هنا فداسي

تخرَّج في كلية الهندسة بدرجة امتياز، ونجح مهنيًّا على مستوى الممارسة، حتى أصبح اسمه على أفواه كل الناس، ذاع صيته مهندسًا بارعًا وموفقًا ذي خيال خصب، وأنامل مبدعة، وأفكار متجدِّدة على الدوام، أشارت إليه الأصابع بالإعجاب والتقدير.. شبَّ ابنه على نهجه مفتونًا بدراسة الهندسة، وكان يرى في أبيه مثالاً نادرًا على النجاح والتوفيق، تطلَّع إلى الشهرة، تاقت نفسه إلى أن يكون مهندسًا لامعًا تتخطفه بيوتات الخبرة، ولكن..! ولكن ماذا؟ عزَّ على الأب أن يتخرج الابن مهندسًا، لا يريده مقتفيًا لأثره يستتبع خطاه، يريده (نطاسًا) قديرًا شهيرًا، جرَّاحًَا ماهرًا.. ذلك أن سوق العمل الآن يدَّخر امتيازاته للأطباء ويفتح أمامهم نوافذ النجاح والحياة اليسيرة الرغدة، فدخلُ الطبيب في اليوم الواحد تنوء بحمله الموازين وتكاد تتجشأه الخزائن.. فما نفع الهندسة التي يكاد يقتصر بريقها على (راتب) شهري من الدولة، أو بعض الاستشارات التي قد لا تكفي (بُلغَة) عيش.. ازداد ضغط الأب.. تململ الابن، حاول التمرد على إملاءات أبيه، ناقشه على استحياء، اعترض بأدب جم، تبرََّّم، تذمَّر، غير أن كل هذا لم يُفلح في إقناع والده؛ فاستسلم أخيراً لإرادته، وأذعن راغمًا لرغبته، بل لـ (جبروته).. التحق بكلية الطب وتخرج بامتياز؛ غير أنه أقسم ألاَّ يمارس الطب مهنةً على الإطلاق، وبالفعل شكَّلت له معاهد التدريب على الحاسب متنفسًا وسلوى، فلا يكاد يكمل دورة حتي ينخرط في أخرى، ووجد ملاذًا في مجال الحاسبات والإنترنت، تفوق فيهما.. عمل ميدانيًّا في هذا المجال بصمت، أكبَّ على عمله بنفس كسيرة، ولذا كانت درجة علاقاته مع زملائه (تحت الصفر)، أحس ـ بعد مدة ـ بأحزانه القديمة تتداعى وتتجدَّد، وتحوَّلت علاقته مع شاشات الحواسيب وكأنها علاقة إكراه، أو حبِّ ميِّت. سيطرت عليه مشاعر الكآبة؛ فعزل نفسه وانكفأ عليها يجترُّ طموحات موؤودة.. حقيقة لم يَعُقّ الابن أباه؛ بل أعاقه أبوه، فأصبح كومة محطَّمة.. كائنًا معوقًا أكاديميًّا ونفسيًّا!!
السؤال: لماذا يحاول بعض الآباء إملاء رؤاهم وطموحاتهم على أبنائهم؟ الابن ليس خارطة إسكانية أو رسمًا بيانيًا يُشكِّله الأب كيف يشاء، ولا مختبرًا؛ إن لم يكن (حيوان تجارب) يُجري عليه تجاربه التي يٌحاول من خلالها صناعة مستقبله العلمي والعملي!! إنه ـ بالطبع ـ شخصية مستقلة، بعقل وتفكير، ويملك استعدادًا للاستئناس بآراء والديه، والاستنارة بطروحاتهما دون أن يمليا عليه ما يريدان، إنه على استعداد لـ (الطاعة) إذا اقتنع بما يُُطرح عليه، ولـ (النفور) إذا أُكره على شيء يُصادم رغباته.
لقد تغيَّرت ظروف الحياة مع تداعيات علوم الاتصال وتدفق المعلومات، واتسعت مدارك الأبناء وتعمَّقت مفاهيمهم حول محيطهم والمجتمع من حولهم، وأَسْهَمَ هذا المحيط في صياغة عقولهم والانتقال بها إلى مستوى النضج المبكر، ولذا على الأب إدراك أن ابنه ليس ملكية خاصة يصوغه كيف يشاء، ولا كراسة يدوِّن عليها مذكراته وآماله وأحلامه في الحياة، إذ لا بد له من إشراك المجتمع في هذه التنشئة بما يتوافق مع إمكانات ابنه وميوله واستعداده النفسي والعقلي. والوعي بحاجات الابن أمر في غاية الأهمية، والـ(لاءات) التي تصدر عنه؛ ليست في كل الأحوال أمرًا سالبًا يستوجب العقاب، وإنما يجب التعامل معها بعمق وبأناة وروية، ومحاولة النفاذ إلى أعماقها لمعرفة أسبابها وبدائلها، وحوار الأبناء ومناقشتهم يعد وسيلة مثلى في إعدادهم وتنشئتهم على النهج القويم، وفي بنائهم العقلي والنفسي. وللاباء أن يسترشدوا باللفتات التربوية العظيمة الواردة في القرآن الكريم؛ فالتربية رسالة عظيمة، ووظيفة اجتماعية سامية.. وفي الهدي النبوي الشريف ما يكفينا مؤونة الاجتهاد القائم على غير علم ووعي، ومن يستهدي بالسُّنة يضمن سلامة نشأة أبنائه، ومن يجانبها اعتمادًا على فلسفة (الاستحواذ) أو على سياسة (الملكية الخاصة)؛ يحولهم إلى مسخ، أو ـ على الأقل ـ إلى صورة طبق الأصل أحيانًا، أو مهتزة ومشوشة وغائمة الظلال (باهتة التركيز Out Of Focus) أحيانًا أخرى. أبناؤنا فلذات أكبادنا، حبَّات قلوبنا؛ فلا يجب أن تغلبنا أنانيتنا فنفرض أنفسنا عليهم ليصبحوا كالقائلين: إنا وجدنا أباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون، فليس من حق الأب أن يتعنَّت في صناعة مستقبل ابنه دون اكتراث لميوله وتطلعاته.. ويجب ألا يشغله ـ في الوقت ذاته ـ حبُّه له عن الإسهام في صياغته فكريًّا وتربويًّا.. فالغفلة الكاملة عنهم ستجعلهم نهبًا لإغراءات العصر وأهوائه.. احترام عقل الابن، والتوازن في تنشئته وتربيته يصنعان منه شخصية سويَّة قادرة على التفكير المستقل واتخاذ القرار المناسب الذي لا يصادم طموحات الأسرة والمجتمع.
إبراهيم الصافي

الأخ أبو أحمد.. سند الله ظهرك بعلمك، وشد أزرك بهمَّتك

هذه قصة واقعية، أو لنقل واقعة حقيقية.. شخوصها من إحدى الأسر المرموقة في قريتنا الحبيية، وقد كتبتها قبل فترة على غير هذا النهج، إذ كانت في البداية حول استنساخ الأبناء، أي أن يشب الابن على غرار أبيه تعليمًا وتخصصًا وزواجًا.. يستنسخ الأب ابنه في كل أحواله، ولا يترك له مجالاً للفكاك من اختياراته ورغباته، وتعمدت كتابتها ـ آنذاك ـ على هذا النحو حتى لا يتعرف أحد على شخصياتها المحورية.. أما الآن فتظهر كما وقعت بعد أن أدخلت عليه بعض التعديلات والتحويرات التي تُقرِّبها من واقعيتها، ذلك أن الأب لا يريد لابنه أن ينسج على منواله فيدرس التخصص نفسه، باعتبار أنه خَبِرَهُ وعرف منعرجاته وساحاته المظلم منها والمضيء.. ولذلك فهو لا يجد بُدًّا في أن يتدخل لتحديد تخصصه، وتفصيل مهنته، وإن أمكن زوجته.. ولكن ـ والحمد لله ـ فقد أذاب الوعي المتنامي في (فداسينا) كثيرًا من هذه السمات التي كانت تشكل خطرًا على تنمية ملكة التفكير عند الابناء وقدرتهم على اتخاذ القرار المنفصل والخاص مع حرصهم على الاستنارة برأي الكبير والاستهداء باستشارات العقلاء..
بيني وبينك:
وردت هذه العبارة في ردك على سناء: "لهذا قلت لك في رسالتي السابقة " أنني أشد من أزركما "، فشد الإزار يعني التهيؤ للعمل بالجد والاجتهاد..) فهل الأزر والإزار يحملان المعنى نفسه؟ هذا مجرد استفسار فأنت من بحور اللغة..
الزعيم