مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور)

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 03-29-2024, 03:28 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الرابع للعام 2007م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
10-07-2007, 09:03 AM

shaheen shaheen
<ashaheen shaheen
تاريخ التسجيل: 11-13-2005
مجموع المشاركات: 5039

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) (Re: shaheen shaheen)

    جدليّة الحرب والسّلام وتحدّيات قوى الهامش

    محمّد جلال أحمد هاشم
    مقدّمة
    تتناول هذه الورقة موضوعين أساسيّين، هما ظاهرة الحرب والسّلام من جهة وتحدّيات قوى الهامش من جهةٍ أخرى. وأخطر ما تناقشه الورقة أنّها تذهب إلى أنّ الحرب الأهليّة وما قد يتبع ذلك من اتّفاقٍ للسّلام (أو "اتّفاقيّات السّلام") في السّودان لم يعودا حرباً بالمعنى ولا سلاماً بالمعنى، بل أصبح الموضوع أقرب ما يكون إلى الظّاهرة التي لها أنماطها المتشابهة من حيث الأسباب، وأشكال اندلاعها، ثمّ آليّات التّفاوض، وأطراف التّدخّل وصولاً إلى الاتّفاقيّات الإجهاضيّة. ولا يذهبنّ أحد، استناداً على العنوان أعلاه، أنّنا نُضفي صفة الجدليّة على ظاهرة الحرب والسّلام، أو على العلاقة بين المركز والهامش؛ بل الجدليُّ في الموضوع يعود إلى العلاقة بين الحرب والسّلام من جهة باعتبارهما ظاهرة، وبين تحدّيات قوى الهامش من جهة أخرى.
    تذهب الورقة في فرضيّاتها الأساسيّة على أنّ ظاهرة الحرب والسّلام بصورتها الرّاهنة تبدو كما لو أصبحت شركاً لا فكاك لقوى الهامش من أن تقع في حبايله طالما كانت تجري على مجراه. ومع ذلك، مهما جوّدت قوى الهامش من أدائها في، وكيفما توّجت، حروبها النّبيلة بالانتصارات، يبدو كما لو أنّ مردود ذلك جميعاً سيذهب لتكريس المركز ممثّلاً في نظام الإنقاذ. والحال كهذا، تمتدّ الفرضيّات لترفع احتمال أنّ الحرب الأهليّة الحقيقيّة ربّما لم تبدأ بعد. وتنبثق من هذه الفرضيّات العديد من الأسئلة، والتي لا تحاول الورقة الإجابة عليها نسبةً لمحدوديّتها، فنتركها للنّقاش ليذهب فيها النّاس مذاهبهم. من ذلك، مثلاً، هل ظاهرة الحرب والسّلام لا تعدو كونها طقساً عبوريّا به تنضاف دفعة صفويّة جديدة (كانت مهمّشة) إلى جسم الصّفوة بالمركز، والتي بدورها ليست سوى العمود الفقري للمركز إن لم تكن لُحمتَه وسُداه؟ هل يصحّ القول بأنّ ظاهرة الحرب والسّلام بصورتها الرّاهنة ستظلّ تدور في حلقتها المفرغة طالما استندت في أرضيّتها التّفاوضيّة على الشّراكة مع نظامٍ لا يصلح كشريك؟ وهل المخرج إلى ذلك حرب لا تجعل التّفاوض مع النّظام الحالي وارداً في حساباتها، لتستهدف أوّل ما تستهدف تغيير النّظام Regime Change، بوصف ذلك شرطاً أساسيّاً لتفكيك ماكينة التّمركز والتّهميش؟
    أختم هذه المقدّمة بالتّنويه إلى أنّ هذه الورقة أشبه ما تكون كفصل كامل مستلّ من الطّبعة الخامسة لكتابي منهج التّحليل الثّقافي الذي نعكف على إخراجه قريباً بإذن الله. فعدم توسّع الورقة لمناقشة الفرضيّات والأسئلة يعود، كما ذكرنا، لمحدوديّتها؛ ولكنّا في الكتاب نقوم بتوسيع المناقشة بما نرجو أن يكون كافياً لاستعراض جوانبها وآفاقها.

    المركز والهامش: خلفية المصطلح
    يجوز القول بأنّ مصطلحي "المركز" Centre و"الهامش" Margin أصبحا الأكثر شيوعاً واستعمالاً عند تحليل أوجه الصراع الثقافي والسلطوي في السّودان، خاصّة ما بعد الألفيّة الثّانية. فمتى وكيف بدأ استخدام هذين المصطلحين في توصيف الصّراع الفكري والسّياسي في السّودان يا تٌرى؟ يُحيل بعض الكتّاب المراقبين استخدام هذا المصطلح إلى الكاتب المصري سمير أمين [أنظر: فيصل محمّد صالح، جريدة الصّحافة، 2/9/2007، العدد 5109]، وهو ما نختلف فيه معهم. وفي الحقيقة يذهب الكثيرون إلى هذا الرّأي، وذلك باعتبار أن المصطلحين قد وردا في الفكر الإشتراكي المحدث، أي ما بعد الحرب العالميّة الثّانية. ولكن في الحقيقة ما شاع عن الفكر الإشتراكي المحدث لم يكن بالضّبط مركّب مصطلحي "المركز" Centre و"الهامش" Margin، بل كان تحديداً مصطلح Periphery والذي يمكن أن يُترجم إلى "الهامش" كما يمكن أن يُترجم إلى "الأطراف". وجاء استخدام مصطلح "الهامش" بهذا الفهم في المدرسة الإشتراكيّة المحدثة لمعالجة أوضاع البلاد التي تعيش مرحلة ما قبل الرّأسماليّة. ذلك لأنّ دخول هذه البلاد في السّوق الرّأسماليّة بوصفها مصدراً للمواد الخام قد أدّى إلى تراكم ثروات طائلة فيها دون أن تكون قد دخلت مرحلة الرّأسماليّة.
    من المرجّح أن بعض الكتابات المتميّزة في هذا الصّدد (مثل جلال الدّين الطّيّب، 1989 ـ جرت الدّراسة فيما بعد منتصف السّبعينات) كان لها الدّور الأكبر، ليس فقط في إدخال المصطلح إلى حلبة الفكر السّياسي الاقتصادي السّوداني، بل لفت الأنظار إلى كتابات سمير أمين في هذا المجال. فجلال الدّين الطّيب لا يظهر احتفاءً علميّاً ملحوظاً بمصطلح "الهامش الرّأسمالي" Peripheral Capitalism حسبما وردت في بعض كتابات سمير أمين فحسب، بل يستند عليها في تأسيساته المنهجيّة (على سبيل المثال سمير أمين، 1972؛ 1978). في عام 1983م ظهرت الحركة الشّعبيّة لتحرير السّودان، ومعها ظهر المنافيستو (الحركة الشّعبيّة لتحرير السّودان، 1983) الذي لخّص رؤاها الأساسيّة (حينذاك) لطبيعة الصّراع السّياسي والاجتماعي بالسّودان. وبالرّغم من اشتمال المنافيستو على مصطلح "المركز" Centre، إلاّ أنّه لم يشتمل على مصطلح "الهامش" Margin، بل استخدم مصطلح Periphery والذي تجوز ترجمته " الأطراف". وهذا يمكن اتّخاذه كبيّنة على الاندياح الدّلالي للمصطّلح في محمولاته الاقتصاديّة الماركسيّة.
    ولكن كلّ هذا، وبافتراض أنّ له علاقة بالمصطلح في مرسوماته العربيّة واللاتينيّة التي فشت بعد ذلك (المركز Centre في مواجهة الهامش Margin) ـ أي تجاوزاً لمفارقة المصطلح Periphery، ليس له علاقة بالمحمولات الفكريّة التي يُستخدم المصطلحان وفقها الآن. فالمدرسة الإشتراكيّة المحدثة كانت تركّز على أوضاع الهامش الرّأسمالي Periphery، وذلك لحقيقة انبثاقها أصلاً بغرض معالجة أوضاع بلدان ما قبل الرّأسماليّة، دون أن تولي كتلة الغرب الرّأسماليّة (والتي منطقيّاً تحتلّ هنا موقع "المركز") أيّ اهتمام تنظيري بحسبان أنّ الماركسيّة في أصولها الفكريّة قد أوفت ذلك. إذن فالسّياق المنهجي الذي استُخدم فيه المصطلحان (تحديداً مصطلح "الهامش" Periphery) كان المادّيّة التّاريخيّة. ولكن كلّ هذا يختلف تماماً عن السّياق المنهجي الذي يُستخدم فيه المصطلحان (تحديداً مصطلح "المركز" Centre ثمّ مصطلح "الهامش" Margin) الآن حسبما شاع منذ أواسط ثمانينات القرن العشرين. فالاستخدام الحالي للمصطلح، وإن كان يتّصف بالجدليّة، إلاّ أنّه يجري وفق سياق منهجي ثقافي يختلف تماماً عن ذاك المادّي، هو ما يُعرف الآن بمدرسة التّحليل الثّقافي. ولهذا ربّما كان الأكفأ في معالجة أوضاع التّعدّد الثّقافي والهويّة ودور كلّ ذلك في تحقيق مشروع السّودان الجديد. وجديرٌ بالذّكر أنّ الحركة الشّعبيّة، مع احتفاظها بالمصطلح، تخلّت عن دلالاته المادّيّة الماركسيّة بمنتصف تسعينات القرن العشرين، لتأخذ بدلالاته الثّقافيّة، الأمر الذي أدّى إلى خلق مواضعة فكريّة بينها وبين خطاب مدرسة التّحليل الثّقافي التي يرجع إليها الفضل في رسم الإطار الخطابي لمصطلحي "المركز" Centre و"الهامش" Margin، وفق ما تشهد به السّاحة الآن. فكيف ومتى حدث هذا؟
    يمكن تحديد عام 1968م كبداية لتدشين هذين المصطلحين في بعديهما الثّقافيّين، وذلك عندما استخدمهما علي مزروعي [1971] في معالجته النقدية للصراع الثقافي والسّياسي بين مستعربي السّودان وما شاكله من دول ذوات شعوب مستعربة أسماها الهامش (السّودان، الصومال، موريتانيا، جيبوتي)، وبين العرب العاربة الذين أسماهم المركز. من المؤكّد أنّ الاندياح المعرفي لهذا الاستخدام الذّكي استغرق فترة السّبعينات بما شهدته من مناقشات حادّة ومثمرة بخصوص هويّة السّودان من حيث عروبته وأفريقيّته. هذه المناقشات كان في الواقع امتداداً لمناقشات مدرسة الغابة والصّحراء في السّتّينات، وقبلها بعقود في مدرسة الفجر في العقد الرّابع من القرن العشرين [لمزيد من التّفصيل يُرجى مراجعة: جلال هاشم، "السّودانوعروبيّة أو تحالف الهاربين"، 1999]. لكن ما يميّز مناقشات عقد السّبعينات أنّها دُشّنت باتّفاقيّة أديس أبابا عام 1973م التي بدأ التّحضير لها في مطبخ السّياسة السّوداني منذ مجيء نظام مايو للحكم. يكمن أثر اتّفاقيّة أديس أبابا القوي في أنّه وضع خطاب الاستعراب، ولأوّل مرّة بصورة حادّة، أمام أفريقيا السّوداء غير العربيّة أو المستعربة. فظهور المثقّفين الجنوبيّين بلونهم الأسود الفحمي وبتفوّقهم في لغتهم (نعم، لغتهم!) الإنكليزيّة التي كانوا يتكلّمونها بوصفها لغة الفكر والثّقافة الوحيدة لهم، لا عن حذلقة وتقعّر أنقليكاني كما هو الحال عند بعض مستعربي من شملهم مسمّى شمال السّودان، ثمّ تسوّد العديد منهم وظيفيّاً على صفوة مستعربة السّودان؛ كلّ هذا مهّد الطّريق إلى بروز وعي جديد يتجاوز مفاهيم مدرسة الغابة والصّحراء الاستعرابيّة (صاحبة منظور "بوتقة الانصهار") لتحقيق رحابة أيديولوجيّة يمكن أن تسع هؤلاء القادمين. في هذا الجوّ ظهرت دعوى السّودانويّة التي تجاوزت منظور بوتقة الانصهار بتداعياتها الاستيعابيّة Assimilatory لتقوم في المقابل بتدشين منظور "الوحدة في التّنوّع" بترتيباته التّكامليّة Integrative [راجع: جلال هاشم: أن يكون أو لا يكون (بالإنكليزيّة)].
    في أخريات سبعينات القرن العشرين ظهرت في الجامعات والمعاهد العليا السّودانيّة، وفي أوساط الطّلاّب السّودانيّين خارج السّودان، الحركة التي عُرفت باسم "مؤتمر الطّلاّب المستقلّين". رفعت تلك الحركة شعار الدّيموقراطيّة واستلهام فكر وطني من التّراث السّوداني؛ وبالتّالي دعت إلى احترام كافّة أجناس التّراث إن شرقاً أو غرباً أو شمالاً أو جنوباً. وكان من الطّبيعي أن ينتقل الحوار والنّقاش النّاشب حينها حول عروبة وأفريقيّة السّودان، والذي كانت تدور رحاه في صفحات الجرايد، إلى حركة المستقلّين. بنهاية عام 1982م تبلورت داخل أروقة حركة الطّلاب المستقلّين بالجامعات السّودانيّة وخارجها الحركة الفكريّة التي عُرفت فيما بعد باسم مدرسة التّحليل الثّقافي. التقطت تلك الحركة هذين المصطلحين ضمن اهتمامها الفكري بظاهرة الصّراع الثّقافي في السّودان وعروبة السّودان من أفريقيّته، فقامت باستخدامهما لتوصيف الصّراع بين مستعربي السّودان ومن عداهم من مجموعات لا تزال على الأفريقيّة لغةً وثقافةً. في عام 1986م ظهرت أعداد محدودة من الإصدارة الشعبية الأولى لكتاب منهج التحليل الثقافي (محمّد جلال هاشم، 1986)، مخطوطة باليد ومطبوعة بالرّونيو. قام هذا الكتاب، والذي لا يعدو كونه تلخيصاً للمفاهيم الأساسيّة لتلك المدرسة، بتوطين هذين المصطلحين في تحليله للصّراع الثّقافي في السّودان بالنّظر إليه على أنّه بين مركز إسلاموعروبي وهامش أفريقي؛ وقد استصحب مع مصطلحي "المركز" Centre و"الهامش" Margin مصطلحي "الوسط" Middle و"الأطراف" دون أن تكون الأخيرة مستمدّة من ترجمتها الإنكليزيّة Periphery بتداعياتها الواردة في الماركسيّة المُحدثة. فيما بعد لدى صدور الطّبعات الثّلاث اللاحقة (1988؛ 1996؛ و1999) يركن جلال هاشم إلى مصطلحي "المركز" و"الهامش" دونما عداهما.
    بعد ذلك قام عبد الغفّار محمد أحمد [1988]، متبنّياً رؤية علي مزروعي بخصوص الحزام الهامشي للدّول العربية، بمعالجة قضايا الصّفوة والطّبقة المثقّفة في هذه الدّول الهامشيّة (تحديداً السّودان) من حيث تحامل رصيفاتها في باقي الدّول العربيّة (العاربة) عليها (أنظر نقد محمّد جلال هاشم في "السّودانوعروبيّة أو تحالف الهاربين"، 1999، لما ذهب إليه عبد الغفّار محمّد أحمد). كما استخدم منصور خالد (1993) مصطلح "المركز" دون "الهامش" بمحمولات جغرافية ديموغرافية ("أهل الحضر والريف"؛ "المركز والتّخوم"). فيما بعد تمّ تكريس المصطلح ("المركز" Centre و"الهامش" Margin) عبر كتاب أبّكر آدم إسماعيل جدلية المركز والهامش [1997] بأجزائه الثلاثة.
    هناك اختلاف كبير، وإن لم يكن جوهريّاً، بين مفهوم التّمركز والتّهميش وفق ما جاء عند جلال هاشم وذلك الذي قال به أبّكر آدم إسماعيل فيما بعد. فكتاب منهج التّحليل الثّقافي (محمّد جلال هاشم، 1999) يعتمد في نظريّته الأساسيّة على الزّعم بأنّ الصّراع الثّقافي ما هو إلاّ صراع جدلي، وفق مفهوم الجدليّة التي قال بها هيغل وطبّقها في المثاليّات، والتي قال بها لاحقاً ماركس وطبّقها في المادّيّات. ويستند النّظر إلى الصّراع الثّقافي، بوصفه صراعاً جدليّاً، على تعميم الثّقافة لتشمل العالم المثالي والمادّي ومجمل أنشطة الإنسان. بهذا يصبح الصّراع الثّقافي حالة صحّيّة لا يجوز، كما لا يمكن، أن تنفصم عراها. ولكن الكتاب مع ذلك لا يُضفي أيّ خصوصيّة جدليّة على التّمركز والتّهميش، إذ يذهب إلى أنّ هذه الظّاهرة ينبغي أن تُفصم عراها لتزول. في المقابل يُضفي خصيصة الجدليّة على العلاقة بين الرّيف والمدينة، باعتبارها ظاهرة ذات مدلولات ديموغرافيّة ثقافيّة، كما يُضفي على مفهوم الوسط والأطراف دلالات ديموغرافيّة خدميّة ليصبح المفهوم بمثابة محطّة وسيطة بين جدليّة الرّيف والمدينة من جانب ولاجدليّة التّمركز والتّهميش من الجانب الآخر. في كتابه جدليّة المركز والهامش (1997) يذهب أبّكر آدم إسماعيل إلى نفس الشّيء مع فارق اصطلاحي ومفهومي يكمن في تعميمه لكلّ الظاهرة أعلاه في مصطلحي المركز والهامش. وبهذا اتّفقا في المفهوم عموماً وإن اختلفا في توظيفهما للمصطلح؛ فبينما يمكن وصف منهج جلال هاشم بأنّه موضعي Topical، يجوز وصف منهج أبّكر إسماعيل بأنّه إجمالي Holistic. ولكن هذا الافتراق المفهومي والاصطلاحي وانحصار جلال هاشم لاحقاً في مصطلحي "المركز" Centre و"الهامش" Margin، لم يُساعدا الكثيرين على استكناه أوجه الائتلاف والاختلاف.
    غنيٌّ عن القول بأنّنا سنعتمد هنا في تفسيرنا لظاهرة التّمركز والتّهميش على منهج التّحليل الثّقافي في صورته التّشريحيّة عند جلال هاشم. ولكن هذا نفسه لا ينبغي أن يصرفنا عن استكناه المشتركات المفهوميّة، وهي كبيرة وكثيرة، بين مختلف المناظير والمقاربات الفكريّة لقضيّة التّمركز والتّهميش بما في ذلك البعد الاقتصادي للمسألة. ومن ذلك، مثلاً، ما قد يبدو تجاوزاً لاستخدام علي مزروعي وعبد الغفّار محمّد أحمد للمصطلح، من قبل مدرسة التّحليل الثّقافي. فإذا جاز الاتّفاق على أنّ الإثنين يحصران معالجتهما على العلاقة بين العرب العاربة من جهة (أهل الجزيرة العربيّة) والعرب المستعربة من جهة أخرى (عرب السّودان وموريتانيا إلخ)، لا يجوز القطع بأنّ معالجة مدرسة التّحليل الثّقافي تنحصر في العلاقة بين مستعربة السّودان من جهة، وأفارقة السّودان من جهة أخرى. فمع أنّه يجوز القول بأنّ هذا ما كان عليه أمر معالجة مدرسة التّحليل الثّقافي في بداياتها، إلاّ أنّها في عاقبة أمرها تقوم بمعالجة ظاهرة التّمركز والتّهميش في العلاقة بين العرب العاربة ومستعربة السّودان. فحسبما سنقرأ أدناه نجد أنّ هذا ما ستؤول إليه المسألة في حال اكتمال دائرة التّمركز والتّهميش داخليّاً (أي بين السّودانيّين). بمعنى، إذا اكتملت دائرة التّمركز والتّهميش دون النّجاح في فصم عراها (ذلك لأنّها غير جدليّة وفق منظور جلال هاشم)، فإنّها ستؤدّي إلى اتّساع دائرة الظاهرة لتُفضي إلى تهميش الشّعب السّوداني في مجمله إزاء العرب العاربة بتحويلهم إلى عرب من الدّرجة الثّانية في أفضل الأحوال أو الدّرجة الثّالثة، أو إلى أسوأ من ذلك بتفكيك منظومة الدّولة السّودانيّة لعجز المركز ومشروعه الأحادي عن إدارة التّعدّديّة. كما يمكن ملاحظة المواضعات الكثيرة التي ينطوي عليها المفهوم عند أبّكر آدم إسماعيل مع مفاهيم الاقتصاد السّياسي، وذلك عندما يتعرّض لمسألة بلدان ما قبل الرّأسماليّة.

    ما هو المركز؟
    المركز ليس إلاّ مجموعة من الصّفوة المعاد إنتاجها ثقافيّاً ـ ومن ثمّ أيديولوجيّاً ـ داخل حقل الثّقافة العربيّة الإسلاميّة عبر عمليّة من الأدلجة والتّشكيل، الأمر الذي يُفضي في النّهاية إلى شيئ لا علاقة له بإنسانيّة هذه الثّقافة نفسها وبذلك ينسفها. بهذا لا يكون المركز مرتبطاً بعرقٍ ما، أو جهةٍ ما، وما تصويره على أنّه كذلك إلاّ مجرّد خدعة. فالمركز مركز سلطوي، صفوي يحتكر السّلطة والثّروة، وفي سبيل تأمين مصالحه يسخّر الثّقافة والعرق والدّين والجغرافيا. بهذا تُصبح هناك طريقٌ واضحة للطّامحين للسّلطة إذا ركبوها وصلوا إليها: الأسلمة والاستعراب، أي تبنّي الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة. وهكذا تكوّن المركز من صفوة متباينة الأمشاج والأعراق والثّقافات، متلاقية في الأهداف المتمثّلة في الثّروة والسّلطة. هنا لا يهمّ من أيّ مجموعة ثقافيّة أو عرقيّة ترجع أصول المرء، طالما كان مستعدّاً للتّضحية بأهله تحت شعار الإسلام أو العروبة، وكلاهما بريئ من ذلك. وفي الواقع فإنّ أغلب الرّموز القياديّة التي قام عليها المركز من أبناء المجموعات الموغلة في التّهميش إلى حدّ التّعريض بها ثقافيّاً وعرقيّاً. هذا هو المركز الذي يسيطر على مؤسّسة الدّولة في السّودان، مهمّشاً في ذلك جميع السّودانيّين. هكذا تكوّن المركز من أمشاج إثنيّة منبتّة عن أصولها، وهو مركز غير وطني بالمرّة ولا همّ له غير أن يحوز على السّلطة والثّروة. وهو مركز على استعداد لأن يبيع السّودان بالقطّاعي وبالجملة طالما كان ذلك سيُؤمّن له احتياز السّلطة والثّروة.
    وما هو الهامش؟
    توالى قولنا في الكثير من البحوث بأنّ الهامش ليس في جهة جغرافيّة بعينها (شمالاً كانت أو جنوباً، شرقاً أو غرباً أو وسطاً) دون غيرها، بل هو في كلّ مكان، ومن يغالط في هذا عليه أن يخرج مما يسمّى بالمناطق الحضرية عدّة كيلومترات فقط ليرى التّهميش بأم عينه. كما لا يصبح الهامش وقفاً على مجموعات إثنيّة بعينها دون أخرى. وهذا هو مناط القول بأنّ الهامش ليس جغرافيّاً كما ليس عرقيّاً، بل هو هامش سلطوي أيضاً.
    ولكن ينظر الكثير من المثقّفين إلى الهامش باعتباره المنطقة الجغرافيّة الواقعة في أقصى الغرب والشّرق والجنوب بخلاف وسط السّودان وشماله الوسيط، كما يربطون فهمهم هذا بالمجموعات المستعربة التي تعيش بهذه المنطقة ثمّ بالنوبيّين في أقصى الشّمال. ولكنّا نرى أنّ هذا الفهم يتقاصر عن الإحاطة بظاهرة التّمركز والتّهميش وارتباطها بعمليّة تداول السّلطة. أكثر من ذلك فإنّ هؤلاء النّاس يقعون في شركٍ نصبه لهم المركز الذي يريد أن يصوّر الأمور وكأنّها تجري هذا المجرى. ذلك لأنّ ابتناء رؤية كهذه من شأنه أن يجيّر أبناء هذه المناطق ـ والتي هي أيضاً مهمّشة ـ لمصلحة المركز، وهو تجيير قد حدث فعلاً واستمرّ ولا يزال يستمرّ. كما لا ينفي هذا بأيّ حال من الأحوال الامتيازات المادّيّة النّسبيّة ثم الأيديولوجيّة الوهميّة التي أضفاها المركز على أبناء هذه المناطق من حيث إيهامهم بأنّهم عرق متفوّق ذو ثقافة متميّزة، فضلاً عن إيهامهم بأنّهم هم سادة البلاد الأصليّون مقابل مجموعات ثقافيّة أخري منها ما هو وافد ومنها ما هو أقلّ شأناً لا يعبأ الله بهم ـ حسب زعم المركز. كما ينهض فهمنا على أن أصول التهميش ترجع إلى قرون وليست عدة عقود كما يرى البعض. كما يذهب فهمنا إلى أن عمليات التمركز والتهميش ليست مرتبطة بعرقٍ ما، أو جهةٍ ما، وما تصويرها على أنها كذلك إلا مجرد خدعة.

    التّهميش تنموي وثقافي
    يجري التّهميش على نوعين: بسيط ومركّب. التّهميش البسيط ذلك الذي ينحصر في الحرمان التّنموي والاقتصادي. في هذا يتساوى جميع السّودانيّين بمختلف ثقافاتهم وأقاليمهم باستثناء صفوةٍ منهم يشكّلون المركز وينتمون إليه. أمّا التّهميش المركّب، فذلك الذي يجمع بين الحرمان التّنموي والحرمان الثّقافي ممثّلاً في توجّهات الدّولة الأيديولوجيّة لإعلاء ثقافة بعينها على حساب ثقافات أخرى بما يندرج تبعاً لذلك من حرمان تنموي ومادّي. وتكشف النّظرة الأوليّة لواقعنا المعاش بوضوح انحياز الدّولة للثّقافة العربيّة إزراءً وتحقيراً للثّقافات غير العربيّة بالسّودان، أي الثّقافات الأفريقيّة. في هذا كان التّهميش الثقافي مدخلاً للتّهميش التّنموي، إذ جعلت مؤسّسة الدّولة الاستعراب مقابلاً للأفرقة، ومن ثمّ قامت بإعلاء الهويّة العربيّة وإزراء الهويّة الأفريقيّة. وقد كان من أثر هذه التّكتيكات الأيديولوجيّة أن وجدت المجموعات الأفريقيّة (التي تعاني من التّهميش المزدوج تنمويّاً وثقافيّاً) نفسها في الدّرك الأسفل عرقيّاً، وثقافيّاً، واجتماعيّاً وسياسيّاً حسب درجات تهميش كلّ واحدة منها على حدة وجماعاتٍ، الأمر الذي يستوجب منها عملاً موحّداً، ولو تفاوتت درجات تهميشهم وتعرّضهم للاضطهاد. لكنّنا نرتكب جريرة التّسطيح الفكري إذا ما قفزنا من هذه المقدّمة (انحياز الدّولة الظّاهر للثّقافة العربيّة على حساب الثّقافات الأفريقيّة) إلى استنتاج أنّ الدّولة بذلك تنحاز لحملة الثّقافة العربيّة. فحلقة التّهميش الثّقافي والتّنموي الموجّهة ضد الثّقافات الأفريقيّة إذا ما اكتملت، ستكشف عن أنّ الأمر قد انتهى بحملة الثّقافة العربيّة إلى نفس المصير، ألا وهو التّهميش المزدوج؛ ذلك لأنّ آليّات التّمركز والتّهميش في مآلاتها النّهائيّة تعمل على تهميش الشّعب السّوداني في مجمله ـ عرباً وأفارقة، عرقاً وثقافةً ـ بالنسبة إلى المركز العربي الكبير (العرب العاربة).
    فنظرة متفحّصة للفضائيّات والبرامج التّلفزيونيّة التي يشاهدها عموم السّودانيّين وبالأخصّ من ينتمي للثّقافة العربيّة تكشف عمّا نقصده بالتّهميش المزدوج الذي يحيق بالمجموعات ذات الثّقافة العربيّة. فمن يُعدّ ويخطّط ويُخرج برامج محطّة تلفزيونيّة بعينها يفعل ذلك بالنّظر إلى الجمهور المستهدف استقراءً لما يريد. لكن الذين يُعدّون برامج هذه الفضائيّات ربّما لا يدور في مؤخّرة ذهنهم شيئ اسمه "الشعب السّوداني". ولنا أن نلاحظ اقتفاء الفضائيّة السّودانيّة لخطوات القنوات العربيّة بأسلوب وقع الحافر على الحافر، حتّى دون أن تنجح في ذلك. ومثال آخر نُشير إلى التّعليم العالي الذي كان يميّز السّودانيّين في الماضي القريب بالمقارنة إلى العرب ضمن العديد من الامتيازات الأخرى. الآن ها نحن ننتظر من الدّول العربيّة أن تتكرّم بمدّنا بالكتب المترجمة إلى العربيّة فضلاً عن التّكرّم بابتعاث الأساتذة للتّدريس في جامعاتنا. هذا دون أن نشير إلى مسألة تغيير العلم حتّى يُشابه أعلام الدول العربيّة بدرجة تجعل من الصّعب تفريقها في بعض الأحيان؛ ثمّ تعديل فرق الزّمن بيننا وبين توقيت قرينيتش لا على أساس البعد الجغرافي شرقاً أو غرباً عن خطّ التّقسيم بل اتّباعاً غير رشيدٍ للتّوقيت في الجزيرة العربية، فتصوّروا! ومثل هذه الأشياء بدرجة عالية من الخطورة لأنّها تمسّ الشّعب في مرموزاته. لكلّ هذا يأتي قولنا بأنّ التّهميش المزدوج (ثقافي وتنموي) يحيق بكل فئات الشّعب السّوداني، من استعرب منها ومن تأفرق، وما ابتدار المركز باستهداف المجموعات الأفريقية إلاّ مجرّد تكتيك باعتبار ذلك مرحلة أولى ستعقبها حتماً المرحلة الثّانية ألا وهي استهداف المجموعات العربية بالسّودان بتهميشها هي نفسها وذلك بجعلهم عرباً من الدرجة الثانية إن لم تكن الثالثة. وضع كهذا يقتضي من القطاعات الذّكيّة لهذه المجموعات أن تستشفّ حُجُبَ المستقبل القريب فتعمل علي تلافي الكارثة. وتبدأ مثل هذه الخطوة الذّكية بالانخراط في صفوف القوى المهمّشة التي تناضل لتفكيك ماكينة التّمركز والتّهميش ليس من منطلق النضال بالوكالة تعاطفاً وإنسانيّةً مع المجموعات الأفريقية في مآسيها ومحنها، بل من منطلق النضال بالأصالة إنقاذاً لذاتها ضمن نضال قوى السّودان الجديد لإنقاذ الإنسان السّوداني من الذّل والهوان والتّبعية ومن ثمّ تحقيق دولة السّودان الجديد وصنع الاستقلال الحقيقي.

    تعدّدت الأشكال والتّهميش واحد
    تشتكي كل المجموعات المهمّشة من قلة حظّها في السّلطة وانعدام نصيبها في الثّروة. ولكن في الأمر لبساً لا بدّ من إجلائه. فإحالة المتنفّذين في أجهزة الدّولة والسّلطة الحاكمة إلى خلفيّاتهم الثّقافية والإثنيّة من حيث قيمتهم العدديّة وليس الأيديولوجيّة، لا ينبغي الأخذ به كمؤشّر ودليل على النّسبة التي حازتها المجموعة من حيث السّلطة والثّروة. فالمركز يجتذب إليه العديد من أبناء المجموعات المهمّشة والتي نالت حظّاً وفيراً أو متوسّطاً من العلم كيما يصبحوا جزءاً منه، مقابل أن يُمنحوا السّلطة والثّروة تعميةً لواقع حرمان أهلهم من كليهما. فعلى سبيل المثال لم تخلُ حكومة منذ الاستقلال وحتى الآن من المثقّفين الجنوبيّين، في الوقت الذي لا يغالط فيه إثنان أنّ نصيب الجنوب من السّلطة والثّروة لم يتغيّر البتّة عبر كلّ هذه السّنين. فحتّى انقلاب الإنقاذ نفسه في عام 1989م شارك فيه ثلاثةٌ منهم.
    مثال آخر يوضّح المسألة ما عليه إقليم النّوبيّين في الشّمال وإقليم أهلنا البجا في الشّرق؛ فكلاهما يعاني من التّهميش المزدوج. فبينما قبع البجا بأرضهم، اضطُّرّ النّوبيّون إلى هجرة بلادهم إلى درجة خلوّ الإقليم في بعض قراه من السّكان. وكلا المجموعتين مهدّدتان في تراثهما وهويّتهما من حيث احتمال زوال لغتيهما، إضافةً إلى فقر إقليميهما. من جانب آخر، إذا أحصينا عدد النّوبيّين الذين شاركوا في الحكومات منذ الاستقلال وحتى اليوم، مقارنةً مع ما عليه حال البجا، ستعكس الصّورة مفارقة ضخمة في ظاهرها، واحدة في جوهرها. إذ قلّما نجد نظام حكمٍ لم يشارك فيه وبصورة أساسيّة أشخاص يعودون في جذورهم العرقيّة و/أو الثّقافيّة إلى النوبيّين، فضلاً عن بعض رؤوس الحكومات مثل عبدالله خليل والنّميري والصّادق المهدي والزّبير، ناهيك عن الوزراء الذين ربما لا حصر لهم، الظّاهر منهم والخافي. بخصوص البجا، قد لا يتجاوز العدد أصابع اليد الواحدة، والمتّفق عليه بينهم عامةً عدد ستّة أو سبعة وزراء منذ الاستقلال وحتّى اليوم.
    لكن يبقى السؤال: بماذا انتفع النّوبيّون من كثرة عدد الوزراء والرّؤساء ممّن يعودون في خلفيّاتهم العرقيّة والثّقافيّة إليهم؟ هل قامت تنمية في بلاد النّوبة؟ الإجابة لا! فقد حازت تلك الصّفوة النّوبيّة كلا السّلطة والثّروة، فهل تقاسمتها مع عامّة الشّعب النّوبي؟ الإجابة لا أيضاً! من الملاحظ أنّ تلك الصّفوة فيما تنزّلت من أجيال تنشّأتها وربّتها، قد ابتعدت عن أهلها ثقافةً وموطناً، إذ استعربت وتأسلمت تماماً، فلا أبناؤهم يتكلّمون النّوبيّة ولا هم يعرفون في غالبيّتهم شيئاً عن بلادهم وعن التّهميش المزري الذي ترزح تحته. هذه الصّفوة كما لو كانت قد باعت أهلها وبلادها من أجل السّلطة والثّروة. فليت الأمر وقف عند ذلك، فقد وجد النّوبيّون المهمّشون أنفسهم في موقع الدّفاع عن أنفسهم باعتبار أنّهم جزء من المركز الذي احتكر السّلطة والثّروة، لا لشيئ إلاّ لأنّ بعضاً من أبنائهم الذين صرفوا عليهم من عرقهم ودمائهم قد حازوا على الثّروة والسّلطة فانكفأوا بها على أنفسهم. فما أفاد منه النّوبيّون من ذلك العدد الضّخم من الرّؤساء والوزراء يساوي ما أفاد منه البجا من ذلك العدد القليل من الوزراء، وهو لا شيئ. ولو انعكست الآية، لما تغيّر حال كليهما تهميشاً تنمويّاً وثقافيّاً.
    في هذا نقول إنّ التّعليم نفسه قد تمّت قولبته وتشكيله ليخدم أيديولوجيا الهيمنة والقهر التّنمويّة والثّقافيّة. ويشهد واقع النّوبيّين اليوم ـ على سبيل المثال ـ بهذا؛ فهم من أكثر المجموعات نيلاً للتّعليم وفق هذه القولبة الجائرة؛ كما هم الآن، بفضل هذا، من أكثر المجموعات تعرّضاً للاندثار كمجموعة أفريقيّة لها لغتها وثقافتها وموطنها الجغرافي [راجع في ذلك: محمّد جلال هاشم، رسالة كجبار. تحت الطّبع].
    إذن المحتكم في هذه المسألة أنّ من تسلّم السّلطة ينبغي محاسبتهم على ضوء البرامج الأيديولوجيّة التي بمقتضاها فعلوا ذلك، لا بمقتضى خلفيّاتهم الإثنيّة التي لا دخل لها فيما جرى. فحتّى الآن لم يتسلّم أيٌّ من أبناء البجا أو المناصير أو جبال النّوبة أو النّوبيّين (أو أيّ مجموعة أخرى) موقعاً سلطويّاً باسم المجموعات التي يصدرون منها باعتبار أنّ ذلك الموقع يمثل جزءاً من قسمة السّلطة والثّروة الخاصّة بالمجموعة. فمثلاً إذا استلم السلطة شخصٌ من الفور باعتباره عضواً في الجبهة الإسلامية انطلاقاً من أيديولوجيا تمكين الدّين وإعلاء راية الجهاد، ثمّ أثرى بعد ذلك عن فسادٍ زاخم، فضلاً عن بعض عمليّات تقتيلٍ وإبادة هنا وهناك، في الجنوب والإنقسنا إلخ، فكيف بالله نحمّل أهلنا في دارفور مسئوليّة هذا المارق؟ لكن، تُرى هل سننتظر كلّ هذه السنين حتّى تكتشف القوى السياسيّة ما يحيق بالنّوبيّين وباقي المجموعات المهمّشة كالمناصير والرّباطاب وغيرهم من عرب السّودان، ثم بالسّودان أجمع؟ أوليس من المؤسف أنّ الإقرار بأنّ مجموعةً ما تقع داخل دائرة التّهميش لا يتحقق إلاّ بعد أن تُسفك دماء الأبرياء من المجموعة، والذين غالباً ما يكونون من الأطفال والنساء والشّباب اليانع؟

    الكتاب الأسود والرّؤية المقلوبة
    وقع الكثير من المثقّفين السّودانيّين في شرك النّظر إلى التّهميش من زاويته الرّقميّة غير المنهجيّة، فأضاعوا جهدهم وجهد غيرهم فيما لا طائل من ورائه غير تغبيش الرّؤية. وقد توّجت هذه الرؤية الرقميّة السّطحيّة للتّهميش فيما عُرف باسم الكتاب الأسود [حركة العدل والمساواة، 2003]، وذلك في سبيل نصرة قضيّة دارفور، وهي رؤية قد تضرّ بمسيرة نضال القوى المهمّشة، ذلك لأنّها تشوّه الواقع أكثر مما تعكسه. وبدءاً نشير إلى أنّ الكتاب قد انبنى على منهجيةٍ فضائحيّة، متحاملة لونيّاً وعرقيّاً، في تناوله للتّهميش من حيث ارتباط مسمّاه بمعرّة السّواد. وفي هذا كشف كُتّابُه، في أحسن الاحتمالات، عن تبعيةٍ غير نقدية وغير راشدة لأيديولوجيا المركز التي تحطّ من قدر كل ما هو أسود في بلد السّود الذي اسمه السّودان. فهذه الأخلاقية الفاشيّة التي تُزري باللون الأسود قد تُتّخذ بيّنةً تكشف عن أنّ الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة تمثّل الخلفيّة الأيديولوجيّة التي قدم منها حاكةُ الكتاب. كما يمكن للكثيرين أن يشيروا، لتبيان وجهٍ من أوجه الخطل التي انبنى عليها الكتاب، إلى أنّ أبناء دارفور الذين انخرطوا في سلك الجبهة الإسلاميّة المسئولة الأولى عن هذا النّظام وعن سياسات التّطهير العرقي التي يُتّهم بها في دارفور وقبلها في جبال النّوبة والإنقسنا والجنوب، ربّما كانوا أكثر عشرات وعشرات المرّات من أبناء المناصير أو البجا أو النّوبيّين. فهل معنى ذلك أن نحمّل هذه الكوادر مسئوليّة الإبادة التي لحقت بأهلهم في دارفور؟ فسياسات التّطهير العرقي القائمة على العنصريّة من حيث العروبة والأفرقة، يجوز القول فيها إنّها متجذّرة في بنية مؤسّسة الدّولة منذ قيام سلطنة سنّار عندما استندت في مشروعيّتها الفكريّة على الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة. وقد انطوت تلك الأيديولوجيا على منزلق سلوكي خطير، به أصبحت الدّولة تتحدّر انزلاقاً يوماً بعد يوم. وفي هذا نشير إلى حقيقة أنّ التّطهير العرقي بدأ في دارفور بمذبحة الضّعين عام 1987م في ظل حكم الصّادق المهدي، أي في الدّيموقراطية الثّالثة [محمد جلال هاشم، 2005]. واليوم لو كان أبناء دارفور ممّن بدّد سني شبابهم وكهولتهم في تبعيّةٍ عمياء لدولة الجبهة الإسلاميّة، على سُدّة الحكم لما أجدى ذلك أهلهم فتيلا من حيث إمكانيّة تلافي التّطهير العرقي، ذلك لأنّ هذا المنزلق، دون إعفاء الأفراد القائمين به من المسئوليّة، متأصّل في بنية مؤسّسة الدّولة. ولعلّنا لا ننسى أنّ مذبحة المساليت عام 1995م، والتي بدأت بها فعلياً موجة التّطهير الأخيرة في ولاية غرب دارفور، قد تمّت والوالي أحد أبناء المساليت. ومع ذلك ما انتفع المساليت من ذلك شيئاً.

    هل الشّايقيّة يحكمون البلاد؟
    لعلّ مثل هذا النهج الجائر هو الذي انتهى بالعديد من القطاعات المتعلّمة، أي القطاعات المثقّفة، إلى إحالة مسئولية التهميش إلى مجموعات ثقافيّة بعينها، وتحديداً إلى مجموعة الشّايقية. وفي حالات أخرى قد تُضاف إليها مجموعة الدّناقلة، وفي حالات أخرى قد يُضاف جميع النّوبيّين. في هذا الخصوص يتساءل فيصل محمّد صالح [جريدة الصّحافة، العدد 5114، 9 سبتمبر 2007]: " لماذا يرد بكثرة في خطاب الحركات [أي حركات الهامش] إشارة للشّمال مرة، وللشّايقيّة والجعليّين، على العموم، وللثّقافة العربيّة الإسلاميّة باعتبارها مسؤولة عن التّهميش والاستعلاء ... إلخ؟".
    ومع أنّ ضلوع الصّفوة من أبناء هذه المجموعات في بنية المركز قديم، ومحكوم بعوامل بناء الصّفوة في السّودان، فضلاً عن الامتيازات التّنمويّة النّسبيّة التي حُظيت بها أقاليم وسط السّودان، إلاّ أنّ ما كرّس هذا الفهم ربّما يعود إلى أنّ النّاس ارتأوا أنّ أبناء هذه المجموعة، أو المجموعات، ممّن انخرط في سلك الحركة الإسلاميّة التي دبّرت انقلاب الإنقاذ، جرّاء الاستقطابات النّاشبة فيها، قد وحّدوا صفوفهم باعتبار أنّهم شايقيّة أو دناقلة أو خلافه. فهذا التّكتّل ما هو في الواقع إلاّ من تجلّيات صراع السّلطة وأدوائها التّنظيميّة داخل جسم حركتهم السّياسيّة، ولا علاقة له بالمجموعات الثّقافيّة التي صدر منها أعضاء الحركة. وهكذا يمكن أن يؤدّي غياب الرؤية النّاهجة إلى الاعتقاد بأنّ المجموعتين الثّقافيّتين في مجملهما مسئولتان عمّا حاق بباقي أعضاء التّنظيم الإسلامي من تجريدٍ للسّلطة ووخيم عاقبةٍ بين عصابة السُّرّاق. وللمسألة دفوعات أخرى، بالرّغم من قوّة الدّفع بأنّه لا يفيدهم في هذا القول بأنّ عصابة المتآمرين ممّن ينتمون فعلاً إلى الدّناقلة أو الشّايقيّة قد شرعوا في توسيع أحلافهم من ذوي القربى تسلّطاً وإثراءً؛ فذلك لأنّ هذا ما استنّته حركتهم بنفسها عندما جعلت من المحسوبيّة، عن قرابةٍ كانت أم عن أيديولوجيا، سياسةً معترفاً بها من الدّولة. بالرّغم من قوّة مثل هذه الدّفوعات، تبقي حقيقتان؛ الأولى أنّ النّزوع نحو هذا التّكتّل عادةً ما يحدث في الواقع للاحتماء بالمجموعة الثّقافيّة، من قبل عددٍ قليل من صفوة المجموعة التي تهتّكت عنها أسمالها الفكريّة ليتبدّى عريُها الأيديولوجي؛ الحقيقة الثّانية تكمن في أنّ المجموعة الثّقافيّة بريئة تماماً من هذه الفعلة النّكراء التي تتظاهر فيه الصّفوة أنّها تقوم به من أجلها. وفي الحقيقة ذهاب البعض إلى تحميل المجموعة الثّقافيّة مسئوليّة ما تقوم به بعض العناصر الانتهازيّة من صفوتها ليس إلاّ وقوعاً في شرك نصبه المركز.
    في يوم 22/11/2000م أدلى السّيد خليل إبراهيم، رئيس حركة العدل والمساواة، بتصريحات لقناة الجزيرة الإخباريّة (برنامج لقاء اليوم) www.aljzeera.net/channel/aspx أحال فيها طغمة المركز إلى مجموعة من أهل الشّماليّة وذلك في قوله بأنّ البلاد: "... تعيش حالة استعمار داخلي منذ عام 1956 السّودان وقع بعد أن خرج من الاستعمار الخارجي وقع تحت استعمار داخلي من قبل مجموعة صغيرة جدّاً من الإقليم الشمالي، الآن المواطن السّوداني في هذا القرن الواحد والعشرين يعيش في ظلام دامس ما فيش كهرباء في هذه الأقاليم في الأرياف نهائي في السّودان". نظر الكثير من المتابعين إلى تصريحاته تلك بأنّها تنطوي على فهم مغلوط لمسألة التّمركز والتّهميش، وذلك لمحاولة حصرها في إقليم بعينه. فصفوة المركز وإن كانت عامرة بأبناء شمال ووسط السّودان، إلاّ أنّ هذا محكوم بعوامل نموّ هذه الطّبقة في كلّ إقليم. فما حدث لصفوة أبناء الشّماليّة يمكن أن يحيق بصفوة أبناء الأقاليم الأخرى، إن لم يكن قد حاق بالفعل. وقد لا يحتاج الواحد منّا إلى الإشارة بأنّ معظم الرّيف السّوداني أينما كان، في الشّرق، الغرب، الجنوب، الشّمال أو الوسط، يعيش في ظلام دامس. بعد ذلك قام رئيس حركة العدل والمساواة بتسمية هذه المجموعة التي تتحكم في مقاليد البلاد مدّعيةً أنّها من العرب والعربُ منها براء: "... ولكن هذه المجموعة مجموعة من المجموعة النوبية ...". وربّما يقصد بقوله هذا إنّ المجموعات العربيّة بشمال السّودان ما هي إلاّ نوبيّون استعربوا؛ ولكن لنتمعّن، بالرّغم من جواز مثل هذا القول، كيف تشتّت كلامه وتطايرت دلالاته. وقد واصل رئيس حركة العدل والمساواة كلامه قائلاً: "... حقيقة العرب الأُصال [الأصلاء] الآن خارج دائرة الحكم وخارج دائرة الثّروة، العرب الأُصال [الأصلاء] الآن ينزحون [يرزحون] تحت الاستعمار في كل الأقاليم الآن العرب الأُصال [الأصلاء] الآن على ظهور الجمل وعلى ظهور الثيران مع البهائم رحلة الشّتاء والصّيف ليس لهم ماء ليس لهم تعليم ليس لهم صحة ...". وبالطّبع يصبح من الصّعب لمن يقول مثل هذا الكلام أن يقف عند هذا الحدّ، فإذا برئيس حركة كريمة تناضل من أجل تحقيق العدل والمساواة يقول عن العرب باكياً مستعطفاً إنهم: "... الآن هم يقودون ثورة وهم يجلسون أمامك [مشيراً إلى نفسه] العرب الأُصال [الأصلاء] في دارفور ضد هذه الحكومة ولكن العجيب العالم العربي لا يتقصى الحقائق ولا يقترب من الحقائق بس الحكومة هذه استطاعت أن تغشّ العالم العربي يا لا العجب ...".
    فالسّيّد خليل إبراهيم كأنّما يقول هنا بأنّ الذين يُقتلون في دارفور من العرب الأُصلاء، بينما الحكومة التي يسيطر عليها النوبيون الذين ليسوا عرباً هي التي أتت بالعرب الجنجويد لقتل الأبرياء بدارفور من العرب الأُصلاء. ولا يأتي استشهادنا هذا تجريماً لحركة العدل والمساواة أو حتّى لرئيسها الذي يجد كلّ الاحترام والتّوقير الواجب؛ فكلّ الذي قصدناه من هذا أن نبيّن خسران المنهج العرقي في مقاربة موضوع التّمركز والتّهميش؛ فمن المؤكّد أنّ سهام قوى الهامش ستطيش إذا ما ركنت هذه القوى في رؤيتها على المنظور العرقي لمسألة التّهميش.
    أجدى من ذلك أن ننظر إلى التّهميش في بعديه التّنموي والثّقافي، فإذا وقعنا عليه ما التفتنا إلى كم عدد المثقّفين من ذلك الإقليم المهمّش ممّن ارتضى أن يبيع أهله طمعاً في السّلطة وبدرةٍ من مال السُّحت. بعد هذا يمكننا أن ننظر إلى الواقع المعاش من حيث التّمتّع النّسبي بالسّلطة والثّروة الذي فازت به بعض الأقاليم على حساب البعض الآخر، خاصةّ النّيليّة منها، إمّا لقربها الجغرافي من مركز السّلطة والثّروة، أو لزيادة حصّتها من التّعليم الأولي فما فوق منذ عهد الاستعمار التّركي المصري، أو لمحاباةٍ من المركز في سعيه الدّائم لتحييد بعض قطاعات الشعب ذات السّكون الأيديولوجي الإسلاموعروبي وتحويل ذلك السّكون إلى تواطؤ، ريثما يتمكّن المركز من تدجين القطاعات الأخرى جامحة الأفرقة لغةً وثقافةً.

    ولكن ماذا عن المواضعة العرقيّة للتّمركز والتّهميش؟
    نعني بالمواضعة هنا عندما يبدو، أو يكون بالفعل في حالات بعينها، خطاب السّودان الجديد الذي يناضل للقضاء على ظاهرة التّمركز والتّهميش، كما لو تحوّل إلى وضعيّة أيديولوجيّة ملتبسة بالعرقيّة والعنصريّة. أي بدلاً من السّعي والعمل بنبل للتّخلّص من ربقة التّسلّط الأيديولوجي الذي يُمارس باسم العروبة والإسلام، فإذا به يسعى للتّخلّص من العروبة والإسلام في منحى عنصري وفاشيستي بغيض. أو في صورة أخرى أن يحصر مفهوم المركز والهامش في أبعاده الجغرافيّة؛ أو جميع ما ذكرناه أعلاه. بهذا الخصوص، أيضاً، نعى فيصل محمّد صالح [جريدة الصّحافة، العدد 5109، 2 سبتمبر 2007] على الحركة الشّعبيّة تنكّبها للأسس والفكريّة والأخلاقيّة لنظريّة المركز والهامش التي لا تحصره في الجغرافيا أو العرق، وهي الأسس التي لا يني قادة الحركة الكبار عن الإعلان بأنّها نفس المبادئ التي ينطلقون منها، هذا بينما ينحون في لحظات التّعبئة الجماهيريّة إلى إزكاء نار الجهويّة والعرقيّة بإحالة المركز والهامش إلى وضعيّات جغرافيّة وعرقيّة. ويخلص إلى أنّ هناك مفارقة كبيرة لا ينبغي السّكوت عليها بين النّظريّة والتّطبيق.
    وفي الحقيقة لا يمكن إنكار أنّ هناك مواضعة من هذا القبيل، ليس على مستوى الممارسة فحسب، بل حتّى على مستوى التّنظير. فالمواضعة العرقيّة والجغرافيّة لازمت مفهوم التّمركز والتّهميش في الكثير من مراحل تطوّره. فحتّى عند جلال هاشم (منهج التّحليل الثّقافي، ط 4، 1999]، يمكن ملاحظة تعلّق مفهوم المركز والهامش بأهداب الجغرافيا والعرق. وربّما مردّ ذلك إلى أنّ مفهوم المركز والهامش ظلّ في حالة تخلّق مستمرّ، ترفد فيه الممارسة العمليّة بأكبر وأسرع ممّا ترفد به النّظريّة؛ ولعلّ هذا هو نفسه العامل الحاسم الذي جعل المشتغلين بأمر هذه النّظريّة أقرب إلى منتجي وممارسي النّضال اليومي لمناهضة التّمركز والتّهميش، ليس على المستوى النّفسي والمزاجي فحسب، بل على مستوى المشاركة في العديد من أوجه الممارسة ذات الطّابع التّنظيمي، أكان ذلك بين صفوف الحركة الشّعبيّة لتحرير السّودان، أم قوّات التّحالف السّودانيّة، أم حركة تحرير السّودان. فالعناصر الشّبابيّة النّشطة في مدرسة المركز والهامش عادةً ما كان ينتهي بها المطاف كعناصر قياديّة في هذه الحركات. والملاحظ أنّ أغلب المكاتب التّنظيميّة التي وقع عليها عبء تجويد الأداء الفكري في هذه الحركات والتّأهيل المعنوي والتّعبئة الجماهيريّة كان عليها شباب نشطاء من مدرسة المركز والهامش. بهذا يمكن أن يُقال بأنّ مفهوم المركز والهامش تطوّر اعتمالاً Praxis أكثر منه تأمّلاً ونظراً. في هذه المسيرة، التبس المفهوم في بداياته بالعرقيّة والجغرافيا في مُواضَعَة لا تخفى، وهي المُواضعة التي يبدو كأنّما قد تحرّر منها الآن تماماً على المستوى النّظري. ولكن، أكثر من ذلك تُشير دالّة التّطوّر إلى أنّ تيّار التّكامل والتّحمّل يتزايد كلّ يوم مقابل انحسار تيّار التّحامل العنصري والثّقافي، ذلك لأنّ المسألة في الواقع عبارة عن عمليّة Process، وليست مجرّد خطوات ميكانيكيّة واجبة الاتّباع.
    ولكن هذا لا يعني بأيّ حال من الأحوال النّظر إلى ردّ الفعل النّاجم عن السّلوك الاستعلائي بوصفه استعلاءً متوازياً. فالمواضعة العرقيّة التي نتكلّم عنها هنا ليست إلاّ مُنتَجاً ضمن منتوجات ظاهرة التّمركز والتّهميش، واستخدامها للعنصريّة والعرقيّة كأسلحة أيديولوجيّة فتّاكة. نعم، لازمت العرقيّة والعنصريّة البشريّة عبر التّاريخ، ولا يصحّ إحالة شرورها وحصرها في التّمركز والتّهميش. فحتّى في قمّة عداء السّاميّة في الغرب، كان اليهود ينظرون إلى الأوربّيّين نظرةً دونيّة وهم يرزحون تحت نير عدائهم لهم بوصفهم ساميّين. ولكن هذا لم يؤخذ، ولا ينبغي أن يؤخذ، كسلوك موازٍ لعداء السّاميّة به يتمّ تبرير الأخير ولو بصورة جزئيّة مواربة. ولعلّ ممّا لا يختلف فيه إثنان من ذوي النّظر السّليم أنّ المركز استخدم التّمييز العرقي كواحد من أنجع الأسلحة التي برّر بها السّلوك الاستعلائي الذي على أساسه جرى تقسيم النّاس في السّودان، وربّما في العديد من الدّول العربيّة، إلى تراتبيّة عرقيّة أدناها معرّة Stigma وأعلاها مغرّة Prestigma [راجع: جلال هاشم، أن يكون أو لا يكون (بالإنكليزيّة)]. بهذا أصبحت لدينا شجرةُ مجتمعٍ جذرُها وجذعُها العبيد؛ ومع ذلك، بدلاً من أن يكون لها طلعٌ كطلع الشّياطين، لها على العكس طلعٌ يُقال لهم "الأشراف"، وبينهما مرحلة بين مرحلتين تتجاذب دنوّاً وعلوّاً، فكان أن تقاسمت الأخيرة إرث الحضارة الإسلاميّة أمويّين وعباسيّين، فلا صاروا بذلك أفارقةً سوداً، ولا أصبحوا عرباً عاربة، فكأن خسروا بأكثر ممّا كسبوا، أو كما قال القائل: فلا كعباً بلغتَ ولا كلابا [لمزيد من التّفصيل، أنظر: الباقر العفيف، 2002]. ثمّ بلغت المأساة قمّتها في دارفور عندما شرع الأفارقةُ السّود ممّن تلبّستهم لوثةُ عروبة الجنجويد في قتل الأفارقة السّود وإفراغ المنطقة منهم، بزعم أنّ الأرض التي وسعتهم بمدى التّاريخ لم تعد قادرة على أن تسع السّادة والعبيد معاً، فتصوّروا!
    وقد تطرّقنا من قبل للعديد من مظاهر التّحامل والتّحامل المضاد، من ذلك مثلاً ما يتعلّق منها بالعلاقة بين النّوبيّين بشمال السّودان وبين إخوتهم بجبال النّوبة، أو بالحرازة بشمال كردفان، أو بشمال دارفور مثل الميدوب، أو بوسط دارفور كالبرقد. وناقشنا أشكال البجاح التي تشيع بين نوبيّي الشّمال والنّظرة الدّونيّة التي يوليها الكثيرون منهم لإخوتهم في الثّقافة واللغة والتّاريخ المشترك (راجع: جلال هاشم، 1997]. ولم يكن السّؤال الذي شغلنا ما إذا كان أهلنا في جبال النّوبة يكنّون للنّوبيّين في الشّمال الكراهيّة المشحونة بالحقد، بل إذا ما كان النّوبيّون في الشّمال قد وقعوا في حبائل المركز الأيديولوجيّة التي توهم سواد أهل وسط السّودان وشماله بأنّهم ليسوا سوداً بل قوم بيض من أرومةٍ شريفة، مقابل أناس آخرين كغُثاء السّيل لا يعبأ الله بهم لسواد لونهم ورسوخ أعراقهم في شرك العبوديّة لا لشيء إلاّ لسواد سحناتهم؟ وهل، على هذا، شرع نوبيّو الشّمال في إيلاء إخوتهم من أهل الجبال نظرة دونيّة، قافزين فوق حقائق التّاريخ التي تصرخ بالوشائج والصّلات؟ فحقيقة أنّ النّوبيّين بشمال السّودان يقعون داخل دائرة التّهميش لن تعفيهم من دفع فاتورة العنصريّة البغيضة هذي إذا ما رُصدت بينهم. وإذا ما وقف الواحد منّا بين جموع أهلنا بجبال النّوبة، وشرع في تعبئتهم لمواجهة التّمركز والتّهميش، ومن ثمّ طفح إلى السّطح خطاب التّحامل المضادّ إزاء نوبيّي الشّمال، أو أيّ مجموعة أخرى من لفيف المتحاملين، فآخر ما ينبغي المطالبة به أن يشنّ دعاة فكر المركز والهامش حرباً شعواء لكلّ صوت بينهم ملتبس بالعرقيّة أو حتّى بالجغرافيا في فهمه لطبيعة المركز والهامش.

    الحركة الشّعبيّة والتّراوح بين خطابين: هل هناك تناقض؟
    ما ذكرناه أعلاه ينطبق على الحركة الشّعبيّة لتحرير السّودان، وإن كان بتعقيدات لا يصلح معها التّطفيف والابتسار. فالحركة الشّعبيّة، ومنذ لحظة تأسيسها، تراوحت بين خطابين يبدوان كما لو كانا متناقضين؛ الأوّل منهما ما نطلق عليه الخطاب الاجتماعي، وهو الذي يستفيد من حرايك الغبن وإمكانات إزكائه حتّى يتحوّل إلى حقد، ومن ثمّ توظيفه في التّعبئة والتّجييش. هذا الخطاب موجّه أساساً للقطاعات التي عانت من التّهميش وانتفاء التّنمية حتّى بلغت قاع المعاناة إلى درجة إلغاء الإنسانيّة De-humanization، أكان ذلك بإلصاق العبوديّة بها معرّةً اجتماعيّة، أو بالسّعي نظريّاً وعمليّاً للاسترقاق. أمّا الثّاني فما نسمّيه الخطاب الثّقافي، وهو الذي يقوم على مفاهيم التّكامل الثّقافي والتّحمّل بدلاً عن التّحامل. هذا الخطاب يبدو كما لو أنّه يُطرح لكسب باقي المجموعات المهمّشة وباقي قطاعات المجتمع السّوداني المستنيرة، والتي تصطدم أوّل ما تصطدم بالخطاب الاجتماعي في حال انضمامها لصفوف الجيش الشّعبي أو الحركة الشّعبيّة. ولكن الأمر ليس كذلك وإلاّ كان حيلةً من حيل الصّفوة؛ فالحركة الشّعبيّة طرحت هذا الخطاب بوصفه امتداداً أفقيّاً ورأسيّاً في مستقبل أشواقها لتحقيق التّكامل الوطني وتبريد نار الغبن والاستعلاء.
    وفي الحقيقة النّظر إليه على أنّه يُطرح بغرض إيقاع المثقّفين ولتجميل صورة الحركة ربّما يعكس في نفسه بعض تكتيكات التّحايل التي ما فتئ المولى يبتلي بها الحركة الشّعبيّة. فتصوير التّراوح بين الخطابين على أنّه تناقض يطعن في مصداقيّة الحركة، من قبل بعض المثقّفين الذي صدروا من المجموعات التي تنتج ثقافة البجاح، ومن ثمّ محاصرتهم للحركة للإيقاع بها، يعكس المدى الذي يمكن أن يصل إليه المركز في التمترس الأيديولوجي. فهؤلاء في الواقع يُريدون من الحركة في حال تعبئتها لأفقر فقراء التّهميش من الذين أكلتهم نار العنصريّة الباردة، وفاح فيحُ غبنها في دواخلهم ـ يُريدون من الحركة الشّعبيّة أن تلعب لُعبة المسيح، فتباشرهم، وتبشرّهم بالخطاب الثّقافي لتغسل أوّلاً عنهم نار الغبن، ثمّ بعد ذلك تقوم بتجييشهم. وما درى القوم أنّه إذا كانت العنصريّة من أبغض ما اعتُمل في نفس الإنسان، فإنّ الغبن المتولّد عنها وتجلّيّاته كتحاملٍ مضاد من أنبل ما اعتُمل في نفس الإنسان. فهل نحتاج إلى التّذكير بأنّ مشروع السّودان الجديد الذي انبنى في أساسيّاته على الخطاب الثّقافي وصار أقرب إلى تعويذة جماهيريّة ـ هذا الخطاب استُخلص من قبل المجموعات التي حرقتها نار الغبن والتّحامل والعنصريّة، في عمليّة أشبه باستخراج "الشّربات" من "الفسيخ". وقد كان الثّمن ما يربو على الثّلاثة ملايين ماتوا على مذبح الغبن. ويجب ألاّ ننسى أنّ كلّ فردٍ [وأعتذر عن صيغة المذكّر وتحيّز اللغة النّوعي] من هؤلاء الضّحايا المجهولين قد ولدته أمٌّ، فأرضعته، فربّته، ثمّ على أقلّ تقدير سُفحت عليه دمعة أو دمعتين من عينٍ باكية. ولنا أن نتصوّر شلاّل الدّموع إذا ما قُدّر لنا أن نجمع الدّمعة والدّمعتين. ففي وضع كهذا لا يجوز لنا، نحن الذين ننتمي إلى مجموعات مهمّشة، نعم، لكنّها لم يصل بها تدهور الأوضاع إلى مرحلة اكتشاف تهميشها، ثمّ مع ذلك تنتمي إلى مجموعات ثقافة البجاح والعنصريّة ـ لا يحقّ لنا نحن أن نتوقّع من المجموعات المهمّشة التي أكلتها نار التّغابن أن تستخلص لنا خطاباً بخلاف الخطاب الاجتماعي الذي يُزكّي من نار الغبن النّبيلة ومن الحقد النّبيل. ولكنّ الدّنيا تعرف المعجزات! وإحدى أكبر هذه المعجزات كون الحركة الشّعبيّة لتحرير السّودان قد تجاوزت الخطاب الاجتماعي لتستخلص لنا الخطاب الثّقافي. وليس أدلّ على ذلك من أنّها رفعت شعار تحرير جميع السّودانيّين من ربقة السّودان القديم، وهو الأمر الذي سخر منه القوم أوّل أمرهم، إذ كيف يقوم العبد بتحرير سيّده! فكأنّما عامّة مثقّفي السّودان من قبيل الذين تحاموا الانخراط في صفوف الحركة الشّعبيّة لا لشئ إلاّ لتحاميهم عن أن يقودهم أهل الجنوب، قد جلسوا في كراسي الانتظار ريثما تُنهي الحركة الشّعبيّة المعركة بالانتصار، فيُقبلوا عليها لمحاجّاتها بالتّناقض الكامن بين الخطابين الاجتماعي والثّقافي، وما ذلك إلاّ لتذهب ريحُها، ولكن هيهات!
    لكلّ هذا نرى أنّه لا يجوز اتّخاذ مثل حالات المواضعة هذه لتسجيل إدانة مجّانيّة للحركة الشّعبيّة وتجريدها من أهليّة الخطاب الثّقافي. وأهتبل هذه السّانحة فأسجّل نقداً ذاتيّاً، إذ جاء صكّي لمصطلحي "الخطاب الاجتماعي" و"الخطاب الثّقافي" في كتابي منهج التّحليل الثّقافي (الطّبعة الثّانية، 1988م)، في سياق نقدي للحركة الشّعبيّة، وإبراز تناقضاتها واحتمال أيلولتها للفشل في تحقيق تحريرها للسّودان.
    وعلى أيٍّ، تبقى الحقيقة، وهي طالما كانت هناك مكامن عنصريّة في العديد من الكيانات التي لا تزال واقعة في شراك وحبايل المركز الأيديولوجيّة، يصبح من الصّعب الأقرب إلى المستحيل ألاّ تكون هناك مردودات مضادّة لها في الجانب الآخر. وعلى هذا يجوز النّظر إلى المواضعة العرقيّة بوصفها إحدى آليّات "تبريد" الغبن عن طريق ردّ التّحامل الممنهج (مثلما عليه الحال في الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة) بتحامل آخر مضاد، لكنّه غير ممنهج وذلك لكونه مجرّد ردّ فعل يجيء استناداً على المبدأ العدلي البسيط الذي يقول "العينُ بالعين، والسّنُّ بالسّنّ". وعلى هذا يكون من حقّ حركة التّغيير أن تستفيد في ترفيع فاعليّاتها التّعبويّة من بؤر الاستقطاب ذات المواضعات العرقيّة والجغرافيّة طالما كان ذلك يدفع بها للأمام تخلّصاً من شيطانها الأكبر ألا وهو المركز.
    ولكن البعض يتساءل، مثلما تساءل فيصل محمّد صالح [مصدر سابق]، عمّا إذا كان في هذا أذىً لأولئك الذين انضمّوا إلى ركب المهمّشين، بالرّغم من أنّهم ينتمون إلى مجموعات جرى العرف عنها، وربّما تعريف النّفس للنّفس، على أنّها تنتمي لأرومة المركز المستعلية؟ هذا ما لا ينبغي أن يحدث إلاّ إذا كان انضمام هؤلاء النّاس لا يعدو كونه مجرّد خدعة القصد منها تدجين وتحييد حركات الهامش. فإذا كان الاستعلاء والتّحامل العنصري والعرقي والنّظر إلى باقي النّاس كما لو كانوا عبيداً يُباعون ويُشترَون في الأسواق ـ إذا كان هذا السّلوك يتّصف باللا إنسانيّة، فما هو أكثر لا إنسانيّةً منه مطالبة ضحايا هذا السّلوك بالعمل على ضبط النّفس وذلك حتّى لا تُجرح مشاعر بعض من صدروا في خلفيّاتهم الثّقافيّة والإثنيّة من ثقافة الاستعلاء. فهذا يُذكّرنا بقصّة الوالد الذي تكفّل بإحضار ابنه المضادّ احتماعيّاً Anti-social إلى ساحة العدالة التي هرب منها، وذلك أملاً في أنّ مثل هذا السّلوك من شأن تقدير الضّحايا له أن يُعلنوا عن عفوهم وصفحهم لابنه. ولكن عندما لم يحدث هذا، قفل عائداً لمنزله وصدره يعلو ويهبط من خيبة الأمل والغضب العارم، ليُعلنها عالية، مدويّة لأهله: "الجماعة طلعوا حاقدين". فمثل هذا لا يعدو كونه استهبالاً أيديولوجيّاً، كم خبره النّاس، وبالأخصّ "ناس" جنوب أفريقيا السّود إزاء جموع البيض الذين أعلنوا في لحظة تضعضع نظام الفصل العنصري عن انحيازهم لعامّة السّود ومناهضتهم لنظامهم العنصري، بينما كان ضمن الأهداف وراء ذلك الرّغبة في تجنيب عامة البيض من أن تشملهم معرّة الجناية ـ أي الجناية التي صدقاً، حقّأً قد لحقت بهم، ألا وهي معاملة السّود كما لو كانوا من غير البشر. وما يخشاه المرء في هذا الخصوص أنّ برنامج المصالحة الذي انبنى على المصارحة والحقيقة ربّما لم يجئ إلاّ حلاًّ وسطاً نتيجة قوّة البيض المؤسّسيّة إزاء ضعف السّود المؤسّسي. فإذا تدهورت الأوضاع في جنوب أفريقيا في المستقبل القريب أو البعيد باتّجاه الوضع في زيمبابوي، فقد يكون السّبب وراء ذلك أنّ المسألة كلّها كانت عبارة عن حلّ وسط لوضع استثنائي شاذ ومتطرّف لدرجة تجعله لا يقبل بالحلول الوسطى. ولهذا يجوز القول إنّه إذا كانت معاداة السّاميّة في أوربّا الغربيّة جرماً لا يقبل المسامحة، فإنّ العبوديّة والعنصريّة والفصل العنصري هي الجرم الذي لا يقبل المسامحة في أفريقيا، ولا يمكن أن تسعه في دنيانا مواعين الرّحمة الرّحيبة.

    نعم الاعتذار واجب، لكن من يعتذر لمن وكيف؟
    جرى في الآونة الأخيرة حديث كثير حول مسألة الاعتذار، بين من يدعو له بلا تحفّظ وآخر يدعو له بتحفّظ، ثمّ آخرين منهم من يدعو له بشروط من بينها الاعتذار المتبادل، وآخرين يرفضونه جملةً وتفصيلا، إمّا عن عنجهيّة واستخفاف بالموضوع ككلّ، أو عن سذاجة وطيبة تعكسها مقولة "عفى الله عمّا سلف"، وهي مقولة لا تختلف كثيراً في سوئها عن العنجهيّة. ومع أنّ الملاحظ تقدّم حركة المطالبين بالاعتذار، إلاّ أنّها ربّما التبست بحواشي القضيّة حتّى كادت أن تصرفنا عن لبّ الموضوع. كما كاد الموضوع أن يفقد خصوصيّته السّودانيّة عندما عمد البعض إلى مضاهاته بقضايا الفصل العنصري في جنوب أفريقيا وبلدان أخرى. ولكن ما أقلقنا وكاد أن يختطف الموضوع من فضائه الثّقافي الرّحيب هو اختزاله في الفضاء السّياسي الضّيّق. من ذلك ما كتبه محمّد علي جادين [جريدة الصّحافة، 11/ أغسطس 2007، العدد 623]، معلّقاً على اعتذار باقان أموم (الأمين العام للحركة الشّعبيّة لتحرير السّودان) لمجمل المدنيّين الذي تضرّروا من الحرب التي قادتها حركته، ثمّ مطالبته باعتذار مماثل من القوى الأخرى بما من شأنه أن "يُبرّد" الغبن المعتمل في صدور أبناء الجنوب وجبال النّوبة ... إلخ. في مقاله الجيّد يُثني جادين على ما صدر من الحاج ورّاق من اعتذار لأهل الجنوب بالنّيابة عن القوى الدّيموقراطيّة والتّقدّم في شمال السّودان "... عمّا لحق بهم من مآسٍ ومظالم وتهميش باسم الثّقافة العربيّة الإسلاميّة في فترات سابقة". كما أشاد بأنّ "... الصّادق المهدي هو أوّل زعيم سياسي شمالي أكّد ضرورة هذه الاعتذارات في 1999م". ثمّ يختم بقوله: "ولذلك علينا أن نعترف أنّ مشكلة الجنوب هي صناعة سودانيّة، تتحمّل مسئوليّتها النّخبة الشّماليّة المسيطرة بشكل رئيسي، والقيادات السّياسيّة الجنوبيّة بدرجة مقدّرة. ومن هنا تنبع ضرورة الاعتذارات المتبادلة بين الطّرفين، بهدف كشف الأخطاء القاتلة، التي أدّت إلى وضعيّة الأزمة الرّاهنة وفتح الطّريق لإجراء مصالحة وطنيّة تاريخيّة تضع الأساس لبناء سودان ديموقراطي موحّد وفاعل في محيطه العربي والأفريقي والدّولي" [المصدر السّابق].
    بالطّبع ليس أيسر من تدبيج الرّدود على ما قاله جادين أعلاه، كان ذلك بالطّعن والتّشكيك مصداقيّة باقان أموم، أو في أهليّة الحاج ورّاق التّرميزيّة لتقديم اعتذاره أعلاه، أو في صدقيّة تأكيد الصّادق المهدي على ضرورة الاعتذار، وهو الزّعيم الطّائفي الذي لا يجوز نطق اسمه دون أن يكون مسبوقاً بلقب السّيادة والإمامة لا لشيء إلاّ للزّعم بنسبٍ شريف. كما يمكن الرّدّ بأنّ مسألة الاعتذارات المتبادلة تُفضي بنا إلى حالة تحييد Neutralization، من شأنها "تنفيس" الموضوع برمّته. ولكن الدّفع القوي (وليس الأقوى) لما قال به جادين أعلاه بخصوص من هم المسئولون عن مشكلة الجنوب يمكن أن يكون بإحالة مسئوليّة التّهميش إلى الصّفوة فحسب، دون أن نتوه في مشارع صفوة الشّمال وصفوة الجنوب بما من شأنه أن يُحيِّد القضيّة ويُلغي استقطابيّتها. فالصّفوة هي الصّفوة ولا اعتبار للجهة الإثنيّة أو الجغرافيّة التي صدرت من تلقائها، وليس أضلّ في مقاربة موضع الصّفوة والتّهميش من الوقوع في شرك الاستقطاب الخطّي (شمال ضدّ جنوب)، ذلك لأنّه يشوّه الصّورة بدلاً من أن يعكسها بأمانة. ولنا أن نلاحظ كيف اخْتُزل الموضوع في الفضاء السّياسي.
    ولكن أقوى الدّفوعات يكون بردّ الموضوع إلى رحابته الثّقافيّة للانطلاق منها نحو فضاءاته الأخريات. علينا أن نواجه الاستعلاء في أصوله الثّقافيّة، تلك التي تربّينا عليها، مستعليين أو مُستعلى علينا. فباقان أموم آخر من يمكن مطالبتهم بتقديم اعتذار لمن وقع عليهم ضرر بسبب الحرب الأهليّة، وهو الذي يحمل على ظهره تركة ثلاثة ملايين قتيل في تلك الحرب الظّلوم، أللهمّ إلاّ أن يكون ذلك تحايلاً لتوريط القوم المكابرين في اعتذارات مماثلة. فولحاجّ وراق أيضاً غير مطالب بأن يقدّم اعتذاراً سياسيّاً حافياً، إذ تعوزه مقوّمات التّرميز السّياسي، كأن يكون رئيس وزراء أو خلافه. ثمّ لا يمكن للصّادق المهدي أن يتصدّى لمهمّة الاعتذار السّياسي لما حاق بأهلنا في جنوب السّودان وباقي بقاعه جرّاء سياساته الوخيمة عندما كان على سُدّة الرّئاسة، ثمّ الاعتذار بعد ذلك عن الاستعلاء، قبل أن يقدّم اعتذاره لخاصّة أهله وأتباعه ممّن ينظرون إليه كما لو كان كائناً نورانيّاً هبط من السّماء. فالاستعلاء الطّائفي الذي يشكّل لُحمة وسدى حزب الأمّة وطائفة الأنصار يقف حاجزاً دون أن يتأهّل الطّائفيّون وزعماء الطّرق الصّوفيّة ومن لفّ لفّهم، لتقديم اعتذارٍ مقبول بهذا الشّأن. لكنّ الحاج ورّاق وغيره ـ مثلُهُم في ذلك كمثل جميع من صدروا عن ثقافات اجتماعيّة ركبها وهم الاستعلاء عرقاً وعنصريّةً ـ في مقدورهم أن يعتذروا عمّا خالج النّفس الأمّارةَ بالسّوء من وهم الاستعلاء والعنصريّة جرّاء النّشأة والتّثاقف. وعلم الله هناك اعتذارٌ يُوجبُ الاعتذارَ عن نفسه، إذ لا يصدر إلاّ عن نفسٍ مستعلية سرّها في هذا الشّأن كونها التي تعتذر وليس التي يُعتذرُ لها. على جميع هؤلاء أن يعتذروا لا عن كونهم صادرين من مجوعات ثقافيّة مصابة بجرثومة الاستعلاء فحسب، بل لأنّ التّنشئة وفق حرايك الاستعلاء تحتاج إلى درجة عليا من جهاد النّفس (وهو الجهاد الأعظم)، عسى به تُنزّه عمّا أصابها من أوشاب العنصريّة البغيضة ممّا جرى مجرى الدّم والنَّفَس والهواء. فهناك فرق كبير بين أن تكون رافضاً وبين أن تكون مرفوضاً؛ بين أن تتقدّم للزّواج برفيقة درب، ثمّ يُرفض طلبُك (ولو بكلّ أدب ورفق) بسبب لونك أو جنسك الذي يُنظر إليه على أنّه وضيع (فيك عرق)، وبين أن تكون من أسرة البنت التي رفضت، حتّى لو كنت من المتحمّسين لهذه الزّيجة الضِّيزى. فالمسافة بين نشوئك الاستعلائي منذ طفولتك وبين لحظة اكتشافك لذاتك السّويّة قد يفصل بينهما جسر صغير، بينما تجري تحته مياهٌ كثيرة. فقدومُك إلى ساحة الاعتذار مستصحباً معك امتيازات الاستعلاء يجرّدك من شرف الاعتذار، دع عنك نبله.
    بعد هذا يمكن أن نلج إلى الاعتذار في فضائه السّياسي. وهنا علينا أن نستصحب ذات المحذور أعلاه، وألاّ نأتي إليه مستصحبين امتيازات الاستعلاء. وهذا ما كنّا قد انتقدنا فيه دوافع العديد من المثقّفين السّودانيّين، الذين يبدو كما لو كانوا متّفقين معنا في عدم جدوى استمرار القهر والاستعلاء، لا بوصفه جرماً إنسانيّاً ووطنيّاً ينبغي المعاقبة عليه في أحسن الأحوال والاعتذار عنه في أسوئها، بل بوصف ذلك ممّا لم يعد عرب السّودان يحتاجون إليه الآن لبلوغه غاياته القصوى واستنفاده لطاقته، ثمّ لأنّ الإدانة الشّفاهيّة لن تحول دون الاستفادة من الامتيازات المكتسبة والتي أصبحت شيئاً أقرب إلى الحقّ المكتسب، والتي تقوم في بعض حوانبها النّفسيّة على أفضليّة أن تكون مُعْتَذِراً بدلاً عن أن تكون مُعْتَذَراً لك. وكنّا وفق فهمنا هذا قد وسمنا إدانتنا لحركة الآفروعروبيّة ومن بعدها السّودنوعروبيّة ]جلال هاشم، "السّودانوعروبيّة أو تحالف الهاربين:، 1999]. إذن فالاعتذار ليس واجباً فحسب، بل هو أضعف الإيمان طالما كان في فضائه السّياسي. لكن نبل الاعتذار يأتي عندما نُقاربُه في فضائه الثّقافي، وعندما تبلغ بنا شجاعة الذّات مستوى اجتراح النّقد الذّاتي الشّجاع بأن نخوض في جوّانيّاتنا فنقتلع جذور الاستعلاء الخفيّة والعميقة، ثمّ بعد ذلك نأتي إلى ما ظهر منها فإذا به ذابل معصوف.

    طبيعة الصّراع والتّراوح الأيديولوجي
    نخلص من كلّ هذا إلى أنّ الهامشيّة أو المركزيّة لا تتحدّدان بالعرق أو الجغرافيا أو الثّقافة ولو التبست في حيلها بكلّ هذا؛ فالهامشيّة أو المركزيّة تتحدّدان بالموقف الأيديولوجي. وفي رأينا، ينبغي لقوى الهامش أن تُدرك مواضع أقدامها الأيديولوجيّة بوضوح وبنضج فكري. وهذا يتأتّى باجتراح برنامج أو منافيستو يُسمّي الأشياء بمسمّيّاتها دون الغمز إليها واللمز. وضرورة اختطاط مثل هذا المنافيستو تتمثّل في ضرورة فرز "الكيمان" بما يجعل الذين يقفون على أرضيّة أيديولوجيّة واحدة ومتّفقة يعرفون أنفسهم، وبالتّالي يقومون بالتّنسيق اللازم فيما بينهم. وفي المقابل يُتيح مثل هذا المنافيستو فرصة إبعاد العناصر والمجموعات ذات التّباين والاختلاف والتّضادّ الأيديولوجي، بما يسمح لنفس هذه الجهات بمعرفة مواقع أقدامها الأيديولوجيّة، وبالتّالي القيام بالتّنسيق اللازم لتوحيد جهودهم. إذن وضع مثل هذا المنافيستو سيكون في خدمة الجميع، وذلك لأنّه سيقوم بفرز "الكيمان"، أي لا ينبغي له أن يكون برنامج حدٍّ أدنى، بل على العكس من ذلك برنامج حدّ أقصى.
    والأمر كهذا، على حركات الهامش ألاّ تنطلق في تقييم وبناء أحلافها من الأبنية الأيديولوجيّة العتيقة التي صدرت منها أغلب التّنظيمات فقط، بل ينبغي أن يستند تقويمها أيضاً على التّوقيع على هذا المنافيستو الواضح الذي لا لبس فيه ولا غموض. فالأيديولوجيا ليست جسماً إستاتيكيّاً جامداً وثابتاً، ولذا يصبح من الممكن والمحتمل أن تتغيّر المواقف الأيديولوجيّة، الأمر الذي يجوّز، وربّما يحتّم، مراجعة تصنيف أيّ حركة أو تنظيم بناءً على ذلك. وفي الحقيقة يمكن للإقصاء عندما يطول به العهد ويستمرّ بوصفه سياسة متّبعة داخل نظام حكم بعينه أن يغيّر من مواقع العديد من القوى التي ربّما كانت تنتمي لأيديولوجيا المركز. ويمكن بكلّ يسر ملاحظة هذا الحراك والتّراوح ما بين مواقع المركز أو مواقع الهامش بين صفوف العديد من الحركات والتّنظيمات ذات الأساس الأيديولوجي الإسلاموعروبي (بعض حركات القوميّة العربيّة، والحركات الإسلاميّة).
    بخصوص هذا المنافيستو لا مشاحة من أن نذكر أنّ الأسس الفكريّة والأيديولوجيّة التي ينبغي أن يقوم عليها تتمحور حول: الدّيموقراطيّة التّعدّديّة؛ العلمانيّة؛ حقوق الإنسان والمجموعات الثّقافيّة؛ الفيدراليّة؛ الشّفافيّة والمحاسبيّة؛ السّلم المحلّي والإقليمي والعالمي؛ كلّ ذلك بما من شأنه أن يُتيح تماسكاً أيديولوجيّاً جيّداً، بغية الوصول إلى أداء تنظيمي أجود، في سبيل تفكيك آليّات التّمركز والتّهميش، وتقليم أظافر الاشتطاط وغلواء الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة المنافية حتّى للعروبة والإسلام ـ أيّ المبادئ التي لخّصتها قيم حركات الهامش: الحرّيّة؛ العدل؛ والسّلام.

    الحرب الأهليّة: النّظريّة والممارسة
    الاستقطاب الأيديولوجي: خطّيّاً ودائريّاً
    في سبيل تأمين تحكّمها على مؤسسة الدولة وعلى رقاب العباد، اتّبعت الصفوة المهيمنة على المركز العديد من الحيل. من ذلك تقسيم السّودانيّين إلى مجموعات خطيّة متقابلة: الأفارقة السّود (العبيد) مقابل العرب البيض (الأشراف)؛ ثم العرب نفسهم يتمّ تقسيمهم إلى عدّة مجموعات متقابلة، مثل الأشراف وأبناء القبائل العاربة مقابل الأعراب البدو. هذه التّقسيمات الخطّيّة القائمة على العرق تقابلها تقسيمات أخرى قائمة على الجغرافيا بتحميلات عرقيّة لا تخفى: الشمال (عربي، مسلم) ضد الجنوب (أفريقي، مسيحي)، أولاد الغرب (الغرّابة) ضد أولاد البحر (أولاد البلد، أي أولاد العرب). روّج المركز الذي سيطر على مؤسّسة الدّولة لهذه التّقسيمات حتى أصبحت بمثابة مفاهيم نمطيّة فشت في ثقافة وسط السّودان النّيلي وشماله. وقد استمرّت هذه العمليّة لزمن طويل حتّى وصلت في النّهاية حدّ التّمييز العنصري والاضطهاد، ولهذا نهضت المناطق التي وصلت حدّاً لم يمكنها معه تحمّل المزيد من هذا الاضطهاد بوجهيه الثقافي والتنموي، فقاومت بضراوة بلغت الآن مستوى الحرب الأهلية. عليه، كان الغرض من هذه التّقسيمات تحييد أكبر قدر من المجموعات المهمّشة، ريثما يتمكّن المركز من احتواء مجموعات بعينها تشكّل تهديداً مباشراً. فالتّقسيم الأيديولوجي الحقيقي الذي يعكس هذا الوضع هو تقسيم دائري: مركز يحيط به هامش، وليس التقسيم الخطي [لمزيد من التفاصيل، يراجع: محمد جلال هاشم، "السّودانوعروبيّة أو تحالف الهاربين"، 1999].

    الحرب الأهلية: حرب الهامش ضد المركز
    الحرب الأهليّة في السّودان لم تكن أبداً حرب الجنوب ضدّ الشّمال، كما إنّها ليست حرب دارفور ضدّ الشمال، أو حرب الشّرق أو جبال النّوبة أو الإنقسنا ضدّ الشّمال. فغداً إذا حمل المناصير والنّوبيّون أو الرّباطاب أو الشّايقيّة السّلاح (وهذا أمر لا ينبغي استبعاده بالنّظر إلى ما يجري الآن هناك)، فضدّ أيّ شمالٍ يا تُرى سيكون ذلك؟ فمن ينظر لمسألة لحرب الأهليّة بهذا المنظور الخطّي يكون قد فاتت عليه الدّلالات الدّائريّة من حيث كونها حرب قوى الهامش ضدّ المركز. ومن يفوت عليه هذا، يكون قد فاته قطار السّودان الجديد فكراً ونضالاً. فالمناطق التي وصلت حدّاً لم يمكنها معه تحمّل المزيد من هذا الاضطهاد والتّهميش بوجهيه الثّقافي والتّنموي، نهضت مقاوِمةً بضراوة بلغت الآن مستوى الحرب الأهليّة. وتتساوق وتيرة اندلاع الحرب الأهليّة طرديّاً مع درجة التّهميش والاضطهاد، إذ بدأت في الجنوب فجبال النّوبة والإنقسنا، فالشّرق ثم دارفور و عموم الغرب. ولنلاحظ أنّ الحرب في الجنوب بدأت عام 1955م، بينما لحقتها جبال النّوبة والإنقسنا بعد ذلك بأكثر من ثلاثة عقود. هذا لأنّه يمكن القول بأنّ جبال النّوبة والإنقسنا كانتا لا تزالان تحت خطّ التحييد، فالتّقسيم الخطّي (شمال ضدّ جنوب) كان لا يزال تأثيره عليهما سارياً؛ ثمّ بعد ذلك جاء أهلنا في جبهة الشّرق ثمّ في دارفور ... وهكذا إلخ. والآن هاهم أهلنا النّوبيّون، وهاهم أهلنا المناصير قد بدأوا في حراكهم، وحتماً سيلحق بهم آخرون إلى أن يكتمل تفكيك ماكينة التّمركز والتّهميش.

    الحرب الأهليّة: مرحلة الأنانيا
    تبدأ الحرب الأهليّة كردّ فعل تحكمه الضّرورة؛ وهذه هي المرحلة الأوّليّة منها دائماً، وهي المرحلة البسيطة من الحرب الأهليّة. وغاية ما تبلغه الحرب الأهليّة في مرحلتها هذه وقف العدوان بالرّدّ ما أمكن، ثم باستصراخ النّاجدين (المجتمع الدّولي)، وقلّما تنجح حتّى في هذا إلاّ بعد أن تُذهق أرواح الآلاف إن لم يكن الملايين من المدنيّين الأبرياء والذين يُشكّل الأطفال والنساء العدد الأكبر منهم. ثمّ من بين أنين الجرحى ونحيب الثاكلات وصراخ الأطفال ومرارة فقدان الأمّ والأب والزوجة والأخ والأخت ثم الابن والبنت، ثم مضاضة الإحساس بالضعف أمام القوّة الغاشمة، يتولّد الغبن النّبيل، والذي يتفجّر عن قوّة هائلة لكنّها أحاديّة الرّؤية لا ترى إلاّ شيئاً واحداً هو ردّ الأذى، والذي غالبا ما يتداخل مع دائرة الانتقام والتّشفّي. في كل هذا والحرب الأهليّة لا تزال في مرحلتها الأوّليّة، وهيهات لها أن تحقّق وهي في حالتها هذي نجاحاً يُذكر بخلاف الرّدّ بالمثل ردّاً للأذى من جانب، وإلحاقاً له من جانب آخر إشفاءً للغِلّ والغبن. هذه هي حرب الأنانيا، بحكم أن حركة الأنانيا قد خاضت حروبها وهي لا تزال في هذه المرحلة الأوّلية البسيطة.

    الحرب الأهليّة: مرحلة الحركة الشّعبيّة
    ولكن من ظلامات القهر ومرارات الهزيمة وجراحاتها تُشرق شمس الخلاص، وذلك عندما تتحوّل الحرب الأهليّة إلى مشروع نهضوي يعمل نظريّاً وعمليّاً على تغيير الواقع الذي أدّى إلى إشعال الحرب بدءاً، وهذه هي المرحلة المركّبة من الحرب، وهو ما دشّنته الحركة الشعبية لتحرير السّودان بحكم أن الحروب التي خاضتها كانت من هذا النوع. وما المشروع النهضوي هنا إلاّ مشروع السّودان الجديد بتحريره من ربقة آليّات التّمركز والتّهميش؛ هذا وإن كانت الحروب التي خاضتها الحركة الشّعبيّة لم تبلغ مرحلة حروب التّحرير واستشراف آفاق السّودان الجديد، وفي هذا نظر، فتأمّل. فهي قد دشّنت المشروع، بيد أنّها ظلّت مشدودة بخيوط الماضي إلى مرحلة بين المرحلتين، هي ما نسمّيها بمرحلة الحركة الشّعبيّة.
    فالحركة الشّعبيّة لتحرير السّودان صدرت أوّل أمرها من واقع حروب الأنانيا في إطارها الثّقافي والإثني المتعلّق بجنوب السّودان، فكان لزاماً عليها أن تتعامل مع ذلك الواقع باعتباره معطى. ولكن مع ذلك تمكّنت الحركة الشّعبيّة لتحرير السّودان من كسر الطّوق المضروب أيديولوجيّاً حول جنوب السّودان من قبل المركز، وتمكّنت من أن تضمّ إليها حركات جبال النّوبة وجبال الإنقسنا، فضلاً عن النّجوم الزّاهرة الشّفيفة التي كسرت بدورها الطّوق وقَدِمَت من المناطق والثّقافات التي يا طالما ركبها الوهم الأيديولوجي بأنّها متميّزة ثقافيّاً وعرقيّاً. بيد أنّ جميع ذلك كان محكوماً إلى حدٍّ كبير بذات العوامل الجيوبوليتيكيّة الخاصّة بمرحلة بين مرحلة الأنانيا ومرحلة حروب التّحرير التي دشّنتها الحركة.
    كلّ هذه العوامل أغرت الدّول الغربيّة التي صاغت إتّفاقيّة نيفاشا بإمكانيّة إعادة حشر الحركة الشّعبيّة داخل أحذية الأنانيا مرّةً أخرى، إذ ضغطت عليها كيما تُقبل على إتّفاقيّة السّلام باعتبارها حركة جنوبيّة لا غير. هذا الأمر ترك الحركة الشعبية (رائدة نضال القوى المهمّشة والأب الرّوحي لمشروع السّودان الجديد) في وضع حرج للغاية، وهو وضع يُفصح عنه واقع الحال دون المقال. ولكن في مقدور الحركة الشّعبيّة أن تحوّل هذا الحرج إلى فتح كبير في مجال الرّيادة والقيادة، إذا ما غيّرت من تكتيكاتها المتّبعة حاليّاً في مرحلة ما بعد نيفاشا، حسبما سيأتي أدناه.

    الحرب الأهليّة: مرحلة التّحرير
    بالنّظر إلى الحروب الأهليّة الدّائرة الآن في دارفور والشّرق (وما سيتلوها) نلاحظ أنّها وإن كانت قد تأثّرت كثيراً بالحركة الشّعبيّة في رؤاها، وحتّى في مسمّياتها، إلاّ أنّها في واقع الأمر قد باشرت النّضال من مرحلة الأنانيا. وذلك لأنّ أيّ حرب أهلية لا بدّ لها أن تبدأ بمرحلة الأنانيا طالما كانت حرباً أهلية. فمرحلة الأنانيا أشبه بمرحلة الصّبا والمراهقة في عمر الإنسان إذ لا يلبث أن يتجاوزها. وهذا بالضبط ما حدث الآن، فحروب دارفور والشّرق والإنقسنا وجبال النّوبة تجاوزت مرحلة الصّبا والشباب، وما ذلك إلاّ بفضل ما رفدت به الحركة الشّعبيّة. بيد أن التحدّي الحقيقي لا ينكفئ على تجاوز مراهقة الأنانيا، واستشراف مرحلة الحركة الشّعبيّة لأن هذا حادثٌ لا محالة. يكمن التحدّي الحقيقي في تجاوز العوامل التي صاحبت قيام الحركة الشعبية لتحرير السّودان وذلك باستصحاب دروسها وعبرها.
    أول هذه الدّروس والعبر الظّروف والعوامل الجيوبوليتيكيّة التي جعلت الحركة الشّعبيّة لتحرير السّودان تطرح نفسها تنظيميّاً كوعاء جامع لقوى السّودان الجديد، بدلاً من أن تسعى سعياً آخر أكرم وأكثر ديموقراطيّة. فمؤشّر النّضال الخاص بالحركة الشّعبيّة، بوصفها تنظيماً متعيّنا في الزّمان والمكان (أي دون اعتبار كونها مشروعاً وطنيّاً مفتوحاً)، قد بدأ من أفقيّة الحياة العاديّة والسّلميّة، ثمّ تدرّج صاعداً في مضمار الحرب رأسيّاً حتّى بلغ أعلى درجة، ومن ثمّ شرع في النّزول مرّة أخرى إلى أفقيّة الحياة العاديّة السّلميّة ببيّنة التّوقيع على اتّفاقيّة نيفاشا. ولكن المؤشّرات النّضاليّة الخاصّة بباقي وأغلب قوى الهامش نراها في حالة الصّعود رأسيّاً. أي أنّ دالّة النّضال لدى الحركة الشّعبيّة بعيد التّوقيع على اتّفاقيّة نيفاشا، لم تعد تسير في ذات الاتّجاه الذي عليه دوالّ أغلب حركات الهامش الأخرى ـ وفي هذا قد تدخل مناطق كجبال النّوبة والإنقسنا، فتصوّر! فإذا كنتَ تتّجه نزولاً، بينما الآخرون يتّجهون صعوداً، لا يبقى أمامك غير التّنسيق مع هذه القوى الصّاعدة، بأن تعمل على جمع قوى الهامش في تحالف كبير اعترافاً منك بخصوصيّة كلّ تجربة نضاليّة. ذلك بدلاً من أن تفترض بأنّ الجميع ينبغي أن يذوب ويندمج في الوعاء التّنظيمي الخاص بالحركة الشّعبيّة، مثلما رأينا في بعض الحركات التي فعلت هذا، ففقدت بوصلتها النّضاليّة.
    ولا يظنّنّ أحد أنّنا ندعو إلى تجاوز الحركة الشّعبيّة، أو إلى إضعاف موقفها؛ لا! بل على العكس من ذلك، ندعوها إلى أن تعي دورها في هذه المرحلة، وهو دور أخطر بكثير ممّا قامت به وهي في حالة الحرب. فالأصل في الأشياء أن تجري الحياةُ على نسق السّلم والطّمأنينة؛ وما الحربُ الأهليّة إلاّ حالة اضطراريّة مصيرها إلى زوال. عليه، النّضال سلميّاً أعمق وأبقى من النّضال عبر الحرب. وما من حركة اضطرّتها ظروفُها إلى حمل السّلاح وإعلان الحرب على الدّولة التي تعيش في كنفها، ثمّ لم تُولِ قطاعاتها المدنيّة السّلميّة ما تستحقّ من تنظيمٍ ورصٍّ للصّفوف، إلاّ وباءت بالفشل والخسران المبين. والآن، وقد ألقت الحركة الشّعبيّة عصا ترحالها نُشداناً للسّلم، هي في أفضل وضع لتعي تماماً أنّ الجيش الشّعبي لتحرير السّودان لم يكن في الواقع أكثر من الجزء البارز لجبلٍ جليدي مدنيّ وسلمي في جزئه الأكبر. ويكمن النّجاح، كلّ النجاح، في تنظيم وتعبئة هذا الجزء الأكبر غير البارز من جبل الجليد. فإذا جاز القول بأنّ ريادة الحركة الشّعبيّة في تدشين حرب الهامش ضدّ المركز قد تأكّدت، لا يجوز القول بأنّ بقاءها على قيادة حركات الهامش أمر مؤكّد أيضاً.
    فكيما تحافظ الحركة الشّعبيّة على قيادتها لقوى الهامش، عليها أن تتخلّى عن طموحها غير الواقعي في أن تكون وعاءً جامعاً لقوى الهامش، وذلك إمّا بالاندماج أو الذّوبان فيها ـ ولا فرق بينهما. فعدم واقعيّة هذا التّوجّه يكمن في تعاكس اتّجاه دوال النّضال في الحركة الشّعبيّة من جانب، وفي باقي حركات الهامش من جانب آخر. إذن ما الذي يمكن أن تفعله الحركة الشّعبيّة إزاء هذا التّضاد في اتّجاه الدّوالّ النّضاليّة؟ عليها أوّلاً أن تسعى إلى إقامة تحالف عريض لجميع قوى الهامش، لا تذوب بموجبه حركة في أخرى، أو العكس. ثمّ عليها بعد ذلك، وهذا هو الأهمّ، أن تعمل على رصّ صفوف قطاعات الهامش المدنيّة، أي الجزء غير البارز من جبل الجليد النّضالي لحركات الهامش. فحركات الهامش ذات الخطّ البياني الصّاعد رأسيّاً، لن يكون في مقدورها أن تقوم بهذا، ذلك لأنّها بحكم الحرب ستكون بعيدة عن مواطن المدنيّين، بينما ستكون الحركة الشّعبيّة قريبة منها. ليس هذا فحسب، بل ستجد الحركة الشّعبيّة القطاعات المدنيّة للحركات الأخرى تتشوّف لليوم الذي تمدّ فيه الحركة يد التّعاون والتّكاتف.

    الحرب الأهليّة: بناء السّودان الجديد
    في الجانب الآخر، على الحركات الصاعدة في الغرب والشرق ثم في جبال النّوبة، ثمّ في شمال السّودان، أن تستمدّ من تجربة الحركة الشّعبيّة الدّروس والعبر، أوّلاً بإدراك المقاصد الإنسانيّة السّامية في مشروع تفكيك آليّات التّمركز والتّهميش؛ وثانياً في تجاوز محدوديّات الحركة الشّعبيّة، وذلك تدشيناً لمرحلة التّحرير الحقيقيّة، إن سلماً أو حرباً. والمدخل إلى جميع ذلك أن تتواضع على تأسيس تحالف جبهوي عريض يهدف إلى تحقيق مشروع السّودان الجديد. في هذا التّحالف لا مجال لأن تذوب أيّ مجموعة في مجموعة أخرى، فكلّ واحدة لها جسمها المستقلّ داخل هذا التحالف. هذا الأمر من شأنه أن يتيح للحركة الشعبية المشاركة فيه من على مستوى القيادة والقاعدة، روحيّاً وفكريّاً، سياسيّاً وميدانيّاً. هذه النّقلة ضروريّة للغاية، ذلك لأنّ من ظنّ أنّ الحرب الأهليّة في السّودان قد دخلت في خريف عمرها، ربّما يكون قد ارتكب خطأً كبيراً. فالحرب الأهليّة الحقيقيّة في السّودان، من حيث كونها حرباً تعمل لتحقيق مشروع تحرير السّودان من ربقة آليّات التّمركز والتّهميش وشطط الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة، وهو مشروع واضح في سماته الفكريّة والتّنفيذيّة والتّنظيميّة ـ هذه الحرب ربّما لم تبدأ بعد.
    حتّى في حال انفصال جنوب السّودان في غدٍ أو بعد غدٍ، قد يكون ذلك لخير حروب الهامش ضدّ المركز. فلجوء حركات الهامش والمعارضة عموماً لدول الجوار، مثل مصر، أريتريا وغيرها، جعلها جميعاً تتعرّض لأبشع أنواع المساومة بما لا يخدم مصالح السّودان، كما أوقع بعضها في حبائل هذه المساومة التي سعت لاستغلال مآسينا. في حال انفصال جنوب السّودان، ستجد هذه الحركات الملاذ الآمن والحضن الدّافئ؛ وهذا لا يعني أنّ إخوتنا في جنوب السّودان لن تكون لهم أجندة خاصّة بهم في حال انفصالهم. لكن، اتّباعاً للطّبيعة البنيويّة الفصوصيّة لأغلب مجتمعاتنا، وهي الطّبيعة التي يلخّصها المثل القائل "أنا وأخي على ابن عمّي؛ وأنا وابن عمّي على الغريب" ـ اتّباعاً لهذه الطّبيعة، يجوز لنا أن ننظر إلى المسألة بمنطق "مساومة الأخ الشّريك في الوطن الكبير، ولا مساومة الغريب". هذا إذا كان ما سيقوم به الإخوة الجنّوبيّون ممّا يجوز النّظر إليه على أنّه مساومات. وعلى أيّ حال يمكن لحروب التّحرير وتحقيق السّودان الجديد أن تبدأ من الجنوب، تفكيكاً للمركز وآليّات التّمركز والتّهميش وشطط وغلواء الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة. أي تحريراً للسّودان وتحقيقاً لمشروع السّودان الجديد الذي دعا له الشّهيد جون قرنق.

    تحالف تنظيمات الهامش
    الطّبيعة الأفقيّة والرّأسيّة لتنظيمات الهامش
    بخصوص توحيد قوى الهامش، علينا أن نمايز بين نوعين منها: 1. التّنظيمات الأفقيّة، و 2. التّنظيمات الرّأسيّة. الأفقيّة نعني بها تلك التي تُمثّل قطاعات عريضة من الشّعب حتّى لو كانت محدودة بالحدود الثّقافيّة والإثنيّة، أو الجغرافيّة الإقليميّة. فهذه طالما كانت برامجها وطنيّة وقوميّة، لا سبيل إلى اتّهامها بالجهويّة. وفي الحقيقة تُشاركها في خصيصة الأفقيّة هذه تنظيمات وطنيّة أخرى، لكن قد يصعب إن لم يكن مستحيلاً، تصنيفها في خانة "قوى الهامش"؛ كمثل لهذه التّظيمات يمكن أن نذكر الأمّة والاتّحادي، والجبهة الإسلاميّة (قبل التّشتّت الإنقاذي الذي كما لو ذهب بريحهم). فهذه جميعُها تنظيمات ذات جماهير عريضة، الأمر الذي يجعلها بالفعل أفقيّة، دون أن تنتمي بالضّرورة إلى قوى الهامش، وذلك ببيّنة برامجها ومواقفها الأيديولوجيّة. أمّا تنظيمات الهامش الأفقيّة، فعادةً ما تنشأ كردّ فعل لظرف خاص بمنطقة بعينها أو مجموعة ثقافيّة بعينها (مثل حالة المناصير أو النّوبيّين أو البجا أو الإنقسنا ... إلخ). وأكثر ما يُعهد في مثل هذه الحركات، بالإضافة إلى نبل النّضال الذي تقوده، فقدانُها لأيّ تجويد نظري لمسألة النّضال الذي يخوضون غماره. فهي إذا كانت تملك جماهيريّة جاهزة، إلاّ أنّها ربّما افتقدت النّضج الفكري والنّظري،وليس بالضّرورة العملي منه ـ هذا باستثناء الحركة الشّعبيّة لتحرير السّودان، والتي دفع بها طول العهد بالنّضال إلى مراقي عالية من النّضج الفكري النّظري التي ربّما لم تواتِ الكثير من المثقّفين. وفي الحقيقة يعود نجاح الحركة الشّعبيّة لتحرير السّودان في الصّعود رأسيّاً في الوقت الذي لم تفقد فيه تمدّدها الأفقي، إلى تجويدها لأطروحتها الفكريّة. وهذا هو نفسه السّبب في الجماهيريّة التي داهمتها بعيد التّوقيع على اتّفاقيّة نيفاشا، حتّى أمكن القول بأنّ مواعين الحركة التّنظيميّة قد ضاقت عليها.
    والملاحظ في الأمر أنّ باقي التّنظيمات الأفقيّة غير المنتمية إلى قوى الهامش تُعاني أيضاً من عدم تجويد أدائها الفكري والنّظري. في هذا علينا أن نتأمّل ولوغها في وحل الطّائفيّة واستحالة فكاكها منها، أو أن نتأمّل أطروحاتها التي في أغلبها لا تخرج عن كونها شعارات إسلاميّة بلا رؤية فكريّة واضحة، وليس أدلّ على ذلك من الخواء الفكري والبرامجي الماحق الذي تكشّف عن حركة الإخوان المسلمين المسمّاة بالجبهة الإسلاميّة ممثّلةً في نظام الإنقاذ. من جانب تنظيمات الهامش الأفقيّة، أوضح ما يكون القصور الفكري النّظري في الطّريقة التي يُعبّر بها العديد من قيادات حركات الهامش عن أهدافهم وبرامجهم. إذ قد تبدو الغرارة والبراءة، إن لم تكن السّذاجة، في الكثير من الإفادات المتحصّلة من أغلب قياداتهم. وللتّعويض عن هذا النّقص، قد تلجأ هذه الحركات للاستعانة بعدد من أبنائها الذين ربّما تلقّوا تدريباً وتأهيلاً تنظيميّاً وفكريّاً في تنظيمات سياسيّة أخرى.
    أمّا التّنظيمات الرّأسيّة فنعني بها تلك التي لا يمكن أن تُحال إلى وضعيّة إثنيّة بعينها، وذلك انطلاقاً من برامجها وأفكارها النّظريّة (دون الغوص في الماورائيّات الأيديولوجيّة). ومثل هذه التّنظيمات عادةً ما تنشأ وتزدهر بين الطّبقة المتعلّمة والمثقّفين، ولهذا كان من الطّبيعي والمتوقّع أن يتّسم أداؤها الفكري بدرجة عالية من التّنظير. ووصفناها بأنّها رأسيّة، لأنّها قد تصعد في مراقي الفكر النّظري باضطراد يتساوق عكسيّاً مع أشراط الجماهيريّة الأفقيّة؛ ولهذا عادةً ما تنكفئ هذه التّنظيمات على الطّبقة المثقّفة والمتعلّمة ـ هذا باستثناء تجربة الحزب الشّيوعي السّوداني في فترة الخمسينات والسّتّينات من القرن العشرين، وذلك عندما نجح في اختراق العديد من القطاعات الطّبقيّة العمّاليّة والزّراعيّة والحرفيّة، فكوّن له فيها جماهيريّة ربّما لم تتأتَّ لغيره، ولا له هو نفسه بعد ذلك. ثمّ وصفناها بأنّها رأسيّة لأنّها تنمو رأسيّاً من ناحية بناء العضويّة، وذلك بتحرّي الاستقطاب، ثمّ التّأهيل الفكري والتّنظيمي، دون أن تُصيب قدراً كبيراً في التّمدّد والانتشار الأفقي الجماهيري.
    في هذا ربّما تُمثّل حركة الإخوان المسلمين استثناءً أيضاً، باعتبار أنّها من التّنظيمات الرّأسيّة (المنكفئة على الطّبقة المثقّفة والمتعلّمة ببيّنة نشأتها الأولى) التي نجحت في أن تتحوّل إلى تنظيم أفقي، أي إلى تنظيم جماهيري (ببيّنة جماهيريّة الجبهة القوميّة الإسلاميّة). ولكن، يمكن الدّفع بأنّ هذه الحركة، بالرّغم من صدورها أوّل أمرها من تلقاء الطّبقة المثقّفة والمتعلّمة، لا يمكن تصنيفها كتنظيم رأسي، وذلك ببيّنة غياب التّأسيس الفكري النّظري في جميع مراحلها، بدءاً بحسن البنّا انتهاءً بحسن التّرابي. فهي لم تنشأ فقط على الشّعارات الجماهيريّة الفضفاضة، بل انكفأت عليها ولا تزال حتّى الآن. وهذا ربّما كان مردّ تحوّلها السّريع، نسبيّاً، إلى الأفقيّة والجماهيريّة، ثمّ تحوّلها مؤخّراً إلى مجرّد حركة طائفيّة، حتّى كادت أن ترث طائفتي الختميّة والأنصار في العديد من بيوتاتها المتّشحة بثوب الدّين و/أو الصّوفيّة، فضلاً عن تميّز أرستقراطي زائف يعتمد على تقسيم النّاس إلى أشراف وسادة وأتباع وعبيد ... إلخ.
    وبالنّظر إلى واقع اليوم، يستطيع المرء أن يقول باطمئنان كبير إلى أنّه من غير المنظور في المستقبل القريب أن تتطوّر هذه التّنظيمات الرّأسيّة لتصبح ذات ثقل جماهيري أفقي ـ هذا إن كان مقدّراً لها أن تتحوّل أصلاً إلى تنظيمات أفقيّة. في نفس الوقت لا يمكن أن نطلب من تنظيمات الهامش الأفقيّة أن توقف عجلة النّضال قليلاً ريثما تقوم بتجويد أدائها الفكري النّظري. لهذا نرى ضرورة أن تتّحد قوى الهامش بشقّيها، الرّأسي والأفقي، حيث تقوم التّنظيمات الأفقيّة بحشد الجماهير، وتقوم التّنظيمات الرّأسيّة بتجويد الأداء الفكري النّظري، كلّ ذلك وفق المنافيستو الذي أشرنا إلى ضرورة اختطاطه أعلاه. وبهذا تكون قوى الهامش قد سلكت طريقاً مختصرة، به احتفظت على تمدّدها الأفقي الجماهيري، كما تكون قد حقّقت لنفسها مراقي سامقة في الصّعود الرّأسي فكراً ونظراً.
    ولإعطاء صورة مقرّبة عمّا نتصوّره بخصوص تحالف قوى الهامش، دعونا نتأمّل الصّورة التّحالفيّة التّالية والتي تجري افتراضاً في مسرح سلمي. فلنتصوّر دائرة انتخابيّة مثل الكلاكلات بجنوب الخرطوم، من المشكوك فيها أن تخلو من أيّ واحدة من المجموعات الثّقافيّة السّودانيّة. دعونا نتصوّر تحالفاً عريضاً للمجوعات التّالية التي تخوض الحملة الانتخابيّة بموجبه، واسمحوا لنا بالتّركيز على المجموعات الكبيرة كمثال فقط:
    شمال السّودان: النّوبيّون؛ المناصير، الشّايقيّة، الرّباطاب، وجميع المتأثّرين ببناء الخزّانات والسّدود بشمال السّودان؛
    شرق السّودان: هنا يمكن أن نذكر: البجا بمختلف بطونهم وقبائلهم؛ الرّشايدة؛ الفولاني؛ الهوسا؛ البرقو؛ لكنّنا دعونا نكتفي بذكر المجموعات المنتسبة لمؤتمر البجا.
    غرب السّودان: بالطّبع يمكن أن نذكر، على سبيل المثال: الفور؛ الميما؛ الزّغاوة؛ الميدوب؛ البرقد؛ الدّاجو؛ المساليت؛ وأيّ مجموعات أخرى؛ لكنّنا هنا سنكتفي بذكر المجموعات المنتسبة إلى حركة تحرير السّودان بجميع فصائلها، وذلك ببيّنة برنامجها الذي يتّفق والمؤشّرات التي ذكرناها أعلاه بخصوص المنافيستو الجامع لحركات الهامش.
    جبال النّوبة: ولا نحتاج إلى أن نضرب أمثة بهذا الخصوص، إذ يكفي أن نذكر منسوبي الحركة الشّعبيّة لتحرير السّودان؛
    جبال الإنقسنا وأعالي النّيل الأزرق: يمكن أن نذكر في هذا المقام العديد من المجموعات الثّقافيّة، ولكنّنا سنكتفي بمنسوبي الحركة الشّعبيّة لتحرير السّودان.
    جنوب السّودان: سنكتفي هنا أيضاً بمنسوبي الحركة الشّعبيّة لتحرير السّودان، وذلك تجنّباً لذكر عدد لا متناهي من المجموعات الثّقافيّة.
    وسط السّودان: وهنا لا نُريد أن نتورّط بذكر مجموعات بعينها، بالرّغم من قناعتنا بأنّ التّهميش يشمل المجموعات الثّقافيّة التي تعيش بوسط السّودان، حتّى العربيّة المسلمة منها؛ وإلاّ فيم وكيف انضمّ الرّشايدة، الذين ينظر إليهم البعض بوصفهم أصرح العرب، إلى ركب القوى المهمّشة؟ ولكن، في المقابل، لا يمكن لنا أن نتجادل مع النّاس حول ما إذا كانوا ينتمون إلى المهمّشين أم لا. فإذا لم تكتشف مجموع بعينها حقيقة كونها مهمّشة، لا يجوز لنا أخلاقيّاً أن نقسرها على تعريف نفسها على هذا النّحو. ولكن هذا لا يعني البتّة أن نُعامل مثل هذه المجموعات على أنّهم ينتمون إلى المركز. فهؤلاء مكانهم محفوظ ولا ينتظر غير إعطاء الإشارة بأنّهم قد اكتشفوا تهميشهم ليحتلّوا أماكنهم هذه. ولنا أن نتذكّر أن وسط السّودان في أغلبه ما هو إلاّ الهامش السّودانوأفريقي معاد إنتاجه ثقافيّاً وأيديولوجيّاً ليعطينا الهامش السّودانوعروبي. فإذا أرادت مجموعة بعينها أن تقطع خطّ الأيديولوجيا من وإلى، فهذا مشروع ولا ينبغي استنكاره. إذن ينبغي لنا أن نتوقّع من العديد من أبناء ومجموعات الهامش بوسط السّودان الانضمام إلى هذا التّحالف الافتراضي.
    ومع هذا، لم نكن نعني هذه المجموعات عندما ذكرنا "وسط السّودان"، بل كنّا نعني تنظيمات الهامش الرّأسيّة، والتي تجوز إحالتها إلى أيّ بقعة بالسّودان بنفس القدر الذي يجوز عدم إحالتها إلى أيّ بقعة ـ حسب الحالة المعيّنة. فأحزاب مثل: حركة القوى الحديثة (حق)؛ حزب المؤتمر السّوداني؛ الحزب الشّيوعي السّوداني، منظّمة العمل الاشتراكي، وغيرها كثير، يمكن أن تنضمّ إلى هذا التّحالف، فتزيد من قدرته في إدارة المعركة فنّيّاً وتكتيكيّاً، ثمّ فكريّاً وأيديولوجيّاً. ليس هذا فحسب، بل هناك تنظيمات أخرى كانت إلى وقت قريب ممّا لا يمكن حسبانها إلاّ ضمن كتلة تنظيمات المركز، مثل البعثيّين والنّاصريّين، ثمّ بعض التّنظيمات ذات التّوجّه الإسلامي الديموقراطي، قد مرّت بمراحل مخاض متأخّرة، بها أدركت أنّها لا يمكن أن يكون لها مجد في السّودان إذا لم تعترف بشطط الغلواء التي تُمارس باسم العروبة والإسلام، ممّا شملناه في مصطلح الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة. هذه التّنظيمات تبدو كما لو كانت جاهزة لخوض معاركها الفكريّة القادمة من خندق القوى المهمّشة. وإفساح المجال وتقبّل مثل هذه الحركات لا ينبغي النّظر إليه من زاوية المصالح التّكتيكيّة التي تتمثّل في إمكانيّة درء تهمة معاداة العروبة والإسلام بخطّة كهذي؛ ينبغي التّعامل مع هذا التّحوّل بقدر عالٍ من الشّفافيّة والمصداقيّة، وذلك إلى أن تُبدي لنا الأيّام ما قد يكون خافياً، وليس أسوأ من سوء الظّنّ. فابستعادة ما ذكرناه أعلاه من أنّ مصطبة الهامش ليست جامدة إستاتيكيّة، وأنّ الإقصاء الممنهج ممّا شهدناه في سنيّ الإنقاذ، من شأنه جميعاً أن يُحدث تغييرات كبيرة في البنية الأيديولوجيّة والديموغرافيّة لقوى الهامش. والمحتكم هنا كما ذكرنا المنافيستو الذي ينبغي أن يتمّ اختطاطه بوصفه برنامجاً جبهويّاً يتحرّى الحدّ الأقصى وليس الأدنى. بالطّيع يمكن الدّفع بأنّ البرامج الجبهويّة لا يمكن أن تقوم على الحدّ الأقصى، ولكن في المقابل في زمن الاستقطابات الحادّة ولحظات أن تكون أو لا تكون، يمكن للبرنامج الجبهوي أن يقوم على الجدّ الأقصى. عليه، إذا أبدى حزب الأمّة استعداده للتّوقيع على مثل هذا المنافيستو، عندها يصبح حزب الأمّة ضمن قوى الهامش، وعلى هذا فقِس.
    إذن نعود إلى تصوّر القوّة التي يمكن أن يمخّض عنها تحالف بهذا الحجم. في رأينا لا توجد في السّودان حتّى الآن أيّ قوّة تنظيميّة، فرديّة أو تحالفيّة، يمكن أن تهزم مثل هذا التّحالف العريض. وفي رأينا إقامة مثل هذا التّحالف تصبح ضرورة وطنيّة، ينبغي العمل من أجلها، بصرف النّظر أكانت هناك انتخابات أم لم تكن؛ أي إن حرباً أو سلماً. فهذا أو الطّوفان! ذلك لأنّ المخاطر التي تُحدق بالسّودان جعلتنا في موضع أن نكون أو لا نكون [في ذلك راجع: محمّد جلال هاشم، أن يكون أو لا يكون: السّودان على مفترق الطّرق، بالإنكليزيّة، 2004م].

    مراجع عربية
    * أبكّر آدم إسماعيل (1997). جدلية المركز والهامش (3 أجزاء)، الخرطوم.
    * حركة العدل والمساواة (2003). الكتاب الأسود، الجزء الثاني.
    * عبد الغفّار محمد أحمد (1988). قضايا للنقاش: في إطار إفريقية السّودان وعروبته، دار جامعة الخرطوم للنشر، الخرطوم.
    * فيصل محمّد صالح (2007a). جدل الهويّة: فوضى المصطلح وغياب المفاهيم يعيقان الحوار. جريدة الصّحافة. 26 أغسطس 2007. عدد 5100.
    * فيصل محمّد صالح (2007b). جدل الهويّة: فوضى المصطلح وغياب المفاهيم يعيقان الحوار. جريدة الصّحافة. 2 سبتمبر 2007. عدد 5110.
    * فيصل محمّد صالح (2007c). جدل الهويّة: عرض لرؤى مدرسة المركز والهامش. جريدة الصّحافة. 9 سبتمبر 2007. عدد 5114.
    * فيصل محمّد صالح (2007d). جدل الهويّة: مناقشات مع جدل المركز والهامش. جريدة الصّحافة. 16 سبتمبر 2007. عدد 5121.
    * منصور خالد [1993]. النخبة السّودانية وإدمان الفشل، جزءان، دار الأمين للنشر والتوزيع، القاهرة.
    * محمّد جلال أحمد هاشم (1997). نحو منهج لإحياء التّراث النّوبي. ورقة قرئت في منتدى الفولكلور. الخرطوم: معهد الدّراسات الأفريقيّة والآسيويّة. قاعة الشّارقة. 30 أكتوبر 1997.
    هذا المقال متاح عالميّاً على الشّبكة. مجلّة احترام الإلكترونيّة . طُولع في يوم 10 أبريل 2006:
    http://www.sudaneseonline.com/sections/ihtiram/pages/ihti...les/ihtiram2_mjh.pdf
    * محمد جلال هاشم (1999). السّودانوعروبيّة أو تحالف الهاربين: المشروع الثّقافي لعبدالله علي إبراهيم في السّودان. ورقة قُرئت في مؤتمر "السّودان: الثّقافة والتّنمية الشّاملة: نحو إستراتيجيّة ثقافيّة- مهداة للرّوائـي الطّيّب صالح", مركز الدّراسات السّودانية, القاهـرة, دار الأوبرا المصريّة. الجزيـرة, الأربعـاء 4 أغسطس- السبت 7 أغسطس 1999.
    * محمد جلال هاشم (تحت الطّبع). منهج التحليل الثقافي، طبعة خامسة منقّحة ومزيدة. الخرطوم.
    * محمد جلال هاشم (تحت الطّبع). رسالة كجبار مرّة أخرى: من أجل السّودان لا من أجل قرية. الخرطوم.
    * محمّد علي جادين (2007). باقان أموم والاعتذار السّياسي والمصالحة. [جريدة الصّحافة، 11/ أغسطس 2007، العدد 623]
    * الواثق كمير (إعداد وتحرير) [بدون تاريخ]. جون قرنق: رؤبته للسودان الجديد: قضايا الوحدة والهوية، المجموعة الاستشارية لتحليل السياسات والإستراتيجيات، القاهرة.

    مراجع إنكليزية

    · Afif (al-), al-Baqir (2002). The Crisis of Identity in Northern Sudan : A Dilemma of a Black People with a White Culture. A paper presented to the CODESRIA African Humanities Institute. Tenured by the Programme of African Studies at the Northwestern University , Evanston , USA .
    · Amin, S. (1974). Accumulation on a World Scale: A Critique of the Theory of Underdevelopment. New York : Monthly Review Press.
    · Amin, S. (1978). The Arab Nation: Nationalism and Class Struggle. London : Zed Press Ltd.
    · Hashim, M.J. (2006). Islamization and Arabization of Africans as a Means to Political Power in the Sudan : Contradictions of Discrimination based on the Blackness of Skin and Stigma of Slavery and their Contribution to the Civil Wars. In: Bankie, B.F. & Mchombu, K. 'ed.' (2006). Pan Africanism: Strengthening the Unity of Africa and its Diaspora. Windhoek : Gamsberg Macmillan Publishers. PP 244-267.
    · ………………….. (Forthcoming). To be or not to be: Sudan at Cross Roads. Khartoum.
    · Mazrui, Ali (1971), “The Multiple Marginality of the Sudan”, in Yusuf Fadl Hasan “ed”, Sudan in Africa, Khartoum University Press, Khartoum.
    · Tayeb(El), Galal el-Din (1989). Industry and Peripheral Capitalism in the Sudan : A Geographical Analysis. Khartoum : Khartoum University Press.
                  

العنوان الكاتب Date
مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) shaheen shaheen09-29-07, 07:51 PM
  Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) shaheen shaheen09-29-07, 08:12 PM
  Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) shaheen shaheen09-30-07, 07:05 AM
    Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) shaheen shaheen09-30-07, 10:13 AM
  Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) shaheen shaheen09-30-07, 01:29 PM
    Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) عوض حمزة09-30-07, 09:44 PM
  Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) shaheen shaheen10-02-07, 01:31 AM
  Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) shaheen shaheen10-02-07, 01:53 AM
  Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) shaheen shaheen10-02-07, 02:24 AM
    Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) عبدالعزيز حسن على10-02-07, 03:09 AM
      Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) HAYDER GASIM10-03-07, 01:19 AM
        Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) صلاح شعيب10-03-07, 01:35 AM
          Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) طلال عفيفي10-03-07, 02:01 AM
            Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) عبدالغفار محمد سعيد10-03-07, 02:20 AM
  Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) omar ali10-03-07, 03:41 AM
  Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) shaheen shaheen10-03-07, 03:06 PM
  Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) بهاء بكري10-03-07, 04:41 PM
  Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) shaheen shaheen10-04-07, 10:11 AM
  Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) shaheen shaheen10-04-07, 10:30 AM
    Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) nadus200010-04-07, 12:28 PM
  Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) shaheen shaheen10-04-07, 02:35 PM
  Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) shaheen shaheen10-04-07, 02:46 PM
    Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) Raja10-04-07, 05:16 PM
  Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) shaheen shaheen10-07-07, 09:03 AM
  Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) shaheen shaheen10-07-07, 09:12 AM
  Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) shaheen shaheen10-07-07, 09:27 AM
  Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) shaheen shaheen10-07-07, 10:11 AM
  Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) shaheen shaheen10-07-07, 10:44 AM
  Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) shaheen shaheen10-07-07, 11:00 AM
  Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) omar ali10-08-07, 04:10 PM
    Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) yumna guta10-08-07, 05:07 PM
      Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) Tragie Mustafa10-08-07, 06:12 PM
  Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) shaheen shaheen10-10-07, 10:20 AM
  Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) shaheen shaheen10-10-07, 10:49 AM
  Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) shaheen shaheen10-10-07, 11:46 AM
  Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) shaheen shaheen10-12-07, 12:57 PM
  Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) shaheen shaheen10-12-07, 03:40 PM
  Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) shaheen shaheen10-13-07, 07:48 AM
  Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) دينا خالد10-13-07, 03:58 PM
  Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) shaheen shaheen10-13-07, 05:17 PM
  Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) shaheen shaheen10-13-07, 11:36 PM
  Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) shaheen shaheen10-15-07, 04:15 PM
  Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) shaheen shaheen10-15-07, 04:20 PM
  Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) shaheen shaheen10-15-07, 04:24 PM
  Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) shaheen shaheen10-19-07, 11:05 PM
  Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) shaheen shaheen10-22-07, 01:35 PM
  Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) shaheen shaheen10-22-07, 01:44 PM
  Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) shaheen shaheen10-28-07, 11:14 AM
  Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) omar ali10-28-07, 04:11 PM
  Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) shaheen shaheen11-01-07, 07:14 AM
  Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) shaheen shaheen11-04-07, 01:50 PM
  Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) shaheen shaheen11-05-07, 08:18 AM
    Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) Rawia11-05-07, 09:34 AM
  Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) shaheen shaheen11-10-07, 09:57 PM
  Re: مركز الخاتم عدلان للاستنارة :- مؤتمر الهوية والحرب الاهلية فى السودان (الاوراق + الصور) Nasr11-11-07, 01:36 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de