسهم ود المكى" الرأى المخالف، ولعلهم كانوا يريدون بذلك اذكاء روح الجدل، أما الترابى فقد كان يدافع بشدة عن السودان الواحد في ظل دولة اسلامية حديثة، وكان يشير الى تجربة دولة المدينة، والى تجارب الأقليات غير المسلمة في داخل الإطار الإسلامى على مدى القرون. "الجدير بالذكر أن هذا النقاش تبلور أخيرا وتمخضت عنه ورقة ميثاق السودان التى تبنتها الجبهة الاسلامية ثم حكومة الإنقاذ من بعد".


    كان الى جانب مجموعتنا في المعتقل عدد من الشيوعيين، وعدد من أبناء غرب السودان. لم يدر بيننا وبين الشيوعيين حوار فكرى جاد، ولا أذكر أحدا كان يخالطهم أو يمازحهم سوى الطيب زين العابدين ذي الشخصية المستقلة ويسن عمر الإمام، ذي الخلفية الشيوعية الباكرة والشخصية السودانية المتسامحة، أما مجموعة أبناء الغرب فكان أكثرهم من الجنود وصف الضباط الذين شاركوا في انقلابات عسكرية سابقة وأفلتوا من الإعدامات، ولذلك فقد كانوا يبالغون فى الكتمان، ويتشككون في كل المجموعات السياسية المعتقلة معهم، ولعلهم كانوا مصيبين في ذلك، فقد كان العهد من أسوأ عهودنا السياسية على جبهتى الحكومة والمعارضة معاً. كانت بعض أجهزة الحكومة تبالغ في القتل والتنكيل، وكانت بعض عناصر المعارضة تتسابق في اتجاه الخيانة، وافشاء الأسرار، والمتاجرة برفقاء السلاح وزملاء النضال "وتلك هى المرة الأولى التى سمعت فيها بشخص يوصف بـ "شاهد الملك"، والعياذ بالله".

    علمت أن تلك المجموعة من أبناء الغرب قد كانت تنتمى الى تنظيم سرى أطلقوا عليه اسم "الكفن الأخضر"، لم أتحقق من ذلك، غير أن بعضهم اتصل بى باعتبارى من أبناء كردفان، ولكنهم لم يبوحوا لى بأسرارهم ولم يصروا على ضمى لتنظيمهم، ولعل انشغالى "بسلاح" الفلسفة والفكر الإسلامى، وانشغالهم "بسلاح" المظلات والمدفعية، مما عذر التفاهم بيننا، ولكن نقاشا حادا اندلع بين الطيب زين العابدين من مجموعتنا والعقيد يعقوب اسماعيل زعيم تلك المجوعمة، وكان يعقوب ضابطا على قدر من المهنية والثقافة والسياسة، يقال إنه كان من المناصرين الأوائل لانقلاب النميرى، ولكن النميرى تخوف من طموحه الزائد كما تخوف من انتمائه لأهل الغرب فأبعده عن القوات المسلحة. كان الطيب يقول للعقيد يعقوب-ان لم تخنى الذاكرة- أنه لا توجد فواصل بين أبناء الغرب والحركة الإسلامية، بل ان أبناء الغرب يمثلون قطاعا مهماً في داخلها، مشيراً الى عدد من الشخصيات الطلابية التى رفعها الإسلاميون الى مواقع القيادة "مثل بشير آدم والتجانى سراج وبولاد وغيرهم ممن ظهر في تلك الفترة"، لم يكن العقيد يعقوب يقبل مثل هذا المنطق، وكان يقول للطيب: انكم تستخدمونهم في أزمنة الشدة والمواجهة، أما اذا نضجت الثمار قطفها غيرهم.


    تذكرت هذا الحوار وقد مضى عليه نحو من ربع قرن من الزمان، فذكرنى بحوار مماثل جرى قديما بين عثمان بن عفان وعمرو بن العاص، رضى الله عنهما.أراد عثمان بعد جلاء الروم من مصر أن يكون عمرو بن العاص على "الحرب"، وعبد الله بن سعد بن أبى السرح "أخوه من الرضاعة" على "الخراج"، فقال عمرو-وكان من دهاة العرب- "أكون اذن كماسك البقرة بقرنيها وآخر يحلبها". وهذا هو المعنى الذى قصده العقيد يعقوب، وهو لم يكن فى تقديرى يعبر عن خواطر فردية بقدر ما كان يعبر عن أحاسيس من حوله من أبناء الغرب. فقد كانت تلك هى الأحاسيس ذاتها التى يتحرك بها عباس برشم وأحيمر ومحمد نور سعد "فى داخل الجبهة الوطنية"، وداؤد يحيى بولاد وآخرون "فى داخل الحركة الإسلامية"، فقد كان كل من هؤلاء يتصور بطريقته الخاصة أنه "ممسك بقرنى بقرة وآخرون يحلبون". و"قرون البقرة" كانت يومذاك تشير الى المواجهات العنيفة ضد نظام مايو وما تبع ذلك من اعدامات واعتقالات وتشريد، أما "الحليب" فقد كانت فيه اشارة الى المؤسسات الاقتصادية "الإسلامية" الجديدة التى تمنح القروض الميسرة لمن تحب، وتمول الصفقات التجارية، فتجعل بعض المعدمين والمعدمات مليونيرات بين عشية وضحاها، على مسمع ومرأى وربما مباركة من قيادة التنظيم. لقد كان السؤال الذى يؤرق بولاد، اذا صحت قراءتى لأفكاره "وقد كنت قريبا منه": لماذا يوضع هو فى نيالا ليقوم "ببناء" التنظيم، وليتكبد فى سبيل ذلك الخسائر المادية والمعنوية، بينما يوضع آخرون أقل منه كفاءة وبلاءً فى بنك فيصل والتضامن والشمال ليقوموا "ببناء" أنفسهم وأسرهم، ثم اذا جاءهم مستنجدا وقد أثقلت كاهله الديون مدوا اليه ألسنتهم. أن هذا النوع من الأسئلة "المخنوقة" والقضايا "الحساسة" لم يطرح بصورة صريحة في داخل المعتقل أو في داخل الحركة الإسلامية، أما وقد طرحت الآن بشكل مأساوى في دارفور، وسفك فيها دم كثير، فالأمانة والحكمة تقضيان أن نسلط عليها الضوء، وأن نواجهها بشجاعة، وذلك قبل ان تنفجر المرة القادمة فى وزارة الطاقة "وأظن أن المعنى واضح".

    http://www.fikria.org/articles/article_view.php?id=69
                  

07-30-2007, 02:23 PM

على عمر على
<aعلى عمر على
تاريخ التسجيل: 12-13-2003
مجموع المشاركات: 2340

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا (Re: على عمر على)

    البنية التحتية للفساد
    د التجاني عبدالقادر


    عندما أجريت أول انتخابات برلمانية في السودان بعد استقلاله عن بريطانيا في عام 1956م، جرى حديث عن «فساد" سياسى في أحدى الدوائر النائية التى تقع في أقليم دارفور، اذ ذكر أن مرشح الدائرة قام باستضافة المواطنين في منزله في محاولة لنيل أصواتهم. وشكلت محكمة للنظر في الموضوع، ووجهت بأن تعقد جلساتها في موقع الحدث حتى يرى الناس العدالة تسعى بينهم، فلما وصل أعضاء المحكمة ومحاميا الاتهام والدفاع الى موقع «الجريمة"، فوجئوا بأنه لا يوجد مقر مناسب لايوائهم، كما لم يكن يوجد بالطبع فندق أو منزل للايجار في ذلك الزمان، فعرض عليهم ممثل الدائرة «المتهم" أن يستضيفهم في منزله، فقبلوا العرض، وما كان أمامهم الا أن يقبلوا، ثم فوجئوا للمرة الثانية بأن أعدادا من المواطنين أتوا الى صناديق الاقتراع من قرى بعيدة، فلم يجدوا مأوى غير منزل مرشح الدائرة «المتهم" «مثلهم في ذلك مثل أعضاء المحكمة الموقرة ومحاميى الدفاع والاتهام" ، فقدم لهم الظل والطعام والشراب «بالمجان" ثم توجهوا بعد ذلك الى صناديق الاقتراع ليمارسوا حقهم «الديموقراطى" في حدود السرية والحرية اللتين ينص عليهما القانون. تداولت المحكمة قليلا في شكوى الفساد ثم أصدرت قرارا، بعد أن تناول أعضاؤها افطارا راقيا، ببراءة المتهم ونزاهة الانتخابات، ولعله قد ذكر في حيثيات الحكم أن استضافة الناخبين فى مثل ذلك الموقع لا تعتبر رشوة أو فسادا سياسيا.

    واذا تسرعنا في اصدار الأحكام لضحكنا من سذاجة المواطنين، ولعجبنا من فساد المرشح وهيئة المحكمة، ولكن اذا صبرنا على هذه التفاصيل «والتى توجد بقية منها لدى الأستاذ أحمد سليمان المحامى" وتأملنا جوهر الحكاية، فسيتضح أن هناك لعبة عملية ثلاثية الأركان، يشارك فيها زعيم رئيسى، وقطاع شعبي، وبعض سماسرة التجار. فالزعيم هو الذى يطعم، في ظاهر الأمر، ويأوى ويقضى الحاجات، ولكنه، في حقيقة الأمر، لا يسدد فاتورة الطعام والإقامة، وإنما يقوم بذلك التجار المصطفون خلفه، المصطادون به، أما القطاع الشعبي فلا يرى في الزعيم الا أنه خازن «تكية" ينفق منها بالليل والنهار، وما على الناس الا أن يتعرضوا لنفحاته، واذا طلب من أحدهم في مقابل ذلك أن يتوارى خلف ستارة، ويرمى بقصاصة من الورق على صندوق من الخشب فإنه سيفعل بكل سرور، اذ أنه لن يخسر شيئاً ولا يعتبر أنه قد قام بعمل يخل بالشرف أو المروءة، ولا يهمه من قريب او بعيد حقيقة أن هناك «ستارة" أخرى خلف الزعيم يتوارى بها «السماسرة" الذين دفعوا «مقدما" فواتير الطعام والمواصلات والحملة الدعائية، وينتظرون نصيبهم عند وزارة التجارة أو الطاقة أو الخارجية أو حتى عند المجالس البلدية.

    نستطيع أن نقول اذن أن الفساد الذى يظهر في النظام الانتخابى أو القضائى له بذور دفينة في التربة الثقافية، وقد يعمل النظامان السياسى والقضائى على اماتة تلك البذور، كما قد يعملان على احيائها. والثقافة السائدة في تلك العينة من المواطنين هى أن «الزعيم الحقيقى" هو الذى يطعم الناس ويأويهم ويقوم في حاجاتهم الخاصة والعامة، والزعامة لا تنشأ ولا تستمر الا بالبذل الجزيل والكرم الفياض، وهى الثقافة نفسها التى تعود جذورها الى عهد معاوية الأموي وهارون الرشيد العباسى وسيف الدولة الحمدانى، وقد عبر أبو الطيب المتنبى عنها أوضح تعبير حينما قال يمدح سيف الدولة:

    "فيوماً بخيل تطرد الروم عنهمو....... ويوماً بجود تطرد الجوع والفقرا". وذلك وصف دقيق وصادق ليس فقط لشجاعة سيف الدولة وكرمه، وإنما هو وصف دقيق كذلك للنفسية الشعبية المقهورة والمهمشة والتى تتشوق الى القادة «العظام"، والعظمة هنا لا تُقاس بالاستقامة أو العدل أو الاجتهاد في المصالح العليا للأمة، وانما تقاس بالثراء العريض والبذل الذى لا ينقطع. ولقد كنت من قبل أظن أن هذا من عيون القصائد المادحة، ولكنى اليوم حينما أعيد قراءة هذه القصيدة أتساءل ما اذا كانت صورة المهانة والإذلال التى رسمها أبو الطيب بطريقة غير مباشرة عن «شعب" سيف الدولة هى من قبيل المبالغة الشعرية، أم هى تصوير صادق لنفسية شعبية منهارة، وواقع مجتمعى بلغ آخر مرحلة في الانحطاط الحضارى؟

    وكيفما كان الأمر، فإنه سيترتب على مثل هذا الوضع أن يشرع الزعيم، أى زعيم، في البحث عن موارد مالية خاصة تمكنه من «مواكبة" تلك الثقافة، فينفق جهرا ما يملك وما لا يملك، وبدون هذه الموارد «الخاصة" لا يستطيع أحد في مثل ذلك المناخ الثقافى، أن يحافظ على زعامته السياسية «أو حتى الدينية". وبسبب تلك الثقافة تجد كثيرا من الزعماء السياسيين يحرصون على توفير موارد مالية خاصة تكون تحت تصرفهم المباشر خارج القنوات المالية المعلومة للكافة، ولن يكون ذلك ميسورا الا باثنتين: أن يتحول الزعيم الى رأسمالى يعمل بصورة مباشرة في حقول التجارة والصناعة والاستثمار، أو أن يبرم شراكة «ذكية" غير معلنة مع بعض عناصر الرأسمالية من خلال عدد من «الموالين الأذكياء" الذين يوظفون علاقاتهم السحرية بالزعيم فتنهال عليهم العقود والصفقات والعمولات، دون أن يعلم الزعيم «بالتفاصيل" «علما بأن كل العفاريت تقبع تحت التفاصيل". وأشهر من سار على الطريقة الأولى في تاريخ السياسة السودانية المعاصرة هو السيد عبد الرحمن المهدى، الذى استطاع أن يكون قائدا محبوبا ليس فقط بسبب قامته الفارعة وحديثه العذب، ولكن بسبب أنه تحول «بعون وتشجيع من الإدارة البريطانية" الى رأسمالى موسر، يبنى «السراية الشامخة" في وسط الأكواخ، ثم يبسط الموائد الطويلة، ويرفد بالهبات السخية، استمدادا من مشاريعه الزراعية وعقاراته وشركاته، وقد صار ذلك كما هو معلوم ميراثا اقتصاديا ورصيدا سياسيا يعتمد عليه آل المهدى الى يوم الناس هذا «وقد قال فيه المحجوب، إن لم تخنى الذاكرة، شعرا يشبه ما كان أبو الطيب يقول في سيف الدولة". أما من كان يضارع السيد عبد الرحمن في الجهة الأخرى فهو السيد على الميرغنى، فقد كان هو الآخر رأسماليا كبيرا، له سراياه وحدائقه، وله مزارعه وعقاراته التى لا تقل عن مزارع وعقارات المهدى، وكان يقوم على استثمار تلك الأموال عدد من الخلفاء والمريدين، فصار في مقدور هذين السيدين، المهدى والميرغنى، أن يرفعا الى مواقع الوزارة من يريدان، بل ان الحكومة كلها كانت في بعض الأحيان تنسب اليهما، كأنها جزء من ممتلكاتهما، فيقال «حكومة السيدين" ولا يقال حكومة السودان. وهكذا، وبمرور الزمن تأسست وتوطدت علاقة «بنيوية" بين الثقافة الشعبية والزعامة السياسية والسوق. وهى علاقة غير عادلة يضطر فيها قطاع مقهور من قطاعات الشعب أن يتنازل- تحت وطأة الجوع والجهل- عن مقام المواطنة الحرة المسؤولة ليلتصق عضوياً بزعيم كبير، يتردد على «راكوبته" أو سراياه أو صالونه حتى يتقى الجوع والفقر، ويضطر فيها الزعيم الكبير من ناحية أخرى الى أن يخفض من سقف نقائه الأخلاقى ليحافظ على علاقته النفعية مع بعض الفئات الرأسمالية، يوفر لها غطاء سياسيا مناسبا تتخطى به قوانين المنافسة التجارية الحرة، فتوفر في المقابل أرباحا هائلة يكون للزعيم نصيب معلوم منها، فيرمى شيئا من الفتات الى جمهوره البائس الفقير، وينفق ما تبقى على زوجاته وأصهاره وخيوله، فيقوى بذلك الحبل «السرى الفاسد" الذى يربط الزعيم بالشعب من ناحية، ويربط الزعيم بالمافيا، من ناحية أخرى، حيث يوفر الزعيم الغطاء "القانونى والأخلاقى" اللازم، وتوفر المافيا الموارد اللازمة لشراء الأصوات "اذا كان الزمان زمان ديمقراطية"، أو لشراء السلاح والعتاد "اذا كان الزمان زمان هرج ومرج ونضال عسكرى".

    وليس السودان بدعا في هذا، فالسياسة في بعض الديمقراطيات الكبرى ترتكز هى الأخرى على مثل ما ذكرنا من أنماط الفساد الناعم الذى لا يعاقب عليه القانون. خذ مثلا حالة كلنتون، الرئيس الأميركى السابق، حينما أحاطت به الفضيحة الأخلاقية في عام 1998م، وأدرك أنه يحتاج لمبالغ أضافية للصرف على الموقف الإعلامى والسياسى الملتهب، فاتصل سماسرته بالفنانة دينس ريك(Denise Rich) وطلبوا منها أن تنظم سهرة خاصة لدعم الحزب/الزعيم، فأقيمت سهرة نجومية حاشدة حضرها الرئيس ونائبه وزوجتاهما، فبلغ دخل السهرة ثلاثة ملايين دولار، ذهبت لدعم الزعيم/الحزب. الى هنا فالأمر يبدو عاديا لمن لا يعلمون، اذ ما الغضاضة أن يرفه الرئيس عن نفسه وعن زوجته وأصدقائه المقربين، ولكن الغضاضة كانت بادية لمن كانوا يعلمون أن الفنانة دينس ليست مجرد فنانة، وانما هى زوجة مارك ريك، أحد رجال الأعمال المتنفذين، والذى هرب من الولايات المتحدة وتخلى عن الجنسية الأميركية منذ عام 1983م، وذلك بسبب تجاوزات ضرائبية بلغت 48 مليون دولار تتعلق باتجاره في النفط الإيرانى برغم قانون الحظر الأميركى. «وعليك أن تراقب باستمرار قافلة النفط إن كنت تهتم بظاهرة الفساد المعاصر"، وهذا أيضا أمر عادى يحدث في دنيا السياسة والمال، فليس من المستبعد أن يكسر أصحاب الأموال رقبة كل قانون يتعارض مع مصالحهم، ولكن غير العادى هو أن يصدر الرئيس كلينتون قبل يوم واحد من مغادرته البيت الأبيض عفوا رئاسيا يشمل «مارك ريك"، فيؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن الملايين التى جمعتها الفنانة دينس لم تكن «تبرعا" للحزب/الزعيم، بقدر ما كانت «ثمنا" للعفو الرئاسى، وهذا بالطبع هو نمط «الفساد البنيوى" الذى تتضافر فيه مؤسسات الثقافة والمال والقانون تضافرا يزعج الحادبين على النظام الديمقراطى في أميركا، اذ ينفصل النفوذ السياسى/الدستورى بصورة كبيرة عن النظام الأخلاقى، ويتحول «الموقع السياسى" في بعض الأحيان الى سلعة، ويتحول «السماسرة" الى نجوم تنشر أخبارهم وصورهم على شاشات التلفزيون «على عينك يا تاجر".

    وخذ مثلا ثانيا: حالة الرئيس الفلبينى الأسبق جوزيف استرادا، الذى كان شعاره حينما صعد الى الرئاسة: «استرادا من أجل الفقراء" ولكنه أخذ يتوغل في الفساد ويستلذ به حتى خلع خلعا عن الرئاسة على إثر ثورة شعبية عارمة. وجاء في حيثيات فساده أنه كان يشرف على عملية نهب كبرى يقوم فيها عملاؤه بالحصول على عائدات ألعاب المغامرة غير القانونية وايداعها في حساباته الخاصة، وفى حسابات أفراد من أسرته، وفى حسابات أعضاء من العصابة الحاكمة معه، وكان الرئيس استرادا يعتمد على لويس سينغسون (Singson) أحد حكام الأقاليم الموالين له، ولكن حينما حاول الرئيس أن ينقص أو يوقف العمولة التى كان يتقاضاها سينغسون، قام الأخير بتهديد الرئيس، فما كان أمام الرئيس الا أن دبر حادثة اغتيال له «كما يحدث كثيرا في مثل هذه الحالات" ولكن سينغسون نجا من المحاولة الفاشلة، ثم اختفى من فوره ليتصل من مقره السرى بأجهزة الإعلام ليكشف للجمهور حلقات الفساد الرئاسى، فانتفضت الجماهير المطحونة بالفقر وأطاحت بالرئيس استرادا. لقد ارتكب استرادا خطأً كبيراً حينما ظن أنه يستطيع أن يرشو الجماهير بشىء من مال الرشوة الذى توفره له عصابات المافيا، ثم يهدد المافيا بالنفوذ الشعبى والقانونى الذى توفره له الجماهير، ففقد الجماهير، وفقد المافيا وفقد مقعد الرئاسة.. ولا غالب الا الله.

    أما نحن في السودان، ان كان لابد من عودة لما انقطع من الحديث، فقد أطل علينا عهد جديد بعد عهد السيدين، صودرت «سرايتاهما"، وحولت بعض منازلهما الفخمة الى مرافق عامة بدعوى الصالح العام، وقسمت المديريات السابقة الى ولايات صغيرة كثيرة، ووضع على رأس كل واحدة والٍ «بدعوى تقصير الظل الإدارى، وهى عبارة جميلة ولكن لا أحد يعرف لها معنى"، وصار بعض إخواننا «الغبش" الذين كانوا يأكلون مثلنا الفول والعدس، ويساكنونا في أم ضريوة والدروشاب، ويبتاعون مثلنا قمصانهم وأحذيتهم من سعد قشرة وسوق ليبيا، صار هؤلاء المستضعفون في الأرض ولاة ووزراء، فاستبشرنا خيرا لأول الأمر، وصرنا نفاخر بهم الأمم، وكنا اذا تحدث فيهم متحدث نكاد نقطع لسانه، مراهنين على معدنهم الأخلاقى، ونقائهم الثورى. وكنا نحدث أنفسنا بأنا قد عثرنا على الصخرة التى ستسد بوابة الفساد، وتقطع الطريق على السماسرة والمافيات، وتنعطف نحو الفقراء والمحرومين، وتنقطع لبناء الوطن الممزق والأمة المكلومة، ولكن ذلك كان وهما كبيرا، اذ صار نفر ممن ولى أو استوزر لا ينظر الا الى عطفيه، ولا يبنى الا «سراياته" الطويلة، ولا ينفق الا على حاشيته، ولا يقرب الا عشيرته الأقربين. ثم قسمت الدولة الى «مناطق نفوذ"، فصار كل وزير أو والٍ يتخندق في منطقة نفوذه، تزول الجبال الراسيات ولا يزول، وتنهار البنايات، وتنشب الحروب وينهار السلام، ويضج الناس، و«سعادته" باقٍ لا يتزحزح، يدور حوله السماسرة والمقاولون، وممثلو الشركات، بل ان بعضهم قد أنشأ له شركات خاصة، فيتفاوض باسم السودان في بداية الاجتماع، ثم يتوارى فى الجانب الآخر من المكتب ليتفاوض باسم شركاته «على عينك يا تاجر". إن هذا لأمر عجاب.

    والفارق الوحيد بين هذا اللون من الفساد والألوان السابقة، أن بعض السابقين كانوا يسترون فسادهم بشىء من الكرم، يطعمون الجياع ويكسون العراة، وكان بعضهم ينفق على الحركة الوطنية الناشئة، وعلى الصحافة وعلى الطلاب المعسرين، ويعول الأرامل ويرعى اليتامى، أما في عهد «تقصير الظل الإدارى" هذا فصرنا نرى فسادا لا يستره ظل من الكرم، نرى العمارات الشاهقة تجلب لها الزينات والفرش من بلاد بعيدة، ولكن لم نرها يوما تستضيف مسكينا أو يتيما.
    والسياسة ضربان، كما يقول الراغب الأصفهانى، «أحداهما سياسة الإنسان نفسه وبدنه وما يختص به، والثانى سياسة غيره من ذويه وأهل بلده، ولا يصلح لسياسة غيره من لا يصلح لسياسة نفسه". وهذا فارق جوهرى بين نظام إسلامى كنا نرجوه، ونهدف نحورنا للهلاك دونه، ونظام جديد صرنا نراه، فاذا لم يدرك هذا أخواننا وأصدقاؤنا من الغبش القدامى، فلنرفع «الفاتحة" عليهم، وعلى السنوات الطويلة التى أضاعوها من عمر أمتنا المنكوبة.. ولنواصل المسيرة الشاقة ولكن ليس في اتجاه «الربذة"- كما يتمنون.

    http://www.fikria.org/articles/article_view.php?id=67


                  

08-04-2007, 02:13 PM

على عمر على
<aعلى عمر على
تاريخ التسجيل: 12-13-2003
مجموع المشاركات: 2340

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا (Re: عز الدين بيلو)

    عز الدين بيلو
    Quote: وقد أثارت مقالاته الأخيرة الكثير من ردود الأفعال داخلها

    وثقتي أن الندوة ستكون ناجحة


    نتمنى ذلك عزالدين
                  

07-30-2007, 02:30 PM

على عمر على
<aعلى عمر على
تاريخ التسجيل: 12-13-2003
مجموع المشاركات: 2340

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا (Re: على عمر على)

    *
                  

07-30-2007, 04:47 PM

على عمر على
<aعلى عمر على
تاريخ التسجيل: 12-13-2003
مجموع المشاركات: 2340

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا (Re: على عمر على)

    المثقفون المصلحون
    د.التجاني عبدالقادر


    يسألني كثيرممن يلقاني من اخواني واصدقائيالقدامى - الذين تفرقت بهم سبل السياسة - واين أنت؟ يقصدون بذلك اين موقفي منالصراع الذي نشب وتطاول بين الاسلاميين في السودان. فكنت اجيب احيانا واسكت عنالاجابة في اكثر الاحيان، ليس تخوفا من فوات حظ او تطلعا لاقتناص فرصة (مع ان النفسالانسانية لا تنفك عن حظوظها الخاصة - كما يقول الامام الغزالي) ولكن لاني كنت ولمازل ابحث عن ارض صلبة اقف عليها، وعن حجة بينة القى الله بها، اذ لا يمكن من بعدالعواصف المزلزلة ان يكتفي الانسان بالبحث فقط عن (خيامه) القديمة، ولكن ينبغي قبلذلك ان يفحص (الاوتاد) التي كانت تشدها الى التربة، فلربما اصابها عطب، او لربمايتوجب عليه ان يفحص (التربة) نفسها، فقد تكون هي التي تصدعت ومهدت الطريق الىالعاصفة، على انه وقبل فحص الخيام والاوتاد والتربة يحتاج المرء ان ينظر في نفسه،فقد يكون هو مصدر العطب والخراب، وما العواصف السياسية والخلافات التنظيمية الامظاهر سطحية لداء دفين في نفوس الافراد.
    فالسؤال اذن لاينبغي ان يقف عند (اينانا) وماهو ما سأجيب عليه لاحقا ولكن ينبغي ان يتجاوز ذلك الى (من أنا) وهذا ما لاتحسن الاجابة عليه دون رجوع الى شئ من التاريخ الاجتماعي، فهناك توجد الخلية الاولىالتي نشأت فيها واعطتني اسما وشكلا ولغة ودينا.
    وهي المعطيات التي صارت عناصراساسية من بين العناصر المكونه لهويتي فانا من حيث الشكل واللون سوداني - افريقي،ومن حيث اللغة عربي، ومن حيث العقيدة مسلم، وتشدني الاسرة من حيث الانتماء الصوفي -الى الطريقة التيجانية. وتصلني السياسة بالحركة الاسلامية، وتصلني المهنة بالفلسفةوالفكر السياسي وهلمجرا.
    ولكن هذه العناصر فوق انها ليست متساوية القيم والاهميةفهي ايضا لا تمثل كل العناصر المكونة لهويتي، اذ كنت كلما بلغت مقاما من مقاماتالرشد احذف واضيف، واخفض واعلي بعضا من هذه العناصر، فكم من إنسان غير اعتقاده وبدلاسمه واعرض عن عرقه وطريقته، مما يؤكد ان الانسان لايصير انسانا بالموروثاتالاجتماعية وحدها، ولكنه يصير انسانا عن طريق الوعي والارادة، فالانسان هو منيستطيع ان يميز العناصر (القلب) المكونة لجوهره، فيرفعها الى قمة هرمه التقديري،ويدرك العناصر الاخرى الثانوية فيضعها في منازلها، وانه وبمثل هذا الوعي بالذاتوبقيمتها وبمكانها بالنسبة للآخرين يصير الانسان قادرا على فحص الذات ونقدها،وقادرا على فحص انتماءاته الموروثه، وقادرا وهذا هو الأهم على خرق التصورات النمطيةعن الآخرين (Stereotypes) وتجاوزها عبر حوار يساعد على إنشاء انتماءات جديدة منخلال الصورة التي يرسمها لنفسه والصور التي يرسمها للآخرين من حوله. فمثل هذهالانتماءات الجديدة - التي تتجاوز المكان الجغرافي والنسب العرقي هي التي تفتح افقاارحب للتطور الاجتماعي السلمي وتلك هي صناعة النفر من الناس الذين يقال عنهممثقفون، واذا سئلت من انا فسأقول انني انتمي الى هذا الصنف من الناس الذين لا يقطعاحدهم انتماءاته الموروثه ولكنه مع ذلك يحتفظ ببعد نقدي يمكنه من مراجعتها ونقدهاوبشجاعة تمكنه من النظر في موروثات الآخرين والتحرك في الفضاء الانساني بقلب مفتوحيبحث عن الخير المشترك بين الناس والحق الموزع على المصادر، ولكن من من الناس يسعىلاعادة تحديد هويته ورسم صورته، ورفض الصور الجاهزة التي يصنعها له المجتمع،والادوار المعدة التي يحشره فيها السياسيون اوتطوقه بها الوظيفة؟
    وإني لأظن انالفشل الذي اصاب التنظيمات السياسية في بلادنا (ومن بينها التنظيمات الاسلامية)يرجع الى عجزنا نحن المثقفين في هذه الناحية، ولا يوجد من يماري الآن ان اوضحماكشفته الازمة الاخيرة التي شهدتها الحركة الاسلامية السودانية هي عجز مثقفيها علىقلتهم عن تحديد هوياتهم وقبولهم بالادوار الجاهزة التي يرسمها لهم السياسيونوالتجار ورجال الامن. قد يرجع ذلك لاسباب تتعلق بالنشأة والتنشئة السودانية القرويةالكافة عن السمعه والاعلان، فلا يستطيع احد تأدب في تلك البيئة ان يدخل في عملياتالتسويق والترويج التي تتطلبها الحياة المدنية المعاصره، او قد يرجع للطرد المركزيالذي تحدثه بؤر السياسة والاقتصاد. وكيفما كان الامر فقد اختفى المثقف الاسلامي خلفالوظيفة او خلف التنظيم فانقطع عن الناس فصاروا لا يرونه الا من خلال الصورة التيصنعها له التنظيم وألبسه لها السياسيون. ولما لم يقم المثقفون الاسلاميون بتعريفانفسهم، ولم يرسموا صورهم ويثبتونها على جدران العمل الاسلامي الوطني، فقد صارواغير موجودين في بيروقراطية التنظيم، وغير موجودين في بيروقراطية الدولة الا كمايوجد مترجم الملك يستدعي للخدمة في حضرة الاجانب ويستغنى عنه بانتهاء مراسيمالزيارة.
    فبيروقراطية الحزب وتجاره سواء في ذلك الاسلاميون وغيرهم - لا يريدونالمثقفين الا أدوات فنية تستخدم في تحقيق مشاريع لم يشاركوا في صناعتها ولا يعرفونغاياتها، اما اذا استعصى احدهم اواستعصم فسيكون مصيره التغييب، كأن يغيب عن الحزبوعن الدولة او عن الوطن ذاته، فلا يسمع له صوت ولا ترى له صورة.
    ولعلك تدرك منهو المستفيد من تغييب (او تفقير او تهجير) هؤلاء، فغيابهم يجعل التنظيم/الحزب فيحالة من غياب الذاكرة، وهي الحالة المثلى التي يستطيع فيها السياسي المحترف،والكادر الامني، والبيروقراطي الفارغ، والتاجر الكذوب ان يتقلبوا بين الافكاروالمواقف دون مواربة او حرج، في انتهازية لا يحدها حد، لان الجماعة السياسية التييغيب مفكروها او مثقفوها، ستغيب عنها الذاكرة وتكون كمن ولدت البارحة، لا تثبتاقدامها الا اذا اتكأت على أب - شيخ.
    ان بداية الاصلاح تكون بالخروج على هذاالمألوف، وبظهور صريح للمثقفين المصلحين على ساحات العمل الوطني الاسلامي حتىيتمكنوا من اعادة تعريف انفسهم بانفسهم وازاحة الصور القديمة عنهم، اذ انه بدونتعريف للذات لن يكون هناك شعور بها، والشعور بالذات هو بداية للوعي المفضي للحركة،كما انه من حق المثقف ان يكون حرا في رسم صورته وفي رسم صورة المجتمع الذي يريد،اما اذا حرم من ذلك الحق، او ا ختار ان يدخل في صورة رسمها له الآخرون فقد فقد حقهفي الحياة.
    فمن هم المثقفون؟
    وماهي الصورة التي يودون ان يعرفوا من خلالها؟وما هي صورة المجتمع الذي يريدون؟
    نقصد بالمثقفين/ المفكرين اولئك الذين يهتموناهتماما خاصا بتحصيل المعرفة وانتاجها والتعبيرعنها، ويجتهدون في سبيل ذلك للاتصالبمصادر تتجاوز تجاربهم الشخصية المباشرة وذلك بقطع النظر عن المهن التي يشغلونها،فاذا صار احدهم موظفا في مكتب او مهندسا في مصنع فذلك لا يعني انه لم يعد مثقفامفكرا اصيلا فالمثقف يعرف بالدور المعرفي الاجتماعي الذي يضطلع به وليس بالمهنة اوالنشاط المحدود الذي يتحصل عن طريقه على معاشه.
    ولا يكون الانسان مثقفا مفكراًلتعاظم ألقابه العلمية، ولكن يصير كذلك حينما يتجاوز مرحلة التستر بالشهاداتوالتكاثر في المعلومات ويدخل مرحلة توليد الافكار ونقدها وصياغتها وتنميتهاوالتعبير عنها. فالمثقف ليس هو فقط من يلاحظ ويشاهد الازمات والتفاعلات الاجتماعيةمن حوله، ولكن المثقف من يحاول ان يصنع مفهوما او نسقا من المفاهيم يحاول من خلالهاتعقل الظواهر وقراءتها، اي فك هذه الظواهر عن تجسدها الاجتماعي - التاريخي ورفعهاالى أطر الانشاءات الذهنية ليتمكن بذلك من وصلها بما تراكم لديه ولدى غيره من خبراتومعارف، فيصير بذلك اقدر على فهم خصائصها وتوقع تفاعلاتها ومآلاتها، فيتمكن منالاشارة الى طرائق التحكم فيها - تحكما يتضمن الخروج من الازمة علاجاواصلاحا.
    ولكن من اين يستمد المثقف مفاهيمه التحليلية والتركيبية؟ هل هناكترسانه ابستمولوجية يمكن للمثقف ان يستورد منها ما يحتاجه من مفاهيم؟ ام انه يتوجبعليه ان يستولدها استيلادا؟ ان قليلا من المثقفين السودانيين من يأبه لتوليد مفهوميتمكن من خلاله ان يصف الواقع الاجتماعي السوداني، وانما يعتمد اكثرهم على استجلابالمفاهيم الجاهزة التي انتجت من واقع آخر بعيد كاستجلابه البضائع والصناعات والتحف.فاذا لم تتأتى للمثقف خصوبة فكرية ومعرفية مستقلة تمكنه من تجريد الواقع ولإنشاءصور ذهنية بديله له فلن يعدو ان يكون مستهلكا مثل سائر المستهلكين، وهذا يعني انالمثقف ذاته - وليس السياسي وحده - ينطوي على ازمة عميقة تظهر في خطابه الفكري حيثيكون فاقدا للوضوح النظري وعاجزا من ثم عن القراءة الصحيحة للاحداث من حوله اواتخاذ موقف منها. وسينعكس كل ذلك على سائر ممارساته السياسية والاجتماعية.
    علىان الاتصال بعالم الافكار وحده لا يكفي. فالمثقف لا يتصل بعالم الافكار لينحبس فيهاوانما يجتهد في ان يصل الفكرة بالعمل - عملا في النفس من الداخل - وعملا في المجتمعمن الخارج - عملا في سياسة النفس لالزامها بالفكرة.عملا في سياسة المجتمع لدفعهنحوالمثل العليا. وتلك حالة تورث قدرا من التوتر ولكنه (توتر مبدع) لا بد للمثقف انيعيشه، شأنه في ذلك شأن الصوفي في خلوته وجلوته.
    وهذا يعني ان الفعل الثقافي لهاطاران: نفسي/ باطني، ومجتمعي/ خارجي. اذ يتوجب على المثقف المفكر بعد قيامهباقتناص الفكرة او توليدها ان يقوم ايضا باستبطانها وذلك يعني ان تتجاوز الفكرةالسطح المعرفي لتدخل في محاورة باطنيه صامته مع المعطيات النفسية للمثقف لا يراهاولا يسمعها الآخرون، ولكنها محاورة تتوقف عليها حياة المثقف وفاعليته، فالمثقف الذيلا تلامس افكاره شغاف قلبه، ولا تصل الى اعماق وجدانه، مثقف هامشي لن يتجاوز السطحالمعرفي والاجتماعي إلا كما تتجاوز القصبة الخاوية السطح المائي، وهذا الاطار/الباطني هو المجال (اليمين) الذي تتصل فيه المعرفة بالروح، والفلسفة بالتصوف،فيصيرالمثقف روحانيا صوفيا بما يتسنى له من تملك لزمام نفسه يرفعه الى مقام الشهادةعلى النفس والولد والاستعداد لمفارقتهما والعيش منفردا، ولا يشهد على نفسه وولده انيبدي استعدادا لمفارقتهما الا شخص عرف الحق وتذوقه وصابر على ذلك وهي التجربةالروحية المستمرة التي يعرفها كل مثقف حق مهما كان اعتقاده، وهي التجربة ذاتها التييتضمنها مفهوم التزكية القرآني، فهذاالاتصال بين الفكر والروح هو الذي يوفرالمشروعية الاخلاقية والمصداقية العملية التي لا بد منها لاي مشروع من مشاريعالاصلاح والتنمية.
    وكما اوجبنا على المثقف استبطان افكاره، فانا سنوجب عليه منناحية اخرى ان يستظهرها اي يصلها بالواقع الاجتماعي من حوله، فذلك هو الموقع (اليسار) الذي تتصل فيه المعرفة بالقوة، والفكر بالسلطة، والمثقف بالسياسي، اذيترتب على المثقف الذاكر الا ينحبس في دهاليز نفسه، ولكن عليه ان يسعى بصورة مستمرهللاشتباك مع الواقع الموضوع، والى الالتحام مع الآخرين، مناهضا الحدود العرقيةوالجغرافية والآيديولوجية، باحثا عن القدر المشترك من الحق والخير ليكون مع اولئكالآخرين الصالحين طليعة اصلاح تتفشى في البيئة المحيطة بها فتوفر ديناميكية للتغييرالاجتماعي السياسي.
    وهنا ينقسم المثقفون الى فئات كثيره، فمنهم المثقفون (الخفاف) الذين تتحول المعرفة عندهم الى صناعة لفظية وشهادات ورقية يتحصلون منخلالها على معاشهم الدنيوي، وينالون بها حظا في البريق الاعلامي. ومنهم المثقفونالنافرون المهاجرون، يفر احدهم من المستنقع السياسي بحثا عن الكرامه والحريةوالاستقلال المادي - وهو بحث مشروع - ولكنه قد ينتهي في مخيمات النفط حيث تستغلالابدان وتكمم الافواه، فلا وطنا ابقى ولا استقلالا ماديا انجز، ومنهم المثقفون (الفنيون) يوظف احدهم تدريبه العلمي وخبرته الفنية لخدمة السياسي، خدمة ينفصل فيهاالنشاط الاداري عن غاياته البعيدة واهدافه القصوى، فالمثقف الفني يتصل بجهاز الدولةاتصالا عضويا لا ينفك عنه بتغيير السياسات الجزئية او الرؤى الكلية. بل انه يتلونلكل سياسة بما يناسبها ويقدم لها ما تحتاجه من وسائل التنفيذ والتمكين، هؤلاء ليسواهم المثقفون الحقيقيون الذين نقصدهم ونسألهم صياغة (الرؤية) الجديدة والتعبير عنها.فهؤلاء قد تراجعوا من افق الالتزام الاجتماعي الوطني الى الاطار الذاتي، ومنالمسؤولية الاخلاقية العامة الى الخصوصيات المهنية والفئوية، ومن الاستقلال الفكريالى تبعية القوى المتنفذه سياسيا واقتصاديا، وعندما (يتراجع) المثقفون الى محاضنهمالعرقية وخصوصياتهم المهنية تخلو مواقع الإمامة الفكرية والسياسية ويكون ذلك ايذانابالانهيار الاجتماعي.
    على انه لاينبغي ان يفهم من هذا ان المثقف يمثل قوة مستقلةعن القوى الاجتماعية الاخرى او متعالية عليها. ولكن فحوى القول هو ان المثقف لاينبغي ان يستمد قوته من المؤسسة السياسية، ولا من تبعيته لاحد الشرائح الاجتماعيةالتي تمسك بتلك المؤسسة وتوزع من خلالها الامتيازات، وانما ينبغي ان يستمد قوته منقدرته واستقلاله الفكري، ومن موقفه الاخلاقي، ومن فاعليته الاجتماعية، فالفهموالمواقف والفاعلية هي منابع قوته الذاتية، والفرق بين انواع المثقفين لا يرجع الىالقدرة او ا لعجز في تحليل الظواهر والافكار، فما من مثقف الا وهو اخذ بنصيب من ذلك - قل اوكثر ولكن الفرق يرجع الى دائرة الصدقية الاخلاقية او الى دائرة الفاعليةالاجتماعية. ثم ان هاتين الاخيرتين - الصدقية والفاعلية - هما اللذان يؤهلان المثقفليكون عنصر تأليف وتكتيل وتنظيم لسائر القوي الاجتماعية،ولكن لن تكتمل للمثقفين هذهالاهلية الا بأمور، منها:
    1/ ان يحسوا بذواتهم المستقلة فيفكوا الارتباطاتالعضوية بالمجموعات الاخرى، اذ لن يكون المثقف مثقفا حقا ان لم يحتفظ ببعد نقديبينه وبين عشيرته القريبة وقبيلته المحيطة، وقياداته السياسية التاريخية، ذلك لانهبدون هذا البعد النقدي فلن يكون في مقدور المثقف ان يسهم في عمليات الاصلاحوالاحياء التراثي او في عمليات التجديد والتحديث، اي انه سيكون فاقدا لشجاعة النظرفي معطياته الثقافية وقناعاته الآيديولوجية، وسيعجز عن نقدها وفحصها، والاعتراف بمافيها من ضعف وقصور، كما سيكون فاقدا لشجاعة النظر في المعطيات الثقافية (للآخرين)والاقرار بالقدر المشترك فيها من الحق والخير والجمال، فيفوت بذلك كل فرصة لايجاداطر مفتوحة للحوار والتعايش الانساني السلمي.
    2 - ان ينشئوا قنوات حقيقيةللتواصل والحوار بينهم، فلقد اضر بالمثقفين انهم لايعرفون بعضهم البعض - لا اقصدمعرفة الاسماء والالقاب ولكن معرفة الافكار والرؤى، فاذا تم اتصال فكري حقيقي بينهمفقد يكتشفوا ان المشكل الوطني (الاجتماعي والسياسي) الذي يهمهم جميعا لا يمكن انيحل بان ينحبس كل فريق منهم في (صندوقه) الخاص، ان الخروج من الصناديق بكافةاشكالها العرقية والآيديولوجية هي بداية الطريق نحو الاصلاح والنهضة الشاملة.
    3/ ان ينشئوا قنوات جديدة حقيقية للتواصل مع الجمهور العريض الذي ظل يتململ تحتقياداته التاريخية العاجزة الفاشلة وقياداته الجديدة الانتهازية الفارغة، فلايكفيان يتناجى المثقفون مع المثقفين بينما تنحدر قطاعات المجتمع الى مستنقع الحروبالعرقية فلا تجد هاديا ولا ناصحا الا السياسيين الانتهازيين وتجارالاسلحةوالدمار.
    فاذاتوفرت هذه الامور المفضية الى الاهلية الفكرية، والاخلاقية فسيكونفي مقدورنا ان نجيب على سؤال (من نحن؟) فنحن لا تعني فردا فقيها يطل على الناس منحين لآخر بفتوى لان مثل هذه الامور لا تعالج كما هو معلوم بفتوى متعجلة يصدرها فقيهواحد، او برأي فطير يقول به مفكر منعزل، وانما تحتاج الى جماعة من المفكرين يعملونفي صمت وصبر في إطار مشروع من اجل وضع تصور للمستقبل البديل، يمكن ان تنبثق منه خطططويلة المدى وسياسات محدودة الآماد والآجال والأقدار.
    وهذه الجماعة لا يراد بهابالطبع ان تكون «تنظيما» جديدا يزاحم التنظيمات القائمة، او حزبا سياسيا يسارعالخطو نحو مواقع السلطة، ولكنها جماعة يؤلف بينها ايمان بالنظام الاسلامي عقيدةوالتزام بالمنهج العلمي وسيلة، وتضم في صفوفها المثقفين الذاكرين الذين يجمعون بينالاهلية الاخلاقية والعلمية، ينتدبون انفسهم لتركيب رؤية جديدة للمستقبل الاسلاميفي السودان، فاذا تمت صياغة تلك الرؤية الاصلاحية الجديدة، فستتبع ذلك الدعوةللالتفاف حولها فمن قبل (من اطراف النزاع الراهن) ينال تأييدنا ودعمنا ايا كانموقعه في الحياة العامة، وهذا يعني (ضمن امور اخرى كثيره) ان تكون هذه الجماعةبمثابة مساحة عامة ثالثة يمكن ان تتولد فيها خيارات، وتقدم منها مبادرات ويلتقيفيها عدد من المثقفين ممن يتوفر فيهم التحرر من التبعية الذهنية والعصبية التنظيميةممن لم ينغمسوا في النزاع الراهن.
    ثم ان هذه الجماعة الاصلاحية لا تعني طبقة منرجال الدين - كما يظن من يخالفنا الرأى ولا هي فئة من اصحاب الشهادات العلياالباحثين عن رواتب او مناصب، ولكنها مجموعة من المثقفين المسلمين الذين رسخ احدهمبحكم تخصص دقيق اوخبرة او تدريب مهني في مجال من مجالات المعرفة والحياة، او مجالاتالفنون، وصارت له قدرة على الانتاج المعرفي وتوفر لديه مع ذلك التزام بقيم الدينورغبة في تنمية وتطوير الوطن، فهؤلاء بقطع النظر عن مواطنهم الجغرافية ومواقعهمالوظيفية يمكن ان يتداعوا لتشكيل جماعات علمية قادرة على بناء رؤية اسلامية بديلة،قادرة، وهذا هو الاهم - على تفكيك وتعرية المسلمات الهشه والمزاعم السائدة، فينفتحالافق لطرح خيارات في الرؤى، وخيارات في الخطط وخيارات في القيادة تدور حولها عمليةالشورى، مما قد يؤدى بصورة طبيعية الى تفعيل الحركات الاسلامية والى تفعيل المجتمعالمدني الاسلامي، لينهض بمسؤولياته ويحقق ارادته من خلال التنظيمات والمؤسساتوالعلاقات التي يريد ولا نعرف في التاريخ مجتمعا تطور دون ان يتقدمه نفر منالمثقفين الذين يقومون بمثل هذه العمليات الحفرية العميقة.
    ومانقول به هنا ليسبدعا، ففي الدول الغربية الحديثة التي تقدمت علينا في مجالات التخطيط والإدارة توجد (مصانع) خاصة لتوليد الافكارثم نوجد (نحن) من بعد ذلك لنشكل حقولا حية تجرب فيهاالافكار والنظريات.
    وما لم نشرع بدورنا في القيام بعمليات مماثلة - ليس على سبيلالمحاكاة والتقليد فقط - ولكن على اساس من قناعة ذاتيه وايمان عميق بأهمية الافكاروبأنها تسهم في تغيير الواقع وصناعة تاريخنا.


    *استاذ العلوم السياسيه والمفكر الاسلامي المعروف
    http://www.bashaer.org/vb/showthread.php?t=1257
                  

07-30-2007, 07:55 PM

على عمر على
<aعلى عمر على
تاريخ التسجيل: 12-13-2003
مجموع المشاركات: 2340

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا (Re: على عمر على)

    ويسألني الشيخ السنوسي

    د. التجانى عبد القادر(1)
    الشيخ ابراهيم السنوسي صديق قديم، يكبرني ببضع سنوات، التقيت به أول مرة عام 1970 في سجن كوبر العمومي بالخرطوم بحري، ولم يكن ابراهيم يحمل يومها لقب "شيخ" ولكنه كان من نشطاء الحركة الإسلامية الذين انخرطوا في الأعمال الجهادية، وأبلوا فيها بلاء حسنا، وقدم هو وأسرته تضحيات كبيرة في سبيل الحركة الإسلامية، فاستحق عن جدارة لقب "الشيخ" من تلك الجهة. وقد سرني أن يكتب معقبا على مقالى لما في ذلك من دلالة على أن بعض "أخواننا الكبار" يقرأون أحيانا ما نكتب في الصحف ويعلقون علىه. ولكني ترددت أول الأمر في الرد على ما كتب، اذ رأيت أنه لم يورد اعتراضا على الوقائع الأساسية التي اعتمدت علىها في مقالى، وهي لقائي بالترابي في لندن حيث أشاد بالقدرات الفكرية للاستاذ علي عثمان، والاجتماع الذي انعقد في منزل عثمان خالد حيث رشح فيه الدكتور حسن الترابي لموقع نائب الرئيس، وإجتماع الترابي/البشير الذي أقر فيه تعيين علي عثمان نائبا أولا لرئيس الجمهورية. هذه هي الوقائع الثلاث الرئيسة التي قدمت في ضوئها تحليلا لمرحلة من مراحل النزاع بين الإسلاميين في السودان، وتبين لي فيها أن موقع "رئاسة الجمهورية" كان واحدا من أهم محركات النزاع، وأن ذلك النزاع لم يكن في بداياته نزاعا حول المباديء أو القيم أو الدستور أو الحريات أو"القضايا الأصولية والإنسانية" كما أراد البعض أن يصوره. ثم ازداد ترددي لما رأيت أن الشيخ ابراهيم لا يهتم بشيء مما كتبت اهتمامه بشخص الترابي، فتخوفت من أن يتمحور الحوار حول تلك المساحة الضيقة فتطغى العصبية الحزبية على القراءة الموضوعية للأحداث، وندخل في منطقة "الحزام الحساس"، ويضيع ما نحن بصدده من محاولات لإرساء القواعد لمرحلة جديدة من الإصلاح الداخلي في الحركة الإسلامية تقوم على: الفحص الدقيق لمكونات الأزمة التي تمر بها، والنقد الأمين الصارم لهذه المكونات، واقتراح رؤية بديلة للخروج من الأزمة. ولكني لما رأيت أن متن حديثه يسير في اتجاه مصادرة حقي في الكلام، تارة بحجة اغترابي وبعدي عن الساحة وانعزالى، وتارة بحجة أن وجودي في الحركة الإسلامية، يوم كنت بالداخل، كان هامشيا، وثالثة بأن ما أقوله لا يعدو أن يكون ضربا من التخيلات والظنون السيئة اتباعا لنظرية المؤامرة، هذا "التكتيك" الذي يعتمد على "ازاحة" الكاتب وإسقاطه من منصة الحوار، ليس بتفنيد ما يكتب ولكن بغمزه حتي يكف عن الكتابة، هو الذي جعلني أمسك بالقلم وأكتب من أجل "التأريخ والحقيقة" أيضا، اذ يبدو أن الوقت قد حان بالفعل لمواجهة النفس، وللمراجعات النقدية الصريحة لمسيرة الحركة الإسلامية، ولاكتشاف الأخطاء الجسيمة التي وقعنا فيها، وذلك قبل أن ينجح بعض أخواننا الكبار "الذين صنعوا النكسة" في الهيمنة على التأريخ وتوظيفه سياسيا، كما هيمنوا من قبل على الحركة الإسلامية ففعلوا فيها الأفاعيل.(2)ولنبدأ باعتراضه "التكتيكي": أنني كنت بالخارج مغتربا دون اتصال، (اتصال مع من لا أدري) فلم أشهد هذه الوقائع، وأنني حتي حينما كنت في داخل السودان لم يكن لي الا وجود هامشي في مجلس الشورى (دون تكليف رسمي وغوص عميق، كما ورد في عبارته)، وأنني أسرد معلومات خاطئة وأقوم بتحليلات مضلله اتباعا لأصحاب نظرية المؤامرة. والإعتراضان الأول والثاني يثيران مسألة في منهج الدراسة العلمية للتاريخ، فكأنه يريد أن يقول أنه لا ينبغي لأحد أن يرصد وقائع التاريخ ويحللها(خاصة تاريخ نزاع الإسلاميين في السودان) الا اذا كان هو شخصيا حاضرا لتلك الوقائع وشاهدا علىها بنفسه، وهذا مثل أن يقال لطبيب أنه لا يجوز له أن يفحص "جثمانا" ليحدد ما اذا كان صاحبه قد مات مطعونا أو مخنوقا الا اذا كان قد حضر شخصيا لحظات المشاجرة، ورأى بأم عينه سلاحا يخترق الحجاب الحاجز أو حبلا يلتف حول العنق. ومثل هذا القول لا يلتفت الىه لأنه يخالف ما أنتهي الىه أهل العلم في سائر الفنون، فالعلم لا يقوم فقط على "الحضور الشخصي"، اذ ليس من الضروري مثلا أن أشهد تحطم الطائرة التي توفي فيها اللواء الزبير، ثم أحضر الإجتماع الذي انعقد بمنزل عثمان خالد، ثم أصحب الترابي في اجتماعه مع البشير حتي يحق لي من بعد ذلك أن أتحدث عن هذه الوقائع وأحللها وأستخلص منها بعض النتائج. واذا سرنا على منطق "الحضور الشخصي" هذا، فان الشيخ ابراهيم أيضا وبرغم وجوده المستمر في الخرطوم، وبرغم وجوده الشخصي المتطاول في القيادة العلىا للحركة الاسلامية، وبرغم ملازمته المستمرة للدكتور الترابي الا أنه لم يشهد كل هذه الأحداث، وانما اعتمد مثلي على "رواية" من حضرها، فما هو الفرق بين من يستمع الأخبار والروايات وهو في بيته بالخرطوم، ومن يستمع الروايات ذاتها وهو في بيته بواشنطن أو غيرها؟ وحتي اذا سلمنا بنظرية الحضور الشخصي، فهل كل من شهد حدثا علم ما فيه من دلالات، وما يتصل به من خلفيات، وما ينتهي إليه من مآلات؟ على أنني لم أخطف هذه الروايات خطفا من أفواه المارة، وانما جلست واستمعت لبعض من شاركوا فيها، وسألت ثم حددت مكان الإجتماع وزمانه وذكرت عشرة أسماء ممن حضروا ذلك الإجتماع، ولم يكذبني حتي الآن واحد منهم، وكلهم بحمد الله أحياء يمتلكون الهواتف ويقرأون الصحف، فكيف أتهم بعد هذا بأني "أسرد معلومات خاطئة" أو اتبع محض الخيال؟(3)ثم أنني لم أكن غائبا عن السودان بالطريقة التي يوحي بها مقاله، فقد شهدت سنوات الإنقاذ السبع "الصعبة" الأولي (1989- 1996)، وشاركت في كل الإجتماعات التي كان مسموحا لنا بالمشاركة فيها، والتقيت بمعظم المسؤولين العسكريين والمدنيين الذين كان متاحا لنا أن نلتقي بهم، ليس مجرد لقاءات عابرة، وانما عملت وتعاملت مع الكثيرين منهم، واطلعت على كثير من الوثائق وشاركت في مناقشة بعضها. صحيح أنني لم أكن "مواظبا" على الحضور الى المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي صباحا والى "المنشية" مساء، كما كان يفعل الكثيرون ممن تفرغ لهذا النوع من النشاط، ولكن الصحيح أيضا أن معرفتي كانت وثيقة بالدكتور الترابي وبالحركة الإسلامية والتي عملت في صفوفها منذ أواسط الستينيات في القرن الماضي، وسلخت سنين عددا من عمري في دراستها وتتبع تطوراتها، ولكن كل ذلك لا يؤهلني في نظر الشيخ السنوسي لأن أفسر حدثا، أو أتوصل الى نتيجة، أو أبدي رأيا لأني كنت غائبا ولم أتصل "بجميع الأطراف في الحركة الإسلامية"، وهذا بالطبع هو بيت قصيده، وهو ليس وحده في هذا، فكثير من اخواننا الكبار الذين ساهموا في صناعة "الكوارث الإسلامية" يسيرون على هذا التكتيك: كل من يريد أن يكتب عن الحركة الإسلامية علىه أن يأتي إلينا أولا، فنحن الذين صنعنا الحدث(الكارثة)، ونحن الذين نملك أدق المعلومات عنه، ونحن الذين نملك أصح التفسيرات له. ولقد كنت لعهد قريب أقع في مثل هذا الفخ، فتراني أزاحم في المركبات العامة، لأطوف على "اخواني الكبار"، أطلب المواعيد وأترجي المقابلات، أبحث عن "الحقيقة والتاريخ"، وهم مطمئنون في منازلهم. ولكني الآن صرت مقتنعا بأن هذه المعادلة يجب أن تعدل، وأن الذين كانوا يتكلمون طيلة العشر سنوات الماضية ينبغي أن يسمحوا لنا، نحن الصامتين، بأن نتكلم، وأن يسمحوا لنا كذلك بأن نجمع معلوماتنا بالطرق التي نشاء، ومن المصادر التي نريد، وأن نكون آراءنا بالطرق التي تروق لنا، ثم نطرحها لجمهور الناس، وعلىهم هم هذه المرة يقع عبء الذهاب بمعلوماتهم ووثائقهم الى الجمهور، أما الزبد، أجاء منا أو منهم، فسيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فسيمكث في الأرض. ثم في محاولة أخيرة "للإزاحة"، يلمزني أخي السنوسي بأني، علاوة على اغترابي وهامشيتي، لم أكن أشغل موقعا "رسميا" في الدولة، كأنه قد عهد بي خبلا أو خيانة، أو كأنه لا يعلم كيف كانت توزع تلكم المواقع(الغنائم)، على أن المواقع الرسمية لا تعطي شاغلها نورا يمشي به في الناس، أو بصيرة يفسر بها التاريخ. (4)أما اذا عدنا من التكتيك الى الموضوع فنجده يثير ثلاثة اعتراضات أساسية على ما أوردت: أنه لم يكن هناك اتفاق على أن يكون الترابي رئيسا للجمهورية، وأن علي عثمان لم يجاهر قط بترشيح البشير للرئاسة، وأنه لم يعقد اجتماع في منزل عثمان خالد عقب وفاة اللواء الزبير لاختيار نائب، وأن الترابي لم يكتب الدستور بالطريقة التي يريدها، فلننظر فيها فيما يلي.يقول الشيخ السنوسي: "بل ما أوردت من ترشيح د. الترابي للرئاسة، كما كان متصورا أو متفقا علىه، أمر غير صحيح تماما، بل ولا أعرف أية جهة في التنظيم في أية درجة علىا أو دنيا، سرية أو علنية رشحت أو اتفقت على ترشيح الترابي للرئاسة". ولكنه لو قرأ الوثائق الداخلية للمؤتمر الشعبي، والتي وزع بعضها على الفروع التنظيمية لعرف، إذ أني ذهبت لأول مقدمي من الخارج عام 2000 الى منزل الدكتور الترابي من أجل المودة و"من أجل الحقيقة والتأريخ" أيضا، فأعطاني أحد معاونيه ملفا بعنوان(الأوراق بشأن الأزمة ومراحلها)، وهي أوراق كتبت بعناية وقصد بها تمليك العضوية بعض المعلومات "الخاصة" التي تساعدها في فهم خلفيات النزاع وفي محاججة الطرف الآخر. جاء في ورقة "بسط المعلومات" ما يلي: "كانت خطة الحركة بعد العام الثالث للتمكين أن تبرز الحركة كلها، وتتولي المسؤولية مباشرة بكامل رموزها وخطتها، وتجلي ذلك في قرار حل مجلس قيادة الثورة، وكانت الخطة أن يتولي أمين عام الحركة قيادة دولتها، ولكن خلصت الرؤية أن في رئيس مجلس الثورة ما يحقق ذات الغايات". وبالطبع فان الأمين العام المشار الىه هو الدكتور الترابي، والوثيقة تذكر صراحة وجود خطة للحركة تقرر فيها أن يكون هو رئيسا للدولة. وانكار الشيخ السنوسي لهذا الأمر فوق أنه لا يفيد الا أنه أيضا يهدم أهم حجة كان ولا يزال يعتمد علىها الترابي، اذ يتهم المجموعة الأخري "بخيانة عهد الحركة الإسلامية المعهود سرا بيمين مغلظ"، فهل تعتقد أن ذلك العهد المعهود سرا بيمين مغلظ هو أن يحمل الترابي عصاه ويرحل عن الساحة السياسية؟ ولذلك فان ما أوردت في مقالي من ترشيح للترابي "متصور أو متفق علىه" مأخوذ من هذه الوثيقة، والتي لا تتحدث عن مجرد "ترشيح" للترابي لرئاسة الجمهورية، وانما تتحدث عن اتفاق سري مسبق تم تضمينه في الخطة الثلاثية الأولي. ثم تقول الوثيقة أنه عندما طرح موضوع رئاسة الجمهورية في اجتماع للمكتب القيادي عدل عن الإتفاق السابق وتم التراجع عنه، أي بعبارة أخري أن الترابي قد فقد رأي الأغلبية في المجلس القيادي، وهذا في تقديري هو أهم حدث من أحداث النزاع من أولها الى آخرها، والترابي نفسه لم ينكر ذلك، اذ يرجع بداية الخلاف الى ذلك الوقت، ويلمح حينا ويصرح حينا آخر بأن "خيانة" قد ارتكبت ضده. أما الفريق البشير فقد ذكر صراحة أن الخلاف مع الترابي يعود الى عام 1992(أنظر الأهرام، بتاريخ 16ديسمبر 1999)، فاذا كان الشيخ السنوسي لا يعرف "جهة في التنظيم، في أية درجة علىا أو دنيا، سرية أو علنية رشحت أو اتفقت على ترشيح الترابي للرئاسة" فان عدم المعرفة من قبله لا ينفي وقوع هذه الحوادث. ويسألني الشيخ السنوسي ويرجوني أن أذكره: أين ومتي جاهر علي عثمان برأيه في ترشيح البشير، وأقول، مواصلة لما سبق، أن موضوع الترشيح لرئاسة الجمهورية قد طرح في المجلس القيادي عند نهاية الخطة الثلاثية التي تتحدث عنها، فسأل الترابي الحضور: ومن هو مرشحنا لرئاسة الجمهورية؟ متوقعا أن تجيء الإجابة مؤكدة للعهد السابق "المعهود سرا"، ولكن علي عثمان أجابه بأن "مرشحنا هو البشير"، ثم تكلم عوض الجاز مؤيدا لرأي علي عثمان، ولعل الأكثرية قد سارت في هذا الإتجاه، مما جعل الترابي يتأكد في ذلك الإجتماع أنه قد فقد الأغلبية، وأن رأيا معاكسا لرأيه قد بدأ يتبلور في داخل القيادة، مما جعله يحني ظهره للعاصفة، وهو سياسي محنك، فيؤيد ترشيح البشير على مضض، ولكنه بدأ يعد العدة، على اثر ذلك الإجتماع، لإزاحة كل من علي عثمان وعوض الجاز من المواقع التي كانا علىها، فأزيح علي عثمان بالفعل من موقع نائب الأمين العام الذي ظل يشغله لسنوات طويله، كما أزيح عوض الجاز من موقع وزير شؤون الرئاسة. وسبب تلك الغضبة هو أن الترابي كان يتوقع من هذين الأخوين بالذات أن يقفا الى جانبه في صراعه ضد العناصر العسكرية في المجلس القيادي، بل إنه كان يأمل في أن يقوما بتسهيل عملية "التسليم والتسلم"، وذلك هو ما قصدته بعبارة "دحرجة العسكريين الى خارج السلطة" التي وردت في مقالي، ولم أقصد ما فهمه منها الشيخ السنوسي في رده. (5)ويقول الشيخ السنوسي في مقاله الثاني: "وليس صحيحا أننا عقدنا اجتماعا في منزل الأخ عثمان خالد لهذا الأمر،(اختيار نائب أول) ولو تم مثل هذا فقطعا لم يحضره د.الترابي، ولا سمعنا بجهة تنظيمية كلفت أحدا باعداد أسماء المرشحين للنائب الأول"، ثم أخذ ينقل نصوصا من مفكرته الىومية. وطبيعي أن الإنسان يدون في مفكرته الىومية بعض الأعمال المهمة التي يقوم بها، والشخصيات التي يقابل، ولكن من الطبيعي أيضا أن ما يقوم به "الآخرون" في جهات أخري من المدينة لا يجد سبيلا الى مفكرته الىومية، وانما يحتاج الى بحث خارج المفكرة. فلو أن الشيخ السنوسي، الباحث المهتم بالحقيقة والتاريخ، أغلق مفكرته واتصل بالأخ عثمان خالد لأكد له أن هناك اجتماعا انعقد في منزله عقب وفاة اللواء الزبير ونوقشت فيه مسألة اختيار نائب أول، ولو سأل الأخ أحمد عبد الرحمن محمد لأكد له الحدث نفسه، ولزاده علما بأن الترابي هو الذي طلب منه أن يدعو لذلك الإجتماع، ولو سأل عبد الله حسن أحمد أو عثمان عبد الوهاب لأكدوا له أنهم أيضا حضروا ذلك الإجتماع واقترحوا أن يكون الترابي نائبا أولا لرئيس الجمهورية، ولو سأل محمد محمد صادق الكاروري لذكر له أنه أيضا حضر ذلك الإجتماع وأقترح أن يكون أحد العسكريين (بكري) نائبا أول، ولو سألت موسي حسين ضرار لما أنكر أنه قد حضر الإجتماع وأقترح بأن يحمل أسماء المرشحين الى الرئيس البشير(إلا أن الرأي استقر على أن يحملها الترابي نفسه، وقد كان).فالخبر الذي أوردته في مقالي صحيح، بل ان الشيخ السنوسي نفسه وبعد أن قطع بعدم صحته في الجملة الأولي من نصه المشار الىه آنفا تراجع قليلا في الجملة الثانية ليقول (ولو تم مثل هذا الأمر).والغريب أنه بعد أن صال وجال في مفكرته وصل بنا الى المعلومة ذاتها التي حاول أن ينفيها: وهي ان اسم الترابي كواحد من المرشحين الثلاثة قد وصل الى سمع الرئيس البشير وبصره، وأن الذي أوصل ذلك هو الترابي نفسه، ولا يهمنا هنا ان كان قد فعل ذلك "عرضا" على صيغة المزاح، أو فعل ذلك على سبيل السخرية من صاحب الإقتراح. ويقول السنوسي: "ما سمعنا بجهة تنظيمية كلفت أحدا باعداد أسماء المرشحين للنائب الأول"، ثم تراه يقول بعد قليل:" وخرجنا من ذلك الإجتماع (مع الترابي) بتكليف الأخ أحمد عبد الرحمن بأن يخطر الأخوة الكبار، ويتولي الأخ يس أخطار نافع،...وأوكل الي إخطار الأخ علي..."، هذا الكلام يناقض آخره أوله، كما هو ظاهر، اذ ان "إخطار" هؤلاء الأخوة الذين يذكرهم ليس هو شيء آخر غير توجيه الدعوة الىهم للاجتماع بغرض مناقشة الموضوع واقتراح شخص لموقع النائب الأول.على أن أهم ما استفدناه من مفكرة الشيخ السنوسي أنه استطاع من خلالها أن يقدم لنا صورة عن حالة الفوضي والإضطراب والعشوائية التي كان يدار بها التنظيم. فلا نسمع ذكرا للهيئة القيادية أو المكتب السياسي أو مجلس الشوري، ولا نسمع ذكرا للائحة أو دستور، كل ما نسمعه في رواية السنوسي أن "شلة" من الأخوان الكبار اجتمعت في منزل أحدهم ثم اتفقوا أو لم يتفقوا فقرروا أن يلتقوا في مكان آخر، ثم انعقد اجتماع آخر في منزل شخص آخر، ثم يذهب الشيخ السنوسي "مبكرا الى منزل الدكتور الترابي، ويشرب معه الشاي،(اي والله) ثم يخطره بما دار في منزل الأخ علي عثمان، وأن الأخوة اتفقوا أن يكون المرشحان علي عثمان وعلي الحاج". ولا أجندة ولا وقائع ولا يحزنون، (ثم يتوعدني: هذا هو التاريخ يا د. تجاني والناس أحياء في السلطة أو خارجها)، وأقول له نعم التأريخ يا شيخ ابراهيم، ونعم التنظيم، وهكذا فلتدار الدولة الإسلامية وليزدهر نموذجها الحضاري.ثم قلت ان الترابي كتب الدستور بالطريقة التي كان يريدها، واعترض الشيخ السنوسي على ذلك، وكنت أظن أنه سيقول أن الترابي لم يكتب الدستور وحده وانما شاركته لجنة صغيرة أو كبيرة من القانونيين وفقهاء الدستور، وأنه (أي السنوسي) قد شارك في تلك اللجنة بحكم تخصصه القانوني، وأن تلك اللجنة قد اعترضت على شيء من المواد التي وضعها الترابي، او أضافت شيئا، أو نحو ذلك من أنواع المشاركة التي تكون حجة يستند علىها فيقال أن اللجنة لم تكن لتسمح له أن يكتب الدستور بالطريقة التي يريد، أما ذا كتب شخص دستورا ما، من ألفه الى يائه، غير مقيد من أحد فكيف يقال أنه لم يكتبه بالطريقة التي يريد؟ وهل يتصور أن يكتبه بالطريقة التي يريدها خصومه الذين وقفوا ضده في المكتب القيادي، ويقفون له بالمرصاد في رئاسة الجمهورية؟(6)ويشير الشيخ السنوسي الى الزهد ونكران الذات عند الترابي، وكيف أنه قرر أن يذهب الى "السجن حبيسا ويبعث الفريق عمر الى القصر رئيسا"، ويصور لنا في مقالىه كيف أن الترابي كان كارها للسلطة، وكيف أن السنوسي كان هو المحرك الأساس الذي يدفعه الى تلك المواقع دفعا، فالترابي مثلا لم يكن راغبا في رئاسة البرلمان، ولكن السنوسي هو الذي يقدم "مرافعة التأييد"، فيوافق الترابي، والترابي لم يكن راغبا في أن يكون نائبا أول (لكي يذكر في التاريخ كذكر عبد القادر الجيلاني، وينسي الرسميون كما نسي الخليفة العباسي)، ولكن الشيخ السنوسي كالعادة يقدم مرافعة التأييد قائلا: " هذه المرة يجب أن يكون النائب الأول أخا ملتزما، مدنيا وليس عسكريا..واحد اسمه حسن عبد الله"، ولكن برغم أن الواحد الذي اسمه حسن عبدالله لم يوافق على ذلك الإقتراح واستخف به الا أنه ذكره، على علاته، للرئيس البشير. وهكذا يتحفنا الشيخ السنوسي بمرافعاته العجيبة، والتي لا ندري كيف يعتقد أنها تمثل دفاعا عن مواقف الترابي، أو تؤكد زهده في السلطة وكراهيته لها. على أن اللافت للنظر هو أن كل المسارات التي يسير علىها الترابي محمودة عند الشيخ السنوسي في كل الأحوال، فاذا امتنع عن السلطة مثلا فان ذلك الإمتناع محمود ويدل على التجرد ونكران الذات، واذا نازع في السلطة، فان نزاعه أيضا محمود عند الشيخ السنوسي لأنه "هو أمين الحركة والمشروع". وهذا دفاع ليس بالحسن، بل الأحسن منه أن يقال أن الترابي بشر مثلنا، يحب السلطة ويسعي نحوها وينازع فيها، لأنه لو كان حقا يكرهها ويتجنبها، كما يريد الشيخ السنوسي أن يقنعنا، لأنشأ له "خلوة" في قرية ود الترابي على مقربة من النيل الأزرق فانقطع فيها للعبادة الخالصة، أو لتفرغ لإطعام الجوعي وأصحاب العلل النفسية، كما كان يفعل الشيخ البرعي، رحمه الله، في زريبته بعيدا عن الإذاعة وقنوات التلفزيون. أما وأن الشيخ الترابي قد أنشأ له حزبا سياسيا، وتفرغ له عقودا من الزمن، وقاتل فيه وقوتل حتي كاد أن يقتل، ثم يقال لنا بعد ذلك أنه زاهد في السلطة لا يريدها ولا يسعي لها (الا إذا أصر علىه الشيخ السنوسي) فهذا قول شديد الضعف، ولو كنت مكان الشيخ السنوسي، وأردت أن أدافع عن دوافع ومواقف الشيخ الترابي لدافعت بأحسن من هذا، إذ من الممكن أن يقال أن حب السلطة والسعي لها والمنازعة فيها (أو طلب الإمامة كما كان يقول سلفنا الصالح)لا تعد من أمور "العيب" المكروهة في ذاتها، كما يتصور الشيخ السنوسي، وهو تصور مأخوذ من الثقافة الشعبية الدارجة في السودان، أما في الرؤية الإسلامية فان السعي نحو السلطة أو التنافس فيها لا يعتبران عيبا، فقد تنازع فيها أهل الشوري من الصحابة، فما رد عنها طالب ولا منع منها راغب، كما عبر عن ذلك أحد العلماء، ولكن المكروه دينا وسياسة هو أن يجر طلب الإمامة الى كشف عيبة للمسلمين كانت مكفوفة، أو الى نقض عهد كان مبروما، أو الى أغراء عدو متربص، أو تحريك فتنة يسفك فيها دم. ولقد قلت مثل هذا القول ونشرته عام 2000 حينما أوشكت العاصفة أن تقتلعنا جميعا، ولم أعب من قبل ولا من بعد على الترابي أو غيره أن يسعي الى موقع رئاسة الجمهورية، وأن ينازع في ذلك، ولكن الذي قلته و أقوله الآن ان "التكتيك" الذي اتبعه الترابي وهو ينازع في مواقع الرئاسة(ثم جاراه فيه الآخرون) كان تكتيكا فاشلا خسر الترابي بسببه رئاسة الجمهورية، وخسرنا نحن بسببه الحركة الإسلامية ذاتها، وظللنا ندفع فاتورة ذلك الخسران وسنظل ندفعها زمنا طويلا، كما خسر الشعب السوداني بسببه موارد بشرية واقتصادية هائلة.وهذا رأي رأيته، وقد قادني الىه البحث والنظر وليس الإحباط، كما ألمح في تعقيبه. واني لأفهم أن يكون له رأي مخالف، ولكن لا أفهم لماذا يعتقد أن رأيي هذا يعتبر تشويها لصورة الترابي أو اساءة لشخصه.(7) ويسألني الشيخ السنوسي: " وهل في الحركة(الاسلامية) من هو أجدر بها(رئاسة الدولة)وأقوي منه(الترابي)، وهو الأمين العام للحركة الذي قادها منذ ثورة أكتوبر1964 حتي خرجت الحركة الاسلامية من تحت الأرض الى حزب،الى دولة؟" ولم أنكر في يوم من الأيام القدرات العديدة التي يتمتع بها الدكتور الترابي، زاده الله قدرة ومتعه بها، كما لم أنكر الإسهام الكبير الذي قدمه من أجل تأسيس الحركة الإسلامية وتطويرها، وما تحمل في ذلك من صعاب وقدم من تضحيات، فجزاه الله خيرا كثيرا على ما فعل، ولكن، وطالما أن الشيخ السنوسي يتحدث باسم "الحقيقة والتاريخ" فان الحقيقة والتاريخ يقتضيان أيضا أن يشير ولو في جملة واحدة الى الجنود المجهولين الذين ساهموا مع الترابي ومثله في تأسيس الحركة الإسلامية ودفع مسيرتها، أقصد شباب الحركة الإسلامية وشيوخها الذين تخلوا عن أسرهم ووظائفهم ومدارسهم وتخندقوا في الصحراء، أو تفرقوا في أودية الغربة سنين عددا من أجل الدفاع عن الحركة الإسلامية ونصرتها، أو أولئك الذين جاءوا من بعدهم فقدموا أرواحهم في غابات الجنوب فداء للحركة وللوطن، أو الذين عادوا من الجنوب يتكئون على "أطراف صناعية" بعد أن فقدوا أرجلهم وأياديهم، أو السابقين الأولين الذين كانوا يقودون النضال الىومي بين الجماهير، يكتبون صحف الحائط الممنوعة، ويوزعون المنشورات الخطرة، ويخرجون الى الشوارع ليضخ علىهم الغاز المسيل للدموع، ويضربون بالسياط، ويفصلون من الجامعات، ويوضعون في المعتقلات والزنازين، يكتبون أناشيد الحركة الإسلامية ويتغنون بها، ويدافعون عن مواقفها في أركان النقاش ومنابر العلم، ويصوغون الهتافات ويدفعون الإشتراكات (والتي تكاثرت بفضل الله حتي أصبحت شركات يتقاسمها بعض "الناس" الكبار ويتنعمون بها )، ألا يستحق أولئك الجنود الصامتون المجهولون ذكرا؟ أليس هم الأبطال الحقيقيون الذين صنعوا الحركة الإسلامية؟ وأخرجوها من تحت الأرض لتصير تيارا شعبيا عريضا تقف على رأسه دولة يتصارع حولها اخواننا الكبار؟ أم أن الترابي وحده هو الذي صنع ذلك وما على (الآخرين) الا أن يصفقوا ثم يلتزموا الصمت، أو "يعملوا انتباه ويرجعوا الى الخلف"، كما جاء في عبارة اللواء الزبير التي رواها الشيخ السنوسي بكثير من الإعجاب. أبعد أربعين عاما من التربية والنضال الفكري والسياسي تلتفت الحركة الإسلامية فلا تجد لقيادتها أو قيادة دولتها غير الترابي (والى جواره الشيخ السنوسي)؟ هل يظن الشيخ السنوسي انه بمثل هذا يمتدح الدكتور الترابي؟ اذن ما الفرق بينه وبين السيد الميرغني أو الإمام الصادق؟ أو "الشيخ"/الأستاذ نقد؟ ولماذا اذن خرجنا، نحن وهو، من أحزابنا "الطائفية" القديمة، وطرقنا الصوفية الحبيبة، وقبائلنا العريقة اذا كان تنظيمنا الإسلامي الحديث يرتكز على شخص عبقري واحد، ويعجز أن ينتج بديلا له لمدة أربعين عاما؟ أليس أفضل من هذا أن نصير جميعا الى القول بأن الترابي ساهم مساهمة كبيرة في تشكيل الحركة الإسلامية، ولكن الحركة الإسلامية أيضا ساهمت في صناعة الترابي وفي تحويله من استاذ في كلية صغيرة للقانون الى قائد اسلامي فذ ينافس في قيادة الدول؟ (8)وبعد أن فرغ الشيخ السنوسي من دفاعه الأساس خلص الى القول بأن: "المقال كله يصب في اتجاه نظرية التآمر وسوء الظن". وهذا ما درج على ترديده بعض المثقفين العرب في الآونة الأخيرة حينما رأوا بعض السذج والعوام ينسبون كل حدث الى أجهزة المخابرات العالمية، ويرجعون كل كارثة تلم بالعالم العربي الى الدسائس الصهيونية، ليستريحوا بذلك من عناء التفكير وآلام محاسبة النفس. فأراد الشيخ السنوسي أن "يحشرني" في زمرة هؤلاء البلهاء حتي يتخلص مني بصورة كاملة، ويتخلص من ثم من الحقائق التي أوردتها ومن التحليل الذي قدمت، ولكن مهلا، فأنا لا أقول أن حركة التاريخ كلها تفسر بالمؤامرات الصهيونية أو غيرها، ولكني لا أتردد في القول بأن المؤامرة جزء من حركة التأريخ، وأداة من أدوات السياسة، حتي أن الإشارة وردت الىها في غير موضع من القرآن الكريم، فقيل لموسي علىه السلام(إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك)، وقيل لمحمد(صلى الله عليه وسلم): (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك)، بل إن الشيخ السنوسي نفسه لم يحقق أهم إسهاماته السياسية (يوليو1976) الا باستخدام "أداة المؤامرة"، اذ كان "يتآمر" على نظام النميري بالليل والنهار من داخل الجبهة الوطنية ومن خارجها، وكان حلفاؤه وأصدقاؤه في الجبهة الوطنية "يتآمرون" علىه، والنميري نفسه كان متآمرا كبيرا ولم يأت الى السلطة ويمكث فيها طويلا الا عبر سلسلة من المؤامرات، و "ثورة الإنقاذ" نفسها كيف أتت؟ هل نسيت ذلك؟ أيخفي علىك أن معظم تأريخنا السياسي الحديث يتكون، بكل أسف، من سلسلة مترابطة من المؤامرات والمؤامرات المضادة، ما تنضج مؤامرة كبيرة الا وأن تتولد بداخلها مؤامرات صغري مناهضة لها، وما أن ينطلق مشروع وطني كبير الا وأن تتولد بداخله مشاريع شخصية صغيرة تنخر في عظامه، والذي ينكر وجود المؤامرة في مثل هذا المناخ التآمري المتكدر كأنما يريدنا أن نغمض أعيننا ونكف عن التفكير وأن نسمع ما يقوله أخواننا الكبار ثم "نعمل انتباه ونرجع الى الخلف". المؤامرة يا شيخ ابراهيم أداة من أدوات السياسة والحرب والا لما أنشئت أجهزة للمخابرات، ولما وضعت حدود بين الدول، ولما أطلق علىك الرصاص ذات مرة. أما ما لم أقله في مقالى وأريد أن أضيفه الآن فهو أن بعض "الأدوات" والخبرات التي اكتسبها بعض اخواننا الكبار من جراء تعاملهم مع "الخارج/اللاإسلامي" قد صاروا يستخدمونها في "الداخل الإسلامي". كانوا يتآمرون ضد النظم القهرية التسلطية لينتزعوا منها أدوات التسلط، ولكن وحينما تحقق ذلك فسدت أخلاقهم وصاروا يتآمرون ضد بعضهم البعض، فانقلبت الأمور تماما، اذ حولوا خلافات (الداخل) الى تناقضات أساسية، ثم حولوا التناقضات الأساسية ضد (الخارج/اللاإسلامي) الى ضرب من الصداقات الزائفة، وهذا هو جوهر القضية التي حاولت مجرد الإيماء الىها فاتهمت بسوء الظن وتشويه صورة الكبار، مما يعني أننا برغم كل هذه المعاناة والمآسي لم نبلغ بعد مرحلة من النضج نستطيع بها أن نفتح ملفاتنا، وأن نتحدث بصراحة عن أخطائنا. فالكبار الذين ظلوا يقودون الحركة "أربعين" عاما يريدون أيضا أن يمسكوا "بتأريخ" الحركة أربعين عاما أخري حتي لا يري أحد إلا ما يرون، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

    http://www.alsahafa.sd/News_view.aspx?id=22807
                  

07-30-2007, 07:58 PM

على عمر على
<aعلى عمر على
تاريخ التسجيل: 12-13-2003
مجموع المشاركات: 2340

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا (Re: على عمر على)

    العسكريون الإسلاميون: أمناء على السلطة أم شركاء فيها؟ (1)

    د. التجاني عبد القادر


    قد لا يستطيع الباحث أن يستوعب ظاهرة النزاع بين الإسلاميين فى السودان ما لم يكتشف «الرؤية الإبتدائية» التي على أساسها تم التخطيط لعملية الانقلاب وتنفيذها فى يوليو 1989 م لقد بدا لي من خلال استماعي لإفادات عديدة من بعض أطراف النزاع، ومن إطلاعي على بعض ما توفر من وثائق مكتوبة، أن هناك تصورين مختلفين لما عرف بمشروع الإنقاذ الوطني لم يتم التعبير عنهما بوضوح، ولم يدر حولهما نقاش مستفيض في السنوات الأولى من الإنقاذ، ولكنهما تسببا بصورة مباشرة في الأزمة. التصور الأول يحمله الدكتور الترابي الأمين العام للحركة الإسلامية، وربما شاركه فيه بعض المقربين إليه ممن يثق فيهم. يمكن تلخيص هذا التصور في النقاط التالية:
    1- أن انقلاب 30 يوليو 1989 هو إجراء فني محدود أملته الضرورات الأمنية والسياسية التي كانت تحيط بالسودان وبالحركة الإسلامية خصوصاً وما صاحب ذلك من خطر ماثل على المصالح القومية.
    2- وأن دور العناصر العسكرية الإسلامية التي نفذت الانقلاب دور أداتي أو وظيفى محدود، وأن وجودهم على رأس السلطة الجديدة لا يتجاوز دور «الأمناء» الذين ينبغي عليهم ردّ الأمانات إلى أهلها، وأهل الأمانة هم المكتب التنفيذي للحركة الإسلامية ممثلة في أمينها العام ونائبه.
    3- وأن دور العناصر المدنية التي وضعت مبكراً في قمة السلطة وعلى قدم المساواة مع العسكريين ينحصر في دحرجة العسكريين إلى خارج السلطة بطريقة هادئة، مع تهيئة المناخ وإعداد المسرح لمرحلة القيادات الإسلامية.ويتأكد هذا اذا نظرنا للطريقة التى كون بها مجلس قيادة الثورة أو مجلس الوزراء، اذ أن بعض تللك الشخصيات لا يمكن الا أن تكون شخصيات «مؤقتة»، قابلة للدحرجة وللازاحة فى أقرب فرصة تتاح.
    ولكن هذا التصور لم تتم مناقشته بصورة واضحة وكافية وفي وقت مبكر من عمر الإنقاذ، وقد يرجع ذلك إلى أن تلك التصورات لم تجيء مكتملة في وقت واحد لدى كل طرف من أطراف النزاع، ويغلب على ظني أن تصور الطرف الأول (الأمين العام) كان واضحاً منذ اللحظة الأولى، بينما لم يكتمل تصور الآخر (الفريق البشير) إلا بعد فترة من الزمان وتراكم من التجارب، وأن ما وقع بينهما من اتفاق كان يقوم على أساس تصوري هش لم يلبث أن أهتز حينما بدأ الطرف الثاني في التدقيق وإعادة النظر وإعادة تركيب رؤيته الخاصة للأمور على ضوء التجارب الواقعية.
    أقول هذا وفي ذهني ما سمعت من بعض المصادر أن الأمين العام طرح على الحاضرين من العناصر العسكرية في اجتماعه معهم قبيل الانقلاب بفترة وجيزة سؤالاً صريحاً مفاده: كم ترون من الزمن يكفيكم لإنجاز مهامكم؟ فأجابه المتحدث باسمهم: تكفينا ثلاثة أيام فقط، نقوم فيها بتأمين الوضع ثم نسلمكم الأمر. فرد عليه الأمين العام: لا بل لكم أن تبقوا ثلاثين عاماً. تدل هذه المحاورة القصيرة، على افتراض صحة وقوعها، على أن كلا من الطرفين ربما كان يمازح الآخر، خاصة اذا لاحظنا أسلوب المداراة وروح المجاملة السودانية. أما من حيث الواقع فلا الأمين العام كان يريد العسكريين أن يبقوا ثلاثين عاما، ولا العسكريون كانوا على استعداد للتخلى عن السلطة فى ثلاثة أيام أو ثلاثة أعوام كما زعم المتحدث باسمهم. كما نستشف من تلك المحاورة واحدا من احتمالين: اما أنه لم تكن هناك مدة محددة ومتفق عليها ينفرد فيها العسكريون بالسلطة، أو أن مدة قد حددت بالفعل ولكن ترك فيها هامش للتطورات الظرفية التى يحددها «القادة الميدانيون»(ويقصد بهم الأمين العام وقائد المجموعة العسكرية ونائبيهما)، باعتبار أن التحديد القاطع لفترة زمنية، والإلزام الصارم بذلك، قد يتضاربا مع الكثير من التداعيات والتفاعلات التى لا يمكن التنبوء بها. أما هل تم اتفاق حول الكيفية التي تسلم بها السلطة، والجهة التي تسلم إليها، وهل اتفق على دور للمجموعة العسكرية لمرحلة ما بعد التأمين، فهذه أسئلة لا يمكن الإجابة عليها إلا بعد نظر فيما توفر لدينا من بعض وثائق المؤتمر الشعبى التي وزعت إعداد منها بعد أن وقعت المفاصلة النهائية بين طرفي النزاع في أواسط عام 2000م، جاء في إحدى هذه الوثائق ما يلي:
    1- أن بيانها الأول «الإنقاذ» قرر أن يعبر فيه عن ميقات تبسط فيه الحريات للناس كافة بعد إكمال إنقاذ الوطن من فتنة الحزبية، ولكن من بعد الإنقاذ تبسط الحرية للناس فوراً التزاماً بأصول الدين.
    2- ذات المكتب الذي قرر الإنقاذ، قرر في ذات الاجتماع الخطة نحو التمكين، وأول قراره أن تظهر الثورة قومية أول الأمر، ثم القرار بإعلان الشريعة الإسلامية بعد العام الأول، ثم القرار بظهور الرموز الإسلامية شيئاً فشيئاً وفق الاطمئنان إلى رسوخ التمكين والقرار بأن تنقل الحركة وظائفها تدريجياًُ نحو الدولة.
    3- المكتب التنفيذي للحركة- اعتباراً بتجاربه منذ جبهة الميثاق أمضى قراره الذي يمنع الازدواجية في قيام جهازين للقرار السياسي، وفوض الأمين العام ونائبه مسؤوليات إدارة المرحلة الأولى للتمكين مباشرة مع المسؤولين.
    4- أدى جميع أعضاء مجلس قيادة الثورة الملتزمين ورئيسه قسم الولاء والعهد أمام الأمين العام للحركة بالتزام خطة الحركة وقرارها وتنفيذ خطتها ورعاية أماناتها في تولي السلطة.
    5- كانت خطة الحركة بعد العام الثالث للتمكين أن تبرز الحركة كلها، وتتولى المسؤولية مباشرة برموزها وخطتها، وتجلى ذلك في قرار حل مجلس قيادة الثورة، وكانت الخطة أن يتولى أمين عام الحركة قيادة دولتها، ولكن خلصت الرؤية أن في رئيس مجلس الثورة ما يحقق ذات الغايات على ان يهيأ باللازم حتى يصبح هو نفسه أمين عام الحركة.
    6- إلا أنه وفي ذات الساعة التي وضعت فيها الآمال على شخص رئيس مجلس الثورة التمس أن يعذر في أول مخالفة لقرار الحركة وهو التخلي عن المنصب العسكري برتبته وزيه، وأن يتبعه في ذلك ولاة الولايات، ولم تقف الحركة في ذلك موقفاً حاسماً (أى أن رأي رئيس مجلس الثورة قد وجد تأييدا) .
    تتحدث هذه الوثيقة عن خطة للتمكين تقوم على مراحل متدرجة هي:
    مرحلة التظاهر بالقومية، ثم مرحلة إعلان الشريعة، ثم ظهور الرموز الإسلامية شيئاً فشيئاً وفق الاطمئنان إلى رسوخ التمكين، وأن إدارة هذه المراحل قد تركت إلى الأمين العام ونائبه والمسؤولين العسكريين -دون حاجة إلى بقية أعضاء المكتب التنفيذي الذي فوض صلاحياته إلى هؤلاء، ودون حاجة إلى مجلس الشورى الذي حل نفسه! وأن أعضاء المجموعة العسكرية قد أدوا قسم الولاء والعهد بالتزام خطة الحركة وقرارها ورعاية أماناتها في تولي السلطة.
    وقد فرغ من هذه المرحلة تماماً في السنوات الثلاث الأولى التي عرفت بسنوات التمكين. ولم يظهر إشكال - بحسب - نص الوثيقة إلا مع طرح خطة جديدة لمرحلة ما بعد العام الثالث للتمكين، تتخلى المجموعة العسكرية عن السلطة لتحل محلها الحركة الإسلامية، ويكون الأمين العام للحركة رئيساً للدولة.
    إن هذه الفقرة تعتبر فى تقديرى أهم ما ورد في الوثيقة كلها، بل أنها تعتبر أهم ما ورد من إفادات حول النزاع، فهي تقرر بوضوح أنه قد كانت هناك خطة تقضي بأن يحل المجلس العسكري وأن يتولى أمين عام الحركة قيادة الدولة، ولكن لماذا لم يحدث ذلك؟ أوقع تمرد مثلا من قبل المجموعة العسكرية حيث قررت البقاء في السلطة؟ أم عدلت الخطة بعد نقاش وتراض؟ لم تشر الوثيقة لأيٍ من الأمرين بصورة مباشرة، ولكنها ذكرت أن الرؤية قد خلصت أن يبقى رئيس مجلس الثورة في موقعه لأن فيه ما يحقق ذات الغايات التي يمكن أن يحققها الأمين العام، وذهبت الوثيقة إلى أبعد من ذلك فذكرت أن الرؤية قد خلصت أيضاً إلى أن يهياً رئيس مجلس الثورة باللازم حتى يصبح هو نفسه أمين عام الحركة! ثم تذكر الوثيقة أنه قد التمس أن يعذر من التخلي عن المنصب العسكري.
    يعنى هذا القول إذا صيغ في عبارة أخرى أكثر مباشرة ووضوحاً أن الخطة القاضية بالإحلال الكامل لقيادة الحركة محل مجلس الثورة قد عدلت بعد نقاش في داخل المجلس القيادي أو المكتب السياسي الذي ذكرت الوثيقة أنه يتكون من الأمين العام ونائبه والمسؤولين العسكريين، ويعني ثانياً أنه قد تم اتفاق بأن تتوحد قيادة الحركة والدولة في شخص الفريق البشير على أن يهياً لذلك بما يلزم، ويعني ثالثاً أن الفريق البشير كان يفضل أن يظل في موقعه العسكري بينما كان الترابي يرى عكس ذلك، وأن هذا الموضوع قد طرح للنقاش ولم يصل فيه المكتب القيادي إلى رأي حاسم، ويعني رابعاً أن رؤية معاكسة لرؤية الدكتور الترابي قد بدأت تتبلور في داخل المكتب القيادي وتكتسب وزناً يفوق الوزن الذي تناله رؤية د. الترابي.
    هذا، وقد يكون مناسبا أن نتوقف قليلا فى هذا الموضع لنعقب على ما تقدم. يلاحظ أن طرفى النزاع لا يختلفان فى ان الخطة الأولى القاضية بظهور حكومة الانقاذ بالصورة التى ظهرت بها(والمتمثلة فى اخفاء قيادة التنظيم واظهار مجلس قيادة الثورة) كانت مبنية على تقدير صائب لبعض الضرورات السياسية والأمنية التى تتحكم فى الاطار المحلى والاقليمى والدولى. اذ أنه لولا تلك الضرورات لكان ممكنا من حيث النظر أن يقوم عدد محدود من الضباط الاسلاميين بالاطاحة بالحكومة القائمة ثم ينصبون الامين العام للحركة الاسلامية رئيسا للجمهورية ثم ينصرف كل منهم الى ثكنته، أما من حيث الواقع فان مثل تلك الخطوة كانت ستمثل انتحارا سياسيا للحركة الاسلامية. أما الصورة الاخرى المقابلة فهى أن يقوم عدد من الضباط الإسلاميين بالاطاحة بالحكومة القائمة والإنفراد بالسلطة دون استناد على قاعدة الحركة الاسلامية او على قيادتها، ولكن ذلك أيضا اختيار محفوف بالمخاطر. هذه المعضلة لم تكن خافية على الدكتور الترابى كما لم تكن خافية على العقيد(آنذاك) البشير، اذ كان كل منهما يدرك أن هناك «فجوة» لا يمكنه تخطيها أو الالتفاف حولها الا من خلال الآخر، اذ كان أحدهما يمتلك مفتاح «الشوكة العسكرية» بينما كان الآخر يمتلك مفتاح «المناصرة الشعبية»، فصار «التحالف» بينهما أمرا ضروريا اقتضته الحاجة كما اقتضاه الظرف الذى تولد فيه الانقلاب العسكرى. فلو أن الحركة الاسلامية جاءت مثلا الى الحكومة عن الطرق السياسية المألوفة لكان من الطبيعى أن يكون أمينها العام رئيسا للجمهورية، ولو أن المجموعة العسكرية جاءت مستقلة عن تخطيط الجبهة الاسلامية ودعمها(سابقا ولاحقا) لكان من حق العسكريين أن يشغلوا المواقع القيادية التى يريدون، ولكن طالما أن كلا من الطرفين قد قبل الدخول فى «شراكة الضرورة»، ورضى بإمارة «الإستغلاب»، فكان عليه أن يدرك أن لأى إمارة من هذا النوع منطقها الذاتى وتفاعلاتها وتطوراتها الخاصة بها، والتى قد لا تكون ضارة بأى من الطرفين طالما أنه يحتفظ «برصيده» الأساسى الذى أهله فى المقام الاول للدخول فى تلك الشراكة. ولكن الترابى ومن كان الى جانبه فى قيادة الحركة قاموا من جانبهم بتبديد رصيدهم الخاص وذلك من خلال تأييدهم لحل أجهزة الحركة التنظيمية ظنا منهم أن التخلص من الرقابة التنظيمية سيطلق يدهم من كل قيد فيستحوذون على السلطتين: سلطة التنظيم وسلطة الدولة. غير أن ذلك كان تقديرا خاطئا، اذ أن تغييب التنظيم لم يؤد الا الى زيادة نفوذ الطرف الآخر الذى لم يعدم أصحابه، كما لاحظ الدكتور الطيب زين العابدين، «معاونين من عناصر الحرس القديم الذين كانوا يضيقون بمنهج القيادة الاولى(قيادة الترابى) فى العمل أو يحرصون على البقاء فى مناصب السلطة.»(حديث الى آل البيت،الرأى العام، 20أكتوبر 1999)، ففقد الترابى ومجموعته «التنظيم» الذى كان بين أيديهم، كما فلتت منهم «الدولة» التى كانوا يحلمون بها
                  

07-30-2007, 08:01 PM

على عمر على
<aعلى عمر على
تاريخ التسجيل: 12-13-2003
مجموع المشاركات: 2340

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا (Re: على عمر على)

    العسكريون الإسلاميون: أمناء على السلطة أم شركاء فيها؟ (2)

    د. التجاني عبد القادر


    لقد اشرنا في المقال الاول الي ان هناك رؤية معاكسة لرؤية الترابي بدأت تتبلور داخل المجلس القيادي ، فمن هم أذن أصحاب الرؤية المعاكسة لرؤية الأمين العام؟ ولماذا سعوا لتعديل الخطة في مرحلة ما بعد التأمين؟ لا تشير الوثيقة السابقة بصورة مباشرة لأشخاص بعينهم، ولكننا نعلم من مصادر أخرى أن خمسة على الأقل من أعضاء القيادة «ثلاثة من العسكريين واثنان من المدنيين» لم يؤيدوا رؤية الأمين العام المشار إليها، وكانوا يرون أن يكون رئيس مجلس الثورة رئيساً للجمهورية، أما لماذا رأوا ذلك، فهذا مجال تتعدد حوله الظنون، فإذا أخذنا مثلاً برأي الأمين العام والمجموعة المؤيدة له، فسنجدهم يقولون أن ما تم هو مفارقة لخطة الحركة، وخيانة للمواثيق، وحنث بالقسم، أملته شهوة السلطة ورقة الدين. وقد ذكر مثل هذا القول في وثائقهم المكتوبة ولقاءاتهم الجماهيرية ومقابلاتهم الصحفية «انظر على سبيل المثال: بيان تجديد المؤتمر الوطنى»، ولكننا لا نستطيع أن نكتفى بهذا التفسير «الايديولوجى» للامور، وانما نحاول بقدر الامكان أن نستكشف الإطار الموضوعي الذي تبلورت فيه هذه الآراء فسنلاحظ ثلاثة متغيرات في الساحة السياسية.
    الأول: هو موقف حكومة السودان من احتلال العراق للكويت عام 1990م، وما لحق ذلك من تأسيس للمؤتمر الشعبي العربى الإسلامي، حيث صار الدكتور الترابي أميناً عاماً له، مشكلاً بؤرة «أصولية» لمعارضة المواقف السياسية الأميركية ولمواقف حلفائها بالمنطقة، ترتب على هذا الوضع أمران: أحدهما خارجي تمثل في الاستهداف الغربي على السودان ومضايقته اقتصادياً وعسكرياً وإعلامياً، وثانيها داخلي تمثل في شعور الفريق البشير وزملائه العسكريين بالحرج، حيث بدا واضحاً للمراقبين أن السياسة السودانية لا تُدار من قبل الحكومة، وإنما يديرها الدكتور الترابي من مقره في المؤتمر الشعبي العربى الإسلامي. لقد كان أول تعبير عن هذا الحرج هو استقالة أحد العسكريين من عضوية مجلس الثورة.
    والمتغير الثاني: هو حادث الاعتداء الذي تعرض له الدكتور الترابي في كندا عام 1992م، وما لحق ذلك من صخب إعلامي سلط الأضواء على الأوضاع الداخلية في السودان، وإلى إثارة مسائل حقوق الإنسان واتخاذها وسيلة إضافية للضغط على حكومة السودان، والاشتداد في حصارها باعتبارها حكومة أصولية متشددة.
    والمتغير الثالث: هو اشتداد الحرب في جنوب البلاد واستيلاء حركة التمرد على عدد من المواقع، مستفيدة من مناخ العداوة الغربية للأصولية الإسلامية، والتعبئة العسكرية الهائلة (صيف العبور) وما تبعها من احساس بالنصر.
    أحدثت هذه المتغيرات مجتمعة ضغطاً نفسياً كبيرا على أعضاء القيادة من المدنيين والعسكريين، فلما وجهوا بالخطة الرامية لحل المجلس العسكري وإحلال القيادة التنظيمية مكانه، صار بعضهم، خاصة العسكريين منهم، ينظرون للأمر كأنه مغامرة كبيرة، إذ كيف يحل المجلس العسكري ويتخلى الفريق البشير عن رتبته العسكرية في أشد الأوقات حاجة إلى القوات المسلحة؟ أما المدنيون فصار بعضهم يتعجب من فكرة أن يصير الدكتور الترابي رئيساً للجمهورية في أكثر الأوقات معارضة له على المستوى الإقليمي والدولي، وأنه إذا جاز لحكومة الإنقاذ أن تخفى هويتها في سنواتها الأولى وتتظاهر بالقومية والوطنية، فهى الآن أحوج مما مضى لأن تتدثر بالوطنية والقومية، اذ أن وجود الدكتور الترابي على رأس الدولة لن يكون مفيداً إلا من حيث الرمزية الدينية، وتعاطف بعض التنظيمات الإسلامية المضطهدة في بلدانها، ولكنه فيما عدا ذلك فسوف لن يؤدي إلا لمزيدٍ من المضايقات والمعاناة الداخلية والخارجية والتى قد تعجل باسقاط المشروع من أساسه.
    كانت هذه، فى تقديرى، هى بعض المتغيرات النفسية والتساؤلات والتقديرات السياسية التي أدت لهزيمة رؤية الترابي في داخل مجلس القيادة، وأدت لتعديل الخطة بالإبقاء على الفريق البشير برتبته العسكرية وتصعيده رئيساً للجمهورية وترشيحه بأن يكون أميناً عاماً للحركة الإسلامية في المستقبل. ومما يؤكد هذا الرأى نص الوثيقة ذاتها التى أبرزها الأمين العام بعد الانشقاق وراح يستند عليها في ما يقول، اذ جاء فيها: «وكانت الخطة أن يتولى أمين عام الحركة قيادة دولتها، ولكن خلصت الرؤية أن فى رئيس مجلس الثورة ما يحقق ذات الغايات، وأن يهيأ باللازم حتى يصبح هو نفسه أمين عام الحركة».
    هذا فى تقديرى هو الوقت الذى بدأ فيه «الأمناء» يتحولون الى «شركاء»، وبدأت فيه رؤيتهم المعاكسة فى التبلور، والتى يمكن تلخيصها في ما يلى:
    1- أن الانقلاب وان قصد منه أن يكون حركة إجرائية محدودة، ولكنه قد غدا بحكم تداعيات الواقع وضروراته حركة إصحاح «داخلي»، للأوضاع السياسية والاقتصادية المتردية، وحركة دفاع «خارجي» ضد قوى أجنبية تتربص بالوطن من خلال حرب الجنوب، وحركة إعادة للبناء الوطني وتعزيز للوحدة الوطنية.
    2- وان العناصر العسكرية التى شاركت في التخطيط والتنفيذ، لم تكن ولن تظل مجرد أدوات فنية، وإنما هي جزء أصيل في الحركة الإسلامية من حيث التزامها الفكري والتنظيمي، وأنها لم تفعل ما فعلت إلا بوحي من ذلك الالتزام، وأنها، بالتالي، شريكة أصيلة في الأمر وليست مجرد أمينة عليه.
    3- وأنه، وتأسيساً على ما سبق، فإن العنصر العسكري في الإنقاذ ليس عنصراً قابلاً للإزاحة التامة- وذلك بحكم المنطلق الفكري والواقع الماثل، وأن على الحركة الإسلامية وعلى أمينها العام أن يندرجا في السياق الوطني العام الذي يشارك فيه السابقون في التنظيم وفي الإنقاذ، لا فرق بين عسكري ومدني أو جبهوي وإنقاذي إلا بالقدرة على العطاء والتجرد للمصلحة الوطنية العامة.
    «3»
    لقد ذهب غيرنا من المحللين إلى تشبيه الخلاف بين البشير والترابي بالخلاف الذي وقع بين الضباط البعثيين في سوريا في أواسط الستينيات، ومع علمنا بالفروقات الكبيرة بين تجربة حزب البعث السوري وتجربة الإسلاميين في السودان، إلا أن هناك مجالاً للمقارنة والتدبر، خاصةً في ما يتعلق بمفهوم التوظيف المؤقت للرتبة العسكرية العليا والإزاحة المتدرجة لها. فقد كان الضباط البعثيون الأساسيون الذين استولوا على السلطة في سوريا عام 1963 من ذوي الرتب الصغيرة، وينتمون علاوة على ذلك إلى الطائفة العلوية التي لا تشكل إلا أقلية صغيرة بين السوريين الذين ينتمون إلى أهل السنة، فاضطر أولئك الضباط للبحث عمن ينتمي لأهل السنة، فعثروا على العقيد أمين الحافظ الذي كان يعمل آنذاك ملحقاً عسكرياً في الأرجنتين، وهو من أبناء حلب، فضموه إليهم وزيراً للداخلية ثم رئيساً للمجلس الوطني للقيادة الثورية، واستطاعوا عن طريقه أن يقضوا على الوجود الناصري في الجيش والدولة. ولكنهم حينما وصلوا مرحلة «الإزاحة» فوجئوا بأن العقيد أمين الحافظ قد تطور كثيراً من حيث الرؤية السياسية والقدرة العسكرية، وأن إزاحته عن السلطة لم تعد أمراً ميسوراً، بل أنها قد تؤدي إلى إسقاط النظام برمته، وقد استطاع أمين الحافظ بالفعل أن يفجر الصراع داخل حزب البعث عسكرياً ومدنياً لمدة ثلاثة أعوام «من مارس 1963 الى فبراير1966م» حيث تمت هزيمته وانتهى به الأمر لاجئا فى العراق.
    فإذا شئنا المقارنة بين حالة العقيد أمين الحافظ والفريق عمر البشير، فسنرى بوضوح أن الرتبة العسكرية العليا قد لعبت دوراً مهماً في الحالتين- فمثلما كان صغار الضباط البعثيين العلويين يبحثون عن رتبة عليا يسهل من خلالها التحرك في القوات المسلحة فاستقطبوا العقيد أمين الحافظ لذلك الغرض، فكذلك كان الضباط الإسلاميون في السودان يبحثون عن رتبة عليا فعثروا على العقيد البشير «واعتبروه هبة من السماء، كما ورد في عبارة قديمة للدكتور الترابي»، وكما كان البعثيون يريدون من العقيد أمين الحافظ أن ينجز لهم بعض المهام الكبرى، وقد فعل، فقد كان الإسلاميون أيضاً يرجون من البشير أن يفعل مثل ذلك في مراحل التأمين الأولى، وقد فعل، وكما كان البعثيون يخططون للتخلص من العقيد أيمن الحافظ بطريقة متدرجة، فقد كان الإسلاميون في السودان يفكرون في الاتجاه ذاته.
    ولكن برغم كل هذا التشابه تظل الفروق بين التجربتين قائمة، ولعل أبرز هذه الفروق هي أن الفريق البشير لم يكن مستقطباً للحركة الإسلامية «كحالة أمين الحافظ مع حزب البعث» وإنما كان عضواً فيها «على أرجح الروايات»، فإذا كان يتوجب على أمين الحافظ أن يخترق حاجزي الطائفة العلوية والأيديولوجية البعثية ليتمكن من إحداث ثغرة صغيرة في الحزب يضع عليها قدمه، فإن الفريق البشير لم يجد نفسه محتاجاً لمثل ذلك الاختراق، لأنه لم يواجه طائفية أو أيديولوجية تحول بينه وبين عضوية الحركة الإسلامية، كما لم يكن يوجد «تنظيم» فاعل يتحكم فى عملية الصعود الى قيادة الحركة.
    فهل فات على الدكتور الترابي أن يدرك هذا، وأن يدرك الطبيعة الديناميكية للفعل السياسي، فلم يقدر أن التحركات السياسية والعسكرية والدبلوماسية المكثفة التي كانت تقوم بها المجموعة العسكرية من قتال مباشر في جنوب البلاد إلى مفاوضات وحوارات سياسية على المستوى المحلي والإقليمي، ألم يقدر أن مثل تلك التحركات المتواصلة لمدة تزيد على ثلاثة أعوام كافية لأن تشكل لديها تصورات مغايرة وأطراً من العلاقات الجديدة، وأن تنمي قدراتها في التواصل مع الآخرين واستقطابهم لخلق قاعدة اجتماعية جديدة ترتكز عليها. أم هل غلبت على الدكتور الترابي العقلية القانونية، فأخذ يعول على المواثيق والعهود التي قطعها مع العسكريين معرضاً عن رؤية التجارب التاريخية القريبة، والتحولات الفكرية والاجتماعية التي لا تنقطع، أم غلب عليه التقدير الزائد لنفسه ولقدراته فأدى به ذلك للتقدير الخاطىء للآخرين؟
    «4»
    ولكن كيفما كان الترابي ينظر للأمر، فمن المؤكد أن هناك ضغوطاً نفسية خاصة كانت تحيط به هى التى حولت الاختلاف بينه وبين الآخرين من إطار النزاع الداخلى إلى إطار الأزمة المدمرة، كما أن هناك عوامل إضافية أدت لتعزيز النفسية النزاعية ولتصعيد النزاع حتى أوصلته حافة المواجهة. وغني عن القول أنه لم تكن توجد ضغوط نفسية أكثر مرارة وإيلاما من حادثة الاعتداء على حياته فى كندا. لقد ذهب الترابى فى زيارة خاصة للولايات المتحدة على أمل أن يجرى حوارا مع بعض أعضاء الكونجرس الأميركى ومع بعض الشخصيات الأكاديمية ذات التأثير فى السياسة الأميركية، وأن يقنعهم ببعض أطروحاته أو يبدد الشكوك حولها. لم تُرتب تلك الزيارة من قبل الحكومة السودانية، فقد كانت فى ظاهرها زيارة خاصة، ولكن سياق الأحداث يشير الى أن الترابى قد خرج «مغاضبا»، ولعله كان يريد أن يؤكد للمناوئين له فى الحكومة أنهم لن يستطيعوا أن يفتحوا قنوات للحوار مع الغرب إلا من خلاله، وأنه ليس مجرد سياسى محلى وانما هو سياسى/مفكر «عالمى». وقد استطاع بالفعل أن يقدم شرحا وافيا لتوجهات الحكومة، كما أستطاع أن يدافع دفاعا قويا ليس فقط عن الحركة الإسلامية فى السودان، وانما عن الحركات الإسلامية جميعا، حتى وصفه بعض المعلقين بأنه «لسان حال الصحوة الإسلامية». ولكن الترابى كان كعادته متفائلا ومبالغا فى الثقة بقدراته الفكرية والخطابية دون أن يقدر تقديرا كافيا حقول الألغام التى كانت تنتظره، اذ قوبل حيثما ذهب بحملة إعلامية وسياسية منظمة شاركت فيها بقوة كل من المعارضة السودانية ومنظمات حقوق الإنسان والمنظمات الكنسية المتطرفة، ثم ختمت تلك الحملة بالاعتداء المباشر عليه فدخل فى غيبوبة لم ينجُ من آثارها إلا بعد مدة من الزمن. شكلت هذه الفترة المرضية حالة من الانقطاع بينه وبين مجلس القيادة، واكتشف حينما عاد له الوعى أن مياها كثيرة قد جرت فى النهر، وأن أمورا صارت تحجب عنه، وأخرى تبرم على غير مشورته، بحجة أن «الشيخ» قد ضعفت ذاكرته وكثر حديثه. أى يمكننا أن نقول بعبارة أخرى أن ما كان رأيا مخالفا لرأى الترابى فى المجلس القيادى قد صار «رؤية»، وأن زمام الأمور قد بدأ يتحول من الترابى الى غيره. فصار «الشيخ» يرى ذلك ويقول لنفسه: أبعد كل ما قام به من التغطية السياسية والأيديولوجية للنظام، وما تحمل من انتقاد وتجريح واعتداء مباشر كاد أن يودى بحياته وهو يدافع عن حكومة الانقاذ ويناضل فى سبيل تثبيت أركانها، أبعد كل هذا تكون النتيجة أن تحدد تحركاته وأن تراغب تصريحاته؟ لقد بدأ له كأنه قد ظلم مرتين: مرة من المعارضة الخارجية التى لم تتفهم أطروحاته المعتدلة، فتظل تتهمه بالأصولية وتحاسبه بكل سيئاتها فى كل العالم الاسلامى، ومرة ثانية من قبل «تلاميذه» الذين جاء بهم الى الحكم فصاروا يتنكرون له ويتشككون فى قدراته ويرصدون تحركاته. ويظهر أنه فى مثل هذا المناخ النفسى الكئيب أخذ عدد آخر من تلاميذه «الأوفياء» ممن تخطتهم التعيينات الوزارية، أو أخرجتهم الموازنات السياسية يعودون للتمحور حوله ويوحون له بأن مرحلة «الإمام العالم» قد أطلت، وأنه لا أحد غير «صاحب المشروع» يستطيع أن يقود «دولة المشروع». هذه المجموعة، نستطيع أن نزعم، هى التى ساعدت من خلال المناجاة أن ترفع التوتر والتوجس الى مستوى فقدان الثقة والعداء الكامل بين الطرفين. ومن هنا فصاعدا يمكننا أن نلاحظ بروز أطراف جديدة، وجماعات وظيفية بدأت تتشكل وتدخل حلبة الصراع. ولعل أول تلك الأطراف هى «البطانة» الجديدة التى بدأت تلازم الأمين العام وتضرب حوله سياجا سميكا، فلا يرى ولا يسمع الا من خلالهم، ولا يستطيع أحد من أمثالنا أن يصل له أو يتحدث معه الا من خلالهم أوفى حضورهم. أما فى الجهة المقابلة فقد ظهرت أيضا «بطانة» أخرى أشد سمكا، فصارت تطوق الرئيس وتتقوى به وتتحدث باسمه أحيانا، وتتخذ لها موقعا فى قيادة الحركة الإسلامية وفى قيادة الدولة. ولن يستطيع أحد من أمثالنا بالطبع أن يتحدث مع الرئيس الا من خلالهم أو فى حضرتهم. وسنلاحظ من الآن فصاعدا أن هذه «الأطراف الجديدة المصنعة» والجماعات الوظيفية المساندة لها ستتولى أدوارا متعاظمة ليس فقط فى اعادة انتاج النزاع، وانما فى قيادة الحركة الإسلامية والدولة، وأن أدوار الشخصيات الأساسية التى فجرت النزاع ستتقلص. وغني عن القول أن مثل هذه الأطراف الجديدة لن تكون مهتمة بالفكر الإسلامى أو الشورى القاعدية أو العدل الاجتماعى مثل اهتمامها باستعادة السلطة المسلوبة، أو تثبيت السلطة المغتصبة. وسيستمر الصراع المحموم بين الطرفين، وستظهر آثاره المدمرة (غرباً) و(شرقاً).
    نواصل السبت القادم

                  

07-30-2007, 08:03 PM

على عمر على
<aعلى عمر على
تاريخ التسجيل: 12-13-2003
مجموع المشاركات: 2340

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا (Re: على عمر على)

    العسكريون الإسلاميون: شركاء فى السلطة أم مالكون لها؟ (3/3)

    د. التجاني عبد القادر




    أشرنا فى المقال السابق الى أن أطرافا جديدة بدأت تظهر فى مسرح العمليات، يتمحور بعضها حول الدكتور حسن الترابى وبعضها الآخر حول الرئيس عمر البشير، وقلنا إن تلك المجموعات الجديدة سيكون لها دور متعاظم فى قيادة الحركة الإسلامية والدولة قد يفوق الدور الذى كانت تقوم به الشخصيات التى فجرت النزاع. ونود فى هذا المقال أن نستكشف المناخ النفسى والثقافى الذى تتولد فيه مثل تلك المجموعات، والدور الذى يمكن أن تلعبه فى "دحرجة" ما تبقى من القيادات الإسلامية غير العسكرية الى خارج السلطة. ولكننا قد لا نستطيع أن نفعل هذا الا بتوسيع زاوية الرؤية بإجراء نوع من المقارنة بين مسيرة الحركة الإسلامية فى السودان وحركات سياسية أخرى فى محيطنا الأفريقى- العربى.

    إن قراءة متأنية فى تأريخ حركات التحرير الافريقية والعربية تكشف عن نمط متكرر ظل يحكم المسار العام لمعظم هذه الحركات، ويمكن التعبير عنه بالصيغة التالية:

    1-أنه عادة ما تبدأ هذه الحركات بـ (تصور) بسيط ترى فيه نفسها على أنها حركات تحرير وطنى، ثم تصوغ لها فيما بعد رؤى أيديولوجية، أو منظومات فكرية، تخوض من خلالها نوعا من الحروب ضد عدو من الأعداء، قد يكون محتلا أجنبيا فى بعض الحالات، أو نظاما تسلطيا متحالفا مع العدو الخارجى فى حالات أخرى،

    2-إن حرب التحرير هذه غالبا ما تتولد عنها عاطفة قومية وتضامن وطنى واسع، ولكن ما أن تحقق نصيبا من النجاح العسكرى أو السياسى حتى تتحول حربها من الساحة الخارجية إلى الساحة الداخلية؛ فتبتلى بنوع من الحروب الأهلية التى تعشعش فى الأبنية الداخلية لحركة التحرير نفسها؛

    3-وأن الحرب الأهلية الداخلية ستقود فى محصلتها النهائية إلى تصنيع نظام "أوتوقراطى" فى داخل حركة التحرير، تكون نقطة ارتكازه ومحور وجوده "شخص/زعيم" يجمع بين الرمزية التاريخية، والموارد المالية، والسلطة الأمنية/العسكرية. وفى هذه المرحلة تتبعثر المنظومة الأيديولوجية الأولى، وينحل البناء التنظيمى الذى أسس عليها، ويتبدد التضامن الوطنى الذى صاحب نشأتها الأولى، ويتحول قائد الحركة من شخص ثوري يقود حركة تحرر ثورية إلى "زعيم ضخم" تحيط به الحاشية وأصحاب المصالح والأهواء،(وقد تسيطر عليه الذهنية التآمرية، ويستهويه النشاط السري))، ثم تتحول حركة التحرير تبعا لذلك إلى فصائل تتحارب فيما بينها،ثم يسعى كل منها سعيا حثيثا نحو التودد و التحالف مع الأعداء السابقين.

    فاذا أردنا أن نختبر صدق هذا المقولة فيمكن أن نلقى نظرة سريعة على الحالة الجزائرية مثلا، باعتبار أن حركة التحرير الجزائرية كانت هى أشهر تلك الحركات وأبلغها آثرا. سنلاحظ بوضوح نمط الانتقال من حرب التحرير الى الحرب الأهلية إلى النظام الاوتوقراطى. اذ أن الثوار الأساسيين الذين قادوا المعارك ضد لاستعمار الفرنسي تمت إزاحتهم بعد حرب أهلية طاحنة مهد لها وأدارها انقلاب داخلي قام على تحالف بين بن بللا و بومدين، ثم لم يلبث الانقلابيون أن انقسموا على أنفسهم فأطاح بو مدين بحكومة بن بللا وطويت صفحة الأيديولوجية القديمة، وجمعت السلطات كلها فى يد الزعيم الاوتوقراطى الجديد الذى تحول إلى زعيم عصابة، ثم يلتفت يمنة ويسرى فلم يجد قوة دولية أو أقليمية يتحالف معها سوى الدولة الفرنسية؛ الدولة الفرنسية ذاتها التى كانت تمثل العدو الإستراتيجى لجبهة التحرير الجزائرية.

    ويمكن أن نختبر صدق المقولة مرة ثانية بأن ننظر فى الحالة الفلسطينية، باعتبار أن حركة التحرير الفلسطينية هي أيضا من اشهر حركات التحرير فى الإطار العربى-الاسلامى. فقد تأسست كما هو معلوم فى عام 1957 لتجسد نضال الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الاسرائيلى، ولكن بعد نحو عقدين فقط تحولت حروبها التحريرية من الجبهة الخارجية الى الداخل، وتبعثرت منظومتها الأيديولوجية الأولى، وتكاثرت التنظيمات المتصارعة فى داخلها، وبرز الى جانب القيادات التاريخية جيل ثانى وثالث من الشباب الذين تمرسوا فى مقارعة العدو الإسرائيلى، أو أمضوا مددا فى سجونه، فأخذوا يطورون آيديولوجية جديدة، ويصنعون قيادات بديلة، ويبلورون رؤية استراتيجية مغايرة.على أن تلك النزاعات الداخلية (و التى بلغت فى بعض الأحيان مستوى الحرب الأهلية) لم تؤد الا لبروز وتصنيع وهيمنة القيادة الاوتوقراطية لياسر عرفات، وهى هيمنة لم تكن قائمة على الوضوح الفكري أو النقاء الثوري القديم بقدر ما كانت تقوم على الرمزية التاريخية مع الإمساك بزمام الأجهزة الأمنية والموارد المالية. ثم لم يجد ياسر عرفات صديقا أقليميا أو دوليا يعقد معه "تحالفا" أو يقيم معه "شراكة" الا الدولة الإسرائيلية؛ الدولة الإسرائيلية ذاتها التى كانت تمثل العدو الإستراتيجى لمنظمة التحرير الفلسطينية؛ المنظمة التى لم تقم فى الأساس الا لمقومة الإحتلال الإسرائيلى. ولك أن تجرى هذا على الحالة الناصرية فى مصر، أو الحالات البعثية فى سوريا والعراق.

    والسؤال الحرج هنا: هل نستطيع أن نعمم هذا النمط ونجعله يتسع لتفسير الحالة السودانية؟ هل يمكننا مثلا أن نقول على سبيل المقارنة: أن "حرب الجنوب" كانت بمثابة الشرارة التى تولدت عنها "ثورة الإنقاذ" ؟ اذ نلاحظ أن بعض العسكريين الإسلاميين الذين حملوا مشروع الإنقاذ لم تختبر قدراتهم العسكرية، ولم تنضج رؤاهم السياسية الا فى أتون تلك الحرب، كما أن السياسيين الإسلاميين الذين اشتركوا مع العسكريين فى ابرام الخيوط الدقيقة للحركة الإنقلابية فى 30يوليو1989 لم يفعلوا ذلك الا تخوفا من "حرب الجنوب"، ومما قد تجره من غلبة للمعسكر العلمانى- اليسارى الذى يلتقى "مصلحيا" مع القوى الغربية المناهضة للحركة الإسلامية. وهل يمكننا أن نتقدم خطوة أخرى فى هذا الإتجاه فنقول: وكما أن حروب التحرير الجزائرية والفلسطينية قد ولدت عاطفة دينية وتضامنا وطنيا أعقبته حروب داخليه ثم تصالح/تحالف مع العدو الإستراتيجى السابق، فان "حرب الجنوب" قد ولدت مثل تلك العاطفة وأوجدت مثل ذلك التضامن، وأنها، اتساقا مع ما سبق، ستولد (أو هى قد استولدت بالفعل) حروبا فى داخل الحركة الإسلامية، تماما كم وقع فى حالتى الجزائر وفلسطين، وأن تلك الحروب الداخلية حول السلطة ستقود الى تصنيع نوع من القيادة الأوتوقراطية، ثم الى "التحالف" مع الأعداء الإستراتيجيين، كما وقع أيضا فى حالتى الجزائر وفلسطين؟وكيف يتم مثل هذا التغيير دون تغيير مماثل على مستوى الآيديولوجيا؟

    (ب)

    إن القيادة السياسية، أيا كان نوعها، لا تصنع نفسها بنفسها، وانما يتم "تصنيعها" فى اطار الثقافة والتقاليد الاجتماعية التى تحملها العضوية معها وهى تنضم الى الحزب السياسى، فهذه التقاليد والثقافة قد تكون لهما قدرة على التأثير تفوق قدرة الإجراءات والنظم الإدارية التى يرسمها الحزب، مما يعنى أن بعض هذه النظم الحزبية قد تتحول فى كثير من الحالات الى مجرد "هياكل" فارغة لا تخدم غرضا غير " تمرير" أو تبرير الأنشطة والصفقات والتحالفات التى تم ابرامها "بصورة غير رسمية" وراء الكواليس أو فى الجلسات العائلية الخاصة. وهذه بالطبع قضية لا تخص الاسلاميين وحدهم وانما تتعداهم الى المجموعات السياسية الأخرى فى السودان وغيره من البلدان الافريقية والعربية، بل وحتى فى الدول الغربية "الحديثة"، اذ تكاثرت الدراسات عن دور العلاقات الشخصية وتأثيرها المتعاظم في المؤسسات السياسية والأطر الحزبية الحديثة، مما جعل "جبرائيل ألموند" رائد المدرسة الوظيفية في السياسة يقر بأن الحزب السياسي الحديث، القائم على عمومية الجمهور وبيروقراطية التنظيم، لم يخفق فقط في تحقيق نفوذ مماثل للنفوذ الذى كان يتمتع به الزعماء التقليديون(العمد والمشايخ والنظار)، وإنما أستصحب معه البني التنظيمية الأكثر تخلفا ليصير بذلك خليطاً من النظامين التقليدى والحديث.

    إن مثل هذا التداخل والتزاوج بين البنية القانونية الرسمية المعلنة(الهيكل التنظيم/اللوائح/الدستور( والبنية التحتية عير المعلنة)الشلة،الدفعة،الحاشية، التلاميذ( والقائمة على خصوصية العلاقات والمصالح يظهر بصورة أوضح في المجتمعات الإسلامية التقليدية، اذ سرعان ما تتحول الأجهزة الرسمية للدولة أو الحزب الى مجرد غطاء فوقى ، وذلك مقارنة مع النفوذ والتأثير العميق الذي يأتي عن طريق الاتصال الشخصي والتعبير غير المباشر عن رغبات الآخرين ومطالبهم. ولا يختلف تنظيم الحركة الإسلامية السودانية عن هذا النمط، فهو كذلك يجمع بين الحداثة والتقليد، يضاف الى ذلك ما يسود بين أفراد التنظيم من قناعة دينية وأخلاقية تجعل التنافس السياسى المكشوف واحدا من أمور"العيب"، فيستحى الشخص أن يعبر صراحة عن رغبته في أن يكون في موقع تنفيذي في داخل الحركة الإسلامية أو في الدولة. ترتب على هذه الثقافة، التي يختلط فيها التقليد الاجتماعي والديني، أن تبلورت في داخل التنظيم ثلاثة أنماط من الميول النفسية تجسدت في ثلاث مجموعات من الأفراد:

    1- مجموعة ضعفت لديها الرغبة في التنافس السياسي المباشر، أو أنها استطاعت أن تتحكم بصورة كبيرة في تلك الميول وتصرفها نحو مسارح أخرى للعمل العام (مثل التجارة أو العلم أو الجهاد أو العمل الخيرى) ؛

    2- مجموعة تحركها رغبة قوية في السلطة السياسية، وتملك قدرات تؤهلها للمنافسة ولكنها لا تستطيع التعبير الصريح عن ذلك؛

    3- مجموعة لها رغبة قوية في السلطة السياسية، ولكنها لا تمتلك قدرات حقيقية تمكنها- فى منافسة حرة وشريفة- من نيل ثقة العضوية القاعدية أو الجمهور العريض، ولذلك فهى تسعى لتحقيق رغباتها من خلال الالتفاف حول شخص "محورى" فتعبر عن بعض رغباته أو تنفذ بعض سياساته حتى تتمكن تدريجيا من تطويقه لتتمكن هى من تحقيق رغباتها. أى أن أعضاء هذه المجموعة يقومون بدور "وظيفى" فى المرحلة الأولى من مراحل "تمكنهم"، ثم يتحولون فى المرحلة التالية الى مواقع القرار وصناعة الزعيم، وينبغى أن نلاحظ هنا أن هذه المجموعة ستكون هى الأكثر نفوذا والأبلغ أثرا في التنظيم والدولة معا، وهى التي يمكن أن تتحكم فى المجموعات الأخرى. وإذا شئنا أن نكون أكثر صراحة فيمكن أن نقول أن الترابي والبشير وعلى عثمان يمثلون شخصيات "محورية" ولكن لا يمكن لأي منهم فى مرحلة ما بعد الإنشقاق أن يحقق أهدافه السياسية الا من خلال "الصنائع" كما فى تعبير ابن خلدون الذى يرى أن انهيار الدولة يبدأ بعملية صراع وانشقاق فى داخل النخب الحاكمة، ثم يتبع ذلك اندفاع فى اتجاه البحث عن أولياء وصنائع من خارج العصبيات التى تنتمى إليها النخب(أى من خارج التنظيم الإسلامى فى حالتنا نحن)، ولكن الصنائع الجدد فوق أنهم لا يوفرون مشروعية فهم أيضا بحسب ابن خلدون قد تحدث لهم "دالة واعتزاز" على صاحب الدولة، مما يضطره الى منافرتهم واستعمال سواهم، فتتولد بؤر جديدة للصراع لا يكون لصاحب الدولة قدرة على التحكم فيها، ولكنه لا يستطيع فى الوقت نفسه أن يستغنى عن صنائعه ومواليه على فسادهم.

    هذا النوع من الارتباط بين الشخصية المحورية و المجموعات الوظيفية هو ما يفسر لنا (أولا) "سر" بقاء بعض الشخصيات فى مواقعها فى التنظيم وفى حكومة الإنقاذ طيلة العقود الأخيرة، وذلك على الرغم من أن بعضها يتمتع بسمعة سيئة فى القواعد التنظيمية وفى الشارع السوداني ويشار إليه فى كليهما بأصابع الإتهام؛ وبعضها غير مؤهل أساسا من حيث التكوين الفكري العام أو العلم الاسلامى الخاص او حتى الثقافة السودانية الشعبية الدارجة لأن يوضع على مكتب قيادي فى حركة إسلامية تدعى أنها تقود نهضة حضارية وتخوض معاركا من أجل تجديد الفكر الاسلامى. كما أن هذا الارتباط يفسر لنا (ثانيا) أن هذه الشخصيات "المحورية" لا تمتلك القوة "الخارقة" التى يتوهمها البعض. مما يعنى أن الصراع الذى فجره الترابى والبشير قد أكتسب ديناميكية خاصة به، وأن أيا منهما لن يستطيع التحكم فيه، بل إنه سيستمر فى مساراته الخاصة سواء تصالح الترابي والبشير أو ظلا على خلافاتهما القديمة. كما أن هذا الترابط يكشف لنا (أخيرا) سبب انعدام الرغبة لدى أى من هذه الشخصيات المحورية فى تطوير أيديولوجية واضحة المعالم، أو بلورة منظومة فكرية متماسكة البناء، أو بناء قاعدة فكرية متينة الأساس، وهى فالإيديولوجية( فى معناها الإيجابى غير الماركسى) تصلح أن تشكل معيارا "نظريا" يمكن الاستناد إليه فى بناء الهرم الحزبى وفى تصميم سياسات الحكومة وهياكلها الأساسية وتوجهاتها الكلية، وهى حلقة الوصل بين الفعل السياسي ومنظومة الاعتقادات(والقيم والأفكار) التى يؤمن بها أعضاء الحزب وجمهوره، أما فى غيابها فستختفي الأطر النظرية والمحددات الأخلاقية وتبرز الشخصيات المحورية فتنجذب نحوها مراكز القوى والبطانة وأصحاب المصالح الخاصة، وهذا هو بالطبع المناخ المثالى الذى يتم فيه وتمرر فيه التحالفات وتقديم التنازلات على مستوى الآيديولوجى والسياسى.

    (ج)

    ولكن كيف وقع مثل هذا "الفراغ الإيديولوجى" فى الحالة الاسلامية السودانية؟ وماذا سيترتب عليه؟ وقع ذلك لأن قيادة الحركة كانت تخشى أن تلصق بها صورة "رجال الدين"، وتحرص على أن تعرف بأنها حركة تجديد تختلف شكلاً ومضموناً عن أنماط القيادات الدينية التقليدية السائدة في بعض المجتمعات الإسلامية. وقد كان لهذا التقدير ما يبرره، وقد أصابت الحركة من ورائه شيئاً من النجاح. ثم تمادت الحركة في هذا الاتجاه وصارت تحرص على إلا يكون لها مذهب فقهي بعينه، وهو الاتجاه عينه الذي سارت عليه المدرسة السلفية المتمثل في العودة إلى الكتاب والسنة والاستئناس بآراء الفقهاء دون تعصب لأحد أو أتباع له إلا بدليل. وكل هذه لا غبار عليه من الناحية النظرية، إلا أنه من حيث الواقع أدى إلى نشأة فراغ فكري في قواعد الحركة، فإذا كان رجال الدين التقليديون غير مرغوب فيهم ولا تعمل الحركة على إعادة إنتاجهم، وإذا كانت المذاهب الفقهية ليست محل اهتمام في برامج الحركة، واذا كانت المدارس والجامعات الحديثة (التى يتخرج فيها معظم أعضاء التنظيم) هى مؤسسات "مفرغة" من الدين تماما، فمن هو الذى سيكون مؤهلا علميا أذن ليعود مباشرة إلى القرآن والسنة، و يؤسس منظومة فكرية تتجاوز التراث وتستوعب قضايا العصر؟ أو فلنطرح السؤال بصورة أخرى فنقول: لماذا لم تسع الحركة الإسلامية بصورة إيجابية لتصنيع قيادة فكرية تسد الفراغات التي أوجدها غياب القيادة الدينية التقليدية في داخل التنظيم الإسلامي؟.

    قد يقال فى هذا الصدد أن تكوين القيادات الفكرية ليس من مهمة التنظيم الإسلامي، وإنما تضطلع بذلك مؤسسات التعليم ومراكز الثقافة والتوجيه، وهذا يمكن أن يقال فى معرض الإيضاح لخصائص التنظيم الإسلامي، فهو تنظيم مفتوح لا يلزم عضويته إلا بعهد الولاء للجماعة والالتزام بما ينعقد عليه إجماعها، على أن هذا لا يخفي الإشكال الأساسي المتمثل في ضآلة العناصر ذات التكوين الفكري المناسب، والتي يكون في مقدروها الإسهام في صياغة برنامج الحركة وبلورة المفاهيم الأساسية فيه ووصلها من جهة بأصول الشريعة ومقاصدها العامة وإيصالها إلى جمهور الناس في الجهة الأخرى. هذه الضآلة في العلم والهشاشة في التكوين الفكرى كان من الممكن التغلب عليها بعدة طرق إذا اجتهدت القيادة في ذلك، ولكن القيادة لم تكن راغبة فى ذلك لأنه لا يصب في اتجاه "القصر الجمهوري".

    كما كان يمكن النزاع نفسه أن يكون محركا للفكر، فتتولد عنه رؤية فكرية جديدة ،كما حدث فى حالات

    مشابهة أخرى، ولكن نزاع الإسلاميين فى السودان لم يستطع، برغم تطاول فترته الزمنية، وبرغم الصخب والضجيج الذى صاحبه، أن يبرز رؤية جديدة، ولم يستطع أي من طرفي النزاع أن يبلور "أطروحة" متماسكة تصلح أن تكون إطارا لنقض بنيان سابق أو لرفع بنيان جديد. وكلما فتح حوار عام إلا وأغلق على جناح السرعة حتى لا تتعرض الشخصيات الأساسية(الترابى/البشير) لأى نقد حقيقى.

    . أما فى الجانب الآخر فقد كان من الممكن أيضا "لمجموعة القصر" الا تكتفى بمذكرة واحدة يتيمة بل تطور أطروحة متكاملة تفصح من خلالها عن رؤية تنتج برنامجا(خاصة وأن هذه المجموعة استطاعت أن تخترط الحزب والدولة) غير أنها اكتفت بهز "الهيكل" الإدارى وما أن تمت ازاحة "الشيخ" الا وانصرف كل من أفرادها فى حال سبيله. ولا يقبل أن يقال فى هذا الصدد أنهم ليسو مفكرين أو أن قائد مجموعتهم رجل جيش ودولة ولا شان له بالأمور الفكرية، اذ أن من أخص خصائص الحركة الإسلامية أنها حركة فكرية-اجتماعية تسعى لإصلاح الفكر والمجتمع معا، فمن يكون قائدا لها ولدولتها لا بد أن يكون منشغلا بأمور الفكر والنظر كانشغاله بأمور العمل. ولكن الرؤية الفكرية المتماسكة غير مرغوب فيها لأنها تحد من تمدد الجماعات الوظيفية، وتمنع من تحول الشخصية المحورية الى مركز للوجود السياسى.

    ولن تبقى، والحالة هذه، الا ثلاثة مسارات: المسار الأول: أن تتم دحرجة من تبقى من قيادات الحركة الإسلامية القديمة الى خارج السلطة(كما دحرج العسكريون الأوائل أو كما أخرج الترابى) بسبب من نزاع فى المواقع، أو اختلاف فى الرؤى، أو ضغوط من الحلفاء، فيتحول العسكريون من موقع الشريك الى موقع المالك، وتعود القيادات الإسلامية المزاحة الى تقاليدها السابقة فى التربية والتنظيم؛المسار الثانى: أن تبقى الدولة على بعض عناصر الحركة الإسلامية ولكنها تذهب،أى الدولة، فى تأليف واصطناع موالين جدد واستقطاب قاعة شعبية بديلة، وتكون عندئذ العلاقة بينهما وبين الحركة الاسلامية علاقة توظيف للشعار والرموز وليست علاقة المشاركة فى الرؤية وصناعة القرار؛ المسار الثالث( وهو الأصعب) أن تبق الحركة والدولة معا، ولكن فى هذه الحالة ستحتاج الحركة الإسلامية الى أمور كثيرة، قد يكون على رأسها "فك وإعادة التسجيل"، وذلك على طريقة الأندية الرياضية، أى أن الحركة الإسلامية تحتاج، بعد هذه السلسلة الطويلة من الأحداث (والكوارث) أن تنظر فى "المرآة" وتقول لنفسها: ان دورة طويلة من "اللعب المتواصل" قد بلغت نهاياتها، وان بعض "لاعبينا" قد بلغوا مرحلة الشيخوخة، وان بعضهم قد ترك الرياضة وانصرف الى مهن أخرى، وإن البعض الآخر ممن هو محسوب علينا وقادر على اللعب صار يسدد ضرباته ورمياته فى "شباكنا"، فنحن نحتاج فى هذه الحالة الضبابية الى استراحة محارب نتحسس فيها رؤوسنا ومواقع أقدامنا، ونستعيد فيها توازننا، ونعيد فيها تعريف أنفسنا، وفحص عضويتنا، واختيار قيادتنا، ورسم استراتيجيتنا، ثم من بعد ذلك(وليس قبله) ننظر فى متن "الشراكة" القديمة مع العسكريين وامكانية العمل معا على تطويرها فى اتجاه استراتيجية اسلامية أعمق تنتظم وتتوازن فيها علاقات ومؤسسات التنظيم والدولة والمجتمع.غير أن السير فى هذا الإتجاه محفوف بالمخاطر، لأنه سيقتضى فى بعده النظرى مراجعة شاملة لكثير من المفاهيم والتوجهات، وبلورة رؤية جديدة، ترد اليها الاتفاقات والتحالفات والسياسات، كما سيؤدى فى بعده العملى الى سحب المشروعية من الحاشية والجماعات الوظيفية وإزاحتها من مراكز القيادة فى التنظيم والدولة.

    وهذه هي العقبة الكأداء التي تحطمت فيها من قبل كثير من حركات التحرر، والتى إما أن ستعجز فى بناء نظام سياسى تتناسق فيه حركة الدولة والحزب والمجتمع، فتسقط في مرحلة التحول ليخلفها نظام سياسى مغاير، وإما أن تنخرط هى ذاتها فى النظام العسكرى- الأوتوقراطى فتفقد خطوط اتصالها وامداداتها الشعبية،كما تفقد وجودها الحزبى المستقل وتتحول الى مرفق من مرافق الدولة تحاول أن تجد لها مكانا بين "الصنائع" والإنتهازيين.
                  

07-30-2007, 08:06 PM

على عمر على
<aعلى عمر على
تاريخ التسجيل: 12-13-2003
مجموع المشاركات: 2340

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا (Re: على عمر على)

    الرأسماليون الإسلاميون: (1-2)

    مـــاذا يفعلـــون فى الحـــركة الإســـلامية؟
    د. التجاني عبد القادر

    (1)

    أشرت فى مقال سابق إلى إرهاصات تحول إستراتيجى وقع فى مسار الحركة الإسلامية، وذكرت أنه صار يتجسد سياسيا فى تحالف ثلاثى بين "القبيلة" و"السوق" والذهنية الأمنية"، ثم تحدثت فى مقالين تاليين عن هذه الذهنيةالتى هيمنت على التنظيم وحولت سائر نشاطه الى ملفات أمنية، وأريد فى هذا المقال أن أتحول الى السوق، لنرى ظاهرة أخرى تتمثل فى "الذهنية" التجارية وفى العناصر الرأسمالية التى صارت هى الأخرى تنشط وتتمدد حتى كادت أن "تبتلع" الجزء المتبقى من تنظيمنا الإسلامى الذى لم ننضم اليه أصلا الا فرارا من الرأسمالية المتوحشة.
    ولما كان الشىء بالشىء يذكر، فقد كتب صديقنا عبد المحمود الكرنكى،الصحفى والملحق الإعلامى السابق بلندن، كتب ذات مرة فى أوائل الثمانينات مقالا لصحيفة الأيام تعرض فيه بالنقد لممارسات بعض "أخواننا" العاملين فى بنك فيصل الإسلامى. كانت رئاسة الصحيفة قد أوكلت آنذاك، ابان ما عرف بالمصالحة الوطنية، الى الأستاذ يسين عمر الإمام. وقبل أن ينشر الموضوع وصل بصورة ما الى الدكتور الترابى، فلم يعجبه وطلب من الكرنكى أن يعرض عن نشره، على أن يبلغ فحواه الى "أخوانه" فى البنك على سبيل النصيحة. قال له الكرنكى: لن أنشر الموضوع احتراما لرأيك، ولكنى لن أتقدم بأية نصيحة لأحد. ولما سأله الترابى عن سبب ذلك، قال له: هب أنى تقدمت اليهم بنصيحة، ثم تقدم اليهم "الأخ" الطيب النص بنصيحة أخرى، فبأى النصيحتين يأخذون؟ وكان الطيب النص آنذاك من التجار/المستثمرين الكبار الذين يحبهم مديرو البنوك، ويطيلون معهم الجلوس، ويولونهم إهتماما لا يولون معشاره لأقوال الصحف والصحفيين، خاصة الفقراء منهم. وقد أحس الكرنكى بذلك وأدرك أولا أن بعض "أخواننا" قد داخلهم "شىء ما" أفقدهم القدرة على تذوق النصيحة "الناعمة" والموعظة الحسنة، كما أدرك ثانيا أن العلاقة بين التنظيم والسوق، والتى يمثل(اكس) "همزة الوصل" فيها، قد بلغت من القوة مبلغا لا تجدى معه المواعظ الأخوية والنقد السرى. والسيد (اكس) ليس هو التاجر المجرد، وانما هو تاجر"إسلامى"، وهو حينما يذهب الى موظفى البنك "الاسلامى"، أو الى العاملين فى مرافق الدولة لا يذهب كما يذهب عامة التجار وانما يذهب ومعه هالة التنظيم، ليتوصل الى مصالحه الخاصة، وهذا هو مربط الفرس وبيت القصيد، أى أن "المصالح الخاصة" التى تتخذ لها غطاء من "التنظيم" هى محل الإشكال وموضع النظر فى هذا المقال.
    والسؤال هنا: كيف بدأت العلاقة بين التنظيم والسوق؟ وفى أى اتجاه تطورت، والى أى شىء يتوقع لها أن تقودنا؟ أظن أن بداية هذه العلاقة تعود الى فكرتين بسيطتين احداهما صحيحة والأخرى خاطئة. أما الفكرة الأولى الصحيحة فهى أن اصلاح المجتمع السودانى أو اعادة بنائه على قواعد الاسلام وهديه(وذلك هو الهدف الأساسى للتنظيم) يستلزم تجديدا فى الفكر الاسلامى ذاته، تتمخض من خلاله رؤية تحريرية-تنموية، يتوسل بها لانتزاع الإنسان السودانى من براثن الجهل والمرض والفاقة، وذلك من خلال بناء نماذج فى التنظيم والقيادة، ونماذج فى المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والتربوية تكون كل واحدة منها "بؤرة إشعاع" يلتقى فيه الهدى الدينى، والعرف الإجتماعى، والخبرة التقنية،والقيادة الرشيدة. ولكن العمليات البنائية هذه لا تكتمل إلا بتنظيم دقيق ومال وفير، فهما وسيلتان أساسيتان من وسائل التحرر والنهضة الإجتماعية الإسلامية، ولكن لا ينبغى للوسيلة "التنظيم" أن تتحول الى هدف، كما لا ينبغى أن تكون للعاملين على تحقيق هذه الوسائل "أجندة خاصة"، كأن يتحولوا هم الى أغنياء ثم يتركوا التنظيم والمجتمع فى قارعة الطريق.
    أما الفكرة الثانية الخاطئة فهى أن "التنظيم" لا يكون قويا الا اذا صار غنيا، ولن يكون التنظيم غنيا فى ذاته وانما يكون كذلك اذا استطاع أن يأخذ بعض المنتسبين اليه "فيصنع" منهم أغنياء، بأن يضعهم على قمة المؤسسات الإقتصادية:مديرون لبنوك، ورؤساء لمجالس الإدارات والشركات، ومستشارون قانونيون، وفقهاء شرعيون ملحقون بالبنوك، فيصير هؤلاء أغنياء ليس عن طريق الرواتب الكبيرة والمخصصات السخية فحسب وانما عن طريق السلفيات طويلة الأجل، والقروض الميسرة، والمعلومات الكاشفة لأوضاع السوق ولفرص الإستثمار. هذه الرؤية الخاطئة لم أستطع أن أتحقق من مصدرها بعد، ولكنى أذكرها لأنها صارت رؤية سائدة وذات جاذبية كبرى، وكان من نتائجها أن تولد لدينا "مكتب التجار"، ليكون بمثابة الأصابع التنظيمية فى السوق، ثم تحولت "إشتراكاتنا" الصغيرة الى شركات(كيف؟ لا أدرى)، ثم صارت كل شركة صغيرة تكبر حتى تلد شركة أخرى، ولما لوحظ أن عددا كبيرا من العضوية الإسلامية ميسورة الحال يوجد فى السعودية وفى دول الخليج الأخرى، أنشأ "مكتب المغتربين"، ليقوم بجمع الاشتراكات، ثم تحولت وظيفته بصورة متدرجة الى ما يشبه الوساطة التجارية والوكالة والإستثمار. ولما لوحظ تكرر المجاعات والكوارث فى السودان، أنشئت أعداد من المنظمات الخيرية التى تهتم بالعون الإنسانى، ولكنها تركت لأصحاب العقلية الرأسمالية التوسعية، فصار القائمون عليها فى كثير من الأحيان ينحدرون من الشريحة التجارية ذاتها؛ الشريحة التى تتخندق فى البنوك والشركات والمكاتب التجارية.
    ثم جاءت ثورة الإنقاذ، فكانت تلك هى اللحظة التأريخية التى وقع فيها التلاحم الكامل بين الشريحة التجارية المشار اليها، والمؤسسات الإقتصادية فى الدولة، فمن كان مديرا لبنك البركة صار وزيرا للمالية والإقتصاد، ومن كان مديرا لبنك فيصل صار محافظا لبنك السودان المركزى، ومن كان مديرا لشركة التأمين الإسلامى صار وزيرا للطاقة، فاذا لم يصب فيها نجاحا خلفه عليها مدير بنك التضامن أو بنك الشمال الإسلاميين، الى غير ذلك من وزراء الدولة ووكلاء الوزارات. وكل من هؤلاء لم يعرف لأحدهم أسهام أصيل فى الدراسات الإقتصادية، أو رؤية عميقة للتنمية الإسلامية، ولكن كل هؤلاء يعرف بعضهم بعضا معرفة شخصية، وكانت لهم ذكريات مشتركة فى المدارس، أو فى العمل التنظيمى، فصاروا يديرون الإقتصاد السودانى كأنما هو شركاتهم الخاصة، وتحولوا تدريجيا الى نخبة حاكمة مغلقة، فاذا خرج أحدهم من وزارة أعيد الى وزارة أخرى أو أعيد الى "مملكته" السابقة، أو أوجدت له شركة خاصة للاستشارات أو المقاولات أو الإنشاءات، وذلك ريثما يخلو أحد المقاعد الوزارية، فى تطابق تام مع نظرية "تدوير النخبة الحاكمة" التى قال بها عالم الاجتماع الأمريكى رايت ميلز وآخرون. وبهذه الطريقة تم تمرير وتسويق المفاهيم الرأسمالية وتوطينها فى برامج الدولة والتنظيم، وبهذه الطريقة سدت المنافذ لأية محاولة جادة لبلورة مذهب اسلامى أصيل فى التنمية الإقتصادية،وبهذه الطريقة تحول التنظيم الى ما يشبه "حصان طروادة" يشير مظهره الخارجى الى صرامة المجاهدين وتقشف الدعاة، أما من الداخل فقد تحول الى سوق كبير تبرم فيه الصفقات، وتقسم فيه الغنائم، دون ذكر لتجديد الفكر الإسلامى أو لنموذج التنمية الإسلامية الموعودة، وبهذه "الطريقة" صار أفراد هذه الشريحة أغنياء بينما ترك "التنظيم" ليزداد فقرا وتمزقا،بل إن عامة العضوية ظلوا فقراء مثل عامة الشعب برغم الشركات الكثيرة التى تم توزيعها بين المؤتمرين الوطنى والشعبى؛ الشركات التى أسست باسم الإسلام ومن أجل نصرة الفقراء والمستضعفين.
    (2)
    وما الغضاضة فى ذلك، يقولون، ألم يعمل النبى عليه السلام فى التجارة، وكان بعض الكبار من أصحابه تجارا، وأن التجار قد نشروا الإسلام فى بقاع العالم، وبفضل من أموالهم ترسخت دعائم الحضارة الإسلامية قرونا؟ ألم يساهم هؤلاء الرأسماليون الإسلاميون فى انجاح مشروع الانقاذ الوطنى، وفى تثبيت الحكومة فى أيامها الصعبة الأولى حينما قبض الناس أيديهم؟ أليست التجارة هى أحد ركائز التنمية؟ والإجابة على كل هذا: اللهم نعم، ولو شئنا الإستطراد فى اتجاه المبادىء والمثال لقلنا أكثر من هذا، على أن الاعتراض ليس على مبدأ التجارة ولا على صيرورة بعض الناس أغنياء(إذ نعم المال الصالح للعبد الصالح)، ولكن الإعتراض يتركز حول "الكيفية" التى صاروا بها أغنياء، أى ان الاعتراض ليس على "الثروة" فى ذاتها، ولكنه على استغلال "للعلاقات والمعلومات" التنظيمية (رأس المال الإجتماعى)) وتحوير اتجاهها وتسخيرها لتأسيس الشركات الخاصة ولتعظيم أرباحها، ولتأمين الحياة لأبناء النخب الحاكمة، ولأصهارهم وأبناء عمومتهم وأعيان قبائلهم،هذا هو المال غير الصالح الذى يتحكم فيه غير الصالحين، كما يفهم من الحديث النبوى بمفهوم المخالفة.
    الإعتراض إذن ليس على وجود شريحة من الأغنياء فى داخل الحركة الإسلامية، إذ لو تكونت تلك الثروة بطريقة مستقلة عن "التنظيم"(كما هو حال بعض الإسلاميين) لما حق لأحد أن يتساءل، وذلك على مثل ما يحدث فى المجتمعات التى شهدت ظاهرة الإقطاع، حيث لا يوجد معنى للسؤال عن "كيف" صار بعض الناس أغنياء، لأن المجتمع تكون "تأريخيا" من "الفرسان النبلاء" الذين اغتصبوا الأراضى عنوة بحد السيف، وظلوا يتوارثونها جيلا بعد جيل تحت حماية القانون ومباركة العرش، فأكسبتهم تلك الملكية قاعدة اقتصادية راسخة، ووجاهة اجتماعية ونفوذا سياسيا لا يضارعهم فيها أحد. أما فى حالة المجتمع السودانى، وفى حالة الحركة الإسلامية السودانية بصورة خاصة فلم تكن توجد طبقة من النبلاء الأرستقراطيين ملاك الأراضى(أو الباشوات)، اذ أن الغالبية العظمى من الشعب لم تكن تملك شيئا، كما أن الغالبية العظمى من عضوية الحركة الإسلامية جاءت اما من أدنى الطبقة الوسطى، من شريحة الموظفين محدودى الدخل، واما من الشرائح الاجتماعية الفقيرة القادمة من قاع المجتمع ومن هوامشه الاقتصادية. يتذكر كاتب هذا المقال أنه فى أواسط السبعينيات من القرن الماضى كان تنظيمنا يعمل من تحت الأرض، وأردنا أن نجد "أماكن آمنة" فى مدينة الخرطوم نخفى فيها أعضاء اللجنة التنفيذية لإتحاد طلاب جامعة الخرطوم من أجهزة الأمن التى كانت تطاردهم، فكان عدد الذين يملكون منازلا خاصة بهم (تتسع لاستضافة ثلاثة أشخاص أو أكثر) يعدون على أصابع اليد. وأذكر أن أحد أخواننا الذى امتاز بالسخرية والدعابة كان لا يخفى تذمره من البقاء فى المنزل العائلى المتواضع الذى استضيف فيه، فاذا سألناه قال: كيف أبقى هنا وكلما أردت الحمام هرعت الى الشارع لأبحث عن سيارة للأجرة. أما الآن فقد صار كثير من هؤلاء يمتلكون البنايات الطويلة، التى تقدر أثمانها بما لا نستطيع له عدا، وتدخل منزل أحدهم فترى ما لم تكن تسمع به حتى فى بيوت الباشوات، وتسأل أحدهم من أين لك هذا فيقول من "استثماراتى"، ماطا شفتيه بالثاء، ولا يذكر أنه الى عهد قريب كان يسكن بيتا من الجالوص الأخضر.
    فالسؤال إذن عن "الكيفية" التى تحولت بها هذه "البروليتاريا الإسلامية" إلى ما يشبه حالة البرجوازية سؤال مشروع، اذ أن كثيرا منا لم يأتِ الى الحركة الاسلامية، ويفنى زهرة شبابه فى خدمتها من أجل الحصول على الثروة ولكن من أجل العدل الإجتماعى، اذ أن قضية العدل الاجتماعي هي القضية الأم التي لم ينفصل الإسلاميون عن أحزابهم التقليدية وطرقهم الصوفية، ومجموعاتهم العرقية، الا من أجلها،كما لم يتصلوا بالحركة الإسلامية الا من أجلها.ولكن ما تقدم من سرد يشير الى أن قضية العدل الإجتماعى لم تعد هي القضية الأم في النموذج الراهن، وذلك لأن الفئات الثلاث التى يقوم عليها النموذج: الشريحة الرأسمالية المتحالفة مع القوى الأمنية والبيروقراطية فى داخل الدولة، ومع القوى القبلية فى خارجها، لم يعد لواحدة منها هم والتزام بقضية العدل الاجتماعي، فبيروقراطية الدولة لا يمكن أن تسعى في تحقيق العدل الاجتماعي لأنها لم تنشأ "تأريخيا" من داخل المجتمع، كما أنها لم تستطع فى عهد الإنقاذ أن تتحول الى نخبة "رسالية" مهمومة بقيم الدين، فلا هي إذن تعبر تعبيراً صادقا
    عن رغبات ومصالح "الناس" ، ولا هى تجسد قيم الكتاب، فهي مجروجة لانقطاعها عن الكتاب من جهة، ولابتعادها عن الناس من جهة ثانية، ولانحباسها في مصالحها وامتيازاتها ولانصياعها للشريحة الرأسمالية من ناحية ثالثة.
    وهذا على وجه الدقة هو ما يجعل أجهزة الدولة ومؤسساتها الإقتصادية أدوات طيعة تسخر لتحقيق مصالح المستثمرين والتجار (المحليين والعالميين) دون مراعاة جادة لمصالح الفئات الأخرى في المجتمع. وهو ما يؤكد القول بإن هناك تحالفاً مصلحياً بين بيروقراطية الدولة والشرائح الرأسمالية المتحكمة. وهو ما يوضح بصورة مباشرة لماذا صار بعض الثقات من الإسلاميين يوضعون مواضع الظنون والشبهات حينما يوضعون في المواقع العليا في بيروقراطية الدولة، ليس لأن هذه المواقع مسكونة بالشياطين، ولكن لأنها موصولة بمجموعات قرائبية/قبلية متضامنة، وبشبكات تجارية مترابطة ذات قدرة على الحركة والالتفاف تجعل الموظف أو الوالى أو الوزير يدافع عن سياساتها ومصالحها أكثر من دفاعه عن النموذج الإسلامى وعن المستضعفين من الناس.
    فالحديث إذن عن الشريحة الرأسمالية هذه لا يأتى من قبل الحسد أو الغبن، كما قد يتوهم بعض الناس، وانما يأتى الحديث عنها لأنها صارت تشكل مسار الحركة الإسلامية، وتحدد اختياراتها، واذا لم تتدارك الحركة الاسلامية أمرها بصورة جادة فانها سرعان ما تجد نفسها منقادة بقوى السوق، وسيكون أرقى مكاتبها هو مكتب التجار، وستكون أنشط عناصرها هم المقاولون ورجال و(سيدات) الأعمال، الذين يكون انشغالهم بالأرصدة والصفقات أكثر من انشغالهم بالكتاب وبالناس وبالقسط الاجتماعي، وسيصعب عليهم الاستماع الى النصائح الناعمة من أى أحد حتى ولو قرأ عليهم كل ما كتب فى أبواب الزهد والقناعة. أما القضايا الإستراتيجية الكبرى، مثل قضايا الحرب والسلام، والعلاقات الإقليمية، والسياسيات الخارجية، فستتحول في غيبة الجماعات العلمية القادرة، والمجالس التشريعية الحاذقة إلى ملفات أمنية أو إلى صفقات تجارية، وفي كلتا الحالتين فستتولاها مجموعات "أمسك لي واقطع ليك"، وهى مجموعات "براغماتية" نبتت فى داخل الحركة الاسلامية، يطيل أحدهم اللحية، ويتسربل بالملفحة الفخمة، ثم يخوض فى أسواق السياسة والإقتصاد على غير هدى أو كتاب منير.أما قضايانا الأساسية مثل تجديد الفكر الاسلامى، وبناء المناهج والنماذج، وبلورة الرؤى، وتأهيل الكوادر، ونشر الوعى، واحداث التنمية فستترك لشعراء المدائح النبوية، وللوعاظ المتجولين، ولوزارة الأوقاف والشؤون الدينية إن وجدت، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

    يقول الغزالى: اعلم أن الله عز وجل اذا أراد بعبد خيرا بصره بعيوب نفسه، فمن كانت بصيرته نافذة لم تخف عليه عيوبه، فاذا عرف العيوب أمكنه العلاج، ولكن أكثر الخلق جاهلون بعيوب أنفسهم، يرى أحدهم القذى فى عين أخيه ولا يرى الجذع فى عين نفسه...وكان عمر رضى الله عنه يقول:رحم الله امرءً أهدى إلى عيوبى، وكان داود الطائى قد اعتزل الناس فقيل له:لم لا تخالط الناس؟ فقال: وماذا بأقوام يخفون عنى عيوبى؟ ثم يقول الغزالى: وقد آل الأمر فى أمثالنا الى أن أبغض الخلق إلينا من ينصحنا ويعرفنا عيوبنا(الإحياء:كتاب رياضة النفس وتهذيب الأخلاق ومعالجة أمراض القلوب


    http://alsahafa.info/index.php?type=3&id=2147508520&bk=1 - http://alsahafa.info/index.php?type=3&id=2147508520&bk=1
                  

07-30-2007, 08:08 PM

على عمر على
<aعلى عمر على
تاريخ التسجيل: 12-13-2003
مجموع المشاركات: 2340

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا (Re: على عمر على)

    الرأسماليون الإسلاميون:
    ماذا يفعلون فى الحركة الإسلامية؟(2-2)

    د. التجاني عبد القادر


    (3)
    كنت أقف ذات مرة أمام شباك الزكاة بإدارة المغتربين بمطار الخرطوم استكمالا لإجراءات تأشيرة الخروج.سألنى الموظف باحترام ظاهر عن مقدار راتبى الشهرى، وقبل أن أنطق بشىء لكزنى الشخص الذى كان يقف خلفى فى الصف لكزة ذات معنى،ولما التفت اليه قال بنبرة حازمة: لا تخبره بكل المرتب، قل له أن مرتبى ألفين أو ثلاثة، أصلو ديل....، ثم قال كلمة جعلت موظف الزكاة يشيح بوجهه.دفعت الزكاة كاملة والرسوم وبعضا من متأخرات الضرائب ثم خرجت وأنا أشعر بغصة فى حلقى. صحيح أننى ذهبت لشباك الزكاة لأنى كنت محتاجا مثل غيرى لتأشيرة للخروج، ولكن الصحيح أيضا أننى كنت على قناعة بوجوب الزكاة باعتبارها عبادة فى ذاتها، وباعتبار أنها قد شرعت من أجل الفقراء والمساكين الذين قد تخرجهم اضطرابات المعاش، أو تشوهات الأسواق، أو طغيان رأس المال، قد تخرجهم من دورة الاقتصاد وتوقعهم فى ذل الحاجة،أو تدفعهم فى طريق الرذيلة أو الجريمة، فيريد صاحب الشرع من خلال نظام الزكاة أن يسد حاجاتهم الأساسية، وأن يحفظ كرامتهم الانسانية، حتى يتمكنوا من الاندراج مرة أخرى فى دورة الاقتصاد.قلت فى نفسى: لماذا غابت هذه "الرؤية" وحلت مكانها "صورة" سلبية عن الزكاة وعن العاملين عليها؟ هل يعود ذلك أيضا الى عدم الشفافية والصدق؟ اذ يرى الناس دقة وانضباطا فى "تحصيل" الزكاة ولكنهم لا يرون مثل تلك الدقة والانضباط فى "توزيعها"، يرى الموظف أن الزكاة تؤخذ منه على "دائرة المليم" ولكنه حينما يذهب الى قريته ويتعلق به الفقراء والمساكين وأولو القربى، فلا يصادف منهم من تلقى شيئا من الزكاة طيلة حياته الدنيا، فيقول فى نفسه: اذا كانت زكاتى لا تكفى فأين زكاة العمارات والمصانع والماكينات والفنادق والشاحنات والطائرات، ثم أين زكاة الذهب والنفط، ألم يقل سبحانه وتعالى(يأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما رزقناكم ومما أخرجنا لكم من الأرض)، أليس النفط "ركازا" أخرجه الله من الأرض، أو ليست زكاة الركاز الخمس(20%) كما ورد فى الحديث؟

    على أن الزكاة مهما تنوعت مصادرها وتكاثرت أقدارها ووزعت بالقسط ليست الا جزءا من رؤية اجتماعية-اقتصادية متكاملة؛ رؤية يعلو فيها الإنسان والعمل على المال، ويغلب فيها التضامن والتكافل على المحاصصة والأثرة، رؤية منحازة للمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، فهل نحن نملك هذه الرؤية؟وهل نحن جادون فى تطبيقها؟ سؤال نوجهه الى أنفسنا فى الحركة الاسلامية، ثم الى "الفريق" من مفكرينا الاقتصاديين وعلمائنا الشرعيين الذين ظلوا على رأس المصارف الإسلامية وديوان الزكاة وهيئة الأوقاف ووزارة المالية والتخطيط الإقتصادى ردحا من الزمن. هل منهم من يملك بالفعل رؤية إسلامية للاقتصاد، أم أن جل ما يعتمدون عليه هو صيغة "المرابحة" التى عثروا عليها جاهزة فى حاشية ابن عابدين فصارت وصفة سحرية تستخدمها البنوك الاسلامية فى تعظيم أرباح عملائها من الرأسماليين، ثم أضافوا اليها فتوى بعض علماء الأزهر بوجوب أخذ الزكاة من الموظفين دون انتظار الحول، ثم أضافوا لهما "روشتة" البنك الدولى برفع الدعم وتحرير الأسعار، أهذا هو الإقتصاد الإسلامى؟

    ان السؤال عن البعد الإسلامى فى السياسات الاقتصادية(ولا أقول البديل الاسلامى)ليس من نوافل القول أو فضول الكلام، وانما هو سؤال يتعلق بعلة وجود الحركة الاسلامية ذاتها كحركة اجتماعية-سياسية تتصدى للاصلاح والنهضة، غير أن الفريق الاقتصادى الحاكم، مثله مثل الفريق الأمنى، لا يهتم كثيرا "بالمرجعية الإسلامية"، ويعتبر ما نقوله ضربا من "الكلام الفارغ"، ولقد هالنى أن اطلعت ذات مرة على مقابلة مع واحد من القيادات الإقتصادية الاسلامية. كانت المقابلة تهدف لقراءة "ذهنية" النخبة الإسلامية المتحكمة فى القطاع الإقتصادى، وذلك أهم عندى من قراءة الأرقام التى يحيلوننا اليها، اذ بدون معرفة "الذهنية" يصعب علينا أن نتعرف على مرامى السياسات والخطط. كان السؤال المحورى فى المقابلة: ما معنى انتهاجكم سياسة اسلامية فى الإقتصاد؟وما هى المقومات الإسلامية فى الإقتصاد السودانى؟ وهو سؤال جيد فى نظرى لأنه يحاول أن يكتشف عما اذا كان الاقتصاديون الإسلاميون يملكون بالفعل رؤية أو "نموذجا"، وعما اذا كان ذلك النموذج المستبطن فى ذهن المخطط يرتكز بصورة واعية او غير واعية على مذهب إسلامى فى الإقتصاد، أم أنهم يسيرون على أهزوجة الشعار التى صاحبتنا طيلة العقود الماضية؟ وجه السؤال بصورة مباشرة لأحد وزراء الدولة آنذاك فى وزارة المالية، وهو رجل يحمل الدكتوراة فى مجال الإقتصاد، وظل لفترة طويلة يشغل مناصبا تنفيذية عليا فى القطاع الاقتصادى باختيار من قيادة الحركة الاسلامية والدولة،فأجاب على السؤال كما يلى: "هذا سؤال كبير يحتاج الى ندوة، ولكن التصور الإسلامى الكامل معروف، والمبادىء الاقتصادية تنطلق من التصور الاسلامى حول حقيقة هذا الكون من ربه والى أين يسير، وينطلق أيضا من المبادىء الأساسية فى القرآن والسنة والمعاملات وفى الاقتصاد..أنتهى"،

    والسؤال لم يكن بالطبع عن التصور الاسلامى العام للكون، أو المبادىء الكلية التى قررت فى القرآن والسنة، وانما كان عن "الطريقة" التى يتم عبرها تجميع وتنظيم تلكم التصورات الاسلامية العامة وتحويلها الى رؤية اسلامية-اقتصادية متماسكة تستوعب خصوصيات المعاش فى المجتمع السودانى بأوضاعه الراهنة،ثم ربطها بالخطط الإقتصادية الجزئية التى يشرف عليها سعادة الوزير، وما اذا كان لمثل هذه العملية نتاج معرفى ملموس يجعل الوزير وحكومته يعلنون على الملأ انهم ينتهجون سياسة اسلامية فى الاقتصاد، ولكن الوزير لم يشأ أن يواجه السؤال، ليس لجهله، وانما لمعرفته التامة بأن النخبة الرأسمالية التى يمثلها، والتى صارت تهيمن على مفاصل الدورة الاقتصادية فى الريف وفى المدن، لا ترى لها مصلحة فى استنباط مذهب اسلامى واضح فى الاقتصاد، لأن المذهب الاسلامى يضع محددات أخلاقية وقانونية على الثروة، كما يضع التزامات اجتماعية عليها، والشريحة الرأسمالية تريد أن يكون السوق "حرا" من هذه المحددات والإلزامات حتى تستطيع أن تعظم أرباحها كيفما تشاء؛ أى أن الشريحة الرأسمالية لا تريد "رؤية" اسلامية متماسكة، وانما تريد "شعارا" فضفاضا( أو قل ماركة تجارية) تحرك به العاطفة الدينية، وتستقطب به رؤوس الأموال.أما السذج من أمثالنا، والذين دخلوا فى الحركة الإسلامية على أمل أن يتمكنوا من بلورة برنامج اسلامى للتنمية الإقتصادية المتوازنة والعدل الإجتماعى، أو على أمل أن يوصلوا أصوات الفقراء المستضعفين الى مسامع السلطة، هؤلاء الساذجين عليهم أن يبحثوا عن طريق آخر، فالرأسمالية المتوحشة قد استولدت لها أنصارا فى صفوفنا الأمامية.

    (4)

    ويبقى السؤال الكبير: لماذا صار الانسان فى السودان على هذه الدرجة من الفقر حتى أنه صار يحتاج الى الصدقة والزكاة؟ ألم يكن القطاع الأكبر من الأسر فى الريف السودانى ينتج موادا غذائية تكفى حاجته المباشرة دون دعم من أحد؟ فكيف تحطمت تلك الوحدات الإنتاجية التى كان يعتمد عليها الوجود المادى للمجتمع، والمتمثلة فى الأسرة ذات المزرعة والمراح في القرية السودانية؟وكيف تبدل نمط الإنتاج التقليدى ومن الذى استفاد من ذلك؟ الأسباب عديدة ومتنوعة ولكن تأتى على رأسها أربعة: أولها الهجمة الهائلة التي قامت بها الأسواق الرأسمالية منذ زمن طويل في اختراق المجتمعات الزراعية والرعوية في الدول النامية وإدراجها في نظمها النقدية والصناعية بحيث صارت المزارع والمراعي في الدول النامية موارداًً رخيصةً لاحتياجات الصناعة الغربية من المواد الخام، دون اعتبارٍ لما يصيب البيئة من تخريب أو لما يصيب العامل من ضرر، فصار المزارعون والرعاة في الدول النامية ينتجون سلعا ً لأسواق عالمية لا قدرة لهم في التحكم فيها، ولا معرفة لهم بما تتعرض له من تقلبات، وما ينشأ فيها من تطورات، ودون أن يكون لهم بديل آخر يلوذون به؛ وثانى الأسباب هو إلحاح الدولة الوطنية، في مرحلة ما بعد الاستقلال السياسي، في الطلب على السلع الزراعية التي توفر عائدا ً نقديا ً بالعملات الأجنبية، لكي تتمكن من تغطية نفقاتها المتصاعدة، ليس في المجال التنموي ولكن في المجالات العسكرية والأمنية، على أن اعتماد الدولة شبه الكامل على قطاع الزراعة والرعي لم يقابله استثمار من قبلها في مجال البنيات الأساسية أو الأبحاث الزراعية والصناعية أو الحماية البيئية أو الخدمات الاجتماعية التي يحتاجها الريف "المخزن"؛ وثالث تلك الأسباب هو تشريد المزارع التقليدي واخراجه من الأرض، وظهور المزارع "التجاري" والمشاريع الزراعية التجارية، حيث يكون الاعتماد على رأس المال والآلات الحديثة أو العمالة الرخيصة؛ وآخر تلك الأسباب هو ضمور القطاع الصناعي الوطني وعجزه المستمر، إذ لم تستطع الدولة أو الرأسمالية المحلية المرتبطة بها أن توطن أي صناعة من الصناعات الاستراتيجية أو تنفذ خطة مناسبة للنهضة الصناعية. فكان لزاما ً أن يؤدي تدهور القطاع الصناعي وعجزه إلى تدهور أكبر في القطاع الزراعي.

    وكانت النتيجة، كما هو متوقع في مثل هذه الحالة، أن يتم الفصل بين المزارع التقليدى والأرض من جهة، ثم يفصل بينه وبين أدوات الإنتاج ورأس المال من جهة ثانية، فيجبر عدد كبير من المزارعين والرعاة ليصيروا عمالا ً مؤقتين في قطاع صناعي كسيح ليست له قدرة على البقاء فضلا ً عن النمو وامتصاص العمالة الفائضة، أو جنودا فى الجيش والشرطة والسجون، أو "خفراء" فى قطاع المنشئات والمبانى،أو يتركون فى قارعة الطريق، حتى صار من المألوف فى السودان أن ترى الرعاة يتجولون بلا ماشية، وأن ترى المزارعين يتحولون الى باعة فى شوارع العاصمة تطاردهم البلدية، وترى نساءهم يتحولن الى بائعات للشاى والقهوة فى نواصى الطرقات. وكما انقطعت الصلة فى الريف السودانى بين المزارع و الأرض وبين الراعى والماشية، فقد انقطعت الصلة كذلك فى المدينة بين العمل و الأجر، فصارت الوظيفة حقا يطالب به المتخرجون فى المدارس و الجامعات سواء وجدت أعمال يؤدونها فى المقابل أو لم توجد، فاذا نال أحدهم وظيفة وجدها لا تسد رمقا ولا ترضى طموحا، واذا لم يجدها علق آماله بالحصول على عقد للعمل فى دول الجوار الغنية بالنفط، أو وقف أمام السفارات طلبا للهجرة، وصار كل هؤلاء، من وجد ومن لم يجد، ومن تعلم ومن لم يتعلم، يمثلون "فائضا بشريا" دائما، ومليشيات عسكرية جاهزة، تتغذى منها الحركات المتمردة فى شرق البلاد وغربها، وتحولها الى جيوش تقاتل بهم إخوانهم المستضعفين الذين سبقوهم بالإنخراط فى الجيش والشرطة طلبا للمعاش، وهذه بالطبع ظاهرة فريدة فى نوعها، ومؤلمة لمن تأملها، إذ نرى "البروليتاريا المسلمة" تنقسم على نفسها، ويقوم بعضها بضرب رقاب بعض، فى غفلة تامة عن القاعدة الإجتماعية الواحدة التى ينحدرون منها، وفى جهل بطبيعة العدو الإستراتيجى الذى يستهدفون.

    تلك هى اذن عملية الإستنزاف المستمر، والتحطيم البنيوى، والإفقار المتعمد للريف السودانى، وتلك اذن هى ثمارها المرة، والتى ساهمت فى انتاجها الرأسمالية العالمية والشريحة الرأسمالية المحلية(اسلامية وغير اسلامية)، وذلك من خلال هيمنتها على مفاصل الدورة الاقتصادية في الريف وفي المدن وفي الأسواق الإقليمية، ومن خلال ارتباطاتها القوية بالمصارف والشركات ومراكز السلطة السياسية، مانعة بذلك قطاعات واسعة من الجمهور من الانخراط فى دورة الاقتصاد، ودافعة أعدادا مهولة من السودانيين نحو الهجرة الجبرية المتواصلة الى المدن، أو الى المليشيات المتمردة، أو نحو الثورة الإجتماعية الكامنة التى لا يعرف مداها ومآلاتها أحد الا الله.

    إن تفكيك النظام الاجتماعي والاقتصادي في الريف وما صحبه ولحق به من تهجير جماعي مفزع من الريف إلى المدن لم تصحبه كما هو معلوم ثورة صناعية توفر قاعدة جديدة للإنتاج، كما لم تسنده قاعدة تعليمية أو تكنولوجية توفر مهارات ومعارف تفتح منافذ بديلة للمعاش، فشكل ذلك الوضع حالة من الاحتقان النفسي والانفراط الاجتماعي جعلت الجميع يحلمون باسترداد هوية ضائعة وثروة مسلوبة، فلم يجدوا أطرا تستوعب تلك الأشواق سوى المليشيات العرقية المسلحة، أو التنظيمات السياسية المتطرفة؛ اذ أن البحث عن " الهوية الضائعة " وعن" الثروة " المسلوبة يعملان معاً في صناعة ايديولوجيه "المفاصلة"، سواءً كانت مفاصلة دينية أو عرقية، وهي الأيديولوجية التي تسوغ لأصحابها الانقضاض على السلطة، وقد ينجحون في ذلك بالفعل ولكنهم سينتهون،عاجلاً أو آجلاً،إلى النتيجة نفسها التي انتهى إليها الإنقلابيون من قبلهم وهي أن المشكل الاجتماعي-الاقتصادى الراهن لا يمكن أن يحَّل عن طريق البتر العسكري أو الإقصاء العرقى أو الدينى.

    (5)

    على أن المشكلة لا تقف عند هذا الحد،اذ أن القاعدة الإنتاجية التقليدية المشار اليها آنفا، لن تعود الى الريف وتستأنف عمليات الإنتاج لمجرد وجود الطرق والجسور(والتى تجتهد الحكومة فى بنائها)، ولكن وعلى افتراض عودتها وممارستها للانتاج فانها لن تستطيع تحت هيمنة الرأسمالية الشرسة واقتصاد السوق غير المقيد أن تلبى حاجاتها الاقتصادية المباشرة فضلا عن أن تلبى حاجاتنا القومية من السلع الزراعية، وسيترتب على هذا أن توجه جل الموارد القومية المتحصلة من عائد النفط لاستيراد السلع الغذائية والصناعية التي ترد من الأسواق الخارجية، ولإسترضاء المليشيات المسلحة، ودفع استحقاقاتها وتعويضاتها، مما يؤدى لاختلال مستمر فى ميزان المدفوعات، ولنضوب الاعتمادات التي يمكن أن توجه الى قطاعات الإنتاج الزراعي و الصناعي، فتزداد هذه القطاعات تحطما على ما كانت عليه، وسيزداد لدينا عندئذ عدد المزارعين الذين لا زراعة لهم، والعمال الذين ليست لدينا مصانع تستوعبهم، والخريجين الذين ليست لدينا وظائف لهم، وسيشكلون جميعا، وقد انحل ترابطهم الاجتماعي القديم وتناثرت تنظيماتهم التقليدية، حزاما متجددا من الفقر والإحباط يحيط بالعمارات الشاهقة التي يتبارى في تشييدها الأغنياء القدامى والجدد.

    والسؤال هنا:هل يمكن إحداث نوع من التكامل البنيوى بين المزارع التقليدي والأرض البور والنخب الإجتماعية الحديثة ذات الكفاءة المهنية والقدرة الإدارية المتطورة حتى يتم إحياء القاعدة الإنتاجية التي يقوم عليها المجتمع؟ أم أن عائدات النفط وما ينتج عنها من فرص استثمارية ستصب فى جيوب النخبة الرأسمالية ذاتها؛ النخبة التى لا ترغب فى تطوير برنامج تنموى إسلامى، ولا ترغب فى الدخول فى العمليات الإنتاجية الإستراتيجية(زراعة وصناعة) وتفضل الإستثمار المضمون فى قطاع العقارات والخدمات والإستيراد؟ لأنه وما لم يتم إدراج القوى الريفية التقليدية (التى أخرجت من ديارها، وأبطلت طرائق معاشها) في البنية الاقتصادية الحديثة، وما لم تتم إعادة الشرائح الرأسمالية الجديدة الى قطاعات الإنتاج الاستراتيجي، فان الفجوة بين هاتين الفئتين ستتباعد وقد تتحول الى تناقض أساسي بين الدولة والمجتمع قد يتبلور في اتجاه الثورة الاجتماعية الشاملة.

    ولكن ما هو الدور المتبقي للدولة؟ هناك من يقول ان الدولة في العالم الثالث في عهد العولمة الأمريكية الذى نشهده مهددة بالتلاشى والزوال، على أية حال، سواء كانت اسلامية أو لبرالية، اذ من المؤكد أن تجد نفسها دائما غير قادرة على التحكم فى الرأسمالية المحلية أو توجيه مساراتها نحو انتاج السلع الأساسية التى يمكن أن تدفع في اتجاه التنمية القومية؛ وستجد نفسها (ثانيا) غير قادرة على إحداث تنمية اقتصادية عن طريق الصناعة والتقانة بصورة مستقلة؛ وستجد نفسها (ثالثا) غير قادرة(حتى ولو أنتجت سلعا أساسية كالسلع الزراعية) على المنافسة في السواق العالمية، اذ أن فائض الإنتاج الزراعى في الدول الصناعية الكبرى، والذى تقف وراءه بقوة إتحادات المزارعين ووكلائهم في المجالس التشريعية في الديقراطيات الغربية لا يتيح فرصة حقيقية لأى دولة نامية أن تجد سوقا لمنتوجاتها الزراعية، أما اذا كانت تلك الدولة النامية ذات شعار اسلامى كحالتنا هذه فسوف يتعذر عليها أن تجد منفذا للأسواق العالمية ما لم تتخلى عن الحواجز الثقافية و الأخلاقية التي يفرضها مشروعها الإسلامى.

    فهذه كما ترى أمور شديدة التعقيد، لا يحلها خبير اقتصادى واحد، أو فريق من التكنوقراط، أو فقيه تخصص فى باب البيوع، وانما يحتاج الأمر الى قاعدة فكرية وعلمية راسخة يعهد اليها ببناء رؤية متعمقة للتنمية القومية- تصورا فكريا، وتخطيطا استراتيجيا، وإدارة علمية، كما يحتاج الى شريحة إجتماعية رائدة ذات رغبة صادقة فى احتضان عمليات التنمية، توطينا للصناعة والتكنولوجية،وتشجيعا ورعاية للعلماء والمخترعين، ورد اعتبار للزراعة والرعى؛ وتحتاج علاوة على هذا لقيادة سياسية مترفعة عن الولاءات العشائرية الضيقة ومتجردة للمصلحة القومية، فتناط بها عمليات التعبئة الشعبية و التنسيق المؤسسي والتشريعي لإنجاز العملية التنموية على قواعد العدل الاجتماعي.فهل يستطيع الرأسماليون الإسلاميون أن يقوموا بهذه العمليات؟

    ان الإقتصاديين الاسلاميين سيفقدون كل مشروعية للبقاء فى قمة الهرم الاقتصادى أو فى قيادة الحركة الإسلامية ما لم يقوموا بتطوير أطروحة فكرية اسلامية متماسكة يجاب فيها على هذه التساؤلات، وترفع فيها هذه التناقضات، ثم يبلوروا فى ضوء ذلك برنامجا اجتماعيا-اقتصاديا ينحاز بصورة واضحة للطبقات الدنيا فى المجتمع، أما اذا بقوا على حالهم هذه، وتركت سياسات الدولة ومؤسساتها الاقتصادية تحت تصرفهم وتصرف مجموعات المصالح الخاصة المرتبطة بهم فان ذلك سيكون فى تقديرى أمرا شديد الضرر على المستوى التنظيمى الخاص بالحركة الإسلامية وعلى المستوى القومى العام.

    ولكن، وحتى لا تبلغ الأمور نقطة اللاعودة فإن الحكمة والحاجة يقتضيان أن تكف الحركة الإسلامية عن تعلقها بالنخبة الرأسمالية، وأن تعلق أملها بالله وبالناس، وأن تبدأ بصورة جادة فى إعادة النظر فى برنامجها الاجتماعى-الاقتصادى، فالعمل من خلال القضايا الاجتماعية المحورية(الفقر والمرض والعجز والبطالة والجريمة والطفولة والأمومة ونحوها)هو الذى يعمق الوعى بالرؤية الإسلامية،ويرهف الحس الاجتماعى-الانسانى، وينمى الروح، ويقود الى التلاحم بين شرائح المستضعفين، ويرفع التناقضات المتوهمة بينهم، وهو خير من انتظار نهايات للحرب الضروس بين داحس القصر وغبراء المنشية.
                  

07-31-2007, 00:56 AM

على عمر على
<aعلى عمر على
تاريخ التسجيل: 12-13-2003
مجموع المشاركات: 2340

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا (Re: على عمر على)

    قال هاشم هباني
    ما الذي منع شخصية في مقام تيجاني عبد القادر الذي عاصرناه رئيسا لاتحاد طلاب جامعة الخرطوم شخصا معتدا ومعتزا بنفسه خطيبا مفوها صاحب صولات وجولات..ما الذي منعه عن قولة الحق في ذلك الزمان العصيب...هل فعلا ما يكتبه هذه الايام في الصحف ناقدا اهله هل هي العودة للضمير لانصاف المظاليم بعد خراب سوبا..ام هو الانتقام والرغبة في التشفي والثار من رفاقه الذين لم يحسنوا اليه في قسمة المسروق والدم المهروق وقد ظلموه في وضح النهار!؟
    في اعتقادي الجازم ان الاحتمال الاخير هو الارجح اي انه جاء للانتقام والتشفي بعد ان خرج من المولد الانقاذي بلا حمص .. وقد خم ولم فيه الاصدقاء المناصب والمال والنساء ومتع الحياة ونسوا اخاهم تيجاني في معمعان النهب والسلب واستباحة الوطن التعيس!
    فالصدقية في خطاب التيجاني الراهن غائبة لانها كتابة متاخرة جدا وفي زمن رخو جدا وكان يمكن ان نحترمها ونثق فيها تلكم الكتابات لو جاءت في قلب تلكم الايام البشعة المجرمة حيث لا خطاب ولغة للانقاذ سوى لغة الموت والتعذيب والرصاص والدخان وهو امر صمد فيه الشرفاء ومن ضمنهم صديقهم وابنهم المدلل بولاد وبسببه قتلوا وعذبوا وسجنوا وطوردواوايضا غاب فيه ضمير تيجاني عبد القادر لانه كائن منافق بلا اخلاق!

    اين كان ضميرك قبل ثمانية عشر عاما يا تيجاني عبد القادر!؟
                  

07-31-2007, 00:58 AM

على عمر على
<aعلى عمر على
تاريخ التسجيل: 12-13-2003
مجموع المشاركات: 2340

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا (Re: على عمر على)

    قال صديق عبدالهادي

    قد يكون أن اصبح أولئك الكتاب مهمشين داخل التنظيم ، و لو بقدرٍ متفاوت ، إلا ان ذلك لا ينفي ، بأية حالٍ من الأحوال ، كون أنهم جزءٌ اصيل ، و فاعلون حقيقيون و مساهمون أساسيون في كل ما جره ذلك التنظيم الفاشستي من ويلاتٍ و دمارٍ للبلاد . لا يمكنهم ، علي كل حال ، أن يضللوا الرأي العام العالمي عامةً و السوداني خاصةً بتلك الكتابات المغلفة بمسوح البراءة الكاذبة علي أمل قبول الناس لفرية أن هناك أيادٍ نظيفة كانت داخل الجبهة الاسلامية القومية، و ما زالت !!!.
    و هذا بالطبع ما سنحاول الاتيان بنقيضه.

    اين كان ضميرك قبل ثمانية عشر عاما يا تيجاني عبد القادر!؟
                  

07-31-2007, 01:01 AM

على عمر على
<aعلى عمر على
تاريخ التسجيل: 12-13-2003
مجموع المشاركات: 2340

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا (Re: على عمر على)

    قالت بيان

    هذه شهادة للتأريخ اذ انني قد حضرت جزء من نقاش دار حولها
    وشاهد عيان عليها..
    عندما تقرر اعدام بولاد سافر التيجاني ليتوسط
    له.. وقتله كان له وقع حزين سالت له دموع الرجال...
    لقد كان بولاد صديق عمر للتيجاني وقد حاول التيجاني المستحيل
    لانقاذه.. واعتقد ان مقتل بولاد قد غير موقف عدد كبير جدا
    من شباب السبعنيات الاسلامين من نظرتهم لحكومة الانقاذ,,,
    حيث انزوى عدد كبير منهم ومنهم من هاجر للعمل خارج السودان

    اين كان ضميرك قبل ثمانية عشر عاما يا تيجاني عبد القادر!؟
                  

07-31-2007, 01:05 AM

على عمر على
<aعلى عمر على
تاريخ التسجيل: 12-13-2003
مجموع المشاركات: 2340

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا (Re: على عمر على)

    قال برير اسماعيل يوسف


    من الصعوبة بمكان التفريق بين ناس (!!الحركة الاسلامية!!) القدامي منهم و الجدد... و لبسبب بسيط للغاية هو ان المنهل الذي يشربون منه منهل واحد لا غير ... احد ... احد... و نعني به هنا (المنهج السياسي المكار... المتمسح بمسوح الدين ان لم يكن بمسوح الاديان السماوية و الارضية جمعاء!!... و اكاد اجزم بانهم اي ناس (حركة الاسلام السياسي) ... احسن!! من يجيدون عملية تبادل الادوار سودانيا و عالميا ... انهم اخطبوط خطير و خطير للغاية ...

    اين كان ضميرك قبل ثمانية عشر عاما يا تيجاني عبد القادر!؟
                  

07-31-2007, 01:07 AM

على عمر على
<aعلى عمر على
تاريخ التسجيل: 12-13-2003
مجموع المشاركات: 2340

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا (Re: على عمر على)

    قال ابراهيم على ابراهيم المحامى

    لن يستطيع التجاني عبد القادر او عبد الوهاب الافندي ان يتطهرا بقراءتنا لهم من درن الانقاذ.
    انا أقرأ لهم لأن خلافات الانقاذ تعنينا كثيرا ولكن مصيرها لا يعنينا ابدا.
    من هذا الباب نقرأ لهم "ان صدقا في المعلومات" اما طريقة التحليل فهي متروكة لنا وفطنتنا كقراء وسياسييين.

    ولن يستطيع اي انقاذي ان يتطهر من اوزار الانقاذ الا ظهر على الناس علانية واعترف بما اقترفت يداه من جرائم بشعة في حق العباد والبلاد

    اين كان ضميرك قبل ثمانية عشر عاما يا تيجاني عبد القادر!؟
                  

07-31-2007, 01:09 AM

على عمر على
<aعلى عمر على
تاريخ التسجيل: 12-13-2003
مجموع المشاركات: 2340

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا (Re: على عمر على)

    قال أحمد أمين

    الضمير كان نايم يحلم باقامة نظام شمولى اسمه المشروع الحضارى

    مايفعله التجانى وكذلك عثمان ميرغنى هو نقد الممارسة وهذا لا يبرء الزمة
    اشكال الحركة الاسلامية هى الايدولجية (الشمولية) لأنها اس البلاء وبنقدها وتفنيد ادعائتها وعدم واقعيتها فى معالجة ازمة السودان يمكننا تصديق مواقفهم الجديدة

    اين كان ضميرك قبل ثمانية عشر عاما يا تيجاني عبد القادر!؟
                  

07-31-2007, 01:13 AM

Mohamed Algzly


للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا (Re: على عمر على)

    العزيز
    علي عمر


    دي الحالة (التجانية القادرية) ولا شنو ؟!

    ياأخي الله يخليكم دائما ملمومين وعامرين ياناس (دي سي) ..
    سلامي عليهم جُُُُملة ..

    قالوا (البكنك) كان حكاية ..(وش بعاين ليك بحسادة) ..


    ولحدي ماألم فيك تاني

    سلام
    محمد الجزولي
                  

07-31-2007, 12:13 PM

عبدالعزيز حسن على

تاريخ التسجيل: 05-02-2005
مجموع المشاركات: 1078

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا (Re: Mohamed Algzly)

    up
                  

07-31-2007, 02:09 PM

على عمر على
<aعلى عمر على
تاريخ التسجيل: 12-13-2003
مجموع المشاركات: 2340

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا (Re: على عمر على)

    شكرا

    محمد الجزولى
    تلفونى 7037279340

    شكرا عبد العزيز لرفع البوست

    ااااااااااااااااااااااااااااا
    اريت ودهبانى يلقى حق التاكسى البيجيبو يحضر الندوة
                  

07-31-2007, 04:31 PM

على عمر على
<aعلى عمر على
تاريخ التسجيل: 12-13-2003
مجموع المشاركات: 2340

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا (Re: على عمر على)

    UP
                  

07-31-2007, 04:35 PM

على عمر على
<aعلى عمر على
تاريخ التسجيل: 12-13-2003
مجموع المشاركات: 2340

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا (Re: على عمر على)

    النشاط القادم

    السبت 18 يوليو 2007



    دكتور صلاح البندر
    السودان 2012
                  

07-31-2007, 08:23 PM

على عمر على
<aعلى عمر على
تاريخ التسجيل: 12-13-2003
مجموع المشاركات: 2340

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا (Re: على عمر على)

    د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان
                  

07-31-2007, 09:11 PM

Kostawi
<aKostawi
تاريخ التسجيل: 02-04-2002
مجموع المشاركات: 39979

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا (Re: على عمر على)

    علي عمر سلام
    قلت لي إخواننا المهلوسون

    Quote: أخواننا المهلوسون
    أحــــاديث فى الخصــــوص
    د التجاني عبدالقادر


    طيب ما تجيب لينا الأربع مقالات بتاعة

    إخواننا في اليسار
                  

07-31-2007, 10:18 PM

عمر ادريس محمد
<aعمر ادريس محمد
تاريخ التسجيل: 03-27-2005
مجموع المشاركات: 6787

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا (Re: على عمر على)

    فى الوقت الذى كان فيه د. التجانى عبدالقادر احد اعمدة انقلاب الانقاذ أتسعت صفحات الدفتر الاسود للنظام الفاشى اذ تجاوز عدد المعتقلين من نقابين وسياسين وعسكرين الالالف وتمت تصفية د. على فضل ومورس التعذيب البشع على المعتقلين السياسين وتم إثباته بالصوره والشهادات الحيه...وسجلت الحقائق باهتمام وانتظام وتم تعريف السودان بدولة البطش والارهاب وأصدرت منظمات حقوق الانسان, والافريكا وتش,ومنظمة العفو الدوليه, وسودان مونتر, والليموند الفرنسيه, وزيارات البرلمانات العالميه التى زارت المعتقلات تقاريرها اضف الى كل ذلك ...ماتحمله الشعب السودانى من عذاب وضنك طيلة زمن الانقاذ البائس .
    فهل نحتاج يامنتدي الجالية الثقافى بواشنطن الى شهادة تلاميذ الترابى وتقييمهم لهذه التجربة ام المطالبة بتقديمهم اولا وعلى راسهم متحدثكم د.تجانى عبد القادر للمحاكمة ومحاسبتهم على جرائمهم ؟
                  

07-31-2007, 11:05 PM

Kostawi
<aKostawi
تاريخ التسجيل: 02-04-2002
مجموع المشاركات: 39979

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا (Re: عمر ادريس محمد)

    Quote: فهل نحتاج يامنتدي الجالية الثقافى بواشنطن الى شهادة تلاميذ الترابى وتقييمهم لهذه التجربة ام المطالبة بتقديمهم اولا وعلى راسهم متحدثكم د.تجانى عبد القادر للمحاكمة ومحاسبتهم على جرائمهم ؟


    يا عمر إدريس جاليتنا ما فيها سياسة
    فبالله شيل كلام السياسة ده من هنا.


    يا جماعة مافي زول عندو المقالات (4) للدكتور


    عن:

    أخواننا في اليسار
                  

08-01-2007, 04:08 AM

عبدالعزيز حسن على

تاريخ التسجيل: 05-02-2005
مجموع المشاركات: 1078

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا (Re: Kostawi)

    Quote: يا جماعة مافي زول عندو المقالات (4) للدكتور

    عن:

    أخواننا في اليسار




    يا كستاوي أعتقد ان صديقناعلي عمر علي ركز على المقالات التى لها علاقة بموضوع الندوة وهو تجربة الحركة الاسلامية لكن ولا يهمك يا خردة طلباتك أوامر هاك المقالات عن أخواننا في اليسار يالمناسبة ما عندك مقالات أخواننا الصغار لتجانى يرضه


    إخواننا فى اليسار** والثورة الاجتماعية الشاملة (1/4)
    د التجاني عبدالقادر

    الشروع فى إعادة قراءة تجاربنا السياسية بغرض الخروج من حالة الإنهيار وانسداد الآفاق التى يمر بها الوطن لا ينبغي أن يتوقف عند تجربة الإسلاميين وحدها، وإنما ينبغي أن يمتد إلى المجموعات السياسية الأخرى؛ ليس على سبيل المكايدة الحمقاء، أو التراشق بالاتهامات، ولكن على سبيل إسقاط ?الأقنعة? عن هذه التجارب، وفتحها لحوار عقلي مستنير يدفع في اتجاه المواطنة الرشيدة والتعايش السلمي بين أبناء الوطن، باعتبار أن التجارب السياسية، سواء فى ذلك تجارب الإسلاميين واليساريين، لا تسقط فجأة من السحاب، وإنما هي بنات ?رؤى? يمسك بعضها برقاب بعض، وقد تولدت جميعها في إطار حراك إجتماعي/سياسي مشترك، وتحديات موضوعية متشابهة.ولذلك فنود فى هذه المقالات أن ?نفصح? عن رؤيتنا لتجربة التيار اليساري، وأن نكشف عن ?فهمنا? لما نعتبره خطوطا عريضة فى رؤيته لأصول الإشكالية السياسية في السودان وسبل الخروج منها. ونحسب أن هذه الطريقة ستكون مفيدة من ناحيتين: الأولى أنها تمكن الكاتب ?والقارئ? من النظر فى تجربته وفحصها من خلال التأمل فى تقاطعاتها وتداخلاتها مع رؤى وتجارب الآخرين، أما الفائدة الثانية فهي إفساح المجال للآخر ليتعرف على ?قراءتنا? له، فيهرع للإفصاح عن رؤيته الخاصة بغرض تصويب ما يعتقده خطأ من جانبنا، فتتوفر المعلومات، وتتراكم التجارب، ويتعمق الوعي. هذا، وقد لا نجد حدثا تأسيسيا تشكلت فى ضوئه تجارب الإسلاميين واليساريين معا أبلغ أثرا من ثورة 21 أكتوبر 1964، اذ كانت تلك المرة الأولى التي يقف فيها المثقفون اليساريون والإسلاميون موقفا متقاربا ليحركوا قطاعات واسعة من الجمهور في ثورة شعبية عارمة ضد النخبة العسكرية الحاكمة التي أنهكتها حرب الجنوب الأولى.وأقول أن ثورة أكتوبر تعتبر حدثاً تأسيسياً، ليس فقط لأنها حركت الشباب والمرأة ودفعتهم للمشاركة في الحياة السياسية، وإنماً لأنها علاوة على ذلك قد فتحت عيون بعض المثقفين إلي حقائق جديدة في الحياة السياسية، وجعلتهم يدركون الفرق الهائل بين ?الثورة السياسية? العابرة والثورة ?الاجتماعية? الأكثر عمقا، إذ أن الثورة السياسية تطيح بالقيادات العسكرية من قمة هرم الدولة ولكنها لا تمسّ الأبنية الثقافية والاجتماعية التحتية الراسخة التي يمكن أن يتولد عنها النمط القيادي نفسه الذي أسقطته الثورة. أدرك الإسلاميون واليساريون هذه الحقيقة، وصار كل منهم يمد عينيه الى المؤسسة العسكرية، ويحدث نفسه ?بالانقلاب?، إلا أن اليساريين كانوا أسرع خطوا فى ذلك الإتجاه بعدما تأكد لهم أن إزاحة حكومة الفريق عبود أو استبدالها بحكومة انتقالية تمهد الطريق لحكومة السيدين ?المهدي والميرغني? لا تمثل ?ثورة? طالما أن النظام السياسي والنخبة الحاكمة فيه ما يزالان على ما كانا عليه. وحينما تضامن المثقفون الإسلاميون مع حكومة السيدين لمحاصرة الحزب الشيوعي، وطرد نوابه من البرلمان بعد أربعة أعوام من الثورة الديموقراطية التي شارك فيها الشيوعيون، تأكد للمثقفين اليساريين مرة ثانية أن مشكلتهم، أو قل تصورهم للمشكلة الوطنية، لا تنحصر في الحكومة أو النظام السياسي، وإنما تتعدى ذلك لتتصل بالنظام ?الاجتماعي? السوداني التقليدي الذي ترتكز عليه طائفتا الختمية والأنصار ومن خلفهم تنظيمات الإسلاميين الجدد؛ وهو النظام الذي يرتكز بدوره على معتقدات دينية وموروثات ثقافية تصطدم، في المحصلة النهائية، مع منظومة المفاهيم الماركسية، ومع بعض مفاهيم الحداثة التي يؤمن بها العلمانيون جميعاً ليبراليوهم وماركسيوهم. وقد عبر عن هذه "الأزمة الثورية" لاحقا 1971عبد الخالق محجوب السكرتير السابق للحزب الشيوعى السودانى بقوله أن ?التناقض الإستراتيجي الأساسي لثورتنا الوطنية هو الإستعمار الحديث والحلف البرجوازي شبه الإقطاعي فى الداخل?، ?حول البرنامج،2002، ص10 ولعل المقصود بالحلف البرجوازى شبه الإقطاعى هو القيادات التقليدية لطائفتى الأنصار والختمية ومن يرتبط بهما من شريحة التجار ورجال الأعمال، والتى يشير اليها فى مكان آخر من الوثيقة ذاتها بالطبقات الإجتماعية المستغلة، ويدعو الى تصفيتها، ص14 وكان الخيار بين يدي هذه ?الأزمة الثورية? يقع بين تعديل النظرية الماركسية لتتلاءم مع هذا المكون الثقافي المحلى، أو القيام بتحطيم هذا المكون ليفسح المجال للتطور الإشتراكي المأمول. ولكن، وكيفما كان الأمر فقد عثر اليسار الماركسي على ?التناقض الرئيسي? الذي كان يبحث عنه، فأخذ ينشط في إعداد استراتيجية جديدة منذ أواخر الستينات تمثلت في تكوين جبهة تقدمية عريضة تضم السياسيين والمثقفين والعمال ثم تلوذ بالخلايا اليسارية في المؤسسة العسكرية لتطيح بحكومة السيدين في انقلاب عسكري مايو 1969 أطلق عليه ?ثورة? مايو. وقد قصد ?بالثورة? هذه المرة أن تكون أعمق أثراً من ثورة أكتوبر السابقة، أي أن لا تكتفي بإزاحة الحكومة وإنما تذهب إلي إزاحة النّخبة الحاكمة بأكملها من كافة الأصعدة: السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فحركة مايو وإن بدت انقلابا عسكرياً محدوداً إلا انه قد قصد بها أن تشعل ثورة سياسية، تقود بدورها لثورة اجتماعية شاملة، وهذه الأخيرة تعني في الأدبيات الماركسية عملية تحطيم متعمد للطبقة الحاكمة بأكملها، وتفكيك ارتباطاتها بالأبنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تمدها بالحياة. ولقد تم في ضوء هذه الرؤية الثورية الجديدة وضع وتنفيذ ثلاث سياسات كادت في المحصلة النهائية أن تصل بالبلاد إلي مرحلة الثورة الاجتماعية الشاملة التي ترجاها المثقفون اليساريون وتلك السياسات هي: 1 سياسة تصفية الإدارة الأهلية في السودان 2 سياسة تأميم ومصادرة أموال وشركات القطاع الخاص 3 سياسة التصفية العسكرية والسياسية لجماعة الأنصار وحلفائهم ?الإخوان المسلمين? باعتبار أنها تشكل ?عبئا? على حركة التطور الوطني الديموقراطي. فهذه السياسات والإجراءات لم تكن بالضرورة قد نوقشت وأجيزت في داخل اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، ولكنها قد تمت تحت بصره وسمعه، وفى إبان مشاركته وتأييده للنظام المايوي، وفى إطار المناخ الفكرى العام الذى شارك مع الفصائل اليسارية الأخرى ?الناصريين والبعثيين? فى صناعته والترويج له منذ أواسط الستينيات، ولم تفعل البرجوازية الصغيرة ?مجموعة النميرى? غير تطبيقة بحزم وشدة.غير أن ما يهمنا هنا هو أن هذه السياسات والإجراءات ?الراديكالية? يمكن نظمها جميعاً في خط إستراتيجي واحد: تحطيم وتصفية النخب ?الحضرية والريفية? التي كان يرتكز عليها النظام الاجتماعي التقليدي في السودان، بحسبان أنه إذا حطمت هذه الّنخب إقتصادياً ?كما هدفت قرارات التأميم والمصادرة?، ثم حطمت نفسياً وأدبياً ?كما هدفت سياسات تصفية الإدارة الأهلية?، ثم حطمت سياسياً وعسكرياً ?كما وقع في الجزيرة أبا وودنوبادي? فإن ذلك التحطيم سيؤدي بصورة طبيعية الي إنهيار النظام الاجتماعي القديم ?والذى يشار اليه فى أدبيات الشيوعيين السودانيين بعبارة:الطبقات البرجوازية شبه الإقطاعية?، والي فتح المجال لتنظيمات إجتماعية حديثة تتولى السلطة فيها قيادات حديثة، فتقوم تلك القيادات والتنظيمات الجديدة، ومن خلفها الدولة، ?بإختراق? البنية الإجتماعية التقليدية، وإعادة تشكيلها في أطر إقتصادية جديدة، بحيث تتكامل الثورة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كما وقع في روسيا والصين وبعض دول أوربا الشرقية واللاتينية فى القرن الماضى. وهذه بالطبع رؤية في التغيير الاجتماعي يلتقي فيه دعاة الحداثة مع الماركسيين، إذ يعتقد كلاهما أن تبديل بنية السلطة في المجتمعات الإسلامية التقليدية هي الخطوة الأساسية الأولى في طريق التنمية والتطور الديموقراطى. غير أن التطورات السياسية اللاحقة أثبتت أن النخب التقليدية فى السودان لا يمكن أماتتها أو إزاحتها بضربة واحدة مهما بلغت من العنف، وذلك لأن الجاه والمكانة اللتين تتمتع بهما لا ينبعان فقط من القوة الاقتصادية أو مؤسسة الدولة، ولكنهما يتجذران في النسيج الاجتماعي وفي المكون الثقافي الذي يسنده. وهذا يعني، ضمن أشياء أخرى- أن النخب التقليدية ?سواء في القرى أو في المدن? تستطيع أن تمتص الضربات السياسية من خلال الالتفاف حول التنظيمات والقيادات الجديدة المصنوعة، وأن تطوقها شيئاً فشيئاً لتنفذ من خلالها إلى مواقع القوة، ومن ثم لإستعادة مواقعها الاقتصادية والسياسية، وإعادة تعزيز مكانتها الاجتماعية السابقة. أي أنه بدلاً من أن تقوم تنظيمات الحداثة بإختراق المجتمع التقليدي وإعادة تشكيله، فان النخب التقليدية هى التى ستقوم بمحاصرة تنظيمات الحداثة وإجبارها على التراجع، وإعادة التاقلم مع التكوينات الاجتماعية التقليدية. تتبدى هذه الحالة في أظهر صورها في التراجع الكبير الذي قام به الرئيس النميرى فيما عرف ?بالمصالحة الوطنية? في عام 1977م، حيث أبرم إتفاقية مع القيادات الحزبية التقليدية ?الأمة والاتحادي والإخوان المسلمين?، ثم قادته تلك الاتفاقية بدورها الى محاولات تطبيق أحكام الشريعة الاسلامية التي أراد من خلالها أن يسحب بساط السيادة الدينية من تحت أقدام النخبة التقليدية فيجردها بذلك من أهم مصادر مشروعيتها، فانتهى به الأمر لاجئاً سياسياً خارج الوطن، بينما استطاعت النخب التقليدية أن تستعيد مواقعها، وتشكل ?حكومتها?، كأن شيئاً لم يكن طيلة عقد ونصف من ?ثورة? مايو. إن رصد هذه الظاهرة وإدراك مغزاها هو الذي جعل بعض المثقفين اليساريين وحلفاءهم من الأكاديميين الحداثيين يقومون مرة أخرى بإجراء تعديلات جوهرية على رؤية اليسار السوداني، كما سنوضح فى المقال التالي.


    أخواننا فى اليسار والثورة الاجتماعية الشاملة «2-4»

    «لقد سقطت بغير قصد أجزاء كبيرة من هذا المقال حينما نشر فى الأسبوع الماضى، وهذه اعادة له فى صورته الكاملة مع الاعتذار».
    انتهينا فى المقال السابق الى القول بأن النخب التقليدية فى السودان تستطيع أن تمتص الصدمات السياسية، وتستطيع أن تلتف حول التنظيمات الحديثة، وتجبرها على العودة إليها، وقلنا إن رصد هذه الظاهرة وإدراك مغزاها جعل بعض المثقفين اليساريين «وحلفاءهم من الأكاديميين الحداثيين» يقومون مرة أخرى بإجراء تعديلات جوهرية فى رؤيتهم للثورة والسلطة وللمؤسسة العسكرية. ونقول هنا، مواصلة لما سبق، إن أول تعديل فى تلك الرؤية ربما كان يتمحور حول استبعاد فكرة الانقلاب العسكري، اى استبعاد فكرة التغلغل في القوات المسلحة واتخاذها أداة ثورية لتحطيم النخب التقليدية «كما كان يفكر بعض قادة الحزب الشيوعي «القديم» ونظراؤهم من القوميين العرب والبعثيين»، واستبدالها بفكرة «حرب الغوريلا المتطاولة»، وما يتبع ذلك من «استغناء» عن القوات المسلحة، بحسبانها مؤسسة تقليدية تابعة للنظام التقليدي ينبغي أن يحطما معاً، وذلك لأن القوات المسلحة، بحسب هذه الرؤية، لا تستطيع، برغم حداثتها الشكلية، أن تنفك بحال من الأحوال عن النخب التقليدية وعن المجتمع التقليدي، إذ أنها وليد شرعي له، تدافع عن مصالحه وتّرسخ قيمه.«وينبغى أن نلاحظ هنا أنه بينما كان «اليساريون» ينصرفون عن المؤسسة العسكرية، ويتسللون لواذا إلى الغابة، لينسجوا الخيوط الدقيقة للثورة الاجتماعية الشاملة، كان «الإسلاميون» فى الجانب الآخر يتسللون إلى القوات المسلحة، لينسجوا كذلك خيوطهم الدقيقة لانقلابهم العسكري. والغريب فى الأمر أن كلا من الطرفين كان يضمر خوفا من الآخر، ويرسم تحركاته بحسب قراءته له، ولم يمّر زمن طويل على ذلك حتى التقت «الغابة المسلّحة» مع «القوات المسلحة» فى قتال شرس لم يتوقف الا بتدخل دولة كثيف عند نيفاشا».
    هذا، ومما أغرى اليساريين بالاندفاع فى اتجاه حرب الغوريللا المتطاولة وجود نطاق «جغرافي» موائم لها في جنوب البلاد وشرقها وغربها، ووجود إرث «تأريخي» سابق من النزاعات والحروب القبلية، ووجود مظالم اجتماعية وسياسية لا تحصى بين مجموعات الهامش ودولة المركز، هذا علاوة على ظهور عوامل خارجية مساعدة، كظهور دولة شيوعية صديقة «إثيوبيا» على مقربة الإقليم الجنوبي، يمكن أن توفر ملاذا آمنا، وعتادا حربيا، وغطاء سياسيا ودبلوماسيا. تلك إذن هى المعطيات «الميدانية» الصّلبة التي جعلت اليساريين يطمئنون لرؤيتهم الاستراتيجية الجديدة، ويرمون بثقلهم «ولكن فى سرية تامة» خلف الحركة الشعبية بقادة العقيد قرنق، وتلك هى المعطيات التى جعلت العقيد قرنق يرفض فى تعنت ظاهر مبدأ الانخراط في العملية السياسية بعد سقوط نظام مايو فى ابريل 1985م، معتبرا الحكومة الانتقالية بقيادة المشير سوار الذهب «مايو الثانية» وذلك لأنه كان يرجح «استنادا على رؤية اليسار آنفة الذكر» أن الحركة الاحتجاجية التى أطاحت بنظام مايو، «والتي عرفت بانتفاضة ابريل»، لم تكن في أحسن التقديرات سوى «ثورة سياسية» محدودة، مثلها فى ذلك مثل «ثورة أكتوبر 1964م»؛ أي أنها انتفاضة «فوقية» لم يكن فى مقدورها أن تتجاوز السطح السياسي لتتغلغل في البنية التحتية «الثقافية/الاجتماعية/الاقتصادية» التى يقوم عليها المجتمع، وبالتالي فإن من ينخرط فيها من قوى اليسار فسيكون كمن ينخرط في فقاعة كبرى لا تلبث أن تنفقع به في الهواء. ولقد تعززت هذه الرؤية لدى العقيد قرنق عندما رأى كيف أن «المؤسسة العسكرية» قد خرجت سالمة من تحت الأنقاض المايوية، وأن موقفها الوطني ازداد بريقا تحت القيادة «المعتدلة» للمجلس العسكري الانتقالي، مما جعل العقيد قرنق يجيب «فى تصوري» على أصدقائه المتعاطفين معه فى الشمال ممن ليست لديهم دراية بآفاقه الاستراتيجية: أيّ «انتفاضة» تريدونني أن انخرط فيها، وأحد أهم أعمدة النظام الاجتماعي القديم «القوات المسلحة» لم يزل راسخا، وأحد أهم عناصر الثورة الاجتماعية الشاملة «المهمّشون» لم ينضج بعد؟
    وقد أثبتت الحوادث اللاحقة أن قراءة العقيد قرنق لاتجاه الأحداث السياسية لم يكن بعيدا عن الصواب، إذ ما انقضت الفترة الانتقالية، وأجريت الانتخابات العامة، الا أن استعاد الحزبان الكبيران مواقعهما القديمة، وشكلا «حكومتها الائتلافية» بالطريقة المألوفة، كما ألمحنا الى ذلك آنفا، بل وقد زاد الأمر سوءا «بحسب هذه القراءة» ببروز «الجبهة القومية الإسلامية» ككتلة برلمانية ثالثة الى جانب الحزبين الكبيرين، وذلك فى الوقت الذى تراجع فيه الحزب الشيوعي والتنظيمات الحديثة المتوالية معه. ولذلك فقد قوي العزم لدى قرنق على مواصلة الثورة، وصار يمد عينيه فى اتجاهين: أولهما تكتيكي ويتعلق بمحاولة مد الجّسور مع النخب القيادية فى أحد الحزبين الكبيرين «الاتحادي الديمقراطي»، وإقامة «تحالف مرحلي» معه تحت أى شعار من الشعارات «وذلك فى مقابل التحالف المضاد الذى شكله حزب الأمة مع الجبهة الإسلامية»، وهذا تكتيك لم يقصد به بالطبع ابرام حالف حقيقي مع الحزب الاتحادي الديمقراطى، بقدر ما قصد به «اختراقه» بغرض تعزيز مواقع العناصر التقدمية فى داخله، وتحويل التناقض بينه وبين الحزبين الآخرين «الأمة والجبهة الإسلامية» من تناقض ثانوي سلمى إلى تناقض أساسي/عدائي يستحيل معه أي عمل استراتيجي مشترك فى المستقبل. أما الاتجاه الثانى الذى كان ينظر إليه العقيد قرنق فهو استراتيجي، ويتمثل فى السعي لإشعال نيران الثورة الاجتماعية الشاملة فى أوساط المهمشين فى الأقاليم النائية «دار فور وجبال النوبة وشرق السودان»، الثورة التى يمكن أن تقود إلى تحطيم وتصفية النظام الاجتماعي القديم، وهى ثورة تستند كما أسلفنا القول على نظرية حرب الغوريلا المتطاولة. وهى حرب لا يراد من ورائها اسقاط الحكومة المركزية بصورة مباشرة وسريعة «والا لصارت انقلابا عسكريا»، وانما يراد بها «تفكيك» النظام الاجتماعي التقليدي فى الريف، وضعضعة المؤسسة العسكرية، وتحويل الموارد الاقتصادية على ضآلتها لشراء المعدات الحربية، وذلك من خلال إحداث «تناقض واشتباك» بين المجتمع الريفي التقليدي والمؤسسة العسكرية التقليدية في حرب استنزاف متبادلة توصلهما معا إلى حافة الانهيار. وتجري العملية على النحو التالي:
    1/ أن تقوم مجموعة صغيرة من مليشيات مسلحة «ذات انتماء عرقي، وكفاءة قتالية، وغطاء آيديولوجي مناسب» بشن هجوم مفاجئ على واحدة من القرى، فتنهب الممتلكات وتحرق المنازل وتأسر بعض النساء والشباب وتقتل شيخ القبيلة أو إمام المسجد، ثم تهرب إلي قرية مجاورة وتذوب في المواطنين أو فى الغابة.
    2/ أن تهرع المؤسسة العسكرية النظامية لملاحقة المتمردين، ولكنها لا تصيب إلا المواطنين الأبرياء، فيندفع بعضهم لمناصرة المتمردين، ويندفع بعضهم إلى معسكرات النازحين التي تنشئها المنظمات الدولية وتجلب إليها الأطعمة والأدوية، فتكون المناوشات العسكرية قد نجحت في خلخلة الهرم القيادى التقليدى فى الهامش، كما نجحت فى أن تولد فيه «أزمة سياسية وإنسانية» تجذب نظر الإعلام العالمي ومنظمات حقوق الإنسان، هذا علاوة على الأزمة السياسية والاقتصادية التى سيتعرض لها «المركز» والتى يتوقع لها أن تحدث «توترا» لا يهدأ بين الدولة والمجتمع.
    3/ أن يبدأ سكان هذه المعسكرات تحت وطأة الأزمة وانفراط النظام الأمني والاجتماعي رحلة البحث عن السلاح والاستعداد للقتال، أو مواصلة الهجرة نحو الأماكن الآمنة، وفي كلتا الحالتين فإن نمط الحياة التقليدية السابق يكون قد بدأ في الانهيار، خاصة فى مستوياته الاجتماعية والاقتصادية، اذ تتعذر الزراعة والرعي بسبب الاضطراب الأمني والمناوشات المستمرة، ويتولد تبعا لذلك «فى إبان الفوضى الخلاقة» مناخ جديد وأفكار جديدة، وقيادات بديلة تكون بداية الانطلاقة نحو «السودان الجديد» الذى تترقبه الزعامات اليسارية. و«السودان الجديد» هنا ليس مجرد إشارة الى «هيكل دولة» يمكن تعديله ليستوعب التنوع العرقي والثقافي، كما يبدو في الظاهر، وإنما هو إشارة إلى «بنية» ثقافية/اجتماعية مستحدثة يرتكز عليها الهيكل القانوني والإداري للدولة، أي أن السودان الجديد هو مولود جديد يخرج من رحم الثورة الاجتماعية الشاملة وليس «توليفة» ناجمة عن عملية إصلاح سياسي محدود.
    هذا، وقد جربت هذه الاستراتيجية في جنوب السودان لعدّة سنوات، حتى لم تبق قرية في الجنوب إلا وقد انقسم سكانها بين نازح إلى الشمال أو مقيم في معسكرات اللاجئين أو حاملاً السلاح «مما يعنى أن خلخلة النظام التقليدي جزء من عملية ثورية مقصودة، سواء في الجنوب أو الشمال»، ثم جربت بعد سنوات قلائل في منطقة جبال النوبة وقادت إلى النتيجة نفسها، ثم ها هي الآن تطبق بحذافيرها في إقليم دارفور، وستقود «أو لعلها قد قادت بالفعل» إلى مثل تلك النتائج أو ربما إلى ما هو أسوأ. إنّ التنبّه لهذه الظاهرة والتوقف عند مغزاها قد يكون خلفية مناسبة تفهم من خلالها معظم استراتيجيات التغيير التي تزعمها المثقفون اليساريون في التاريخ المعاصر للسودان «ثم لحقهم بعض إسلاميي دارفور أخيرا». ولقد قرر اليساريون، وفقاً لهذه الرؤية، أن يتحول عملهم «الثوري» من شمال السودان الى جنوبه «وغربه وشرقه إن أمكن» حيث تتوفر عوامل إضافية، داخلية وخارجية، تساعد في عملية إزاحة القيادات المحلية وتفكيك المجتمع التقليدي ودفعه في اتجاه الثورة الاجتماعية الكاملة التي إذا اندلعت في الجنوب فستجر معها الشمال لا محالة، خاصة أقاليم جبال النوبة وشرق السودان وإقليم دارفور ذوات الثقل الإثنى الإفريقي، كما يقولون.
    وعلى هذا الوجه من النظر يمكن القول بأن حركة التمرد التي أعلن عنها في أوائل الثمانينيات بقيادة العقيد جون قرنق، الضابط السابق في القوات المسلحة السودانية، والناشط المعروف في الأوساط اليسارية الشرق- أفريقية، لا تحمل رؤية منعزلة قادته إليها تداعي الظروف العسكرية والسياسية «كما قد يتوهم البعض»، وإنما هي امتداد ومواصلة للرؤية نفسها التى بدأها الحزب الشيوعي في أوائل السبعينيات إبان تحالفه مع الرئيس النميري، ثم انشغل عنها حينما وقعت المواجهة الدموية بينهما في عام 1971م، على أن هذا لا يعنى بالضرورة وجود تطابق عضوي بين الحزب الشيوعي والحركة الشعبية بقدر يشير الى توافق فى الرؤية الاستراتيجية العامة والتزام بها.
    كما أن التقارب الذي وقع بين حركة تحرير السودان والدول الغربية «خاصة في مرحلة ما بعد سقوط المعسكر الشيوعي» لا يمثل تخلياً عن الاستراتيجية الأولى، بقدر ما يمثل تعزيزاً لتضامن وليد بين تياري الليبرالية الجديدة واليسار الجديد في داخل حركة التمرد، حيث تجرى عملية تشذيب للآيديولوجية الماركسية القحة بغية إدراجها في نسق النموذج الحداثي الذي يرتكز على مفاهيم الفردانية والرشادة والعلمانية، والتي صارت مفردات أساسية في الخطاب الجديد للحركة الشعبية. وليس هذا بالأمر الغريب، فقد شوهد العديد من الزعماء اليساريين في دول أميركا اللآتينية وهم «يعدلون» أفكارهم وسياساتهم لتنسجم مع الواقع الدولي الجديد الذي تتزعمه الولايات المتحدة، فتخلوا تماما عن إحراق الأعلام الأميركية، كما تخلوا عن إجراءات التأميم والمصادرة، وصاروا يتصالحون بصورة من الصور مع فلسفة السوق الحر والإصلاح الاقتصادي، وذلك اتقاءً للامبريالية الباطشة، واستئناسا لشركاتها عابرة القارات.
    فإذا صح ما ذكرناه، وهو صحيح في تقديرنا، فسوف لن يكون في الحسابات الاستراتيجية للحركة الشعبية أن «تتصالح» أو «تتحالف» في أية صورة من صور المصالحة أو التحالف مع النخب التقليدية في الريف والحضر التي يعتمد عليها النظام الاجتماعي القديم، بل إنه لمن المتوقع أن تسعى الحركة الشعبية بكل الطرق لإضعاف هذه النخب وإزاحتها «ولو اضطرت أحياناً للعمل التكتيكي معها»، ولعل هذا ما يُفسر «استغناء» الحركة الشعبية وانسلالها السريع من «التحالف» الذي كان يجمعها مع حزبي الاتحادى الديمقراطي والأمة «ثم المؤتمر الشعبى أخيرا»، اذ أن الأفق الاستراتيجي الذي تسعى نحوه الحركة الشعبية لا يتضمن تحالفا بين «أحزاب» سياسية مكتملة القوام، بقدر ما يتضمن تحالفا بين «قوى اجتماعية هشة التكوين»، يوجد معظمها في داخل تلك الأحزاب القديمة، ولعل هذا هو المقصود بمصطلح «الجبهة الوطنية الديموقراطية»، أي التحالف الطبقى الجديد الذى يضم المهمشين «البروليتاريا فى العهد الماركسي القديم» بقطع النظر عن أصولهم العرقية ومناطقهم الجغرافية وأحزابهم السياسية، لا يشدهم سوى الانتماء للحركة الثورية التى قد يكون الحزب الشيوعي مركز إشعاع فيها إن فاته أن يكون مصدر قيادة فعلية لها. كما يعني من ناحية أخرى أن الحركة الشعبية لن تترد في إضعاف المؤسسة العسكرية التقليدية أو العمل على إعادة تشكيلها بصورة جذرية، حتى لا تجد النخب التقليدية منصة خلفية تعاود منها الانطلاق. وسوف لن تكون مفاجئة لأحد أن يرى بعض قادة الحزب الشيوعى السودانى القديم خارجين من حالة «البيات الشتوى» الطويل، أو عائدين للحياة السياسة فى أعطاف الحركة الشعبية، متحدثين بلسانها العربي في قطاع الشمال. وهذا أمر سيقودنا للنظر في اتفاقية السلام التي أبرمت أخيرا بين الحركة الشعبية وحكومة الإنقاذ، ما هي طبيعة هذه الاتفاقية، وما هو موقعها في إطار استراتيجية اليسار الجديد التي ذكرناها؟ وهل هناك إطار نظري عام ترتكز عليه هذه الاتفاقات؟ أم هي وليدة خطرات تفتقت عنها عقول المتفاوضين في منتجع نيفاشا الكيني، وتراضوا عليها خوفا أو طمعا دون رؤية نظرية شاملة تربط القريب بالبعيد وتصل المشهود بالمغيب؟

    إخواننا فى اليسار.. والثورة الإجتماعية الشاملة«3-4»


    أوضح ايرنستو جيفارا،المنّظر الميّز لحركات التحرر فى أمريكا اللاتينية والمقاتل فى صفوفها، أن الثورة الكوبية قد أسهمت بثلاثة دروس أساسية لإدارة الحركات الثورية، هي:
    أنه ليس من الضروري الإنتظار لحين توفر كل الشروط التى تصنع الثورة، اذ أن «التمرد» يمكن أن يوفر تلك الشروط؛ وفى حالة دول أمريكا اللاتينية المتخلفة فان «الرّيف» هو المنطقة الأساسية لانطلاق النضال المسّلح؛ وأن القوى الشعبية يمكنها أن تكسب الحرب ضد الجيش النظامي، غير أن النصر لا يمكن أن يكون نهائيا حتى يكتمل تحطيم الجيش الذي كان يدعم النظام القديم، تحطيما نهائيا وبصورة منظمة.
    ويبدو للمتأمل فى سيرة الحركة الشعبية لتحرير السودان«والتي من الراجح أنها قد تأثرت بالتجارب الثورية فى أمريكا اللاتينية، وبالتجربة الكوبية خصوصا» أنها قد استوعبت الدرسين الأوليين فى النموذج الجيفاري/الكوبي:التمرد المتطاول والإنطلاق من الريف، ولكنها لم تأبه كثيرا بالدرس الثالث والأخير المتعلق بضرورة تحطيم الجيش النظامي تحطيما نهائيا. السؤال هنا:لماذا اختارت الحركة الشعبية إذن إيقاف حرب الغوريللا والدخول فى اتفاقية سياسية وذلك قبل أن تستكمل تصفية المؤسسة العسكرية للعدو الاستراتيجي، وقبل أن تنضج عوامل الثورة الاجتماعية الشاملة؟ ولماذا رفضت مثلا خيار السلام قبل عشر سنوات، حينما كانت تواجه أسوأ انشقاق داخلي في تاريخها، وأكبر تراجع فى الميدان العسكري، ثم قبلته أخيرا ولكن فى وقت تحسن فيه وضعها السياسي والعسكري، بينما وصلت حكومة الإنقاذ «العدو الإستراتيجي»إلى أضعف حالاتها، وذلك فى أعقاب الانقسام الذى وقع فى داخلها، وما تبعه من بلبلة فى منظومتها الفكرية، وخلخلة فى صفها القيادى، وإحباط نفسى فى قوتها القاعدية؟ أو إذا وضعنا السؤال بصيغة أخرى: هل يشير دخول الحركة الشعبية فى عملية السلام الى «تغيير إستراتيجي»، «أو ربما إيديولوجي» فى مسارها أملته ضغوط وإملاءات الواقع السياسي والعسكري، أم هو مجرد «استراحة محارب» يعاد فيها رسم الأدوار وترتيب القوى؟ وإذا قلنا أن الحركة الشعبية لم تغير إيديولوجيتها واستراتيجيتها،فهل يعنى ذلك أن اتفاقية السلام تحمل فى طياتها المضامين الاستراتيجية السابقة ذاتها ولكن بأشكال وأساليب جديدة؟
    قد يقال هنا أن «الدّروس» التى استخلصها جيفارا من الثورة الكوبية هى دروس خاصة بتلك الثورة، وليست هناك ضرورة تحتم سريانها على الحالة السودانية، ثم يقفل النقاش؛ ولكن قد يقال أيضا أن «التصفية» التي يتحدث عنها جيفارا آخذة في التحقق ، ولكن على نار هادئة، إذ ليس من اللازم أن تقفز حرب الغوريللا بالمجتمع دفعة واحدة من مرحلة السكون إلي مرحلة الثورة الكاملة، اذ يكفى أن تصل به الى ما يسمى فى أدبيات اليسار «بالوضع الثوري" «revolutionary situation»، وهو حال تواجه فيه الدولة المركزية تحديا من داخل أروقتها أو من داخل المجتمع يتعذّر معه حفظ الأمن والإستقرار،«ناهيك عن تخفيف المعاناة الاقتصادية»، وهو الوضع المثالي الذي سيوفر المناخ المطلوب للثورة الاجتماعية الفعلية، حيث تتاح للمجموعات الثورية الاستيلاء على السلطة وإحداث التغيير الجذري الذى ترجوه. على أن ذلك لا يتم الا فى وجود «حزب طليعى» يناط به تسريع الوضع الثورى وقطف ثماره،«وفى هذه الحالة لا ندرى ما اذا كانت الحركة الشعبية ستكون هي ذاتها «الطليعة» التى يناط بها إكمال تصنيع الوضع الثوري وتعميمه فى غرب البلاد وشرقها،أم أن ذلك الدّور سيترك للحزب الشيوعي القديم،أم للحركات الثورية الناشئة فى مناطق التهميش؟» ، ولكن وكيفما كان الأمر فاتفاقية السلام وان بدت للبعض كأنها مناقضة فى ظاهرها لمشروع «الثورة الاجتماعية» الا أنها تجئ «بحسب هذه الرؤية» متزامنة مع مرحلة نضج فيها الوضع الثوري؛ مرحلة تتوارى فيها «الغابة المسلحة» فاتحة المجال لمرحلة«المدينة المناضلة»،إذ أن حرب الغوريللا مهما تطاولت لا بد أن تعقبها فترة تتشكل فيها صيغة تكاملية بين القوى المسلحة التى كانت تقود النضال العسكرى فى الغابة، والقوى المدنية التى كانت تقود النضال السياسي فى المدينة، بحيث يعمل مقاتلو الحركة الشعبية على «تثوير» قطاعات المهمشين فى المدن، ويعمل أولئك على «تسييس» المقاتلين.ومن خلال هذا التثوير والتسييس المتبادل يتم تفكيك ما تبقى من النظام القديم، فينفتح المجال للثورة الاجتماعية الشاملة.
    أما أن دخول الحركة الشعبية فى عملية السلام يمثل استكمالا لفكرة الثورة الاجتماعية الشاملة وليس خروجا عليها أو تعديلا فيها فيتأكد من خلال ثلاثة محاور «تفكيكية» ثابتة «على الأقل» يمكن ملاحظتها فى فكر الحركة وممارستها: عزل حكومة الإنقاذ«إبان المفاوضات وبعدها» عن محيطها الحيوي وعمقها الاستراتيجي؛ إفراغ مؤسسات الدولة المركزية«الجهاز التشريعى/القضائى/المؤسسة العسكرية/البنك المركزى..الخ» وعزلها عن مركز«أو مراكز صناعة القرار»؛ الإيحاء «وربما الدّفع» للحركات الثورية الأخرى بمواصلة حرب الغوريللا فى مناطق أخرى من البلاد.
    أما عزل «العدو» عن عمقه الاستراتيجي فيبدو فى موقف الحركة الشعبية الرامى لاجراء مفاوضات منفردة مع المؤتمر الوطنى على غرار اتفاقية كامب ديفيد بين المصريين واسرائيل. وعلينا هنا أن نتذكر أن أهم مبدأ في التفاوض المصرى الإسرائيلى «والذى جرى في السبعينيات من القرن الماضى تحت رعاية الرئيس الأمريكى كارتر ووزير خارجيته سايروس فانس» هو ضرورة ابرام «صلح منفرد» بين مصر واسرائيل عن طريق «عزل» مصر عن الدول العربية الأخرى«سوريا والاردن» التى تشاركها في القضية وتشكل مجالها الحيوى، ثم عزل قضية المستوطنات الاسرائيلية في سيناء عن الاستيطان الاسرائيلى في غزة والضفة الغربية والجولان. فالسمة الغالبة في تلك الاستراتيجية التفاوضية «التفكيكية» هى التركيز على مبدأ التجزئة والفصل، تجزئة موضوعات النزاع وفصل الاطراف المعنية بالنزاع عن بعضها، أى أن تفصل الأطراف المفاوضة فصلا تاما عن الأطراف الأخري التى تشاركها في القضية، وتمثل عمقها الإستراتيجي، ولكنها قد تختلف معها في أسلوب النضال، أو في أسلوب التفاوض، أو في بعض تفاصيل التسوية، أو نحو ذلك من الأمور الثانوية.
    فاذا تأملنا في هذه الاستراتيجية وحاولنا أن ننظر من خلالها الى مفاوضات السلام بين الحركة الشعبية وحكومة الانقاذ فسنجد كثيرا من العناصر المتشابهة؛ ابتداء بفكرة منتجع نيفاشا الكينى التى تكاد تكون تكرارا لفكرة منتجع كامب ديفيد، ومرورا بتحول الولايات المتحدة من دور الوسيط الى دور «الشريك» في عملية السلام وانتهاء بالاصرار على «عزل» حكومة الانقاذ « ربما بموافقة منها ولكن تحت التهديدات والضغوط الأمريكية» عن محيطها الحيوى الداخلى «المتمثل في القوى السياسية الشمالية» وعن محيطها الحيوى الاقليمى«المتمثل في الدول العربية والاسلامية». وقد يقال هنا كيف تمثل الأحزب الشمالية «عمقا حيويا» لحكومة الإنقاذ وهى،أى تلك الأحزاب، تندرج مع الحركة الشعبية في تنظيم سياسى/عسكرى واحد ظل يقاتل حكومة الإنقاذ منذ نشأتها؟ وهذا صحيح، ولكن ينبغى أن نفرق بين النخب الفوقية والقوى الاجتماعية القاعدية التى تتابعها حينا وتنفصل عنها أحيانا، كما ينبغى ألا تخدعنا صيغة «التحالف التكتيكي» الذى جمع بين تلك النخب والحركة الشعبية. فالتفرقة الأولى بين النخب القيادية فى تلك الأحزاب وقواعدها تفرقة هامة، لأن قواعد الأحزاب فى الشمال هى قواعد اجتماعية مشتركة بين حكومة لإنقاذ وغيرها من النخب، هذا الإشتراك « القاعدى/الثقافى» كان ينبغى أن يوضع من قبل حكومة الإنقاذ في خانة الثوابت الإستراتيجية، وأن يرتب عليه موقف سياسى تصالحى مع الأحزاب الشمالية المعارضة، فيعترف بها طرفا ثالثا في المفاوضات كما كانت طرفا في النزاع، ويتنازل لها في بعض الأمور كما فعل مع الحركة الشعبية، خاصة وان الحرب لم تستعر أصلا بين الحركة الشعبية والانقاذ الا بسبب تلك القاعدة الاجتماعية/الثقافية. ولكن لارتباك في الرؤية الإستراتيجية، أو لأمر آخر لا نعلمه، فضلت حكومة الإنقاذ أن تترك مجالا واسعا للخلافات الثانوية بينها وبين الأحزاب الشمالية أن تتحول لتناقضات أساسية، فوقعت فى الفخ الذى نصبته لها الحركة الشعبية من حيث لا تدرى، ووفرت لها بذلك ذخيرة كبيرة صارت تراهن من خلالها على هشاشة النظام الإنقاذي وحتمية تفككه وتلاشيه.
    ثم يضاف الى هذا أن الرؤية «التفكيكية» للحركة الشعبية كانت تتناغم مع الرؤية الأمريكية التى تتركز على أمرين اثنين لا ثالث لهما: المد الإسلامي والنفط. أما المد الإسلامي فيمكن «بحسب الرؤية الأمريكية» تحجيمه واحتواؤه من خلال إتفاقية السلام، وذلك بعزل الفصيل الإسلامي«ما بعد الترابي» ثم إدراجه في شبكة من الالتزامات الجديدة والمؤسسات المعقدة، يفقد عن طريقها القبضة السياسية القوية التى كان يتمتع بها من قبل، ولكن دون تجريده بصفة كاملة من كل إمتيازاته السياسية فيضطر للتقارب مرة أخرى مع فصيل الترابى المناوىء له، فتظل الحرب بينهما مشتعلة،مما يسهّل عملية التفكيك. أما من ناحية أخرى فقد يعتقد بعض مهندسى السياسة الأمريكية أن خير أداة لتحجيم ما تبقى من الحركة الإسلامية واحتوائه هو وجود نظام سياسي مخلّط تشارك فيه «أو تهيمن عليه» الحركة الشعبية وحلفاؤها من اليساريين «المعدلين» والعلمانيين والمجموعات الثورية المنحدرة من إثنيات غير عربية. وهو خيار وان كان غير مضمون العواقب «اذ قد يؤدى أيضا الى تزايد النزعة الأصولية الإسلامية»، الا أنه أفضل من وضع ينفصل فيه الجنوب تماما عن الشمال، فتتحرر الأصولية الإسلامية عندئذ من حرب الإستنزاف، وتستفرد بالشمال السودانى، فتصبح مصدر خطر أكبر في المنطقة. أما فيما يتعلق بالإمدادت النفطية فان بعضا من المحللين يعتقد أن الولايات المتحدة تراهن على إنشاء شبكة نفطية بديلة في القارة الأفريقية، يجمع فيها نفط السودان و تشاد ثم انجولا ونيجريا والكميرون لينتهى في الولايات المتحدة عبر خليج غينيا فالمحيط الأطلسي، وتكون الولايات المتحدة قد انفكت بذلك من استراتيجيتها النفطية الراهنة المعتمدة على الشرق الوسط وحده. ولأن نجاح مثل هذه الاستراتيجية يقتضى استقرارا في المنطقة فقد لا تميل الولايات المتحدة للدفع باتجاه انفصال فى الجنوب تتولد عنه بالضرورة سلسلة من الكيانات الانفصالية المتناحرة.
    أما أن الحركة الشعبية قد أصرت على اثبات حق تقرير المصير في الاتفاقات فان ذلك لا يعنى فى المحصلة النهائية أنها ستجعل الإنفصال خيارها الأول، ذلك لأسباب عديدة، منها أولا: الرؤية الاستراتيجية التى أشرنا اليها آنفا، إذ أن الحركة باتت تعتقد أكثر من أى وقت مضى أن الوضع الثورى يتحرك لصالحها، مما يمكنها أن تنال أغلبية برلمانية مريحة في أى انتخابات قومية قادمة، فيكون الإنفصال بالجنوب غير ذى معنى طالما أنه بات فى مقدور الحركة أن تسيطر على الشمال والجنوب معا؛ ومنها ثانيا أن النخب اليسارية والعلمانية في الشمال يمكنها اذا وجدت السند القانونى والدعم المادى «وهو ما تستطيع الحركة الشعبية أن توفره» أن تمثل مضادا أيديولوجيا وسياسيا قويا يحجم الحركة الإسلامية ويضعف نفوذها في المدن، ويجعل التشريعات الإسلامية التى أقرتها الإتفاقية غير ذات بال من الناحية العملية؛ ومنها ثالثا أن النخب السياسية التقليدية «الإتحادى والأمة» والتى تم تطوير التناقض الثانوي بينها وبين الحركة الإسلامية ليصير تناقضا أساسيا وعدائيا، لن يكون فى مقدورها أن تطرح رؤية متماسكة للبناء الوطني، ولن يكون من الصعب عندئذ أن تتواصل عملية إفراغها من محتواها الإسلامي/التاريخي، واستيعابها وتوظيفها في مشروع «السودان الجديد» الذي تدعو له الحركة الشعبية وحلفاؤها في الداخل والخارج.

    اخواننا فى اليسار والثورة الإجتماعية الشاملة(4-4)


    انتهينا فى المقال السابق الى القول بأن دخول الحركة الشعبية في اتفاقية السلام قد لا يعنى أنها أحدثت تغييرا أساسيا فى آيديولوجيتها أو إستراتيجيتها،ولكنه قد يعنى أنها تحاول من خلال عملية السلام الإنتقال إلى شوط جديد من أشواط الاستراتيجية القديمة ذاتها، استراتيجية التحضير للثورة الاجتماعية الشاملة والتعجيل بها.ثم أشرنا إلى بعض الموجهات "التفكيكية" التى قد ترتكز عليها فى مسيرتها القادمة، وفصلنا القول فى واحدة منها(عملية التفاوض ثم الإتفاق المنفرد مع المؤتمر الوطني)، ونواصل الحديث هنا عن بقية تلك الموجهات، والتي يأتي على رأسها عزل مؤسسات الدولة القومية، وإفراغها من أى قدرة حقيقية على صناعة القرار.ولكن هذا قول لا يتضح الا بمزيد من التدقيق، لأنه يتعلق فى تقديرنا بجوهر الإتفاقية وبالفلسفة الأساسية التى تستند عليها.
    لقد صار من شائع القول بين نقلة الأخبار أن اتفاقية مشاكوس هى "الإطار المرجعى" لما تلاها من اتفاقات بين الحركة الشعبية وحكومة الإنقاذ، ولكن لم نر أحدا يسأل عن الإطار المرجعي الذى تستند عليه اتفاقية ماشوكس ذاتها، وما أن حاولنا ذلك حتى بدأنا نشتم فيها رائحة النظرية الوظيفية. وأول ما يفوح من الوظيفية هو توجهها الفلسفي المعادى للدولة(anti-statist)، إذ أن الدولة القومية في نظر الوظيفيين هي "عائق" يقف أمام المصالح والحاجات المشتركة، ويصّد عن تحقيقها بالكفاءة المطلوبة، ولذلك فهمم ينادون بتجاوز مفهوم الدولة القومية ذات السيادة، مع ما يتبع ذلك من تجاوز لمفهوم حكم الأغلبية، وما يتصل به من مفهوم التسلسل الهرمي للسلطة، وكل ذلك يقود بالطبع إلى الإنصراف عن مؤسسات الدولة القائمة، وإنشاء شبكة من المؤسسات البديلة تكون "وظيفتها" الأساسية خدمة وتحقيق بعض المصالح والإهتمامات المشتركة التى يقع عليها إختيار الفاعلين (أو اللاعبين؟)الأساسيين في الساحة السياسية. ويدّعى "الوظيفيون" علاوة على ذلك أن "الكفاءة"، والكفاءة وحدها، في أداء تلك "الوظائف" هي التي ينبغي أن تحدد "ولاء" الأفراد والمجموعات لتلك المؤسسات. فكأننا نستطيع (وفقا لهذه النظرية) أن نتفادى صراع المجموعات حول الدولة بالنأي عن الدولة ذاتها، وإدراج تلك المجموعات في شبكة أخرى من المؤسسات الإدارية على المستوى الأمني والاقتصادي، تخطيطا وتنفيذا، ودفعها نحو التوازن والإستقرار من خلال ترتيبات إقتصادية مشتركة تستند على مواثيق ذت ثقل دولى يفوق قدرة الدولة القومية، بحيث ترغم الحكومة المركزية على التخلي عن عدد من الوظائف والاختصاصات "القومية" ليتم "تخصيصها" ثم إدراجها في عدد من الوحدات الإدارية/السياسية الجديدة، أو قل المفوضيات المشتركة، التى يراد لها أن تتطور تدريجيا نحو المزيد من التشابك والتكامل المؤسسي، فيتمهّد الطريق بذلك لبروز نخب بيروقراطية وسياسية جديدة، تتمتع بقدرات إدارية وميول "نفعية" ملائمة لمثل هذه العمليات، كما تتمتع بعقلية براجماتية مخالفة لعقلية السياسيين والعسكريين القدامى الذين شاركوا في الحرب.
    فالتكامل المؤسسي وفقا لهذه النظرية سيؤدى لانسياب المعلومات، و تعزيز الثقة، و بروز قيم مشتركة، وبلورة مصالح اقتصادية مشتركة، وذلك كله تحت مظلة الرقابة الدولية الصارمة على مصادر التسلح وموارد الاقتصاد(الجيش والنفط) التي يشتد النزاع بسببها بين الأطراف المتحاربة. ويزعم "الوظيفيون" أنه متى ما وضعت مثل هذه اللبنات المؤسسية الابتدائية، فان عملية التكامل ستنطلق وستستمر عن طريق التعزيز الذاتي، وعن طريق التغذية الراجعة المتدرجة. فاذا علم هذا فلا غرو اذن أن يكمن جوهر الاتفاق في الالتزام المسبق بمبادىء وسياسات وإجراءات لا تعرف نتائجها، اذ المقصود هو أن تترك هذه النتائج لما يسمى (بديناميكية الظروف.( فى مذكرات له ذكر محمد ابراهيم كامل وزير خارجية مصر فى عهد الرئيس السادات أن بريجنسكي، مستشار الرئيس الامريكى للأمن القومي، كان يعيد على مسامعه باستمرار أن التسوية لا يمكن أن تتحقق دفعة واحدة، ثم أخذ يشرح نظريته، هكذا يقول محمد ابراهيم كامل، عن ديناميكية الظروف(dynamics of situations)، أي أن الظروف السياسية لها قوة دفع ذاتية، وكل ظرف يهيئ المناخ لظرف جديد يتولد عنه.هذا، وليس بمستغرب أن تظل هذه النظرية التى اهتدى بها الأمريكيون في إدارتهم لمفاوضات كامب ديفيد، هي ذاتها دليلهم فى منتجع نيفاشا، فهناك دائما "مآلات" ينبغى أن تترك "مجهولة" (هل تتذكرون نظرية رولز عن حجاب الجهالة؟)، فالجهالة هى التى ستعزز الاندفاع والاستمرار في عملية السلام، إذ أن أية خطوة يتم تحقيقها،مهما صغرت، فإنها ستؤدى إلي خطوة أخرى أهم منها، أى أن حلحلة النزاع المسلح تبدأ بدفع الأطراف المتحاربة بالانسياق في شبكة جديدة من العلاقات والمؤسسات، والتى ستفرز بدورها نفسيات جديدة ومناخا مغايرا، ومصالح متجددة، قد تؤدى في المحصلة النهائية الى تعديل في الرؤى وتليين في المواقف، وذلك هو معنى القول إن التحول من النزاع الى السلام يمكن أن يتم عن طريق التكامل المؤسسي. ولكن "المؤسسة" هنا لا تعنى مؤسسات الدولة القومية القديمة، وانما يقصد بها "تمييز" أحد المجموعات ووضع موارد مادية معلومة تحت اختصاصها، بحيث تتمكن من "تأسيس" بعض القيم والرؤى التي كانت تقاتل من أجلها، مع تحصين كامل لهذه العمليات التمييزية والتأسيسية من أي محاولة لاحقة للنقض أو المراجعة قد تهم بها مستقبلا إحدى الجهات المتعاقدة، أو إحدى الجهات المناوئة لها(سواء جاءت عن طريق انتخابات شعبية عامة، أو حتى انقلاب عسكري). الإفترض هنا أنه كلما تعددت وتشابكت أجهزة وأنظمة اقتسام السلطة، كلما تضاءلت فرص العودة الى السلاح، أو الى الأغلبية العددية(الديموقراطية) لحسم الخلاف. ولقد عبر العقيد قرنق عن ذلك صراحة في خطاب له بنيروبى بمناسبة التوقيع على تلك الإتفاقية في الخامس من يونيو 2004، قائلا: "ان الاتفاقات الستة تعكس-بالنسبة الى أولئك الذين وجدوا فرصة للاطلاع عليها- "شبكة معقدة من المؤسسات الحكومية، ومن الحسابات المبلبلة للعقول فيما يتعلق بقسمة السلطة والثروة والترتيبات الإمنية". وهذا كما ترى ترتيب "تفكيكى/اشتباكى" يختلف تماما عن مفهوم وتراتيب النظام الفيدرالي، الذي تتخلى فيه الحكومة المركزية عن الوظائف والاختصاصات لإدارات سياسية أخرى منفصلة ومستقلة عنها. هذا الترتيب الوظيفى، والذى لم ينتبه له المحللون، يعتبر في تقديرنا من أهم وربما أخطر سمات اتفاقية السلام الأخيرة، ليس لأنه ينصرف عن مؤسسات الدولة القومية ويتركها لشأنها، وإنما لأنه يتعمد "إفراغ" تلك المؤسسات من معظم الصلاحيات التشريعية والإقتصادية والتخطيطية والرقابية. واذا سارت هذه الإتفاقية وفقا لمضامينها الفلسفية المشار اليها فانه سرعان ما يكتشف المجتمع السياسي السوداني أن الدولة المركزية وأجهزتها المختلفة، كالقوات المسلحة والبنك المركزى والجهاز التشريعي، ليست بذات أهمية، وأن القابض عليها لا يقبض سوى الريح. ولعل هذا هو ما كان يقصده العقيد قرنق وهو يتحدث(24 مارس 2002) الى جمع من السودانيين في واشنطن عن "تفكيك" نظام الإنقاذ عن طريق المفاوضات.
    لقد حاولنا آنفا أن نقرأ اتفاقيات السلام بين حكومة الإنقاذ والحركة الشعبية في ضوء النظرية الوظيفية، وقد ساعدتنا تلك النظرية في الكشف عن سر الإصرار المتعمد على الشبكات الإدارية المعقدة، والحسابات "المبلبلة للعقول" ، كما جاء في تعبير العقيد جون قرنق. ولكن النظرية الوظيفية ذاتها لم تخلو من العيوب، وقد تعرضت لكثير من الإنتقادات والتعديلات حتى تحول بعض أصحابها الى ما سمى "الوظيفية الجديدة". أول تلك الإنتقادات هو أن الأطر المؤسسية الجديدة مهما تكثفت لا تكون وحدها كافية لتعزيز الثقة، بل أنها ستقود، أول ما توضع موضع التنفيذ، الى خلافات جديدة تتبلور في اتجاه النزاع، أما الإنتقاد الثانى فهو أن المجموعات التى سترفّع الى قيادة هذه المؤسسات ستسعى للإستحواز على "الموارد الحرجة" (critical resources) التى تعتمد عليها بقية فئات المجتمع، وستسعى لسن قوانين تكرس من خلالها رؤيتها ومصالحها، فتستثير بذلك حفيظة وغيرة مجموعات سياسية واجتماعية أخرى ممن لم تشملهم الإتفاقات، فتكون تلك بداية لصراع آخر، أما الإنتقاد الثالث فيتوجه الى فكرة "تمييز" أحد أطراف النزاع و"تأسيس" وضع جديد خاص بها، اذ أن مثل هذا التمييز لا يكون ممكنا الا "بسحب" الموارد من قطاعات أخرى في المجتمع، فتندفع هى الأخرى للدفاع عن مصالحها و"لتأسيس" رؤيتها، مما يعنى أن هذه الفكرة تحمل بذور النزاع في داخلها، إذ أن نجاحها فى منطقة ما سيكون هو ذاته بداية لاندلاع الحرب فى منطقة أخرى.
    وهكذا، وبعد أن ساعدتنا النظرية الوظيفية في الكشف عن الرؤية التحتية التى بنيت عليها اتفاقات السلام بين حكومة الإنقاذ والحركة الشعبية، وأبدت لنا جانبا متفائلا للأمور، أطلت "الوظيفية الجديدة" برأسها لتكشف عن النزاعات الأخرى التى يمكن أن تتولد عن اتفاقات نيفاشا، ولتبدى لنا صفحة أقل تفاؤلا. وبالفعل، وقبل أن تدخل اتفاقات نيفاشا حيز التنفيذ، اندلعت مشكلة أخرى في أقليم دار فور، ثم تفاقمت في فترة وجيزة لتصبح أكثر خطورة على الوطن من مشكلة الجنوب التى تم التوصل الى اتفاق حولها.
    لقد حاولنا فى هذه المقالات أن نكشف عن "فهمنا" لما نتصوره من رؤى استراتيجية للحركة الشعبية، وقد نكون فى هذا مخطئين، ولكن لئن نضع آراءنا المخطئة على طاولة البحث، فيراها من هو أعلم منا، ويقوم بتصويبها، خير وأنفع من التكتم عليها، والتعامل مع الآخرين على أساسها.وحتى يكتمل النفع، فنود أن نطرح عددا من الأسئلة التى لم يترجح لنا فيها شي، والأسئلة كثيرة ولا تنقطع، منها مثلا: كيف تنظر الحركة الشعبية لحركات التمرد فى دار فور وغيرها؟ هل ترى فيها "حليفا استراتيجيا" يجب دعمه حتى يحصل على مثل ما حصلت عليه الجبهة الشعبية فى نيفاشا،أم ترى فيها "منافسا" يقوّض ما تحقق فى تلك الاتفاقية؟ وهل ستسعى الحركة بصورة جادة نحو "تحول ديموقراطي" فى البلاد؟ وماذا تقصد "بالديموقراطية"؟ هل تقصد أنها ستقبل مثلا بحكم الأغلبية إذا جاء لغير صالحها؟ أم أنه "كلما انحسر نفوذها شمالا عادت لخيار الإنفصال بالجنوب"؟ وهل ستسعى لاكتساب أغلبية حقيقية فى شمال السودان من خلال تحالفات مع ممثلي القوى "التقليدية"(قيادات الطرق الصوفية وزعماء القبائل والعشائر)، أم أنها ستغض الطرف عن هؤلاء وتحصر نفسها فى فصائل اليسار؟وكيف ستكون علاقتها مع الحزب الشيوعي؟ هل ستعتبره أحد الفصائل الثورية التى ينبغى أن تندرج فى استراتيجية السودان الجديد تحت قيادتها، أم ستعتبره الحزب الطليعي الذى سيقود هذه المسيرة؟وما هى رؤيتها للتنمية الاقتصادية التى ظلت تمنى بها قطاع المهمشين فى الشمال والجنوب؟ متى تبدأ هذه التنمية ومن أين؟ وهل يبنى "السودان الجديد" فى اتجاه اشتراكي معدّل أم رأسمالي ملطّف؟ وماذا ستفعل بجيشها الشعبي في الجنوب؟ هل سيكون هو نواة الحزب أم أنه سيحتفظ به بعيدا عن السياسة؟وهل سيفسح لرجال الأعمال والعمال ورجال الدين وزعماء القبائل موقع في داخل الصّف القيادي للحركة على حساب الجنرالات وأصحاب الرؤى الآيديولوجية والنزعات الراديكالية؟ أم أن الحركة تخشى من حدوث "ثورة فى داخل الثورة" كما وقع لغيرها من الحركات الثورية؟ وكما وقع لنا نحن فى الحركة الإسلامية؟






                  

08-01-2007, 12:02 PM

على عمر على
<aعلى عمر على
تاريخ التسجيل: 12-13-2003
مجموع المشاركات: 2340

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا (Re: عبدالعزيز حسن على)

    *
                  

08-01-2007, 02:21 PM

على عمر على
<aعلى عمر على
تاريخ التسجيل: 12-13-2003
مجموع المشاركات: 2340

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا (Re: على عمر على)

    حول تجربة الحركة الأسلامية فى السودان
    الدكتور/ التجانى عبدالقادر

    السبت 4 أغسطس 2007
                  

08-02-2007, 02:43 PM

على عمر على
<aعلى عمر على
تاريخ التسجيل: 12-13-2003
مجموع المشاركات: 2340

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا (Re: على عمر على)

    +++++++
                  

08-04-2007, 02:21 PM

على عمر على
<aعلى عمر على
تاريخ التسجيل: 12-13-2003
مجموع المشاركات: 2340

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا (Re: عبدالعزيز حسن على)

    Kostawi العزيز

    لقد قصدت فعلاً حصر كل المقالات التى لها علاقة بتقييم تجربةالحركة الأسلامية فى السودان (اسم الدلع للخوان المسلمين) او الجبهة الاسلامية فى اكثر حالاتها تدلعاً) وهو موضوع الندوة (د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان )
    شكراً لك وشكرين لعبدالعزيز الى لبى طلبك
    نشوفك
                  

08-02-2007, 03:33 PM

Anwar Elhaj
<aAnwar Elhaj
تاريخ التسجيل: 06-10-2004
مجموع المشاركات: 442

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا (Re: على عمر على)

    على
    كان الوفد أن ترحل ندوة الدكتور التجانى ليوم آخر حتى نتمكن من حضورهانسبة لتضارب مواعيدها مع الأحتفال بالذكرى الثانية لرحيل القائد الدكتور قرنق . وقد بذات جهدآ مقدر و منينا بالفشل


    أنور
                  

08-02-2007, 03:46 PM

Kostawi
<aKostawi
تاريخ التسجيل: 02-04-2002
مجموع المشاركات: 39979

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا (Re: Anwar Elhaj)

    Quote: يا كستاوي أعتقد ان صديقناعلي عمر علي ركز على المقالات التى لها علاقة بموضوع الندوة وهو تجربة الحركة الاسلامية


    غريب و عجيب يا عوض دكام

    مقالات إخواننا في اليسار جميعها تصب في تجربة الحركة الاسلامية و لا الحركة الإسلامية دي ساكنة و مسجونة في دبك. يعني في يسار بدون حركات.


    المهم شكرا على المقالات

    أنور
    call me at
    8371-206-301
                  

08-02-2007, 06:13 PM

على عمر على
<aعلى عمر على
تاريخ التسجيل: 12-13-2003
مجموع المشاركات: 2340

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا (Re: Kostawi)

    الأصدقاء
    Kostawi
    عمر ادريس
    عبدالعزيز حسن
    انور الحاج

    شكراً على المرور ساعود لكم لاحقاً
                  

08-02-2007, 11:38 PM

على عمر على
<aعلى عمر على
تاريخ التسجيل: 12-13-2003
مجموع المشاركات: 2340

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا (Re: على عمر على)

    =======================
                  

08-03-2007, 03:24 AM

Osman Musa
<aOsman Musa
تاريخ التسجيل: 11-28-2006
مجموع المشاركات: 23082

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا (Re: على عمر على)

    لك الشكر
    استاذ على عمر
    تحياتى
                  

08-03-2007, 04:35 PM

Kostawi
<aKostawi
تاريخ التسجيل: 02-04-2002
مجموع المشاركات: 39979

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا (Re: Osman Musa)
                  

08-04-2007, 02:27 PM

على عمر على
<aعلى عمر على
تاريخ التسجيل: 12-13-2003
مجموع المشاركات: 2340

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: د التجاني عبدالقادر يناقش تجربة الحركة الأسلامية فى السودان -منتدي الجالية الثقافى واشنطن-ا (Re: Anwar Elhaj)

    Anwar Elhaj
    Quote: كان الوفد أن ترحل ندوة الدكتور التجانى ليوم آخر حتى نتمكن من حضورهانسبة لتضارب مواعيدها مع الأحتفال بالذكرى الثانية لرحيل القائد الدكتور قرنق . وقد بذات جهدآ مقدر و منينا بالفشل


    العزيز أنور علمت من القائمين على امر المنتدي أنهم بذلوا كذلك مجهود خرافى لكي لا يقع هذا التضارب ولكن لظروف سفر د التجاني عبدالقادر ولمواعيد مسبقة معه تجاوزت العام لم يجدوا مفراً من قيامها الا السبت 4 اغسطس
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de