هنا فداسي

Quote: العدد رقم: 442 2007-02-01 أوراق مطويات: مع الوالي حكيم الجزيرة ذهبت إلى بركات في منتصف عام 1956 لمقابلة المرحوم مكي عباس، وذلك غداة وصولي إلى الجزيرة لاستلام مهام عملي رئيسا لتحرير صحيفة (الجزيرة)، وسألني بعد التحية إن كنت قد زرت حكيم الجزيرة، فلما أجبته بالنفي عاتبني على ذلك عتابا شديدا وأمرني بأن أذهب في اليوم نفسه إلى قرية فداسي لزيارة الشيخ محمد عبدالله الوالي، لأنه مثل فاتحة الكتاب التي تبدأ بها التلاوة وتقرأ في أول ركعة من الصلوات الخمس، والآخرون نوافل.. وقال لي مكي إن عليّ أن أبدأ بحكيم القرية ثم أعرج عليه غدا. وهنا حبكت النكتة فاحتبستها في حضرة السيد المحافظ مخافة اغضابه وما يلي ذلك من الويل والثبور وعظائم الأمور وأنا في أول عهدي بالوظيفة الجديدة بامتيازاتها السخية ومرتبها الذي يسيل له اللعاب، غير أني لم أقوَ على احتباس ضحكة فضولية غلب نصفها الرهبة والحياء وأبى إلا أن يظهر على أسارير وجهي مما استرعى انتباه السيد المحافظ، فقلت له بعد أن أعطاني الأمان (سعادتك سأبدأ بالفاتحة وأعرج غدا على البقرة آخر السور وأطولها).. وكان مكي عباس عملاقا طويل القامة وكنت أشعر برهبة في حضرته وأخشاه كما يخشى الشقي المحكوم عليه بالإعدام من العشماوي، رغم ما بيني وبين مكي عباس من محبة ومودة وإخاء. عدت من بركات في الظهيرة إلى مقري في قرية مساعد غربي طيبة عبدالباقي، وبينما كنت استعد للذهاب إلى قرية فداسي قبيل المغيب فوجئت بشيخ الوالي يأتي لزيارتي ومعه المرحوم عبدالرحيم وشي، باشمفتش تفتيش طيبة، وكان قبل التحاقه بمشروع الجزيرة مديرا لصحيفة الرأي العام)، كما جمعتنا سويا الزمالة في حزب الاتحاديين الأبروفيين، فهو زميل في الصحافة ورفيق نضال. أما شيخ الوالي، حكيم الجزيرة، فقد عرفته قبل ذلك من كتاباته في صحيفتي (الرأي العام) و(الصراحة) ثم التقيت به مرات عديدة حين يأتي لزيارة الشريف حسين الهندي في الخرطوم، وكنت اقتسم مع الشريف حسين مكتبا في عمارة قطان التي آلت في ما بعد لآل عثمان صالح، وتقع في ما يسمى حاليا بشارع البرلمان. رويت لشيخ الوالي ما دار في الصباح بيني وبين المحافظ مكي عباس، فعلق على ذلك بابتسامة بريئة ثم أردف قائلا (مكي ود بلد مكانه بيننا في الحواشة وسيكون أنجح مزارع لو فعل ذلك وسوف ننتخبه بالإجماع رئيسا لاتحاد المزارعين مدى الحياة).. لم أنقل هذا الكلام لمكي عباس عندما ذهبت إليه في اليوم التالي، ولكن مما يدعو إلى الاستغراب أنه قال لي (إنني سعيد بأن أترك منصب المحافظ غدا ليخلفني شيخ الوالي فهو أجدر من يتولي هذا المنصب!!).. لقد كان بين الرجلين - مكي والوالي - حزمة متبادلة من الود والإعجاب والإكبار، وكان كل منهما يرى الآخر في غير موقعه اللائق به. كان مكي يقول لي دائما إن شيخ الوالي من المستنيرين وهم قلة في بلادنا يضيئون بنورهم حياتنا على خلاف من ندعوهم بالمثقفين حملة الأسفار الذين لا يفيدون وقد يستفيدون ولكن في حدود ضيقة لا تخرج عن إطار الأنانية. ومفهوم الثقافة عند مكي عباس لا يعني أن كل متعلم مثقف، أو أن كل مثقف متعلم، لأن الثقافة تعني تراكم الخبرات والتجارب على مر السنين ويكتسبها من خلال ممارسته للحياة ومعايشته للبيئة. ولكن التعليم على اختلاف مراحله يمكن أن يكون عاملا لاستيعاب وتطوير الثقافة على اختلاف ألوانها. والمستنير لا بد أن يكون مثقفا، بينما المثقف ليس مستنيرا بالضرورة. وتجلى وفاء شيخ الوالي حكيم الجزيرة عندما استقال مكي عباس من منصبه وخرج مغاضبا من جراء مؤامرة نسجها أقرب الأصدقاء إليه من أجل تحويل أرصدة مشروع الجزيرة من مصرف لآخر، ولعل المرحوم مأمون بحيري قد ألمح إلى بعض خيوط تلك المؤامرة وأطرافها في مذكراته. كتب شيخ الوالي مقالا نشرته صحيفة (الجزيرة) يومذاك تحت عنوان (العملاق الذي سيبارح الجزيرة)، المقال في حد ذاته قطعة أدبية رصينة تستحق إعادة النشر كاملة وفاء لأهل الوفاء والعطاء، استعرض الكاتب فيها سيرة حياة مكي عباس وجذوره الضاربة في أعماق أرض الجزيرة وإنجازاته فيها كرائد لتعليم الكبار، وعضو عن الجزيرة في المجلس الاستشاري يدافع فيه عن قضايا المزارعين ويكشف تجاوزات الشركة الزراعية البريطانية التي تدير مشروع الجزيرة، ثم كصحفي يدافع بقلمه عن تلك القضايا في صحيفة (الرائد) التي أصدرها عقب استقالته من المجلس الاستشاري، وهي أول صحيفة سودانية بشرت بفكرة الجمهورية الاشتراكية في منتصف أربعينييات القرن الماضي وكانت بمثابة الإرهاصات التي سبقت قيام الحزب الذي نادى بتلك الفكرة تحت شعار (الدين لله والوطن للجميع). غير أن أكثر ما استرعى انتباهي في مقال شيخ الوالي يومذاك تناوله قضية محورها مشكلة الأقليات في مشروع الجزيرة والمقصود بالأقليات المهاجرون القادمون من غرب افريقيا. ومجرد تناول شيخ الوالي لهذه القضية لا يكشف عن سعة أفقه ودرايته بمشاكل مزارعي الجزيرة الاجتماعية والاقتصادية فحسب، وإنما يكشف قبل ذلك عن سمو وعيه الوطني وصفائه ونقائه.. فقد احتلت قضية الهجرة من غرب افريقيا مكان الصدارة في مذكرة مؤتمر الخريجين الشهيرة التي حوت مطالب الحركة الوطنية أولها حق السودان في تقرير مصيره، وتلي ذلك مباشرة المطالبة بإيقاف الهجرة من غرب افريقيا حتى لا يصبح السودان فلسطينا أخرى، على حد تعبير المرحوم ابرهيم يوسف سليمان يومذاك في مقالاته الداوية في صحيفة (صوت السودان). وقد جاء في مقال حكيم الجزيرة أن مكي عباس نظر إلى تلك المشكلة (نظرة المصلح الاجتماعي الواسع الأفق الذي ينظر إلى المصلحة العليا غير متأثر بنظرة سياسية ضيقة. لقد أبان سيادته أن المشكلة تكمن في قوم يسكنون في قرى منعزلة ويفكرون تفكيرا منعزلا ولا يفيدهم طول المكث في البلاد اندماجا في مجتمعها، وقال إن المهاجرين الذين أثبتت التجارب سرعة انصهارهم في المجتمع السوداني هم المهاجرون المصريون). ويرى شيخ الوالي في ذلك تناقضا مع ميول مكي عباس المعروفة ضد وحدة وادي النيل، ولكنه يمضي في مقاله متسائلا (متى كان أصحاب العقول الكبيرة والمخلصون للإصلاح الاجتماعي تحجبهم أفكارهم السياسية الخاصة عن الأهداف السامية البعيدة المدى). كانت تلك صيحة حق لم تلق يومذاك آذانا صاغية!! ترى ماذا يقول اليوم حاصدو الحصرم وآكلوه من المتباكين وراء نعش مشروع الجزيرة الذي نحروه بأيديهم وكتموا أنفاسه؟؟ أليس من المفارقات الصارخة أن يسير القاتل وراء نعش القتيل يلطم الخدود ويشق الجيوب؟!!. وليعذرني القراء في هذا الاسترسال الذي لا مفر منه عندما يكتب المرء عن شخصية موسوعية في جميع شؤون الحياة في حجم حكيم الجزيرة الشيخ محمد عبدالله الوالي وقد سعدت بصحبته وجيرته أربع سنوات كاملات، وهو بلا شك من الشخصيات الفريدة النادرة التي تخلف أثرها في كل من عرفها عن بعد أو كثب. وقد أضاف إلى حياتي منحى كنت أعيش على هامشه ولا أجرؤ على اقتحامه وأعني بذلك الثقافة الإسلامية التي كان إلمامي بها حتى ذلك الحين محدودا للغاية بحكم الثقافة الأوروبية التي اجتذبت كثيرين من أبناء جيلي يمينا أو يسارا. فقد وجدت في ندوات شيخ الوالي في فداسي والدروس التي يقدمها بانتظام في مسجد القرية معينا لا ينضب من الثقافة الإسلامية الموسوعية من علوم القرآن والسنة والفقه والأفكار الفلسفية وخاصة المعتزلة وابو حيان والإمام الغزالي، ومن المحدثين رشيد رضا والكواكبي وسيد قطب، وقد سبق شيخ الوالي المرحومين عبد الله الطيب والشعراوي في الطريقة الشيقة المبسطة التي يفسران بها القرآن فهو رائد وهما له تابعان. كان شيخ الوالي انسانا في خلقه وسلوكياته مع الآخرين يتكلم أو يكتب بميزان الذهب، فلا تقع كلمة يجري بها لسانه أو قلمه إلا في مكانها لتؤدي وظيفتها في رفق ودون أذى. وكنا نادرا ما نختلف مع أننا كما يبدو للناس على طرفي نقيض بحكم مسؤولياتي رئيسا لتحرير لصحيفة (الجزيرة)، ودوره قياديا في مجتمع مزارعي المشروع. لقد كان قانون تأميم مشروع الجزيرة دائما الحكم الذي ارتضيناه في ما يشجر بيننا من خلاف، وهذه الحقيقة خفيت عن إدارة مشروع الجزيرة أو تغابت عنها مما أدى في النهاية في عهد المحافظ المرحوم مكاوي أكرت إلى فصلي عن الخدمة تعسفيا وفي لؤم واستهتار بقوانين الأرض والسماء. ولم يشفع لي أن عدد المشتركين في صحيفة (الجزيرة) قفز خلال السنوات الأربع التي أمضيتها رئيسا لتحريرها من ثلاثمائة مشترك في العام إلى ثمانية آلاف بشهادة المرحوم خليل عتباني مدير شركة الإعلانات ومطبعة التمدن. غير أن هذا النجاح كان بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير في علاقتي مع إدارة المشروع لأنه اقترن بأحياء مجالس القرى التي أصبح كل مجلس منها وكيلا للصحيفة مقابل عمولة سخية جدا. وكانت سياسة إدارة المشروع تقوم على تكسير قوائم مجالس القرى وحرمانها من التطور حتى لا تحل في آخر المطاف كما نص قانون التأميم مكان مفتشي الغيط. ويعني ذلك بالطبع الاستغناء عنهم إلى الأبد. على أية حال تركت الجزيرة مغلوبا على أمري ولا تزال ترن في أذني كلمات حكيم الجزيرة وهو يودعني على رصيف محطة ود مدني: (الليث لا يعدم فريسته أنى ذهب).. واكتشفت بعد ذلك بسنوات أنها مقولة منسوبة للسيد جمال الدين الأفغاني. وليس مستغربا أن تصدر مثل هذه العبارة من شيخ الوالي حكيم الجزيرة فمكتبته في فداسي زاخرة بأمهات الكتب التي تحكي قصة البعث الإسلامي على يد الأفغاني والإمام محمد عبده وحوارييهما، ولو كان شيخ الوالي في غير السودان - مقبرة العباقرة - لكان له شأن مثلهم أو أكبر، وأرجو أن تسنح لي الفرصة لأكتب عنه المزيد في مقبل الأيام. وقد أثار اكباري وإعجابي وأنا أكتب هذه السطور خبر عابر مفاده أن الفريق عبدالرحمن سر الختم، والي الجزيرة، اقتلع اللوحة من شارع رئيسي في مدينة مدني أطلق عليه اسمه دون علمه، وهو جدير بمثل هذا التكريم، ولكن ليته عندما اقتلع اللوحة وضع مكانها لوحة أخرى عليها اسم محمد عبدالله الوالي حكيم الجزيرة الذي أوقف حياته فكرا وقلما وعملا من أجل السودان كله لا الجزيرة وحدها. وما أجدر أهل العطاء بالوفاء. رحم الله الشيخ محمد عبدالله الوالي وأسكنه فسيح جناته مع الشهداء والصديقين. محمد خيرالبدوي