هنا فداسي

وفاء نادر

كان يعمل بالتجارة والزراعة معاً في مدينة كانت في يوم من الأيام مركزاً كبيراً للمحاصيل والحبوب. أمضى في تلك المدينة سنوات طويلة وصار واحداً من أهلها الذين أحبوه وأحبهم، ولما تقدم به العمر عاد إلى بلدته ليقضي ما بقي من حياته مع أهله، إلا أن صلته بأهل تلك المدينة لم تنقطع وكان يواصلهم في أفراحهم وأتراحهم.

لم ينس مطلقاً تلك الفترة الجميلة التي قضاها في تلك المدينة، وكانت سيرة أهل تلك المدينة دائماً على لسانه، بل أصبحت ينبوعاً لذكرياته التي لا يفتأ يذكرها ويعيش على ذكراها. لم يقعده المرض عن مواصلة أهل تلك المدينة وكان يزورهم من وقت لآخر. ولما مرض واشتد به المرض، زاره نفر كريم من أولئك الناس الطيبين الذين لم ير مثلهم في العشرة الطيبة والصداقة الحميمة. وعندما سمعوا بوفاته جاءوا باكيين لتقديم العزاء لأهله، ومنهم من أمضى معهم أيام العزاء الثلاثة.

بعد مرور سبعة عشر يوماً من وفاته أتى إلى أهله رجلان وامرأتان لتقديم العزاء فيه بعد أن سمعوا خبر وفاته عبر الإذاعة ومضوا مع أهله ثلاثة أيام. وعند سفرهم في صبيحة اليوم الرابع قال أحدهم مخاطباً الحضور:
" الزول لامن يلمك بيهو مخلط وهو لا ولد عمك ولا ولد أبوك، والمكروب يفك كربته ، والنسوان يزيل العوج اللي بيهم ، دحين زول زي دا يكون خلى ليك حاجة؟ فأجاب الجميع لا ، فقال لهم دا أبوكم كان عندنا كدا، وما تقولوا نحنا جيناكم متأخرين، نحنا فرشنا وبكينا ونسوانا فرشوا وبكوا حتين جيناكم. فأجهشوا بالبكاء"

فلعلكم تستغربون إذا علمتم أن وفاة ذلك الرجل كانت في أوائل الثمانينات وأنه ترك تلك المدينة في أواخر الخمسينات، فبالرغم من الفارق الزمي الكبير، إلا أن العشرة لم تهن على هؤلاء الناس الطيبين الأوفياء، ولم ينسوا جميل ذلك الرجل وحسن صنيعه، فكانوا رمزاً للوفاء النادر، وكان ذلك الرجل مثالاً للعشرة الطيبة والسيرة الحسنة وعمل الخير الذي يجني صاحبه ثمرته في الدنيا قبل الآخرة ويقف خير شاهد له.