هنا فداسي

بين هيثم وجعفر

من أمتع فنون الأدب ذاك الذي يعتمد قالب (القصة)، ويجعلها تدفُّ بجناحيها عاليًا في آفاق الخيال، تلك الآفاق الرحيبة التي تتيح الرؤية من أعلى تمامًا مثل الأقمار الاصطناعية التي تُضخِّم ذرات التراب المتناهية الصغر إلى حجم الكتلة.. ولعل هذا سرَّ استحواذ أدب الخيال على عقول الصغار والكبار على السواء.. الصغار لجاذبيته التي ترضي تطلعاتهم إلى التفوق أو التحول إلى (سوبر مان) أو (سبايدرمان) أو (عدنان) الذي يخترق حٍُجُب الممكن من أجل حبيبة القلب (لينة).. والكبار لقدرته في انتشالهم من الواقع العالمي الحالي ذي المذاق المُرِّ والمؤلم الذي أعاد فلسفة (البقاء للأقوى) إلى العلاقات الدولية؛ بل وحتى الاجتماعية والشخصية، وأقصى مثالية (الأصلح) وأودعها سجلات التاريخ.
لم تكن رحلة هيثم وجعفر إلى الغد عبر بساط الصغير (حسن) مجرد دردشة أو (شخبطة) أو رسمًا كاريكاتوريًّا على دفاتر (هنا فداسي)؛ بل هي إحدى صور الخيال الخصب الذي يحاول استقراء المستقبل واستكناه خباياه، وتصوير نمط العلاقات بين جيلين أو ثلاثة أجيال من الأحفاد والأبناء والآباء.. وما معظم الاكتشافات الكبيرة إلا تجسيدًا لوحي خيال نشط، ولتصورات عقول لغير الموجود القابل لإمكان الوجود. ارتحل بنا الشابان ـ وهما بالفعل في سنِّ غضَّة ـ إلى نيف وعشرين عامًا قادمًا، والله أعلم أين تكون أجسادنا حينها.. تدبُّ على ثرى الأرض أم تحته وقد تحولت إلى ذرات منه وعلاها من كان بالأمس دونها؟ وهذه الأخيرة مقتبسة من آخر بيت في (ابنة الفجر) لإيليا أبي ماضي:
طوت الأرض من طوى الأرض حيًّا وعلاه من كان بالأمس دونه
رحلتهما كانت في غاية الإمتاع، وكم تمنيت إن عمدا إلى (الفصيحة) مع تطعيمها بـ (العامية) لتتضاعف المتعة، ولتحقق المنفعة لغيرنا من المتحدثين بالعربية ـ في أي مكان ـ من جمال الصُّحبة إلى المستقبل.. ولتتحول هذه (الممازحة) إلى أدب حقيقي يرسم صورة للآتي تنبني عليها افتراضات تستهدف صياغتها وفق ما نريده ـ تربويًّا لا استنساخًا ـ لأبنائنا حتى لا يتمردوا على قيمنا وأخلاقنا، وتستهويهم إغراءات العصر، ويقعوا في براثن أفكار وتصورات فوكاياما وهنتنجتون الذي أشبع معظم دراساته بقيم صارخة وتحيزات قاتلة ـ كما يقول الدكتور محمد وقيع الله ـ وبتحامل وتحريض مع حثٍّ على خوض حروب عالمية لحسم ما أسماه صراع الحضارات..

وللتدليل على أهمية قراءة المستقبل ـ التي يمتزج فيها الخيال بالرؤية المبنية على قرائن واستنباطات ومعطيات حيَّة ـ كان هذا التداعي الذي أقحمته هنا، ولذا ألتمس المعذرة من ابنيَّ هيثم وجعفر، وألا يعتبرا هذا شرودًا وخروجًا عن (النص) أو بُعدًا عن دلالاته ومراميه.. يقول د. وقيع الله إن هذا المفكر "منذ أن نشر مقالته عن صراع الحضارات وهو ينافح عن ضرورة الحرب مع عدو مصطنع جديد".. إذًا أليس من الخطر على أحفادنا ألا يجدوا جدارًا أو سياجًا روحيًّا وفكريًّا وثقافيًّا يحميهم ويستندون عليه كي لا تنتاشهم سهام أمثال هذا المفكر الذي يستعدي أمته وقادتها من خطر قادم عبر قراءته للمستقبل وتصوراته للغد ولما يمكن أن تكون عليه حال الثقافات والحضارات آنذاك.. لنسمع الدكتور وقيع الله وهو ينقل ما أورده هنتنجتون عن الإسلام في كتابه (نحن: التحديات المواجهة للهوية القومية الأمريكية): "وأما الإسلام فإن أهله ليسوا مشغولين به، ولا قادرين على الصراع مع الغرب". والغريب ـ يتابع د. وقيع الله ـ أن هنتنجتون يقول هنا ما قاله الآخرون، فإنه يؤكد أن الخطر ليس في الإسلاميين، وإنما في الإسلام نفسه كدين.
رحلتكما يا جعفر وياهيثم لطيفة وباسمة، فقط كان يلزمكما أن تقدما من خلالها جرعة ثقافية هائلة لأبنائكما وأحفادكما، ولا يكفيكما الاقتصار على تجوالهما في أزقة فداسي تطارد أعين أحدهما فتاة العفة والسمت الحيي (حبَّة قلب أسماء)، تلك المصونة والمحصنة بدرع أمها وثقافتها، والتي أعلنت رفضها من الآن للعريس الذي مازال غافيًا في (البورد) يحلم بـ (القوامة) على السودان ليستعيد أمنية لم تتحقق لجده طيب الله ثراه..


الأخ/ المكرب.. أدخلك الله في زمرة الذاكرين الله كثيرًا، وجعلك من الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفًا وطمًعا (أشركنا في دعائك)، أو من الذين إذا ذُكِر اللهُ وجلت قلوبهم وإذا تُليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رُزقوا يُنفقون.. وهؤلاء وصفهم الله جلَّ وعلا: (أولئك هم المؤمنون حقًّا..).. وليس ذلك ببعيد عنك.. فهو إرث آباء وأسلاف، فلا تُصغِّرن نفسك عن بلوغ هذه العتبة السَّنيَّة.
أرجو إن كان في الإمكان اعتبار: (بين هيثم وجعفر) من التداعيات التي تدخل في باب (التغذية الاسترجاعية) أو (رجع الصدى).. فما كان من الممكن أن يحدث لنا هذا القدر من التواصل إلا عبر هذه البوابة (هنا فداسي).. فالصغار من أبنائنا وبناتنا ينأون بأنفسهم عن مجالس الكبار احترامًا وتقديرًا، ولا يجرأون على انتقادهم أو التداخل معهم، والبنات أدعى إلى التزام الحياء مع الرجال؛ خاصة إذا كانوا من الغرباء (وأقصد غربة موقع) أو من غير الأقرباء.. كما أن الكبار يحصرون أنفسهم في دائرة أقرانهم من (الشيبان) ويكتفون بلحظات (الاجترار) وربما الحسرة على زمان فائتٍ لم تتحقق فيه الأحلام والتطلعات.. ولكن هذا (الرابط) يذيب الفوارق لا شك، ويُلغي الفواصل التي تمنع التواصل ومبادلة الفكرة والرأي وحتى (القفشة والنكتة)، لأنها كتابة من بعيد لا (تفرمل) نفسها بمحاذير أو قيود وهمية وغير مطلوبة أساسًا..
ولا أجد مشاحة في أن أقول: هنيئًا لنا بهذه الدرر المتناثرة على صفحات (هنا فداسي) التي كشفت لنا أ ن خزانة قريتنا مكتنزة بما تلذُّ له العقول، وتسعد به الأنفس.. وما أسعدنا بأصحاب الأقلام الكبيرة العاتية التي آثرت وأثرت الساحة بنفائس من ذخائرها كابن البشرى وغيره من الكرام.

أخوكم الزعيم
الرياض
17/3/2007م