بحري طراوة... ويا ناس بحري .. قالوا بتحبوا يلا حبونا..

Quote: أليس لجمَّاع من شعر في الغزل؟ إدريس محمد جمّاع ، سليل ملوك ( العبدلاّب)وابن آخر (مانجلك) فيها .. الشيخ محمد جمّاع.. ذلك الرجل القامة والهامة المهاب الذي لامشورة بعد مشورته ..إدريس محمد جماع صاحب هذا التاريخ الوضّاء المليء بالحياة المتجددة في نفوس من عرفوه عن قرب وخالطوه وصاحب ديوان (لحظات باقية) ..ذلك الديوان الذي يفيض جمالا وإنسانية ، فكل قصائده لوحات من الإلهام والفن والنبوغ .. يلاحظ القارئ له أنه لا يحتوي إلا على قصيدتين اثنتين فيما يمكن أن ينسب إلى التغزل بالمرأة .. والمرأة على كل حال ، هي الصورة الحية للجمال إذا ما عددنا الطبيعة بأنهارها وأشجارها وجبالها ووديانها الصورة الجامدة .. ولهذا فقد نكِر المتذوقون لشعر جماع وجود هاتين القصيدتين يتيمتين في ديوانه الوحيد (لحظات باقية) ،فلا بد أن لهما أخوات كثيرات ، فالذي رفد الأدب العربي بصورة عامة بمواضيع في الشعر جديدة وغير مألوفة في التغني بالحياة والحرية والإنسانية لايمكن أن يخلو قلبه من عاطفة الحب الجياشة.. لقد كتب في معنى شعره المترجم لإحساساته تذهب الساعاتُ من عُـــــمريَ قرباناً لفني أتبعُ الموجــــَة طرفي ولها أرهـــِف أذني وانطباع الزهر في الغدران يستوقف جفني وانتفاضــــات جناحين على أوراق غـصن ولقد أسبح في النغــــمة من كـــَونٍ لكـــَونِ هبة ٌ للفـــن ِّ دنياي وروحـــِي .. غير أني .. وقصيدته (أنت إنسان ) معانيها غير مطروقة في إشعار الإنسان بإنسانيته من خلال صور عديدة يراها هو : أنت إنســـانٌ بحقٍّ وأنــــا بين قلبيْـــــنا من الحب سَنى كلَّ يوم صوَرٌ عبر الطريق تزحم النفــْس بها ثم تفيـــقْ ليــس ما هزَّك حسّا عابراً إنه في النفس إحساس عميق هو إنســـَانية قد وصـــلت كلَّ نفسٍ بك في ربْـــط وثيق وإذا ما سقط الطير الجريح وهو مخصوب على الأرض طريح يضرب الأرض بريش ويصيح حوله زُغب ٌمن الطـــَّير تــنوح وتلمست بجنـــْبيك الجُــــروح فبحـــقٍّ أنت إنســــَان وروح فإذا ما دلفنا إلى هاتين القصيدتين: (ربيع الحب ) و(غيرة) نجد أن مستواهما الشعري عال وراقٍ ، وكفى أن نعلم أن كلتيهما تغنى بهما الفن السوداني من خلال صاحب الحضور العالي لدى المستمع العربي عامة والسوداني بصورة أخصّ ، وأعني به المغني (سيد خليفة) .. ولولا أنهما ذواتا سلاسة وتدفق لما نالا حظهما من الغناء .. في ربيع الحب كنا نتساقى ونغني نتناجى ونناجي الطير من غصن لغصن ثم ضاع الأمس مني وانطوت في القلب حسرةْ إننا طيفان في حلم سرينا واعتصرنا نشوة الحب ولكن ما ارتوينا إنه الحب ُّ..فلا تسأل ولا تعتب علينا كانت الجنة مأوانا فضاعت من يدينا أطلقت روحي من الأشجان ما كان سجينا أنا ذوّبت فؤادي لك لحنا وأنينا فارحمي العود إذا غني فيه لحنا حزينا ليس لي غير ابتساماتك من زاد وخمر بسمة منك تشيع النور في ظلمات دهر وتعيد الماء والأزهار في صحراء عمري وأما القصيدة الأخرى التي أدث غناؤها في نهاية الستينيات من القرن الماضي هزة فنية في عالم الغناء السوداني فهي (غيرة)والتي استحال فيها كل بيت إلى وجبة روحية كاملة من تلك الموائد الممتدة عبر الأبيات : أعلى الجمال تغار منّا ؟ ماذا علـيك إذا نظرنا ؟ هي نظرة تنسي الوقار وتسعـــِد الروح المُــعنّى دنياي أنْت وفرحتــــي ومُنى الفؤاد إذا تمنّــــى أنت السماءُ بـــدت لنا واستعـــْصمت بالبعد عنـّا هلاّ رحمت متيَّـــــما عصفت به الأشواقُ وهنا!! وهفَت به الذكرى فطــاف مع الدجى مغنًى فمغنى هزَّته منك محاســـِنٌ غنّى بِــــــــها لمّا تغنــــّى يا شعلة طافت خواطِــــرُنا حوالـــيْها وطفْــــــنا آنستُ فيك قداســــَةً ولمِــــــست إشــــراقا وفـــَنا ونظرت في عينـــيك إشراقـــــًا وأسرارا ومعنى وسمعْتُ سحـــــْريًّا يذوب صداهُ في الآفاق لحْنا نلتُ الســـَّعادة في الهوى ورشفتُــــها دنّا فدنّا وبعد ، فهل يمكن لمن يكتب بهذا الفن والاقتدار في جمال المرأة أن يكتفي بقصيدتين؟ الإجابة قطعا :لا!! إذاً، فأين الباقيات ؟ لقد قدم السفير السوداني دوليب محمد الأمين إجابة لهذا السؤال دون أن يدري في محاضرة له عن الشاعر إدريس محمد جمّّاع في نادي حلة حمد الثقافي في إحدى ليالي يناير عندما ذكر قصة طباعة ديوانه ( لحظات باقية) التي تقول إنه ،أي الشاعر فاجأ السلطات المصرية أيام أحداث العدوان الثلاثي نهاية عام1965 بنزوله من طائرة، سودانية أو مصرية ،في القاهرة وهو لا يحمل تذكرة سفر أو متاع أو أية أوراق ثبوتية ، وهو إذّاك في الرابعة والثلاثين من عمره ، فقد ولد عام 1922 وجاء ليشارك الشعب المصري كفاحه ضد الغزو الثلاثي .. ويبدو أنه كان يعاني آنذاك من مرضه النفسي ..ولكنه كان رضا نفسيا عجيبا! فهو أقرب إلى أن يكون تمثيلا انقلب إلى حقيقة ..أو هو مرض نفسي لا يلازمه طيلة يومه .. ولقد طافت به السلطات المصرية على التجمعات الطالبية آنذاك بمصر علها تجد من يتعرف عليه ، مع أنه كان طالبا بكلية العلوم فيما بين عامي 1947و1951 ..وأخيرا تعرف عليه ابن العائلة - الطالب آنذاك- دوليب محمد الأمين وأدخل المستشفى للعلاج .. وحتى يتمّ إكمال علاجه وإعادته إلى السودان فقد استكتب الطلاب السودانيون المقيمون بالقاهرة لطبع الديوان الذي لم يكن كتب كلمة واحدة منه إلى ذلك الحين ، بل كان مختزنا في الذاكرة .. وقد ذكر السفير (دوليب)انه جلس وصديق له يكتبان ما يمليه عليهما الشاعر من وحي الذاكرة .. قصيدة تلو الأخرى إلا ما كانم من قصيدة واحدة يقول الديوان إنها كتبت والشاعر في داخل الطائرة المتجهة إلى مصر: بي مثل ما بك يا مصري من لهب وشيجة الحق والتاريخ والنسب عمّ البلا ذهول لا تجدده حدود أرضٍ ومشبوب من الغضب هذا الدم الفائر المهتاج نبعثه نارا ونحرق منه كل مغتصب وهكذا ..إذا فقد كانت الذاكرة هي منبع قصائد الديوان كله والذاكرة تخطئ وتصيب وقد اثبت الشاعر جمّاع في قصيدته بعنوان ( الفجر المرتقب) التي تقول في جزء منها : أمة للمجد والمجد لها وثبت تنشد متقبلها روِّ نفسي من حديث خالد كلما غنت به أثملها من هوى السودان من آماله من كفاحٍ ناره أشعلهاويقول إن جزءاً كبيرا منها ضاع وما ضاع إلا من ذاكرته .. وقد أجمع كثيرون من معاصريه أنه كان القصيدة في أية ورقة يجدهاثم يلقي بها .. لا يلقي لها بالا ..فكأنه كان يعتمد على ذاكرته في حظ قصائده الرائعة .. شيء آخر ، وهو أن الفارق السني بين الشاعر جمّاع وهذين الطالبين كان مانعا له من البوح لهما بشعره في المرأة ..خاصة أنه كان معلما لهما في المرحلة الوسطى.. فكيف تبيح له هذه الفوارق السنية أن يدخل في قصص وأشعار الغرام ؟ وأحسب أن غناء سيد خليفة لقصيدتي (ربيع الحب) و(غيرة ) هو الذي سمح له بإملائهما على تلميذيه الصغيرين آنذاك .. ولربما كان هناك سبب آخريمليه وضع الشاعربوصفه سليل أسرة ملوك (العبدّلاب) وأعني به الشيخ محمد جمّاع الذي وصفه ابنه إدريس بأنه رغم ضيق ذات اليد فما كان يغلق بابه على داره من الضيوف.. وكثير ما هم! ولعل الشاعر أبا فراس الحمداني يساعدني في إيجاد مبرر آخر لعدم وجود شعر غزلي للشاعر جمّاع ، فمنصب الإمارة الفعلية والرمزية عند كليهما مانعتهما من كتابة الشعر الغزلي ..أما ترى أبا فراسالحمداني يقول : أراك عصيّ الدمع شيمتك الصبــر أما للهوى نهي عليك ولا أمر؟ بلى ..أنا مشــــتاق وعنــديَ لوعـة ولكنَّ مثلي لا يذاعُ له ســــــِرُّ إذا الليل أضْواني بسطت يد الهوى وأذللت دمعا من خلائقه الكبِـْْر فكأن جمّاعا كان يحب(سرا)ولا يصرح بهذا الحب الإنساني من خلال قصائده ، فالحب برغم أنه ضعف إنساني جميل ، وبخاصة إذا كان الشخص يشعرأنه أكبر من هذاالشغف وأكبرولكنه يؤدي إلى كشف الشاعر خبيئة نفسه التي لا يودّ أن يكشفها للعالم .. فلربما كان هناك صدود ونفرة وهذا ما لا تتحملهقرارة نفس شاعر كان أهله ملوك السودان يوما ما!! ولعل بالديوان قصيدة أخرى باللغة العامية السودانية ترتفع إلى مقامات الشعر الفصيح في أخيلتها ولكن لا أود استعراضها وهي التي يغنيها الرائع (خضر بشير) .. قـُوم يا ملاك والدنيا ليل نتناجى في الشط الجميل والليل نهار العاشقين وبعد .. فهل يمكن القول بعد هذا إن جماعا لم تحركه المرأة ولم تلهمه إلا هاتين القصيدتين اليتيمتين ؟ اللهم لا .. ولعله من سوء حظ المرأة أن شعر جماع (اختفى) بطريقة ما من ديوانه .. وإذا ذكرنا أن جماعا كان ينوي جمع متبقي شعره في ديوان آخرفلربما تزداد حسرة المرأة على ذلك الكنز العزيز الضائع من أشعار الشاعر النابه إدريس محمد جماع .. عبد السلام كامل عبد السلام تلفزيون السودان الرمز البريدي 14411 ص ب 1094 أم درمان السودان هاتف 00249129092503