هنا فداسي

Quote: خاطرة بمناسبة مقال شقيقي إسحق بله بعنوان(حكمة وبعد نظر) وكأنه يعنيني بذلك ) أنا من ضيع في الجغاريف عمره وصلت لعملى باكرا هذا الصباح، وفيما عدا همس التكييف المركزي الذي ينسرب كفحيح الأفاعي، سكون تام . تجولت ببصرى في أرجاء الصالة الفسيحة، الفوضى تعم المكان، الجدران الناصعة البياض تحولت الى لون كالح ما بين البنى والرمادى، أرتال من الأوراق والملفات ضاقت بها الخزائن، النباتات التى كانت مصدرا للزينة جفت وتناثرت أوراقها هنا وهناك وأضحت مصدرا للازعاج، بساط الأرضية إهترأ وتغطى بالغبار، إذ لم يتجدد طيلة السنوات العشر التى قضيتها في هذا المكان. أحسست بالاختناق وكى لا أصاب بالإغماء، أرخيت من ربطة عنقى قليلا وشهقت ملء رئتي لأسمح لمزيد من الأكسجين بالمرور لتنشيط الدورة الدموية، وفي محاولة للسيطرة على حالة إعتلال المزاج هذه، أدرت جهاز الكمبيوتر، ووجدتنى أعبث بلوحة المفاتيح كيفما إتفق لتزجية الوقت الى حين وصول الزملاء. ك م ن ت ،، ش س ي ب ،، ك م ن ت ،، ش س ي ب ،، ك م ن ت وبينهما يرقد في سلام حرفي الألف واللام. رشفت رشفتين من قهوة جيدة الصنع ومن ثم إنتقلت للعبث من جديد، والعبث بلوحة المفاتيح هذه أصبح عادة، وعندما لا يكون هناك أى شىء معد للطباعة، أشعر بخدر شديد وتنميل فى أطراف أصابعى، كالمدمن ، ولا بد من تنشيط هذه الأنامل بهذا العبث الذى أجد فيه لذة تفوق فرح صغير بلعبته الجديدة، إذ غالبا ما يقودنى لفكرة ما. صفحة بيضاء ممتدة ، وإمكانيات هائلة يزخر بها برامج الورد حيث يمكنك الإختيار ما بين عشرات الخطوط ومئات الألوان والأحجام ومختلف الجداول والرسومات، وموهبة من عند الله فى الطباعة إذ تتنقل أصابعى بين أزرار هذه اللوحة فى خفة ورشاقة يحسدنى عليها عازفو البيانو وأصحاب المغازل البلدية. كلها إغراءت بالكتابة ولكن ماذا أكتب، والذهن خامل والإحساس متبلد، ويكفى أن تعرف إننا فى فصل صيف نجدي بمدينة الرياض بوسط صحراء الربع الخالى، تلك المدينة المسكونة بوهج الشمس. رشفتين أخريين فالقهوة "تركية" والخلطة سرية من "محمصة الستين" أشهر محامص مدينة الرياض، والصانع "عم طه" الذى يعمل فى بوفيه الشركة منذ عشرين عاما ونيف، وبمجرد إرتشافها تتسرب لخلايا المخ، وفى ثوان معدودات تحس بدقدقة ما فى تجويف الرأس مما يؤكد لك أن المخ ما زال فى تعسيله صباحية كتلك التى تسبق الاستعداد ليوم عمل شاق. رشفة أخرى أردفتها بنفس عميق من سيجارة دسمة ماركة " بنسون أند هدجيز " علها تحرك ساكنا ولكن دونما فائدة، فما زلت أشعر بالدوار واتثآءب ملء شدقى كأننى أريد أن أبتلع أسدا وأتمطى حتى يحدث الكرسى الذى أجلس عليه صريرا كباب صدئت مفاصله. ويتواصل العبث بلوحة المفاتيح: ك م ن ت ،، ش س ي ب ،، ك م ن ت ،، ش س ي ب ،، ك م ن ت هذه هي حروف الارتكاز التى علموني إياها بمعهد أمدرمان للسكرتارية عند التحاقي بدورة لتعلم الضرب على الآلة الكاتبة في صيف عام 1979م. وكان لتعلمي لهذه الآلة قصة لا تخلو من طرافة. فبعد تخرجي وحصولى على درجة الليسانس من قسم الجغرافيا بكلية الآداب جامعة الإسكندرية في عام ثمانية وسبعين وتسعمائة وألف، نجحت في السفر للمملكة بحثا عن عمل إذ نما لعلمى أن فرص العمل هناك متوفرة "على أفا من يشيل" على قول أهلنا المصريين، حيث كانت الطفرة في أوجها والبنية الأساسية في طور البناء، ومن ناحية أخرى كانت الشهادة الجامعية في ذلك الزمن تحمل كل معناها ولم تفقد بعد الكثير من دلالتها. في الصباح الباكر إتشحت أجمل ما لدى من ثياب وتعطرت وتحسست ربطة عنقي قبل أن أبدأ رحلة البحث. خلال تجوالي لفت نظري الأعداد الغفيرة للمهاجرين من شتى بقاع الأرض يملأون الطرقات الأمر الذى غمرنى بالتفاؤل وحدثت نفسى بأنه ما دام توفرت فرص العمل لمثل هؤلاء الأميين الأعاجم، فما بال الحال بالنسبة لى أنا الجامعى. ولجت أحد المبانى شدتنى اليه فخامته وروعة تصميمه، والمبنى يتألف من ثمانية طوابق، وفى مدخله ثبتت لافته أنيقة تبين بجلاء أسماء الشركات وتحدد الطوابق وأرقام الشقق التي تحتلها كل شركة، أفرطت في التفاؤل وقلت في نفسى أن هذا من حسن الطالع، فتجمع الشركات بهذا الشكل سيوفر على كثيرا من العناء وسيتيح لي إمكانية إنتقاء الشركة التى أريد ومن بين الوظائف ما أرغب. دلفت في الشقة رقم "4" بالطابق الأول إذ حددت سلفا وأنا أمام لوحة المدخل الشركات التى يروقنى العمل بها . السلام عليكم ،،، وكتفى تكاد أن تنخلع من ثقل السامسونيت المحشوة بالشهادات والمراجع من أمهات الجغاريف. وعليكم السلام أبحث عن وظيفة ويش مؤهلاتك؟ وفى خيلاء أعدل من ربطة عنقى ليسانس جغرافيا القنبلة الذرية التى ستحيل قنبلة هوروشيما الى مذبلة التاريخ. ويش الجغرافيا هادى؟ ذهلت !!! وإستنكرت على محدثى مثل هذا الإستخفاف، إذ كيف يعقل لرجل في مثل هندامه أن يسأل عن أم العلوم، وإنبريت ألقى عليه خطبة عصماء عن الجغاريف، فالجغرافيا كما يعرفها أستاذنا يسرى الجهرى هي : علم جامع يحوى من كل بحر قطرة ومن كل بستان زهرة ومن كل فضاء نسمة، لذا يطلق عليها أم العلوم، فهى " تعنى بالطبيعة من سهول ووديان وجبال وهضاب وبحيرات وأنهار وبحار ومحيطات. كما تعنى بالمناخ من حرارة وتوزيع لمراكز الضغط وما يتبع ذلك من حركة الرياح وسقوط الأمطار وتوزيع السكان والنبات والحيوان على سطح الأرض. كما تهتم بالعمران والاقتصاد والسياسة، وتعنى بالفلك ورصد حركة النجوم والمجرات وتحديد مواقع الأمكنة والاتجاهات الأصلية والفرعية وفروقات الوقت مستعينة في ذلك بشبكة خطوط الطول والعرض. ويتواصل الحوار ،،، تعرف تطبع؟ لا ،،، ثم تنتهى المقابلة. وفى الشقة رقم "7" بالطابق الثاني يتكرر الموال ،،، صباح الخير صباح النور يأخى ببحث عن وظيفة ايش تشتغل؟ وهنا حيرة أخرى فعندما التحقت بهذا التخصص لم أسأل نفسى قط هذا السؤال وكان كل همى أن أدرس وحسب وكنت أجهل كل الجهل بسوق العمل ومتطلباته، وأجبته دونما مبالاة، موظف موظف أيش؟ أى وظيفة كتابية، أو إدارية. ويش مؤهلاتك؟ ليسانس جغرافيا ويش الجغرافيا؟ وأعيد الكرة من جديد، الجغرافيا هى علم يعنى ب ( ......... ) وتوزيع مراكز الضغط المرتفع والمنخفض ،،، وخط غرينيتش والاستواء ،،، ومدار الجدى والسرطان والمحيط الأطلنطى والمتجمد الشمالى ،،، وهضبة التبت وصحراء النفود ،،، ونهر اليانج تسى كيانج ودلتا نهر الميكونج ،،، ( تخصص عُقد ). ويختصرنى صاحب العمل ايش الطلاسم هادى !!! تعرف تطبع؟ لا ،،، ثم ،،، لففت البناية بطوابقها الثمانية، وعندما دب اليأس فى نفسى أضفت لقائمة إختياراتى كل الشركات التى إستبعدتها فى البدء، ثم ولجت البناية المجاورة ثم الثالثة والعاشرة وإنتقلت للجهة الأخرى من المدينة،،، دون جدوى، وتكررت نفس الأسئلة ونفس الإجابات أينما حللت وأخيرا وصلت لقناعة تامة أنه بدون تعلم هذه الطباعة اللعينة، لا جدوى من الاستمرار في البحث. كما وصلت لحقيقة هامة مفادها إن هذا التخصص وغيره من التخصصات الهلامية لا طائل منها بسوق العمل، إذ لا يتعدى نطاقه أروقة الجامعات وأذهان أساتذتى دكتور حسن أبو العينين ودكتور فهمى هلالى أبو العطا. وكردة فعل طبيعية لتلك الخيبة، كان أول ما فكرت فيه عند إيابى للسودان، هو تعلم هذه الآلة السحرية. والشهادة لله إن الطباعة التى أتقنتها خلال شهر واحد فقط كانت أجدى من ثمانية عشرة عاما ضيعتها بين أروقة المدارس والجامعات، وكانت ولا تزال المفتاح السحرى لأى وظيفة تقلدتها أو سأتقلدها في المستقبل لا سيما وأننى عتقتها بتعلم العزف على الكمبيوتر وسأضمخها قريبا بإتقان فنون السياحة عبر شبكات الإنترنت. وأنا من ضيع فى الجغاريف عمره. أحمد البشير بله خريـج جغرافيا 1979