حتّى لا ندفن هذا الوطن الحزين

كنت أعتقد أنّ روحي وروح الكتابة فيني قد تمّ إغتيالها ، وأنّ الحروف قد غادرت عالمي إلى غير رجعة ، غير أن فاجعة فقد شمس الأمل التي بدأت تسطع في وطننا الجريح تعيس الحظ ، والأحداث التي تلت ذاك الخبر المؤسف ، وأخيراً ماترتّب على هذه الأحداث من ردود أفعال تفتقد في معظمها للنظرة العاقلة .. كلّ هذا جعلني أعود بعد الإحباط الذي تملّكني لفقد الدكتور جون قرنق ، الرجل الذي جاء يحمل فانوساً سحريّاً كان بلا شك سيحقّق آمالاً عريضةً لأمّةٍ عريضة إنتظرته طويلاً .

هي دعوة للنظرة إلى الأمور بعين المنطق والتفهّم للظروف ، وبلا أنانيّة وإنجراف وراء لغةٍ ومنطق قد يتسبّبا في إغتيال ماتبقّى من آمال في فرصة التعايش السلمي في وطن هو من حقّ كل بناته وأبنائه بمختلف توجّهاتهم/ن ، أعراقهم/ن ، ألوانهم/ن ، معتقداتهم/ن أو أجناسهم/ن .

كلّنا نعلم إن نظرنا بالطبع للأمور بشفافيّة وصدق ودون أنانيّة وتحيّز ، كلّنا نعلم ماعاناه شعب جنوب السودان وبعض أقاليم السودان الأخرى منذ أمدٍ بعيد من تقصيرٍ وظلمٍ فادح تمثّل في إهمال كل الحكومات التي توافدت على البلاد والتي كانت جميعها حكومات شماليّة ، إهمالها التام لهذا الجزء من الوطن ، ممّا تسبّب في إنتشار الجهل ، الفقر ، الأمراض والمجاعات ..

قاسى هذا الشعب الطيّب وعانى أيّما معاناة ، وظلّ صابراً ومتحمّلاً كل المصائب تباعاً وكأنه قد إقتنع بأنّه قدر لا فرار منه ، إندلعت الحروب التي حصدت الملايين ، وإنتشرت المجاعات التي قضت على أجسادهم النحيلة بطبعها ، وتفشّى الجهل والمرض حتّى أصبحت فكرة النزوح وهجر أراضيهم/ن التي عشقوها هي الحل الأوحد كما بدى لهم/ن ..

وفي هذا الظلام الدامس والنفق المظلم الذي لا مجال لرؤية أين ينتهي ، يبزغ نور قوي يضيئ العتمة ، ويقودهم/ن إلى حيث إمكانية رؤية نهاية النفق .. أتى قرنق حاملاً آمالهم وآمالنا نحن كذلك بين حدقات عيونه ، ليتحدّث عن البناء والتعمير ، عن التعليم ، عن السلام وعن كل ماحلموا/ن وحلمنا به ..

أتى قرنق يحمل فانوسه السحري ، وبدا الصدق والعزيمة والإصرار والإحساس بقضايا الناس في عينيه ، ليملأهم/ن وإيّانا في الشمال بالإحساس بالأمل والفرصة الحقيقيّة في الخروج بالوطن من غيبوبته الطويلة ، ليعود في ظرف أيّام الألوف ممّن فقدوا/ن الأمل في إمكانية العودة للوطن من جديد ، عادوا/ن هكذا بلا ضمانات ، يقودهم/ن فقط ذاك الإحساس بالصدق البادي في عيون ذاك البطل الذي جاء لتحقيق أحلامهم/ن بالعيش في مودّة وإستقرار وأمان ..

وفجأة يموت قرنق ، وتموت معه أحلام الملايين المصدومة ، ويبدأ رد الفعل الطبيعي في نظري انا شخصيّاً ، رغم قساوته ورغم رفضي الأكيد له .. رد فعل من ظُلم وحُرم من التعليم ، من العيش بسلام ، من العيشة الكريمة ومن أبسط حقوق المواطنة .. لن أحاول هنا التشبيه بين ردود أفعال قد تختلف الدوافع خلفها ، ولكن ألم يحطّم أبناء الشمال الممتلكات العامّة في المظاهرات خلال فترة حكم نميري التي عايشتها ؟؟ ألم يحرقوا محطّات الوقود ؟ ألم يقوموا بحرق المركبات وقلبها وتحطيم زجاجها ؟ ألم تكن تلك التصرّفات حينها أسبابها الأساسيّة هي الظلم والغضب الأعمى والتخبّط ؟؟

فما العجب ؟؟ ولما الإستغراب ؟ وهم/ن قد كواهم/ن الظلم ، وقد ملأهم/ن الإحساس بأن حق العيشة الكريمة في حدود هذا الوطن هو للشماليين فقط ؟؟ زد على ذلك الإحساس بأن فاجعة فقد الزعيم العملاق لم تؤثر في من توجهوا/ن لأعمالهم/ن ، ومارسوا/ن حياتهم/ن الطبيعيّة من فتح للمحلاّت للبيع ، أو قيادة مركبات أجرة لكسب الرزق ، الشئ الذي يوحي وإن لم يكن كذلك ، إلاّ أنّه يوحي بعدم الإكتراث وعدم الإحساس بفداحة الجرح ..

الأعمال التخريبيّة المؤسفة التي طالت الأبرياء وأفقدت الكثير من الأمّهات فلذات أكبادهن أتفهّم أنّها مصيبة كبيرة ، ولكن لو أن الجهات الأمنيّة المسؤولة والإعلام قاما بدورهما لأمكن تفادي ما حدث ، لكن من يحاسب السلطات عندنا ؟؟ ومتى نتعلم الإعتراف بتقصيرنا ومن ثم المحاسبة على القصور ؟

مصيبة فقد قرنق هي أعظم المصائب في رأيي الشخصي التي أبتلي بها الوطن ، ولكن من العدل أن نكون منصفين ونتفهّم غضبة المظلوم وإن رفضناها ، والتفهم لا يكون بالقبول بالواقع وإن كان شائهاً ، وإنّما يكون بالنظرة المنطقيّة للأمور والتصرّف معها بعقل ودون التسرع وإشعال نار فتنة قد تدخلنا في متاهات جميعنا في غنى عنها ..

أظننا نلاحظ كثيراً كيف يرفض البعض وبشدّة الربط بين الإرهاب والإسلام ، وذلك لكون الجهات والدول التي تتعرّض لتلك الهجمات تربط الأمرين ببعضهما لكون الفاعل مسلم ، وقضيّته الأساسيّة التي تحرّكه هي الظلم المفروض عليه وعلي دينه حسب وجهة نظره ..

ما الذي يجعل البعض يرفض وصفه/ا بالإرهابي/ة لكونه/ا مسلم/ة ، ذلك مع ملاحظة أن البعض ممّن يؤيدون تلك الأعمال على قناعة تامّة بأن تلك الأعمال هي رد فعل طبيعي لظلم تلك الجهات وتلك الدول لهم/ن ، ولا يهم في نظرهم/ن حينها إن كان الضحايا من الأبرياء !!

أحزنني تركيز التلفزيون وبعض الأقلام على ما حدث في الخرطوم مسلّطين أقلامهم وكاميراتهم ليبدو وجه القبح والفوضى ((جنوبيّاً)) " حتّى وإن كان المخرّب جنوبيّاً" ، تماماً كما يبدو وجه الإرهاب ((إسلاميّاً)) عندما تعكسه دول أخرى "لكون الإرهابي حينها مسلماً" .. لماذا لم يركز الإعلام على تقصير الجهات الأمنيّة في أداء واجبها ؟؟

ليس مانحتاجه من الإعلام ومن تلك الأقلام الآن الفتنة والدعاوي العنصريّة البغيضة وخلق جو من الشحن والتحريض لن يكون في مصلحة أي كائن وخصوصاً في هذا الظرف الذي نعيشه الآن والحزن يغطّي ديارنا ويسري في دمائنا ..

إن كان حزني انا شخصياً والإحباط القاتل والأسى الذي طوّقني وغيري نتيجةً لفقد قرنق قد جعلنا نبكيه أكثر ممّا بكينا أي شخص في حياتنا ، فأنا بقادر على تخيّل مدى الحزن والأسى والإحباط في نفوس بنات وأبناء الجنوب ، مع النظر لإختلاف طريقة التعبير ، خصوصاً من أناس بسطاء حُرموا حتّى من نعمة التعليم ..

مانحتاجه الآن هو التماسك والصبر والتعامل مع القضايا الحسّاسة بعقلانيّة وعدل ، ودون التشهير والدعاوي العنصريّة ..

عزائي لكل من فقدوا/ن قريباً/ةً لهم/ن .. وصادق مواستي لهم/ن وللجرحى وكل من خسر مسماراً ، والخاسر الأكبر الوطن ..

مات قرنق وسندفن معه الكثير من آمالنا ، وسيبقى الوطن في حاجة ماسّة للعقلاء حتّى لا ندفن هذا الوطن الحزين .

في زمن الغربة والإرتحال
تأخذني منك وتعدو الظلال
وأنت عشقي
حيث لا عشق يا سودان
إلاّ النسور الجبال
يا شرفة التاريخ
يا راية منسوجةً
من شموخ النساء
وكبرياء الرجال
***
لمن تُرى أعزف أغنيّتي
ساعة لا مقياس إلاّ الكمال
إن لم تكن أنت الجمال
الذي يملأ كأسي فيفيض الجمال
***
فداً لعينيك الدماء
التي خطّت على الأرض
سطور النضال
داست على جلاّدها
وهي في سجونه
واستشهدت بجلال
***
فداً لعيني طفلة
غازلت دموعها
حديقةً في الخيال
شمسك في راحتها
خصلة طريّة
من زهر البرتقال
والنيل ثوبٌ أخضرٌ
ربّما عاكسه الخصر
قليلاًَ فمال
***
كان اسمها أم درمان
كان اسمها الثورة
كان العرس عرس الشمال
كان جنوبيّاً هواها
وكانت ساعة النصر
إكتمال الهلال
فداً لك العمر
ولو لا الأسى
لقلت تفديك
الليالي الطوال
فداً لك العمر

ـــــ
انا في البعيد مشتاق لهمسة من الوطن يانسمة
[email protected]