17 نوفمبـر 1958- 2007: في الذكري ال49 عامآ علي انقـلاب ابراهيـم عـبود!

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-07-2024, 03:47 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الرابع للعام 2007م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
11-17-2007, 00:22 AM

بكري الصايغ

تاريخ التسجيل: 11-16-2005
مجموع المشاركات: 19331

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
17 نوفمبـر 1958- 2007: في الذكري ال49 عامآ علي انقـلاب ابراهيـم عـبود!

    دراسة في وقائع الولوج الأول لجيش السودان دار السياسة:
    ______________________________________________________

    ©2004 Alsahafa.info. All rights reserved.


    فگرة الإنقلاب بين السرايتين.

    د. محمود قلندر:
    إذا كانت الحالة التي وجد فيها عبد الله خليل نظامه هي التي دفعته للاستنجاد بالجنرالات، والسعي لهدم صرح الديموقراطية، بما فيه ومن فيه، فإن الأميرآلاي لم يكن له أن يقدم على مثل تلك الخطوة التي يمكن اعتبارها بكل مقياس «تاريخية» لو لم يكن يستند على بعض منطق وبعض تعضيد..
    أما المنطق.. فقد سردنا تفاصيل تطور أحداثه خلال الحلقات السابقة بما نظن أننا لا نحتاج سوى الإشارة الملخصة إلى أن واقع الاختلاف السياسي والصراع المزمن الذي عاشته الساحة السياسية إلى حد العجز والشلل، مقارناً بواقع الانضباط، والثبات واستقامة التعامل وانسياب حركة الأداء في ساحة الجندية التي عاشها الأميرآلاي كماضٍ أولاً، ثم كحاضر يتعامل معه بوصفه وزيراً للدفاع. ثانياً، إضافة إلى شخصية الأميرآلاي التي وصفها عارفوه بالعناد المستند على الاعتداد بالذات، أصولها وماضيها ومكانتها.. كل تلك عوامل أخذت الخليل في اتجاه تغليب الخيار السمسوني بهدم المعبد على الكل.
    أما في ما يتعلق بالتعضيد، فإنه لا يشك قط أن عبد الله خليل لم يتخذ هذا القرار المفصلي في تاريخ الشعب السوداني وحده ودون استشارة أحد. وليس منطقياً البتة أن يكون الخليل قد تصرف بعيداً عن حزبه أقطاباً، وراعياً وقيادة.. ومهما حاول المدافعون عن موقف حزب الأمة من قضية دعوة الجيش لاستلام السلطة، فإن هناك من الدلائل ما يشير إلى علم العديد من زعامات الحزب، وضلوع بعضها في خطوات تنفيذه.
    وهناك الكثير من المعلومات التي وردت في تقارير المخابرات البريطانية- والتي نستند على جانب كبير منها في رواية هذه الحلقات، كانت تشير بوضوح إلى وجود وعي تام بقرب وقوع انقلاب من عديد من الاتجاهات والقوى السياسية.. من ذلك مثلا ما حفلت به صحف تلك الأيام خاصة «السودان الجديد» التي أشارت بالمواربة إلى ذلك.. بينما لم تخف عدد من القوى السياسية نيتها على مقاومة أية انقلاب..
    السرايتان وبيع الانقلاب
    من المنطقي والطبيعي -في تلك المرحلة من التطور التاريخي السياسي للسودان- أن أي تحرك سياسي مفصلي ما كان يمكن أن يتم أو يكتب له نجاح -دون «مباركة» أحد أو كلا قطبي السياسة السودانية وركيزتاها- السيدين عبد الرحمن المهدي وعلي الميرغني. فمن الطبيعي إذن أن الذي سيقدم على عمل سياسي بخطورة الانقلاب العسكري في ذلك الوقت أن لا يقدم عليه إلا بمعرفة -إن لم نقل برضى ومباركة - قطبي السياسة السودانية الميرغني والمهدي.
    ومن ثم فإن السؤال الذي يظل هو كيف اقترب عبد الله خليل بفكرة الانقلاب من السيدين؟ وهل تمكن الخليل من بيع الانقلاب لهما معا؟ أم هل أقنع المهدي دون الميرغني بها؟
    ليس لدينا معلومات مباشرة أو مصادر أولية في هذا الأمر، ولذلك نعمد إلى تحليل المعلومات المتوافرة فيها. وبقراءتنا لعدد من الوثائق نستطيع القول بأن سراي المهدي بالخرطوم كانت على علم ومعرفة تامة بتحركات الخليل واتصالاته.. بل تشير بعض الوثائق إلى أن السراي كان جزءاًً من تلك التحركات.
    من ذلك مثلاً:
    إن عبد الله خليل جمع الفريق عبود وأحمد عبد الوهاب وحسن بشير نصر إلى السيد الصديق المهدي، رئيس الحزب في ذلك الوقت، في «جلسة» بمنزل السيد الصديق، وقد دار الحديث في تلك الجلسة حول أحوال السياسة وتناول واقع الحكومة احتمالات الفشل والفوضى. وكان من الملفت أن اقتراحاً قد بدر في تلك الجلسة حول إمكان تعيين وزير دفاع من الجيش وذلك بغرض تقوية الحكومة وتأمين عدم حدوث فوضى. ويتضح من المعلومات حول ذلك الاجتماع أن السيد الصديق لم يكن يؤيد فكرة استيلاء الجيش الكامل على السلطة بينما كان يؤيدها عبد الله خليل..وكانت فكرة الصديق هي أن يكون في الحكومة وزير دفاع عسكري ذي رتبة عسكرية باعتبار أن ذلك قد يلقي بعض ظلال الهيبة على الحكومة. ومن ثم فإن ذلك الاجتماع لم يحسم الأمر وإن كان قد أشار بوضوح إلى وجود نوايا حزبية في التغيير بمعاونة الجيش..
    أما فيما بتعلق بموقف السيد عبد الرحمن المهدي، فإنه يمكن الاستنباط أكثر من الاستناد على وثائق ووقائع، ففي تقديرنا أن عبد الله خليل كان قد أقنع السيد عبد الرحمن بفكرة الانقلاب، بينما لم يقتنع بها السيد الصديق.. ومن ثم فإن اجتماع أغسطس بقيادة الجيش كان من ناحية نزولاً من السيد الصديق على رغبة والده المتفقة آراؤه مع عبد الله خليل.. دون اقتناع منه بفكرة تسليم السلطة كاملة للجيش.. وما يعضد قولنا هذا هو أن السيد الصديق أخذ نفسه خارج السودان قبل تنفيذ الانقلاب بأيام قليلة، ولم يعد إلا بعد وقوع الانقلاب بأيام..
    أما في ما يتعلق ببيع الانقلاب للسيد على الميرغني، فإننا نستند أيضاً على تحليل الوقائع أكثر من معلومات وثائق.. ولكننا نقول في العموم أن الغالب الأعم هو أن السيد على الميرغني لم يكن على علم يقين بالانقلاب، بالتأكيد تواترت له المعلومات حوله مثل تواترها لكل الناس على المستوى العام، فقد كان الانقلاب وفكرته في كل ركن من البلاد، حتى قيل يومها إن بائعات الفول كن على علم يقين به لأن ورق الصحف الذي كانت تبيع فيه النساء الفول احتوى على معلومات الانقلاب. ولكننا نستبعد أن يكون الخليل قد أسر بنية الانقلاب للميرغني أو حاول كسب رضاه حوله على نحو ما ذكر عبد الماجد أبوحسبو في مذكراته. فالميرغني وحزبه كانا في ذلك الوقت شريكين مرحليين للأمة، بينما هما في الأساس منافسان وغريمان على المستوى الاستراتيجي، ولايُعقل أن يضع حزب الأمة نفسه في مأزق تاريخي يكشف فيه لغريمه أنه يتآمر عليه. ففي تقديرنا أن السيد علي كان يدرك، كغيره من القوى السياسية، بمخطط الأمة، ولكنه لم يكن من المعضدين أو المساندين لفكرته.
    والدليل على أن الميرغني والمهدي لم يكونا على ذات المستوى من المعرفة ومن ثم المباركة والتأييد للانقلاب، نجده في ثنايا سطور البيانين الصادرين من السرايتين بعد وقوع الانقلاب. فقد صدر بيان المهدي مطولاً مفصلاً، بينما أصدر السيد الميرغني بياناً مقتضباً لم يتجاوز بضعة أسطر. وكان بيان المهدي مفصلاً وشاملاً، انتقيت كلماته بعناية، وصيغ بعبارات مليئة بالحرارة، وفاضت كلماته حماسة وتأييداً. وكان ملفتاً فيها إدانته للواقع السياسي الذي كان سائداً والذي كان حزب الأمة الطرف الفاعل فيه. وقد دللت أساليب وعبارات البيان على أنه جرت كتابته وتم إعداده منذ وقت سابق على يوم الانقلاب. بل إن بيان المهدي كان أشبه ما يكون بالبيان الأول للانقلاب..
    أما بيان الميرغني فقد جاء مقتضباً وعاماً بما يوحي بأنه كتب على عجل أو أنه كتب بغرض المجاملة أكثر منه لتسجيل موقف تأييد.
    ولعله من المفيد أن نتوقف عند مقارنة فقرات الخطابين قليلاً حتى ندرك الفرق بين موقفي الزعيمين ومكانتهما من الانقلاب..
    بيان الميرغني: علم ودعوة بالتوفيق:
    تكون بيان السيد علي الميرغني حول استلام عبود للسلطة من خمسة أسطر، أشار فيها في بدايته إلى علمه باستلام نفر من «الضباط المخلصين زمام السلطة في البلاد»، وأمل فيها في توحيد الجهود والنوايا لتحقيق الاستقرار في البلاد. ثم ختم بالدعاء بالتوفيق لمن تولوا السلطة لتحقيق الرفاهية والازدهار لأبناء الشعب السوداني كافة.
    ولم يزد بيان السيد علي الميرغني عن كونه بيان «علاقات عامة» من النوع الذي تتبادله المؤسسات السياسية والاجتماعية ببرود وميكانيكية مطلقة.
    وبالرغم من أن السيد علي الميرغني والدائرة الختمية في عمومها كانت على صلة وثيقة بالفريق إبراهيم عبود قائد الجيش، الذي ارتبط ارتباطاً وثيقاً بدائرة الميرغني في سنكات، إلا أن تلك الصلة لم تنعكس حماساً في البيان السياسي للسيد الميرغني وهو ما كان في تقديرنا يعني أنه لم يكن على رضى تام بالانقلاب وفكرته.
    بيان المهدي: ادعموا هذه «الثورة»
    أما بيان السيد عبد الرحمن المهدي، فقد كان في واقعه أقرب ما يكون لبيان الانقلاب الأول. فالقراءة الممعنة لبيان المهدي تبين اتصافه بالقوة والرصانة في سرد مسوغات الانقلاب على السلطة السياسية الدستورية.
    كانت نقاط بيان السيد عبد الرحمن المهدي الرئيسية على النحو التالي:
    ü يأسف لأن قادة الأحزاب وحكوماتها فشلوا في تحويل الاستقلال إلى أداة فعالة لازدهار الشعب ورفاهيته.
    ü كان هناك الخوف من فقدان الأمل في الاستقلال نتيجة لتصرفات الحكام وأن فقدان الأمل كان يمكن أن يكون طريقاً لضياع استقلال السودان . ومن ثم فقد تطلع الناس إلى الخلاص على يد منقذ يدافع عن الاستقلال ويحقق أهداف وتطلعات الناس.
    ü جاء الغوث اليوم على يد رجال الجيش السوداني باستلامهم السلطة وهم لن يسمحوا بعد اليوم بالتردد والفوضى والفساد في البلاد.
    ü جاء الوقت لنا جميعاً لنكون سعداء ونحمد الله لأنه منحنا من بين قادة الجيش وأبناء جيشنا المخلصين من استولى على زمام السلطة عازماً على تحقيق تطلعات الشعب وأماله.
    ü كونوا على ثقة وكونوا مع «الثورة المباركة» التي نفذها جيشكم الشجاع وانصرفوا جميعاً لأعمالكم بثقة وادعموا رجال الثورة السودانية بالعمل والإخلاص وبالتأهب للدفاع عن البلاد.
    ü إدعموا هذه الثورة وادعوا الله أن يكتب لها النجاح، وقفوا معها باليقظة وبالتصميم على تحقيق الأهداف التي من أجلها تحرك الجيش الساعي لمصلحة الشعب والمخلص لله..
    كانت تلك هي ملامح الموقفين، موقف المهدي والميرغني من الانقلاب، الذي استدللنا به على أن الخليل لم يتحرك مفرداً لقلب نظام حكمه..
    يبقى أن نعرف كيف اقترب الخليل من الجنرالات بفكرة الانقلاب؟.



    الحلقة الثامنة:

    عبد الله خليل يستنجد بالجنرالات.
    -----------------------------------

    دراسة في وقائع الولوج الأول
    لجيش السودان دار السياسة
    عصف أذهان الجنرالات حول ضرورة الانقلاب

    د. محمود قلندر:
    في بيت الصديق خليل يقول لعبود لا منقذ إلا الجيش وعبود يستشير القادة العسكريين
    مهما كان من أمر معرفة وموقف السيدين والسرايتين بالانقلاب وتأييدهما له، فإن المهم أن الخليل كان قد مضى بعيداً في مسألة انعقاد عزمه على استلام الجيش للسلطة.. وكان قد بدأ في دق أبواب رئاسة الأركان بفكرة تولي الجيش للسلطة.
    كيف بدأ عبد الله خليل رحلة بيع الانقلاب للجنرالات؟ ومتى بدأت؟
    الوثائق التي نبحث فيها تشير لنا بوضوح الى أن اجتماع (أو جلسة) أغسطس 1957 في بيت السيد الصديق كانت هي البداية.. وهي جلسة أشرنا إليها في الحلقة الماضية ولكن نفصل فيها هنا..
    ويقول الفريق عبود حول تلك الدعوة:
    «قبل الانقلاب بنحو شهرين جاءني عبد الله خليل إلى المكتب، وقال لي حتكون في جلسة في منزل السيد الصديق بأم درمان ودعاني لحضورها، فأخذت معي أحمد عبد الوهاب، وكان موجوداً السيد الصديق وعبد الله خليل وزين العابدين صالح. وافتكر كان معنا عوض عبد الرحمن وحسن بشير كان معي حتما».
    والملفت في حديث عبود أنه قرر اصطحاب قيادات عسكرية عليا معه، وهو ما يعني أنه كان على إدراك باتجاه الحديث، ومن ثم فقد أخذ معه نائبه وحسن بشير نصر، والاثنان من الشخصيات العسكرية ذات المكانة العالية. ولعل عبود أرادهما معه لأكثر من غرض، منها أنهما الرتب التالية له أقدمية - لغياب طلعت فريد في الجنوب - ومنها أنه لم يكن يريد أن يكون هناك تناول سياسي دون كل القيادة، حتى لا يبدو الأمر وكأنه «تآمر» من القائد العام، وربما لمعرفته بقرب الاثنين عبد الوهاب وحسن بشير من السرايتين. أما زين العابدين صالح فقد كانت له صلات وثيقة، بعضها صلة نسب بعبد الله خليل وأحمد عبد الوهاب، كما كان شديد القرب من السيد عبد الرحمن المهدي.
    في تلك الجلسة التي جرت في بيت الصديق، تطرق الحديث إلى الظروف السياسية التي شرحها الصديق، وأبان فيها أن البلاد في وضع سياسي غير مستقر، مشيراً إلى الحاجة إلى صيغة تمكن من أن يكون للجيش دور يمكنه من تثبيت الوضع غير المستقر، وكان من بين ما طرح إمكانية تعيين وزير دفاع عسكري.. وبالرغم من أننا لا يمكن أن نخلص من هذا الكلام إلى أن المجتمعين كانوا يحرضون الجيش لاستلام السلطة، لكننا يمكن القول بأن ما كان يجري هو شكل من أشكال العصف الذهني الرامية إلى تحقيق مناخ ذهني يمكن من قبول الأفكار غير المستحبة.
    ولقد انتهى ذلك الاجتماع دون أن يصل إلى شئ.. ولكنه في تقديرنا فتح أذهان العسكريين على أن الساحة السياسية يمكن أن تكون مسرح عملياتهم القادم.. ولعله هذا هو السبب الذي جعل أحمد عبد الوهاب يقول إنه كان يرى أنه من الأوفق أن يتسلم الجيش الأمر كاملاً بإرادته وليس «بتعليمات» من السياسيين.
    إن الفكرة - فكرة تولي ضابط كبير منصب وزير الدفاع- يمكن أن نرى فيها ظلال الرغبة في إقحام الجيش في السياسة، بحيث يصبح وزير الدفاع العسكري في فترة لاحقة، عنصراً سياسياً يمكن دفعه إلى تحريك الجيش في ساعة الحاجة السياسية.
    وفي تقديرنا أن حجة إشراك وزير دفاع عسكري، كانت هي الحل الوسط بين ما أراده خليل - وربما عبد الرحمن المهدي- وبين رؤية السيد الصديق الذي لم يرد أن يقحم الجيش في السياسة.
    عبد الله خليل و«الأمر» بالاستلام:
    كيف ومتى توجه عبد الله خليل بالوضوح وبدون مواربة، بطلب الي القائد العام لاستلام السلطة السياسية وقلب نظام الحكم؟
    في هذا الأمر تتباين الأقوال:
    تقرير المخابرات البريطانية المرسل صباح يوم الانقلاب، يقول إن عبد الله خليل صرح لصحافي بريطاني بأنه «أعطى أوامر للجيش» باستلام السلطة منذ شهرين (من الانقلاب نفسه). تقرير آخر يشير إلى أن هيلاسلاسي حذَّر عبد الله خليل من الخوض في انقلاب خلال زيارة سرية لعبد الله خليل لأثيوبيا حوالي أغسطس، أجرى فيها فحوصات طبية في مستشفى أميركي.
    أما إبراهيم عبود فإنه يقول إن عبد الله خليل جاءه قبل عشرة أيام من الانقلاب وقال له إن: «الحالة السياسية سيئة جداً ومتطورة، وممكن تنتج عنها أخطار جسيمة، ولا منقذ لهذا الوضع غير الجيش يستولي على زمام الامور».
    ثم جاء خليل بعد يومين يعاود عبود الذي كان قد أخطر ضباط الرئاسة - عبد الوهاب وحسن بشير- بما طلبه عبد الله خليل.
    ثم أرسل عبد الله خليل لعبود زين العابدين صالح الذي أخذ يستعجل التنفيذ مع اقتراب موعد انعقاد البرلمان المؤجل.
    وكان خليل لا يريد للبرلمان أن ينعقد بسبب ما كان يمكن أن يحيق به من هزيمة، ومن ثم احتمال عودة الأزهري بتحالف مع الشعب الديمقراطي أو مع الأمة ولكن بغياب الأميرآلاي.. بمعنى آخر فإن عبد الله خليل كان سيكون الضحية في كل الحالات..
    كيف كانت اتصالات الخليل بعبود؟
    يقول إبراهيم عبود: «مرة ثانية جاءني عبد الله خليل، فأخبرته بأن الضباط يدرسون الموقف، فقال لي ضروري من إنقاذ البلاد من هذا الوضع. ثم أرسل لي بعد يومين زين العابدين صالح ليكرر نفس الكلام.. والضباط كانوا وقتها يدرسون الخطة لتنفيذها».
    إذن فقد أعد الجيش خطة لتنفيذ الانقلاب..
    ولكن هل يعد مثل هذا الكلام أمراً من الوزير واجب التنفيذ على القائد العام؟ وهل كان يمكن لعبود رفض دعوة عبد الله خليل؟
    ليست هناك وثائق رسمية بصدور أمر وزاري بذلك. ولا نتصور أنه سيكون هناك مثل هذا الأمر. كما أنه يمكن القول بإن ما أدلى به عبود أمام لجنة التحقيق في الانقلاب، لا يشير إلى أن تعليمات صريحة قد صدرت بذلك من الوزير.. ففي الحالات العادية - ناهيك عن الخطيرة
    كدعوة انقلاب - يصدر الوزير أوامره في شكل مكتوب وبصيغة معروفة ومحددة... بل هناك استمارة محددة تتم تعبئتها في بعض الحالات.
    وبذلك يمكن القول بأن الالتقاء وتبادل الأفكار والرجاء والتطلع، ليست جزءا من وسائل «صرف التعليمات» في الجيش، كما أنها ليست من أساليب إصدار القرارات من قبل الوزراء.
    بيد أنه أيضاً لا بد من أن نأخذ في الاعتبار تلك الحقائق المتعلقة بصلة عبد الله خليل بالعسكريين وماضيه كضابط، ثم صفة الاحترام والانضباط العالي الذي يتعامل بها العسكريون السودانيون مع بعضهم البعض.. وبذلك الاعتبار يمكن القول إن الجنرالات أخذوا في اعتبارهم - عندما وافقوا على الاستيلاء على السلطة - احترام رغبة الأميرالاي صاحب المكانة العسكرية والسياسية على حد سواء.
    ثم إننا لا بد أن نضيف إلى ذلك حسابات الواقع السياسي الذي كان يعيش فيه السودان.. والجو العام الذي كان ينبئ بأن كارثة على وشك الوقوع.. وهي كارثة المنقذ منها بكل مقياس، هو العمل العسكري الحافظ للأمن والنظام. وقد عبر اللواء أحمد عبد الوهاب عن هذا الجو العام الذي كان سائداً وقتها إذ يقول:
    «وكان ناس كتار يتصلوا بي ويقولوا وين الجيش بتاع البلد؟ ولماذا لا يتدخل لينقذ من كل الأحوال السياسية السائدة في البلد».
    والواقع إن أحمد عبد الوهاب نفسه كانت لديه بعض المآخذ على واقع الممارسة السياسية الذي كان سائداً، فهو كان على صلة بالضباط الصغار الذين كانوا يتحركون سياسياً (الضباط الأحرار) بل وساند إحدى مذكراتهم التي طالبت بتسليح الجيش.. كما أن أحمد عبد الوهاب كان يكتب - عن طريق صديقه جعفر حامد البشير- المقالات السياسية التي تطالب بالاهتمام بالجيش والالتفات إلى احتياجاته المادية والمعنوية.
    ومن ثم فمن الممكن القول بأن قيادة الجيش كانت منذ أكتوبر 1957م، قد وضعت سايكولوجياً في أجواء الانقلاب على السلطة السيادية، بواقع اضطراب الحال السياسي أولاً، وبمباركة وتعضيد، بل وتحريض السلطة السيادية نفسها ثانياً.
    ولكن هل كان سهلاً على القيادة العسكرية الانفراد بقرار استلام السلطة، دون معرفة ومباركة الوحدات العسكرية الأخرى؟ وما هو موقف تنظيم الضباط الأحرار الوليد - وقتها - من ذلك التحرك؟.
    ------------------------------------

    الحلقة التاسعة.
    ------------------

    دراسة في وقائع الولوج الأول
    لجيش السودان دار السياسة
    أراده أحمد عبدالوهاب انقلاباً عسكريا دون تعليمات من أحد.
    -------------------------------------------------------

    د. محمود قلندر:
    رفض أحمد عبد الله حامد فكرة الإنقلاب وفكر في مقاومته..
    ماذا كان أمام إبراهيم عبود ورئيس الحكومة يضغط عليه من كل اتجاه ليتحرك في اتجاه استلام السلطة.. سوى أن يتخذ الخطوات العملية للاستلام؟
    كان واضحاً تردد عبود في اتخاذ الموقف من هذا الموضوع بمفرده على الأقل، لذلك فقد رأيناه يصطحب أحمد عبد الوهاب وحسن بشير وعوض عبد الرحمن إلى جلسة بيت السيد الصديق.. وهي تلك الجلسة التي سردنا تفاصيلها والتي تبلور منها اتجاه واضح لإقحام الجيش في السياسة، وإن اختلفت تفاصيل ذلك الاتجاه بين الصديق الذي فكر فيه في حدود إشراك وزير دفاع عسكري، وبين عبد الله الذي أراده انقلاباً تاماً.
    وفي جانب العسكريين يتضح من خلال قراءة الأقوال الواردة في التحقيق مع القادة بعد أكتوبر 64، أن عبد الوهاب كان يميل إلى استلام السلطة باستقلال من الإرادة التنفيذية. بل لعلنا لا نبالغ إن قلنا إنه أبدى بعض الحماسة في هذا الشأن.. فهو يرفض كما قال لعبود أن يأخذ الجيش تعليماته من رئيس الوزراء ليعمل انقلاباً..
    وليس لدينا شك في أن أحمد عبد الوهاب كان لديه بعض التطلع السياسي. فقد كان واحداً من أعضاء تنظيم الضباط الأحرار في مرحلته الأولى، كما كان له بعض النشاط السياسي، كالكتابة في الصحف ومطالبة السياسيين بالالتفات إلى احتياجات الجيش، ثم توقيعه على مذكرة من «صغار» الضباط - الأحرار- تطالب فيها الحكومة بتسليح الجيش..
    أما حسن بشير فإنه بالرغم من أنه لم يكن من المتحمسين كثيراً.. إلا أنه حين سأله عبود عن رأيه في اشتراك الجيش في الحكومة.. كان رأيه كرأي عبد الوهاب، إذ أفاد بأنه يحبذ أن يتولى الجيش المسؤولية لوحده وليس كوزير واحد..
    عبود يستطلع رأي القادة
    كان إبراهيم عبود حريصاً على أن لا يكون قرار قبوله استلام السلطة قراراً فردياً قائماً عليه هو وحده.. فقد رأيناه يعتمد على عبد الوهاب وحسن بشير وعوض عبد الرحمن في اتصالاته السياسية الخطيرة والممهدة لاستيلاء الجيش..
    وحين دخل كلام رئيس الوزراء في خانة «التعليمات» جمع عبود ضباط الرئاسة وهم: وأحمد عبد الوهاب، وحسن بشير نصر، ومحمد أحمد عروة، ومحمد أحمد التجاني، والخواض محمد أحمد، وحسين على كرار، وعوض عبد الرحمن صغير، ومحمد نصر عثمان، وقال لهم بالوضوح إن رئيس الوزراء يطلب من الجيش التدخل.
    ومن المهم أن نثبت نقطة ذات مرجعية هنا وهي قول عبود لمن التقى بهم من القادة -كما جاء في اقوال عوض عبد الرحمن صغير-:
    «إن الأمر يبدو في شكله العام وكأنه» مهمة إجراءات حفظ أمن». بمعنى آخر، إن القائد العام اعتبر طلب وزير الدفاع طلباً شرعياً هو في واقعة تنفيذ لمهام عسكرية بحتة هي «مهام إجراءات حفظ أمن».. وبذلك فإن خطة الاستيلاء على الحكم لن تتعدى كونها خطة لضبط الأمن كمهمة أساسية من مهام الجيش.
    ويبدو أن القادة لم يكونوا على أي خلاف فيما يتعلق باستلام السلطة كمهمة أمنية بحتة لأنهم انفضوا من اجتماعهم ذلك واتجهوا لتنفيذ أمرين:
    ü أولهما وضع خطة الاستلام العسكرية، وهي الخطة التي أنيط وضعها بالأميرالآي محمد أحمد عروة ومحمد نصر عثمان باعتبار الأول مدير إدارة الجيش.. والثاني مدير العمليات في ذلك الوقت. وقد شملت الخطة تحريك القوات الخاصة بحراسة المؤسسات والمرافق الاستراتيجية.. ولم تكن هناك أية خطة لاعتقال القيادات السياسية..
    ونشير هنا إلى أن الجيش كانت لديه خطط جاهزة «لحفظ الأمن» تضمنت تأمين المرافق والمنشآت وحفظ النظام العام، وتأمين الشخصات المهمة. وقد سبق أن أعدها الجيش لظروف حرب قناة السويس العام 1956، وخلافات حلايب مع مصر.
    ü ثانيها أعداد خطاب القائد العام، الفريق عبود الذي سيلقيه على المواطنين. وقد ذكر عبود أن خطابه ذلك تم إعداده من قبل ضباط الرئاسة، دون أن يحددهم. ومن المحتمل ان يكون قد شارك فيه ضباط من الاستخبارات والإدارة والعمليات، وذلك لما لهذه الوحدات من اتصال بالعمل السياسي..
    وقادة الوحدات خارج العاصمة
    لم يكتف عبود بالقادة في العاصمة، بل تطلع إلى أخذ آراء عدد من قادة الوحدات خارج العاصمة.. خاصة كبار الضباط من ذوي الأقدمية العالية. وحسب روايات القادة، فإن عبود أخذ على عاتقه الاتصال بأولئك القادة مستغلاً اجتماعاً للقادة في العاصمة كانت قد تمت دعوتهم لحضوره.
    وتذكر التقارير أن عبود كان يلتقي قادة الوحدات خارج الخرطوم على انفراد، ومن ثم يحاول جس نبضهم، ومعرفة رأيهم..
    وقد ذكر اللواء أحمد عبد الله حامد بأنه التقى بعبود في مكتبه، -بعد حضوره من الأبيض- فناقشه عبود في موضوع الانقلاب، فحذر عبد الله حامد من مغبة خطوة كتلك، مشيراً إلى أن في ذلك تقليداً أعمى لمصر وعبد الناصر..
    بل أن اللواء حامد قال إنه فكر في مقاومة الانقلاب من الابيض بعد حدوثه، بيد أنه تحير جداً من الحماسة الشعبية التي طوقت بها الجماهير حامية الأبيض تأييداً للإنقلاب..
    عبود يأخذ رأي
    المستشار القانوني للجيش
    لا يمكن تصور أن إبراهيم عبود سيقدم على اتخاذ خطوة كالانقلاب على السلطة الدستورية دون التعامل القانوني معها. إذ لم يكتف عبود باستشارة القادة العسكريين، لمعرفة مواقفهم الفردية من تلك الخطوة. بل سعى للوقوف على الرأي القانوني العسكري -والمدني كما سنرى بعد قليل-. فقد طلب إبراهيم عبود من صديقه وابن دفعته، والمستشار القانوني للقوات المسلحة وقتها، الأميرالاي عبد الرحمن الفكي، طلب منه الرأي القانوني في قيام الجيش باستلام السلطة بإيعاز من السلطة التنفيذية على الشكل الذي كان عليه. وقد جاءت إجابة المستشار القانوني «بالموافقة عليه مع ذكر بعض التحفظات» (أنظر محمود عبد الرحمن الفكي: القوات المسلحة في تاريخ السودان الحديث 1935-1975)
    ويستشير شخصيات سياسية ووطنية
    وفي كتابه عن تاريخ القوات المسلحة الحديثة يشير اللواء محمود الفكي- الباحث في التاريخ العسكري وابن المستشار القانوني للقوات المسلحة في عهد عبود -إلى أن عبود لم يستشر والده عبد الرحمن الفكي وحده، بل استشار بعض الشخصيات السياسية والتاريخية الوطنية ذات المكانة عنده. ويذكر الفكي في كتابة الشخصيات التالية من بين الذين استشارهم عبود:
    أحمد خير الذي صار وزيراً للخارجية فيما بعد، والسيد يوسف العجب، والعضو البرلماني، والسيد عبد الرحمن عبدون، والسيد إبراهيم أحمد.
    اجتماع 16 نوفمبر الحاسم
    يتضح من الوثائق التي أمامنا كافة أن مسألة استلام السلطة من قبل الجيش كانت فكرة مترددة حتى اجتماع 16 نوفمبر بين قيادات العاصمة.
    فلم يكن هناك اتفاق على ما سيكون عليه شكل الحكم، ولا اتجاهه السياسي، ولم تكن هناك خطط وبرامج وأهداف يعلنها العسكريون على الشعب كبرنامج عمل.
    بل ولم يكن أحد يعرف ما سيكون عليه شكل الحكم وتركيبته..
    فعبود يقول في أقواله للمحققين إنهم لم يفكروا في تكوين الحكومة إلا بعد تنفيذ الانقلاب.. ويعتبر ماتم استعراضه من أسماء وشخصيات ومواقع إنما كان «مجرد مشاورات». ولكن حسب أقوال الآخرين، فإن اجتماعات القادة بحثت في فترة قريبة من موعد تنفيذ الانقلاب، إقامة حكومة قومية ومجلس سيادة يشارك فيه الختمية والأمة، والوطني الاتحادي والجنوبيون بالإضافة إلى إبراهيم عبود.
    ويبدو أن هذا الرأي كان قد تبلور في شكل حكومة تضم شخصيات مثل محمد أحمد محجوب، ومبارك زروق، وعبد الرحمن على طه.. بينما تم اقتراح إسماعيل الأزهري لمجلس سيادة يمثل فيه الأحزاب الرئيسية.
    ويقول عدد من ضباط نوفمبر، إنهم كانوا أكثر ميلاً لمسألة الحكومة القومية ومجلس السيادة المشترك بين العسكريين والمدنيين، وأنهم قد تناقشوا فيها بالفعل. لكنهم ذكروا أن عبود -وهو القائد الأعلى- جاءهم في ليلة السادس عشر من نوفمبر «بفكرة جديدة.. وقال إنه يفتكر أحسن الحكومة تكون عسكرية مع بعض الناس المحايدين» كما ذكر حسن بشير..
    ويقول حسين على كرار، إنهم: «فوجئوا بأن فكرة مجلس السيادة -التي كان قد تم الاتفاق عليها- قد تلاشت صباح 17 نوفمبر عندما اجتمعوا بعد الانقلاب، فقد قرأ عبود عليهم من ورق معد أسماء المجلس العسكري»..
    كان واضحاً أن الجنرالات قد دخلوا في الواقع النفسي المهيئ للانقلاب، ولم يبق من بعد ذلك إلا بزوغ فجر يوم 17 نوفمبر 1958. كصباح أول يوم من مشوار طويل للعسكرية السودانية في دار السياسة.
    __________________________

    وأصبح صبح 17 نوفمبر:
    ____________________________

    الحلقة العاشرة
    دراسة في وقائع الولوج الأول
    لجيش السودان دار السياسة
    تقدم الجيش لاستلام السلطة «حسب أقدمية» القادة

    د. محمود قلندر:
    ____________________

    لا هو انقلاب
    ولا هي ثورة، بل «حركة تصحيح أوضاع»
    لا اعتقالات، بل خطابات إعفاء للوزراء
    من القائد العام
    صباح 17 نوفمبر أكمل الجيش عمليات التأمين للمراكز والمنشآت، وقد وشاركت في عمليات حراسة الكباري والمباني الحيوية قوات استقدمت من القضارف وشندي تحت ستار حماية الأمن صباح يوم افتتاح البرلمان- نفس ذلك الصباح.
    ولم يصب المواطنون بأي ذهول من هول المفاجأة.. فلم يكن الانقلاب مفاجأة ولا كان سراً. فحتى صحف صباح السابع عشر من نوفمبر كانت تبشر به -أو تحذر منه- بشيء من الذكاء معددة أسماء بعض القيادات العسكرية التي صارت قيادة سياسية بعد قليل..
    ولم يكن هناك تحسب من تحرك مضاد.. فالذين قادوا الإنقلاب هم كل الجيش السوداني بقيادته العليا، والمشاركون في التنفيذ هم ضباط من مختلف الرتب..
    ولم تكن هناك حركة اعتقالات في وسط الضباط المناوئين.. إذ لم يكن هناك مناوئون أصلاً.. ولم يكن الجيش قد عانى بعد مما عانى منه -بعد سنوات لاحقة- من اختراق العقائد والاتجاهات السياسية المختلفة..
    ولم تكن هناك حركة اعتقالات وسط السياسيين الذين انقلب عليهم الجيش..
    بل أن رئيس الوزراء كان في منزله ذلك الصباح والتقى ضابطاً جاءه بخطاب إقالة من عبود..
    وتلقى كل الوزراء خطابات إقالة شبيهة من القائد العام دون أن يتم اعتقال أي واحد منهم...
    ولم يكن هناك خوف من تحرك مضاد من الأنصار.. فقد كان العمل كله بعلم وموافقة المؤثرين في قيادة الأنصار..
    عبود يزور المهدي والميرغني
    ليس هناك حدث أبلغ للتعبير عن طبيعة حركة 17 نوفمبر من إقدام إبراهيم عبود قائد الإنقلاب على النظام السياسي الذي كان قطباه السيدان المهدي والميرغني، بعد ساعات من إذاعة بيانه الأول يصحبه أحمد عبد الوهاب (ذو الارتباط الأنصاري) ومحمد أحمد عروة (ذو الارتباط الختمي) بالتوجه إلى ذات السيدين ليدعما انقلابه عليهما وعلى حزبيهما..
    وليس هناك تعبير أبلغ عن طبيعة السياسة السودانية السريالية، أكثر من أن السيدين وافقا، وأيدا وأعلنا في بيان لجماهيرهما.. مباركتهما للانقلاب على حزبيهما..
    وكما ذكرنا من قبل .. كانت حماسة المهدي واضحة كل الوضوح من خلال البيان الذي صدر بعد قليل من لقاء عبود بالمهدي.. وهو البيان الذي أشار إلى الحركة باعتبارها ثورة.. وهو تعبير لم يرد حتى في بيان عبود الأول. وقد قال البيان إن الجيش أنقذ البلاد، بعد أن تلفت الناس بحثاً عن منقذ.. وطالب الناس بالانصراف إلى أعمالهم بهمة ونشاط..
    وحين توجه عبود وضباطه إلى السيد علي الميرغني، استقبلهما الميرغني ببيان محدود لم يتجاوز فيه حد الدعاء لهم بالتوفيق.. وقد أشار البيان إلى «تقبله لنبأ تسلم الجيش زمام السلطة في البلاد»..
    ومهما كان من أمر حجم البيانات وكلماتها، فإن المحصلة الأساسية هو قبول السيدين بالمآل الذي حاق بحزبيهما ورضوخهما لحكم العسكر.. وخروج عبود منهما بأول شرعية، وهي شرعية مباركة التحرك من قبل الطائفتين الأكثر تأثيراً في البلاد..
    بيان عبود الأول: ثورة بلا برنامج
    لأن البيانات الأولى لأية حركة عسكرية تتسلم السلطة من حكومة قائمة، تكون بمثابة العنوان لاتجاه وفلسفة وأهداف تلك الحركة، نجد من المهم أن نحاول قراءة بيان إبراهيم عبود الأول قراءة متأنية لاستشفاف أهداف وبرامج وغايات تلك الحركة. لهذا فإننا نلخص فقرات بيان عبود المذاع على المواطنين في صباح السابع عشر من نوفمبر على النحو التالي:
    > إشارة إلى الوضع المضطرب والفوضى التي سادت البلاد والتي عطلت الأداء الحكومي والأداء العام في البلاد.
    > تأكيد أن أسباب معاناة البلاد تعود إلى الصراع السياسي الذي احتدم بين الأحزاب والتي جعلت مكاسبها الذاتية فوق كل شئ واستغلت الصحف واتصلت بالبعثات الأجنبية.
    > تأكيد أن الجيش كان يراقب آملاً أن ينصلح الحال وتتغير الأوضاع إلى ما هو أحسن، ولكن وصل الحال إلى مرحلة لم يعد معها رجال الجيش قادرين على التحمل والسكوت.
    > لم يكن أمام القوات المسلحة غير التقدم واستلام زمام الأمر «لتصحيح الأوضاع» ووضع حد للفوضى وإعادة الأمن والنظام.
    > الهدف هو الاستقرار والازدهار ورفاه البلاد والشعب.
    > سنحافظ على العلاقات الودية مع الأقطار كافة بشكل عام والعربية بشكل خاص.
    > أما الجمهورية العربية المتحدة (مصر) الشقيقة فسنعمل على إزالة الجفوة المفتعلة بين البلدين.
    كانت تلك النقاط ملخصا شاملا لمحتويات البيان الأول لحركة 17 نوفمبر. والذي يتمعن في قراءة بيان عبود الأول يكاد يراهن بأنه أمام بيان لوزير داخلية حول أحداث شغب أكثر من كونه بياناً لحركة عسكرية تنقلب على نظام سياسي ديموقراطي منتخب من قبل المواطنين. فلا يبصر المرء في ثنايا ذلك الخطاب أية أهداف أو برامج سياسية تنوي الحركة استبدال الوضع القائم بها.. كما أن الخطاب خلا من تحديد أي بعد فكري للحركة والمتحركين.
    بل ان عبود لم يصف تحركه ذلك لا بالثورة ولا بالتغيير، ولا حتى بالانقلاب..
    قال عنها إنها «تصحيح للأوضاع».. وهو تعبير راج بين صحافيي تلك الفترة لوصف حركة عبود في استخفاف..
    وبذلك فإن البيان يدعم الحقيقة المعروفة سلفاً، وهو تحرك قيادة الجيش بكاملها في شكل طابور عسكري -يتقدمه الضباط بالأقدمية- لاستلام السلطة من السياسيين بغرض إيقاف مجرى الأحداث السياسية -أيا كان مجراها واتجاهها- في ذلك الوقت.
    كما يدعم ذلك البيان مقولة إن العملية لم تكن إلا عملية «إجراءات لحفظ الأمن» قام بها الجيش بتكليف من رئيس الحكومة المنتخبة شرعياً. أما ما حدث بعد ذلك -من استمراء العسكريين للحكم واستمرارهم فيه- فهو أمر مختلف تماماً.
    وفي تقديرنا أن التقييم الموضوعي لحركة 17 نوفمبر لا بد أن يأخذ في اعتباره هذه الحقيقة. حقيقة أن عبود استجاب لمطالب رئيس الوزراء بروح الالتزام بالمسؤولية وسعى بقدر ما استطاع إلى الحصول على المبررات الأخلاقية والقانونية التي تقنعه -أخلاقياً- بالتحرك والاستلام.. ولذلك رأيناه يتحرك -منفرداً وفي إطار المجموعة القيادة العليا- في عدة محاور من بعد إلحاح عبد الله خليل عليه:
    > على مستوى القيادة العليا للجيش.
    > على مستوى قادة الوحدات.
    > على المستوى القانوني.
    > ثم على المستوى السياسي الاجتماعي.
    ومن خلال ذلك التحرك وصل عبود إلى القناعة بأن ما يقدم عليه يمكن تبريره- قانونياً وسياسياً وأخلاقياً..
    حل الأحزاب ووقف الصحف: تعطيل أسباب الفوضى
    إذا كانت قناعات عبود قد استندت على تلك المبررات التي ساقها بيانه الأول، وهو أن الفوضى السياسية التي عصفت بالبلاد أساسها الصراع الحزبي، فقد جاءت قراراته السياسية الأولى مبنية على تلك القناعات. فقد قال البيان إنه كي تنفذ القوات المسلحة واجبها (في إيقاف الفوضى) تصدر القرارات التالية:
    > حل جميع الأحزاب السياسية.
    > منع التجمعات والمظاهرات والمواكب.
    > إيقاف جميع الصحف.
    بمعنى آخر أن العسكريين رأوا في الحركة السياسية الوطنية بأشكالها المختلفة من مؤسسات ومن أشكال وأدوات التعبير الديموقراطي، رأوا فيها أس البلاء فرأوا أن يعصفوا بها.. حتى يعصفوا بذلك بالبلاء كله..
    وحدها النقابات -كجزء من مؤسسات التعبير السياسي السائد في النظام الديموقراطي- لم تتعرض للعصف.. إلى حين..
    عبود تحاشى حل نقابات العمال.. ولكن!
    في واحد من تقارير المخابرات البريطانية المرسلة في تلك الأيام العاصفة، يتحدث السفير البريطاني عن لقائه مع عبود ذات يوم الانقلاب، ويصف حديثه معه بانه كان ودياً، ويشير السفير إلى أن عبود بدا متخوفاً في حديثه معه من النقابات أكثر من أي تحرك سياسي آخر. فلم يكن عبود مثلاً مشغولاً بموقف الأنصار كقوة سياسية شبه نظامية- لأنه كما رأينا بادر بالحصول على مباركة زعيم الأنصار الروحية، كما أنه لم يبد انشغالاً بموقف الختمية لأنهم لا يعتبرون أصلاً جماعة عدائية، إضافة إلى أن السيد الميرغني كان قد بارك وأيد هو الآخر.
    أما فيما يتعلق بالنقابات فقد قال عبود للسفير البريطاني، إنه ترك النقابات لحالها (حتى الآن) ولكنه «إذا بدأوا بأي شيء» فهو سيتصدى لهم..
    ولاشك أن النظام العسكري الجديد، الذي جاء لإزالة الفوضى التي عصفت بالبلاد، ما كان له أن يسكت على حركة النقابات التي رآها تمثل عنصر الفوضى وهي تهز الحكومات، وتخلخل أركانها. ولكن في تقديرنا أن عبود ورفاقه آثروا أن لايبادروا بمعادات النقابات لسببين:
    أولهما أنهم يعرفون قوة وقدرة الحركة النقابية السودانية وقد عايشوها منذ فترة قصيرة..
    والثانية أنهم أحسوا أنه ربما كان هناك ما يجمع بين حركتهم وبين مواقف النقابات.. فالنقابات كانت قبل أشهر قليلة قد قادت تحركاً واسعاً قصد إسقاط حكومة عبد الله خليل التي رأتها وهي تنفذ البرنامج الغربي الإمبريالي (بقيول المعونة الأميركية، والمساعدات العسكرية البريطانية، والابتعاد عن الموقف العربي المعضد لمصر ضد العدوان الثلاثي)، ومن ثم فإن النقابات ربما ترى في تحرك 17 نوفمبر العسكري ذلك خلاصاً من حكومة الخليل.. ولعل ذلك كان إحساساً من عبود ولرجاله لم يصدق البتة.. كما سنرى بعد قليل.
    >>>
    أنهى السفير البريطاني شابمان أندروز تقريره المرسل مساء 17 نوفمبر 1958، الذي قدم فيه عبود وأعضاء حكومته للخارجية البريطانية بقوله:
    «إنه على اية حال فقد جاء الجيش بحكومة صديقة لنا.. وأن قيادة الجيش بشكل خاص صديقة لنا أيضاً».
                  

العنوان الكاتب Date
17 نوفمبـر 1958- 2007: في الذكري ال49 عامآ علي انقـلاب ابراهيـم عـبود! بكري الصايغ11-17-07, 00:22 AM
  Re: 17 نوفمبـر 1958- 2007: في الذكري ال49 عامآ علي انقـلاب ابراهيـم عـبود! بكري الصايغ11-17-07, 00:40 AM
  Re: 17 نوفمبـر 1958- 2007: في الذكري ال49 عامآ علي انقـلاب ابراهيـم عـبود! بكري الصايغ11-17-07, 01:04 AM
    Re: 17 نوفمبـر 1958- 2007: في الذكري ال49 عامآ علي انقـلاب ابراهيـم عـبود! بكري الصايغ11-17-07, 12:34 PM
  Re: 17 نوفمبـر 1958- 2007: في الذكري ال49 عامآ علي انقـلاب ابراهيـم عـبود! اسعد الريفى11-17-07, 01:29 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de