مواضيع توثقية متميزة

إعدامات الشجرة 1971 ( صور)

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-07-2024, 06:15 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مواضيع توثقية متميزة
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
04-30-2009, 03:57 AM

د.نجاة محمود


للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) (Re: sourketti)

    ترددت كثيرا رقم متابعتي لهذا البوست من اوله في الادلاء باي اقوال
    لان من الموضوع دا تحولت الى عدو رقم واحد لبعض شيوعي المنبر..


    ولكن سانشر هذا الجزء من كتاب بروف محمود قلندر
    وهو الشخص الوحيد الذي اعرفه تمكن من قراءة فوايل لجنة علوب

    ومن هنا اهيب بالجش السوداني ان يقوم بوضع هذه الفوايل في دار الوثائق
    ليطلع عليها الباحثين لمعرفة الحقيقة حيث ان الحقيقة في تلك الفوايل
    وان ما يكتب عبارة عن انطباعات لا غير وتكهنات عامة...
    واحي اختنا كمالة في رسالتها وحقا الحقيقة ستعطي الحرية للجميع.
    حيث هناك جيل ثاني يعاني كثيرا وهم ابناء الشهداء
    محاولة غسل اليد مما حدث في قصر الضيافة لا يجدي من قبض على هؤلاء الشهداء
    هو مسوؤل عن تأمينهم وقتلهم من قبل اي شخص ىخر يعض تفريط
    وتبقى المسؤولية عمن لم يوفر لهم الحماية وهم تحت يده..
    ولذلك محاولة ذكر شامبي الذي كان طالبا في الثانوي في ذلك الانقلاب لن تجدي
    على الحزب الشيوعي ان يعترف بمشاركته في انقلاب مايو وقيامه بالثورة التصحيحة
    وتحمل تبعاتها..
    اترككم مع ما كتبه بروف محمود قلندر




    وقائع الحدث الكبير
    ليلة المولد .. والانقلاب
    (من خور عمر ) أحدث 400 جندي و 14 ضابطاً
    أكثر التغييرات السياسية راديكالية في تاريخ السودان...
    (النصر لنا) كانت كلمة سر الحركة .. فصارت شعار السودان فيما بعد ..
    شيوعيون وناصريون واشتراكيون عرب ويساريون تقدميون بلا انتماء كانوا في قلب التحرك ..
    ===========
    بحلول الأول من مايو 69، كان الرائد فاروق حمد الله قد أكمل اتصالاته بالقوى السياسية اليسارية في سبيل التأكد من موقفها حالة استلام الجيش للسلطة. ولم يكن فاروق وزملائه في حاجة إلى كثير جهد لإقناع تلك القوى بتأييد التغيير في حالة وقوعه، فقد كانت معظم تلك القوى قد وصلت مرحلة من القناعة بأن التغيير آت لا محالة، ولم يكن فاروق حمد الله وحده النشط في تلك الأيام، إذ كان هناك عدداً من (الضباط) (الطيارة) الذين تمت إحالتهم للمعاش بعد أحداث اعتقال جوبا للوزير والقائد العام. وكان الضابط أحمد عبد الحليم، الضابط الوافد من مصر مع شقيقه محمد عبد الحليم، واحداً من أولئك الضباط. كما كان من بينهم بعض الضباط الناصريين والبعثيين الاشتراكيين الذين استكملوا حلقات الاتصال التي بدأها فاروق.
    وبالرغم من كل ما قيل، قولاً أو كتابة، عن حقيقة الاتصال بالشيوعيين، وعن حقيقة ضلوعهم في التخطيط والتنفيذ، فإننا يمكن ان نقرر ان نقرر هنا، ان الاتصالات التي أجراها نفر من الضباط الأحرار مع الشيوعيين لم تتجاوز حدوداً بعينها، فقد ذكر الرائد فاروق حمد الله في أيام الثورة الأولى بأنه في كل اتصالاته بالشيوعيين حرص على ان يكونوا بعيدين عن التفاصيل الدقيقة (1).
    وكان الاتصال بالجماعات الشيوعية مرتكزاً أكثر على المجموعة المناوئة لعبد الخالق محجوب، وقد شملت أحمد سليمان وفاروق أبو عيسى ومعاوية إبراهيم.
    أما عبد الخالق محجوب، فإن الرائد فاروق حمد الله كان حريصاً على ان يكون الاتصال به متأخراً جداً، في الساعات الأخيرة قبل التحرك، وقد برر فاروق حمد الله ذلك الاتصال المتأخر عمداً بان (عبد الخالق كان يرغب دوماً في ان يعرف أكثر مما ينبغي) وتقول مصادر أخرى ان السبب في إبعاد عبد الخالق عن موقع المعرفة بمجرى التطورات هو معارضة عبد الخالق لأي تحرك عسكري بدعوى أن الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية غير مواتية له.
    ولعل هذا الإبعاد لمجموعة عبد الخالق عن تفاصيل التحرك هو الذي كان وراء لهث الثنائي المؤيد لعبد الخالق، محمد إبراهيم نقد والشفيع أحمد الشيخ، لمعرفة ما يجرى في صفوف الجيش، حيث طارد هذا الثنائي العقيد جعفر نميري حينما حضر إلى الخرطوم خلال الاسبوع الثاني من مايو 69 وقد استغل نقد صلاته الطالبية بنميري لمعرفة ما يتم تدبيره من حدث، وهو ما سرده نميري في كتابه المشهور النهج الإسلامي لماذا.(2)
    الشخص الوحيد – من غير أعضاء التنظيم – الذي كان يلم بالتفاصيل الدقيقة لمجريات التحرك هو القاضي بابكر عوض الله. وكما قلنا من قبل فإننا لا نملك تفاصيل وقائع الاتصال ببابكر عوض الله، ولكننا نعرف ان الذي زكى القاضي بابكر لأعضاء تنظيم الضباط الأحرار هو مواقفه المبدئية في القضية الدستورية ودفاعه عن هيبة القضاء السوداني إثر استهزاء مجلس السيادة والجمعية التأسيسية بقرارات المحكمة العليا.
    وكان هناك شخص آخر، تم إخطاره في الأيام الأخيرة للتخطيط وذلك بعد ان أحس الضباط المنفذون بالحاجة إلى إشراك عناصر من الشرطة حتى لا يتم كشف التحركات من خلال أجهزة المباحث والأمن الداخلي، وكان ذلك الشخص هو قمندان شرطة الخرطوم علي صديق (3) وقد تركزت مهمة علي صديق بعد ذلك في السيطرة على المعلومات التي يمكن ان ترد من خلال الأمن الداخلي والمباحث عن تحركات الجيش المرتقبة ساعة التنفيذ. وقد تم تعيينه مديراً عاماً للشرطة بعد ذلك.
    يعتبر شهر مايو من الأشهر الكسلي في وحدات القوات المسلحة المتواجدة في العاصمة، فالمدارس تبدأ عطلاتها الصيفية في هذا الشهر أو قريباً منه. ومن ثم فإن الضباط درجوا على طلب عطلاتهم والإسراع إلى مواطنهم الأصلية خلال هذا الشهر أو قريباً منه.
    ولهذا السبب فإن القوات المسلحة قل ما تجرى تدريباتها وتمريناتها العلمية في هذه الفترة، إلا إذا كان الغرض هو التدريب على العمليات في فترات مناخية محددة.
    ولهذا السبب أيضاً فإن وجود جعفر محمد نميري، قائد مدرسة المشاة بجبيت، في الخرطوم منذ مطلع مايو، لم يكن ملفتاً للنظر كثيراً، بالرغم من ان جعفر نميري كان واحداً من الضباط الأكثر خضوعاً للرقابة في تلك السنوات. وكان السبب في وجود نميري تحت عيون أجهزة استخبارات الجيش هو ورود اسمه في كل المحاولات الانقلابية التي جرت من قبل. فقد ورد اسمه في كبيدة الأولى، ثم ورد مع حركة علي حامد. أما في أكتوبر 64، فإن نميري كان القائد الثاني لسلاح المدرعات في الشجرة، حين جرت الأحداث العاصفة على النحو المعروف. وكان دور سلاح المدرعات في تأكيد انحياز الجيش للشعب مشهوداً، فقد جاء التهديد للقيادة العامة من عدد من الوحدات من بينها المدرعات، بينما لعبت المدرعة التي توجهت إلى القصر دوراً مهماً في اتخاذ عبود لقراره بحل مجلسه العسكري.
    ولعب نميري وعدد من الضباط الشباب دوراً مهماً فيما بعد نجاح أكتوبر في المطالبة بتطهير الجيش من القيادات الموالية لعبود، خاصة وأنه جرت محاولات إبعاد الضباط الشباب الذين اعتبروا ناشطين سياسياً وقتها.
    لكل هذه الأسباب فإن وجود نميري في الخرطوم كان طبيعياً، ولكنه كان وجوداً محفوفاً بالشك عند اللواء حمد النيل ضيف الله بالذات. قد التقى حمد النيل بجعفر نميري في القيادة العامة، وسأله سؤالاً اجتماعياً في مظهره: (مالك بي جاي يا جعفر؟ لعلك ما عندك عوجة؟).
    وكان رد نميري أنه جاء في عطلته السنوية، ويسعى لعلاج زوجته ولكن ضيف الله جعل ذلك المدخل الاجتماعي بداية لحوار تحذيري لنميري من الانغماس في أية محاولات انقلابية. مذكراً إياه بأنه دوماً موضع الرقابة لماضيه المعروف وكان حمد النيل في واقع الأمر يتحدث وفي خلفية ذهنه بعض التقارير التي كانت ترد لمكتبه ولمكتب القائد العام الخواض محمد أحمد، عن ان الساحة السياسية في غاية الهشاشة، وان بعض القوى السياسية تقوم بالاتصال بعدد من العسكريين العاملين في الجيش عن طريق زملائهم المبعدين.
    وقد ذكرت تلك التقارير أسماء ثلاثة من ضباط المعاشات هم فاروق حمد الله، سعيد كسباوي وأحمد عبد الحليم. بيد أنه كان يتم التقليل من دقة معلومات تلك التقارير من قبل بعض عناصر الاستخبارات التي كانت على صلة وثيقة بخلايا تنظيم الضباط الأحرار. والواقع ان بعض تلك العناصر كانت قد زرعت في الخلايا من قبل الاستخبارات ولكنها لعبت دوراً مزدوجاً مكنها في نهاية الأمر من ان تكون عيناً لتنظيم الضباط الأحرار على الاستخبارات. وكان من بين تلك العناصر الرائد مأمون عوض أبوزيد.
    كما ذكرنا، فغن شهر مايو الكسول في المناطق العسكرية عموماً، لا يغرى ولا يوحي بإمكان أي تحرك عسكري، ولهذا فقد كان من الملفت اتجاه بعض وحدات المظلات والمدرعات إلى عقد تدريباتهم غرب أمدرمان في هذا الوقت من العام، ولكن هذا الأمر لم يلفت النظر على المستويات العليا لسبب بسيط وهو أنه تم بموافقة مسبقة من مدير العمليات، ومن سلطات هيئة الأركان، ومن ثم لم يكن هناك ما يمكن ان يشكك في أمرها. ولهذا فإن سرية مدرعات وسرية مشاة كانتا تقومان بتدريبات روتينية محورها جماعة مستجدين، كانتا هما النواة الأساسية للتحرك المنتظر. وكانت هذه القوة متواجدة غرب أمدرمان في المنطقة الممتدة من خور عمر وحتى مشارف منطقة الشقلة.
    أما سريتا المظلات، فقد تقرر لهما ان يقوما بطابور سير يوم الرابع والعشرين من مايو في مناطق غرب أمدرمان. وكان قادة هاتين السريتين وبعض ضباطها من أعضاء تنظيم الضباط الأحرار ومنهم أبو القاسم محمد إبراهيم وزين العابدين عبد القادر. أما الجنود فقد بلغ مجموعهم حوالي (400) ضابط صف وجندي، معظمهم من قوات المظليين.. وأما الضباط فقد بلغوا أربعة عشر ضابطاً، وكانوا ثلاثة جماعات.
    الجماعة الأولى أعضاء تنظيم الضباط الأحرار، والذين كانوا قد تعاقدوا على المضي في طريق التغيير في اليوم المحتار. وكان بعض هؤلاء متواجداً في المعسكر، بينما كان على البقية ان يصلوا إلى منطقة خور عمر قبل ساعة الصفر بساعات عدة.
    وقد تواجد معظم هؤلاء إما في معسكر خور عمر أو قريباً من منطقة المعسكر استعداداً لتنفيذ دورهم في التحرك منذ الليلة السابقة. كان من بين هؤلاء جعفر نميري، وخالد حسن عباس، أبو القاسم محمد إبراهيم، ومأمون عوض أبو زيد وزين العابدين محمد أحمد.
    وكان منهم كامل عبد الحميد، ميرغني العطا، محجوب برير، سيد أحمد حمودي، عثمان أبو شيبة، وأحمد مرسي.
    أما الجماعة الثانية فهي مجموعة من الضباط التي لم تنتم إلى التنظيم، ولكنها وجدت نفسها وسط جماعة توشك ان تتحرك لاستلام السلطة، فحاول بعض منهم ان يتراجع، فتم تحييده بالوسائل المتاحة إلى حين إنفاذ التحرك، بينما تحمس بعض آخر وشارك(4).
    أما الجماعة الثالثة فقد تكونت من الضباط المحالين إلى المعاش من أعضاء التنظيم، وقد شارك هؤلاء مشاركة فعلية منذ بداية التحرك. اثنان من هؤلاء كانا محمود حسيب الذي قام بتنفيذ الاستيلاء على الإذاعة، وفاروق عثمان حمد الله الذي قام بقطع المواصلات بين المدن والحاميات العسكرية.
    ليلة الرابع والعشرين من مايو كانت ليلة مغادرة الوفد العسكري السوداني إلى موسكو لتوقيع اتفاقات متعلقة بإمداد القوات المسلحة بالأسلحة والعتاد. وكانت محادثات موسكو العسكرية المرتقبة هي نتاج تفاعلات عسكرية وسياسية مختلفة، منها الواقع العسكري في الجنوب، والذي تصاعد إلى حد اعتقال القائد العام الخواض محمد أحمد عام 66 في جوبا. ثم الواقع السياسي الذي برز بعد حرب يونيو 67 وإحساس السودان بواجبه العربي تجاه الصراع الإسرائيلي العربي، إضافة إلى قطع السودان لعلاقاته بالغرب بعد تلك الحرب.
    وكان الوفد العسكري المغادر يضم خمسة من كبار القادة في القوات المسلحة من بينهم اللواء محمد إدريس عبد الله، والعميد عمر الحاج موسى، والعميد أحمد البشير شداد.
    ولما كانت هيئة القيادة في ذلك الوقت محدودة – مقارنة بهيئة القيادة اليوم- فإن غياب عدد من القادة بمثل ذلك الحجم كان ذا أثر هام في قدرة القيادة وفاعليتها. وكان هذا هو ما يتطلع إليه المخططون.. ان تكون قدرة القيادة العسكرية مشلولة بغياب جزء كبير منها.
    ولذلك فإن ليلة مغادرة الوفد العسكري إلى موسكو كانت ليلة مشهودة ومحسوبة ساعاتها.
    وكان هذا الأمر مهماً جداً بالنسبة للمتحركين ليلة الخامس والعشرين من مايو لسبب أساسي وهو أنهم جميعاً من الرتب الصغرى إذ أن أعلاهم رتبة، وهو جعفر نميري كان برتبة العقيد.
    وأهمية هذا الأمر تكمن في ان صغر رتب قيادة الحركة يمكن ان يؤدي إلى تصدى أي قائد عسكري برتبة أعلى منهم وإعاقة سيطرتهم على الجنود والضباط الآخرين.
    ليلة الرابع والعشرين من مايو 1969 صادفت ليلة من الليالي الأخيرة لاحتفالات المولد النبوي، ولذلك فغن المحتفلين بتلك المناسبة سهروا – كما هي العادة كل عام – إلى وقت متأخر من الليل في ساحات المولد في العاصمة، ومن بينها ساحة مولد أمدرمان التي لا تبعد كثيراً من مبنى الإذاعة السودانية.
    حينما قاربت الساعة الثالثة صباحاً، تبقى في ساحة المولد بأمدرمان عدد قليل من الناس، كان معظمهم أصحاب محلات بيع الحلويات والأطعمة الذين آثروا المبيت في مواقعهم بدلاً من الانتقال في ذلك الوقت المتأخر إلى منازلهم. وفي تلك الساعات الأولى تنامي إلى أسماعهم هدير الدبابة التي كانت تقترب بسرعة شديدة من مبنى الإذاعة. لاحظ الساهرون الدبابة.
    كانت الإذاعة هي أول المواقع التي حرص المتحركون على الاستيلاء عليها. ولم تستغرق العملية أكثر من زمن مناورة الدبابة لاحتلال موقعها المواجه للقادم من بعيد، لتتم السيطرة على الإذاعة وفي جانبها مبنى التلفزيون.
    والواقع ان المهام الأخرى جميعها لم تستغرق أكثر من ساعتين قطع طرق الاتصال بين الوحدات العسكرية ومن منازل المسئولين الأعلى كرئيس الدولة ورئيس الوزراء، تم من خلال السيطرة على كبانية الخرطوم، بينما تم قطع الاتصالات العسكرية من قبل جماعة من سلاح الإشارة كانت على موعد مع التحرك.
    كانت ثلاث مناطق هي الأهم في أجندة المتحركين ليلتها: الإذاعة، والمطار ثم القيادة العامة ولم تستغرق عملية الاستيلاء على هذه المواقع وقتاً وجهداً كثيرين.
    ولكن جزء من جهد تلك الليلة كان مركزاً على اعتقال القادة والضباط الأعلى رتبة من قيادة التحرك. وقد تناقص عددهم بغياب عدد منهم في مهمة موسكو بينما كان بعضهم خارج العاصمة. وقد تمكن المتحركون ليلتها من اعتقال جميع القادة العسكريين ذوي الأهمية، إلا واحداً هو اللواء حمد النيل ضيف الله.
    وتختلف الروايات عن حقيقة غياب حمد النيل ليلتها عن منزله، فتقول رواية أنه كان بداخل منزله وان الذين طلبوه استبطأوا حضوره وظنوه قد هرب من الأبواب الخلفية، تحاشياً وابتعاداً، أو توقعاً وانتظاراً. بينما تقول رواية أخرى أنه كان بعيداً عن منزله بمحض الصدفة، وان عودته المتأخرة لبيته اصطدمت بالجنود المسرعين نحو أهداف تلك الليلة، فآثر البقاء حيث هو.
    ويمكن الآن ان نفسر ذلك البيان القلق الذي أذاعه راديو أمدرمان بعد ساعات من نجاح مايو، والذي أعلن فيه ان اللواء حمد النيل قد اختفى.. وهو البيان الذي أغضب حمد النيل لأنه وصف غيابه بالهروب. فما كان منه إلا ان وجه رسالة تنضح بالغضب للقيادة العامة أكد فيها أنه لا يهرب من المواجهة ويطلب مِنْ من يريده ان يلقاه حيث يشاء: في البيت أو القيادة أو (الدروة). وقد عادت القيادة العامة وصححت الخبر زاعمة أنه سلم نفسه (5).
    ولا يمكن تفسير ذلك البيان القلق إلا باعتباره قلقاً حقيقياً من الضباط الصغار لفشلهم في تحييد رتبة عليا كحمد النيل ضيف الله. وهو ما كان يمكن ان يشكل خطراً على الحركة كلها.
    لم يلتق جعفر نميري وبابكر عوض الله وجهاً لوجه إلا قبل أيام معدودة من ليلة الرابع والعشرين من مايو.
    كان فاروق حمد الله قد قام بتجنيد بابكر عوض الله وإقناعه بالمشاركة النافذة في التحرك، (6) ومن ثم فإن بابكر عوض الله – بعد قناعته بمشروع التحرك- لعب الدور الأساسي في وضع اللمسات السياسية للعمل العسكري. فقد قام بالاتصال ببعض القوى السياسية لضمان تأييدها للحركة عند نجاحها، كما نشط في اتصالاته بعدد من اليساريين والتقدميين ليكونوا أعضاء في الحكومة التي أوكل إليه الضباط الأحرار أمر تكوينها.
    وكان من بين القوى التي حرص بابكر عوض الله على الاتصال بها عدد من زملائه الناصريين الذين كانت لهم أيادٍ نافذة مع مصر ومع عبد الناصر.
    وهكذا فإن بابكر عوض الله أكمل بحلول الثالث والعشرين من مايو أسماء أعضاء الحكومة التي سيتولى رئاستها، ومن ثم التقى نميري وبابكر عن طريق فاروق حمد الله. وقام الثلاثة: نميري، وبابكر عوض الله وفاروق حمد الله بتسجيل البيانات الثلاثة الشهيرة لمايو تم كل شئ دون إراقة دماء...
    معظم القيادات السياسية تم التحفظ عليها في منازلها بوضع حراسة من الجنود الذين استبدلوا جنود الشرطة الموضوعين أمام منازل الساسة.
    تمت السيطرة على الجسرين الرئيسين أمدرمان وبحري باعتبارهما المدخل والمخرج ووضعت قوات من المظليين عليهما.
    القيادات العسكرية سهلت مهمة اعتقالها لتواجد معظمهم في المنطقة المحيطة بالقيادة العامة وهي منطقة الخرطوم شرق، وقد تمت السيطرة عليهم جميعاً ما عدا حمد النيل ضيف الله. ولم تجر أية مواجهة عسكرية حادة غلا في ساحة سلاح الأسلحة حيث رفضت قيادة السلاح في أول الأمر القبول بالتغيير وكادت ان تسفك دماء لولا مسارعة بعض الضباط بتلافي المواجهة.
    كانت العاصمة تتثاءب كسلي صباح الخامس والعشرين من مايو 1969 فالساعات الأولى من الصباح لم تشهد حركة ونشاطاً كالأيام الأخرى، وكانت الإذاعة قد بدأت في بث المارشات العسكرية المتوالية بعد استيلاء القوة الموكلة بالإذاعة عليها منذ الساعات الأولى من الصباح.
    ومن ثم فقد انتبهت العاصمة الكسولة، ومن خلفها السودان كله إلى ان أمراً جللاً قد وقع. واستمع السودان في السابعة من صباح الخامس والعشرين مايو إلى البيانات الثلاثة بأصوات جعفر نميري وبابكر عوض الله وفاروق حمد.
    وكانت البيانات الثلاث عنواناً واضحاً وجلياً عن اتجاه التغيير ووجهته صبت البيانات سخطها على الرجعية، والحزبية والطائفية... وأعلنت العزم على قيادة السودان على طريق تقدمي يأخذه إلى رحاب الاشتراكية ويبعده عن الديمقراطية اللبرالية التي فشلت في ان تحقق للسودان أياً من تطلعات أبنائه المشروعة.
    ثم صدر الأمر الجمهوري الأول لمجلس قيادة الثورة والذي حدد بوضوح هوية السودان (جمهورية ديمقراطية) السيادة فيها للشعب... وحل ذلك الأمر كافة الهيئات السيادية، مجلس السيادة والوزراء والبرلمان. وأوقف الدستور، وحل الأحزاب وأصبح مجلس الثورة – المكون من تسعة ضباط وبابكر عوض الله – هو السلطة السيادية الأعلى في السودان بينما جرى تشكيل مجلس للوزراء من 21 وزيراً كان اثنان منهم فقط م العسكريين بينما مثل بقية أعضاء مجلس الوزراء صفاً منتقى من اليساريين المرموقين في الساحة السياسية الوطنية.
    وكانت بصمات بابكر عوض الله واضحة في اختيار هذه الصفوة المنتقاة من اليساريين، والتي شملت اثنين من الشيوعيين المنشقين على سكرتير الحزب عبد الخالق محجوب.
    ولترطيب الذاكرة الوطنية في هذا الصدد نسجل أسماء وزراء أول حكومة لمايو وهم:
    موريس سدرة، محمد عبد الله نور، طه بعشر، أمين الشبلي، محجوب عثمان، أحمد سليمان، موسى المبارك، منصور محجوب، فاروق أبو عيسى، أبيل ألير، جوزيف قرنق، محي الدين صابر، مرتضى أحمد إبراهيم، عبد الكريم ميرغني وسيد أحمد الجاك.
    ومن ثم بدأت مسيرة الأعوام الست عشرة لأطول حقبة سياسية في التاريخ الوطني الحديث. وهي الفترة التي نقدمها في هذا الكتاب في إطار مجموعة من الأعوام، تشكل كل منها اتجاهاً أو حقبة متفردة من مايو.
    ولسوف نبدأ في استعراض تلك الأعوام، بداية بالأعوام الحمر.

    أعوام مايو الحُمْر..
    اليسار في الميدان
    o كانت الستينات حقبة ساد فيها اليسار في كل ميدان
    o ولدت مايو من رحم يسار ونبتت على واقع إقليمي وعالمي شبيه..
    o منذ أكتوبر ساد اليسار السوداني ساحات الفكر والأدب والثقافة
    o تشبع الشباب السوداني، بما فيهم الضباط، بفكر اليسار وآمن به..
    =========
    مهما قال القائلون، فإن مايو لم تولد إلا من رحم يسار..
    فالذين خططوا لها من قلب المؤسسة العسكرية أو على هامشها، والذين تعاونوا من خارجها، والذين (حملوا الأرواح على الأكُف) في ليلة التنفيذ جميعهم من روافد اليسار، قالوا بذلك أم لم يقولوا.
    فلا يمكن، إذن، لأي كاتب ان يؤرخ لمايو وحركة الضباط الأحرار دون ان يتناول تطور اليسار السوداني فكراً وسياسة بل وحتى وأدباً. إذ لا يمكن فصل مايو، التحرك والحركة والعامين الأولين، من حركة اليسار السوداني العريض، كما أنه لا يمكن تناول الأحداث والشخصيات والأفعال والقرارات المتعلقة بتلك الفترة دون البحث عن جذورها الفكرية في حقول اليسار(7).
    ولعل قصة اليسار في السودان ونمو شجرته في السنوات الأكتوبرية أمر معروف ومشهود. إذ ان أكتوبر – الثورة – فجرت في دواخل الشباب الذي أشعلها تطلعات وآمال بعرض الوطن وطوله، فقد مضى ذلك الشباب على هدى وهج الشعلة الأكتوبرية يتطلع إلى الوطن الناهض الباسق، الواحد المتحد. إلا ان القوى السياسية التقليدية، أحبطت تطلعات الشباب وآماله بعجزها ووهنها، وأخمدت جذوة الحماس الملتهبة في دواخله. فقد عادت تلك القوى إلى غيِّها القديم، ومارست غيبوبةً صِنواً لغيبوبة الخمسينات، فقعد الوطن ولم ينهض، ويبست شجرة الأمل في النفوس ولم تثمر.
    وحين أدرك الشباب العريض ان لا أمل يرتجى في أهل القديم والتقليدي، تلفت يمنه ويسرة يبحث عن الخلاص.
    فوجد اليسار في كل ميدان.. وجده على الساحة العربية، والإفريقية والعالمية على حد سواء.
    ففي الساحة العربية..
    كان عبد الناصر يشكل مركز العصب لحركة التحرر الإفريقي والعربي... إذ كانت القاهرة مركز للإشعاع الثقافي التحريري، إليها يفد المناضلون، ومنها تنطلق قوافل التحرير والتحرر، ومنها ينبعث صوت الدعوة الجاهرة بالعداء للاستعمار والامبريالية والرجعية، ومن مطابعها تخرج الكتب والمجلات والدوريات والصحف الممتلئة بأفكار التحرر والثورة، لتمد العالم العربي التهم بزادٍ من المعرفة المتوافقة مع فكر التحرر و الانعتاق.
    كانت مصر ترفع راية الاشتراكية العربية باعتبارها نمطاً من الاشتراكية ليس هو بالضرورة شيوعياً ماركسياً.. وكان مثل هذا الانعتاق من الفكر الماركسي يلاقي هوى في نفوس الكثيرين من شباب السودان في ذلك الوقت لأنهم وجدوا ف يفكر اليسار عموماً موئلاً يمكن الرفد غليه من هجير العجز الطائفي والغيبوبة السياسية، ولكنهم كانا يتحرجون – بحكم الوسط والبيئة- من الماركسية وما يحيط بها من شكوك الإلحاد. ولهذا فقد وجد الشباب في الفكر التحرري العربي وفي الفكر الناصري، خلاصاً من ذلك الحرج، فجعلها شجرة يسارية يفئ إليها ولو إلى حين.
    ثم ان الساحة العربية كانت تحتضن فكراً عربياً آخر هو فكر البعث العربي. وكانت تيارات الفكر البعثي قد تجذرت في سوريا ثم تمددت إلى خارجها عبر الأردن فالعراق وحتى أطراف اليمن الجنوبي. وقد وجدت هذه الأفكار رواجاً لها في السودان مع الانفتاح الأكتوبري الذي فتح كل الأبواب والنوافذ على الفكر الإنساني من كل مكان...
    وفي الميدان الإفريقي..
    كانت حركة النضال الذي خاضته شعوب جنوب أفريقيا وناميبيا، وروديسيا، و موزمبيق وغينيا بيساو وإريتريا، تلهب حماس شباب السودان، ذلك الشباب الذي تدفق حماسه وحيوية من بعد انجازه المعجز لإرادته في أكتوبر، والذي جعل من كفاح ونضال تلك الشعوب مثالاً ونموذجاً لمن يريد ان يبلغ الغايات والمنى.
    فكانت أسماء نيلسون مانديلاً، وأميلكار كابرال، وجوشو أنكومو، وروبرت موقابي، أغانٍ في الشفاه المتعطشة لخوض النضال... أي نضال.
    وعلى صعيد الفكر اليساري الإفريقي، كان نايريري يقود حركة الاشتراكية الأفريقية، التي يشر بها هو ورفاقه الشاعر الغيني ليوبولد سينغور، والمناضل الغاني كوامي نكروما. وكانت فكرة الاشتراكية التي طرحها نايريري فيما عرف بإعلان آروشا، والقائمة على جذور الواقع الإفريقي، والمستمدة أسسها وحيثياتها من التراث الإفريقي، تروق لكثيرين من أبناء السودان المشدودين بحكم الغلبة العرقية، إلى الواقع الإفريقي.
    ولم يكن نضال الأفارقة الأبعد، في قلب القلعة الإمبريالية، في أمريكا، بأقل أثراً في شده لعقول وقلوب الشباب السوداني نحو اليسار. فتحديات مالكوم إكس لمجتمع الظلم الأفريقي الأسود. ومواجهات الفهود السوداء لشرطة الاضطهاد الأبيض، وعناد محمد علي كلاي الرافض وضع نفسه في خدمة الحرب الظالمة ضد شعب فيتنام البطل، وقبضة يد السوداء الجميلة انجيلا ديفيس المرفوعة في وجه المجتمع المتأفق عن التساوي بنصفه الأسود، كانت كلها جمراً يوقد لهب النزعة اليسارية في النفوس.
    أما في الميدان الآسيوي..
    فإن المناضل الفيتنامي (هوشي منه) كان يلهب القلوب والعقول على حد سواء، وكانت قصص النضال الفيتنامي الفذ، والعبقريات القتالية للقادة الفيتناميين من أمثال (نيقوين فان جياب)، القائد الذي زلزل الصلف الأمريكي عام 1968 في معركتي التيت وكي سانه، تحوز على إعجاب جيل من الشباب العسكري السوداني.
    وقد جعل العسكريون من دراسة أساليب ذلك القائد الفذ وتكتيكاته في مواجهة الإمبريالية الأمريكية أسلوباً للتمثل والتطلع إلى العطاء لبلادهم بحجم عطاء ذلك العسكري العبقري.
    أما على صعيد العالم الواسع، فقد كانت صور النضال الكوبي المجسد لانتصار الفلاحين على اضطهاد الباتيستا، ودور المناضل تشي جيفارا في النصر الحاسم مع رفيقه فيديل كاسترو، تقدم صورة حية لما يمكن ان يقود إليه النضال المشترك، وما يمكن ان تحققه الرفقة النضالية من إعجاز.
    وحتى على الصعيد العالمي..
    كان البريق اليساري يتوهج في كل القارات، وفي كل ساحة وميدان.
    في لندن مثلاً، كانت أفكار وكتابات الفيلسوف البريطاني بيرتراند راسل تغذي إرادة الرفض عند الشباب البريطاني الذي جلس معه على أعتاب البرلمان البريطاني تعبيراً عن السخط والازدراء للسياسات البريطانية المساندة والداعمة للتدخل الأمريكي في فيتنام.
    وكانت الصورة الأمريكية في أذهان الشباب البريطاني والفرنسي هي صورة (الأمريكي القذر) التي عبرت عنها الراوية التي كتبت في منتصف الستينات لتصور الصلف الأمريكي في فيتنام.
    أما في باريس، فإن الجامعات الفرنسية صارت أيامها محطة مهمة من محطات التوجه اليساري في أوروبا في الستينيات. إذ كانت إفرازات حرب الجزائر قد حملت الشباب الفرنسي إلى مشارف الماركسية حتى أصبح الحزب الشيوعي الفرنسي – بقيادة جورج مارشيه – متساوياً في شهرته مع الجنرال الفرنسي العملاق ديجول.
    وكان ثورة الطلاب الفرنسية في منتصف الستينيات شعلة توهجت بفكر اليسار الأوروبي الذي شكل طينته الفكرية أقطاب اليسار الأوروبي من مثل بيرتراند راسيل وروجية جارودي والوجوديون من أمثال سيمون دي بوفوار وجان بول سارتر.
    وكانت لليسار أذرع يمدها في كل مكان، وأرجل يغشى بها كل الساحات . فكانت منظمات التضامن العالمية- وهي منظمات غير حكومية انتظمت جل العالم، وضمت تحت مظلتها كل الساعين لدعم التحرر العالمي – كانت هذه المنظمات عالية الصوت، حاضرة الوجود في كل مناسبة ومكان.
    كان الشعر والأدب والغناء والمسرح والرياضة كلها أسلحة يسار. وكان المناضلون والمعضدون لحركة المناضلين يلتقون على ساحات الدنيا العريضة لدعم النضال العالمي التحرري.
    وكانت حركة الشباب العالمي بما فيها حركة الشباب السوداني، هي الدعم والسند لكافة حركات التحرر، تلتقي بهم في كل مكان لتعضد وتساند وتشد من أزر المناضلين.
    فكانت برلين وبراغ وصوفيا وهافانا وهلسنكي ووبيونج ينلج وباندونق ونيودلهي مدناً يتلاقى في رحابها الشباب العالمي ينشد أغاني النضال ويذكي من جذوة المقاتلين، ويتبادل فكراً يساري الأصول والجذور.
    تلك كانت الصورة من خارج السودان للسنوات القليلة السابقة على مايو.
    أما في داخل السودان، فإن ملامح الصورة كانت حتماً يسارية الملامح والتقاطيع.
    فقد كان اليسار في تلك السنوات هو الغالب، سياسة وثقافة..
    على صعيد السياسة، كان المد اليساري قد جرف الأفراد والجماعات، فلم تكن (اليسارية) والتقدمية كموقف سياسي وقفاً على الشيوعيين الماركسيين فحسب، إذ انشقت أرض السياسة في البلاد من بعد أكتوبر 64، عن سيل من تنظيمات وجماعات تصب كلها في غدير اليسار. فقد شهدت سنوات ما بعد أكتوبر ميلاد أو نمو عدد من تلك التنظيمات، من تلك التنظيمات- مثالاً لا حصراً- منظمة الاشتراكيين العرب وحركة الوحدويين الاشتراكيين، والطليعة التقدمية العربية.. ومنها: منظمات الجبهة الديمقراطية، والجبهة الاشتراكية، وحزب العمال والمزارعين والتجمع الاشتراكي والحزب الاشتراكي السوداني.
    ولأن (الاشتراكية) كفكر سياسي واقتصادي، كانت قد سادت مع سيادة اليسار، فإن الكلمة نفسها أصبحت ذات جاذبية خاصة، حتى صارت (موضة) ذلك الزمان. ولم يعد التقدميون واليساريون وحدهم رافعي لواءها، بل شاركهم في ذلك حتى اليمينيون والطائفيون.. فقد صنف حزب الشعب الديمقراطي نفسه في صفوف التقدميين، ورفع شعارات اليسار بما فيها الاشتراكية.
    وصار الحزب الوطني ورجاله يتحدثون عن الاشتراكية الوسيطة أو الاشتراكية الديمقراطية، تلك التي تقترب من الاشتراكية الفابية كما طرحت في بريطانيا في القرن الثامن عشر.
    وصارت الأحزاب الإسلامية – خاصة الحزب الجهوري الإسلامي – تبحث عن معاني الاشتراكية في الإسلام، لتقدمها كنموذج جاذب للشباب الذي فتن بالكلمة ومشتقاتها، حتى راج يومها حديث الرسول صلي الله عليه وسلم، (الناس شركاء في ثلاثة) ليثبت به الإسلاميون ان الاشتراكية لها في الإسلام مكان أيضاً.
    أما على صعيد الثقافة العامة، فإن ملحمة أكتوبر ونضالها اللاهب أفرزا ثقافة وأدباً يساريين جذابين. فالشعر كان لهب الثورة يوم تفجرت، وكان جمر ذلك اللهب شعراء من مثل هاشم صديق، وفضل الله محمد.
    وكان المغنون هم الحداة.. وكان على رأس الحداة محمد الأمين.. ومحمد وردي وكان أدب اليسار – في العموم – هو أدب المرحلة الزاخم: كان في الساحة الأدبية صلاح أحمد إبراهيم، مبارك حسن خليفة، محمد المكي إبراهيم، محمد عبد الحي، سيد أحمد الحردلو، تاج السر الحسن، محمد سعد دياب، والنور عثمان أبكر.
    وكان الثقافة الوطنية من مسرح، ورسم ونحت كلها تصب في غدير اليسار، كانت جماعة أبادماك مسرحاً يغذيه مؤلفون من أمثال علي المك وخالد المبارك وعلي عبد القيوم.
    وكان نواة العمل المسرحي اليساري الذي ظل السودان لحقب عدة، هو معهد الموسيقى والمسرح، والذي أنشأ في بدايات عام 69 فأنضم إليه نفر من الكوادر اليسارية التقدمية التي أصبحت فيما بعد الطليعة في مجالات المسرح والغناء.
    وفي ساحة الصحافة، فإن صوت اليسار كان هو الأعلى..
    كانت صحف الخرطوم تصدر بالعشرات وكان من بينها عدد من صحف اليسار بكل ألوانه وأطيافه. كان من بين صحف اليسار الأيام، وأخبار الاسبوع، والأخبار، والصراحة، والأضواء والطليعة وصوت المرأة.
    وظهرت في تلك الفترة أقلام يسارية متميزة في التعبير بلسان الرفض لواقع الحال، فظهر سيد أحمد نقد الله، وجمال عبد الملك بن خلدون، والفاتح التجاني.
    ومن ثم زحف جيل جديد من شباب جامعة الخرطوم نحو الصحف، فظهرت مجلة كمجلة الحياة والتي كان من روادها عدد من الطلاب والخريجين الجدد.
    كان من بين الأسماء التي لمعت في مجلة الحياة فضل الله محمد وإسماعيل الحاج موسى وعبد الله جلاب وعبد الله علي إبراهيم.
    وهكذا فإن الناس في الستينات سمعوا وقرأوا وشاهدوا أدباً مكسواً بظلال يسارية كثيفة. سمعوا في المذياع (قطر الهم) وقرأوا (ملعون أبوكي بلد)، ويناير يا صحن الصيني، وهكذا يا أستاذ وشاهدوا في المسرح (مأساة الحلاج) ونحن نفعل هذا أتعلمون لماذا؟
    ويوم تفجرت أكتوبر، سمع أهل الريف وسكان الأصقاع أغاني النضال، تلك التي كان يحدو بها الشيوعيون نضال (الرفاق) في جلسات ما بعد لقاءات (الخلايا) سمعها الناس من خلال الأجهزة الرسمية.
    فسمع الناس رائعة الشاعر الفذ محي الدين فارس (لن أحيد) وهي تنساب من خلال المذياع بعد ان كانت ترددها الشفاه خلسة في جلسات (المسامرة النضالية).
    ومن بعد أكتوبر كان محمد الأمين يغني مع فضل الله محمد لأكتوبر وللمضامين الاشتراكية.
    وغنت الجماهير وطربت وهي تردد مع محمد الأمين في ملحمة القرن لهاشم صديق التي مجدت وحدة صف كل (طالب وزارع وصانع).
    ورغم ان الكابلي كان قد أنشد رائع الشاعر تاج السر الحسن (آسيا وأفريقيا) منذ أيام الفريق عبود، إلا ان الشباب السوداني واليساري منه لم يتوقف طوال عقد الستينات، من التغني بالملحمة المبنية على تمجيد رمز النضال التحرري العالمي من رجال وبلاد ومواقع ومواقف.
    فغنى الناس لديان فو، أرض هوشي منه..
    وهتفوا لجميلة بوحريد في الجزائر، ولنهرو وسوكارنو وعبد الناصر كرمز للانعتاق من إسار السيطرة الإمبريالية.
    كانت الخرطوم عاصمة مفتوحة الأبواب والنوافذ وكل المنافذ. كانت روافد الثقافة العالمية، واليساري منها على وجه الخصوص، تصب كلها في قلب الخرطوم... في مكتبات المحطة الوسطى، ومكتبة النهضة، ومكتبة الثقافة، ومكتبة نادي العمال بالخرطوم، ثم مكتبات الحرية، والنهضة والجيل والأهلية بأمدرمان.
    وفي مكتبات آفريكانا وسودان بوكشوب. وكانت جميع هذه المكتبات تعج بمطبوعات اليسار العربي والعالمي، ومنها كانت تنحدر الثقافة إلى المكتبات الروافد في مدني والأبيض وعطبرة وبورتسودان.
    كانت الخرطوم ومدن السودان الرئيسية تقرأ شعراً ومسرحاً وفكراً يسارياً.
    على صعيد المطبوعات العربية، كانت المكتبات تزدحم أرففها، ثم لا تلبث ان تفرغ، بمطبوعات فكرية مثل كتابات ميشيل عفلق، وأعمال أدبية وشعرية ذات بعد فكري يساري من مثل أعمال أدونيس والبياتي وصلاح عبد الصبور وأمل دنقل ومحمود درويش ونزار قباني ونجيب محفوظ.
    وعلى صعيد الإنتاج الفكري الغربي كان مكتبات الخرطوم تعج بالمترجم وغير المترجم من أعمال فكرية ومسرحيات وشعر وأدب عالمي.
    كانت مكتبات الخرطوم وأمدرمان ومدني وبورتسودان والأبيض وعطبرة تستجلب وتوع أعمال هيربرت ماركوسة، وروجية غارودي وجاك بيرك، وجان بول سارتر، والأعمال الكلاسيكية من مثل أعمال لينين وماركس وتروتسكي، والروائع من مثل جابرايل غارسا ماركيز، ولوركا، وديستوفسكي، وبوشكين، وسولجنستين.
    والتهم الشباب السوداني النهم تلك الإصدارات، واستزاد منها، ثم هضم ما قرأ، فرجع يطنطن بالشعر والنثر نادباً حال وطنه وسائلاً نفسه أي الطريق يفضي إلى الخلاص.
    وما كان ضباط الجيش في أعوام الستينات، النصف الثاني منها، بأحسن حالاً من شباب الوطن الباقي. بل لعلهم كانوا يعيشون الحيرة والضياع مضاعفاً.
    فلقد كانوا في الموقع الذي يجعلهم يبصرون الخطر مجسداً وحاضراً. كانوا هناك في الجنوب يعيشون الواقع الذي لا يعرفه الشعب إلا عبر تصريحات مسئول في الصحافة، أو عبر دمعة حرى لأم كليم جاءها جثمان ابنها الجندي مسجى على عربة (كومر) بعد ان لم تجد القيادة إسعافاً تحترم به نومة ذلك البطل الأبدية.
    وكانوا هنا في الخرطوم وغير الخرطوم من مدن الشمال يعيشون غيَّ الساسة ومعارك طواحين الهواء، بين دستور علماني، وآخر ديني، وبين يسار يصارع ليبقى، ويمين يريد له الإعدام والفناء.
    وكان ذلك الجيل من الضباط مثل جيل الشباب الباقي. يقرأ ويستوعب ويهضم، ثم يتلفت يقيس حال وطنه بما قرأ واستوعب.
    وهكذا كان الحال أيضاً مع أعضاء تنظيم الضباط الأحرار. إذ كان قادته وناشطوه شباباً من جيل من جيل الوطن الذي عاش الواقع كما فصلنا وذكرنا. وكان جل ذلك الشباب من الضباط، هم بالفكر والتطلع، بالمعايشة والواقع، إنما هم يسار أو أقرب ما يكونون إلى اليسار.
    لا يستطيع أحد ان يقول ان الذين تحركوا في ليلة الرابع والعشرين من مايو كانوا بلا سند من فكر أو رصيد من انتماء فلقد كانوا جميعهم يساريين، إن لم يكونوا بالانتماء والعضوية، فإنهم كانوا كذلك بالموقف والقرار.. فالذين خرجوا تلك الليلة إنما خرجوا وهم عازمين على كسر طوق الدائرة الجهنمية المفرغة: من الطرف اليمين إلى الطرف اليمين.
    كانت مايو يوم تحركت يساراً بالغاية والهدف،
    كانت يساراً بالتطلع،
    وكانت يساراً بالرؤى،
    ويساراً بالتخطيط والتنفيذ.

    أعوام مايو الحُمْر..
    هل هؤلاء الرجال.. جبهة ديمقراطية؟!
    o عمّدَ موكب 2 يونيو حركة مايو من انقلاب عسكري إلى حركة جماهيرية..
    o كان الموكب حكماً قاطعاً من الجماهير على الأحزاب وزمانها أكثر من كونه تأييداً للحركة العسكرية..
    =========
    السؤال الذي أربك شعب السودان أيام الإنقاذ الأولى، رددت الجماهير شبيهاً له أيام مايو الأولى.
    بيد أن سؤال الجماهير أيام مايو الأول، لم يكن كحيرة المواطنين أيام الإنقاذ الأولى.
    فلم يكن أيامها هناك أي خلاف بين الناس على ان اليسار قد غلب اليمين في حلبة الصراع، وكان الناس يدركون تماماً أنهم يعيشون في رحاب نظام تقدمي، ليس باللفظ فحسب، بل بالفعل والقرار. فقد أعلنت مايو هويتها منذ لحظتها الأولى، إذ أعلنت عن انتهاجها الاشتراكية طريقاً لبناء الاقتصاد ولتحقيق التنمية الوطنية، ورفعت شعارات القوى الثورية في مقابل التنديد بالقوى الطائفية والرجعية المحلية، وقوى الإمبريالية العالمية.
    اعترفت بألمانيا الديمقراطية. وكانت بذلك ثالث دولة – من غير منظومة الدول الشيوعية- بعد إيران وكمبوديا تفعل ذلك.
    وتلقت الترحيب والتعضيد المباشر من الاتحاد السوفيتي الذي قال إن النظام الجديد (أطاح بالنظام التعتيق وبالسياسيين القدامى). ومن بعد الاتحاد السوفيتي، تبارت منظومة الدول الشيوعية في الترحيب بالتغيير التقدمي في السودان.
    ومن ثم فإن الناس باتوا يعلمون ان الأمر في السودان صار إلى اليسار.
    بيد أن السؤال يومها كان: أي يسار استولى على السلطة؟ فلقد كان اليسار يومها كثيراً.
    كانت الساحة تبحث عن الإجابة على هذا التساؤل لأسباب عديدة، من أهمها ان اليسار أصبح عريضاً في السودان بحيث صارت له ظلال وأطياف من الألوان.
    ومنها ان يسار السودان، في عمومه، ذي ارتباطات إقليمية ودولية، ستجر السودان قطعاً إلى محور م محاور الاستقطاب. شاء السودانيون أم لم يشاءوا.
    وكان من أهم الأسباب – خاصة لدى الساسة الفاعلين وقتها، وغيرهم من الناشطين في دنيا السياسة الحزبية – خوف هؤلاء وتحسبهم من انتقام منتظر للشيوعيين من حل حزبهم وطرد أعضائهم من البرلمان. وكان بعض هؤلاء ل يحسبون الأمر بحساب مجازر الدم التي روت شوارع براغ حين حاولت تشيكوسلوفاكيا الفكاك من براثن القبضة الشيوعية عام 68.
    ولهذه الأسباب مجتمعة كان السؤال المشروع يومها، أي فصائل اليسار تقود هذا التغيير؟ وأي القوى الإقليمية أو الدولية يقف وراءها ويساند؟
    راهنت القوى التقليدي التي ارتبطت فكراً ومصيراً بالنظام الليبرالي السابق، على ان النظام الوليد لا يملك السند الجماهيري الذي يمكن ان يتيح له الاستمرار في الحكم. وذلك لأن الجماهير الوطنية العريضة إنما هي جماهير الختمية والأنصار. أما اليسار وسدنته، فغنما هم قلة من مثقفي العاصمة وبعض المدن، وجماعة من العمل المتطلعين. وعند جميعهم صوت القول أعلى من صدى الفعل. هم قادرون على صوغ الكلام، وعاجزون عن تحريك الجماهير.
    لقد ولد مولود اليسار ومن حوله قلاع يمين وطائفية راكزة، كانت حتى الأمس ملأ الساحة، وما زالت بالتاريخ والمكانة ملأ المشاعر والأفئدة على امتداد عريض من الوطن.
    ثم ان المولود اليساري كان محاطاً من خارج الوطن بقوى – أقل ما يقال عنها- أنها لا تستمزج اليسار ولا تستسيغه، وهي قوى تمتد من الأدغال الأفريقية جنوباً، إلى الشواطئ والبحار من الشرق القريب أو الشرق البعيد – نستثني من هذه القوى جار الشمال الأقرب الذي كان الأمل والمرتجى عند المولود.
    بمثل هذا الاعتقاد قدر أقطاب الليبرالية في البلاد يومها للمولود الجديد عمراً لا يتجاوز الأسابيع المعدودة على أصابع اليد. يحاصر فيها من الداخل والخارج فينهار النظام حتى قبل ان يبدأ بناءه.
    إذا كان ذلك هو موقف اليمين، وتلك كانت أمانيه، فماذا كان الحال في مربع اليسار؟ بل لعل السؤال الأوفق هنا: ممن تشكل اليسار في السودان يومها؟ وهل تنادي كله لنصرة الجديد وتعضيد الوليد؟
    لا يمكن الإجابة بدقة على هذا السؤال، فالواقع ان التقدمية وقتها كانت ثوباً فضفاضاً يفتقر إلى الوصف العلمي. إذ كانت كمفهوم سياسي تتشكل بالمواقف السياسية أكثر من استنادها على فكر وأيديولوجية. فقد رأينا مثلاُ كيف ان حزب الشعب الديمقراطي – بقاعدته الطائفية الراسخة في مواقع اليمين- كان مصنفاً صفوف التقدمية.
    ثم رأينا شيخاً معهدياً كالشيخ علي عبد الرحمن، وهو سلسل أسرة (فقيهة) رأيناه منافحاً بالقول والفعل على اليسار ومدافعاً عن حق الحزب الشيوعي في ممارسة نشاطه.. وهو دفاع لا يقوم بالضرورة على إيمان بالفكر بقدر قيامه على إيمان بالحقوق الديمقراطية.
    بل ورأينا خلال تلك الفترة تنظيماً مثل تنظيم الإخوان الجمهوريين بزعيمه الأستاذ محمود محمد طه، يصنف ضمن الجماعات ذات المواقف اليسارية.. فقد وقف الحزب مواقف اليسار في القضايا الاجتماعية مثل معاداته للطائفية، وفي القضايا الاقتصادية مثل دعوته لتوزيع الثروة.. ثم في مواقفه السياسية كموقفه من حل الحزب الشيوعي.
    لهذه الأسباب فإن الحكم بالقطع في من كان عماد اليسار السوداني وقتها لا يستقيم وقد لا يفضي بنا في المنتهى إلى الحقيقة فيه.
    بالرغم من كل صعوبات الوصف والتحديد، دعنا نحاول ان نستكشف كنه يسار أواخر الستينات.
    حينما تنادى الناس إلى جامعة الخرطوم في نوفمبر من عام 1965 لمواجهة قرار الجمعية التأسيسية بحل الحزب الشيوعي. بلغ عدد المنظمات والجماعات التي احتشدت فيدار اتحاد الطلاب 32 منظمة وجماعة تراوحت بين الحزب والتنظيم والمنظمات الفئوية والمهنية. وقد جاءت كل هذه المنظمات من مواقع يسارية رافضة لهيمنة اليمين الساعي على تحويل الديمقراطية إلى هودج فوق سنام جمل، لا يسع إلا راكبه.
    بحساب العدد هذا، يمكن ان نقول ان التنظيمات ذات المواقف التقدمية بلغت وقتها 32 منظمة وهيئة وجماعة. بعض هذه المنظمات كان امتداداً للحزب الشيوعي، كاتحاد الشباب السوداني والاتحاد النسائي، بينما كانت هناك منظمات اشتراكية عربية، وقومية عربية، واشتراكية عريضة. وكانت هناك بعض الهيئات الفئوية التي انضمت بحكم القيادة المسيطرة على التنظيم. إضافة إلى الأحزاب والتنظيمات التي انضمت إلى اليسار – كما قلنا- بالمواقف، مثل حزب الشعب الديمقراطي، والأخوان الجمهوريين، وعدد من الجماعات الصغيرة المنشطرة من بطن أحزاب كبيرة.
    ولكن لم تكن مشكلة اليسار في تعدد المنافذ... بل كانت المشكلة في أعداد المنتمين بالالتزام إليه. فقد كان حساب العدد وقتها غير مصلحة اليسار. إلا ان انتظام الصفوف وحسن إدارة الموارد وقدرة التحريك النافذ جعلت لليسار موقعاً سياسياً عتيد الجانب مهاب المكانة والموقف.
    ثم ان الجو العام الإقليمي والدولي – على نحو ما سردنا من قبل – كان في عمومه يساري الرياح والهبوب. وهو ما أضاف إلى اليسار المحلي بعداً وقوة ومكانة.
    ولقد كان فوز عبد الخالق محجوب عام 1968 في دائرة جماهيرية – تقوم على العدد ويستأثر بها تقليدياً الاتحاديون – الدليل الأكبر الذي برهن به اليسار ان (حاصل الجمع) ليس وحده الحاسم في أمر العمل السياسي السوداني، فقد جاء فوزه بعد معركة حامية الوطيس في دائرة أمدرمان الشمالية استعمل فيها من الأسلحة ما هو مشروع وماهو غير مشروع.. وهي معركة كانت في حقيقتها الحكم الشعبي الجماهيري على قرار الجمعية التأسيسية بحل الحزب الشيوعي.
    وكان فوز سكرتير الحزب الشيوعي في دائرة محافظة وتقليدية دليلاً على ان اليسار المتحد الصف والمنتظم الإيقاع يمكن ان يسلك (الطريق إلى البرلمان) من غير منافذ ودروب (الإشارة) و (قرارات السيد)..
    لهذه الأسباب مجتمعة يمكن ان نقول ان الضباط الأحرار، يوم تسلموا السلطة، كانوا يملكون الثقة في النفس المستمدة من الثقة في اليسار السوداني، والمستندة على التجربة والاختبار.. وكان الضباط يدركون باليقين أنهم كجزء من جبهة يسارية عريضة(8)- يملكون ماهو أهم من العدد: التعدد والتنوع، والقدرة، ورسوخ القدم في مجال الإدارة والتنظيم والتحريك.
    وبالرغم من تلك الثقة، فإن اليسار – يوم استولى الضباط على السلطة وأعلنوا عن هوية نظامهم اليسارية – لم يقدم بحجم ما توقع الضباط الأحرار وانتظروا.. بل توقفت بعض قوى اليسار دون التقدم الإيجابي نحو النظام الجديد.. وذلك رغماً عن وجود الدلائل الشاهدة على هوية التغيير واتجاهه.. كوجود رموز كافية من نجوم اليسار في الحكومة الأولى مثلاً.
    ويمكننا ان نرجع بعض أسباب ذلك التردد والإحجام عن التقدم نحو النظام الجديد إلى ان قوى اليسار في عمومها، خشيت من إمكانية انقضاض اليمن السريع على المولود بالقوة المسلحة، من داخل الجيش أومن خارجه.. فبالرغم من أن أدب (المليشيات المسلحة) لم يكن قد دخل الثقافة السياسية السودانية في ذلك الوقت، إلا ان القول العام كان وقتها ان الأنصار كجماعة (دينيسياسعسكرية) ربما يتحركون لسحق النظام الوليد.. كما ان مسألة اختفاء حمد النيل ضيف الله – نائب القائد العام – جعلت من أفكار الانقضاض ببعض الجيش على بعضه الآخر تمر بخاطر الذين كان واجبهم المسارعة بحماية الوليد وشد أزره..
    بيد ان السبب الأقوى لوقفة التردد والتحسب كانت ناتجاً من نتائج ذلك الصراع التي كان يعيشه الحزب الشيوعي – رأس الرمح في حركة اليسار السوداني- وهو صراع متعدد الأبعاد والجوانب دار جزء منه حول قضية حل الحزب من قبل الجمعية التأسيسية وما ترتب على ذلك من واقع قانوني وفعلي رأي من خلاله بعض قياديي الحزب إمكان إذابة الحزب في إطار يساري أعرض يصبح درعاً واقياً للحزب نفسه، بينما دار جزء آخر من الصراع حول موقف الحزب من حركة التغيير التي قادها الضباط الأحرار ومتطلبات مثل ذلك الموقف...
    ففي الوقت الذي كان الضباط الأحرار يضعون اللمسات الأخيرة على طريق تنفيذ التغيير، كان الحزب الشيوعي يعيش أزمة وصراعاً من بعد حله الرسمي من قبل السلطات الحزبية.. وكان محور الأزمة وقتها هو حول قدرة الحزب على مواجهة ذلك الواقع السياسي الجديد.. وقد عاش الحزب اضطراباً في الفكر والقرار.. فانقسم بين من رأى ان يكون البديل (جبهة ديمقراطية) تتسع لما هو أوسع من الحزب لتصبح وعاء حاشداً لليسار، وبين من نادي بأن يبدل الحزب اسمه فحسب ليصبح (الحزب الاشتراكي) البديل الذي يقي الحزب من طول القانون وحوله.
    ولقد انقسم أهل الحزب على ذلك الأمر، مع أمور أخرى اتصلت بالمواقع والمسؤوليات كما اتصلت بتقويم الصلابة الثورية للقيادات.. وهكذا فغن الحزب كان في واقع الأمر يعيش حالة أقرب إلى الانفصام يوم أنفذ الضباط الشباب التغيير.. وكان الحزب وقتها أقرب ما يكون إلى الحزبين .. فجاءت حركة التغيير في مايو لتضيف إلى جراح الشيوعيين جراحاً جديدة..
    فلم تكن أمام الحزب أية فرصة لالتقاط الأنفاس إذ ان الأحداث كانت تتلاحق وتتصاعد.. وعجلة التغيير كانت قد بدأت في الدوران.. وهي العجلة التي كان الحزب قد حاول فرملتها، وعلى نحو ما سردنا من قبل، ولم يستطع..
    صحيح ان عدداً من النجوم الشيوعية التي عرفها المواطنون كانت في قلب التغيير من خلال أسمائهم التي أذيعت ضمن الوزارة الأولى التي ترأسها بابكر عوض الله، إلا ان الصحيح أيضاً أن عدداً من تلك الأسماء كان محسوباً مع الجناح الذي أنشق على أمين الحزب. بل ان عظمة المركز في ذلك الجناح – أحمد سليمان- كان في قلب الأحداث الجديدة في الوقت الذي تميز فيه موقف الحزب بالتردد والانتظار..
    وبالرغم من ذلك التردد، فإن عدداً من الشخصيات المحسوبة على الحزب كانت قريبة من الأحداث والأفعال في تلك الأيام... كما ان الحزب لم يسع إلى رفض التغيير كلية، أو إلى إدانته باعتباره (انتهاكاً للديمقراطية وتعدياً على الدستور) مثلاً... بل ان الحزب عبّر من خلال رموزه وشخصياته المعروفة، عن ترحيب مشوب بالحذر في الأيام الأولى للتحرك..
    لقد وجد الحزب الشيوعي – خلال الأيام الأولى للتغيير- حرية في الحركة لم يجدها في ظل النظام الليبرالي السابق... إذ وجدت منظمات الحزب ومؤسساته الأبواب مفتوحة على أوسع مدى للعمل النشط والتحرك الحر.. فسادت منظمات اتحاد الشباب السوداني، والاتحاد النسائي وغيرها من المنظمات المحسوبة على الشيوعيين.. وعادت لافتاتها المميزة وشعاراتها تزحم الساحات والمواقع..
    ورغم الوجود الكثيف لبعض منظمات الحزب الشيوعي وجماعاته النشطة في التحرك والتنظيم والتعبئة في الساحة منذ الأيام الأولى لمايو، إلا أن الموقف الرسمي للحزب من مايو لم يكن واضحاً تماماً الوضوح... والواقع ان موقف الحزب من مايو كانت تكتنفه قضيتان هامتان ومتداخلتان.
    الأولى: احتضان النظام الجديد للمنشقين من الحزب، أو قل احتضان المنشقين من الحزب للنظام الجديد.. فقد كان أقطاب الصراع مع عبد الخالق: معاوية سورج وأحمد سليمان هما الدعامتان الأساسيتان للحركة الجديدة.. ومن ثم فإن قربهما أو اقترابهما من الضباط الأحرار كان يشكل موقف القلق في علاقة النظام الجديد بالحزب الشيوعي.
    والثانية: وتلك هي الأهم.. هي تلك الأصوات التي ارتفعت- خاصة من جماعة المنشقين – مطالبة بحل الحزب الشيوعي لذاته ووجوب تذويب نفسه داخل النظام الجديد وكياناته السياسية المنتظرة.. وكان هذا الأمر هو مربط الفرس في علاقة الحزب الشيوعي بالنظام الجديد. فقد أشارت حولية آفريكا كونتمبرروري ريكوردس (9) إلى أن عبد الخالق محجوب كان من أنصار مساندة الحركة الجديدة دون ان يذيب الحزب نفسه فيها.. فالنظام الجديد عنده ( في نهاية الأمر إنا هو نظام عسكري ليس إلا..)
    وكان عبد الخالق يرى أنه ( من الواجب ألا يصبح الشيوعيون تبعاً لنظام هو في نهاية الأمر ليس ماركسياً.. بل على الشيوعيين ان يسعوا للسيطرة على مثل هذا النظام وتسييره حتى تأتى اللحظة المناسبة لتحويله إلى نظام ثوري حقيقي)...
    هذا الاختلاف – بكافة أبعاده وملابساته – كان يبدو تنظيراً محضاً في تلك الأيام الساخنة.. فلم ينكر واحد من الشيوعيون، تنظيماً أو أفراداً، ان التغيير الذي حدث بتحرك الخامس والعشرين من مايو إنما هو حركة يسار... ومن ثم فإن تأييد ذلك التحرك والوقوف لصد غائلة اليمين عنه كان واجباً ثورياً لا يمكن التنصل منه أو التردد تجاهه..
    والشيوعيون – أفراداً من غير ضبط التنظيم وسطوته-.. كانوا بمشاعرهم مع الجديد الحامل سحنة اليسار وملامحها، فمهما كان موقف التنظيم الرسمي من الحركة الوليد، فإن منطق الوقوف مع بن العم على الغريب كان هو ال1ذي يحكم عواطف ومشاعر أولئك الأفراد..
    ولهذا السبب فقد نشطت كوادر اليسار كله، بما فيها منظمات الحزب الشيوعي الراكزة في موقفها مع عبد الخالق محجوب وضد (الانقساميين)، خلال الأيام الأخيرة من شهر مايو عام 69، لتعبئ الجماهير للخروج في موكب تأييد لمايو، وذلك رداً على ما كنت تردده الساحة عن برودة الشارع الوطني وضعف انفعاله بالتغيير والحركة.. وقد شاركت في التعبئة لهذا الموكب كافة تنظيمات اليسار السوداني، بما فيها الحزب الشيوعي السوداني... وكان اليوم المضروب لتلك الوقفة والتعضيد هو نهار اليوم الثاني من يونيو 69.. وهو اليوم الذي دخل أدب مايو باسم (موكب 2 يونيو).
    بدأ صباح اليوم الثاني من يونيو وكأن أرض الخرطوم قد انشقت عن أهل السودان كلهم.. قدر بعض الكتّاب الذين شاهدوا الموكب بأنه بلغ خمسة عشر كيلو متراً... بينما قال آخرون ان المواكب غطت المساحة الممتدة من أمام القصر وحتى ميدان عبد المنعم في قلب الخرطوم ثلاثة (10).
    ومهما كان من أمر التقدير لحجم موكب الثاني من يونيو، فإن الحقيقة الراسخة حوله هي ان البلاد لم تشهد في تاريخها السياسي، حتى صباح ذلك اليوم، انفعالاً جماهيرياً بذلك الحجم وبتلك الحماسة... فلم يحدث ان تمكنت أية هيئة سياسية جماهيرية أو غير جماهيرية من تحريك الناس بالصورة التي شهدتها العاصمة الخرطوم في ذلك الصباح..
    كان الناس يتحدثون وقتها عن مواكب استقبال عبد الناصر في الخرطوم بعد نكسة حرب يونيو 67، وهي المواكب التي قال عنها عبد الناصر أنها أعادت إلى العرب ثقتهم في أنفسهم ومنحتهم قدرة على الصمود، ومن يومها عرفت الخرطوم في الأدب السياسي العربي (بعاصمة الصمود).. فاقت مواكب الثاني من يونيو التي نحن بصدد الحديث عنها، مواكب استقبال عبد الناصر قبلها بعامين.. وفاقت تقديرات المشاركين في موكب التأييد لمايو رقم المليون... صحيح ان تعبير (المسيرات المليونية) لم يكن قد بدأ في الرواج وقتها، ولكن الذين اجتمعوا حول مايو أمام ساحة الشهداء فاق عددهم ذلك الرقم في تلك الأيام.
    إن النقطة التي نريد ان نسجلها هنا هي ان موكب الثاني من يونيو بحجمه ذاك وأبعاده تلك، كان يفوق قدرة اليسار السوداني – عدة وعدداً- .. فالموكب تجاوز بأعداده حجم اليسار بكل اتجاهاته وهيئاته ومنظماته .. كما تجاوز قدرة كل تلك التنظيمات – بما فيها الحزب الشيوعي – على التعبئة وتحريك الشارع...
    ما نريد ان نسجله هنا هو ان موكب 2 يونيو لم يكن في واقعه موكباً لتأييد النظام الجديد. فلم تكن قد تحددت في النظام الجديد المعالم و الملامح التي يمكن ان تجعل أفئدة أهل السودان تهوى إليه. بل كان الموكب في حقيقته حكماً باسم الشعب على الحقبة المنصرمة والمطلوبة بانطواء ليلة الرابع والعشرين من مايو 69، أكثر من كونها مواكب لتأييد حركة مايو ومنفذيها.. فلم تكن الجماهير – التي ملأت مواكبها كل الطرقات في قلب الخرطوم شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، - جميعها جماهير تنظيم واحد، ولم تكن جميعها متوشحة وشاح اليسار.. كان الأغلب الأعم من الذين زحفوا في موكب 2 يونيو هم عامة أبناء الشعب – بما فيهم قطاع عريض ينتمي بحكم التاريخ والتقليد على الأحزاب التقليدية، يمينها ووسطها..
    الذين خرجوا في موكب 2 يونيو كانوا أواسط الناس، أولئك الذين وان انتموا لبعض تلك الأحزاب ضجروا منها ويئسوا من أي إنجاز سياسي أو صلاح حال فيظل صراع الحزبية المحموم على الموقع والمكان والكرسي...
    الذين خرجوا في موكب الثاني من يونيو لم يكونوا جميعاً ماركسيين أو اشتراكيين عرب، أو قوميين عرب، أو يساريين من غير فرق ولا أعلام.. صحيح أن هؤلاء جميعاً كانوا في قلب المواكب وقد حملوا من الرايات ألوناً مميزة.. ولكن الصحيح أيضاً ان الجماهير التي ملأت الأفق في ضحى ذلك اليوم لم تكن – كلها يسارية بالفكر أو التنظيم. بل كانت تلك الجماهير هي عموم أهل السودان جاءوا بالتعبير البليغ يدينون عجز الحزبية وساسة الأحزاب الذين حولوا سنوات الديمقراطية الثانية إلى سنوات من الصراع والتناحر، أصبحت معها الديمقراطية صنو العجز، وأضحت الحرية معنى للفوضى...
    كان موكب 2 يونيو هو الفاصل والفيصل...
    فقد كان ذلك الموكب لضباط مايو شريان الحياة الذي نفخ في جسد حركتهم روح الثقة المستمدة من تأييد الوطن العريض... وكان لهم دليلاً على ان السند الحقيقي هو في وقفة الجماهير المتجاوز ولاؤها الجماعة والفئة، وفي الحصول على القبول الجامع من كل الفئات والجماعات..
    كان الموكب دليلاً على ان عموم وغالب أهل السودان- وهم أناس وسط – قد اجتمعوا حول النظام الجديد فقد فاقت أعداد الجماهير التي التقت في مسيرة الثاني من يونيو، بكثير، حجم اليسار وقدرته وتجاوزت بحماسها للجديد – بكثير، مواقع ومواقف اليمين طائفية وحزبية.
    بلغة الجيش، قدم موكب 2 يونيو أول (الدروس المستفادة) لضباط مايو.. وكان ذلك الدرس هو ان الجماهير لا تسام كالبهائم، وأنها – مهما كان حجم ومظهر ولائها- تضجر وتسأم وتنقطع متى ما أحست ببؤس القيادة، حتى ولو كانت تلك القيادة هي السادة والأشراف.
    وكان ثاني (الدروس المستفادة) ان الجماهير التي تحمست للجديد بحجمها ذلك، إنما هي عموم أهل السودان، وليس أهل اليسار وحدهم.. ومن ثم فإن التوسط والاعتدال هو طريق الالتقاء والتلاحم مع تلك الجماهير.. وان التطرف والتعصب والاحتداد هو الدرب المفضي إلى نفور تلك الجماهير وتباعدها.
    ولم يكن ميعاد التطبيق العملي لتلك الدروس المستفادة في الممارسة ببعيد عن أيام مايو الأولى..
    فقد جاءت ملابسات التطبيق العملي لتلك الدروس ومتتالية من بعد مرور أسابيع قليلة على موكب الثاني من يونيو الذي عمد مايو – الحركة العسكرية – نظاماً سياسياً أمكنه الإدعاء بأنه (ثورة).

    أعوام مايو الحُمْر..
    فتق الرتق بين مايو والشيوعيين
    o دعوة لحل الحزب قصمت ظهر العلاقة مع مايو
    o مواطن الخلاف بين مايو والشيوعيين: ميثاق طرابلس.. تنظيم الثورة.. كتائب مايو.. الحرس الوطني.. الميثاق.. التأميم..
    =========
    لم يكن لمايو من بد من التعامل اللصيق مع كل قوى اليسار- بما فيهم الشيوعيون- في أيامها الأولى ... فهي قد حددت هويتها وجعلت من نفسها مركباً يسارياً مفتوحاً لكل قوى اليسار.
    ولما كانت الجماعة العسكرية التي أنفذت مايو في حاجة ماسة إلى السند الإداري والتنفيذي الملتزم بالهوية والمسار الجديد، فغنه لم يكن أمامها سوى الاعتماد على الشق المدني في التحرك – بابكر عوض الله والقوى السياسية المستقطبة – ليقوموا بالإمداد بذلك السند من كوادر اليسار، بما فيهم الكوادر الشيوعية...
    أحس النظام الجديد منذ اليوم الأول، بضرورة السيطرة على مواقع الخدمة العامة.. ولم يكن هناك بد من الاستعانة في هذا الأمر بذوي الباع الطويل والمعرفة بدهاليز السياسة ودروبها من أهل اليسار، فاستعان الضباط بجماعات من اليساريين في كل المجالات.. وكان بالقطع أكبر قطاعات اليسار المستعان بهم من الماركسيين، الملتزمين بالحزب أو غير الملتزمين به وعاء تنظيمياً..
    وهكذا بدأت عمليات (قش ورش) دار السياسة التي يدخلها النظام لأول مرة.. وكان عماد عمليات (القش والرش) تلك هي الكوادر الشيوعية التي انتشرت في جزء واسع من مجالات العمل التنفيذي والسياسي والجماهيري والتي بدأت مع انتشارها حركة (التثوير)، وهي الحركة التي قصد من ورائها حقن روح الثورة فيكل مجال من مجالات العمل التنفيذي.. وكان من متطلبات تثوير العمل ان يكون في مواقع المسؤولية والقرار من هم موثوق في ولائهم للسلطة اليسارية الجديدة.. وكان ذلك يعنى عودة راجعة لحركة التطهير الأكتوبرية الشهيرة..
    ومن ثم بدأت طاحونة التطهير في الدوران .. وفي التهام الكوادر المتخصصة والمدربة في كافة مجالات الخدمة الوطنية..
    فالتهمت تلك الطاحونة في جوفها الكوادر الرفيعة من قياديي الخدمة المدنية والقضاء والجماعة والشرطة والجيش... وشملت الشخصيات المبعدة – تطهيراً للخدمة المدنية منها – أسماء كالنجوم في سماء الوطن.. منهم دبلوماسيون مقتدرون كالدبلوماسي بشير البكري والأديب الدبلوماسي جمال محمد أحمد ومنهم قضاة عمالقة كالقاضي الأكتوبري العملاق عبد المجيد إمام.. ومنهم نطاسون بارعون مثل محمد عثمان عبد النبي .. ومنهم علماء مثل العلامة البروفيسور عبد الله الطيب والبروفيسور مجذوب علي حسيب.. ومنهم الإداري النافذ مثل علي حسن عبد الله.
    وقد اعتبرت عمليات التطهير تلك أول أخطاء مايو وأكثرها أثراً على الخدمة المدنية على المدى البعيد..
    كانت عمليات التطهير أول أفعال مايو ذات المردود السلبي، وهي أفعال جاءت في ثنايا الشعارات التي كانت ترفعها القوى اليسارية، خاصة الشيوعية، عن تثوير الخدمة العامة بتطهيرها على النهج الأكتوبري، وبوجوب التحسب من قوى الثورة المضادة.. ووضع الكوادر الملتزمة فكراً وبرنامجاً بنهج البناء الاشتراكي الذي جاءت تدعو إليه مايو..
    وبما ان الكوادر التي التزمت النهج الاشتراكي – فكراً وبرنامجاً – كانت في معظمها شيوعية أو أقرب ما تكون إلى الشيوعيين .. فقد بات شكل التعاون بين الشيوعيين ومايو أشبه ما يكون بالسيطرة التامة من قبل الكوادر الشيوعية على جهاز الدولة.. وهي سيطرة لم تلبث ان قادت إلى الضيق والضجر من قبل قادة مايو.. ومن ثم بدأت رحلة الخلاف والاختلاف بين الاثنين..
    جاءت رحلة الاختلاف، فالخلاف ثم الصراع بين مايو والشيوعيين بطيئة في أولها ثم تدرجت في التطور من بعد ذلك... ويمكن ان نعدد مظاهر تطور ذلك الصراع على النحو التالي:
    أولاً: اتجاه مايو إلى توسع المواعين وبسط القاعدة التي يقف عليها النظام الجديد.. كانت الدعوة التي رفعها رجال مايو منذ أيامهم الأولى هي عزمهم على إنشاء تجمع شامل يجر إلى حلبته كافة القوى الوطنية ويستوعب الإمكانات الهائلة التي يمكن ان تتجمع بمثل تلك القاعدة العريضة..
    وكانت هذه الدعوة تعنى بالضرورة تذويب الحزب الشيوعي في ذلك الماعون الجديد.. ولهذا فإن طرح جماعة مايو لرغبتها في إقامة تنظيم واحد جامع كان يحمل في طياته تجاوزاً للحزب الشيوعي وتوسيعاً للماعون السياسي بما يتجاوز تصورات الحزب وطرحه.. وكان طرح الحزب الشيوعي قد تجسد في شعار (وحدة القوى الثورية) الذي رفعه بديلاً لوحدة القوى الوطنية (أو الوحدة الوطنية) الذي كانت تطرحه أدبيات الحركة الجديدة من خلال التصريحات واللقاءات السياسية.. وقد طرح الحزب الشيوعي شكل (الجبهة الديمقراطية) بديلاً لاتحاد القوى الوطنية الذي أخذ قادة مايو في الحديث عنه..
    ثانياً: حلت مايو منذ يومها الأول كل الأحزاب السياسية.. ولم يستثن الأمر الجمهوري رقم (1) الصادر في 25 مايو أي حزب من الحل، ولكن بما ان الحزب الشيوعي كان بطبيعة الحال قد تم حله من قبل النظام الحزبي السابق على مايو، فإنه لم يتعرض لمظهريات الحل التي تعرضت لها دور الأحزاب وممتلكاتها، فلم يكن هناك جنود يحرسون مقاره... كما ان ممتلكاته لم تجر مصادرتها والتصرف فيها على نحو ما جرى للأحزاب الأخرى.. وفي الوقت الذي كان قادة الأحزاب الأخرى قد تعرضوا لما أقله الاعتقال التحفظي في المنازل، كان قادة الحزب الشيوعي وحدهم الذين يتمتعون بالحرية ويتصرفون بما يوحي بأنهم جزء من التغيير إن لم يكونوا هم التغيير نفسه..
    ولقد تم استغلال هذه الحقيقة – حقيقة عدم تعرض دور الحزب الشيوعي وممتلكاته لمظاهر الحل- لتصوير الواقع وكأنه استثناء للحزب الشيوعي من الحل... كما ان واقع الحال الذي جعل منظمات اليسار التي كان يسيطر عليها الشيوعيون- خاصة اتحاد الشباب والمرأة – السند الأساسي لحركة الشارع المؤيد لمايو أعطى هو الآخر انطباعاً بأن الشيوعيون وحدهم يملئون الساحة وان كافة تشكيلاتهم – بما فيها الحزب قد عادت إلى الحياة..
    ولقد أصابت مقاومة وعناد الحزب الشيوعي لمبدأ حل الحزب ذاته، أصابت القادة الجدد- القادمين من جوف مؤسسة عسكرية عرفت بالضبط والربط وطاعة الأوامر – بالضجر والضيق... وفي وقت لاحق بالغضب والانفعال..
    ثالثاً: في سبتمبر عام 69، استولى القذافي ومجموعة من الشبان العسكريين على السلطة في ليبيا وأعلنوا وجهاً تقدمياً ذا بعد عربي واضح الملامح.. وبدخول ليبيا على ساحة التقدمية أصبحت الساحة العربية في عمومها تنظر إلى حركتي مايو وسبتمبر باعتبارهما ثورتين متقاربتين في التوجه والهدف، ومن ثم اقتربت الحركتان من عبد الناصر – راعي الفكر القومي العربي – وشكلتا مع ثورة يوليو المصرية مثلثاً تقدمياً اشتراكياً أراد ان يبصر نفسه نواة لعمل وحدوي عربي.
    كان هذا التوجه الذي وجدت مايو نفسها فيه، مدفوعاً بالقوى القومية العربية الناصرية التي أصبحت ذات باع أطول في الساحة منذ نجاح مايو واستيلائها على السلطة.. وكان يعضد من باع القوميين العرب وجود بابكر عوض الله على رأس السلطة التنفيذية، إضافة إلى عدد من النافذين من الضباط في الجيش وخارج الجيش من أمثال محمد عبد الحليم وشقيقه العميد أحمد عبد الحليم والعميد عمر محمد سعيد، ثم بعض المنظرين من أمثال الطاهر عوض الله وناصر السيد وبابكر كرار.
    ومع اطراد الزخم القومي العربي الذي وجدت مايو نفسها تندفع في تياره القوي.. لاحظت قوى اليسار الأخرى، خاصة البعثيين والشيوعيين، ان الضباط الأحرار يتجهون بسرعة شديدة في اتجاه معاكس لتيار الجبهة الديمقراطية الذي أرادوا بناءه.. ومن ثم بدأت أصوات المعارضة في التعبير عن نفسها.. تارة في إطار جدل فكري كذلك الذي جرى في ساحات الملتقى الفكري العربي الذي انعقد في الخرطوم وهندسه منصور خالد، أو ذلك الحوار الساخن الذي جرى في ديسمبر 1970م في إطار (ندوات الحوار) التي تبناها الرقيب العام الرائد زين العابدين عبد القادر بغرض تحقيق قدر من الاتفاق والتفاهم بين تيارات الصراع اليساري التي أخذت في التبلور في ذلك الوقت، والتي كان مسرحها مكاتب الرقابة العامة بالخرطوم، وجرت في أكال من الحوار الفكري بين التيارات المختلفة.
    كما جرت محاولات عدة لاحتواء الخلاف بين الحزب الشيوعي وبين مجلس قيادة مايو، منها تكوين لجنة سرية مهمتها التنسيق بين المجلس والحزب في السياسات ومحاولة معالجة الخلافات قبل ان تستفحل وتعلو على السطح. وقد عقدت تلك اللجنة التي كان من بين أعضائها من الحزب الشيوعي محمد إبراهيم نقد وجوزيف قرنق، ومن مجلس مايو أبو القاسم محمد إبراهيم وزين العابدين محمد أحمد(11).
    وكانت ندوة زين العابدين، وملتقى منصور خالد وغيرهما من أشكال الحوار الثنائي والجماعي المحلي والإقليمي استجابة لدعوة لفتح أبوبا (الحوار بين القوى الثورية) لتجاوز خلافاتها .. وهو حوار دعمته قوى إقليمية يسارية من مثل اتحاد الكتّاب التقدميين العرب، وعدد من المنظمات العربية ذات الميول الماركسية واليسارية العربية.
    بيد ان خلاف الشيوعيين مع النظام الجديد وصل حده من بعد توقيع نميري مع جمال عبد الناصر ومعمر القذافي المعاهدة التي عرفت باسم ميثاق طرابلس في ديسمبر من عام 1969 وهو الميثاق الذي رأى فيه الشيوعيون تجاوزاً لخصوصية التشكيل العرقي للسودان، كما رأوا فيه انفراداً من نميري باتخاذ القرارات المصيرية الخطيرة دون استشارة لأعضاء المجلس الآخرين.
    رابعاً: كانت تنظيمات الشيوعيون الجماهيرية قد ملأت الساحة تماماً في الأيام الأولى للثورة واستطاعت تلك التنظيمات، بما ملكته من تجارب في تعبئة وتحريك الجماهير – من تحقيق السند والدعم للنظام الجديد، وكان لها باع كبير في خروج موكب الثاني من يونيو على النحو الذي كان..
    ولم تكن العناصر غير الشيوعية المساندة لحركة مايو، لتغفل عن انفراد الشيوعيين بالسيطرة على (الشارع) وما يمكن ان يكون لذلك من معانٍ ودلالات لهذا فقد بدأت السلطة الجديدة – تعاونا العناصر الأخرى- في السعي نحو بناء قواعد شعبية بديلة لا تكون فيها السيطرة للحزب الشيوعي..
    وكان أشهر التنظيمات التي انبثقت من هذا السعي هو تنظيم الحرس الوطني الذي جرى بناؤه على قاعدة الثورة ان الثورة ينبغي ان يكون لها كيان شعبي مقاتل يحقق لها البعد الجماهيري.
    ثم اتجهت مايو – بقدوم منصور خالد إلى صفوفها بعد شهر واحد من قيامها وتوليه وزارة الشباب- على بناء كوادر من الشباب المدرب فكرياً وعسكرياً، حتى يصبح رافداً آخر من الروافد الجماهيرية لمايو والتي لا يمكن حسابها على الكوادر الشيوعية .. وقد عرفت هذه الكوادر باسم كتائب مايو.. واشتملت على مستويات عمرية أدنى شملت الصبية، وعرفت باسم طلائع مايو.
    وكان تنظيم الحرس الوطني، ببعده العسكري، يشكل نمطاً جديداً من العمل السياسي لم يكن للشيوعيين السودانيين معرفة به. ولهذا فقد سيطرت على الحرس الوطني القوى الوحدوية الناصرية، بإشراف وثيق وقريب من القوات المسلحة خاصة سلاح المدرعات وقائده العميد أحمد عبد الحليم، وبرعاية مباشرة من وزير الدفاع خالد حسن عباس.
    أما كتائب مايو فقد جاء لها منصور خالد بالمدربين والخبراء الأجانب الذين سعوا إلى وضع هياكل للتنظيم تشكل كافة مناطق السودان بينما استوعبت وزارة الشباب في ذلك الوقت عدداً كبيراً من طلاب جامعة القاهرة فرع الخرطوم ومن خريجي مصر ذوي الميول القومية العربية، ولعب هؤلاء دور الملقنين والمعلمين على المستوى الفكري لأعضاء كتائب الشباب..
    كانت خطوتا بناء الحرس الوطني وكتائب مايو إسفينا جديداً دق في جسد العلاقة بين مايو والحزب الشيوعي السوداني.. فقد احتدمت المنافسة بين هذين التنظيمين وبين التنظيمات الشيوعية، خاصة اتحاد الشباب السوداني والاتحاد النسائي.. فالمنظمتان الجديدتان لقيتا الرعاية الرسمية من الدولة بينما كانت منظمات الحزب الشيوعي بطبيعة الحال تفتقر إلى مثل ذلك الدعم والتأييد.
    خامساً: كانت أول المظاهر القوية التي دللت على حجم الانحدار في علاقة مايو بالحزب الشيوعي هي في تصريحات بابكر عوض الله الشهيرة في برلين والتي قال فيها ان مايو ما كان يمكن ان تنجح ولا تستطيع ان تبقى إلا بعون وعضد الشيوعيين.. وكان تصريح بابكر عوض الله قدتم ترديده في الإذاعة بتوجيه من محجوب عثمان وزير الإعلام وقتها.
    أثار ذلك التصريح علامات تعجب عددية من بعد إذاعته ، بيد ان علامات التعجب زادت بعد ان قطع راديو أمدرمان برامجه وأذاع تصريحاً لرئيس مجلس الثورة، جعفر محمد نميري، أعلن فيه ان (ثورة مايو لم تستند حين تفجرت، إلا على تطلعات الجماهير السودانية العريضة ومساندتها، وأنها تواصل مسيرتها استناداً على القاعدة الجماهيرية الأرحب، وأنها لا علاقة لها بالشيوعية والشيوعيين فكراً أو ممارسة) (12).
    كان هذا البيان أول مظهر رسمي للخلاف بين مايو والشيوعيين، كما كان البيان دليلاً على المدى الذي وصله الخلاف، خاصة بعد ان واصل الحزب الشيوعي اعتبار نفسه جسماً مستقلاً غير خاضع لسلطة الدولة.
    سادساً: بإعلان مايو عزمها على إقامة تنظيم جامع يجعل من شعار الوحدة الوطنية، تم تكوين لجنة مهمتها الأساسية وضع ملامح الميثاق الذي ستلتقي عليه القوى التي شكلت جسد الثورة. وكان الملفت في تلك اللجنة عضويتها التي ضمت كافة الاتجاهات اليسارية المساندة للنظام الجديد. كان في اللجنة من الأسماء اللامعة محمد إبراهيم نقد، وجوزيف قرنق، محجوب عثمان، وحسن الطاهر زروق.
    وكان من بين أعضائها آمال عباس وعبد الله عبيد وخالد المبارك ومنهم بدر الدين مدثر ومكاوي مصطفى وطه بعشر وأمين الشبلي ثم كان من بينهم أحمد عبد الحليم ومنصور خالد، وقد تلا تكوين هذه اللجنة قيام المؤتمر الشعبي لمناقشة الميثاق الوطني، والذي أريد له أن يكون هادي الثورة ودليلها. وقد شهد ذلك المؤتمر آخر ملابسات الصراع بين الحزب الشيوعي من جهة وبين الجماعة المنشقة عنه، وبقية القوى السياسية اليسارية، والجماعات المستقلة الأخرى التي أخذت في التخندق في صف مايو.. وقد كانت أكثر العواصف هبوباً يومها هي عاصفة التنظيم السياسي المنتظر إقراره والعمل به..
    في الوقت الذي كانت فيه عناصر الحزب الشيوعي الموجودة في اللجنة التحضيرية، وفي المؤتمر الشعبي للميثاق تحاول تمرير مشروع (تنظيم الجبهة)، استمسكت القوى الأخرى – خاصة القوى القومية العربية – بتنظيم الاتحاد ونادت بمبدأ التحالف بين القوى الوطنية المنتجة تحت مظلة واحدة اشتهرت فيما بعد باسم (تحالف قوى الشعب العاملة).
    وقد أدى الصراع داخل لجنة الميثاق الوطني، ثم المؤتمر الوطني الشعبي للميثاق الوطني، أدى على فتق الرتق بين الحزب الشيوعي ومايو فقد ثار الجدل حول عدد من القضايا منها تحديد ما إذا كانت حركة 25 مايو ثورة أم انقلاباً.. ومنها تحديد وتعريف دور القوات المسلحة كفصيلة من الفصائل، ثم دور شريحة الضباط في القوات المسلحة وتعريفها في منظومة القوى الديمقراطية.. ومنها دور الرأسمالية ومكانتها.. ومنها النمط الاشتراكي المراد إتباعه.
    شكلت معظم هذه القضايا أساساً لتصعيد وتائر الخلاف بين مختلف الاتجاهات الفكرية اليسارية المشكل منها اللجنة التحضيرية للميثاق واللجنة القومية التي قامت بالمناقشة والإقرار.
    وقد زاد هذا الجدل المحتدم من أوار الخلاف بين الحزب الشيوعي وبين مايو والاتجاهات الفكرية غير الشيوعية المساندة لها – خاصة القوميين العرب.. ومن ثم فإن تواتر الجدل والخلاف أديا في النهاية إلى الصعود المستمر نحو هاوية العلاقة بين مايو والحزب الشيوعي أولاً ثم مايو والشيوعيين لاحقاً.
    سابعاً: مع الانزلاق المستمر لعلاقة الحزب الشيوعي بمايو وبروز اتجاهات القومي العربي الواضح، بدأ الحزب الشيوعي في العودة إلى أساليبه الشهيرة والمختبرة في المعارضة، وهي حرب المنشورات.
    والواقع ان الحزب الشيوعي استقبل مايو في يومها الأول، ببيان تحليلي مطول، انتهى بوصفها أنها حركة برجوازيين صغار، وان ما حدث صباح اليوم هو عمل عسكري وليس ثورة شعبية) ومضى بيان التقييم ليقول إن فئة البرجوازية الصغيرة لا تستطيع (السير بالحركة الثورية في طريق النضال)، وأنها ستكون ذات عواقب وخيمة (13) وفي ديسمبر عام 1969، أصدر الحزب الشيوعي منشوراً ناقداً لسياسات النظام الجديد الاقتصادية.. وكانت تلك عملية استباق لقرارات التأميم والمصادرة التي باتت قريبة من ذلك التاريخ.. كما انتقد المنشور بحدة ملفتة للنظر السيد محمود حسيب الذي كان يشغل منصب وزير المواصلات، ويذكر ان محمود حسيب كان واحداً من قيادات الضباط الأحرار المحسوبين على التيار القومي العربي الناصري... وكان ذلك المنشور أول قطرة على طريق المنشورات التي توشك على الانهمار..
    وفي أعقاب ذلك المنشور قدم وزير الداخلية- فاروق عثمان حمد الله- تحذيراً شديداً للشيوعيين من انتهاج أسلوب المنشورات ضد نظام تقدمي كنظام مايو ينبغي على الشيوعيين ان يقفوا دفاعاً عن سياساته وقراراته.
    وفي ديسمبر من نفس العام أصدر الحزب منشوراً آخر انتقد انفراد نميري بقرار دخول السودان في وحدة عربية مع مصر وليبيا دون اعتبار للواقع السوداني المميز.
    ثم أصدر الحزب بياناً آخر ينتقد بعض القرارات المتعلقة بالقوات المسلحة أفراداً ومخصصات وواجبات..
    وطوال الفترة من ديسمبر 70 وحتى مايو 71 توالت منشورات الحزب الشيوعي الناقدة لسياسات النظام المختلفة، والمعبرة عن تصاعد روح العداء بين الطرفين...
    حتى كان منشور الثلاثين من مايو 1971م، وهو المنشور الذي جاء في أعقاب القرارات الشهيرة المتتالية التي صدرت عن مجلس قيادة الثورة، والتي اتجهت في مجملها إلى تحييد الحزب الشيوعي،وتقليص انتشاره في ساحة النظام الجديد وقد جاء البيان ليضع الحد الفاصل ويكتب السطور الأخيرة في علاقة الحزب الرسمي بالنظام الجديد فقد نادي المنشور بوضوح بوجوب إسقاط النظام العسكري الذي تسيطر عليه مجموعة من الضباط فاقدي الانتماء ومدعي الثورية والتقدمية. ونادي المنشور بوجوب تكوين جبهة عريضة من القوى التقدمية الديمقراطية بغرض محاصرة وإسقاط النظام وكانت تلك هي بداية الصعود نحو الهاوية.

    أعوام مايو الحُمْر..
    الطريق نحو انقلاب العطا
    o انتقل الصراع مع الشيوعيين إلى مجلس الثورة..
    o اعتبر الحزب الشيوعي قرارات 16 نوفمبر انقلاباً مايوياً ضده..
    o من قرارات 16 نوفمبر إلى بيان 12 فبراير إلى مهرجان 10 أبريل اتسع الفتق الشيوعي – المايوي على كل رتق..
    =========
    كيف تصاعد الصراع مع الشيوعيين حتى بلغ قمة هرم الثورة – مجلس قيادة الثورة؟.. وكيف ضلع بعض أعضاء المجلس في ذلك الصراع؟ وهل كان الخلاف بين الأعضاء محسوباً وموقوتاً أم أنه جاء نتاجاً لتداعى الأحداث دون ان يكون هناك تخطيط وإعداد مسبق للسيناريوهات فيه؟
    قد لا تسهل الإجابة على هذه الأسئلة إذا ما حاولنا قراءة الوثائق المكتوبة المتاحة أمامنا وحدها، فالوثائق لا توفر معلومات كثيرة في هذا الصدد إذ أن الإجابة الشافية على ذلك إنما تكمن في صدور عدد من الرجال ذهب بعضهم ضحية للصراع عينه الذي نحن بصدده، بينما هناك بقية منهم لم تتح لنا بعد المسافة التحدث إليهم عن الأمر.
    ولهذا السبب فإننا سنركن إلى استنطاق الوثائق بعض ما يعين على فهم الذي جرى في تلك الفترة الدقيقة والعصيبة من تاريخ السودان ومايو والحزب الشيوعي على حد سواء.
    الأمن والشيوعيين وحمد الله:
    جاءت أول خطوات التداعي للخلاف بين أعضاء مجلس الثورة في طيات ذلك القرار الذي اتخذه فاروق حمد الله بصفته وزيراً للداخلية- في الأسابيع الأولى من بعد الثورة – بتجنيد عدد من الضباط لجهاز الأمن العام. وكان عدداً من ضباط الشرطة – من بينهم مجموعة مهمة من رجال جهاز الأمن العام السابق على قيام مايو- قد أحيلوا إلى المعاش بعد وقت قصير من نجاح مايو في الاستيلاء على السلطة. ومن ثم فإن مهمة تأمين الثورة أصبحت هي المهمة الأساسية والملحة التي استوجبت تجنيد عدد من الأشخاص الممتعين بثقة النظام الجديد والذين يمكن ان يشكلوا صمام الأمان له. لقد تمت عمليات التجنيد لضباط الأمن على مستويين الأول على مستوى جهاز الأمن القومي الذي كان قد أنشئ بقرار من مجلس قيادة ثور مايو بعد أشهر قليلة من قيامها، وكلف الرائد مأمون عوض أبوزيد بمهمة إنشائه وإدارته. والثاني على مستوى جهاز الأمن العام التابع لوزارة الداخلية التي كان يتولى أعباءها فاروق حمد الله.
    ولما كانت عمليات التجنيد لهذين الجهازين تعتبر عملاً يمس صميم أمن النظام، فإن الاختيار لهما كان يتم على أعلى مستويات المسؤولية السياسية – أعضاء مجلس الثورة والمسئولين السياسيين وثيقي الصلة باتجاهات النظام الجديد- وهذا هو السبب في أن الأسماء التي انتمت إلى هذين الجهازين في أيامه الأولى ضمت أقارب وأصدقاء لأعضاء مجلس الثورة – كالعقيد سيد المبارك – كما ضمت بعض أعضاء تنظيم الضباط الأحرار كالرائد الرشيد نور الدين. وكان المصدر الثاني للاختيار هو الالتزام السياسي الواضح لمن يراد استيعابه في الجهازين، بمعنى آخر ضمان اختيار الأفراد اليساريين الملتزمين. ولم يكن هناك بالطبع مصدر لمعرفة مثل ذلك الالتزام مسئولي التنظيمات السياسية اليسارية المؤيدة لمايو.
    كان جل أفراد جهاز الأمن العام اللذين تم تعيينهم في وزارة الداخلية من الذين زكتهم التنظيمات اليسارية كالحزب الشيوعي وجماعة الطليعة العربية (الناصريين أو القوميين العرب). وقد استعان فاروق حمد الله بتلك التنظيمات ليضمن الالتزام التقدمي لجميع من يتم اختيارهم.
    ولم يكن الأمر هكذا في جهاز الأمن القومي الذي بناه مأمون عوض أبوزيد... ففي الوقت الذي اعتمد فاروق حمد الله على الكوادر السياسية التقدمية، اعتمد مأمون على مصدر رئيسي أساسي هو القوات المسلحة، ثم مصدر آخر هو المعارف والأصدقاء والأقارب، أما المصدر الثالث فكان هو الأفراد المنظمين حزبياً على شاكلة الذين جرى اختيارهم في جهاز الأمن العام(14).
    وهكذا فإن الجازان اختلفا في بنية تركيبتهما السياسية إلى حد بعيد ... ففي الوقت الذي كان جهاز الأمن القومي يضم عدداً من الضباط العسكريين في قيادته العليا والوسيطة، كان جهاز الأمن العام قد استوعب عدداً كبيراً من الكوادر السياسية المتفرغة وشبه المتفرغة في الحزب الشيوعي.
    ويمكننا ان نبصر بوادر الصراع في هذا الأمر.. فقد وجد الحزب الشيوعي في تنظيم جهاز الأمن موقعاً لتثبيت أقدامه داخل أرض النظام الجديد. ولذلك فإن عدداً من الكوادر الرفيعة الموقع في التنظيم وجدت نفسها داخل هذا الجهاز.. وكان من بين تلك الأسماء محمد أحمد سليمان، وعبد الباسط سبدرات والتجاني بدر.
    في المقابل برزت أسماء من العسكريين المرموقين في صفوف الأمن القومي منهم علي نميري، سيد المبارك، الرشيد نور الدين، كمال الطاهر وأبوبكر بشارة...
    وقد شكل هذا التباين في تكوين الجهازين – فيما بعد – أسس الصراع بينهما، كما ألهب في جانب منه أوار الخلاف بين فاروق حمد الله والأعضاء الآخرين في مجلس الثورة، ففي الوقت الذي كان هناك حذر من انتشار الكوادر الشيوعية وتمددها في أجهزة الدولة، كان فاروق يأخذ طريق التعاون غير المحدود مع الكوادر الشيوعية خاصة في وزارة الداخلية. وهناك من الشواهد ما يشير إلى ان فاروق حمد الله كان يقول لأعضاء مجلس الثورة بأنه يعمل بما أسماه (سياسة المغفل النافع المعكوسة)(15)، مشيراً بذلك إلى ما درج الشيوعيون على التعامل به مع أفراد لا ينتمون إلى الحزب ولكنهم يعتبرون مفيدين له دون ان يدروا، وكانت مبررات فاروق لهذا التعاون تشمل رغبته في السيطرة على الشيوعيين من خلال وجود كوادر هامة على دراية بأسرار العمل التنظيمي والسياسي في الحزب في خدمة الأجهزة الأمنية. وقد كشفت الأيام فيما بعد صدق فرضية فاروق هذه، إذ ان كثيراً من المعلومات المتعلقة بأسرار التنظيم الشيوعي حملتها إلى الأجهزة الأمنية الكوادر التي بقيت في خدمة تلك الأجهزة من بعد يوليو 1971م.
    ميثاق طرابلس والوحدة الثلاثية:
    يدرك كثيرون ان السبب المباشر للمواجهة الحادة، ثم الصدام، بين جعفر نميري وبقية أعضاء مجلس الثورة من جهة، وبين فاروق حمد الله وبابكر النور وهاشم العطا، هي توقيع ميثاق طرابلس بين مصر والسودان وليبيا وما تلا ذلك من اتفاقية للوحدة – كان مفروضاً ان يكون السودان طرفاً فيها، إلا أنه لم يوقع عليها.. فضمت مصر وسوريا وليبيا.
    وكان ما عرف بميثاق طرابلس قد تم توقيعه في 27 ديسمبر عام 1969 بين البلدان الثلاثة بعد عدة اجتماعات ضمت عبد الناصر والقذافي و نميري . وقد اعتبر ذلك الميثاق انتصاراً شاملاً للمجموعة العربية في التحالف المايوي، مجموعة بابكر عوض الله وبقية القوميين العرب. وفي نفس الوقت اعتبرت ضربة قوية للحزب الشيوعي الذي كان يدفع في اتجاه تيار يدعو إلى الموازنة في العلاقات العربية الأفريقية، متخذاً من إعلان التاسع من يونيو والوجه الإفريقي المصاحب لذلك البيان سبباً قوياً لذلك.
    وقد واجه الحزب الشيوعي ميثاق طرابلس، ثم اجتماعات بني غازي التي أسفرت عن قيام الاتحاد الثلاثي الذي كان ينتظر ان يكون رباعياً- لولا اعتذار السودان- واجه هذه التطورات العربية الاتجاه بحركة معارضة نشطة استعمل فيها المنشورات.
    بيد ان معارضة الاتفاقية بمجملها وصلت إلى مجلس قيادة الثورة حيث وقف بابكر النور وهاشم العطا وفاروق مواقف ناقدة، ليس فقط لقرارات ميثاق طرابلس ثم اتفاقية بني غازي، بل شمل النقد أسلوب اتخاذ القرارات في مجلس قيادة الثورة، حيث رأوا في طريقة رئيس المجلس محاولة للانفراد بالسلطة تجعل من مجلس الثورة أشبه ما يكون بالقيادة العامة التي ينفرد فيها القائد العام أو رئيس هيئة الأركان باتخاذ القرار.
    وكان موقف الأعضاء الثلاثة قد تطابق أيضاً في مسألة حل تنظيم الضباط الأحرار بعد قيام الثورة.. فقد كان من رأى نميري وعدد من أعضاء ان مجلس قيادة الثورة هو السلطة العليا، بينما رأى نفر من أعضاء تنظيم الضباط الأحرار- بما فيهم الثلاثي فاروق وهاشم وبابكر – ان تنظيم الضباط الأحرار ينبغي ان يظل المرجعية النهائية لمايو، وأنه ينبغي ان يظل سلطة أعلى.. ويبدو ان هذا كان أيضاً موقف الحزب الشيوعي في الأمر..
    وكان في تطابق موقف فاروق وهاشم وبابكر مع موقف الحزب الشيوعي ما جعل شكوك جعفر نميري في تنسيق المواقف بين هؤلاء الثلاثة وبين الحزب الشيوعي تزداد.. خاصة وان نميري كانت له عدد من الملاحظات التي أبداها لصحفي مصري فيما بعد على تصرفات وتحركات الأعضاء الثلاثة، والتي اعتبرها دليلاً على ضلوعهم في خطة (التطويق) التي كان الحزب الشيوعي يحاول ان يفرضها على مايو(16).
    مجلس الثورة يناقش الموقف من الحزب الشيوعي
    مع ازدياد حدة النفور بين مجلس الثورة – خاصة رئيسه- وبين الحزب الشيوعي، لم يكن هناك بد من مناقشة العلاقة بين الحزب الشيوعي وبين الثورة على المستوى الأعلى – مستوى مجلس الثورة.. وقد جرى نقاش الأمر باستفاضة في جلسة خاصة للمجلس انعقدت على مدى ساعات طويلة تم فيها استعراض ثلاثة قضايا:
    أولها: التفاف الحزب الشيوعي على قرار حل الأحزاب السياسية وادعاءات تجاوزه لذلك لعدم وجوده أصلاً.
    ثانيها: محاولة الحزب الهيمنة على المؤسسات و التنظيمات والخدمة المدنية وبسط السيطرة عليها عن طريق زرع الكوادر ثم عن طريق إرهاب وتخويف العاملين بالفصل تحت إدعاء تطهير الخدمة المدنية من (الرجعية) و(الثورة المضادة).
    ثالثها: تجاهل الحزب لمؤسسات الثورة ومحاولة تجاوزها أو التقليل من اعتبارها من خلال بعض المظهريات البروتوكولية، وقد ضرب في هذا الصدد- كمثل- لقاء بري الشهير الذي تحدث فيه عبد الخالق محجوب بعد جعفر نميري ، مما أوحى باحتلال عبد الخالق لموقع بروتوكولي أعلى من رئيس مجلس الثورة نفسه. وقد رأى البعض تلك الخطوة باعتبارها محاولة لطرح سكرتير الحزب الشيوعي في وضع أشبه ما يكون بسكرتير الحزب الشيوعي السوفيتي يومها، حيث يعلو سكرتير الحزب على كافة السياسيين والتنفيذيين في الدولة.
    وتقول الوثائق ان معظم أعضاء المجلس يومها أقروا بوجوب عدم تصعيد الخلاف مع الحزب الشيوعي باعتباره الركيزة الأساسية لدعم النظام، كما أنهم أقروا في تلك الاجتماعات بعدد من الخطوات الرامية إلى إزالة أي مظهر من مظاهر الفوضى البروتوكولية، وإلى الاستيثاق من إحكام أمن المكاتبات وتداول المعلومات الخاصة بمجلس الثورة، خاصة بعد ان أثيرت في تلك الاجتماعات قضية تسرب معلومات عالية السرية إلى الحزب الشيوعي بالذات.
    ويجدر بنا هنا ان نورد ما قاله محجوب برير في كتابه( مواقف على درب الزمان) حول هذا الاجتماع. إذ يقول محجوب ان الضباط الأحرار كانوا قد انقسموا إلى فريقين، وقد أعد فريق بابكر النور العدة لتطويق واعتقال كافة أعضاء مجلس الثورة في حالة فشل ذلك الاجتماع أو ووصله إلى طريق مسدود. ولكن خروج المجلس بقرار تجاوز الخلافات ورأب الصدع مع الشيوعيين جعل مجموعة بابكر النور تؤجل تنفيذ استيلائها على السلطة (17).
    وكان عدد من أعضاء المجلس قد أثار قضية تمكن الحزب الشيوعي من معرفة ما يدور في المجلس وقرارات المجلس حتى قبل إعلانها، وقد لاحظوا ان بعض كوادر الحزب الشيوعي العاملة في الدولة وغير العاملة تستبق الأحداث وتتصرف بما يدل على معرفتها بما سيتم اتخاذه من قرارات.
    عبد الخالق منفياً إلى مصر..
    كان من نتاج التصاعد في الخلاف بين الحزب الشيوعي وقيادة مجلس الثورة ان قامت السلطات في مارس من عام 1970 بنفي عبد الخالق محجوب إلى مصر حيث غادر إليها على نفس الطائرة منفياً أيضاً الصادق المهدي، وذلك في أعقاب أحداث ود نوباوي والجزيرة أبا.
    وجاء نفي عبد الخالق دليلاً على مدى التدهور الذي وصلت إليه العلاقة بين الحزب والنظام الجديد.. وهناك من يقول ان الجماعة المنشقة على عبد الخالق هي التي هندست عملية إبعاده إلى مصر.. بينما يقول آخرون ان هذا الإبعاد جاء نتيجة لنصيحة من الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر الذي رأى حجم معارضة الشيوعيين للتقارب بين مايو ومصر وليبيا.
    وقد جاء النفي بعد ان فشلت كافة محاولات إقناع الشيوعيين بتذويب أنفسهم في جسد الثورة والعمل من خلال التنظيمات والمؤسسات السياسية المقترحة والتي كان ينتظر ان يتم الإعلان عنها في العيد الأول لمايو.. وقد تزعم دعوة تدريب الذات التنظيمية أحمد سليمان وفاروق أبو عيسى ومعاوية إبراهيم... كما لعب فاروق حمد الله دوراً كبيراً في محاولة إقناع اللجنة المركزية للحزب بالموافقة على ذلك. بل ان فاروق حمد الله (جمع) أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في مكتبه في وزارة الداخلية، فيما يشبه الاعتقال، وذلك في محاولة لإقناعهم بالموافقة على حل الحزب نفسه.. إلا ان كل المحاولات فشلت في إقناع بعد الخالق ولجنة الحزب المركزية بذلك. ومن ثم فإن نفى عبد الخالق كان في جانب منه محاولة لإبعاد تأثيره على بقية الأعضاء إضافة إلى الأسباب الأخرى التي أوردناها عن ضيق قادة مايو من استخفاف الحزب الشيوعي بقرارات مايو..
    وكان من نتاج نفي عبد الخالق وتصاعد الصراع بين مجلس ثورة مايو والجماعة المنشقة من الحزب من جهة، وعبد الخالق محجوب وسكرتارية الحزب الشيوعي من جهة أخرى، ان قامت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في أغسطس1970 بفصل مجموعة أحمد سليمان ومعاوية أحمد إبراهيم من الحزب. وقد ضمت المجموعة المفصولة معظم الكوادر التي عملت بعد ذلك مع مايو وأصبحت من أعمدتها الرئيسية.. خاصة في التنظيم السياسي الاتحاد الاشتراكي.
    خطاب استقالة فاروق حمد الله
    كانت قضية الوحدة الثلاثية مع مصر وليبيا قد شغلت بال الناس في السودان كثيراً في تلك الأيام.. فقد وجدت القوى القومية العربية في ميثاق طرابلس، وفي التقارب المتصل بين مصر وليبيا وسوريا والسودان دفعة سياسية قوية لذاتها بحيث صارت تلك القوى ترى نفسها الأساس وغيرها الهامش في الفعل السياسي وقد وقف الشيوعيون والبعثيون والمحبذون الاتجاه إفريقياً في مجال السياسة الوطنية – خاصة الجنوبيون- وقفوا جميعاً ضد هذا الجموح في الاتجاه العربي وكان من بين الذين هذا الموقف، كما أوضحنا منذ قليل أعضاء مجلس الثورة الثلاثة.. فاروق وبابكر وهاشم.
    بيد أن واحداً من هؤلاء الثلاثة – فاروق حمد الله – لم يكتف بمعارضته ونقده لتلك القرارات في اجتماعات المجلس. بل صاغ اعتراضه في شكل خطاب مطول احتوى على عدة نقاط لخصت ما رآه تجاوزات لرئيس مجلس قيادة الثورة، وتجاهلاً لما اتفق عليه الضباط الأحرار من السعي لتوحيد الرؤى وانتهاج أسلوب ديمقراطي يفضي إلى القرار بالأغلبية. ومن ثم أعلن رغبته في الاستقالة من المجلس..
    وكان قاصمة الظهر في أمر هذا الخطاب هو تسربه من أضابير مجلس قيادة الثورة، وانتقاله إلى الشارع مطبوعاً على ماكينات الرونيو، وفي شكل أشبه ما يكون بمنشورات الحزب الشيوعي التي كثرت في تلك الأيام وقد جاء تداول خطاب فاروق بين قطاعات عريضة من الطبقة المستنيرة – كطلبة جامعتي الخرطوم والقاهرة الفرع- ليعطى بعض أعضاء مجلس الثورة الدليل الدامغ على وجود تنسيق بين الحزب الشيوعي وبين الأعضاء الثلاثة. فتنظيم الضباط الأحرار كانت له – قبل الثورة- صلته الوثيقة بالحزب الشيوعي في مجال طبع المنشورات في الفترات السياسية المختلفة، وكان فاروق حمد الله هو الصلة بين التنظيم والحزب الشيوعي. ومن ثم فإن طبع الخطاب على ماكينة الرونيو وتوزيعه كمنشور أعاد إلى أذهان أعضاء مجلس الثورة تلك الصلة، وعمق الاعتقاد بأن تنسيقاً قد تم بين الحزب وبين المعارضة الثلاثية في المجلس لميثاق طرابلس والوحدة الثلاثية.
    اجتماع القمة الحاسم
    في يوم السادس عشر من نوفمبر أعلنت حالة الطوارئ القصوى في القوات المسلحة.. ولم يكن هناك سبب واضح يدعو إلى فرض مثل تلك الحالة، خاصة وان الجنوب كان يشهد هدوءاً نسبياً بينما لم يكن هناك أي مظهر من مظاهر تحرك أي جماعة معارضة للثورة..
    وبما ان ذلك اليوم كان هو يوم اجتماع مجلس قيادة الثورة، فإن التكهنات بين الضباط والجنود شملت توقع تحرك طائفي من جماعات الأنصار، إضافة إلى توقيع مظاهرات من طلاب جامعة الخرطوم. ولم يخطر ببال المتكهنين يومها ما دار وما نتج عن ذلك الاجتماع...
    كان اجتماع مجلس الثورة طويلاً ومشحوناً بالمشاعر السالبة، وقد جرت فيه مواجهة بين الرفاق (الذين حملوا رؤوسهم على أكفهم).. وهي مواجهة لم يكن ممكناً تجاوزها إلا بالقرارات التي صدرت من بعد ذلك الاجتماع..
    كان واضحاً ان مجلس الثورة قد انقسم إلى فريقين فريق ثلاثي مواقفه قريبة جداً من مواقف الحزب الشيوعي، وفريق آخر ضم بقية أعضاء المجلس ولم ير الحزب كرؤية فريق الثلاثة: شريكاً أساسياً في الحكم لا يمكن الاستغناء عنه البتة.
    وكان من ضمن أجندة الخلاف اعتماد مجلس الثورة رأياً يرى ان دور تنظيم الضباط الأحرار قد انتهى باستلام الجيش للسلطة، ومن ثم فغن التنظيم لا يمكن ان يكون مرجعية لقيادة القوات المسلحة والسلطة السياسية.. بمعنى ان يكون تنظيم الضباط الأحرار مسئولاً أعلى من مجلس قيادة الثورة..
    ولما كان أمر الخلاف المباشر هو أسلوب القيادة واتخاذ القرار ثم نوعية القرارات، فإن الخلاف حسم بالتصويت..
    ومن ثم فقد أخرج فريق الثلاثة من مجلس قيادة الثورة (بالأغلبية البسيطة)... وكانت تلك من العلامات الفارقة في مسيرة مايو..
    الانزلاق نحو المواجهة:
    وقعت قرارات إعفاء بابكر النور وفاروق حمد الله وهاشم العطا وقع الصاعقة على كل القوى السياسية النشطة في البلاد.. وقد كان وقعها أشد على الحزب الشيوعي السوداني.. إذ ان خروج الضباط الثلاثة كان يعني بداية المعركة الفاصلة المتوقعة بين مجلس الثورة وبين الحزب الشيوعي.
    والواقع ان الحزب الشيوعي السوداني اعتبر قرارات 16 نوفمبر (انقلاباً) من قبل جماعة مايو عليه، فكل أدبيات الحزب الشيوعي، بما فيها (وثيقة 19 يوليو 1971م) التي أصدرها الحزب حول تلك الأحداث، تصف قرارات مجلس الثورة بإبعاد فاروق وهاشم وبابكر النور باعتبارها انقلاباً استهدف (المجموعة الديمقراطية في مجلس الثورة)..
    لقد اتبع مجلس الثورة قرارات إبعاد أعضائه الثلاثة بعد قرارات صبت كلها في اتجاه المعركة الفاصلة مع الحزب الشيوعي..
    فقد تم إحالة ثلاثة عشر ضابطاً من القوات المسلحة إلى التقاعد لوجود اعتقاد بميلهم- أو على الأقل تأييدهم – للضباط الثلاثة المقالين ولمواقفهم ذات الميل الشيوعي.. وكان من بين هؤلاء أعضاء التنظيم العسكري الشيوعي ومن بينهم محمد محجوب عثمان، ومحجوب إبراهيم.
    قامت السلطات باعتقال عبد الخالق محجوب – والذي كان قد أعيد من منفاه في القاهرة – وتم التحفظ عليه في إحدى الوحدات العسكرية ، وليس في معتقل كوبر السياسي الشهير..
    أصدر مجلس الثورة قراراً بمصادرة ممتلكات حامد محمد الأنصاري وذلك لوجود اعتقاد بأن تلك الممتلكات إنما هي في حقيقتها ممتلكات الحزب الشيوعي.
    قامت سلطات الأمن بالاستغناء عن خدمات 38 ضابطاً من ضباط جهاز الأمن العام والأمن القومي.. وقد كان معظم هؤلاء قد جرى اختيارهم في ظل هيمنة وثيقة من الشيوعيين على أسلوب الاختيار في أجهزة وزارة الداخلية، ثم بعثهم إلى ألمانيا الديمقراطية التي قامت بتدريبهم تدريباً أمنياً وعقائدياً. وقد شمل الاستغناء عن الخدمات بعض ضباط جهاز الأمن القومي ذوي الانتماء الفكري الواضح..
    بيان 12 فبراير 71
    الفترة الممتدة من نوفمبر 70 وحتى فبراير 71 شهدت استمراراً في الأزمة بين الحزب الشيوعي وقادة مايو بحيث لم يعد هناك مجال أو خيار سوى الصدام المدمر... كانت منشورات الحزب الشيوعي قد أخذت في التوالي والتتابع في إدانة تهافت الجماعة العسكرية على السلطة وتطلع (البرجوازية الصغيرة) – وهو التعبير الذي يشير إلى الضباط – إلى إقامة دكتاتورية عسكرية جديدة تستغل فيها القوى التقدمية واليسارية لتحقيق أغراضها في السيطرة.
    وكانت المنشورات التي وزعت منذ يناير 1970 قد فصلت انتقاد الشيوعيين الذي كاد ان يشمل كل قرارات مايو السياسية، من المصادرة والتأميم، إلى اختيار نظام الحزب الواحد بدلاً من نظام الجبهة ، على قيام منظمات جماهيرية خاصة بمايو بدلاً من المنظمات الرافدة للحزب الشيوعي، وحتى اتفاقية ميثاق طرابلس ومن بعدها اتفاقية الوحدة الثلاثية (مصر وليبيا وسوريا).
    ومع تواصل مد النقد من الحزب الشيوعي لمايو، واتصال المواجهة على مستوى التجمعات- خاصة تجمعات الشباب والنساء- والمنتديات من شاكلة لجنة الميثاق الوطني. كانت اجتماعات مجلس الثورة تناقش أكثر من مرة مواقف الحزب الشيوعي وموقف مايو منها..
    كان آخر اجتماع ناقش هذا الأمر هو اجتماع الثاني عشر من فبراير71 وهو الاجتماع الذي عقد نهاراً في مقر القيادة العامة – كما كان الحال بالنسبة لكافة اجتماعات مجلس الثورة – وقد أشارت المعلومات ان الاجتماع لم يحسم أمر الموقف من الشيوعيين يومها.. بيد ان رئيس المجلس حسم ذلك الأمر.. (18).
    ففي نهار ذلك اليوم نبهت إذاعة أمدرمان المواطنين إلى بيان هام يوشك ان يلقيه عليهم رئيس مجلس قيادة الثورة جعفر نميري... وهو ذلك البيان الذي دخل تاريخ السودان باسم بيان 12 فبراير.
    وقد حوي ذلك البيان لأول مرة عبارات قوية وعنيفة ضد الحزب الشيوعي.
    .. فقد أكد ان البيان ان الثورة قد أعلنت حل جميع الأحزاب بما فيها الحزب الشيوعي وأنها لا تسمح لأي حزب ان يدعى أنه فوق ذلك القرار..
    .. ثم تحدث البيان عن رفض مايو لأية وصاية عليها من أية جهة.. وكان المقصود محاولات الوصاية الشيوعية..
    .. وأكد البيان ان الثورة ستضرب كل محاولات الوصاية بها وان العناصر التي تحاول التلاعب بإرادة الشعب سيتم سحقها...
    .. وقال البيان إن (ثورة مايو ثورة للجميع)
    كان ذلك البيان هو (بيان حربي رقم واحد) لمايو في معركتها الفاصلة مع الشيوعيين..
    وتوالت من بعد ذلك البيان الخطوات التصعيدية..
    في عيد مايو الثاني أصدر مجلس الثورة قرارات بحل تنظيمات اتحاد الشباب السوداني والاتحاد النسائي، وهما الواجهتان التاريخيتان الأشهر للحزب الشيوعي السوداني..
    وأصدر قراراً آخر بحل جمعيات الصداقة مع الدول الأجنبية ... وكانت أشهر تلك الجمعيات هي جمعيات الصداقة مع الاتحاد السوفيتي وألمانيا الديمقراطية وغيرها من دول المعسكر الشيوعي.
    قام مجلس الثورة بإلغاء قانون العمل الذي صاغت معظم بنوده بعض كوادر اتحاد العمال السوداني الذي سيطر عليه الشيوعيون وترأسه الشفيع أحمد الشيخ.. وكان القانون قد نال كثيراً من الجدل لما حواه من شطط وتجاوز للأعراف الاقتصادية المتوارثة والمتفق عليها في البلاد.
    أعلن مجلس الثورة قيام تنظيمات شبابية ونسائية خاصة بمايو وهي تنظيمات طلب منها (ان تتيقظ دون تسلسل عناصر مشكوك فيها إلى صفوفها)، وكانت الإشارة هذه المرة إلى الشيوعيين وليس (العناصر الرجعية).
    أعلن المجلس عن بدء العمل نحو قيام تنظيم سياسي جامع – يتخذ من تحالف القوى الوطنية العاملة – العمال والمزارعين والمثقفين والجنود والرأسمالية الوطنية – كأساس للعمل السياسي وكان هذا القرار ضربة أخرى للحزب الشيوعي الذي حاول ان يدفع الأمور في اتجاه قيام سلطة (الجبهة الوطنية الديمقراطية)..
    يعتبر البعض بيان الثاني عشر من فبراير علامة فاصلة في مسيرة مايو .. بينما يعتبر آخرون العاشر من أبريل هو اليوم الفاصل...
    الذين يعتبرون العاشر من أبريل 71 هو اليوم الفيصل بين زمان وزمان في تطور مايو، إنما يعتقدون ذلك بما كان في ذلك اليوم من أحداث..
    فيوم العاشر من أبريل 71 يعرف في أدب مايو بلقاء ميدان سباق الخيل.. وكان اللقاء قد جرى تنظيمه من قبل قوى شعبية كانت – حتى ذلك الوقت – بعيدة عن مايو لما كانت تراه من سيطرة يسارية ماركسية عليها.. بعد بيان فبراير الذي أعلن الطلاق بين مايو والحزب الشيوعي سعت بعض القوى السياسية والشعبية التي رأت في تلك التطورات خطوات إيجابية لفتح أبواب النظام الجديد على الرحاب السوداني الأوسع – سعت إلى إعلان مباركتها للموقف الجديد بما عرف بعد ذلك بلقاء أو مهرجان سباق الخيل...
    ولقد تدافع لذلك اللقاء مئات الآلاف من أبناء ضواحي الخرطوم على دقات النحاس واحتشدوا في تجمع مهيب كان غرضه ان يقول لأعضاء مجلس الثورة أين هذه الجماهير من جماهير الحزب الشيوعي..
    كان واضحاً ان مهرجان سباق الخيل هو بداية لتعميد مايو في رحاب اليمين العريض.. إذ كان معروفاً ان من بين القوي التي نظمت مهرجان سباق الخيل عناصر طائفية حزبية تنتمي إلى الوطني الاتحادي وبعض عناصر حزب الأمة.. وقد جاء المهرجان والعمل من أجله بمباركة من القيادات الحزبية والطائفية، وذلك في سبيل تعميق الفتق الشيوعي- المايوي وفي سبيل العمل على ضرب النظام بكامله من خلال توسيع جراحة وتضخيم التناقضات بين عناصره اليسارية المختلفة..
    مهما يكن من أمر هوية ذلك المهرجان فإنه تمكن من إكساب قيادة مايو ثقة في النفس وأعطاها جرأة في إقدامها على المواجهة مع الحزب الشيوعي بعد طلاق الثاني عشر من فبراير .. ولقد تسارعت الخطى من بعد ذلك من الجانبين – المايوي والشيوعي – في اتجاه النهاية المحتومة منذ الثاني عشر من أبريل..
    ففي مارس 71 أعلنت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي ردها على بيان 12 فبراير المهدد بالسحق للشيوعيين من خلال صحيفة الأخبار البيروتية (19) التي نشرت ان اللجنة المركزية للحزب أعلنت ان سلطة مايو لا تملك القدرة على تحطيم الحزب الشيوعي وأنها ان حاولت ذلك، فإنها تضع نفسها في مواضع الخطر..
    في نهاية مايو 1971 أصدر الحزب الشيوعي آخر بياناته وأخطرها ... وهو البيان الذي أعلن بالوضوح وجوب إٍسقاط سلطة الدكتاتورية العسكرية..
    وفي منتصف يونيو 1971 قام التنظيم الشيوعي العسكري بتنفيذ عملية جريئة تم بها تهريب عبد الخالق محجوب من داخل مصنع الذخيرة بالخرطوم..
    كان الزمان يقترب سريعاً من شهور الصيف اللاهية في الخرطوم.. مابين مايو ويونيو ويوليو وقعت أحداث كثيرة.. ولكن كان أهمها على الإطلاق تهريب عبد الخالق محجوب من براثن القبضة العسكرية في عملية درامية (نرويها في الجزء التالي)..
    يوم هرب عبد الخالق من الذخيرة صرخ الرائد محمد محجوب سليمان (سكرتير تحرير صحيفة القوات المسلحة وقتها:) ( يا عالم .. ما فيش حزب شيوعي في الدنيا يهرب سكرتيرة إلا إذا كان سيعمل عمل أخطر.. انقلاب مثلاً!!)
    كان ميقات هذا الكلام نهاية يونيو 71 على بعد اسبوعين ونصف من (انقلاب العصر)..

    أعوام مايو الحُمْر..
    انقلاب (العصر) القصير
    o دبر التنظيم العسكري الشيوعي الانقلاب بمعرفة سكرتير الحزب..
    o صاحت الإذاعة – وقع تدخل أجنبي على بلادنا فاختلطت بعدها الأوراق..
    =========
    ذكرنا في الجزء السابق ان الرائد (وقتها) محمد محجوب سليمان – والذي أصبح فيما بعد مستشاراً صحفياً لنميري، أعلن – حينما علم بهروب عبد الخالق- ان الأحزاب الشيوعية لا تهرب سكرتيرها العام إلا إذا كانت تتوقع أمراً جللاً كأن يخشى اغتياله. أو أن تكون هي على وشك إحداث حدث عظيم قد يتعرض من جرائه السكرتير العام للخطر ... وقد قال محمد محجوب يومها بالصراحة والواضح إن الحزب الشيوعي يدبر انقلاباً..
    ولكن كيف تم تهريب عبد الخالق محجوب من داخل مصنع الذخيرة؟ ومن قام بتهريبه من غرفة الاستراحة الموجودة بالقرب من المدخل الرئيسي للمصنع...؟
    تفاصيل الهروب وردت في صحيفة القوات المسلحة التي صدرت في تلك الأيام(20)، وقد أشارت الصحيفة – مواربة – إلى الدور الذي لعبه التنظيم الشيوعي في ذلك الأمر...
    وكانت محاولة أخرى سابقة قد تمت من قبل حيث حاول ثلاثة من الضباط من أعضاء التنظيم الشيوعي العسكري الوصول إلى عبد الخالق ومن ثم الخروج به بعد ان جرى تأمين وجود عناصر من ضباط الصف ذات الميول الشيوعية كحرس لعبد الخالق.. وقد فشلت تلك المحاولة نتيجة شكوك بعض أفراد الحراسة عند ملاحظتهم لوجود جماعة بعربة أمام بوابة الذخيرة، وكانت تلك المجموعة تضم من بين أفرادها هاشم العطا، ومحمد محجوب عثمان (شقيق عبد الخالق) ومحجوب إبراهيم(21).
    والواقع ان مصنع الذخيرة كان يعتبر واحداً من المواقع القليلة في القوات المسلحة التي تستوعب ضباط الصف الذين أكملوا تعليمهم الثانوي، والذين يبعثون من حين إلى آخر في دورات تدريبية إلى ألمانيا الغربية – التي أمدت السودان بالمصنع.. لهذا السبب فإن احتمالات وجود عناصر يسارية منتمية للحزب الشيوعي كانت قوية جداً...
    ومن جانب آخر فغن واحداً من أعضاء التنظيم العسكري الشيوعي ... المقدم محجوب إبراهيم كان قريب الصلة من المصنع وضباطه وجنوده، وذلك بحكم عمله لفترات طويلة فيه .. ومن ثم فإن كان على معرفة بالكوادر التي يمكن ان تعاون في مجال إخراج عبد الخالق... وقد استند التدبير الثاني على استعانة محجوب إبراهيم بعدد من ضباط الصف ذوي الميول الماركسية في سلاح الذخيرة..
    وقد تمكن الضباط من العمل على ان يتم تكليف مجموعة من العناصر اليسارية من ضباط الصف بمهام حراسة عبد الخالق في اليوم الذي تقرر إخراجه فيه من المعتقل، وفي ذلك اليوم قام ضابط الصف المكلف بقيادة جماعة الحراسة لعبد الخالق بجمع جنود الحراسة من أمام الاستراحة واتجه بهم إلى خلفها حيث بدأ في توجيه تعليمات ونصائح (لا معنى لها) للجنود..
    في هذا الوقت كان الضباط المكلفون بتخليص عبد الخالق يدخلون بعربة فولكسواجن عبر المدخل الرئيسي لمصنع الذخيرة... وقفت العربة أمام الغرفة المخصصة لعبد الخالق.. وفي دقائق قليلة دخل أحد ركاب العربة إلى الغرفة ثم خرج ثلاثة عسكريين من الغرفة وركبوا العربة.. كان واحد من أولئك الثلاثة هو عبد الخالق محجوب.. وكان ثاني الثلاثة عريف اسمه عثمان عبد القادر، كان هو المكلف بفريق الحراسة..
    ولا يعرف إلى أين توجه عبد الخالق فور خروجه من المعتقل، ولكن الذي أصبح معروفاً فيما بعد، ان مقر سكن قائد الحرس الجمهوري، عثمان حاج حسين (أبو شيبة) كان المأوى الأساسي له طيلة تلك الفترة..
    التفكير في التدبير
    كيف ومتى بدأ التفكير في تدبير الانقلاب؟ وهل كانت أجهزة الحزب الشيوعي وراء ذلك التدبير؟
    يمكننا القول ان التاريخ الفيصل في هذا الأمر هو الثلاثين من مايو 71 يوم صدور (فتوى) اللجنة المركزية للحزب الشيوعي بوجوب العمل على الإطاحة (بالنظام العسكري الفاشي) .. وكان بيان المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي قد صدر بعد رصد الحزب لخطوات التدهور في علاقة مايو بهم، وهي الخطوات التي يمكن تلخيصها فيما يلي:
    1. إعفاء الضباط الثلاثة من عضوية مجلس الثورة.
    2. إعفاء عدد من ضباط الجيش والأمن ذوي الميول الماركسية.
    3. حل اتحاد الشباب السوداني والاتحاد النسائي وجمعيات الصداقة.
    4. إعفاء عدد من موظفي الخدمة المدنية المحسوبين على الحزب الشيوعي.
    5. حل اتحاد نقابات عمال السودان الذي يترأسه الشفيع أحمد الشيخ.
    6. إقامة تنظيمات خاصة بمايو: كتائب مايو/ أحرار مايو/ الحرس الوطني.
    7. إعلان الحرب على الحزب الشيوعي في بيان عام من قبل رئيس مجلس الثورة.
    8. إعلان إقامة تنظيم الاتحاد الاشتراكي واستبعاد فكرة الجبهة الوطنية الديمقراطية.
    كان الحزب الشيوعي قد وصل على القناعة الراسخة بأن مجلس الثورة قد سلك طريق اللاعودة في علاقته بالحزب الشيوعي، ولكن لم يكن الحزب مستعداً للخوض في الخلاف إلى مداه الأبعد.. فالحزب كان لا يزال يرى بعضاً من الأمل في الاجتماعات التي كانت تتم من آن لآخر حول العلاقة بين الدولة ممثلة في سلطة مايو، وبين الحزب.. وكانت بعض تلك الاجتماعات قد شملت محمد إبراهيم نقد الذي أكد في واحد منها ان الدعوة إلى إسقاط مايو (التي جاءت في بيان 30 مايو71) لم تصدر من اللجنة المركزية للحزب.(22)
    بيد ان الذي كان يستحث خطى الحزب الشيوعي نحو المواجهة كان هو التنظيم العسكري للحزب الشيوعي.. فقد كان التنظيم العسكري هو الذي نقل إلى لجنة الحزب المركزية وجود خطر على حياة عبد الخالق محجوب في معتقله بالذخيرة... حيث عبر التنظيم عن اعتقاده بأن سلطة مايو تدبر لنقل عبد الخالق إلى الجنوب وأنه من المحتمل ان يتم حقنه بمواد سامة بطيئة السريان(23)
    كما أن أعضاء التنظيم الشيوعي العسكري كانوا قد وضعوا خطة للاستيلاء على السلطة خاصة بتنظيمهم، وذلك بعد ان قام مجلس قيادة الثورة بحل تنظيم الضباط الأحرار في الوقت الذي أنشأ فيه ضباط المدرعات تنظيماً باسم أحرار مايو.. تحت رعاية وزير الدافع خالد حسن عباس وبإشراف العميد أحمد عبد الحليم وعبد المنعم محمد أحمد وسعد بحر.
    في تقديرنا ان المجموعة العسكرية التي أخرجت عبد الخالق محجوب من المعتقل لم تفعل ذلك إلا بنية الحصول على مباركته وموافقته على القيام بانقلاب.. فالوثائق أمامنا تشير بوضوح إلى ان التنظيم العسكري الشيوعي كان حذراً حتى في تعامله مع اللجنة المركزية للحزب في غياب عبد الخالق، وقد وصل هذا الحذر إلى الحد الذي أصبح فيه التنظيم يتصرف لوحده ودون الرجوع إلى المرجعية التقليدية: اللجنة المركزية.. وقد ذكر أحد أعضاء التنظيم العسكري إنهم صاروا لا يحيطون اللجنة المركزية علماً بكل تفاصيل قراراتهم وذلك بعد أن أصبحوا يشكون في ان بعض المعلومات أصبحت تنتقل إلى الحكومة عن طريق الجماعة المنقسمة التي عرضت الحزب إلى أكبر عملية اختراق في تاريخه.(24)
    وهذا السبب نفسه هو الذي برر إقدام الجماعة على الخوض في عملية إطلاق سراح عبد الخالق دون مشورة ولا معرفة الحزب.. كما تم إيواء عبد الخالق في مكان لم يكن يعرفه حتى عدد من أقرب المقربين في الحزب..
    لا يعني هذا الكلام ان الحزب الشيوعي لم يوافق ولم يعرف بالانقلاب المنتظر .. إذ هناك دلائل وشواهد على ان الحزب الشيوعي ولجنته المركزية كانا على معرفة بنية التنظيم العسكري بالقيام بانقلاب .. فهنالك دلائل على ان اللجنة المركزية تحدثت عن (حركة تصحيحية) في سياق تحليلها لما يمكن ان يكون عليه الحال لو قام الشيوعيون بانقلاب.. وقد شمل ذلك التحليل التحسب من إمكانيات تدخل دول ميثاق طرابلس من جهة .. والتدخل الأمريكي من خلال الإمبراطورية الإثيوبية من جهة أخرى.. وقد ناقشت اللجنة المركزية للحزب قبل اسبوع تقريباً من انقلاب يوليو، ناقشت فكرة القيام بانقلاب عسكري بعد الضغوط المتعددة التي مارسها التنظيم العسكري على اللجنة.
    بيد أن الدليل الأقوى على مباركة قمة الحزب الشيوعي – السكرتير العام – للانقلاب، ورد في إجابات عبد الخالق محجوب التي أدلى بها – وهو مقيد اليدين بعد اعتقاله إثر فشل انقلاب 19 يوليو – أمام جعفر نميري بحضور الكاميرات التلفزيونية (25) فقد قام السكرتير العام ان اللجنة المركزية للحزب قررت في الثلاثين من مايو 71 ان يتم استعمال القوة للتخلص من سلطة مايو وأنها دعت لإقامة سلطة الجبهة الديمقراطية (26)
    ما كان يمكن لأي جهة أخرى – سوى المجموعة العسكرية للحزب الشيوعي – ان تقرر تنفيذ الانقلاب .. ومن الواضح ان السكرتير العام قد أعطى موافقته على ذلك لكونه كان أقرب ما يكون من مركز تخطيط وتنفيذ الانقلاب – قيادة الحرس الجمهوري. ومن ثم فإن الانقلاب وليد شيوعي شرعي..
    من التدبير إلى التنفيذ
    المجموعة التي دبرت ثم نفذت هي مجموعة التنظيم الشيوعي، وقد ضمت قيادة ذلك التنظيم معظم الأسماء التي تم إعدامها بعد فشل المحاولة. وكان هناك عدد مقدر من الرتب الصغرى (نقيب – ملازم) – والتي تم استيعابها فيما أشتهر في الجيش بالدفعتين 23 و 24 – قد شارك في تنفيذ حركة 19 يوليو من منطلق التزام سياسي، فقد ضمت هاتان الدفعتان ضباطاً تم استيعابهم في إطار تأمين دخول كوادر (يسارية تقدمية) ضمن دفعات الطلبة الحربيين التي تم استيعابها بعد نجاح مايو مباشرة .. وكانت هذه المجموعة من صغار الضباط هي التي تم الاعتماد عليها في التنفيذ الفعلي أمسية التاسع عشر من يوليو (27).
    كان عصب التحرك والتنفيذ هو الحرس الجمهوري الذي كان يقوده المقدم عثمان حاج حسين العضو القيادي بالتنظيم الشيوعي... كما شكل اللواء الأول مدرعات بقائد الثاني العقيد عبد المنعم محمد أحمد، القوة الضاربة للتحرك. ولم يكن أي من أعضاء مجلس الثورة يشك في انتماء أبو شيبة أو عبد المنعم محمد أحمد على التنظيم الشيوعي، فقد كان ظن المجلس ان الثلاثة عشر ضابطاً الذين أحيلوا للمعاش ليلة إحالة بابكر النور وهاشم العطا وحمد الله هم كل أعضاء التنظيم العسكري الشيوعي (28) كما ان الثقة الموضوعة في أبو شيبة وعبد المنعم محمد أحمد أبعدت الشكوك حولهما.. فقد كان الاثنان يتوليان أكثر الوحدات التصاقاً بأمن الثورة – المدرعات والحرس الجمهوري(29).
    انقلاب العصر
    يحق لنا ان نسمي انقلاب هاشم العطا بانقلاب العصر لسببين: أولهما أنه تم عصراً، ولأنه بالحق كان انقلاباً فريداً في عصره وزمانه... فقد كان كالريح العاصفة، هب فجأة وانتهى فجأة وأحدث في تاريخ البلاد الحادثات..
    فبالرغم من أن أجهزة مايو الأمنية والعسكرية كانت تتوقع تحركاً عسكرياً إلا أنها فشلت في معرفة زمانه ومنصات انطلاقه.. وقد جاء ذلك التوقع نتيجة التطورات السياسية التي أدت في المنتهى إلى إصدار الحزب الشيوعي لبيان الثلاثين من مايو المنادي بإسقاط مايو.. كما ان إحالة ستة عشر ضابطاً رفيعي الرتبة لابد ان تضع الأجهزة الأمنية على أطراف حواسها تحسباً وحذراً.
    ولقد كانت بداية الانطلاقة للانقلاب في اليومين السابقين عليه، حينما تولى الحرس الجمهوري لأول مرة مهام الحراسة لمنزل رئيس مجلس قيادة الثورة بدلاً من جهاز الاستخبارات الذي كان موكلاً بأمر الإشراف على حراسة أعضاء المجلس وقتها. وقد تم توزيع جنود من الحرس الجمهوري كحراس لمنزل رئيس مجلس الثورة في الثامن عشر من يوليو 71 قبل يوم واحد من التنفيذ..
    وفي يوم التنفيذ اختارت الجماعة المنفذة ان يكون تحركها بعد ساعات قليلة من نهاية الدوام اليومي ... كانت المدرعات التي تحركت قد قدمت من منطقة المرخيات حيث خرجت للمشاركة في التدريب.. وقد قامت وحدات من الحرس الجمهوري بتأمين مدخل كوبري النيل الأبيض لتتمكن تلك القوة من الوصول إلى مواقعها المحددة وأهمها مدخل القيادة العامة، ومباني القصر والإذاعة والتلفزيون..
    كان أهم واجبات القوات المنفذة هو السيطرة على مركز القرار في مايو وهو مجلس قيادة الثورة. وقد تحقق هذا الهدف للقوة المنفذة بسهولة فائقة إذ ان من كان موجوداً في البلاد من أعضاء مجلس الثورة – باستثناء بابكر عوض الله الذي أصبح دوره هامشياً بعد إبعاده من رئاسة الوزراء، في أعقاب تصريحاته حول الحزب الشيوعي ودوره في الثورة – كان في لحظتها موجوداً في منزل رئيس مجلس الثورة. فقد كان نميري وأبو القاسم هاشم، وأبو القاسم محمد إبراهيم، ومأمون عوض أبوزيد وزين العابدين عبد القادر مجتمعين لحظتها في منزل نميري.
    أما خالد حسن عباس فقد كان وقتها في رحلة طويلة كان من المفترض ان تأخذه إلى موسكو لولا تواتر الأحداث..
    في اللحظة التي كانت فيها إذاعة أمدرمان تبث تصريحات الرائد زين العابدين عن رحلته إلى القاهرة بعد حضوره اجتماعات قمة طرابلس، كان ملازم من الحرس الجمهوري يقتحم منزل نميري ومعه ثلة من الجنود... أمر الملازم الجميع برفع يديه والتسليم.. حاول أبو القاسم استعمال مسدسه الذي كان يتدلى دوماً من وسطه.. أمسك جعفر نميري بيده وقال له.. (too late يا أبو القاسم).
    وضع الملازم أعضاء المجلس وبقية السياسيين الذين كانوا لحظتها في منزل نميري في عربة عسكرية مكشوفة أخذتهم مرفوعي الأيدي إلى داخل القصر حيث تم التحفظ عليهم في غرف مختلفة ووضعت حراسة لكل منهم..
    بسيطرتهم على أعضاء مجلس الثورة استطاع انقلابيو 19 يوليو شل حركة مايو تماماً .. ففي وقت قصير لم يتجاوز 45 دقيقة تم اعتقال جل القيادات العسكرية، وتم توزيع اعتقالهم على مبنى قصر الضيافة ومبنى جهاز الأمن القومي. ثم جرى احتلال مبنى القيادة العامة وبقية الوحدات ذات الأهمية بالعاصمة ولم يكن هناك من بعد ذلك إلا الإعلان عن الهوية..

    ثورة التصحيح
    ظهر هاشم العطا على شاشة التلفزيوني السوداني وكان واضح الاضطراب يعب عباً من كوب ماء بجانبه... قال العطا ان حركته إنما هي حركة تصحيح لمسار مايو.. وكال نقداً كثيراً لمجلس قيادة الثورة ورئيسه وتحدث عن الفساد الذي استشرى، والأفواه التي كممت... وقال إن مايو تحت قيادة نميري أصبحت تتخبط يوماً في اليمين ويوماً في اليسار ويوماً لا يمين ولا يسار.
    وقال إن النظام الجديد سيعمل في تضامن وثيق مع القوى التقدمية العالمية وعلى رأسها الاتحاد السوفيتي العظيم.
    ثم أعلن العزم على تكوين (سلطة الجبهة الديمقراطية) التي تتحالف فيها قوى العمال والمزارعين والمثقفين والضباط الأحرار والجنود والرأسمالية الوطنية...
    وأعلن العطا رفع الحظر عن نشاط اتحاد شباب السودان والاتحاد النسائي واتحاد نقابات عمال السودان وجمعيات الصداقة مع الدول الاشتراكية...
    وأعلن إلغاء عدد كبير من القرارات الجمهورية التي أصدرها نميري كرئيس لمجلس الثورة وتضمنت تلك القرارات قانون أمن الدولة/ قانون الحراسة العامة/ قانون الحكم الشعبي..
    ثم أعلن عن حل كتائب مايو واتحاد نساء السودان..
    وعطل العطا جميع الصحف ماعدا صحيفة القوات المسلحة التي صدرت يومياً خلال أيام الانقلاب وكانت السجل الوحيد لأحداث الأيام الثلاثة..
    استهلك مساء اليوم الأول في البيانات العسكرية الصادرة باسم المجلس العسكري والتي كان يصدرها هاشم العطا.. أما اليوم الثاني فقد أعلن فيه مجلس قيادة الثورة الجديد والذي ضم كل من:
    المقدم بابكر النور سوار الدهب رئيساً، وعضوية كل من:
    الرائد هاشم العطا
    الرائد فاروق حمد الله
    المقدم محمد أحمد الريح
    المقدم محمد أحمد الزين
    الرائد محمد محجوب عثمان
    والنقيب معاوية عبد الحي
    كما انعقد في ذلك اليوم مؤتمر صحفي في شكل اجتماع حاشد لقيادات الخدمة المدنية ضم هاشم العطا بوكلاء الوزارات الذين فوضوا صلاحيات الوزراء.. وقد تحدث العطا في ذلك الاجتماع المذاع على الهواء فأعلن أنهم لن يلجئوا للعنف ولن يحاكموا أو يعدموا أياً من رفاق السلاح.. وقال ان الحركة هي حركة تصحيح للانحرافات التي وقعت وان المسيرة التقدمية ستمضى بخطى راسخة..
    في لندن حيث كان بابكر النور وفاروق حمد الله في زيارة خاصة.. التقى بابكر النور – باعتباره رئيس مجلس قيادة الثورة الجديد – بالصحفيين في مؤتمر صحفي حاشد. نفى بابكر النور في ذلك المؤتمر بشدة ان تكون حركتهم شيوعية، ولكنه قال إنهم سيطبقون الاشتراكية العلمية، وستلتزم حركتهم بمبادئ عدم الانحياز، وأنهم سيحتفظون بعلاقات وثيقة بالعالمين العربي والإفريقي..
    وقال بابكر النور إنهم سيدعمون النضال الفلسطيني إلى آخر مدى..
    وقال أنه شخصياً ضد التأميم وأنه يفضل العون الخارجي غير المشروط...
    غادر بابكر النور وفاروق حمد الله لندن على طائرة الخطوط البريطانية في وقت متأخر من مساء يوم الحادي والعشرين من يوليو..
    في يوم الحادي والعشرين من يوليو نظم اتحاد نقابات العمل موكباً جماهيرياً أريد له ان يكون التعبير الشعبي عن الوقوف خلف التغيير والتصحيح...
    بيد أن الذين شاهدوا الموكب ذلك اليوم أيقنوا أنه كان أقصر بكثير من قامة القدرة الشيوعية على تنظيم المواكب والمهرجانات الجماهيرية..
    لهذا فقد ضرب ميقات يوم الثاني والعشرين من يوليو ليكون يوم اللقاء الحاشد مع الثورة التصحيحية وقد نظم لذلك اللقاء اتحاد نقابات عمال السودان.. ولكن حتى ذلك الموكب لم يسم من عيون التقدير السالبة... فقد قعدت أعداده عن التعبير عن (جماهيرية) و(شعبية) الحركة الوليدة، كما ان الرايات الحمر الصارخة التي ارتفعت بصورة ملفتة أقعدت غير الملتزمين بالحزب الشيوعي عن السير في تلك المواكب... وكان الهتاف المتردد يومها هتافاً منحازاً بحدة للحزب الشيوعي، بما جعل صعباً على غير الشيوعيين الهتاف به.. فقد كانت الهتافات من شاكلة:
    يا يمين يا جبان... الشيوعيين في الميدان..
    يا نميري يا جبان... الشيوعيين في الميدان..
    طبقيون أمميون..
    كل السلطة بيد الجبهة
    وكانت تلك المواكب، ضعيفة العدد وقليلة التنظيم، هي جرس الخطر الأول الذي دق في أسماع القائمين على أمر الثورة التصحيحية.
    طريق الانزلاق نحو النهاية
    منذ نهار اليوم الثاني بدأ الحزب الشيوعي مشاورات تكوين الحكومة... وكان هذا الأمر برمته في يد عبد الخالق محجوب، حيث دون بخط يده (30) مقترحات تكوين مجلس الوزراء. وقد شملت المقترحات الأسماء التالية: دكتور مصطفى خوجلي لرئاسة الوزراء.. محجوب شورة للتربية.. بدر الدين مدثر للقطاع الثقافي.. سعاد إبراهيم أحمد للإعلام.. دكتور شريف الدشوني للزراعة ... دكتور قريب الله الأنصاري للتخطيط .. مأمون علي عثمان للصناعة .. مهندس مهيد للمواصلات.. صلاح الأمير للتجارة.. مرتضى أحمد إبراهيم للري.. ومحمد سليمان الخليفة للعدل..
    مساء الحادي والعشرين ونهار الثاني والعشرين من يوليو كانت برقيات التأييد تتوالى من مختلف وحدات القوات المسلحة المنتشرة في البلاد وحتى خارجها.. فقد وصلت برقيات التأييد من الجنوب والشرق والغرب وحتى من اللواء السوداني الذي كان متواجداً على أرض مصر.. وكانت تلك البرقيات تتم إذاعتها باستمرار من إذاعة أمدرمان، بحيث اضطرت الوحدات التي لم تبعث بتأييدها من إرساله حتى يذاع اسم تلك الوحدة مع الوحدات الأخرى..
    وفي ذلك اليوم بدأت ملامح التأييد السياسي من بعض الدول الشيوعية والعربية الراديكالية، كما بدأت برقيات التهنئة الدبلوماسية في الورود الخجل من عدد من الدول الاشتراكية...
    في نهار يوم الثاني والعشرين من يوليو كان هاشم العطا قد انتهى من مخاطبة اللقاء الجماهيري، ومن ثم التقى بعدد من السفراء الأجانب وكان يتأهب ليستقبل ثلاثة من أعضاء المجلس القادمين من لندن.. وكان مطار الخرطوم لا زال مغلقاً حتى ذلك الوقت، ولم يفتح إلا لطائرة مصرية جاءت صباح العشرين من يوليو بوفد من شيوعي مصري ضم أحمد حمروش وأحمد فؤاد أرسلهم الرئيس المصري أنور السادات ليتوسطوا لدى المجلس الجديد حتى لا يدعم نميري ورفاقه...
    في الوقت الذي كان هاشم العطا وبقية أعضاء المجلس الجديد في انتظار رفيقيهم القادمين من لندن ليحملا معهم الهم الكبير.. وردت أنباء عن احتجاز ليبيا لطائرة الخطوط البريطانية التي تحمل النور وحمد الله...
    منذ منتصف نهار ذلك اليوم بدأت الإذاعة السودانية في إذاعة نداءات للجماهير لتقوم بحماية ثورتها..
    قالت الإذاعة إن الرائد هاشم العطا قد صرح بأن اعتداءً خارجياً قد وقع على البلاد.. وطالب الجماهير بأن تهب لحماية ثورتها..
    وكانت تلك هي بداية العد التنازلي نحو نهاية انقلاب العصر القصير..

    أعوام مايو الحُمْر..
    ومضى الانقلاب عصراً!
    o فقد الانقلابيون الثقة في العسكريين فكان ذلك باباً هبت منه الهزيمة..
    o نزف الجيش 31 قتيلاً و119 جريحاً و55 مبعداً..
    o زكائب رسائل التأييد للعطا أطعمها الضباط للنار..
    =========
    منتصف نهار الثاني والعشرين من مايو كانت إذاعة أمدرمان قد فرغت من نقل البث الحي للموكب الشعبي المؤيد للحركة التصحيحية... وبدأت في تقديم برنامج يتناسب وطبيعة التغيير.. بعد نشرة الثالثة بثت الإذاعة لقاءً فنياً ضم المذيع اللامع ذو النون بشرى والشاعر محجوب شريف والفنان الكبير محمد وردي..
    وقد اشتهر شريف ووردي بأناشيدهما المتواترة مدحاً لمايو خاصة قصيدة (يا فارسنا وحارسنا .. يا بيتنا ومدارسنا)
    بيد ان شريف ووردي كانا يومها في الإذاعة (لتصحيح) قصائدهما المادحة لمايو بقصائد جديدة تمدح التصحيح وتنبذ (التحريف) المايوي .. يومها عمل شريف قصيدته المشهورة لتقرأ (لاك حارسنا ولاك فارسنا)
    ويومها قال محجوب قصيدة جديدة كان وردي يدندن ببعض مقاطعها..
    حنتقدم..حنتقدم
    في وش الريح حنتقدم
    حنهدم سد .. ونرفع سد..
    واشتراكية لآخر حد..
    وكان هناك مقطع في النشيد تم تعديله ليتناسب والتغيير...
    كان المقطع يقول: مايو بلاك ما بنسلم..
    تعدل في ذلك اليوم إلى: يوليو بلاك ما بنسلم ..
    وبينما كان وردي يرفع عقيرته الندية القوية... كانت أصوات الدوي البعيد تطرق مسامع المواطنين المنبهرين بجمال الغناء ورصانة الكلمات المنبعثة من المذياع .. وقد شد صوت الدوي المتواتر.. وأزير جنازير الدبابات على الأسفلت شد الناس بعيداً عن ذلك الغناء الجميل..
    التدخل الأجنبي
    قطعت الإذاعة بثها في إذاعة بيان يقول إن البلاد قد تعرضت لعدوان خارجي..
    ظن الناس – أول الأمر – ان قوات أجنبية قد نزلت إلى السودان من خارجه وان معركة تدور مع تلك القوى الخارجية.. ولكن سرعان ما تبين الناس الأمر.. كان الإعلان عن التدخل الأجنبي إشارة إلى قيام ليبيا باعتراض الطائرة البريطانية التي كانت تقل كلاً من رئيس وعضو مجلس الثورة الجديد النور وحمد الله.. واعتقالهما في طرابلس بليبيا.
    وفي الوقت الذي كان المذيع يردد بعصبية نبأ التدخل الأجنبي، كان صرير جنازير الدبابات المتقدم من منطقة الشجرة نحو قلب الخرطوم يرتفع ويتواصل معلناً بداية التحرك المضاد لحركة التصحيح والذي كان مركزه وبدايته سلاح المدرعات بالشجرة..
    ولكن ماهي وقائع وملابسات هذا التحرك المضاد.؟ وكيف ومتى بدأ؟ الرواية لها بعدان.. بعد داخلي وآخر خارجي..
    التحرك في الخارج
    أما البعد الخارجي .. فإنه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتحركات اللواء خالد حسن عباس الذي كان في طريقه إلى موسكو حين وقع انقلاب العطا التصحيحي .. والواقع ان خالد كان وقتها قد عجز عن الوصول إلى موسكو بسبب تردد السوفييت في منحه والوفد المرافق له تأشيرة دخول إلى موسكو رغم أنه كان ينوي إجراء مباحثات هامة تتصل بالتسليح والتدريب.. لهذا السبب فإنه وجد نفسه في بلغراد حين وقع انقلاب العطا.. فاستأجر خالد طائرة خاصة أقلته والوفد المرافق إلى القاهرة..
    في القاهرة أجرى خالد اتصالات سريعة مع السلطات المصرية حول إمكانية تحريك القوات السودانية المتواجدة في القنال.. بيد ان السلطات المصرية رغم أنها أبدت تفهماً لم تتحمس كثيراً لفكرة إرسال قوات سودانية من مصر إلى الخرطوم..
    توجه خالد من القاهرة إلى طرابلس حيث التقى بالقذافي ثم أذاع بيانه الشهير للضباط والجنود من إذاعة ليبيا.. وقد نتج عن مباحثات خالد مع ليبيا ان أقدمت ليبيا على إجبار الطائرة البريطانية على النزول...
    بعد احتجاز ليبيا لفاروق حمد الله وبابكر النور وافقت القيادة المصرية على توجه القوات المرابطة في مصر إلى الخرطوم .. بيد ان المشكلة كانت تكمن في وجود كافة المطارات السودانية تحت سيطرة الحركة التصحيحية..
    كان هذا هو الذراع الخارجي للتحرك المضاد.. أما في الداخل فإن الصورة كانت مختلفة جداً..
    التحرك من الداخل
    كان كل قادة الوحدات الرئيسية قد تم اعتقالهم واحتجازهم من قبل الانقلابيين.. ومن ثم فإن الوحدات الضاربة التي يمكن ان تشكل خطراً على الانقلاب كانت بلا قيادة أصيلة .. وكان عدد الضباط المعتقلين قد تجاوز المائة معظمهم من الرتب القيادية والوسيطة.. وتحييد هذا العدد من الضباط كان قميناً بشل الجيش بكامله في تلك الأيام المبكرة حيث لم يكن قد توسع وتمدد بحده المعروف اليوم..
    وفي الواقع كان انقلاب العطا قد عمل على شكل كل قدرة للجيش على الانقلاب المضاد.. فقد اعتقل القادة ونوابهم ومعظم كبار الضباط في كل الأسلحة .. كما جرد معظم الجنود والضباط (إلا الموالين له تماماً) من أسلحتهم الشخصية.. ونزعت معدات إطلاق النار من الدبابات والمدرعات.. كما أفرغت خزانات الطائرات من وقودها..
    وكانت هذه الخطوات هي في واقعها خطوات استفزازية أكسبت القيادة الجديد مشاعر العداء من الضباط والجنود أكثر من ان تعود عليها بالرضي والتأييد .. بل لعل هذه الخطوات هي عينها التي كانت وقود التحرك المضاد.. فقد تبادل الجنود يومها الحديث عن تسريح لهم بالآلاف سيتم من بعد تثبيت أركان النظام.
    وكانت العاصمة يومها قد تناقلت نبأ تحطم الطائرة العسكرية العراقية التي كانت في طريقها للخرطوم وفيها المعدات والأسلحة. وقد تناقل الجيش أمر تلك الطائرة باعتبارها بداية التدفق لجنود وسلاح غير سوداني..
    ومع غياب معظم القادة أو تحييدهم بتجريدهم من السلاح فإن أي تحرك ضد حركة التصحيح كان لابد ان يعتمد على كوادر من غير الضباط..
    وكانت تلك الحقيقة هي مدخل ضباط الصف إلى واقع الفاعلية السياسية في البلاد.. فبالرغم من ان الوثائق تشير إلى أنه كانت هناك نواة لتنظيمات خاصة بضباط الصف في سلاحي المظلات والمدرعات، إلا أن هذه التنظيمات كانت شبحاً من غير أثر في غالب الأحيان...
    ولكن حينما وجد ضباط صف المدرعات – خاصة الكتيبة الثانية مدرعات – والتي كانت تعرف باسم كتيبة جعفر (نسبة إلى قائدها الأسبق جعفر نميري)، ان قادتهم وكثيراً من ضباطهم تحت القيد، فإنهم آثروا ان ينسقوا مع بعض الملازمين وبعض ضباط الصف من الوحدات الأخرى.. وقد جاء بيان خالد حسن عباس المذاع من ليبيا ليعطى دفعة قوية لأولئك الجنود في تحركهم، فهو من ناحية القائد العام الفعلي للقوات المسلحة.. ومن ناحية أخرى فإن إذاعة بيانه ذلك جعلت هاشم العطا يقوم بإعادة السلاح الشخصي إلى الأفراد تحسباً لاحتمال ورود قوات من الخارج..
    استطاع ضباط صف المدرعات تحريك الدبابات دون (إبر ضرب النار)، وهي القطع الحاسمة في تحويل الدبابة إلى آلة ذات قدرة قتالية .. ولكن بعد قليل تمكن عدد من الضباط من استعادة (إبر ضرب النار) ومن ثم أصبحت الدبابات ذات فاعلية .. وكانت تلك هي بداية التحرك من الشجرة نحو منطقة وسط الخرطوم.. تحركت دبابة في اتجاه القيادة العامة بينما اتجهت أخرى صوب القصر الجمهوري...
    مع هدير الدبابات ودوي مدافعها وهي تتجه من الشجرة نحو القيادة والقصر... ومع الصراخ الفزع للإذاعة وهي تدعو المواطنين لحماية ثورتهم من التدخل الأجنبي.. كانت القوة المعنوية للانقلابيين تنهار رويداً رويدا... وبدأ الاضطراب وسوء التقدير يسيطر على تصرفات قادة الانقلاب..
    مع اشتداد صوت الهدير والدوي، هجر كثير من طواقم الدبابات مدرعاتهم الرابضة في مداخل المدن الثلاث.. ومن ثم فقد امتطى عدد من مؤيدي مايو – الذين التهبوا حماساً ببدء التحرك المضاد – تلك الدبابات، وكان أشهرهم الوزير المهندس محمد إدريس محمود الذي عرف من يومها (بإدريس دبابة)...
    حينما اقتربت إحدى الدبابات التي كان على متنها صلاح عبد العال من القصر شاهدوا نميري وهو يقفز من فوق سور القصر المواجه لوزارة المواصلات.. قفز نميري إلى داخل الدبابة الموالية وأنطلق من القصر إلى الشجرة ثم إلى الإذاعة..
    كان نميري قد خرج من الأسر بجلابية.. وفي معسكر الشجرة ارتدى زياً عسكرياً لجندي توجه به إلى مبنى التلفزيون حيث أطل على الناس ليقول لهم إن واجب الشعب هو مطاردة كل شيوعي.. وكان من أشهر ما قاله نميري يومها أنه أشار إلى الضباط الشيوعيين ولم يذكر إلا اسم النقيب خالد الكد حيث ذكره بتعبير (something الكد). وقد اختفى خالد الكد لبعض الوقت ثم سلم نفسه. وحين سأله نميري عن سبب اختفائه قال له أنك لم تستطع تذكر أي اسم سوى اسمي.. وتنتظر مني ان لا أختفي؟
    المذبحة في قصر الضيوف
    بعد ان آلت الأمور إلى مايو مرة أخرى.. هرع الناس لإطلاق سراح المعتقلين ... في قصر الضيافة الواقع في شارع الجامعة، فوجئ الجميع بالمنظر المروع .. كان مسيل الدماء قد سرى من داخل المبنى على الدرج وحتى خارج المبنى.. في داخل المبنى كان هناك ستة عشر ضابطاً تم حصدهم بالرصاص.. لم ينج إلا عدد قليل، بعضهم عانى من عاهات مستديمة وبعضهم خرج بعناية الله وبشكل هو أقرب ما يكون إلى المعجزات...
    ما الذي جرى في قصر الضيوف؟ ومن وراء تلك المجزرة الشهيرة ...؟
    لابد ان أسجل هنا ان كاتب هذه السطور عكف على مدى ليال طويلة على ملف التحقيقات حول أحداث 19-22 يوليو.. وقد حرص الكاتب على ان يطلع على كل كلمة قيلت في هذا الصدد ليعرف الحقيقة في أمر المذبحة الشهيرة.. وألخص فيما يلي ما خرجت به من تلك القراءات..
    أولاً: كانت هناك (تعليمات مصروفة) بالتخلص من الأسرى في حالة حدوث أية انتكاسة. فقد جاءت أقوال بعض الضباط الذين اعتقلوا في مبنى جهاز الأمن القومي لتشير إلى ان الضابط الموكل بحراستهم كان يتحدث في اللحظات الأخيرة من انقلاب العطا إلى شخص ما. وقال المعتقلون أنهم سمعوه يؤكد ويكرر للطرف الآخر أنه لا يستطيع تنفيذ ما هو مطلوب.. ومع إلحاح الطرف الآخر قال الضابط (متأسف سعادتك أنا ما حأعمل كده). ثم ان ذلك الضابط أخبر أسراه بعد ذلك ان الأمر قد فلت .. وأنهم أحرار منذ تلك اللحظة.. ثم اختفى ذلك الضابط. وقد عرف الجميع يومها ان الضابط رفض تنفيذ تعليمات التخلص من الأسرى..
    ثانياً: ليس هناك ما يشير إلى ان هذه التعليمات قد صدرت من أي شخص آخر سوى المقدم أبو شيبة . فقد ذكر ضابط الحراسة المكلف بنميري في القصر أن المقدم أبو شيبة سأله: (ما نفذت تعليماتي ليه ما كان كلامي واضح) ثم أعقب ذلك بقوله: (على العموم أعدم الباقين).. وهو ما يشير على ان التعليمات كانت تتعلق بإعدام المعتقلين(31).
    ثالثاً: لم يجد هذا الكاتب أية معلومات في أي من ملفات التحقيق بما يمكن ان تشير إلى الضلوع المباشر للحزب الشيوعي كهيئة سياسية في عمليات الاغتيال تلك..
    رابعاً: ليس هناك أية دليل على ان جهة ثالثة- أو حتى رابعة – قد قامت بتنفيذ الاغتيالات. فالعقيد سعد بحر مثلاً كان معتقلاً في قصر الضيوف ونجا من ضمن الناجين... وكان هناك آخرون قد نجوا، منهم المقدم عبد القادر أحمد محمد، والملازم أول عثمان عبد الرسول. أما قوات لواء القنال (القوات السودانية بقناة السويس) فإنها لم تصل إلا في وقت متأخر من تلك الليلة(32).
    خامساً: تعرف الضباط الناجون من مذبحة قصر الضيوف على الملازم الذي قام بإطلاق الرصاص عليهم وكان واحداً من الضباط التابعين للمقدم أبو شيبة. وقد أشار أولئك الناجون إلى أن حواراً دار خارج المبنى كان فيه شخص يخاطب شخصاً آخر بعبارة يا ضابط ويطلب منه تنفيذ التعليمات المعطاة له.. وقد أعقب ذلك دخول الملازم إلى غرفة الأسرى وإفراغه الرصاص في أجساد زملائه..
    خلاصة القول في هذا الأمر هو ان المذبحة هي من صنع الانقلابيين بلا جدال .. وهي ان لم تكن لها مبرر سياسي فإن مبرراتها الشخصية- في اعتقادي الخاص- تتصل بظروف التكوين النفسي لأولئك الذين أقدموا على المغامرة وهم يضعون حسابات الفشل قبل حسابات النجاح.. فقد أقدموا على الفعل وعزموا – متى ما أحسوا بالخطر – على هدم المعبد عليهم وعلى أعدائهم..
    حين انكشف غيوم الليلة الكئيبة اتضح ان ضحايا الليلة الدامية قد بلغ 16 ضابطاً وأربعة ضباط صف وعدد الجرحى 119 من الضباط والصف والجنود..
    لم تفقد القوات المسلحة مثل هذا العدد من الضباط والجنود مجتمعاً في تاريخها.. حتى في أحداث توريت 55 لم يبلغ مجموع العسكريين الذين اغتيلوا فيها نصف هذا الرقم..
    ودارت طاحونة الدم..
    إذا كان انقلابيو يوليو قد أهرقوا دم الزملاء، فإن ذلك الدم المراق على درج القصر فجر براكين أخرى لم تتخير ولم تميز، فقد عصفت براكين الغضب الدامي بالطيب وغير الطيب على مدى الاسبوع المتبقي من شهر يوليو71.
    فقد تلاحقت من ليلة الثاني والعشرين من يوليو عمليات المطاردة والاعتقال والإيقاف للضباط والجنود فيما يشبه الهستيريا .. وعلى الصعيد غير العسكري أخذ الناس بالشبهات.. واتهم البريء.. وأسيئ إلى الشرفاء وذُلَّ الأعزاء وأتهم كثيرون بالباطل...
    كانت أيام الاسبوع الأخير من يوليو أياماً دامية.. أفرزت حقداً وغلاً.. واصطاد في ليالي الحقد المعتكر تلك كل حاقد وكل ذي غرض..
    امتلأت من جراء الاعتقال والتحفظ والإيقاف، ميزات الضباط في معسكرات الشجرة والمهندسين والإشارات. وانطلقت عشرات من لجان التحقيق تذرع المدن الثلاثة من جنوب الخرطوم إلى شمال بحري إلى غرب وشرق أمدرمان .. وقد جرى تقدير أعداد المعتقلين في أسابيع الغضب الظلوم تلك بما يقرب من ألفي معتقل وسجين ومتحفظ عليهم وموضوعين تحت الإيقاف..
    وقد بلغت حالات الإعدام التي نتجت عن الانقلاب 11 ضابطاً من بينهم كل أعضاء مجلس الانقلاب التصحيحي ما عدا محمد محجوب عثمان الذي كان من المفترض ان يصل الخرطوم في طائرة النور وحمد الله، إلا أنه لم يصلها لتأخره في الطريق.. بينما تقول رواية أخرى أنه كان في الطائرة مع زميليه إلا أنه لم يتعرف عليها أحد في ليبيا..(33)
    وقتل المقدم محمد أحمد الريح وهو يقاتل من على أسطح مباني القيادة العامة، فلم يجرد من رتبته ولم يحرم من معاشه..
    ثم أعدم ثلاثة من أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، وهم عبد الخالق محجوب والشفيع أحمد الشيخ وجوزيف قرنق.. وسجن الدكتور مصطفى خوجلي لعشرين عاماً.. وبلغ عدد الذين سجنوا أو طردوا من القوات المسلحة 18 ضابطاً من مختلف الرتب والتخصصات، بينما سجن أو عزل أو طرد 7 من ضباط الصف الذين اشتركوا في الحركة..
    ثم أبعد من الجيش في دفعات متتالية عدد من الضباط بلغ في مجمله 55 ضابطاً..
    أما على الصعيد المدني، فإن طاحونة الأحقاد دارت في كل اتجاه ... فأدخل السجون والمعتقلات عشرات وطرد من وظائفهم مئات..
    ولقد سرت بين الناس من بعد محنة يوليو تلك سحابات دواكن من الشكوك فيها تعامل الناس مع بعضهم البعض بالحذر والريبة وسوء الظنون..
    النار تلتهم زكائب التأييد للعطا
    الظنون والريب التي أرخت سدولها على العلائق بين الناس بعد ليلة العنف الدموي، كانت أسبابها تلك التصرفات الشوهاء التي صحبت أيام الانقلاب الثلاثة.. فقد شهدت المؤسسات والمصالح – خلال الأيام الثلاثة- بعضاً من العاملين المؤيدين للعطا وانقلابه، وقد أنبروا باسم التصحيح يرهبون الناس ويلهبونهم بسياط من سيئ القول ورديئ الفعل.. وحين ذهبت ثورة التصحيح مخلفة وراءها خيوطاً من الدماء، كانت ردة فعل الذين آذاهم قول وفعل أنصار العطا حادة وعنيفة.. فحين عكفت الدولة على مراجعة ما جرى وإجلاء الحقائق عن دور الأفراد والمؤسسات، وجد الذين أوذوا بسوء القول والفعل فرصة للتشفي من أنصار الانقلاب.. ولقد كان ذلك التشفي مقيتاً وظالماً في بعض الأحيان.. إذ جاء متلفحاً الحقد ومؤتزراً الضغينة، فأفرز سماً زعافاً راح ضحيته العشرات في المصالح والمؤسسات والوزارات..
    ولعل القصص التي رويت – والتي لا زالت حبيسة الصدور دون رواية – عما جرى خلال تلك الاسابيع السوداء من تاريخ الوطن كثيرة لا تحصى ولا تعد .. بيد أنني أروى منها في هذا المقام واحدة.. لا أرويها لأنني كنت طرفاً فيها.. بل لما فيها من إضاءات عن الإنسان وطباعه، وعن النفس البشرية وخصالها..
    ولقد كنت طرفاً في هذه القصة بما كنته يومها.. ضابطاً تخرج لتوه من الجامعة وانضم- مع كوكبة من الزملاء – إلى التوجيه المعنوي نواة لعمله الإعلامي المنتظر، والذي كانت لحمته وسداه يومها جريدة القوات المسلحة..
    وبما ان صحيفة القوات المسلحة كانت – خلال أيام الانقلاب الثلاثة – صوت الحركة التصحيحية الوحيد، فإن كل خطاب وبرقية واردة من كل بقاع السودان مؤيدة لانقلاب العطا كانت ترد إليها..
    ولقد كان عجيباً وغريباً منظر تلك الزكائب الممتلئة من برقيات وخطابات المباركة والتأييد التي لم يتوقف انهمارها حتى بعد يوم الثاني والعشرين من يوليو.. فقد وصلت مئات من الرسائل الملتهبة الحماس والمتحمسة في تأييدها للماركسية والنظام الجديد بعد ان زال نظام التصحيح.
    وكان الأعجب هو في هوية وأسماء الباعثين .. لقد احتوت تلك الزكائب أسماء لشخصيات وأفراد.. ولجماعات وهيئات ومؤسسات على امتداد الوطن من شماله وشرقه، إلى وسطه وغربه... وكانت بعض تلك الأسماء لامعة ومعروفة، وبعضها له من المواقع والمسؤوليات الاجتماعية مكان رفيع .. بل وكان لبعض من الكاتبين مكانة وتاريخ..
    وقد بالغ بعض باعثي تلك الرسائل والبرقيات واشتط في تأكيد هويته السياسية وانتمائه التقدمي .. وقد غالى بعضهم واشتط في المطالبة بمعاقبة أركان مايو ورجالها .. بل ان بعض تلك الرسائل تبرع بمعلومات وتفاصيل عن أفراد وأشخاص اتهموهم بالعمالة والرجعية..!!
    ولما كان البحث عن الشيوعيين في تلك الأيام قد طال ماضي الناس وصداقاتهم وصلاتهم وحتى جيرتهم.. ولما كان الكشف عن مؤيدي حركة التصحيح ومسانديها – بالقول أو الفعل – قد شمل كل المواقع والفئات والجهات، فإن زكائب الرسائل تلك كانت وثائق إدانة جاهزة لآلاف من البشر على امتداد السودان العريض..
    وبالرغم من ان بعضاً من تلك الرسائل والبرقيات كان قد أذيع ونشر خلال أيام الانقلاب الثلاثة (وقد تعاملت الدولة مع كاتبيها بالعقاب)، فقد كانت هناك آلاف من تلك البرقيات والرسائل التي لم يكشف أمرها لورودها من مصلحة البريد إلى القيادة العامة بعد يوم الثاني والعشرين من يوليو، حيث تم تسليمها لنا في صحيفة القوات المسلحة..
    ولابد ان أصحاب الرسائل التي وصلت بعد سقوط انقلاب العطا، حملوا من القلق والهموم ما تنوء عنه الجبال.. فلقد بعث كل واحد من هؤلاء – طائعاً مختاراً- دليل إدانته الدامغ إما بانتمائه الماركسي أو بتأييده الجازم لذلك النظام الماركسي.. وكان ذلك كافياً في أيام البركان تلك لكي يبعث المرء إلى السجون..
    ولقد كان لأصحاب تلك الرسائل كل الحق في الهم بما يمكن ان يصير إليه أمر تلك الرسائل والبرقيات، فلو سقطت زكائب الرسائل في أيدي سوءٍ لجعلت منها طريقاً للانتقام والتشفي بل وربما الابتزاز لآلاف من أبناء الوطن...
    ولم يكن أمام ثلاثة من صغار الضباط في التوجيه المعنوي يومها إلا ان يستلهموا ضميرهم حسن التصرف أمام ذلك الدليل الدامغ المميت..
    ولقد فعلوا..
    وكانوا يومها أسعد ما يكونون حين وقفوا يرقبون جندياً من جنودهم وهو يطعم النار – على مدى ساعة كاملة – مافي جوف تلك الزكائب من برقيات ورسائل..
    ورغم ان كاتبي تلك الرسائل ما دروا حتى اليوم، فإن تلك النار إنما كانت برداً وسلاماً عليهم...













    الهوامش:

    (1) صرح بذلك فاروق حمد الله لرئيس تحرير مجلة أفريكا كونفدينشيال التي تصدر في لندن، أثناء لقائه له بالخرطوم بعد نجاح الثورة. راجع أفريكا كونفدينشيال، يوليو 69.
    (2) رواية نميري للقائه بنقد والشفيع ثم لقاءه بعبد الخالق محجوب في عادل رضا- الرجل والتحدي. القاهرة: دار الهلال.
    (3) وردت هذه المعلومات في باشري، وقد ذكر ان علي صديق عين في أول الأمر عضواً بمجلس الثورة، وهو ما لا نملك تأكيداً له. راجع محجوب باشري (1996) معالم الحركة الوطنية في السودان. بيروت: دار الثقافة.
    (4) يشير جعفر نميري في كتاب عادل رضا (الرجل والتحدي)، إلى هذه الحقائق حيث يبدو وكأنه يرد على إدعاءات بعض الضباط عن دورهم في إنفاذ الثورة.
    (5) يعلق نميري على هذا الأمر بقوله ان حمد النيل من أشجع الضباط وأنه لم يختلف قط – من تعليقات نميري على مخطوطة هذا الكتاب، الخرطوم يوليو 2003.
    (6) يروى محجوب برير كيف طلب منه فاروق تجنيد بابكر عوض الله باستغلال علاقات أسرية تجمعه به. راجع محجوب برير، مواقف على درب الزمان ج(2)، ص، (346).
    (7) لا يتفق نميري مع رأينا هذا إذ يقول إن الضباط لم يكونوا يساريين بل (وطنيون عسكريون لا ينتمون لأي حزب أو كيان خلاف الجيش) من تعليقات جعفر نميري على مخطوطة هذا الكتاب، الخرطوم، يوليو،2003.
    (8) يعتقد جعفر نميري ان الضباط الذين قادوا مايو لا ينتمون إلى أي تنظيم يساري بل هم (وطنيون عسكريون) جعفر محمد نميري: تعليقات شخصية من نميري للمؤلف، الخرطوم 2003
    (9) Issue for the year, 1969-70 Africa Contemporary Records (CAR)
    (10) أنظر حاج حمد. محمد أبو القاسم، (1996) السودان المأزق التاريخي وآفاق المستقبل، 1956- 1996 المجلد الثاني Indies International Studies and Research Bureau West
    (11) خليفة خوجلي، انتخاب الحزب الشيوعي، دمشق: منشورات دار علاء الدين 1999، ص 49.
    (12) نص البيان ورد في كتاب الصحفي المصري عادل رضا الرجل والتحدي، مصدر سابق.
    (13) المصدر السابق 48
    (14) محمد عبد العزيز وهاشم أبو رنات: أسرار جهاز الأسرار، لندن نشر خاص (1993)
    (15) راجع كتاب النهج الإسلامي لماذا، جعفر محمد نميري، مصدر سابق.
    (16) راجع عادل رضا، الرجل والتحدي. القاهرة، المكتبة المصرية الحديثة
    (17) محجوب برير محمد نور، مواقف على درب الزمان، مصدر سابق ، 523-525
    (18) بشير نميري في النهج الإسلامي لماذا إلى أنه تصرف بمفرده فيما يتعلق بإذاعة البيان المذكور.
    (19) Africa Contemporary Records (CAR), 1970-71
    (20) نشرت القوات المسلحة تحقيقاً مع الرقيب الذي كان يقوم بالإشراف على حراسة عبد الخالق محجوب والذي تم اعتقاله بعد ذلك، راجع أعداد صحيفة القوات المسلحة، أبريل – مايو 1971م.
    (21) يورد محمد محجوب عثمان – شقيق عبد الخالق – تفاصيل المحاولة. راجع محمد محجوب عثمان الجيش والسياسة في السودان القاهرة – مركز الدراسات السودانية (1997)
    (22) عادل رضا (1975) الرجل و التحدي.
    (23) راجع محمد محجوب عثمان، (1997) الجيش والسياسة في السودان.
    (24) نفس المصدر
    (25) B.73. Africa Contemporary Records, Annual Survey and Documents 1971-72 p179
    (26) يعلق جعفر نميري على هذه المعلومة بقوله (لم يحصل أبداً. لم أقابل عبد الخالق منذ اعتقاله بالذخيرة). في حين أوردت آفريكا كونتمبوراري ريكوردس الحولية ترجمة مطولة (حوالي صفحة كاملة) بالإنجليزية لنص حوار بين نميري وعبد الخالق الموثوق اليدين بعد فشل انقلاب يوليو.
    (27) تعليق نميري على هذا المعلومات: (شئ جديد ومعلومات لم أعرفها من قبل).
    (28) تعليق نميري على هذه المعلومات: (دليل آخر على خيانة بعض أعضاء مجلس الثورة)
    (29) تعليق نميري على هذه المعلومات: (صحيح جداً).
    (30) نشرت الصحف الصادرة في تلك الأيام صورة لهذه الأسماء بخط عبد الخالق محجوب الذي أكد أنه كتب تلك الأسماء..
    (31) أخذت هذه النصوص من كتاب الرجل والتحدي، وقد اعتمد الكاتب على وثائق التحقيق مع المتهمين في أحداث يوليو 1971.
    (32) وردت اتهامات تنفيذ جهات أخرى للمجزرة في محجوب باشري، معالم الحركة الوطنية في السودان. مصدر سابق.
    (34) ذكر محمد محجوب عثمان أنه لم يستطع اللحاق بطائرة فاروق وبابكر النور لاختلاف مواقيت وصول طائرته من ألمانيا الديمقراطية. راجع محمد محجوب عثمان، (1997) مصدر سابق.
                  

العنوان الكاتب Date
إعدامات الشجرة 1971 ( صور) sourketti04-10-09, 05:19 PM
  Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) ابراهيم عدلان04-10-09, 05:38 PM
    Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) Abdlaziz Eisa04-10-09, 05:46 PM
      Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) sourketti04-10-09, 09:25 PM
        Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) sourketti04-10-09, 10:01 PM
          Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) عمر ادريس محمد04-11-09, 00:59 AM
          Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) عبد الناصر الخطيب04-11-09, 01:18 AM
            Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) د.نجاة محمود04-11-09, 02:51 AM
              Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) عبد الناصر الخطيب04-11-09, 04:07 AM
                Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) ابراهيم عدلان04-11-09, 04:21 AM
                  Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) ابراهيم عدلان04-11-09, 04:35 AM
                    Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) maia04-11-09, 07:15 AM
                      Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) sourketti04-11-09, 02:58 PM
                        Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) Saifeldin Gibreel04-11-09, 03:52 PM
                          Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) سناء عبد السيد04-11-09, 03:58 PM
                            Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) jini04-11-09, 06:54 PM
                              Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) عبد الناصر الخطيب04-11-09, 08:32 PM
                                Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) amar adam04-11-09, 09:00 PM
                              Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) عبداللطيف حسن علي04-11-09, 08:55 PM
                                Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) عبد الناصر الخطيب04-11-09, 09:57 PM
                                  Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) sourketti04-11-09, 10:51 PM
                                    Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) ابراهيم عدلان04-11-09, 11:44 PM
                                      Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) ابراهيم عدلان04-11-09, 11:50 PM
                                        Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) سناء عبد السيد04-12-09, 02:46 AM
                                          Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) سناء عبد السيد04-12-09, 03:14 AM
                                        Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) على ميرغني11-30-09, 04:52 PM
                Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) المأمون أبوسن04-12-09, 08:12 PM
                  Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) sourketti04-12-09, 08:27 PM
                    Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) haroon diyab04-12-09, 08:42 PM
                      Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) عبد الناصر الخطيب04-12-09, 09:26 PM
                        Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) ثروت سوار الدهب04-12-09, 10:01 PM
                        Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) عاطف عمر04-12-09, 10:18 PM
                          Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) محمد حيدر04-13-09, 03:41 AM
                            Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) عاطف عمر04-13-09, 05:02 AM
                              Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) مكي ابراهيم مكي04-13-09, 07:20 AM
                                Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) عمر الفاروق عبد الله الشيخ04-13-09, 07:31 AM
                                  Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) sourketti04-13-09, 08:38 AM
                                    Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) عمر الفاروق عبد الله الشيخ04-13-09, 09:34 AM
                                      Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) اسامة الكاشف04-13-09, 11:26 AM
                                        Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) عبد الناصر الخطيب04-13-09, 05:40 PM
                                          Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) سناء عبد السيد04-13-09, 07:54 PM
                                            Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) عبد الناصر الخطيب04-13-09, 08:43 PM
                                              Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) سناء عبد السيد04-13-09, 10:05 PM
                                                Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) عبد الناصر الخطيب04-13-09, 10:11 PM
                                                  Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) sourketti04-14-09, 10:29 AM
                                                    Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) سالم أحمد سالم04-14-09, 12:57 PM
                                                      Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) نوفل عبد الرحيم حسن04-14-09, 04:45 PM
                                                        Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) sourketti04-14-09, 10:09 PM
                                                          Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) sourketti04-14-09, 10:20 PM
                                                            Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) ابراهيم عدلان04-15-09, 02:39 AM
                                                              Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) رأفت ميلاد 04-15-09, 07:27 AM
                                                                Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) sourketti04-15-09, 04:20 PM
                                                                  Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) sourketti04-15-09, 04:49 PM
                                                                    Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) lana mahdi04-15-09, 08:55 PM
                                                                      Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) sourketti04-15-09, 10:44 PM
                                                                    Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) محمد مختار جعفر04-15-09, 10:29 PM
                                                                      Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) sourketti04-16-09, 10:08 AM
                                                                        Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) الرفاعي عبدالعاطي حجر04-16-09, 10:36 AM
                                                                          Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) sourketti04-16-09, 05:57 PM
                                                                            Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) محمد مختار جعفر04-16-09, 08:14 PM
                                                                              Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) محمد مختار جعفر04-16-09, 08:37 PM
                                                                            Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) julia shawqi hamza04-16-09, 08:34 PM
                                                                              Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) sourketti04-16-09, 10:49 PM
                                                                          Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) ابراهيم عدلان04-16-09, 10:45 PM
                                                                            Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) ابراهيم عدلان04-17-09, 00:51 AM
                                                                              Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) sourketti04-17-09, 07:52 PM
                                                                                Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) سالم أحمد سالم04-18-09, 10:16 AM
                                                                                  Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) محمد مختار جعفر04-18-09, 11:30 AM
                                                                                    Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) sourketti04-18-09, 10:06 PM
                                                                                      Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) سالم أحمد سالم04-18-09, 10:56 PM
                                                                                        Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) المأمون أبوسن04-19-09, 02:06 AM
                                                                                          Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) Elmuez04-19-09, 03:07 AM
                                                                            Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) Mohiedin Sir El Khatim04-19-09, 06:44 AM
                                                                              Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) malamih04-19-09, 09:51 AM
                                                                                Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) sourketti04-20-09, 11:15 PM
                                                                                  Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) Shiraz Abdelhai04-21-09, 07:11 AM
                                                                                    Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) أبو ساندرا04-21-09, 11:02 AM
                                                                                      Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) sourketti04-21-09, 04:31 PM
                                                                                        Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) sourketti04-21-09, 06:01 PM
                                                                                          Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) Mohamed Abdelgaleel04-22-09, 01:30 PM
                                                                                            Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) Al-Mansour Jaafar04-22-09, 03:09 PM
                                                                                              Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) عزيز عيسى04-22-09, 03:51 PM
                                                                                                Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) عزيز عيسى04-22-09, 04:02 PM
                                                                                                Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) ابراهيم عدلان04-23-09, 01:14 AM
                                                                                                  Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) عبد الناصر الخطيب04-24-09, 07:59 PM
                                                                                                    Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) Mohamed Abdelgaleel04-25-09, 09:29 AM
                                                                                                      Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) sourketti04-26-09, 10:57 AM
                                                                                                        Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) Elmuez04-26-09, 02:23 PM
                                                                                                          Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) Elmuez04-27-09, 02:13 PM
                                                                                                            Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) Abdelmuhsin Said04-28-09, 12:08 PM
                                                                                                              Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) ابراهيم عدلان04-28-09, 05:11 PM
                                                                                                                Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) sourketti04-28-09, 07:47 PM
                                                                                                                  Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) Elmuez04-29-09, 03:48 PM
                                                                                                                    Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) sourketti04-29-09, 04:59 PM
                                                                                                                    Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) محمد مكى محمد04-29-09, 05:38 PM
                                                                                                                      Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) بدر الدين اسحاق احمد04-29-09, 06:25 PM
                                                                                                                        Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) محمد مكى محمد04-29-09, 06:34 PM
                                                                                                                          Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) mahdy alamin04-29-09, 09:13 PM
                                                                                                                            Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) sourketti04-30-09, 01:33 AM
                                                                                                                              Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) د.نجاة محمود04-30-09, 03:57 AM
                                                                                                                                Re: إعدامات الشجرة 1971 ( صور) ابراهيم عدلان04-30-09, 05:11 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de