هنا فداسي

من زوايا النفس (2 ): حديث في أذن هيثم بابكر
مداخل:
o "لو تأملنا وأمعنا النظر فيمن حولنا لوجدنا كثيراً من الأسرار التي لا يفطن إليها كثير من الناس، ولله في خلقه شئون.
( إسحاق بله 20 نوفمبر 2006م، عن مقاله في الفكي محمد ود الشيخ ).
o ثم وجدتني أكرر نشر رسالة بريدية بعثتها للأخ أبي البشرى في Saturday, March 22, 2003 11:22 AM ، وآخر مشهد كان على مدخل داخليات رضا حية ميتة، ليتني دفنتها.. ليتني كنت أعلم أن دفن الحية ستر للجني المتلبس بها، ولو فعلت لكنت اليوم في مغنم مادي يعسر تحقيقه بالاغتراب، ولما قصّر الجني معي أبداً وبعض الخير معهود منهم في مثل تلك الحالات كما يدعي بعض المتنطعة أو الحالمون أمثالي، ولعله تفضل علي بموهبة سبر الأغوار والاتصال بالأجيال فلا يبرح الماضي خيالك في صوره المختلفات المركبات. وهل جربت – أخي أبي - استرجاع الماضي بكامل هيئته أو شيئاً من ذلك؟! .. والشعراء دائماً مغرمون بذلك وفيهم من يلتمس له الخمر وما هي عن الجني الذي كنا نروم بمسعى بعيد .. أم ترى أنا في تبديد الأماني وتفويت المغانم شر مكان وأضل سبيلاً ؟!
ما شأنك بالغابرين وما جدوى الأوبة والقفز فوق حقب السنين ؟؟
عم تبحث ؟!
عن خلود وتلظي بنير السالفين ؟ الله .. الله من زمانهم وذكراهم وحر السنين .. وكيف لمثلي ومثلك بإطلالة لإرثهم دون غلو وتمادي إذ نحن السالكون دروبهم وما نزال نقايض بضاعة الحاضر المزجاة ببضاعة قوم خلصوا من دنيانا بالقضاء لا بالأقدار، فمن شحذ مدية القضاء ليجتز لحمة القدر إلا إيانا.. ومن يبكي الخطيئة إلا سوانا.. بالشعر صوغنا المعاني وما ساغ لنا من شراب ، وسنظل نسترجع الذكرى بلا جدوى غير رجع أصداء.
الأخ / هيثم بابكر،،
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، دخلت بها داركم أول مرة لأجالس بها أباك برفقة عمي وأخي محمد المبارك، في العام 1972م، وبيدنا مجموعة ال9 للواثق: " أم درمان تُحْتَضرُ"،وأنا يومئذ بالمرحلة الثانوية بحنتوب، ومحمد المبارك طالب لغة فرنسية لبضعة أيام بكلية الآداب، بجامعة الخرطوم. وقبل هذا اللقاء كان الأستاذ الوالد يقدم لي جائزة سباق الليمون في احتفالات عيد الثورة على عهد الفريق إبراهيم عبود، من العام 1962م، وكانت جائزته " علبة فرته و يسمونها الآن الأناناس، فكانت الجائزة الأولى والأخيرة التي تلقيتها في حياتي وحتى يومنا هذا، فما أعظم شأنها وأعجبه!! وما بين اللقاءين عقد زماني كامل، ومن قبل ذلك كانت الحدبة مكاناً جد أثير لنا؛ نذهب إليه عند حضور أولاد يس من الغرب ( النهود وغيره)، وبرفقة عبد اللطيف الصادق لزيارة رهطه من أولاد الإمام، وأهل حاجة عشة بت الدرديري، ونذهب إليه لتقديم الغنم لدكة السنوسني ( السنوسي)، ونذهب إليه برفقه الجيلي السماني، ومبارك حسين، ومحمد توم ( جكسا)، ومدثر الخير، ومصطفى حسين، وبقية فريق المسيد، ومكان الملعب هو ملعب الهلال( الحدبة) السابق، وكان على مقربة من الدكة، وفابريقة فداسي الأولى ،التي سيأتي ذكرها عرضاً في أجزاء هذه الكلمة.

فلك مني رد السلام، والتحية والكفارة، ومثال كرسي الشيخين، وملائكة الرحمة البشرية التي تحمله، وفيض العلم، وبركة تقبيل يد الشيخ، ذاك من سحر البيان الذي سبحت في فلكوته سبحاً سبحاً، ومن عجيب الأمر أنه تشبيه فاخر ومنتخب انتخابك لتحية جاءت في أحدى رسائلك في 30 أكتوبر 2006م عبر هذا المنتدى، لأخيك مكسب مفتتحاً ومحيياً بها: " لك يا فداسي في الدواخل صورة .. ، ولك يا مدينة ألف تحية ". هي المدينة المنورة بلا شك ، وعلى ساكنها أفضل الصلاة وأزكى السلام، ولشد ما اعتملت مواجع الوجد في جوانح الأزهري، وطار شوقاً للمدينة بصورة نمت في فؤاده فإذا هي وجه يُصححُ به العينُ، وما أبعد تصيد المعنى ولم يرم به محض مطابقة الصورة المتخلية مع الحقيقة، بل حشد الشاخص وشحنه بنبض القلوب: "لك يا مدنية في الجوانح صورة جلت القلوب لنا مرآك "، وجلاء المرآي لا تفعله إلا السيول الهوادر للطلول الدوارس، و القلب الملتاع والمشاعر الجياشة أدعى في التعبير عما سواها.
ولقد ذهب المتنبي الشوط البعيد نفسه في كلمته ( لك يا منازل في القلوب منازل أغفرت أنت وهن منك أواهل )، ما أشد ما حَملتّ المشاهد من حس ووجد، أكاد أجزم أن الذي أودعت فيها لتنوء به عما قليل ( وإذا حمًلت ذا الشف ظلع)، وعندنا المحمولة عرجاء، إلا أن صاحبك أبا المكاسب ما يزال بعيداً عن الظلع، ولكنه ثمَ قريب.
o وقفة تأملية مع كلمة لهيثم في الصفحة الرابعة من هذا المنبر، حيث يقول: " أقف وأنا أتجاوز الزمن حتى لا أقع في حفرة خور ناس التاج يوسف وبت حمدان لكنى استرسل حينما أرى وساع المكان ، وآثار التمدن والتحضر ، وتحتويني كارو حجاجى لأسير برفق ليس كما يسير حصان حجاجى . وحماراً مكجول اتخذ من الموقع سكناً ، كنا نظنه شيطانا لكنه كان حمارا ولوفا".. ، أما أشهر الحمر المكلوجة على الإطلاق فهو حمار حسن ود فارس، ولم يكن المشوار الذي يقطع يومياً حتى حواشته، التي على تقع على مرمى حجر من "السوار وقع القديمة"، بالمشوار القصير، وقد تداخلت الأرجل الخلفية واختلفت وخضبتها الدماء ، وما يزال وهجها يلتمع في ناظريك المدى الطويل وقد فارقت الساحة، فلا الدابة اشتكت ولا صاحبها ملَ طول الرحلة والطريق. ثم انطوى ما كان كالبريق، وجاء مساقطو الرؤى " لك يا مدينة في ..." بأشواقهم الدافقة لعصر نهضة جديد، ما أصعب ما ينتظرون، فما ينتظرون من واقع منقب العينين؟ ومن لا ير للحسناء عيناً فهل يُعدّ من الناظرين؟! ما الذي دعا صاحبنا واضطره لذلك؟ وإنها لمهمة صعبة للغاية أن تبحث عن المعنى والمفهوم والحس؛ لتستنطق الحجارة، والدروب ودفء أشعتها، أراك مُعنىً باستنهاض الصور، واستجلاء أمرها بمعنى أفضل مما قد سلف، وبقوة أكبر مما يخبئ كائنها يومئذ، وكأني بك تستنجد بهم : "ءاتوني زبر الحديد" .."ءاتوني أفرغ عليه قطرا" ، فما أجابك من أزقتها الضيقة إلا أصوات وجلبة "صاحب السندان الماكضب"، وفزًعك لفح البرد القارس وما اصطلاك إذ ْ أنت تتصيده بعين نصف مغمضة كأنما تستله من " رقراق الشمس"، وصوت الجلبة الذي ما يزال يرن في مخيلتك حتى نهاية الطريق، ثم خبت الأصوات، وكدت تعبر الطريق ل"تتجاوز الزمن"، والرحلة امتدت في عينيك خطوطاً باهتةً تلامس الذاكرة حيناً، وحيناً تغور، وقد تخالطها أخيلة من صور شتى مُنعّمة بنشوة الفرح المجنح، وأخرى تتماهى من بين أشرعة القتام ثم تموت في ذر الغبار، ثم غفل صاحبنا راجعاً القهقرى، وهو يحسب أنه يتقدم إلى الأمام؛ يا لها من طرقٍ تفضي للبداية أبداً!! وكأن لسان حاله كان يردد:
يغلبني الشوق فأطوي السرى .......... ولم يزل ذو الشوق مغلوباً
والتمست الطريق نفسه، وأنا أعبر الحائط الزمني السميك ما بين سني الطفولة الأولى ما بين دكة السنوسي، وملاعب الصبا، وزيارة العائدين من الأهل، وقد نعطى قطعة الحلوى وخلافها، وقد نلتمسها من دكان ود التاي، واحتميت بطريقتك التذكرية والاسقاطية في تعريفك للمعالم بالصورة القلبية: " لك يا مدينة صورة.. " أو فيما ابتدعت، وتزودتُ بكل هذا، لعلي أرسم صورة أوضح مما عهدت في المرائي، أرى ذاك الزقاق، أو لعل صورة الفتي من خلل الدخان تطفر وتستقر في مخيلته لتبدد ملامح المجهول مما كان يتوجب علمه وإن لم ترسم الأيام صورته من قبل. لكن أمراً كان يلح علي بشدة:أن الافتتان بالصور يثقب الذاكرة ويشد الأوتار دون هوادة وكأنها تؤدي اللحن الأخير، كما وأن الرسم بالكلمات، كانت لي معه تجربة حزينة، وقد سمعت أذناي، قبل أن أستعير أذن عمي وأخي محمد المبارك، صوتاً كأنما هو نبع القرارة:
"حملتُ قيثارة السلوان تصحبني عسى يُفرّج بعض الكربة النغمُ
على طوافي بها لم تستكن حُرَقي لا ينتهي العزف حتى يرجع الألم"
فكان ذاك صوت الأستاذ / بابكر يوسف، في تلك الجلسة الخالدة من عام 1972، فقلنا له حسبك. فهل يتمادي الدكتور، من طريق ابنه الهيثم، ليكمل لنا قصيدة الواثق بلسان مقطوع من فداسي. هوناً .. هونا .. فو الله ما بنا طاقة، ولا معين مما أنتم منه تتزودون. وخطر لي فجأة أن أهلنا من الحدبة، وبذائقتهم العجيبة تلك، ربما أُورِثُوها من كثرة الترحال، أو ضرب الصنائع التي اختاروها، قد أفضت بهم لصناعة المعاني وفبركتها، كما يفبرك الحديد فبركة fabrication ) )، وما إشارة الهيثم لصاحبه السمكري إلا شيء من ذاك كما لا يخفي. ومهما يكن من أمر فإن الفبركة بالمعنى القريب للأذن والعقل لتقرب شيئاً من معنى الرياء، وفي الأثر قالوا : رياء العارفين أفضل من إخلاص المريدين ( الرسالة القشيرية، باب الإرادة)، وقد سحرونا حقاً بأعمالهم، ولهم قصب السبق، ورضينا .. رضينا بإرادة المبتدئ، وعزم "أم قريدون" إذْ لا سبيل للتناطح ، وطلب المستحيل قبل أن تشيب الغرابيب،إن لم تكن قد شابت فعلاً فهذا أوانها كما حدث يحيى حديث دجاجة أولاد يس التي تخط الجواب. تُراني أحسن التصديق !! فهل هذه يا هيثم حقيقة أم هي بدع ابن الطالباب يحيى، أم جرائد الشعراني عبد الوهاب؟ وسئل عنها العارفين، وحتماً قد صوروا الغراب ساعة هو يشيب. وذاك ما لم أحدثك به، وقد قيل في مسيرة الحرامي من بيت ود دفع السيد مروراً بدكان ود قدوم وحتى ساعة لقائهم بشيخ الحلة "عبد القا..."،ولو تحللنا من يحيى و"الشعر" فمن ينجنا من فبركة الهيثم وأشواطه في أثر السمكري ومن لف لفهم ، وأن أخشى ما أخشاه أن ينبري لنا الساعة أي أحد من أصلاب أعظم فباركة الحدبة أو من جاورهم، بما يصورون به أو يتوسلون به للقلوب والأنفس، ودونك من رهط "ود النقي " فحول نعرف ونتقي ، ومن قبلهم آل ذي الحرفية والمقال "آل تكنة وحسن التوم" ، ومن لا يشق له الغبار من آل حسب ربه عليك بهم،وأبدأ إن شئت بالترح محمد، وهو زميل دراسي قديم، أعرفه وأعرف حكايته، فهل يعرف الناس نبأه وحلاوة لسانه؟ وعلى حد قولهم : "والله نحنا الكلام دا ما في زول بعرف يرصوا زينا " وهم نفر – يا صاحبي- تخصصوا في هذا الضرب تخصص قصاص الأتر في الموية، .......................... ( البقية في الرسالة القادمة إن شاء الله)، ثم هناك تعليق على:
o العرج الاجتماعي ودلالته في الكلمة الانجليزية التي ابتسر منها، شأنها شأن كل ترجمة سمعة من كلمة causality والتحريف فيها واضح.
o قاتل الله البرادعي
o زقاق ديوان الحوش ( صلحة وتصالح، أبعد بعيد!)
o كرسي سوبا وأيام باصرو
ولك مني خالص التحية، ولصديقك أبي المكاسب مثلها أضعافاً مضاعفة، ولله دره من فارس، وكأني بكما تريدان بي أمراً، وقد ارتخت قبضة اليد، وكثرت التعاريج والمزالق والمتاهات.
محمد حسن خضر
الرياض 25 نوفمبر 2006م