الغابة والصحراء ....... مرة اخرى

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-23-2024, 06:46 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة د.نجاة محمود احمد الامين(د.نجاة محمود&bayan)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
09-28-2003, 05:20 PM

bayan
<abayan
تاريخ التسجيل: 06-13-2003
مجموع المشاركات: 15417

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الغابة والصحراء ....... مرة اخرى





    الفصل الثاني:

    الغابة والصحراء بين النظرية والتطبيق

    المبحث الأول : الغابة والصحراء .. البعد التنظيري ص 89
    المبحث الثاني : تطبيقات على مفاهيم الغابة والصحراء ص 107

    الفصل الثاني:

    الغابة والصحراء بين النظرية والتطبيق


    المبحث الأول: الغابة والصحراء .. البعد التنظيري

    إن فكرة الغابة والصحراء لم تولد من فراغ، بل أتت عبر مخاض مؤلم وطويل، وبحث دائب عن الهوية، فلا غرو فهي ظهرت بعد الاستقلال مباشرة، وعندما كانت الدعوة للقومية تفرض وجودها في بداية القرن، كانت في الأساس لتوحيد الشعور الجمعي السوداني وتزكية النفوس لتوحيد الصف السوداني لدحر الاستعمار ... وبعد أن نال السودان استقلاله ظهرت التساؤلات التي تخص الهوية السودانية.
    وهذا ما قد يجعل المبدع يحتفي بإفريقيته كقيمة حضارية بقدر احتفائه بعروبته، وقيل في ذلك "عن موروثنا الإفريقي يجب أن نعتز به ونفاخر به بدلاً أن نقلد غيرنا فلا نحسن التقليد".
    ومن ثم "إن خصوصية الثقافة ليست مظهرية أو خارجية ولكنها كنه مستبطن لا بد من التنقيب فيه والتفتيش عنه" ، إن حركة الغابة والصحراء هي من مجملها حركة "لبعث" العنصر الإفريقي في تكوين السوداني و"ليس معنى
    الحركة أنها (إدارة) ظهر لكل ما هو عربي بقدر ما هي التفات جاد إلى كل ما هو سوداني".
    ويقول محمد عبد الحي في ذلك: "جماع الغابة والصحراء لم يكن ودياً في البداية ولكن زحام هذا اللقاء الشرس بين فرسان الخيول العربية وبين سبايا الغاب الإفريقي نحتنا وجوهنا ... الأفكار لا تجدي ... الاعتراف، عودة إلى الجذور الأصلية المنسية، ضغوط، يتم لقاؤنا بشمس الحقيقة".
    فالثقافة التي ننشدها يجب أن تكون ثقافة هجينة مثلنا، "فهي إفريقية أصلاً ولكنها عربية الملامح".
    كما أن دعوة الهجنة في أصولها "العرقية عند (ماكمايكل) وتجلياتها الثقافية عند (ترمنجهام)، تنطوي على فرضية انحطاط وهو انحطاط نجم في نظر دعاتها على امتزاج العرب المسلمين بالنوبة الإفريقيين". ثم شرح ما يرمي إليه قائلاً:
    "فقد جاء عند ماكمايكل ما يوحي بأن (الدم) العربي أرفع من الدم الإفريقي، وجاء عند ترمنجهام أن الهجين العربي الإفريقي قد سرب من العقائد إلى الإسلام ما أدخله في الوثنية. من الواضح أن المكون الإفريقي في هذا الهجين هو أكثر من تأذى لنظرية الانحطاط هذه".
    وقيل: "وثاني ما ينبغي أن نذكره هو أنه إذا كان السودانيون نتاج امتزاج العنصر العربي الإفريقي، فلا ننسى أن العنصر العربي كان هو الظافر المنتصر ـ منه الفاتحون ـ ومنه السادة، الذين أسروا العبيد واقتنوا الرقيق، وملكوا الأرض، فلا عجب أن يحاول أحفادهم تغليب العنصر السيد على العنصر المسود في
    تكوينهم، الطبيعي أن يكون شعورهم الأول هو التقليل من أهمية العنصر المغلوب أو إنكاره بتاتاً".
    ثم أردف قائلاً: "في هذا العامل قوة تذكرنا إن العنصر العربي المنتصر لم يكن أعلى شأنا من الناحية العسكرية وحدها بل كان أرقى ثقافة وأنضج من حضارة راقية لا يعرفون لها نظيراً لدى العنصر الإفريقي الذي لم يعرف إلا همجية وبدائية ـ بل له لغة هي أعلى كعباً من مراقي اللغات البشرية وعن جميع اللَّهجات واللغات الإفريقية التي لا تعرف حتى مجرد الكتابة".
    ومما قيل، نجد أن عدم الموضوعية وعدم معرفة بعض النقاد* المصريين بتأريخ السودان، يجعلهم يطلقون أحكاماً مطلقة تدل على الجهل المتعمد، لوضع السودانيين في درجة أقل وهي درجة المتلقي وليس المرسل، والمتأثر وليس المؤثر. فالمعروف تاريخياً، أنه عندما دخل العرب السودان، كانت هنالك ممالك مجيدة، مثل النوبة، والمقرة وعلوة وقبلها كانت مملكة مروي**، التي استخدمت اللغة المروية وهي لغة مكتوبة وآثارها باقية إلى الآن.***
    ومن ثم انبثقت الغابة والصحراء كحركة بعثية لتبعث العنصر الزنجي في السودان.
    وإننا بتجاهلنا، واحتقارنا لهذا المكون الزنجي الذي يبدو في ملامحنا، ولوننا، كعلامات فارقة بيننا وبين العرب الخلص ـ الذين بدورهم ينظرون إلى السوداني بدونية واحتقار ـ لن تكتمل هويتنا. "وعدَّ محمد عبد الحي انتماءنا إلى العرب تكبراً أجوفاً". كما أضاف محمد المكي إبراهيم في هذا الأمر قائلاً بـ"إننا أنكرنا إفريقيتنا في تلهفنا للانتماء الأكبر".
    والمثير للدهشة أن النور عثمان أبكر ـ أول من استخدم رمزية الغابة والصحراء في السودان ـ فكر في سؤال الهوية بصورة جدية حال وجوده في ألمانيا، في عام 1963، أي أنه كان يعيش في محيط حضاري غربي، ونجده يقول في ذلك: "إن انتباهي إلى مسألة الغابة والصحراء تم لي وأنا في محيط حضاري غربي رفض هويتي الإفريقية حين أفكر ورفض هويتي العربية حين أكون".
    وعن فلسفة الفكرة نجد أنه عندما تحدث عن العنصر الزنجي في مكون السوداني، قام بنشر مقال أثار ضجة كبيرة وردود فعل متباينة في عام 1967، وفي ذلك المقال نوه أنه كتب هذه المقالات في شكل مذكرات عام 1962 وهي بعنوان (لست عربياً ... ولكن).
    ومضمون هذا المقال الذي يعد من بدايات الغابة والصحراء، يحوم حول تمجيد العنصر الإفريقي في مكوّن الإنسان السوداني، وكذلك تمجيد للثقافة الإفريقية، كما إنه أرجع بعض الظواهر في الثقافة السودانية إلى العنصر الإفريقي، مثل الانفعالات الدينية التي تحدث عن حالة الجذب الصوفي، وقد افتتح النور عثمان أبكر مقاله الشهير قائلاً:
    "كل ما هو غيبي وعميق في السودان إنما هو عطاء الغاب .. تجريدية الفكر الإسلامي استحالت إلى ليونة المدنية البدائية التي تأخذ فكرها على حاجتها المباشرة الخيط الأساسي في وجودنا ليس هو الصوفية الشرقية بل هو الحركة الرخيمة لرقصات الغاب، وللطبل وللبوق". كما نجده أرجع حلقات الذكر وإيقاعاتها ولغة الجسد و(النوبة) والحالة الأخيرة للتقمص (الجذب والفناء) إلى
    البدائية الإفريقية وليس الإسلام، كما أضاف أن نبضنا وإيقاعنا إفريقي بدائي قائلاً:
    "إيقاع عمرنا سماحه وتبذيراً وخمراً واستهتاراً وحباً* للَّهو والمرح، إيقاع نبض عمرنا إفريقي بدائي أما الأمور التي تقدمه له فهي ما يحتاجه هذا الإيقاع ليعبر هوة الاتصال بينه وبين (جلابته)**". ويقول موضحاً: "التردد حقيقة في انطلاق جرس هذا الإيقاع بعيداً عن جذوره ومصادره الهامة الأصلية".
    كما نلاحظ أن النور عثمان أبكر يرى أن العلاقة بين الغابة والصحراء ليس علاقة مترابطة بل هناك نزاع وصراع ولكنه يلطف الأمر قائلاً:
    "نزاع الغاب والصحراء في عمرنا هو لونية هذه السماحة في علاقتنا مع إخواننا العرب وإخواننا الزنج". ويمضي في مقاله متحدثاً عن موضوع في غاية الحساسية وهو الرق ويحمل مسؤوليته للعرب الجلابة قائلاً:
    "الخروج من الغاب إلى الصحراء والوادي المحدد بها تم عن طريق (الجلابة) أو المارق الذي في بطن ذاكرته أفراح لم ينعم بها عاد يسترق منها مقاطع يبيعها إن لم يحتفظ بها (أبو لكيلك)*** وأيامه مرقه من الغاب وعوده إلى الغاب".
    ثم يتحدث عن كيفية تكوينه قائلاً: "يتم التقاء بخيت آخر بمرجانه ويكون المارق (نوراً) كيف له إذن أن يدعي أنه عربي؟" . ثم يتساءل النور عثمان أبكر باللسان؟**** أي هل هو عربي لأنه فقط يتحدث باللغة العربية. فهو يرى أن "عربيته تطويع لاحتياجات إيقاع الرعب والفرح الوجودي الأولي في التعبير بعد أن فقد شكل كلمة القبيلة". ثم يستطرد ليدلل عدم أهمية اللسان أو اللغة في بينونة أصول الإنسان. "إذن مثل الجزائري الناطق بالفرنسية الصدور عن الغاب، عن الأوراس عبر لغة مكتسبة".
    ثم بعد أن أورد هذه الحجة الخطيرة أراد أن يبعد سوء الظن عنه قائلاً: "الكاتب لا يضمر أي تلميح لاستعمار العربي لأرض الزنج". ويجد أن ما قاله هو الذي جعل الكثيرين يشككون في نواياه ويتهمونه بالشعوبية وبأنه ضد الإسلام والعروبة، وفي ذلك نجده يتحدث في مقابلة معه: "إن الإفصاح الفكري والسلوك الإبداعي من مسألة الغابة والصحراء هي مسؤولية النور عثمان أبكر وقد ذاق الأمرين متهماً في إسلامه وفي عروبة لا يدعيها وفي مواقفه السياسية في قضية النضال العربي".
    ونجد أن التوقيت الذي اختاره "النور عثمان أبكر" لنشر مقالاته، التي سجلها في شكل مذكرات في نهاية 1962، وقام بنشرها في 19/9/1967، هي التي أدت إلى اتهامه في مواقفه السياسية، تجاه قضية النضال العربي إذ نشرت في وقت غير مناسب البتة. إذ نشرت بعد نكسة 1967 مباشرة، وكانت العروبة آنذاك جرحاً نازفاً، والسودان استضاف مؤتمر قمة عربي شاركت فيه كل الفعاليات العربية. وقرُبت الآراء وسُميت الخرطوم بعاصمة "اللاءات" الثلاثة، واستقبل عبد الناصر في الخرطوم استقبال الفاتحين، على الرغم من الهزيمة، إذن في هذا الوقت بالذات كانت مقالة "النور عثمان أبكر" تعد خطأ لا يغتفر في حق العروبة، وخيانة للأمة العربية، نجد أنه قد احتفظ بهذه المذكرات منذ 1962 لينشرها في ذلك الوقت، بالتحديد مع سبق الإصرار والترصد. ولكن نرجع إلى أن حرية الرأي هي
    جوهر الديمقراطية، وحق لكل مبدع لينشر ما يريد وقتما يريد. ولذلك اتهمه الكثيرون بالخيانة، والعداء للعروبة وبالتالي الإسلام، وها هو صديقه "صلاح أحمد إبراهيم" ينبري للرد عليه في ذات المنبر الذي انطلق منه بمقال عنوانه (بل نحن عرب العرب) في جريدة الصحافة في 25/10/1967م، حيث سنعرضه لبلورة فكرة الغابة والصحراء.
    ابتدأ "صلاح أحمد إبراهيم" مقاله منتقداً التوقيت الذي اختاره "النور عثمان أبكر" لنشر مقاله، قائلاً: "في رأيي أن المقال غير موفق من حيث توقيته على الأقل ـ فجنودنا الذين في خط النار قد اختاروا مصيرهم هناك في مواجهة المعتدين الصهاينة، المصريون على شمالهم والجزائريون على يمينهم وقلوب العرب ـ كل العرب ـ ترف عليهم لا تفكر أصابعهم القابضة على الرشاش إذا كانت أصابع عربي أو زنجية أو بين بين".
    ثم بعد هذه المقدمة دلف معلقاً على مقال النور عثمان أبكر حيث يصف سؤاله (لست عربياً ... ولكن؟) بالعنصرية، وإنه سؤال لا معنى له قائلاً:
    "السؤال مطروح على صعيد عنصري لا معنى له ولا يمكن أن تكون له إجابة نهائية أو قيمة حقيقية ولكن قد يكون تساؤلاً سياسياً ومراجعة لمواقعنا الرائعة أو التشكيك فيها".
    ثم احتج على استخدام النور عثمان أبكر لكلمة "نزاع" متسائلاً:
    "نزاع الغابة والصحراء ـ أي نزاع بين الغاب والصحراء" ثم عرض بالنور عثمان أبكر قائلاً: "الزنجي بأكثر من النور عثمان أبكر، والمناضل بأكثر من النور عثمان أبكر (كوامي نكروما) أوقف حياته لأن يحث ويؤكد بأن الصحراء لم تكن في يوم من الأيام حاجزاً بين عرب الشمال وزنج الجنوب بل ظلت حتى قدم الرجل الأبيض طريق القوافل حاملة الملح إلى
    الأشانتي وقافلة بالذهب من كوماسي".
    كما يرد على قول النور عن السوداني "في قاعة الجامعة العربية يلهج الابن بعروبته وفي كوناكري يصر على إفريقيته".
    فيعلق صلاح على ذلك بأنه في وضعه للعروبة في مقابلة للإفريقية خبث قائلاً:
    "إن وضع العروبة مقابلاً للإفريقية هو مفهوم خبيث فالعروبة قد تكون إفريقية في الواقع وأكثر من سبعين بالمائة من العرب إفريقيون".
    ثم يتهم مقال النور بالشعوبية "وإن قال الكاتب إنه لا يضمر أي تلميح لاستعمار عربي لأرض الزنج".
    كما يعلق صلاح قائلاً:
    "لأن هذه الأفكار ليست جديدة ومهما كانت دوافع النور في قول مثل هذا القول فهو لا يقول جديداً .. أعداء العرب الذي يدرسون عوره العرب في المعاهد الخاصة ويحاولون طعن العرب في كعب أخيلهم يثيرونها بطريقة النور هذه من المحيط إلى الخليج".
    ثم يمضي في مقاله معدداً للفتن في الوطن العربي آنذاك، في مصر الدعوة الفرعونية وفي سوريا الدعوة الفينيقية الخ ... الخ .. ثم ذهب إلى أن توحد السودانيون لطرد المستعمر كان بسبب العروبة قائلاً:
    "بل إن كل ما هو عزيز لدينا شعورنا بالكرامة ونهضتنا القومية وحركتنا الوطنية سببها العروبة".
    ثم يوضح قائلاً: "سؤال الهوية من نحن؟ وهل نحن عرب أم إفريقيون؟ وهل نحن عرب؟
    أسئلة تطلق أحياناً في براءة وأحياناً في خبث .. أسئلة تنبع من جهل صادق أحياناً وأحياناً من خطة ماكرة".
    ثم يسترسل متهما النور بعدم الاطلاع الكافي، الذي يؤهله لخوض هذا الموضوع الشائك، بعد أن يؤكد أننا "عرب العرب" لما فينا من أخلاق العرب وكرمهم وشجاعتهم الخ ... الخ.
    وبعد كل هذا الحماس والتأكيد على عروبتنا. يراجع صلاح أحمد إبراهيم نفسه في خاتمة مقاله قائلاً:
    "لا يا نور بل نحن عرب العرب جمعنا ما في العرب من نبل وكرم وخير ما في الزنج من شدة وحمية".
    ثم يحضر صلاح شاهداً من الشعر السوداني. وأحسب أن التوفيق قد جانبه في الاختيار إذ أن فيه تنميط لشخصية الإفريقي، والشاهد للشاعر صالح عبد القادر.
    "أنا ابن وادي النيل لو فتشتني
    لوجدت في بردى بطش أسود
    وأنا ابن وادي النيل لو فتشتتني
    تجدين مجموع الكرامة والنهى
    تجدين حلم البيض جهل السود".
    ومن هذا العرض للمقالين اللذين يرى غالبية مؤرخو* الأدب السوداني،
    أنهما بذرة الغابة والصحراء. فهذين المقالين يفتقدان إلى العقلانية والموضوعية، ودوافع كتابتهما دوافع عاطفية ولحظية. استخدم النور لغة زئبقية شاعرية كما وصفها صلاح أحمد إبراهيم، الذي بدوره استخدم خط دفاعي وتقريري وعاطفي. وبما أن هذين المقالين نشرا في عام 1967 فإذن كيف تكون هي بداية لمدرسة الغابة والصحراء!؟
    فقد بدأ كتابها يكتبون منذ أوائل سنوات الستين مثل قصيدة (العودة إلى سنار) لمحمد عبد الحي التي كتبها في سنة 1963 وقصيدة (صحو الكلمات المنسية) للنور عثمان أبكر وكتبها في عام 1963 أيضاً، وكذلك قصيدة يوسف عيدابي (أبو دليق) كتبت في عام 1963 وقصيدة (أصابع الشمع) لمصطفى سند كتبت كذلك في سنة 1963*، هكذا دون اتفاق كتبت هذه القصائد، وهي تحوم حول سؤال الهوية.
    وقد تحدث النور عثمان أبكر في صحيفة الأيام بشأن الغابة والصحراء والبدايات مجيباً عن سؤال: في حياتنا الفكرية كانت مدرسة الغابة والصحراء إلى أي مدى تركت هذه المدرسة بصماتها؟
    أتت إجابة النور عثمان أبكر على هذا السؤال:
    "إن أول قصيدة كررت لفظ الغابة والصحراء وحاولت الغابة والصحراء هي قصيدة (صحو الكلمات المنسية) كتبت 1963 ـ وهي منطلقة من مقالة سجلت في شكل مذكرات نهاية 1962 ونشرت بالصحافة عام 1967 عنوانها (ليس عربياً ... ولكن) أيامها كان محمد المكي إبراهيم معي بألمانيا الاتحادية".
    ثم بعد ذلك تحدث عن محمد عبد الحي وعلي عبد القيوم ومن هو واضع اللبنات الأولى لهذه المدرسة قائلاً:
    "كان محمد عبد الحي وعلي عبد القيوم في بداية دراستهما. يمكن أن تسجل هنا أنني تخرجت من الجامعة سنة 1962 جامعة الخرطوم. وأريد أن أسجل شيئاً يخصني ويهمني حتى لا يتهمني أحدهم مستقبلاً بأنني زميل "محمد عبد الحي" أو "علي عبد القيوم" أو "النصيري" أو أنني شاركت في مسألة الغابة والصحراء، أود أن أسجل مقطع واحد* له دلالته بالنسبة لشعر كثير واهتمام ببعض المدن السودانية المداخل والمخارج".
    من كاهن هذا المعبد أوصده
    في وجه العابر والساعي؟
    غرت على "سنار" رفعت ندائي غضبي
    أشهر من مصباح اللؤلؤ "سنغانيب":
    خزيت أرحام الموتى شبعاً، عافية، راحة بال ووساد
    حتى يرفع إنسان رأسه
    يرعب، يجرف اطمئنان الموت على "مروي"
    
    الغرس الطيب يعطي الغصن الأخضر والمرعى
    من يصعد جبل الرب يبيع حشاه الأوحد كي نعطي
    غرساً يرجى؟
    من يضرب بعصاه الصخر، فتنبجس الأعين،
    يعلم كلّ مشربه
    نسقي، نرعى
    مولود الغابة والصحراء.
    من هذا الطافر كالجبل الأسمر
    كمنارة ساحلنا الأزرق،
    رجل أوقظ؟ غاب؟ مرآة الأعمار الأولى؟
    ذهبٌ ألق الجبهة، قضب الزيتون، عواميد اللَّهب
    الممتد الأعراف إلى قمم الآفاق العاليه
    هذا صحو الكلمات المنسيه.
    يتابع إجابته عن السؤال قائلاً:
    "لا أدري كيف بلور الأصدقاء أعضاء رابطة أدباء الجامعة على أيام علي عبد القيوم ومحمد عبد الحي مفهوم الغابة والصحراء؟".
    ثم ربط هذه المدرسة فيما بعد بمدرسة الخرطوم التشكيلية. ولكنه يؤكد ادعاءه على أنه أول من فكر في مسألة الغابة والصحراء قائلاً:
    "ما أدركه يقيناً أن الإفصاح الفكري والسلوك الإبداعي في مسألة الغابة والصحراء مسؤولية النور عثمان أبكر".
    وقد أكد هذا الأمر الشاعر "محمد المكي إبراهيم" في مقابلة أجريت معه في مجلة "الثقافة الوطنية" حيث قال عن بداية مدرسة الغابة والصحراء:
    "وكنت وصديقي "النور عثمان أبكر" حينما بدأنا هذه الحركة بمواجهة القضية ونحن في ألمانيا ونحن نسأل إن كنا عرباً أم أفارقة .. وكان هناك توتر وعدم اقتناع بإجابة كل منا حينما يقول النور: إنه (إفريقي) وأقول: (إني عربي) وبدأنا البحث والتدارس والتراسل وعبارة (الغابة والصحراء) من صياغة النور وابتكاره المعهود" ثم أردف مؤكدا دوره في تأسيس الغابة والصحراء قائلاً:
    "ورجعت إلى السودان قبل النور عثمان وحملت معي هذه النار المقدسة
    وجدت تجاوباً من كثير من الإخوان. واستطعنا أن ننشر ونبدأ الكتابة".
    وكان كثير من النقاد قد زعموا تأثر هؤلاء بـ"سنغور" نفى محمد المكي تأثرهم بـ"سنغور" الذي عرفوه فيما بعد وذكر أن هناك فارقاً كبيراً بين حركة الزنوجة التي يرى أنها كانت مرحلية وحركة الغابة والصحراء دائمة، ولا مجال للمقارنة بين دعوة لتنبيه الناس إلى هوية ودعوى توفيقية لإشعار شعبين من شعوب العالم الثالث بأنهم شيء واحد وأن الوشائج التي تربطهم أكثر من الخلافات التي تفرقهم.
    وفي هذا الأمر يقول محمد عبد الحي:
    "في وقت واحد تقريباً وقبل أن يعرفوا بعضهم البعض ـ بدأ "محمد المكي إبراهيم" و"النور عثمان أبكر" في ألمانيا و"صلاح أحمد إبراهيم" في غانا و"يوسف عيدابي" من رفاعه بقصيدة (أبو دليق) 1963 و"مصطفى سند" في أم درمان في (أصابع الشمس) 1963، و"محمد عبد الحي" في (العودة إلى سنار) 1963 في الخرطوم. يكتبون شعراً فيه بعض الملامح المشتركة التي لا تخفى الاختلاف العميق في العناصر المكونة لرؤاهم الشعرية وفي التشكيل واللغة الشعرية في قصائدهم".
    والذي يجدر ذكره أنه لم يكن هناك خطاب تأسيسي لهذه الجماعة، شأنها شأن مدرسة الخرطوم التشكيلية. كما أن كثيراً من الشعراء الذين أدرجوا في هذه المدرسة من قبل نقاد*، أكدوا عدم انتمائهم لها فيما بعد. وهنا نخلص إلى بعض الأسباب التي أرى أنها السبب الرئيس في رفض أو إنكار بعض شعراء هذه الجماعة الانتماء لما يسمى (الغابة والصحراء) بعد استقراء للظرف التأريخي آنذاك.
    والأسباب التي من أجلها نفى بعض شعراء هذه الجماعة انتماءهم لهذه المدرسة هي:
    أولاً ـ كان الفكر السياسي المسيطر آنذاك على الساحة هو الفكر اليساري، ونجد بعض هؤلاء الكتاب محسوبين على الحزب الشيوعي السوداني مثل: "محمد المكي إبراهيم"، و"صلاح أحمد إبراهيم" فاندراجهم تحت ما يسمى بالغابة والصحراء يتناقض مع مبادئ وأساسيات الفكر الشيوعي، إذ أن مثل هذه الدعاوي هي في حد ذاتها دعاوي شعوبية ضيقة والشيوعية فكر أممي حسب رأي الشيوعيين.
    ثانياً ـ في تلك الفترة تأريخياً بالتحديد، مثل هذه الدعوة التي تدعو إلى بعث ثقافة العنصر الزنجي، تُعَد خيانة للعروبة وقضيتها، وخيانة بالتالي لـ"عبد الناصر" الذي كان مثار تقدير وإعجاب لدى السودانيين.
    ثالثاً ـ هؤلاء الشعراء ما عدا "النور عثمان أبكر" يؤمنون في دواخلهم أنهم عرب ولو أنهم اعترفوا بالعنصر الزنجي كمكون آخر لهم.
    وقد نجد أن فترة سنوات الستين، أفرزت كثيراً من الحركات الأدبية والفكرية، بالإضافة إلى الغابة والصحراء ، ظهر الأكتوبريون تيمناً بثورة أكتوبر عام 1964 التي انتصرت فيها إرادة الشعب بطرد العساكر وإرجاعهم إلى الثكنات، وقيام حكومة ديمقراطية. وكتب الشاعر محمد المكي إبراهيم أكتوبراياته الشهيرة، وصلاح أحمد إبراهيم، وكجراي، والشعراء التقليديون، والمحدثون، احتفوا بهذه الثورة، والتقليديون مثل الشيخ أحمد محمد صالح الذي كتب قصيدة طويلة عن أكتوبر ورد فيها هذا البيت:
    كلهم كانوا المنادي قرشياً مظفراً ميمونا
    ويقول "عبده بدوي" معلقاً على شعر أكتوبر وعلى قصيدة أحمد محمد صالح:
    "فالتقليديون فرحوا به ـ يعني أكتوبر ـ وراحوا يربطونه بالأمجاد القرشية
    والوطنية، في الوقت نفسه داخلهم الزهو بالتراث".
    لا يخفى هنا أن عبده بدوي جانب الصواب في إرجاع "قرشياً" إلى قريش، فالمعروف هنا أنها ترمز إلى القرشي الشهيد، وهذه على ما يبدو سمة عند كثير من النقاد العرب عند ينتقدون أعمال الأدباء السودانيين، فكثيراً ما يخطئون في تفسير كثير من الظواهر وهذا يرجع في رأيي لعدم الاهتمام الكافي بمعرفة الآخر الذي هو السوداني وآدابه.
    وفي أواخر سنوات الستين ظهرت حركة "ابيداماك" تيمناً بالإله النوبي "أبيداماك"، وهذه الحركة تبناها اليساريون فانظر إلى هذا التناقض بين الفكر والسلوك لديهم! وكان كتاب هذه الجماعة في الغالب يكتبون بالعامية عن أشياء سودانية بحتة ولكن سرعان ما انتهت هذه الجمعية، وكما ذكرنا سابقاً في الفصل الأول أن محمد عبد الحي كان قد نشر تكذيباً عندما ادعى البعض أنه ينتمي إلى هذه الجماعة مما أثار غضب اليسار عليه.
                  

09-28-2003, 05:23 PM

bayan
<abayan
تاريخ التسجيل: 06-13-2003
مجموع المشاركات: 15417

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الغابة والصحراء ....... مرة اخرى (Re: bayan)


    ونجد أن أطروحات الغابة والصحراء تطورت فيما بعد لتصبح الأفروعربية التي كتب فيها الكثير من الكتاب مثل عبد اللَّه علي إبراهيم في تحالف الهاربين* وعبد الهادي الصديق في كتابه السودان والأفريقانية** ومحمد المكي إبراهيم ونجد أن عبد اللَّه علي إبراهيم في مقاله (تحالف الهاربين) تحدث عن مدرسة الغابة والصحراء وذكر أن دعاة الغابة والصحراء لم يكونوا منزهين عن الغرض حيث اختاروا بعث العنصر الإفريقي قائلاً:
    "لا تهدف الأفروعربية إلى تحجيم الانتماء العربي الصريح وحسب بل إلى إجراء تحسين جذري في المكون العربي الإسلامي من الذاتية السودانية فاستعادة
    التراث الإفريقي في نظر الأفروعربيين ليست مجرد تصحيح لمعادلة مختلة إنما القصد منها تهريب أجندتهم الاجتماعية والفكرية إلى الثقافة العربية الإسلامية الغبشاء المتشددة الحنبلية (في قول المكي) بقصد حملها على التلطيف والسماحة".
    ونجد أن عبد اللَّه علي إبراهيم لا يخلو من خبث هو نفسه في قوله هذا إذ يريد أن يخبرنا أن لهؤلاء أجندة خاصة وخفية ولكن نجد أن عبد اللَّه علي إبراهيم لا يخلو من أجندة خاصة وخفية لإبراز هؤلاء وكأنهم فقط بانتمائهم لإفريقيا يستطيعون أن يفعلوا ما يرمون إليه من انفلات وتهتك من وجهة النظر الإسلامية.
    ومما سبق نخلص إلى أن الغابة والصحراء لم تكن مدرسة ذات أبعاد فكرية موحدة، أو التزام بخط فكري موحد. إذ نجد أن كل من هؤلاء الأدباء يحمل فكره الخاص به وإن كانت الهوية السودانية هي شغل شاغل لهم. ولكن نجد أن كل واحد منهم ولج إليها من مرتكزه الخاص. وقد اختلفت هذه المرتكزات بينما نجد محمد المكي إبراهيم وصلاح أحمد إبراهيم ينتميان إلى اليسار. نجد مصطفى سند ومحمد عبد الحي لا ينتميان إلى خط فكري موحد ولكن في داخلهما يؤمنان بالوجود الديني عند الإنسان ثم نجد "النور عثمان أبكر" كان ينتمي إلى الفكر الوجودي.
    ولكن إذا كان الخط الفكري هو علامة فارقة بين هؤلاء الأدباء، غير أن هناك أشياء كثيرة متشابهة بينهم وهذا هو الذي جعل النقاد* يدرجونهم تحت ما يسمى بمدرسة الغابة والصحراء فنجد أن الإطار الجوهري (الشكل والمضمون) يحفل بكثير من العوامل المشتركة وهي:
    1 ـ مفهوم البعث الحضاري السوداني القديم (مروي).
    2 ـ هموم الهوية السودانية.
    3 ـ بعث العنصر الزنجي في الشخصية السودانية.
    4 ـ استخدام سنار كرمز للسوداني الخلاصي (بداية التكوين).
    5 ـ استخدام مفردات سودانية.
    6 ـ إيراد رمزية الغابة والصحراء في شعرهم.
    7 ـ قضية الموت والبعث بالمفهوم الإفريقي.
    8 ـ ظاهرة العرافة والكجور.
    وعلى الرغم من أن الشكل عندهم كان شكلاً "حداثياً" التزموا فيه بأوزان الشعر الحر، وكما ذكرنا سابقاً في الفصل الأول في معرض حديثنا عن الشعر عند محمد عبد الحي أن هناك موقفين من استخدام اللغة وتوظيفها، الأول يميل إلى وضوح الأسلوب والتقريرية والثاني هو استخدام اللغة بتكثيف للصور وملئها بالإشارات والغموض وفي هذا تقول سلمى خضراء الجيوشي في معرض حديثها عن الشعر السوداني في سنوات الستين:
    "الأول يميل إلى وضوح الأسلوب، بسط الحدود الخارجية للصورة وشيء من الهلهلة في تركيب العبارة أحياناً وزعماؤه شعراء كعبد الوهاب البياتي، وصلاح عبد الصبور أما التيار الثاني فهو تيار الشعر الخاطف المكتنز بالمعاني والصور الذي كسر منطق التركيب القديم في العبارة وجزاء الصورة أبرز شعرائه أدونيس".
    ومن هذا المنطلق نجد أن صلاح أحمد إبراهيم ومحمد المكي إبراهيم يكتبان تحت التيار الأول لعل ذلك لارتباطهم بمدرسة الواقعية الاشتراكية، بينما يكتب محمد عبد الحي والنور عثمان أبكر ومصطفى سند تحت التيار الثاني هذا من ناحية شكل القصائد عند جماعة الغابة والصحراء.
    ومن هنا نخلص إلى أن الغابة والصحراء هي حركة بعثية للعنصر الزنجي، والاعتراف به كمكون أساسي، في الإنسان السوداني وثقافته وكما ذكرنا على الرغم أنه لم يكن هناك خطاب تأسيسي، إلا أن لهذه الجماعة قاسماً مشتركاً، ألا وهو فكرة الهوية السودانية وهمومها التي كانت ضرورة في سنوات الستين، وأن يحدد السوداني موقفه من حركة النضال الإفريقية أو العربية*. وكذلك لحسم الحرب الدائرة في الجنوب التي يراها البعض أنها حرب عرقية بين زنوج وعرب، فلذلك فكرة الغابة والصحراء وانصهار العنصرين الزنجي والعربي قد يقرب شقة الخلاف بين الجنوب والشمال.

    المبحث الثاني: تطبيقات على مفاهيم الغابة والصحراء


    أوردنا في المبحث الأول أن شعراء الغابة والصحراء على الرغم من اختلاف منطلقاتهم الفكرية إلا أنهم طرحواالكثير من المضامين والمفاهيم المشتركة فيما بينهم، مما جعل النقاد* يدرجونهم تحت لافتة الغابة والصحراء، على الرغم من تنصل البعض من هذه المدرسة وأفكارها، وفي هذا المبحث سنقوم بمناقشة هذه المضامين والاستدلال بمقاطع من شعراء هذه المدرسة وهم محمد عبد الحي وصلاح أحمد إبراهيم ومحمد المكي إبراهيم والنور عثمان أبكر ومصطفى سند.
    والجدير بالذكر أن المتطلع للأعمال الشعرية لهؤلاء الشعراء، الذين أدرجوا تحت راية الغابة والصحراء ـ قسراً أو اختياراً ـ يلاحظ أنه لم تكن هناك قصيدة كاملة، تحمل أفكار الغابة والصحراء، ما عدا قصيدة (العودة إلى سنار) لمحمد عبد الحي التي سنحللَّها لاحقاً ـ في الفصل الثالث ـ بل نجد هذه المفاهيم منتشرة في أعمال شعراء هذه المدرسة في شكل مقاطع في قصائدهم، ولذلك اقتطعت هذه المقاطع من قصائد، ثم قمت بتحليلها لنرى إلى أي مدى توافقت فيها مفاهيم ومضامين الغابة والضحراء، التي هي في حد ذاتها ذات المتشابهات التي ربطت بين هؤلاء الشعراء، وهذه المفاهيم المشتركة قد سبق ذكرها في المبحث الأول.**
    والذي يجدر ذكره أن هناك مضامين كثيرة أخرى وموضوعات عامة أوردها هؤلاء في شعرهم مثل النضال السياسي في إفريقيا، وثورة أكتوبر ... الخ وهذا على سبيل المثال وليس الحصر.
    1 ـ هموم الهوية السودانية والثقافة العربية الإفريقية:
    كانت هموم الهوية السودانية هي من الأساسيات التي قامت عليها الغابة والصحراء، كما أن السودان كبلد إفريقي عربي اكتظت ثقافته بثنائيات الثقافة الزنجية، والثقافة العربية فشكلت رافدين أساسين في الثقافة السودانية.
    وها هو صلاح أحمد إبراهيم* يبرز هذه الثنائية في قصيدته (فكر معي ملوال)**:
    ملوال ها أنا الحس سِنّة القلم
    ألعق ذرة من التراب
    أضرب فخذي بيدي .. أقسم بالقبور .. بالكتاب
    شلت يدي جنازة لو أنني كذبت يا ملوال
    ولينشف اللسان من جذوره، ولتنفطر هذي اللَّهاة من ألم
    كأنها حنظلة الجبال
    لو أنني كذبت يا ملوال
    وقبل أن تنكرني اسمع قصة الجنوب والشمال
    حكاية العداء والإخاء من قدم
    حيث بعد ذلك ينتقل إلى التحدث عن الطريقة التي كون بها الشمالي، إلى أن يقول:
    تفتحت حقيقة سمراء في أحشاء كل أم ولدٍ منهن، من بنات جدك الأكبر،
    مما بذرته نطف الأعراب
    فكان منها الفور والفنج، وكل سحنة فاحمة، وسمة غليظة، وشعر مفلفل
    ذُرّ على إهاب
    حقيقة كبيرة عارية كالفيل كالتمساح، كالمنيف فوق كسلا، سليطة الجواب:
    كذاب الذي يقول في السودان إنني الصريح، إنني النقي العرق، إنني المحض ..
    أجل كذاب
    يدعو صلاح هنا ملوال* قائلاً:
    نحن يا ملوال لا نختلف كثيراً، فأنا عندما أقسم يا ملوال الحس ذرة التراب، وكذلك أضرب على فخذي لأغلظ القسم، ولتأكيد صدقي، كما أنني أيضاً أقسم بالكتاب، فلتشل يدي يا ملوال وتصبح ميتة جنازة لو أنني كذبت يا ملوال، ولييبس لساني من حده، ولتشق لهاتي مثل الحنظلة الجبلية الجافة لو أنني كذبت فيما أقول.
    وقبل أن تنكرني وتكذبني اسمع قصة الشمال والجنوب وقصة هذا العداء وكذلك الإخاء من أقدم الزمان، وبعد أن أكد على المتشابهات ذهب في المقطع الآخر يؤكد على شيء مختلف فهو يريد أن يخبرنا كيف تم تكوين ما يسمى بالسودان فقال:
    تفتحت حقيقة سمراء، يعني تكون طفل يحمل الخاصة السوداء والبيضاء، لأن اللون الأسمر هو اللون الذي يتكون من الأبيض والأسود معاً، هذه الحقيقة كانت في رحم جدتك، التي تخصبت بنطف العرب، وهنا يرمز إلى الحقيقة التاريخية، إلى أن الهجرات العربية إلى السودان، كانت هجرات رجالية لوعورة وبعد الطرق فأتى العرب، وتزوجوا من النساء الزنجيات ليكونوا ما يسمى السوداني الآن.
    فكان من ذلك الإخصاب الفور والفونج وكل من هو أسود وأكرد الشعر
    وذو ملامح غليظة، وأسمر الجلد.
    وهي حقيقة عارية وصارخة مثل الفيل والتمساح وجبل التاكا في كسلا سريعة الإجابة.
    فاسمع يا ملوال، كذاب من يدعي أنه العربي الخالص في هذه البلاد.
    في هذه القصيدة يخاطب صلاح أحمد إبراهيم ملوال، مقسماً له بكل الأقسام التي يعرفها ملوال ليؤكد أنهما بعض من كل، وهو السوداني ومن المعروف، أن الجنوبيين ينظرون إلى الشماليين على أنهم عرب، ولكن الشاعر الشمالي يريد أن يخبر ملوال، ويدعوه إلى أن يضع يده في يد الشاعر، وليبحثوا عن نقطة التلاقي لا نقاط الاختلاف، وأنهما ينتميان إلى ثقافة واحدة. ويخبره كيف تم تكويننا إذ أن الشمالي ما هو إلا أخوه من أبناء جدته الكبرى ويخبره أنه كذاب كل من يدعي العروبة الخالصة في السودان، ومن هنا نجد أن الشاعر يؤكد على وجود الدماء الإفريقية في السوداني الشمالي، كما يؤكد على توحد الثقافة.
    على الرغم من جمال هذه القصيدة، إلا أنّ بها كثيراً من المفاهيم العاطفية الساذجة، لا أدري هل أراد الشاعر هذه البساطة حتى يفهم بملوال الذي يبدو أنه غير متعلم وبدائي وهذا في حد ذاته تنميط للإفريقي، فملوال هنا يرمز إلى الجنوبي.
    ولعل حضور ملوال في ذاكرة الشاعر يمثل الأنا (الإفريقي) في نفس الشاعر ورغم أن هذا حوارٌ ثنائي إلا أنه تتحد فيه الأضداد لتمثل شخصية السوداني المنقسمة على نفسها المتحدة في جذورها. فيرى أنه يقسم بالقبور يستدعي التراث الإفريقي وعبادة الأجداد، وبالكتاب الذي هو رمز الثقافة العربية الإسلامية التي في تمثلها في الواقع السوداني لم تسقط الرمزية الدينية للقبور دفعة واحدة ولعل ملوال بهذه الطريقة التي أكد له فيها الشاعر وحدة جذره العرقي معه، يكون أقرب لفهم سطحية العداء المتوهم بين الجنوب والشمال أو بالأحرى بين الإفريقي والعربي، وهناك خيط رفيع بين العداء والإخاء من القدم، والشاعر يستدعي هنا قصة هابيل وقابيل التي تتمثل فيها قمة الإخاء والمودة وقمة الدموية والعداء، وقد أسهب
    الشاعر في ذلك.*
    ثم ينتقل الشاعر للحديث عن قضية "اثنيه" هي سمرة السودانيين (تفتحت حقيقة سمراء) يستدعي فيها تراث الفقه المالكي في مسائل أمهات الأولاد. وهي من صميم الثقافة العربية في تمازجها مع الميراث الإفريقي. فأمهات الأولاد هم بدايات هذا التمازج العربي الذي أنتج الفور والفونج وكل سحنة فاحمة ... الخ.
    وهذه حقيقة كبيرة وعارية كما يرى الشاعر تقف ضد كل ادعاءات النقاء العرقي تذكر ملوال بالتواصل الحميم بينه وبين الشاعر. وبنظرة فاحصة للأمر، لعل ملوال وذلك الأنا الإفريقي الذي حاول الشاعر إخفاءه ولكنه لم يستطع فتصالح معه. ونسب إلى الكذب من يدعي غير ذلك فملوال حقيقة ماثلة تعلو على كل الحقائق وهي كالفيل والتمساح وجبل التاكا، وهو يشكل أبجديات الوجود السوداني وليس أكذوبة ولكنه حقيقة عارية بل الكذب الصراح هو إنكار تلك الحقيقة العارية.
    وتأكيداً لمفهوم الثقافة الإفريقية في الثقافة السودانية، نأخذ هذا الجزء من قصيدة (ميلاد) للنور عثمان أبكر** الذي يقول فيه:
    مولود النبعة والصحراء
    يتقطر وعدا، حبا،
    يجرح شح الأرحام ويجتاز الأسوار
    هبت صارخة الجبهة والثديين
    ما عار العرى، وما زهو المؤتزرين؟
    خلدى مائدة العمر هنا
    وقد الجمر الأزليِّ، نداء المجرى
    زهرا
    شهدا
    حقلا لقحه الموتى
    في موسم إيراق الذات وأخصاب الأحياء.
    يقول الشاعر في هذه القصيدة:
    مولود النبعة والصحراء، وهو يستخدم هنا ثنائية التضاد فالنبعة أو بركة الماء، تعاكس لمفهوم الصحراء الجرداء .. وهنا يرمز الشاعر للزنجي بالنبعة التي هي قد تكون مركزاً للغابات الاستوائية المليئة بالينابيع. وهنا أراد الكل فأطلق الجزء، وكذلك الصحراء ترمز للإنسان العربي الذي يعيش في الصحراء، فرمز له بها، وهذا المولود هو مولود هجين بين الزنج الذين رمز لهم بالنبعة والعرب الذين رمز لهم بالصحراء.
    فهذا المولود ينتظر منه الكثير فهو مملوء بالأمل والحب، وهو يخصب الأرحام الشحيحة التي لا تعطي، ويجتاز الأسوار ويفك القيود. فهبت وهي عارية مرفوعة الجبهة دلالة على العظمة ومزهوة بثدييها، ولذلك لم تسترهما، وهي لا ترى جدوى من ذلك، فما الذي يعيب العري!؟ وما الذي يجعل اللابسين مزهوين بذلك؟ وهنا للدلالة على العري الذي لا يرى فيه الإفريقي عيباً ولكن في المقابل نرى أن العرب ينظرون إلى هذا العري باحتقار. ونرى هنا مقابلة بين ثنائية متضادة وهي العري الذي يرمز إلى الزنوج واللبس الذي يرمز إلى العرب.
    فاستعدي بالولائم، واجعلي مائدة العمر، ويريد بها الشاعر صفحة الحياة، اجعليها خالدة وباقية إلى الأبد واشعلي ذلك الجمر ولا تتركيه يخبو، ونداء المجرى قد يقصد به نهر النيل فلبي نداءه زهراً وعسلاً، وهذا الحقل من قبل كان قد لقحه من ماتوا من الأجداد في موسم ووقت الإخصاب وصنع الذات.
    وهنا يرى الشاعر أن هناك أشياء هي صميم الثقافة العربية، ثم يضع هذه الأشياء في مقابلة مع الثقافة الزنجية، ولا يرى في هذه المقابلة أي تناقض، أو تنافر بل هي تعطي أملاً وشهداً وحياة. لاحظ قوة الأفعال التي استخدمها الشاعر مثل: يجرح، هبت، ليدلل على قوة حجته.
    ورغم علو النفَس الشعري عند النور عثمان أبكر إلا أنه يسعى جاهداً لتوطين الثقافة الإفريقية وإعطائها بعداً فكرياً أولياً إزاء الجانب العربي لهذه الثقافة. وللغابة معاني الأصل والجذر والنبعة والبدايات التي ما كان قبلها بدايات. فهي وقد الجمر الأزلي وهي نداءٌ ما قبله نداء وهي بدايات الرحم والتكوين، يحتفل النور عثمان أبكر لكل هذه المعاني الإفريقية، ويرى أنها هي التي تضفي على الأشياء معاني أخلاقية وثقافية (ما عار العري وما زهو المؤتزرين) فهذا العري الإفريقي هو منبع للقيم وبأذائه كساء هو دخيل على أصل النبعة. فأصل القيم هو ذلك الإفريقي المنفلت من كل شيء الذي تبدأ عنده الأشياء.*
    كما أشرت سابقاً فمفردات هذه القصيدة بها من القوة والعنف ما يمثل حيوية الإفريقي، وصخبه وأنه أساس ميلاد هذه الثقافة السودانية والنور عثمان أبكر هنا ليس مثل صلاح أحمد إبراهيم، فهو جزء من القصيدة نرى صوت الشاعر فيه شاهداً على تلك البدايات ليس معتذراً لإفريقيته، وليس مؤكداً لحقيقة اندثرت ولكنه بحضوره في القصيدة وعلو صوته، يجعل لإفريقيته أولوية وسبقاً هي التي منحت معاني الصحراء شيئاً جديداً تمثل في الثقافة السودانية. فالميلاد والأصل هو للنبعة رغم أن هذا المولود هو هجين بين النبعة والصحراء. فالوعد والحب الذي فيه يشهد البدايات الإفريقية الأزلية، والتجاوزات التي جعلت هذا اللقاح ممكناً هي تجاوزات موسم الإيراق، والإخصاب ليست هي تجاوزات العداء والإخاء مثل ما هو الأمر عند صلاح أحمد إبراهيم وإنما هي تجاوزات بناء ذات جديدة، فيها كل معاني الفورة وتجاوز الموت الذي يهب الحياة لميلاد جديد.
    ونموذج آخر لهذا المفهوم يتمثل في مقتطع من قصيدة مصطفى سند* (الغابة)، حيث يقول الشاعر:
    كأنما في هذه العروق من طبولها المدمدمات
    بالأسى شرارة
    ورثتها كما أحسّ، من دنانها.
    .. وعشبها .. وبرقها المخيف ..
    .. من سهول الجنس .. والدماء .. والإثارة
    .. إذا وطئتها أموت من تلهفي
    أذوب في العناصر الطلاسم
    أشم نكهة الغموض في تعاقب المواسم
    أشم نكهة البكارة
    أحس أنني إلى هنا انتميت، منذ هاجرت
    بويضة الحياة عبر جدّتي
    وأنكرتْ حواضن الإله لمعة الحضارة
    تلوح في جبيني الهجين، في نحاس الشمس
    سال في دماي، في غرابة الملامح
    وعندما سجنتُ في رواق الليل
    كانت الطبول والخمور والذبائح
    يقول الشاعر: كأن في عروقي شيء من أصوات الطبول ودمدماتها. مليئة بالأسى، لقد أتت لي عبر ميراثي الزنجي، بكل شيء أتتني من كؤوسها، وعشبها، وبروقها المخيفة، من الجنس، من الدماء، والإثارة. إذا أتيت إليها، أكاد أموت من اللَّهفة التي تذيبني في عناصرها المختلفة، ورموزها الغريبة، فأنا أشتم رائحة الغموض في تعاقب الفصول واختلافاتها، فأنا أشتم رائحة البداءة والبكارة، وكذلك أحس بأن انتمائي إلى هذه البقعة هو انتماء حقيقي على الرغم من الهجرة ـ والجدير بالذكر أن الشاعر الشمالي كان قد عمل في جنوبي السودان وربما يعني الهجرة إلى الشمال ـ وهو يؤكد انتماءه عبر جدته الزنجية.
    أنكرت الآلهة ما أتت به الحضارة الجديدة، وهنا قد يعني آلهة الجدة الوثنية وحضارة الجد الإسلامية العربية، مهما كانت الأفكار لهذا الانتماء إلا أنها تبدو في شكلي ولوني الهجين في اللون النحاسي المصهور بالشمس، لقد سالت كل هذه الأشياء في دمي في ملامحي غير المألوفة، وعندما يجن الليل أحن إلى الطبول التي ترمز إلى الثقافة الزنجية وكذلك ما يصحبها من ولائم وخمور واحتفالات. فنفس الشاعر وجلده يؤكدان الانتماء إلى الثقافة الزنجية التي هي مكون أساس في ثقافته السودانية.
    مرة أخرى يستعيد مصطفى سند المعاني التي أثارها صلاح أحمد إبراهيم في قضية أمهات الأولاد. (أحسب أنني إلى هنا انتميت منذ هاجرت بويضة الحياة عبر جدتي) وصار يرى هذا الهجين يلوح في جبهته، هذه الرموز الإفريقية بطلاسمها وطبولها وخمورها تعصف في داخله لتذكره ببدايات ذلك اللقاء العربي الإفريقي. الذي كان لقاءً حضارياً تمثلت فيه هذه العناصر وأنتجت ذلك الهجين. في ذاكرة الهجين تبدو هذه الأشياء واضحة، بينة أعظم ما يمكن التعبير عنها هو لسان الشاعر، الذي يرى في أعماقه ما لا يراه الآخرون، يحس بهذه الطبول المدمدمات، وبالعشب والطلاسم في شاعرية هي المعبر الحقيقي عن هذا التمازج الثقافي، وليس صدفة أن خير من يعبر عن ذلك اللقاح الحضاري هو الشعر. حيث تذوب العناصر الأولية فيه في بعضها البعض مكونة شيئاً جديداً، يعلو على الفهم الوارد ولكي تقتنصه عبارات الشاعر، ولعل هذه الأبيات هي وسطٌ بين محاولة النور عثمان ومحاولة صلاح أحمد إبراهيم في التعبير عن هذا التمازج بين الثقافة الإفريقية والثقافة العربية. فالآخر الإفريقي ليس ملوال ولكنه جزءٌ صميمٌ في شخصية الشاعر، فالشاعر هنا يتحدث عن نفسه بضمير الأنا (أذوب، أشتم، أحسب، سال في دمائي ... الخ)، أمهات الأولاد هنا هي جدته هو الفرق بينه وبين صلاح أحمد إبراهيم أن الأنا الإفريقي في داخله هو آخر علاوة على نفسه. كما اتضح لنا أن صوت الشاعر في أبيات قصيدة الميلاد التي اتخذناها أنموذجاً من شعر النور عثمان أبكر، صوت الشاعر ينفجر في داخل الرموز التي ذكرها بين النبعة والصحراء وهو شاهد ذلك الميلاد، ولكنه ليس جزءاً منه شاهد يرى الأشياء في بدايتها ولكنه لم يشارك في صنعها أما سند فهذه الأشياء تمثل جزءاً من تاريخه الشخصي.
    ومن ثم نجد أن هؤلاء الشعراء عندما يضعون الثقافة العربية، في مقابل الثقافة الزنجية لا يجدون أي تعارض بينهما، بل يشكلان إضافة موجبة فالهجنة دائماً قوة، فهو يحمل الصفات الوراثية لعنصرين، فلذلك يأتي قوياً من الناحية الجسدية والعقلية، وكذلك يكون هناك ثراء في الثقافة إذ أنها نتاج ثقافتين.

    2 ـ البعث الحضاري للحضارات السودانية القديمة:
    نجد أن أهم وأخطر المضامين التي أوردها هؤلاء الشعراء هي بعث الحضارات القديمة وتمجيدها، وأرى أنهم فعلوا ذلك ليدحضوا الآراء التي تقول إن العرب عندما دخلوا السودان، كان الزنوج في أرض السودان يعيشون في بدائية وهمجية، ولا حضارة لهم، وكأنهم بإدراجهم لمروي يرمزون إلى عظمة تلك الحضارة، التي عرفت الحديد، وصناعته وبنت المعابد وكانت لغتهم لغة مكتوبة، وكذلك إدراجهم لسنار تلك السلطنة الإسلامية التي يرى البعض أنها تشكل النواة الأولى للسودان الحالي.
    يقول النور عثمان أبكر في مقطع من قصيدته (صحو الكلمات المنسية):
    من كاهن هذا المعبد أوصده
    في وجه العابر والساعي؟
    غرت على "سنار" رفعت ندائي غضبى
    أشهر من مصباح اللؤلؤ "سنغانيب":
    خزيت أرحام الموتى شبعاً، عافية، راحة بال ووساد
    حتى يرفع إنسان رأسه
    يرعب، يجرف اطمئنان الموت على "مروي"
    يتساءل الشاعر: من ذلك الكاهن الذي أغلق باب المعبد في وجه العابرين والطالبين؟ وعرجت على "سنار"* وناديت وأنا غاضب رافع مصباح اللؤلؤ "سنغانبيب"** عاشت أرحام الموتى وهي شبعى وممتلئة بالعافية، والصحة، وراحة البال، ووساده. يعني وضع هادئ ومريح إلى أن يرفع إنسان رأسه فيثير الخوف ثم مرة أخرى يجرجر الاطمئنان والهدوء على "مروي".***
    لعل قصيدة (صحو الكلمات المنسية) التي منها هذا الجزء الموحي الذي يحمل بين سنار ومروي في نسق فريد. فالشاعر يقولها صراحة من قبل بلوغ العالم هذا العصر السامق كان النبض الأول في الغابات وبدايات الحياة الإنسانية كانت هنا في الغابة ثم من بعد هذا المقطع يتساءل من كاهن هذا المعبد؟ فهذا المعبد في (مروي) بدايات التحضر في الثقافة السودانية، ولكنه أوصد لتبدأ بداية جديدة، لم ترق للشاعر فهو قد غار على سنار ورفع عقيرته بالنداء غاضباً ومندداً بما قد حدث فسنار في مواجهة مروي، مروي هي اطمئنان الموتى والنسيان ولكنه نسيان مرعب لأنها هنا في داخل سنار رغم أن قصرها قد أوصد وكاهنها قد شرد، لكنه لم يراوح مكانه، بقاء ثقافة الموتى فينا تمنحنا حياة ضاربة الجذور والأعماق تمثل مولود النبعة فينا. هنا الشاعر يبدي انحيازه واضحاً لثقافة ما قبل سنار. لأول مرة كحركة هذه الرسوم الصامتة المتمثلة في ذلك المعبد المروي الذي أوصد عنوة.
    ويبدو أن ذكرى النسيان قد شملت كاهن ذلك المعبد، ولكن الشاعر يراه حاضراً ويريد أن يستدعيه من أشباح الموتى.
    كما يقول الشاعر محمد عبد الحي من مقطع من قصيدته (مروي 1962):
    في القفر وحدي تحت شمس (مروي) أقرأ في حطام
    أحجارها السوداء والرخام
    أنصت للعصفور
    بين بساتين النخيل والرمال والصخور
    مغنياً عبر العصور
    في الصحراء، وقفت تحت شمس مروي وحدي، أقرأ وأتطلع إلى الحطام، والآثار، وحجارها السوداء والرخام، وفي ذات الوقت أنصت لتغريد طائر، بين الحدائق والنخيل، والرمال، والصخور، وهذا الطائر يغني على ما يبدو على مر العصور، منذ زمن طويل، وكأنه يخبرنا عما كان هناك في ذلك الزمن البعيد.
    وفي مقطع آخر من قصيدة "سنار 65" يقول:
    حين أبحرنا إلى (سنار) عبر الليل كانت
    سدرة التاريخ تهتز بريح قادمٍ من جزر الموتى
    حين أبحرنا إلى سنار في الليل كانت شجرة التاريخ تهتز وتميل استجابة لهبوب ريح قادم من الجزر التي يسكنها الموتى.
    الأبيات للنور عثمان أبكر، ولمحمد عبد الحي كلها تتحدث عن سنار ومروي وتستخدمهما رمزاً للحضارات القديمة التي ما زالت آثارها باقية.
    فـ"مروي" كانت حضارة سادت في وادي النيل ردحاً من الزمن، أقامها النوبة الذين هم من عناصر زنجية، قامت هذه الحضارة وازدهرت وصارت لها شأن
    في التاريخ الإنساني، لما قدمته من إرث حضاري، أسهم في تطور تاريخ الحضارات القديمة، لتدلك على أنه عندما دخل العرب السودان لم تكن هذه المنطقة خاملة الذكر، أو بدائية كما يدعي البعض.
    وسنار هي مملكة إسلامية، قامت في القرن الخامس عشر، وقد أقامها جنس هجين بين العرب والزنج، وكانت أول مملكة إسلامية في السودان، ويرى كثير من المؤرخين أن سنار هي نواة للإنسان السوداني الحالي، كون أن السوداني الشمالي هو خلاصي بين العرب والزنج ويدين بالإسلام.
    ونلاحظ أن محمد عبد الحي قد كتب قصيدة أسماها مروي 1965 وقصيدة أخرى أسماها سنار 1962 ولعل الشاعر أراد أن يربط بين مروي وسنار في الطريقة التي سمى بها القصيدتين رغم أنه لم يذكر ذلك في سياق واحد أو قصيدة واحدة رمز سنار ومروي. فبالنظر في قصيدة مروي 1965، نرى أن الشاعر يقف تحت وهج الشمس مستنطقاً الأحجار والحطام، عله يرجع إلى بدايات مروي التي هي جزءاً من ذاكرته المفقودة ليست حاضرة فيه، ولكنها تمثل بعداً من ذاكرة التأريخ يحتاج منه إلى التأمل والاستقراء للحطام، فهي تأريخ مفقود تليد لكنه حطام فهو حينما ينصت للعصفور بين بساتين الحاضر والرمال يريد أن يفهم شيئاً عن نفسه ربما أباح بسره ذلك العصفور، ولكنه سيسمع لغناء لا معنى له وجزء من ذلك الحطام لذلك القفر، (وحدي) يقول الشاعر تحت شمس مروي اقرأ الحطام، من يقرأ، تحت وهج الشمس في ذلك الحطام يمسك بتأريخ هو ليس له إنما هو تأريخ غابر قد اندثر. تلك هي مروي في مخيلة الشاعر تقف بإزاء سنار التي تمثل حضوراً أبدياً راسياً في نفسه، يبحر إليها عبر الليل فهي له ملاذٌ لجأ إليه، ولكنها تبقى في ذاكرة التأريخ رمزاً يستكين إليه، وليس صدفة أن نرى أنه حينما أبحر إلى سنار لم يبحر وحده ولكنه أبحر ومعه زخم من الأضداد والتأريخ والحضور، فسدرة التاريخ تهتز له لتمنحه حياةً وجوداً راسخ القدم، ليس في سنار حطام وإنما
    تأريخٌ ناصعٌ لا يستعصي على القراءة، وليس هناك طلاسم وإنما تبدو سدرة التاريخ لتمنحه أصولاً، وجذوراً واضحة المعالم. فمروي حطام يستعصي على القراءة وسنار تأريخ بيِّن المعالم.
    وإن كان النور عثمان أبكر يقف ذلك الموقف الغاضب من سنار، الداعي لحضور مروي في ذاكرتنا، فإن محمد عبد الحي يثبت عمق استدعاء مروي في ذاكرتنا ويبين الحضور الطاغي لسنار في وعينا، وهي التي تهبنا التأريخ وتمثل موقفاً بإزائه نُدرك وجودنا في التأريخ، فمروي وسنار رمزان عند النور عثمان أبكر يمثلان التقاطع بين العرب والزنج، ومروي وسنار عند محمد عبد الحي تمثلان استحالة التواصل، وبين استحالة التواصل والتقاطع يبدو موقف النور عثمان أبكر واضحاً إزاء الثقافة السودانية وكيفية البعث الحضاري لها ويبدو كذلك واضحاً عند محمد عبد الحي عدم جدوى مروي بإزاء سنار وبدايات سنار هي البدايات، وما كان في مروي قد كان لكن ذاكرة التاريخ قد ضيعته وصار حطاماً.
    وباستخدام الرموز مثل سنار، ومروي لبعث الحضارات القديمة يشحن السوداني الحالي بالفخر من ماضيه والاعتزاز به، سواءً أكان العنصر الزنجي أو العربي، كلاهما أتيا بحضارات عظيمة جديرة بالاحترام والإعزاز، ولذلك يرى هؤلاء الشعراء أنه من المهم أن نعتز بهويتنا الخلاصية هذه، وهذا واحد من أهداف مدرسة الغابة والصحراء عندما بدأوا في بعث الحضارات القديمة، وذكرها في أعمالهم الشعرية.

    3 ـ العنصر الزنجي في الشخصية السودانية:
    لقد كان سؤال الهوية، هو من أهم الأسئلة التي طرحتها مدرسة الغابة والصحراء، إن كان على مستوى التنظير أو التطبيق، وهذا ما تميزت به هذه الجماعة، إذ أن الغالبية من الشعراء السودانيين كانوا عندما يتحدثون عن إفريقيا، يتحدثون من بعد وكأنهم غير أفارقة، أو بالأحرى فقط جغرافياً، ولكنهم عرب.
    نقتطع جزءاً من قصيدة (هايدي) للشاعر محمد المكي إبراهيم:
    وأنا فارسها القادم من رأس المدار
    من بلاد تأكل الجوع وتقتات الدوار
    جارحاً يطعن حتى اللون والعطر
    وفتلات الإزار
    وهي وعد النار للغابات، وعد النسل
    وعد الجوع والفوضى
    ووعد الأصبع الدامي بأبواب النهار
    تتمشى في أضاليعي حمياها فانهار جموحاً وانبهار
    أنا هذا الفارس القادم إليك يا (هايدي) من المدار ويعني خط الاستواء، من بلاد جافة تأكل من جوعها الجوع، وتعيش في حالة مستمرة من الدوار، وهنا يصف إفريقيا التي أتى منها بأشياء اشتهرت بها في العالم، حيث الجفاف والتصحر يؤذيان إفريقيا، مما يؤدي لظهور جوانب سالبة، مثل الجوع والفوضى، وعدم النظام، والعطالة، والانتظار للفرج الذي قد يأتي به النهار الذي قد يرمز إلى الوعي والمعرفة والاستقلال. فكل هذه التناقضات والهذيان يا (هايدي) تضطرب في داخلي فتجعلني متمرداً ومنبهراً.
    ويقول صلاح أحمد إبراهيم في مقطع من قصيدته الجميلة (يا مرية):
    يا مرية:
    أنا من إفريقيا: صحرائها الكبرى وخط الاستواء
    شحنتني بالحرارات الشموس
    وشوتني كالقرابين على نار المجوس
    لفحتني فأنا منها كعود الأبنوس
    وأنا منجم كبريت سريع الاشتعال
    يتلظى كلما اشتمّ على بعدٍ تعال
    النموذج الثاني من قصيدة (يا مرية):
    ينادي الشاعر هنا محبوبته (مرية) ويقول لها: أنا من إفريقيا التي بها الصحراء الكبرى وخط الاستواء. ملأتني بالحرارات التي جعلتني أسود كعود الأبنوس، وطبعي حامي وفوار، فأنا يا (مرية) مثل الكبريت سريع الاشتعال والانفجار، وهذه اللواعج تزداد سخونة كلما تحسست، وحتى ولو من بعيد إيماءات قبول من امرأة حسناء، ونجد أن صلاح أحمد إبراهيم هنا يؤكد على حرارة عاطفة الزنجي الإفريقي وهذه خاصية اشتهر بها الأفارقة.
    فإذا نظرنا إلى النموذجين المذكورين آنفاً نلاحظ قصيدة (هايدي) لمحمد المكي إبراهيم، و(هايدي) اسم لامرأة غربية، في الغالب بيضاء، وكذلك قصيدة (يا مرية) لصلاح أحمد إبراهيم، كتبت لامرأة اسمها (مرية) وأيضاً هذا اسم لامرأة غربية أو بيضاء، فنرى أنهما طرحا إفريقيتهم لتقف موقف النقيض مع الطرف الآخر، وهو طرف غربي أبيض في مقابلة للعنصر الأسود، فهما هنا يضعا ذاتهما كما يريانها، ويوضحانها للآخر، الذي قد لا يعرفها، ونجد أنهما في هذا المقام لا يذكران المكون الآخر وهو العنصر العربي، فيعرفان أنفسهما على حسب الموقع الجغرافي، وكأني بهما يعرفان أنهما قد يكونا مقبولين لدى الطرف الآخر الأبيض إذا كان الأمر لا يتجاوز اللون، ولكن بالمقابل عندما يدخل العنصر الآخر يجرجر معه الديانة ويكون الاختلاف بين الإسلام في مواجهة المسيحية، وهو في رأيهما فارق أساسي قد يحدث الرفض من الآخر "المسيحي الأبيض" لهما بسبب الديانة ولذلك تجاهلا ذكر العنصر الآخر.
    ومن ثم نجد أن هؤلاء الشعراء اعترفوا بالمكون الإفريقي وعللوا سبب طبيعتهم الحامية إلى وجود أثر هذا المكون الزنجي في إهابهم ودواخلهم.
    إن مقطع قصيدة (هايدي) للشاعر محمد المكي إبراهيم، فيه اعتراف ضمني
    بالعنصر الزنجي، في أداء الحضارة الغربية وإنسانها الأبيض. فهذا الجنوب، الذي يحن إلى الشمال، صار معنًى دائراً في الشعر السوداني. يتخطفه الشعراء حيناً، ويحوله كتاب القصة إلى مغزى عميقٍ عن الصراع الحضاري، والشاعر هنا فارس قادم من رأس المدار رغم قتامة البلاد التي أتى منها، ووصفها بالجوع، والفوضى، العارمة، بإزاء النظام والحياة السهلة الرغدة في الغرب، هذا الفوران الإفريقي، والصخب الذي فيه، هو الذي يمثل الجنوب، ويمثل العنصر الإفريقي فيه، وكذلك "مرية" ومثلها مثل هايدي امرأة أوربية، بإزائها يكتشف الشاعر إفريقيته ويعتز بها. (أنا من إفريقيا صحرائها الكبرى وخط الاستواء). ولعل صورة الإفريقي هو ما تحتاج إليه هذه المرأة البيضاء، وكلاهما محمد المكي إبراهيم وصلاح أحمد إبراهيم يكتشفان إفريقيتهما وهما في مواجهة الحضارة الغربية بمعنى أن هذه الإفريقية ليست أمراً أصيلاً فيهما، وإنما ضرورة الصراع والمواجهة هي التي دعته إلى ذلك الاكتشاف، ولعل في المقطعين ما يدلك على ذلك.
    4 ـ مفهوم الحب وجماليات المرأة السودانية:
    نجد أن غالبية من كتبوا في هذا المضمون من الشعراء السودانيين عندما يتحدثون عن امرأة، يصفونها بنفس الأوصاف التي يصف بها العرب نساءهم، وهي في كثير من الأحيان لا تنطبق على المرأة السودانية التي هي هجين بين العرب والزنج، ونموذج لذلك قصيدة عبد اللَّه الطيب (سمرقند) التي يصف فيها امرأة قائلاً:
    والتي أشبهتك جيدا فرعا ء رداح هركولة* هيدكر**
    ولكن في المقابل نجد أن شعراء الغابة والصحراء عندما كتبوا في الحب والمرأة،
    كتبوا عن امرأة سودانية بمواصفات امرأة خلاصية وهجين، ليست بيضاء وليست لها حاجب نوني.
    وقصيدة محمد المكي إبراهيم* الشهيرة (بعض الرحيق أنا ... والبرتقالة أنت) تحتذي هذا الوعي، وترتبط بالبيئة السودانية، وتتحدث عن امرأة بعض عربية وبعض زنجية، ومنها نقتطع هذا المقطع لندلل على مفهوم الحب والمرأة عند شعراء الغابة والصحراء.
    اللَّه يا خلاسيه
    يا حانةً مفروشة بالرمل
    يا مكحولة العينين
    يا مجدولة من شعر أغنيه
    يا وردةً باللون مسقيه
    بعض الرحيق أنا
    والبرتقالة أنت
    يا مملوءة الساقين أطفالا خلاسيين
    يا بعض زنجيّه
    يا بعض عربيّه
    وبعض أقوالي أمام اللَّه
    في هذه القصيدة الجميلة يبرع محمد المكي إبراهيم في تصوير، هذه العلاقة
    الخاصة التي تربطه بهذه المرأة الخلاسيه، التي يمور في دواخلها الدم الزنجي، مختلطاً بالدم العربي لتأتي هذه المرأة الخلاسيه الرائعة الجمال، فهو هنا يستخدم اسم الجلالة ليبين انبهاره وحبه لها، ويصفها وكأنها حانة أرضها مفروشة بالرمل، وهي امرأة جميلة مكتملة الزينة، ذات عيون مكحولة، وبارعة الجمال، وكأنها شيء خرافي، فهو يخبرنا أنها مثل الأغنية، ولها جدائل مضفرة، وكذلك هي مثل الوردة المشبعة الألوان، ثم يقف مستدركاً ليقول لها أنا يا محبوبتي بعض رحيق من برتقالة ولكن أنت هذه البرتقالة الجميلة، وكأنه هنا يصفها بالكمال ولكن يصف نفسه بأنه جزء من هذا الكمال، ثم يناديها قائلاً لها:
    يا أيتها الجميلة المملوءة بالأطفال الخلاسين أي أن أطفالك هم هجين عربي زنجي، فأنت يا محبوبتي بك شيء من العرب وشيء من الزنوج. كما أنك يا محبوبتي قطعاً ستمثلين جزءاً من أقوالي أمام اللَّه، وهو قد يعني هنا أنه عندما يأتي يوم الحساب ستكون هي جزءاً من حسابه أمام اللَّه.
    نجد محمد المكي إبراهيم في هذه القصيدة يتعشق امرأة إفريقية عربية، وهي هجين بين العرب والزنج، ونجده يصفها بصفات اتسمت بها المرأة السودانية، فهي ذات شعر مجدول وجدل الشعر عادة إفريقية، تمارسها السودانية والإفريقية، لطبيعة شعرها الأجعد، الذي هو ناتج عن الهجين وهو شعر تتراوح خامته بين النعومة والخشونة، وعادة تكون مختلفة من شخص لآخر، فإذا نظرنا إلى الشعر السوداني الذي كتبه شعراء سودانيون نجد المرأة عندهم هي المرأة التي كان يصفها العرب في شعرهم، فليس لها من الزنجية من شيء ، ولكن نرى شاعراً آخر فك نفسه من ربقة التقليد ليكتب شعراً يعبر به عن الواقع الذي يعيشه من البيئة التي يعيشها، ولذلك كانت معشوقته خلاسيه وجميلة.
    كما كتب أيضاً الشاعر صلاح أحمد إبراهيم قصيدته (هدية ـ ليلة الفزع
    والأحزان) وفيها يصف محبوبته التي هي بدورها تحمل سمت السوداني ونقتطع منها هذا الجزء:
    ومشيت إليك أكاد أطير بأجنحة، فأنا فرحان
    وأمام البيت تهيبتُ
    فتذكرت الوجه الأسمر
    والرقة في الوجه الأسمر
    والبسمة في الوجه الأسمر
    في ذلك اليوم بتلك الأمسية
    في هذا المقطع يتغزل الشاعر في امرأة ذات لون أسمر، وإنه عندما استعد للخروج كان فرحاً بلقاء المحبوبة، وكأنه كان يطير لأنه كان مسروراً، وفرحاً لهذا اللقاء المرتقب، وعندما أتى أمام البيت دخله خوف ورهبة، ولكن عندما راح في ذاكرته ذلك الوجه الأسمر، وتلك الرقة والعذوبة في ذلك الوجه الباسم، وكان ذلك في أمسية اللقاء، ونجد الشاعر تحدث عن فتاة ذات لون أسمر.
    إن اختيار مفهوم الحب وجماليات المرأة السودانية هو واحد من عناصر توطين الشعر في بيئة الثقافة السودانية، فإن كان الشعراء مثل عبد اللَّه الطيب، ومحمد سعيد العباسي وغيرهما، يكتبون شعراً ينتسب إلى بناء القصيدة العربية، وجمالياتها، ولا يمت بصلة للواقع السوداني، فإن شاعراً مثل محمد المكي إبراهيم، قد حاول كسر هذه السطوة التراثية التبعية لجماليات المرأة في الشعر السوداني. رغم الغنائية الحافلة التي اتسمت بها قصيدة (بعض الرحيق أنا ... والبرتقالة أنت)، إلا أنها محملة بمعان فكرية عميقة. بها مواقف جمالية مغايرة لما ألفه سمت القصيدة العربية في السودان، فهي عنده (بعض عربية وبعض زنجية وبعض أقوالي أمام اللَّه)، لا شك أننا ندرك هذا التبعيض الثلاثي لهذه المرأة، فبعضها العربي مفهوم لدينا، وبعضها الزنجي مفهوم لدينا، وبعض أقواله أمام اللَّه هي تلك الذاتية التي تجعل هذا التبعيض كلاماً موحداً في امرأة، جمعت هذه الأبعاض، لكنها تكاملت في شيء جديد، إذا أمعنا النظر فيما ذهب إليه صلاح أحمد إبراهيم، وتعشقه للسمرة وترداده لها ثلاثة مرات في المقطع الذي اخترناه (تذكرت الوجه الأسمر، والرقة في الوجه الأسمر، البسمة في الوجه الأسمر) فهذا الترداد يؤكد المعنى في نفس الشاعر، ويجعل في السمرة قيمة جمالية. ولا شك أن كلاهما قد نجح، في توطين جماليات المرأة عند الإنسان السوداني في شعرهم.
    ومن هذه النماذج نخلص إلى أن مفهوم هؤلاء الشعراء للمرأة هو فهم واقعي نابع من الحياة في السودان، فنلاحظ أن خيالهم لا يجمح عندما يتحدثون عن امرأة بيضاء وهركولة وهيدكر، وبذلك يكونون من الرواد في طرح مفاهيم الحب وجماليات المرأة بمواصفات وتصورات نابعة من واقعنا الثقافي، حيث قال محمد المكي: "أنا شخص خلاصي حبيبتي خلاسيه، ومؤهل للحب والزواج من خلاسية وبلدي كلها خلاسية".

    5 ـ استخدام المفردات السودانية:
    نجد أن شعراء الغابة والصحراء كثيراً ما ينقلون صوراً من السودان ويستخدمون فيها مفردات سودانية وهي نابعة من الثقافة السودانية.
    وهذا هو الشاعر صلاح أحمد إبراهيم يكتب قصيدته Fuzzy Wuzzy التي نقتطع منها هذا المقطع الذي يصف فيه بدقة أوشيك:
    ولم يعد "أوشيك" غير هذه النعال
    صداره والثوب والسروال
    والسيف والشوتال
    وشعره المغوّف الوديك والخلال
    وعلبة التنباك
    يراقب الزقوم والصبار والأراك
    السلّ في ضلوعه يفح أفعوان
    عيناه جمرتان
    في وحدة الرهبان إلا أنه
    يحب شرب البنّ يمقت "الشفتة" و"الحمران"
    دبايوا*
    يقول الشاعر: لم يعد أوشيك (هو الاسم الذي يطلق بدلاً عن الشيخ عند قبائل الهدندوة التي تسكن شرق السودان)، يمتلك غير هذا الحذاء والصديريه، والثوب، والسروال وهذه هي الملابس التي يلبسها الهدندوي، ومعها مكملات للزينة مثل السيف والشوتال** وفي شعره الكثيف المدهن بالودك،*** يرشق الخلال (والخلال عود يرشقه الهدندوي في شعره تظرفاً) وعلبة التنباك، والتنباك مادة يستخدمها السودانيون بعامة، ولكن اشتهر باستخدامها الهدندوة إذ قل ما يوجد من لا يستخدمها بينهم، وهي مادة شبه مخدرة وتعد من المكيفات ويصور الشاعر أوشيك بدقة، في وقفته تلك وهو يراقب الزقوم، والصبار، والأراك، وهذه أسماء لنباتات صحراوية تنمو في البيئات الجافة الصحراوية، وأوشيك مريض بمرض السل الذي يفتح وينشر في صدره مثل الثعبان، وعيناه حمراوتان مثل جمرتا نار دلالة على استفحال المرض فيه وتقدمه، وأوشيك في وقفته تلك وحيداً مثل الراهب، وهو يحب شرب القهوة مثله ومثل بقية أهله، ولكنه كذلك يكره بشدة الشفته (عصابات مسلحة في الجبال الواقعة في تخوم إرتريا تهاجم الهدندوة وتسلبهم ممتلكاتهم) والحمران هي قبيلة تجاور الهدندوة، وبينهم حروب دائمة في المراعي
    كما تدل قصة تاجوج* على تلك الحروب، وكلمة دبايوا معناها أهلاً مرحباً باللَّهجة الهدندوية.
    في هذه القصيدة يطرح الشاعر مشكلة الجفاف في تلك المنطقة الجبلية التي تعيش فيها هذه القبائل كما يطرح أيضاً ما يحدث عندما يأتي الجفاف، وكيف تقل الموارد مما يفرز مظاهر اجتماعية سالبة، وبهذا ينقل لنا واحدة من المشاكل المحلية في السودان مستخدماً مفردات سودانية لا يستخدمها إلا السودانيون ولذلك نجده قد قام بشرح معاني المفردات في هامش القصيدة إذ أنه لاختلاف القبائل ولهجاتها من السودان قد يصعب على بعض السودانيين معرفة دلالات هذه المفردات، والمفردات هي دبايوا، شفتة، شوتال، وخلال، والتنباك، وكلها مفردات خاصة بالبيئة في السودان.
    ومن ثم نجد أن السمة البارزة لشعراء سنوات الستين هي محاولة تأصيل لشعر سوداني، يتحدث عن مواضيع سودانية، توظف فيها المفردات السودانية، وهذا يبدو في النموذج السابق الذي يبدو فيه هذا الفهم العميق لخصوصية السودان وثقافته، والرغبة في إبرازهما.
    هذه المقاطع من قصيدة صلاح أحمد إبراهيم (Fuzzy Wuzzy) رغم أنها تنتمي إلى مدرسة الواقعية الاشتراكية، إلا أن لها سمة عن محاولة لتمجيد كل ما هو سوداني، فالإنسان ربما يحتقره الآخر، ولا شك أن وصف (Fuzzy Wuzzy)** من قبل الرجل الأبيض، قصد بها التقليل من قيمة هذا الإنسان السوداني "أوشيك" ولكن بهيئته، وزيه، وشارته، وعشقه للتنباك، وصحته ومرضه، وحبه للبن، ومقته للشفته، كل هذه المعاني التي فيه هو وحده، قائمة بذاتها لن تجدها في أي وطن آخر، هذا التعدد الذي فيه، جعل الشاعر يقتنص للحظة بشاعريته هذا التوحد، والتفرد، صحيح أن الكلمات التي استخدمها الشاعر لا تجدها إلا في السودان، ولا تجدها مجتمعة إلا عند "أوشيك" فهي صورة معبرة عنها بدقة، وهو إضاءة عظيمة الفائدة للتعريف بالإنسان السوداني "أوشيك"، رغم أنه ينتمي إلى ثقافة قد يدعى أنها هامشية، إلا أنه يشارك الثقافة السودانية بهذه المفردات الفريدة التي عنده والتي لا تكتمل صورة الثقافة السودانية إذا أبعد منها أوشيك، وهو حاضر غائب، حاضر برموزه غائب في ذلك الكل المعقد، الذي نسجت منه تلافيف الثقافة السودانية.

    6 ـ استخدام الماورائيات مثل العرافة:
    نجد أن ظاهرة العرافة، والمنجم، والكجور، أو الساحر، هي في غالبها ظواهر إنسانية بعامة، ولكنها اتخذت بعداً آخر في الثقافة الإفريقية الوثنية، وبالتالي نقلت إلى الثقافة السودانية حيث تجد رواجاً في كل السودان، حتى بين المسلمين ـ على الرغم من تناقضها مع الإسلام ـ إلى أن نقلها الشعراء السودانيون إلى شعرهم بقصد كشف المستقبل، وكذلك كشف هذا الجانب الغيبي في السودان.
    والنموذج التالي من قصيدة (سيرة ذاتية) للنور عثمان أبكر نقدم منها هذا المقطع لنبين توظيف الماورائيات عند شعراء الغابة والصحراء:
    وشيخ هدّه التجواب، تحكي عينيه الأسفار
    تأملني وناداني
    تفرس راحتي حينا وباركني
    وعوّذ لي من الريح الخبيث ومن عيون الناس
    وقال جبيني الخلاق أفلاك، فراشات، شذى أعراس
    وقلبي وافر الإحساس
    تأملني يباركني ويهديني دروب الشمس
    وهذا الشيخ الذي تبدو عليه الخبرة، التي اكتسبها من الأسفار المختلفة ..
    هذه المعرفة متجلية في عينيه، يقول الشاعر بلغة المتكلم نظر إليّ بإمعان ثم ناداني، عندما ذهبت إليه أخذ كف يدي، وتفرس فيها لبرهة من الزمن ثم باركه وتعوذ له من الريح الخبيث من الحسد، وأعين الناس والسحر، ثم أخبره أن في جبينه، والجبين هو مقدمة الوجه (الجبهة) وكثير من الناس يعتقدون أن كل ما كتب لك في هذه الدنيا مسجل في الجبين، فقالوا في المثل الدارجي "المكتوب في الجبين لا بد تشوفه العين"، ثم قال له العراف إن جبينه العظيم الخلاق فيه كثير من الأفراح والشذا يعني هنا أن سجل حياته مليء بالأفراح، ومستقبله مضمخ بالشذا وأن له قلباً مليء بالإحساس، ثم نظر مرة أخرى وباركه وأعطاه هدية دروب الشمس، التي قد تعني طرقاً مضيئة ومليئة بالنجاحات، وأنه قد تفاءل خيراً لهذا الاستشراف الحسن.
    ومن قصيدة محمد المكي إبراهيم (قصيدتا حب ومهرجان) نقتطع هذا الجزء:
    أعطى الحبيب كفه عرافه الحمى
    أعطى حرير غيمه ومهد شاعر
    وحقل أنجم وقال:
    "عرافة الحمى شقي الغيوب
    سدد لها، واقتحمي على المجهول صمته وعزلته"
    ... تأملت وهدهدت في حضنها كف الحبيب لحظتين:
    لحظة الدهش ولحظة المواجهة
    وانطلقت بعدهما تقص رؤياها على الحبيب
    في هذا المقطع يصور الشاعر ببراعة صورة لعرافة الحي وهو يقول:
    أعطى الحبيب كفه إلى عرافة الحي وهي ناعمة مثل الحرير، وبها مولد شاعر وحقول وأنجم، ويعني أن حياته حافلة بكل ما هو جميل وها هو يستحث العرافة لتدلف إلى الغيوب، وتهتك سرها، وتخبره عن المستقبل الذي هو في حكم المجهول،
    وتناولت العرافة يد الحبيب ونظرت إليها، ومن الوهلة الأولى بدأت الدهشة ثم بعد ذلك أتت لحظة مواجهة هذا المجهول ومعرفته ثم بدأت تقص على الحبيب بعد أن تجاوزت دهشتها.
    ومن هاتين التجربتين نرى على الرغم من أن ظاهرة الإيمان بالعرافات هي ظاهرة إنسانية عالمية، إلا أنها اتخذت في البلاد العربية بعامة والسودان بخاصة بعداً آخرا على الرغم من موقف الدين الإسلامي المناهض لها، وعلى ما يبدو أنها عادة كانت تمارس في الجاهلية وهي تختلف من وسيلة إلى أخرى، فهناك التطلع إلى النجوم، والضرب على الرمل، وقراءة الفنجان، وقراءة الكف، والودع (أصداف بحرية)، وفتح الكتاب الخ .. الخ .. ولكن في السودان الضرب المتفشي هو ـ رمي الودع ـ.
    ونجد أن الشاعرين استخدما قراءة الكف، وهي غير معروفة بكثرة في السودان ولكنها معروفة عند العرب بصورة أكبر.
    نخلص إلى أن استخدام شعراء الغابة والصحراء لهذه الماورائيات، إنما هو جزء من العقل الجمعي الإنساني، ونجد أن عبده بدوي في كتابه (الشعر الحديث في السودان) أفرد جزءاً من هذا الكتاب ليتحدث عن أن الكجور والعرافة هي سمة بارزة من سمات هذه الجماعة، وأرجعها إلى الثقافة الإفريقية الزنجية، على الرغم من أنها ظاهرة إنسانية، ومكثفة في العقل الجمعي الإنساني باختلاف الألوان والثقافات.

    7 ـ مضمون الموت والبعث من منطلق إفريقي:
    إن الموت في الديانات الإفريقية لا يعني نهاية للإنسان بالضرورة، بل هو انتقال إلى درجة أخرى حيث يحل الميت في أبنائه وأحفاده حيث يبعث فيهم (لا نعني هنا التقمص بالطريقة الهندية).
    وفي هذا يقول الشاعر محمد عبد الحي في هذا المقطع من قصيدته (العودة
    إلى سنار):
    الليلة يستقبلني أهلي
    أرواح جدودي تخرج من
    فضة أحلام النهر، ومن ليل الأسماء
    تتقمص أجساد الأطفال
    تنفخ في رئة المداح
    وتضرب بالساعد
    عبر ذراع الطبال
    وهنا يخبرنا محمد عبد الحي عن أرواح الجدود التي تخرج من فضة أحلام النهر، وقد يعني بذلك الخروج من الأمسيات، حيث يكون لون النهر في لون الفضة، خاصة في الليالي المقمرة، فتتحول هذه الأرواح إلى طاقة روحية هذه الطاقة الروحية، تدخل وتتلبس الأطفال ليكونوا امتداداً لهذا السلف، ثم تتحول هذه الطاقة في عدة صور أخرى، قد تدخل من رئة المداح والمداح هو المغني الذي يمدح الرسول صلى اللَّه عليه وسلم وهنا يرمز إلى الثقافة الإسلامية العربية، وكذلك تتحول إلى طاقة تتملك ضارب الطبل وكأني به يعني الثقافة الإفريقية التي كثيراً ما يرمز لها بالطبل إذ أن الطبول آلات موسيقية إفريقية برع الأفارقة في الضرب عليها.
    ومن ثم إن الموت عند محمد عبد الحي لا يعني الانقطاع التام من هذا العالم، ولكن هو بقاء في مستوى آخر ولا يزال يؤثر على الأحياء. فروح الأجداد ما زالت بيننا "تنفخ في رئة المداح حيناً وفي حين آخر تضرب بالساعد على ذراع الطبال"*. وهي لا تنفك تتقمص أرواح الأطفال، وهذه الأرواح أو الطاقة التي ينفثها الجدود في العالم الماثل هي متأثرة بالهجين المكون لها ولذلك فهي تارة تتحول
    إلى طاقة تضرب بالساعد عبر ذراع الطبال وتارة أخرى تنفخ في رئة المداح*، وفي ذلك تبدو الثنائية الإفريقية العربية.
    وفي نموذج آخر للشاعر النور عثمان أبكر يعبر فيه عن مضمون الموت والبعث بلغة حفية جميلة وساحرة إذ يقول:
    زهراً
    شهداً ـ
    حقلاً لقحه الموتى
    في موسم إيراق الذات وإخصاب الأحياء
    وفي قصيدة أخرى يقول:
    بدايتي نهايتي بداية لآخر
    وهنا يقول الشاعر:
    زهر وعسل حقول الموتى في موسم التناسل، وبعث الذات حيث يخصب الأحياء ليتناسلوا تكون نهاية آخر، هي بداية لمولود جديد، وبهذا يؤكد على مفهوم البعث على الطريقة الإفريقية، فإننا في تصوره لا ننقطع عن هذا العالم الماثل، وإننا بدورنا عندما أتينا كنا امتداداً لجدود قدامى وكذلك أحفادنا يكونون امتداداً لنا، وبذلك تستمد سيرورة الحياة ولا تنقطع، وهو يرى أننا كهجين ستكون آثار ذلك التكوين المختلط باقية مهما طالت الأزمان، واتسعت شقة الزمن بيننا وبين جدودنا، ولذلك لن يأتي ذلك اليوم الذي نتخلص فيه من أي مكون من مكوناتنا العربية الزنجية.
    ونجد فكرة الموت والبعث عند هؤلاء الشعراء دائماً تكون بتأكيد المفهوم الإفريقي وكأنهم لا يريدون لنا أن نفهم أننا يمكننا أن ننفك من أسر العناصر
    المكونة لنا وهي، العربية والإفريقية.

    8 ـ استخدام رمزية الغابة والصحراء:
    لقد حفلت كثير من القصائد التي كتبها هؤلاء الشعراء باستخدام رمزي الغابة والصحراء مباشرة أو غير مباشرة، فالغابة عندهم ترمز للثقافة الزنجية الإفريقية، والصحراء ترمز للثقافة العربية الإسلامية. يكونان معاً الثقافة السودانية الهجينة. فأول من استخدم هذا المصطلح للتعبير عن الثقافة الهجينة هو الشاعر السنغالي "ليوبولد سنغور" ، وفي السودان أول من استخدم هذا الرمز هو النور عثمان أبكر، عندما كان في ألمانيا سنة 1962، في قصيدته الشهيرة (صحو الكلمات المنسية)، والغابة والصحراء تعني قضايا مختلفة، لشعراء مختلفين. وهو عنوان جامع للتعبير عن تجارب شعرية، قصد بها البحث عن هوية الثقافة في السودان. فتارة يبدو الصوت الإفريقي عالياً، لتمجيد الرموز البدائية، ولتهميش العنصر العربي، وخير مثال لذلك الشاعر النور عثمان أبكر، وتارة أخرى يبدو فيها العنصر العربي حياً، وفعالاً في إعطاء هذه الثقافة السودانية سمتها، ومكونها الأساسي وهو الثقافة العربية الإسلامية، وخير من يمثلها محمد المكي إبراهيم.
    أما الحالات التوفيقية لإحداث توازن، بين العناصر العربية والإفريقية، نجدها ممثلة في تجربة محمد عبد الحي ومصطفى سند.
    وهنا نموذج للنور عثمان أبكر يقول فيه:
    مولود الغابة والصحراء
    من هذا الطافر كالجبل الأسمر
    كمنارة ساحلنا الأزرق
    رجل أوقظ؟ غاب؟ فترة الأعمار الأولى؟
    ذهب ألق الجبهة، قضب الزيتون، عوامير اللهب الممتد الأعراف
    إلى قسم الآفاق العالية
    هذا صحو الكلمات المنسية
    يقدم الشاعر في هذا النموذج جملة خطابه في الهوية" فهو يتحدث عن مولود الغابة والصحراء الذي يشابه الجبل الأسمر في بروزه، ثم يتساءل الشاعر عنا أهو مستيقظ، وهل هو غابة، أم دلالة ومرآة للبدايات الأولى، لامع وقيم كالذهب وأخضر مثل غصن الزيتون، وكذلك حامي الطبع مثل العواميد الملتهبة مولود الغابة والصحراء، الذي تمتد أصوله وأعراقه إلى قمم عالية تتسد الآفاق، وبتمجيدنا لهذا الميراث يكون فيه صحو الكلمات المنسية، التي يرمز بها النور للغة القبيلة التي نسيناها، ولكن ما زالت في دواخلنا كرموز تمثل أصولنا.
    وهذا النموذج لمحمد المكي إبراهيم يوضح رؤيته لمسألة الهوية هذه قائلاً:
    الرؤيا تزحم عيني الريا
    أتلمس في الأدغال وفي الصحراء البهو معالمها
    أتلمس لا ألقى إلا حبات مسابحكم
    حبات مسابحكم
    حبات مسابحكم
    سبحان الحكم الطيب فوق مداخل إفريقيا
    أمتلئ بالنظر والرؤيا، وعندما أنظر بإمعان لأبحث عن الأدغال والصحراء في معالم هذه الثقافة، ولكنني لا أجد عندما أتلمسها إلا حبات مسابحكم، وثم يكرر هذا المعنى الذي يرمز إلى الثقافة العربية، ولعله يشير إلى الوجود العربي
    الفارض في إفريقيا.
    والرمز في النموذج الأول للنور عثمان أبكر، رمز واضح ومباشر. يتحدث فيه الشاعر عن الغابة التي يرمز بها إلى الثقافة الإفريقية، والصحراء التي بدورها ترمز للثقافة العربية. وناتج لقاح الغابة والصحراء هو إنسان مميز، جمع بين ثقافتين عريقتين بكل ما فيهما من ألق، ولمعان، وجيشان، وحضور، وغياب، وذاكرة، والكلمات المنسية هي اللغة الأولى الأصلية القابعة في ذاكرتنا البعيدة، التي يسعى الشاعر لاستردادها عبر صحو شعري فريد، وباستعادة هذه اللغة ترجع له كينونته المفقودة وهكذا تكتمل الدائرة.
    وفي النموذج الثاني، لمحمد المكي إبراهيم لم يذكر عبارة غابة وصحراء مباشرة، ولكنه ذكر الأدغال، وهي الغابات التي تدل على الثقافة الإفريقية، والصحراء هنا ترمز إلى الثقافة العربية، ولعل الثقافة العربية، قد تغلبت على الثقافة الإفريقية، فرمز لها بالمسابح (وهي عقد من الخرز يسمى مسبحة يستخدم في التسبيح لله يستخدمها بعض المسلمين عندما يسبحون للَّه سبحانه وتعالى) وهي من صميم الثقافة الإسلامية.
    من الواضح أن إثارة الرمز، عند النور عثمان أبكر، وتكييفه قصد منه البحث عن البدايات الأولى، ومحاولة استعادة حضورنا الفاعل للتعبير عن ذاتيتنا. وهي دعوة لاسترداد البدائية، التي فقدت بسبب التمازج الزنجي العربي ، بينما نجد محمد المكي إبراهيم لا يعنيه الأمر كثيراً، بقدر ما هو يسعى لوصف ديناميات التزاوج وتغليب الثقافة العربية.
    في هذا الفصل تحدثنا عن الغابة والصحراء، من ناحية تنظيرية حيث تتبعنا قيام الفكرة منذ البداية إلى أن تحولت إلى دعاوى الهوية والبحث عن الذات ومعرفتها.
    حيث تكون في عقد سنوات الستين ما أطلق عليه النقاد مثل عبد الهادي صديق وسلمى خضراء الجيوشي وعبده بدوي تيار الغابة والصحراء ليرمز للمكون الإفريقي العربي داخل الإنسان السوداني، حيث تبلورت هذه الفكرة، وأتت بإنتاج أدبي تركزت عليه مفاهيم اجتمع حولها هؤلاء الشعراء مما أدرجهم تحت راية الغابة والصحراء، التي كثيراً ما أطلق عليها مدرسة وتارة أخرى تياراً، فمهما تكن التسمية فإن هؤلاء الشعراء الأماجد كتبوا الشعر الحديث وأن اختلف تناولهم له من ناحية الشكل، فبعضهم كتب بأسلوب بسيط ومباشر بعيداً عن الزخرف اللغوي والغموض، مثل صلاح أحمد إبراهيم ومحمد المكي إبراهيم وفي رأيي أنهما كتبا شعرهما هذا بعيداً عن التعقيد اللغوي والغموض الذي هو السمة البارزة للشعر العربي الحديث في سنوات الستين، لا لضعف في شاعريتهم أو قصر قامة بين الشعراء بل لانتمائهما الفكري لحركة اليسار وكتبابتهما تحت المدرسة الواقعية الاشتراكية التي ترى أن للأدب رسالة محددة، ولذلك حتى تفهم وتصل بصورة واضحة وتؤدي الرسالة كاملة يجب أن تكون واضحة ومباشرة، ولذلك نجد أن شعر محمد المكي إبراهيم وصلاح أحمد إبراهيم اتسم بالتقريرية التي قد يرى فيها النقاد سمة الخطابية والهتافية.
    وفي المقابل نجد شعراء مثل مصطفى سند والنور عثمان أبكر ومحمد عبد الحي اتسم شعرهم بالغموض والعوالم الغيبية (الفنتازيا)، وأتت لغتهم رنانة وقوية وغامضة، ونجد أن كلاً من هؤلاء الشعراء حاول أن يكوّن قاموسه الشعري الخاص الذي يميزه من بقية الشعراء، وكان التكثيف اللغوي الذي يعطي صوراً شعرية مليئة بالغموض، وكأنها عالم الأحلام الساحري، الذي لا يستقيم فيه منطق الوعي، ومن ثم نجد أن الغموض عندما يتحول إلى غاية أيضاً يخل برسالة الشاعر ويكون شعره غير مفهوم للكثيرين ما يصرف المتلقي منه وبذلك يكون شعره محدود الانتشار.
    والجدير بالذكر أن كل هؤلاء الشعراء ما عدا مصطفى سند درسوا في جامعة الخرطوم في أواخر سنوات الخمسين وسنوات الستين ويرى بعض النقاد مثل عبد الهادي الصديق وسلمى خضراء الجيوسي أنهم تأثروا بدراستهم للآداب الغربية، إذ أن غالبيتهم يعرفون أكثر من لغة أجنبية.
    ولقد قمت بتقديم نماذج تطبيقية لهؤلاء الشعراء لأدلل على المفاهيم المشتركة التي جمعتهم والتي ناقشوها في أعمالهم الشعرية، وكان التحليل على مستوى المضامين فقط، وهذا لأن البحث أصلاً يدرس مفاهيم ومضامين هذه الجماعة، ولكن هذا لا يعني تجاهل أن جوهر الشعر ككل يقسم إلى شكل ومضمون وأننا لا نستطيع فصلهما.

    (عدل بواسطة bayan on 09-29-2003, 03:09 AM)
    (عدل بواسطة bayan on 09-29-2003, 03:18 AM)

                  

09-28-2003, 05:28 PM

bayan
<abayan
تاريخ التسجيل: 06-13-2003
مجموع المشاركات: 15417

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الغابة والصحراء ....... مرة اخرى (Re: bayan)

    المراجع
    محمد أحمد محجوب، في أول عدد لمجلة الفجر الجديد.
    زين العابدين، أحمد الطيب، (مقال السودانوية التشكيلية)، حروف، ص 23.
    المرجع السابق، ص 24.
    المرجع السابق، ص 24.
    المرجع السابق، ص 27.
    علي إبراهيم، عبد الله، تحالف الهاربين، ص 160.
    المرجع السابق.
    صديق، عبد الهادي: أصول الشعر السوداني، دار جامعة الخرطوم للنشر، ط2، 1989م.
    المرجع السابق.
    * للاستزادة راجع كتاب: تأريخ وجغرافية السودان، لنعوم شقير، مطبعة دار المعارف، القاهرة، 1930.
    ** مملكة مروي من ممالك وادي النيل، وكانت قبل الميلاد وكان بها حضارة مجيدة، ما زالت آثارها باقية إلى الآن.
    *** راجع: النويهي محمد، الاتجاهات الشعرية في الأدب السوداني، مطبعة النهضة، القاهرة، 1957.
    علي إبراهيم، عبد الله، (تحالف الهاربين)، ص 162.
    أصول الشعر السوداني.
    ملف الآداب والفنون، صحيفة الأيام، مقابلة مع النور عثمان أبكر، يوم 24/3/1979.
    المرجع السابق.
    * وردت هذه الأخطاء النحوية في النص والصحيح هو: تبذيرٌ وخمرٌ واستهتار وحبٌّ.
    ** الجلابة تعني العرب.
    المرجع السابق،
    المرجع السابق.
    المرجع السابق.
    *** أبو لكيلك قائد من قواد المهدية.
    مقابلة النور عثمان أبكر.
    مقال لست عربياً ... ولكن؟.
    **** حديث الرسول صلى اللَّه عليه وسلم: « إنما العربية اللسان »، قال ابن عساكر في (تأريخ دمشق) 407ـ21 بسنده، قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: « يا أيها الناس إن الرب واحد والأب واحد وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، وإنما هي اللسان، فمن تكلم العربية فهو عربي ».
    المرجع السابق.
    المرجع السابق.
    المرجع السابق.
    مقابلة مع النور عثمان أبكر، ملف الآداب، الأيام.
    أحمد إبراهيم، صلاح، نحن عرب العرب، الصحافة، يوميات الصحافة، 25/10/1976.
    المرجع السابق.
    المرجع السابق.
    لست عربياً ... ولكن؟.
    بل نحن عرب العرب.
    المرجع السابق.
    المرجع السابق.
    المرجع السابق.
    المرجع السابق.
    المرجع السابق.
    المرجع السابق.
    * النويهي، عبده بدوي، عبد الهادي الصديق، إحسان عباس.
    * راجع: الجيوشي، سلمى خضراء، مجلة الثقافة السودانية.
    مقابلة النور عثمان أبكر.
    المرجع السابق.
    * هذا خطأ لغوي في النص، الصحيح: مقطعاً واحداً.
    المرجع السابق.
    المرجع السابق.
    المرجع السابق.
    المرجع السابق.
    عيدروس، مجذوب، جلسة حوار مع الشاعر محمد المكي إبراهيم، مجلة الثقافة الوطنية، العدد الثالث، السنة الأولى، نوفمبر 1988م.
    مجلة الثقافة الوطنية كانت في فترة الديمقراطية الثالثة، ووقفت بعد ثورة الإنقاذ.
    مقابلة مع محمد المكي إبراهيم.
    الجيوشي، سلمى خضراء،.
    * راجع: الجيوشي، سلمى خضراء، والنويهي، محمد، الصديق، عبد الهادي.
    راجع: كتاب أصول الشعر السوداني لعبد الهادي صديق.
    بدوي، عبده، الشعر في السودان، ص 310.
    مصطفى سند، حروف، ص 172.
    * راجع: مقال تحالف الهاربين.
    ** راجع: كتاب السودان والإفريقانية، الصديق، عبد الهادي، سلسلة دراسات استراتيجية، مركز الدراسات الاستراتيجية، الخرطوم، 1997م.
    إبراهيم، عبد اللَّه علي: تحالف الهاربين.
    * الجيوشي، سلمى خضراء، بدوي، عبده، الصديق عبد الهادي.
    راجع: غضبة الهبباي وغابة الأبنوس، لصلاح أحمد إبراهيم، أمتي لمحمد المكي إبراهيم، البحرا لقديم لمصطفى سند، العودة إلى سنار لمحمد عبد الحي.
    الجيوشي، سلمى خضراء: مقال (الشعر العربي في السودان ...)، ص 93.
    * راجع: الصديق عبد الهادي، السودان والأفريقانية، سلسلة الدراسات الاستراتيجية، 1997. وراجع: الخاتم، عبد القدوس، مقالات نقدية، إدارة النشر الثقافي، 1977. وراجع: سنغور، ليوبولد، الزنجية والعروبة، مجلة المجلة المصرية، عدد 123، مارس 1967.
    * الصديق، عبد الهادي، عيدروس مجذوب، بدوي، عبده.
    ** راجع صفحة 104.
    * صلاح أحمد إبراهيم: ولد بأم درمان ودرس بمدارس أم درمان، ثم نال دبلوم جامعة الخرطوم في الأداب سنة 1958، وعمل بالسلك الدبلوماسي، وكان نشطاً سياسياً وثقافياً وقد نفى نفسه إلى باريس بعد استيلاء الجبهة الإسلامية على الحكم 1989، وتوفي بباريس 1992 رحمه اللَّه.
    ** ملوال اسم لشخص من قبيلة الدينكا النيلية، ورمز لأبناء الجنوب.
    أحمد إبراهيم، صلاح، غضبة الهبباي، دار الثقافة، بيروت، د.ت، ص 43.
    المرجع السابق، ص 45.
    * راجع: دينق، فرانسيس، طائر الشؤم، ترجمة عبد اللَّه النعيم، شركة ميردابت ومكني أبكر، لندن، الطبعة الأولى، 1992.
    * للاستزادة في معرفة عادات قبيلة الدينكا، راجع كتابات فرانسيس دينق عن الدينكا، ديوان غابة الأبنوس، قصيدة أخي قابيل، ص 43.
    ** النور عثمان أبكر: درس في جامعة الخرطوم كلية الآداب، وعمل معلماً بالمدارس الثانوية ثم بعد ذلك خرج من السودان إلى الخليج وهو من أشهر شعراء السودان ويمتاز شعره بجودة الخيال ونصاعة اللغة.
    أبكر، النور عثمان، صحو الكلمات المنسية، دار التأليف والنشر، الطبعة الأولى، د.ت.، ص 6.
    * راجع: الصديق، عبد الهادي، السودان والإفريقانية.
    * مصطفى سند: والده كان شاعراً، ولد بأم درمان وعمل بمصلحة البريد، درس الآداب في جامعة القاهرة فرع الخرطوم، يمتاز شعره بالجمال وهو من الشعراء القلائل الذين كونوا قاموساً خاصاً بهم وهو غزير الإنتاج.
    بدوي، عبده، الشعر في السودان، ص 312.
    بدوي، عبده، الشعر في السودان، ص 203.
    شقير، نعوم، تأريخ وجغرافية السودان.
    أبكر، النور عثمان، صحو الكلمات المنسية، ص 76.
    * سنار مدينة في أواسط السودان، وكانت مملكة إسلامية عظيمة.
    ** جزيرة في البحر الأحمر قرب بورسودان.
    *** مدينة في شمال السودان، كانت مملكة عظيمة قديماً.
    عبد الحي، محمد، الأعمال الشعرية الكاملة، ص 54.
    المرجع السابق، ص 55.
    شقير نعوم، تأريخ وجغرافية السودان.
    شبيكة، مكي، السودان عبر القرون، دار الثقافة، بيروت، 1966.
    إبراهيم، محمد المكي، ص 161.
    أحمد إبراهيم، صلاح، ص 35.
    راجع: الطيب صالح: رواية موسم الهجرة إلى الشمال، دار العودة، بيروت.
    راجع: علي إبراهيم، عبد اللَّه، مقال تحالف الهاربين، مرجع سابق، ص .
    * الهركولة: التي تتمتع بجسم حسن.
    ** الهيدكر: التي تتبختر.
    المك علي: مختارات من الأدب السوداني، دار جامعة الخرطوم للنشر، د.ت.
    انظر: قصيدة محمد سعيد العباسي في مختارات من الأدب السوداني.
    * محمد المكي إبراهيم: من مواليد الأبيض بإقليم كردفان في غرب السودان تلقى تعليمه هناك، تخرج في كلية الحقوق بجامعة الخرطوم، قضى قرابة العامين قبل تخرجه في أوربا حيث كتب قصيدته الخرطوم الثانية، اشتغل بالمحاماة قرابة العام وتركها إلى الدبلوماسية، درس اللغة الفرنسية بباريس حيث كتب مجموعة قصائد زنزباريات وهي أكثر تشرباً بالإفريقية، يعد من طليعة شعراء السودان، ويمتاز شعره بنضارة الأسلوب ونقاء الخيال وجمال الصورة، وهو الآن في منفى اختياري بفرنسا لخلاف دب بينه وبين نظام الجبهة الإسلامية.
    علي المك، مختارات، ص 18.
    عبد الله الطيب، محمد سعيد العباسي،
    محمد المكي إبراهيم، ص 48.
    أحمد، إبراهيم صلاح، غابة الأبنوس، ص 42.
    اللون الأسمر هو لون بين الأسود والأبيض، وهو اللون المميز للسودانيين.
    مجذوب عيدروس، الثقافة الوطنية.
    أحمد إبراهيم، صلاح، غابة الأبنوس، ص 16.
    * دبايوا: تعني كلمة الترحيب عند الهدندوة.
    ** الشوتال: خنجر الهدندري.
    *** الودك: دهن حيواني يستخدمه الهدندوة.
    * راجع: شقير، نعوم، جغرافية وتأريخ السودان، ص 155.
    ** Fuzzy Wuzzy اصطلاح أطلقه "تبلنج" على قبيلة الهدندوة بشرقي السودان وسارت عليهم.
    عثمان أبكر، النور، صحو الكلمات المنسية، ص 48.
    إبراهيم، محمد المكي، أمتي، ص 136.
    عبد الحي، محمد، العودة إلى سنار، ص 9.
    * راجع: دينق فرانسس، طائر الشؤم، ترجمة عبد اللَّه النعيم، شركة ميرادتب ومكني أبكر، لندن، 1992م.
    * المداح هو المادح أو المنشد لشعر في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    أبكر، النور عثمان: صحو الكلمات المنسية، ص 7.
    المرجع السابق، ص 32.
    راجع: بدوي، عبده، الشعر الحديث في السودان.
    صديق، عبد الهادي، السودان والأفريقانية.
    مقابلة النور عثمان أبكر.
    مقابلة محمد المكي إبراهيم.
    ديوان أبكر، النور عثمان.
    ديوان المكي، محمد إبراهيم، ص 48.
    علي، إبراهيم عبد اللَّه.
                  

09-28-2003, 06:21 PM

bayan
<abayan
تاريخ التسجيل: 06-13-2003
مجموع المشاركات: 15417

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الغابة والصحراء ....... مرة اخرى (Re: bayan)

    (عدل بواسطة bayan on 09-29-2003, 03:19 AM)

                  

09-29-2003, 03:21 AM

bayan
<abayan
تاريخ التسجيل: 06-13-2003
مجموع المشاركات: 15417

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الغابة والصحراء ....... مرة اخرى (Re: bayan)

    *
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de