شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-04-2024, 03:36 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة د.نجاة محمود احمد الامين(د.نجاة محمود&bayan)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
03-04-2005, 08:25 AM

bayan
<abayan
تاريخ التسجيل: 06-13-2003
مجموع المشاركات: 15417

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى (Re: bayan)

    [منح الحب لمن يلونها من ذوى المودة والسكن. لقد اختار الطيب صالح ذلك النموذج الغريب للتعبير عن هذه الصلة الفائقة لمؤسسة الزوجية التي لا تشغل الانسان عن قيمته الوجودية.
    أما زواج مريوم من مريود، فهو ذلك الاتصال بالآخر الذي لا ينفيه ولا يثبته و لا يتصل به و لا ينفصل عنه، هو ذلك التحقق الاسطورى لمعنى التوحد بالمتجذر دون فقدان الرغبة في المطلق، لأن المتجذر ليس الا معنى من معانى المطلق، لذلك تصير الصلة به وهم لا يتحقق في عالم الكون و الفساد، فهو قيمة تعبر عن معنى الزواج المطلق.
    من خلال هذه النماذج الثلاث حاول الطيب صالح التعبير عن مفاهيم الحب والجنس في الاجتماع البشرى المعاصرفى ضوء الحضارة العربية الإسلامية. فمؤسسة الزواج عنده أو " باب النكاح " عند الفقهاء تكتنفه أكثر الصيغ القانونية تفصيلا، لكن في ذات الوقت تنبه الآيات القرآنية و الأحاديث النبوية وسير الصالحين على أهمية المعروف والاحسان لضمان نجاح المؤسسة في تحقيق أغراضها، و الناظر في " باب النكاح " عند الفقهاء يراع كثيرا حينما يجد أن من معانى عقد النكاح أنه نوع من الرق، حتى أن كتب التصوف لم تخلُ من هذا المعنى: (و القول الشافى فيه ان النكاح نوع رق. فهى رقيقة له. فعليها طاعة الزوج مطلقا في كل ما طلب منها في نفسها، مما لا معصية فيه.) (احياء علوم الدين: ج4ـ6، 164). فدخولها طائعة مختارة لعلاقة السيد / العبد يقلب ميزان تلك العلاقة و يحررها من كل سلبياتها لتصير علاقة فيها من المعروف و الاحسان ما لا تستطيع أى علاقة أخرى في صلة الأنا بالآخر التعبير عنه.
    تمتاز الحضارة العربية الإسلامية بالواقعية في معالجتها لقضية الجنس، فالفقهاء و المتصوفة و المؤرخون لم يدخروا وسعا في التعبير عن هذا النشاط الانسانى دون ربطه بالخطيئة الأولى كما في اللاهوت المسيحى، او الاسفاف و الذهاب إلى تشويه سير الأنبياء و الصالحين كما في الكتب المقدسة عند اليهود. هذه الواقعية و الوضوح تجدها في كتب السيرة و السنة و الفقه و الأخلاق و التصوف. ولعل أطرف ما يمكن الاستدلال به ما ذكره الغزالى: " وقال فياض بن نجيح: اذا قام ذكر الرجل ذهب ثلثا عقله، و بعضهم يقول ذهب ثلث دينه. وفى نوادر التفسير عن ابن عباس رضى الله عنهما: (ومن شر غاسق اذا وقب) قال: قيام الذكر. و هذه بلية غالبة، و اذا هاجت لا يقاومها عقل ولا دين. " (الاحياء: ج4ـ6، 109)، وقد ذكر الامام الغزالى هذا في مجال الترغيب في الزواج و الحض عليه.
    لقد استخدم الطيب صالح كل هذا التراث للتعبير عن مفاهيم الحب و الجنس و تشكلاتها في ظل الحضارة العربية الإسلامية المعاصرة. بالرغم من أن الطيب صالح قد أكد على استخدامه الجنس في رواياته بالمعنى الفرويدى الذي عبر عنه فانون في فهمة لظاهرة الاستعمار الا انا نجد ذلك الحضور للتراث العربى الإسلامى في رواياته، و ربما ذهب إلى تلك الدعوى العريضة لينفى عن نفسه تهمة استخدام الجنس بغرض الاثارة الرخيصة، لكن على أية حال يظل السؤال الأساسى هو هل من الممكن التعبير عن الجنس باعتباره واحدا من أوجه النشاط الانسانى في الأدب؟ كما عبر عنه الفقهاء والمؤرخون و أصحاب السير و السنن دون مواربة أم أن هناك موانع وضوابط حضارية ؟ و إلى أى مدى يمكن اعتبار تلك الموانع بأنها من باب لزوم ما لا يلزم؟ و هل يصلح الفقه لفهم الأدب أم اننا نحتاج إلى فقه جديد لفهم مآلات التدين في الأدب؟ و كيف يمكن الوعى بتلك المقتضيات لانتاج أدب يرتفع لمستوى الوعى الحضارى، و يعبر عن أشواق الانسان وتشوفاته؟ هل من الممكن ان نستدعى عوالم "ألف ليلة و ليلة" في التعبير عن موقع الجنس في الأدب، و نتجاوزها إلى آفاق أرحب و أنضج دون أن نتهم بالوقوع في حمأة الاستعباد للرغبات الرخيصة أو التبشير بقيم اخراج الناس من عبودية الله إلى عبودية شهواتهم؟
    كل هذه الاسئلة تعيننا على فهم معانى الحب و الجنس كما طرحها الطيب صالح في رواياته: هى أسئلة لا يسعنا أن نصدر فتوى بشأنها، لكن يسعنا أن نفهم الأسباب التي جعلتنا نطرحها بهذه الكيفية، حتى تعيننا على فهم التشكل الذي آلت اليه الحضارة العربية الإسلامية المعاصرة، و حينما ينقدح الوعى بتلك الآفاق في أنفسنا نكون أقدر على اصدار الفتاوى بشأنها، لكن لما يقع ذلك الأمر سنحتاج لأن نتعلم الكثير لفهم تشكلات الوعى الدينى المعاصر كما ينعكس في الأدب الذي يتيح لنا خبرة و دراية بقضايا تشكلات الشخصية المعاصرة والاجتماع البشرى الذي تتحرك فيه، حتى نمتلك فصل الخطاب.
    اذا هذه النماذج الثلاثة التي استخدمها الطيب صالح للتعبير عن مفاهيم الحب و الجنس في إطار مؤسسة الزوجية هى نماذج تسع كل امكانات التشكل المعاصر و تثير كثيرا من القضايا الحيوية حول معانى المعروف والاحسان على المستوى الأخلاقى و قضايا المودة و الرحمة و السكن، على المستوى النفسى. كيف يمكن أن تتحقق مقتضيات حفظ النوع الانسانى في ظل هذه النماذج الثلاثة؟ و هل يصح القول بأن مؤسسة الزوجية قصد بها حفظ النوع و أن المآلات الحقيقة لمعانى الحب و الجنس هى تحقيق ذلك المقصد؟ ام أننا نواجه بمسائل تقتضى وسائل و مناهج جديدة لفهم هذه المعانى في ظل هذه التشكلات الجديدة؟ بالطبع فهذه ليست دعوة لمراجعة كل شئ، وانما دعوة لفهم أصول هذه القضايا لفهم واحدة من أهم المؤسسات الاجتماعية التي أخرجتها الحضارة العربية الإسلامية، و قام الفقهاء بتعميق هذا الوعى عن طريق الأدب الثر و التراث الفقهى الذي يعكس تجارب اجتماعية عميقة في تدبر آيات النفس و الآفاق و الاجتماع البشرى. لكننا ازاء واقع مختلف أفصح عن بعض قضاياه من خلال تلك النماذج الثلاثة، فلذلك نحن أحوج ما نكون إلى تدبر لآيات النفس و الآفاق و الاجتماع البشرى، لفهم ومعالجة قضايا ذلك الأمر.
    الوصف الذي طرحه الطيب صالح لمؤسسة الزواج في الحضارة العربية الإسلامية من خلال هذه النماذج الثلاثة معبرا عن وعى معين بمفاهيم المعروف والاحسان و المودة والرحمة و السكن و قضايا الحب و الجنس ـ من خلال تلك المؤسسة الاجتماعية الهامة في الحضارة العربية الإسلامية ـ يثير كثيرا من المخاوف بل ينذر بأخطار تهدد تلك المؤسسة، حيث ان الخيال الاجتماعى الدينى قد حدثت فيه تغيرات خطيرة على مستوى فهم قضايا مؤسسة الزواج، وربما جعلنا ذلك نقول بأن كثيرا من قضايا مؤسسة الزواج التي تبنتها الحركة الإسلامية المعاصرة وليدة التحرشات الفكرية التي أصدرتها مؤسسة الاستشراق، و صارت مسألة المرأة في الإسلام هى في الغالب الأعم ردا على تلك التحرشات أو محاولة للخروج من مأزق التقاليد الدينية التي جعلت مؤسسة الأسرة أكثر المؤسسات قمعا و أضعفها في تحقيق معانى الحب و الجنس والمعروف والمودة و الرحمة و السكن، وهذا الأمر انعكس سلبا على الحركات الإسلامية و على وضع المرأة و إسهامها.
    لا شك في أن التحليل الذي قدمناه فيه كثير من التعميم، لكنه ليس تعميما
    مخلا، وواحدة من نقاط القوة فيه أنه يتخذ صور التشكل الاجتماعى المعاصر للحضارة العربية الإسلامية ـ كما انعكست في الأدب ـ مادة للتحليل و يشير إلى أهمية هذا المصدر في فهم القضايا المثارة بصورة أكثر واقعية والدعوة إلى عدم الانعزال في التراث او الركون إلى الرد على التحرشات الفكرية الغريبة، و انما التعويل على فهم منطق التطور الداخلى لمؤسسة الأسرة أو لقضايا الحب و الجنس في الحضارة العربية الإسلامية.

    2. عرس الزين/ عرس عشا البايتات
    لقد ربط الطيب صالح بين عرسيّ الزين وعشا البايتات برباط وثيق في بناء روايتي عرس الزين وبندر شاه (ضو البيت). صحيح أنه أشار إلى عرس عشا البايتات في رواية عرس الزين لتسويغ أمر وقوع عرس الزين "... لكن عبد الصمد ضاق ذرعاً بطلاوة لسان شيخ علي، فقاطعه بشيء من الحدة قائلاً: (أنت رايح بعيد ليه كثير عزة وقبيلة الابراهيمات؟ عند سعيد البوم.. ماك طاري حكاية عرسه). (عرس الزين: 94) لكن يبدوا لأول وهلة أنه لا يمكن إعتبار عرس سعيد الذي أشير إليه في رواية عرس الزين هو ذات العرس الذي أشار إليه الطيب صالح في رواية ضو البيت لجملة أسباب أهمها أنه في رواية عرس الزين أشير إلى أن عرس سعيد البوم قد وقع قبل عرس الزين وثانيهما أن الناظر في رواية عرس الزين قد شهد عرس سعيد وكان ذلك مفخرة يفاخر بها سعيد. بل أن عرس سعيد في رواية عرس الزين كان أمراً طيباً يخفف على الناظر صدمة وقع عرس الزين عليه إذ أنه قد خطب نعمة بنت حاج إبراهيم ولكنه رُدّ بصورة أحس فيها الناظر بإهانة بالغة "دخل الناظر في الموضوع وبسرعة طلب يد نعمة من أبيها. لم يفهم حاج إبراهيم شيئاً أول الأمر، أو لعله تغابى...” (عرس الزين: 92) ثم يمضي الحوار بين الناظر ووالد نعمة إلى نهايات جرّدت الناظر من كبريائه الزائف، صحيح أن والد نعمة لم يهن الناظر بكلامه لكن الناظر قد فهم لأول مرة موقعه الحقيقي في نظام القرية الاجتماعي وهو أنه ليس في استطاعته أن ينال كل شيء بسبب تربعه على قمة النظام الاجتماعي في القرية. والذي حزّ في نفسه أكثر هو كونها ستزف للزين “لكن الناظر في قرارة نفسه، على الرغم من اقتناعه بخطئه، لم يستطع أن يتخلص من الطعم المر في حلقه. ولما سمع بأنها ستزف للزين دون سائر الناس أحس الخنجر ينغرس أكثر في قلبه.” (عرس الزين: 92).
    أما في رواية ضو البيت فنجد أن عرس الزين كان سابقاً لعرس سعيد عشا البايتات "على الحرام أخوك عرس عرساً خلى الناس تنسى عرس الزين" (ضو البيت: 26) ثم يستطرد عشا البايتات في مكان آخر مقارنا بين عرسه وعرس الزين “عرس الزين بقى جنبه زي الطهورة” (ضو البيت: 32) والأمر الآخر هو أن سعيد عشا البايتات قد تزوج بنت الناظر بصورة فيها كثير من الإذلال الإجتماعي للناظر. “عرس الزين كان أعجوبة. أما أن سعيد البوم يصبح صهراً للناظر بجلالة قدره، فهذه هي المعجزة" (ضو البيت: 26) فقد كان رد الناظر على سعيد حينما طلب يد إبنته أن قال "... أنت سعيد الوسخان العفنان تتزوج بنتي أنا؟” (ضو البيت: 30) لكن سعيد البوم لم يكن غشيماً لا يعرف مآلات كلامه فقد أعد العدة لهذه اللحظة كان الناظر يستغله طوال تلك السنوات دون أن يدري ما أعد سعيد له لم يكن يعرف بأنه سيكون البوابة التي من خلالها سيحقق سعيد مجده الاجتماعي ليصير بدلاً من سعيد البوم سعيد عشا البايتات، بل أنه بعد ذلك قد صيّر الناظر طوع بنانه يحركه حيث يشاء كما قال عشا البياتات "الناظر بقي في أيدي زي العجين. أقول له يمين يقول يمين أقول شمال يقول شمال.. (ضو البيت: 32) بل أن سعيد عشا البايتات قد تجاوز أمر كونه صهراً للناظر إلى أفق اجتماعي أرحب من ذلك "فقال باختصار: "ناظر شنو؟ أنا فاضي في الناظر ولا حتى في العمدة أنا عندي القروش ـ على الحرام في اليوم العلينا إن درت بنت العمدة آخدها" (ضو البيت: 33) لقد صار المال هو الذي يحدد مساحة الوجود الاجتماعي في القرية في نظر سعيد عشا البايتات لعلّ الفرق بين سعيد والزين هو أن عرس الزين جاء تحقيقاً لنبؤة الحنين وقبله الناس ضمن قبولهم لكل ما حدث في عام البركة من أحداث تحيّر العقول أما عرس سعيد عشا البايتات من بنت الناظر فقد جاء تتويجا لمكر بالغ الإحكام من قبل سعيد تجاه الناظر فهو يمثل مكر الضعفاء قبالة غفلة الأقوياء. وكيف أن لعبة القوة والضعف متغيّرة و لا تستقر على حال. صحيح أن الزين وعشا البياتات قد احتلا مكانهما الاجتماعي الجديد بعد حدث العرس لكن الزين قد تحدد موضعه الجديد ضمن نسق الأشياء والأحياء في ود حامد بينما عشا البياتات شارك في إحداث زلزال في ود حامد أفضى إلى خلق نظام جديد.
    كان سعيد في رواية عرس الزين يحلم ببنت الناظر ولم يكن نسق الرواية يسع ذلك الحلم بسبب طغيان مغزى التصالح على الصراع والتغير ولما كانت رواية ضو البيت قد وسعت ذلك المعنى فقد بدا سعيد البوم فيها سعيد عشا البايتات فقد اشترى اللقب الجديد بماله كما اشترى أن يكون صهرا للناظر بماله ومكره ورغم تنكره لمجموعة محجوب وانحيازه إلى صف أولاد بكرى إلا أن مجموعة محجوب لم تر في ذلك من بأس ربما بسبب هامشية مكر عشا البايتات. وربما ـ كذلك ـ بسبب هامشيته في معسكر محجوب فهذه الهامشية المزدوجة هي التي جعلت محجوب يستنكف على الرد على دعاوى أولاد بكرى في ذلك الاجتماع المشهود تحت شجرة السيال حينما وقف عشا البايتات منتقدا محجوب وجماعته.
    لأمر ما أراد الطيب صالح الربط بين عرس الزين وعرس عشا البايتات في روايتي عرس الزين وضو البيت ولشأن آخر جعل عرس سعيد سابقا لعرس الزين في رواية عرس الزين وعرس الزين سابقا لعرس سعيد في رواية ضو البيت. وفي كليهما يكون العرس السابق مسوغا للعرس اللاحق ويكون العرس اللاحق أروع وأجل من سابقه. يبدو أن عرس سعيد في رواية عرس الزين لم يكن ذات العرس الذي تحدثت عنه رواية ضو البيت بسبب اختلاف المرأة واختلاف موقع الناظر من ذلك العرس. وأهم من ذلك كله هو بقاء سعيد على لقب سعيد البوم وظل يحلم ببنت الناظر حلما بعيد المنال.
    لعل الطيب صالح رأى في عرس الزين مثالية عبرت عن قيم مجتمع في طريقه إلى الزوال، زواج الزين من نعمة لم يكن أمرا غريبا فهي إبنة عمه، والشيخ الحنين مهد لذلك الأمر بقوله"باكر تعرس أحسن بت في البلد دي" (عرس الزين: 67) ونبوءات الشيخ الحنين لاتكذب. ونعمة نفسها كانت مؤهلة لذلك الأمر الغريب وتسعى لأن تنال شرف تضحية عظيمة، رغم أنها كانت رائعة الجمال وجليلة النسب وتمناها خيرة الشباب وبادروا لطلب يدها وراودت أحلام الشيب إلا أنها اختارت الزين. لم يكن في الزين شيئا يمكنه أن تتمناه أنثى في سنها ولم يصرح النص بأيِّ جاذبية جنسية بينهما بل على العكس من ذلك فهي قد أحبت فيه أمراً يتعلق بتحقيق معنى التضحية فهو ـ فقط ـ محل لتلك التضحية العظيمة التي كانت تتشوف إليها. لكن عرس سعيد عشا البايتات في رواية ضو البيت كان أكثر واقعية في التعبير عن قيم المجتمع الجديد المال والمكر يمثلان الأساس في قوانين النظام الجديد، فحينما اتصل سعيد بالقوى الماورائية بعد آذان الفجر في ذلك اليوم المشهود في رواية ضو البيت لم يوعد بالزواج من أحسن امرأة في البلد كما وعد الزين من قبل في تلك الليلة المشهودة وإنما أعطى كنزا من المال. لقد حقق سعيد حلمه في أن ينال بنت الناظر وينتمي لطبقتها ثم يتجاوز كل ذلك إلى أفق اجتماعي أرحب بسبب مكره وحسن تدبيره وسرعة تغييره لولاءاته الاجتماعية.
    كل هذه المعاني وسعتها رواية ضو البيت ولم يكن ذلك ممكنا في رواية عرس الزين، لكن رغم كل ذلك يظل سعيد عشا البايتات صورة أكثر واقعية للزين وتظل معاني الجنس ومؤسسة الأسرة التي يسعى أيِّ منهما لتحقيقها هي ذات المؤسسة التقليدية كما سنبين هذا الأمر لاحقا. إذن فالربط الذي أراده الطيب الصالح لعرس الزين وسعيد عشا البايتات ربطاً فيه محاولة لفهم مآلات معني الجنس والحب في إطار مؤسسة الأسرة كما فهمها الزين وسعيد عشا البايتات وكيف أن هذه المؤسسة هي جزء من كل اجتماعي يُعبر فيها عن قيم قبول الآخر المشوه خلقياً أو اجتماعياً ضمن غنائية وطقوس اجتماعية بالغة في التعقيد من خلالها يعبر عن معنى الجنس بلسان زلق في إطار مؤسسة الأسرة. بعد هذه المقدمة المطولة لنحاول التعرف على تراتيب القبول الاجتماعي والغنائية والطقوس الاجتماعية التي اتخذت للتعبير عن عرسي الزين وعرس سعيد عشا البايتات. ولنبدأ بعرس الزين ـ لاشك أن الزين كان خبيرا بمعرفة الجمال وكان يطرب للجمال ويستبد به فيصرح بذلك خلافا لتقاليد القرية وأعرافها. و الأهم من كل ذلك كانت القرية تشهد له سلامة ذوقه، كل ذلك والزين وما هو عليه من قبح ينسيك معنى القبح: فهذه المفارقة الطريفة المتمثلة في رهافة الحس والانصياع إلى الجمال قبالة القبح المبالغ فيه لدى الزين جعلت منه مجرد مكتشف لقيم الجمال في مجتمع تقليدي محافظ مثل مجتمع ود حامد لا يخشى من الزين على سمعة من يتشبب بها الزين وإنما يكون ذلك بمثابة إعلان عنها حتى ينتبه الناس إلى من تشبب بها الزين ويكثر خُطّابها وسرعان ما تزف لأحدهم، تلك كانت وظيفة الزين منذ أول مرة عرف فيها الحب " قتل الحب الزين أول مرة وهو حدث لم يبلغ مبلغ الرجال، كان في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة نحيلا هزيلا كأنه عود يابس" (عرس الزين: 25) ذلك القبح الظاهري الذي في الزين كان يغلف قلبا نابضا بمعاني إنسانية فائقة تجلت في صلاته الاجتماعية المختلفة وتجلت كذلك في قدرته على اكتشاف الجمال "ومهما قال الناس عن الزين فإنهم يعترفون بسلامة ذوقه، فهو لا يحب إلا أروع فتيات البلد جمالا وأحسنهن أدبا وأحلاهن كلاما" (عرس الزين: 25) تلك إذاً كانت مقاييس الجمال عند الزين والتي أسهمت بقدر وافر في تشكيل معنى الجمال لدى أهل القرية، لاشك أن هذا الآخر فيه مفارقة طريفة وهو أن الزين من دون سائر أهل القرية تثق القرية في فهمه لمعاني الجمال ويكون شباب القرية تبعاً له فأينما حطّ رحاله تسارعوا لخطبة تلك التي صاح الزين بحبها. صحيح أن الأمر لم يكن سهلا على القرية في أول أمرها خاصة وأن التي صاح بحبها الزين لأول مرة هي عزة بنت العمدة "كانت عزة إبنة العمدة في الخامسة عشرة من عمرها وقد تفتح جمالها فجأة كما تنتعش النخلة الصبية حين يأتيها الماء بعد الظمأ" (عرس الزين: 25) ثم يستفيض الطيب صالح في وصف جمالها والأهم من كل ذلك هوأن الزين هو الذي اكتشف ذلك الجمال الذي تفتح فجأة كأن عين الزين ذلك الرقيب الجمالي الذي لا يفوته شأن من شؤون تقلبات الجمال وتصاريفه في القرية " كان الزين أول من نبه شبان البلد إلى جمال عزة"(عرس الزين: 26)
    وكذلك فإن القرية لم تحتمل طريقة الزين في الإعلان عن حبه لأول مرة لكنها تصالحت مع هذا الأمر فيما بعد " ارتفع صوته المبحوح الحاد، كما يرتفع صوت الديك عند طلوع الفجر "...الزين مكتول في حوش العمدة" "(عرس الزين: 26) لعل الغضب الذي نشأ بسبب تشبب الزين ببنت العمدة كان بسبب التقاليد التي تمنع الناس من التصريح بعاطفة الحب علناً لكن الزين لم يكن يأبه لتلك التقاليد كان صادقا مع ما يحس به لم يكن من طبعه إخفاء هذه العاطفة النبيلة كان ذلك هو الفرق بينه وبين أهل القرية "فوجئ الناس بتلك الجرأة، والتفت العمدة ناحية الزين وقد تحرك غضب غريزي في صدره" (عرس الزين: 26) لم يكن من طبع الزين أن يكبت هذا النداء الطبيعي والفطري فيه تجاه الجمال ولم تكن البادية السودانية ـ مثلا في ذلك مثل البادية العربية عبر البحر الأحمر ـ تقبل هذا الإعلان عن الحب. كان لابد أن يجد الناس مبرراً لقبول هذا الصدق العاطفي دون التخلي عن تقاليد القرية المرعية "وفجأة كأنما الناس كلهم، في آن واحد، أدركوا التباين المضحك بين هيأة الزين، وهو واقف هنالك كأنه جلد معزة جاف، وبين عزة بنت العمدة، فانفجروا ضاحكين كلهم في آن واحد" (عرس الزين: 26) وبسبب ذلك مات الغضب في صدر العمدة ولم ير بأسا في ما قاله الزين بل حاول استغلال هذه العاطفة لدى الزين وسخّره لأداء الكثير من الأعمال الشاقة، وأدى الزين كل ذلك بصبر وجد بسبب وعد العمدة له " الزين... إن بقيت اشتغلت شديد الليله، نعرس لك عزة" (عرس الزين: 26) ومضى شهر إلى هذا الأمر والزين يؤدي ما عليه دون أن يعي بأن العمدة قد وعده بالزواج من إبنته مستخفا به ومحاولا تجاوز الحرج الذي وقع فيه تشبيب الزين بإبنته، فلئن ضحك الناس "فجأة" بسبب المفارقة بين حال الزين وبنت العمدة وكان ذلك مسوغ لقبول جرأة الزين وتطمين النفس بأن أعراف القرية لم تتجاوز بأي حال من الأحوال لأن الذي صدر منه ذلك الأمر هو الزين لقد أنقذه قبحه المفرط قبالة جمال عزة الصاعق الذي اكتشف "فجأة" بواسطة الزين والذي جعل الناس يدركون "فجأة" تلك المفارقة العجيبة بين الزين وعزة بنت العمدة وتحول الأمر كله إلى ضحك وضحك العمدة أيضا ولكنه لم ينسى أن يمارس سلطة الاستغلال التي يمثلها ليحوّل عاطفة الزين الصادقة التي لم يستطع أن يخونها بل عبّر عنها بمسئولية بالغة وظل عند موققه إزاء عزة باذلاً كل طاقته لأن ينال الوصل منها " كنت ترى الزين العاشق يحمل جوز الماء على ظهره في عز الظهر... يسقي جنينة العمدة " (عرس الزين: 27) وإذا ماضحكت له عزة ـ ربما ـ مرة في الأسبوع لا تكاد الدنيا تسعه من الفرح، ذلك موقف عاشق صادق صابر إزاء محبه لكن الأمر الغريب هو أنه بعد مضي شهر خطبت البنت لإبن خالها والذي له وضع اجتماعي راق " لم يثر الزين ولم يقل شيئا. ولكنه بدأ قصة جديدة" (عرس الزين: 27) إذاً لقد صدق ظن أهل القرية حينما ضحكوا من الزين حينما صاح بأنه "مكتول في حوش العمدة" كأن الزين قد فهم بفطرته معنى تلك الضحكة الجماعية وكيف أن العمدة نفسه قد تبدد غضبه حال سماعه لذلك الضحك الجماعي من أهل القرية وشاركهم في الضحك أيضا بل سعى لأكثر من ذلك بأن تبنى مشروع أن يَعِدْ الزين بالزواج من إبنته إن هو اجتهد في العمل على تنفيذ مطالبه حينما صاح الزين بأنه "مكتول في حوش العمدة" كان يُعبّر عن عاطفة حب خلاق صيرته قتيلا. لذلك لم يكن يعنى ذلك أكثر من كونه قتيل تلك الدار وصريع عزة بنت العمدة، وكما بيّنا من قبل في شأن سوسيولوجيا الضحك في شخصية الزين حال حديثنا عن ميلاده، نرى ـ مرة أخرى ـ يلعب الضحك دوراً اجتماعياً بالغ الأهمية، فعن طريق الضحك استطاعت ودحامد أن تقبل جرأة الزين وتجعل منها فعلاً تقبله القرية، ولقد ذهب العمدة أكثر من ذلك حيث حوّل عاطفه الزين لأمر تسعه مؤسسة الزواج، فبادر بعرض اقتراح الزواج على الزين، ولقد فهم الجميع ـ ربما سوى الزين ـ بأن العمدة يسعى لاستغلاله ويجعله قتيل السخرة لا قتيل العشق. لا يمكننا القول: بأن أولى مغامرات الزين الغرامية كانت صدفة في بيت العمدة، فالعمدة يمثل قمة السلطة في ودحامد، والحب تمرد واستجابة عفوية، خاصة إن كان المحب من هو في مقام الزين، لقد استهدف الحب بيت العمدة وكان المخرج هو الضحك، ثم من بعد ذلك تأطير العمدة لذلك الأمر بأنه رغبة عادية من جانب الزين في الزواج من إبنته عزة، فرق بين أشواق الزين وصيحته العارمة بالعشق إزاء الجمال الذي تفتح "فجأة" في بيت العمدة وأرداه قتيلا وبين ضحك أهل ودحامد وضحك العمدة وتأطيره لذلك العشق الوهاج في إطار الزواج. كان يكفي الزين ـ حسب مقامه الاجتماعي ـ أن يكون قتيل بيت العمدة، أن يصرّح بعشقه أما أن يجد الوصل في إطار مؤسسة الزواج فذاك أمر لم يكن يسعه خيال الزين الاجتماعي فلذلك لم يطالب به وحينما زفت عزة لغيره لم يثر، يكفيه أن ينل العشق وحسب.
    المحطة الثانية لغراميات الزين كانت واحدة من فتيات البدو. فعرب القوز كما يسميهم سكان ودحامد يقيمون على أطراف النيل ويفدون إليه من ديار الكبابيش ودار حمر ومضارب الهواوير والمريصاب في كردفان حينما يضرب الجفاف تلك البقاع بعضهم يرجع على حافرته حيثما تنقشع سنى القحط والبعض الآخر ألف حياة الاستقرار لكنه يبقى على هامش ودحامد ويتجرون مع أهل ودحامد ويؤدون بعض الأعمال الهامشية "لايتزاوجون مع السكان الأصليين، فهم يعتبرون أنفسهم عرباً خلصاً وأهل البلد يعتبرونهم بدواً أجلافاً" (عرس الزين: 27ـ2 رغم ذلك فقد تخطى الزين ذلك الحاجز العرقي المتوهم " ولكن الزين كسر هذا الحاجز" (عرس الزين: 2 وفي أحد جولاته الجمالية التي يتطلع فيها بحثاً عن شيء ضاع منه " فحام حول البيوت كأنه يبحث عن شيء ضاع منه. وخرجت فتاة راع الزين جمالها فتسمر في مكانه" (عرس الزين: 2 حقاً ضاع منه ذلك العشق الذي فقد بزواج عزة بنت العمدة فمقام العشق يحتاج إلى محل يشغله فكانت تلك البدوية رائعة الحسن " فضحكت له وقالت تعبث به: "الزين بتعرسني؟" وتبكم برهة" (عرس الزين: 2 كيف أجاب الزين على السؤال فقد كونه أداة للاستفهام لقد" صاح بأعلى صوته "واكتلتي ياناس" (عرس الزين: 2 لعل الزين كان يعرف أنها لم تكن جادة في طلبها لكن مقام العشق أوقل مقام الزين كان أميناً مع نفسه لا يستطيع أن يخون هذا الحسن الصاعق والحديث الحلو وقال قولته بأنه قتيل لتلك الفتاة وكان يعرف ضراوة أولئك الأعراب وغيرتهم على نسائهم "وهب اخوان الفتاة على الزين، ففرّ منهم ولكن حليمه، حسناء القوز، أصبحت فيما بعد هوسا عنده لم يفارقه إلى أن تزوجت الفتاة” (عرس الزين: 2 مرة أخرى كان إعلان الزين عنها دافعا لأن يتقدم لخطبتها أثرياء البلد وشبانها المرموقين، اكتشف ذلك الجمال ودعا إليه الزين لكن استقر ذلك الحسن في سلك الطبقة المرموقة. يكفي الزين مرة أخرى مقام العشق فمقام الوصل لأصحاب الجاه الإجتماعي. فكأن مقام الجمال للجاه ومقام العشق للفقراء. فالجمال من جملة أسباب الصعود الاجتماعي وقتلاه هم الفقراء، لم يكن الزين يحس بتلك الحسرة ولايعذبه العشق الذي يورث الحرمان وإنما مقام الزين في العشق هو حالة صدق نفسي وأمانة يؤديها اتجاه الجمال لا يخونه ولايتردد في بذل ماعنده لقاء أداء تلك الأمانة. ربما يورث العشق الحسرة والحرمان لدى بقية الفقراء بسبب رغبتهم في تملكه لكن مقام الزين هو سعي للإعلان عنه. والبون شاسع بين أداء واجب الإعلان عن الجمال والسعي لامتلاكه، لقد أدرك الزين استحالة امتلاك الجمال فالمقام لايسع إلا أن يصعقك الجمال ويرديك قتيلاً له وليس لك من الأمر إلا الإعلان عن ذلك. تلك إذاً خلاصة مقام الزين في العشق.
    بعد هاتين التجربتين تحول الزين إلى رمز داخل مجتمع ودحامد. إلى رمز مهم في علاقات الزواج بالقرية، كأن القرية كانت في أمس الحاجة إلى ذلك الرمز الذي يؤدي وظيفة الإعلان عن الجمال والترغيب في النكاح " فقد فطنت أمهات البنات إلى خطورته، كبوق يدعين به لبناتهن. في مجتمع محافظ، تحجب فيه البنات عن الفتيان، أصبح الزين رسولا للحب" (عرس الزين: 31) تلك وظيفة أسطورية لم يكن ليؤديها في مجتمع ودحامد سوى الزين أن ينفعل قلبه بالجمال ويعلن عنه على الملأ وترهف الآذان له تم تمتد يد الخطاب إلى تلك التي انفعل الزين بجمالها وحين يقام العرس تجد الزين مسخرا لإكمال مراسيم العرس "... وكان الزين يخرج من كل قصة حب كما دخل، لا يبدو عليه تغيير ما" (عرس الزين: 31) هذا المركز الجديد أو قل الوظيفة الأسطورية في الإعلان عن الجمال وحمل رسائل الحب وانجاز مهام مابعد الحب في إطار مؤسسة الأسرة جعل نساء ودحامد يستدرجنه إلى البيوت وينصبن له مجالس الطعام والشراب ويشجعن بناتهن في المجيء وإلقاء التحية عليه والسعيدة منهن من يلهج الزين بذكرها فما تلبث أن تضمن لها زوجا. ويبدو أن الزين قد أحب هذه الوظيفة التي يحقق بها مقام العشق " ووفدت على الزين بسنوات خصب مفعمة بالحب... ولعل الزين بفطرة فيه، أدرك خطورة مركزه الجديد فأصبح يتدلل على أمهات البنات ويتردد قبل أن يجيب دعوة إحداهن للإفطار أو الغذاء" (عرس الزين: 32) لعلّ مقام الزين في العشق صار وظيفة بالغة الخطورة في ودحامد فهو المدخل للتراتيب الاجتماعية في ودحامد ويبدو الفرق واضحا بين أول مرة أعلن فيها الزين عن ذلك المقام في بيت العمدة وعن المآل الذي انتهى إليه، فقد أحب الزين هذه الوظيفة وقد دفعت نساء ودحامد بسخاء للزين لأداء تلك الوظيفةالخطره.
    لكن لذلك الأمر استثناء واحد ـ فقط ـ هو أن الزين لم يكن يُدرج نعمة بنت حاج إبراهيم ضمن تلك الوظيفة ولقد كرر الطيب صالح هذا الاستثناء مرتين "لتأكيد كل هذا وفي الحي فتاة واحدة لايتحدث الزين عنها ولايعبث بها" (عرس الزين: 32) ثم يكرر الجملة الموحية والمهمة في فهم صلة الزين بالنساء "كل هذا وفي الحي صبية حلوة، وقورة المحيا، غاضبة العينين تراقب الزين في عبثه ومزاحه وهزاره" (عرس الزين: 3 مرة وجدته ـ كعادته ـ وسط مجموعة من النساء يعبث ويضاحكهن فما كان منها إلاّ أن انتهرته فسكت الزين عن الضحك "وطأطأ رأسه حياء ثم انسل بين النساء ومضى في سبيله" (عرس الزين: 3 كان لها ذلك الموقع في نفسه يترك لها الطريق وتأمر فيطيع فمقام الزين لم يتجلى بالكيفية المألوفة معها ووظيفته في القرية كف عن أدائها إزاء نعمة كانت هي تعرف ذلك وهو يرى استحالة تحقق مكان الزين فيها. فهي نشيد إنشاد آخر ومعزوفة جمال يقتضيها مقام آخر فيه كمال العشق والوصل ولذلك آثر الصمت على الصياح بالقتل، هي المحل الذي جعله ينتقل من مكان إلى مكان أرفع وأعلى وأجل هي التي وعده بها من قبل الحنين ووصفها بأنها أفضل النساء في البلد، وكان الزين يعرف ذلك ـ دون شك ـ فهو الذي يصنع مقياس الجمال في القرية ويكتشف ذلك الجمال بفطرة فائقة غلابة هي التي أورثته مقام العشق أو قل مقام الزين. لاشك أن الانتقال من مقام العشق إلى مقام كمال العشق والوصل قد اقتضى غنائية وطقوس بالغة في التعقيد. لقد كانت نعمة امرأة فريدة"ولما كبرت ولم تعد طفلة أصبحت رؤوس النساء والرجال على السواء تلتفت إليها حين تمر بهم في الطريق. لكنها لم تكن تأبه بجمالها" (عرس الزين: 52) وقد تفاعلت بعمق مع معاني القرآن التي حفظتها وفاقت أقرانها ومن هم أكبر منها سناً في سرعة الحفظ وإجادته، كان لما تحفظه من القرآن قيم ومعاني في نفسها "كانت تعجبها آيات معينة منه، تنزل على قلبها كالخبر السار، كانت تؤثر مما حفظته سورة الرحمن وسورة مريم وسورة القصص" (عرس الزين: 52) أي أنها قد تجاوزت مرحلة الحفظ والترديد الآلي إلى مرحلة الفهم والتفاعل مع القيم التي يحملها القرآن في وقت قياسي "وتشعر بقلبها يعتصره الحزن وهي تقرأ عن أيوب وتشعر بنشوة عظيمة حين تصل إلى الآية "وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا" (عرس الزين: 52) لاشك أن شخصية أيوب عليه السلام قد جسدت معاني الصبر ولكن نعمة بنت الحاج إبراهيم رأت في قصة أيوب شيئاً آخر حسب بعض التفسيرات التي تذهب إلى أن "رحمة" هذه هي امرأة أيوب، وعليه تكون زوجة أيوب هذه قد اقتضى حالها تضحية عظيمة حتى يكون لصبر أيوب معنى اجتماعياً وليس مسألة فردية مجردة "وتتخيل رحمة امرأة رائعة الحسن متفانية في خدمة زوجها وتتمنى لو أن أهلها أسموها رحمة." (عرس الزين: 52) كان ذلك ما وجدته نعمة في قصة أيوب وكانت تشعر لأن يحقق مشروع حياتها شيئا مماثلا لما قامت به رحمة من تضحية عظيمة وكان يداخلها شعور غريب وهي تقرأسورة مريم، كل ذلك جعلها تشعر بعظم معنى المسئولية وتعرف موقفها في البيت وتؤدي ماعليها من أعباء بهمة عالية وتعبر عن رأيها بنضج ووضوح شديدين مما أكسبها مكانة خاصة في البيت، كانت تدري معنى التعليم لكنها رأت بحس ثاقب فوضى في المعاني التي يحدثها التعليم الذي أتى به المستعمر حيث كان أخوها الذي يكبرها يحثها على التعليم في المدارس قائلا لها "(يمكن تبقى دكتورة أومحامية) ولكنها لم تكن تؤمن بذلك النوع من التعليم" (عرس الزين: 52) كانت سيدة رأيها لا يستطيع أحد أن يملي عليها موقفا أو رأياً ـ خاصة ـ في أمر في غاية الأهمية بالنسبة للأسرة مثل الزواج فالبنت لاتستشار وإنما يحدد لها أهلها مِن مَن تتزوج ولكن نعمة كانت نسيج وحدها في هذا الشأن ولم يكن أمام أسرتها إلا الرضوخ لرأيها ورفض من ترفضه. وحينما تقدم إليها إدريس وكانت أسرتها ترى فيه كل مواصفات الزوج المثالي لابنتهم "هزت كتفيها وقالت (ما بدوره) "(عرس الزين: 54) ويبدو أن والدها قد احتد معها ولأول مرة هم بصفعها لكنه لم يستطع لأسباب كثيرة أهمها ذلك الشعور الغريب الذي اعترى والدها وهو يرى ذلك التصميم الغريب في وجهها هذه الفتاة لاشك أن من ورائها سر عظيم يعلو عن أن يعبر عنه بكلمات لكنك تحسه وأنها مأمورة بقوى غير مرئية في مسألة زواجها لذلك لا بد للأسرة أن تتخلى عن هذا الأمر لها "ومن يومها لم يكلمها أحد في أمر الزواج” (عرس الزين: 54) هذا الاستسلام العجيب من قبل الأسرة إزاء ما تحمله الأقدار لنعمة في شأن زواجها أمر لا تقبله أعراف القرية فموضوع زواج البنت هو من مسؤوليات الأب والأسرة على وجه العموم أما وإن يترك ذلك لها فذلك يحتاج إلى قوى غلابة لا يستطيع أحد ردها. لا شك أن هناك فرق كبير بين الاستسلام الكامل لتلك الأقدار وبين التسليم بها واعتبار أن أمر الزواج هذا قسمة مسطرة في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الله الأرض ومن عليها. ففي الحالة الأولى تعبير عن إعطاء مطلق الحرية لها وفي الحالة الثانية الرضاء بمايقع بعد وقعه. ونعمة كان بيدها أن تستسلم لهذه الأقدار التي تحسن بأنها تدفعها إلى جهة ما وتلزم أهلها بالتخلي عن دورهم والسماع لصوتها دون معاندة أو إفتئات عليها وهي في قرارة نفسها كانت تشعر بعظم المسؤولية التي ستوضع على عاتقها في شأن زواجها.
    إذاً أول تمهيد اقتضاه عرس الزين من نعمة هو تلك الطلاقة والحرية المطلقة التي وفرتها الأسرة لنعمة لأن تختار من تراه زوجاً مناسباً لها ولعل في ذلك خروجاً على أعراف القرية ومفاهيم الولاية في نكاح البكر كما وعتها تقاليد القرية في شأن وضع المرأة وعبرت عنها من خلال تشكل للثقافة العربية الإسلامية في السودان. وكانت نعمة لا تحس بتلك الطلاقة والحرية في شأن زواجها ولكنها كانت تحس بعظم المسؤولية الملقاة عليها مثلما أحست مريم حينما تحققت فيها نبوءة "أن العذراء تلد ولداً" وحينما جاءها الملك يبشرها بعيسى عليه السلام لا شك أن ذلك إحساس بعظم مسؤولية القرار الإلهي وصبر على ثقل وقعه وكانت كذلك نعمة يراها الآخرون بأنها تعبر عن طاقة قاهرة لا تحدها حدود أعراف القرية وقوانينها وهم لا يدرون بوقع هذه الطاقة عليها وأنها يليها من كل هذا الأمر مسؤولية عظمية وأنها مدفوعة بأقدار أقوى منها. إن التعليم الديني الذي سعت نعمة للحصول عليه وفرضت وجودها فيه قد جعل منها كائناً آخر أنثى لا كبيقة النساء في القرية أنثى تعي دورها في الحياة، وتفهم معنى اختيارها وتحمُلِّها لمسؤولية ذلك الاختيار، وقد اتخذت لها نماذج قرآنية للتعبير عن اختيارها، والأهم من كل ذلك هو صحة تمثلها لتلك النماذج القرآنية الفريدة ورؤيتها الثاقبة في الربط بين طلاقة التحرر وعظم مسؤولية تلك الطلاقة لذلك كانت أحلامها خلافاً لأحلام نظيراتها في القرية، فكن يحلمن بذلك الفارس الذي يأتي من عوالم سحرية ويخطفها من أهلها لتلك العوالم حيث السعادة ورغد العيش، لعل هذه الأسطورة فيها كثير من الحلم المتبرِّم بالواقع دون فعل شيء لتغيير ذلك الواقع، حلم يعوض عن مرارة القهر واستلاب الصوت فيجد الصوت له منافذ وردية في التعبير في تزين الخروج واعتباره أفضل من الواقع، والبنت منهن تعرف أنها لن تتزوج فارساً يأتي من عوالم سحرية وإنما ستختار لها أسرتها الزوج المناسب ولن يقود ذلك إلى سعادة ورفاهية وربما قاد لنوع آخر من استلاب القرار فبين استلاب وآخر لا يبقى للأنثى سوى الحلم الجميل في عوالم سحرية "صاحباتها في الحي، كل فتاة تشب وفي ذهنها صورة معينة عن الفارس الذي يربط فرسه ذات مساء ساجي الضوء خارج الدار" لاشك أن هذا الفارس لن توافق عليه أسرتها وهو أيضاً لا يحتاج إلى موافقتهم يكفي أنها تنتظره وإن له القوة والعدة التي تمكنه من أخذها عنوة من أهلها ولذلك يستمر النص مفصحاً عن منطق الصراع والقوة "ويدخل ويختطفها من بين أهلها ويهرب بها بعيداً إلى عوالم سحرية من السعادة ورغد العيش" (عرس الزين: 54ـ55).
    لم تكن نعمة تحلم بذلك الخروج الذي يؤديه فارس نيابة عنها ولم يكن البيت سجناً كبيراً حتى تهرب منه وإنما كان مكاناً تمارس فيه مسؤولياتها وتشارك فيه برأيها: "ونشأت نعمة، طفلة وقورة، محور شخصيتها واضح في كل شيء وتتحدث إلى أبيها حديثاً ناضحاً جريئاً يذهله في بعض الأحيان" (عرس الزين: 52) إمراة مثل نعمة لن تحتاج لذلك الفارس "أما نعمة فلم ترتسم في ذهنها صورة محددة. كبرت وكبر معها حب فياض ستسبغة يوماً ما على رجل ما" (عرس الزين: 55)، وإنما ستقوم بصورة إيجابية بإسباغ ذلك الحب الفياض على رجل ما وبسبب رأيها الواضح في التعليم الذي أتى به المستعمر والذي يحمل قيم المستعمر في شأن مؤسسة الأسرة ويرفض مسألة التعدد ويرى تعدد الزوجات أمراً منافياً للقيم والأعراف لكن نعمة كانت في هذا الشأن تنتمي إلى قيم ودحامد رغم الحرية والطلاقة التي حازتها بسبب عمق فهمها للمناذج القرآنية من النساء ولذلك كانت ترى في أن ذلك الرجل الذي ستسبغ عليه حبها الفياض ربما “قد يكون الرجل متزوجاً وله أبناء، يتزوجها على زوجته الأولى قد يكون شاباً وسيماً متعلماً أو مزارعاً من عامة أهل البلد..." (عرس الزين: 55). تلك هي جملة الخيارات وأخطرها خيار قبول أن تكون زوجة ثانية، فهي لا ترى خطأ في ذلك وإنما تراه تدبيراً اجتماعياً مقبولاً وسعته القيم التي نادى بها القرآن الكريم، إذاً لا تعارض بين تلك الطلاقة والحرية وبين هذا التدبير الاجتماعي لمسألة الأسرة، حسب فهم نعمة لهذا الأمر.
    لقد كات نعمة نسيجاً اجتماعياً فريداً فهي تمثل قيم القرآن الكريم وتلك الشفافية الإنسانية لم تكن إمرأة عادية لم تعاني من قهر التقاليد في وودحامد لم يكن زمام أمرها بيد غيرها لقد تحررت من كل أساطير القهر الاجتماعي وألزمت نفسها بنماذج قرآنية فائقة تقتدي بها، لقد أوجدت تلك المعادلة الصعبة بين الطلاقة والحرية وعظم مسؤولية مقام التحرر، لذلك حينما تستعرض نماذج الرجال من حولها ويحط اختيارها على الزين "قد يكون الزين.." (عرس الزين: 55) لا تسعى لأن يحقق الزين مقام العشق فيها ولكنها تمنحه مقام كمال العشق والوصل "وحين يخطر الزين على بال نعمة تحس إحساساً دافئاً في قلبها، من فصيلة الشعور الذي تحسه الأم نحو أبناءها" (عرس الزين: 55)، حينما تتحول عاطفة الحب بين الرجل والمرأة إلى عاطفة أمومة من المرأة تجاه الرجل يتحول ذلك المجتمع الذي تسوده قيم الأبوة أصلاً إلى مجتمع تسوده قيم الأمومة لكن حينما يقع نوع من التوازن في هذه العاطفة لتصير أمومة مغلفة بشفقة ـ وبمعاني أخرى ـ للبعد على ذلك العشق الفوار بين النساء والرجال، والذي ليس من طبيعة نعمة ـ هنا فقط ـ تحدث الموازنة لم ترد نعمة أن تحل محل الزين في علاقتها به ولم ترد لنفسها أن تبتذل تلك العلاقة في إطار مجتمع محافظ للمرأة مكانها ودورها أرادت شيئاً يحقق لها معنى الطلاقة في صلتها بالزين وفي ذات الوقت لا يسلب الزين موقعه الرائد في مؤسسة الأسرة، لذلك تستمر الغنائية في التعبير عن شعورها إزاء الزين "ويمتزج بهذا الإحساس شعور آخر، بالشفقة يخطر الزين على بالها كطفل يتيم عديم الأهل، في حاجة إلى الرعاية، إنه إبن عمها على كل حال، وما في شفقهتا عليه شيء غريب" (عرس الزين: 55) يتداخل في هذا النص صوت نعمة مع صوت الراوي يجد لها الراوي مبرراً في ذلك الشعور الغامر تجاه الزين ذلك الحب الفياض الذي وصفه الراوي حال مقارنته بين نعمةوبقية الفتيات في القرية إزاء مسألة الزواج وحينما صار الزين واحداً من أولئك الذين يمكن أن يشملهم ذلك الحب الفياض كرجل بلحم ودم تعرفه نعمة، حينما انتقل الأمر من منطقة التعميم إلى شخص متعين، سعت نعمة والراوي كذلك لتدارك هذا الأمر ومحاولة التعبير عنه بصورة تسعها صورة نعمة إزاء نفسها وإزاء النص الذي حرره الراوي عنها في الصفحات المنصرمة فالكتابة عن نعمة بالصورة السابقة جعلت من الصعوبة النزول بها إلى التفكير في رجل بلحم ودم، فالأيسر لها أن تبقى أسيرة الحديث عن نماذج ولكن أن يخطر الزين دفعة واحدة هكذا دون مبررات اجتماعية، يشوش على نعمة صورتها عن نفسها إزاء التراتيب الاجتماعية، في ودحامد فكون الزين إبن عمها ذلك يعني أنه المقدّم من بين الآخرين في تحقيق كمال مقام العشق والوصل بالنسبة له لكن الزين لم يكن شخصاً عادياً فهو إبن عمٍ لا تقبله التراتيب الاجتماعية في القرية ويحتاج الأمر إلى تضحية عظيمة. ويحتاج كذلك إلى كل هذه العواطف المغلفة التي اجتاحت نعمة وهي تفكر فيه. تلك هي الغنائية التي انتقلت من خلالها نعمة لتحقق للزين مساحة اجتماعية منشودة في مجتمع ودحامد كأن الجنس والحب كما تصورهما مؤسسة الأسرة هما الدافع الخفي وراء ذلك.
    لعل موقع الزين قد اختلف كثيراً من موقع نعمة في الإعداد لحدث “عرس الزين”. فنعمة كانت تغالب التراتيب الاجتماعية بتبني أقدار أعلى من أعراف القرية وتراتيبها الاجتماعية، وهي المعبر عن تلك الأقدار الغلابة أما الزين فكان ينتظر وعد الحنين أن يتحقق في تلك التي كان يعرف أنها "أحسن بنت في البلد" كان الزين يغالب كل أعراف القرية في مسائل علاقة الأنا بالآخر إلا مسألة صلته بالنعمة فكان طوعاً لتكل الأقدار التي تعبر عنها النعمة يسوقه إليها الحنين بتلك البشارة في تلك الليلة المشهورة التي بُعث فيها الزين من جديد ومُنح ميلاداً اجتماعياً جديداً جعل من زواجه بالنعمة أمراً ممكناً فالزين لم يعد الزين الذي كان يضحك دونما فرح ويضحك الآخرين لكن لا تتسرب إلى نفسه ذرة من المرح والسعادة، ذلك هوالزين الذي كانت تسعه التراتيب الاجتماعية في القرية والذي لا يحق له أن يسعد بالحب ويحقق مقام العشق والوصل معاً.
    لقد كان حدث زواج أخت سيف الدين أول تلك المبادرات التي اتخذها الزين لتغيير وضعه والاحتجاج على أهل ودحامد لقد أحب الزين أخت سيف الدين وكان يرى أنه أحق بها ممن تزوجها لأمر بسيط هو أنه أكثر فحولة من ذلك الذي تزوج بها أو قل لم ير في ذلك الزوج الحد الأدنى من الفحولة التي تؤهله لذلك، وقد قاد ذلك الأمر إلى اعتداء سيف الدين عليه بسبب تجاوز الزين لأعراف القرية في شأن صلته بأخته التي تزوجت رجلاً لم يرض عنه الزين. لقد كان سيف الدين أبعد الناس في الحفاظ على تقاليد القرية بل كان أكثرهم هتكاً لها على كل المستويات وخاصة على المستوى الاجتماعي فهو الذي أتى لأبيه ذات ليلة ووالده على سجادته بعد صلاة العشاء ليقول له إنه يحب إمرأة ساقطة ويريد أن يتزوج بها، لقد أسودت الدنيا في تلك اللية في عيني الأب وهو يستمع لإبنه الوحيد ورائحة الخمر تفوح من فمه يقوله له "إنه يحب" ـ الكلمة التي تثير في عقول الآباء في البلد كل معاني البطالة والخمول وأنه يريد أن يتزوج جارية ماجنة فارغة العين..." (عرس الزين: 75).
    كانت ضربة سيف الدين للزين في تلك الليلة هي الفعل الذي قاد في نهايته إلى بشارة الحنين للزين بأنه يتزوج أحسن بنت في البلد". لم يرد الزين أن يعلم أهل البلد في صباح الليلة حينما سقط في فناء داره مغشياً عليه أثر تلك الضربة ولا حتى بعد مضي أسبوعين حينما رجع من المستشفى بعد أن شفي من جراحه تلك. وحينماكان يحكي لمجموعة محجوب أمام دكان سعيد، في تلك اللية ـ مغامراته النسائية مع الممرضات في المستشفى وقد همَّ بأن يُحدثهم ماذا فعل مع تلك الممرضة التي تبذّل في وصفها "ووضع الزين يديه خلف رأسه ومال إلى الوراء قليلاً ثم قال ببطء وعلى وجهه ابتسامة خبيثة: "دايراني يا جماعة تعرفوا شن سويت لها؟" (عرس الزين: 63) ينقطع الحديث عند ذلك الحد ويقفز الزين في الهواء وتسرع المجموعة لتلحق به لكنه ينفلت منهم ويمسك بسيف الدين بصورة جعلت الجميع يوقنون بأن سيف الدين لا محالة هالك. لقد أرد الطيب صالح أن يسكت عما فعل الزين مع الممرضة، لم يرد أن يروي لنا ما حدث للزين هل كانت غزوة جنسية حقيقية أم أن الأمر لا يسع أن تقع شخصية الزين في ذلك الوحل، على كل حال فجملة التناقضات التي تحتمل شخصية الزين تسع كل الاحتمالات التي سكت عنها وحينما جاء الحنين في اللحظة المناسبة وعاد الزين إلى رشده يفصح النص بأن فعلة الزين هذه كانت رداً على ضربة سيف الدين له: “فقال الحنين موصلاً كلامه (متين سيف الدين ضربك بالفأس في رأسك؟" (عرس الزين: 66)، ويجيب الزين في ليلة عرس أخت سيف الدين ثم حينما يسأل عن السبب يقول: "أخته كانت دايراني أنا مشو عرسوها للراجل الباطل داك" (عرس الزين: 66) وحينما ضحك أحمد إسماعيل على رد الزين سارع الحنين مثباً المعنى الذي قال به الزين من أن البنت كانت تريده لكنه زوجوها من ذلك الرجل فقال الحنين: "كل البنات داراتنك بالمبروك، باكر تعرس أحسن بنت في البلد دي" (عرس الزين: 66 ـ 67)، إذا كانت بشارة الحنين رداً على أهل القرية الذين لا يرون الزين أهلاً للزواج، والأمر العجيب أن شيخ الحنين عكس كل أهل القرية كان يرى بأن كل بنات القرية يرغبن في الزين لسبب أو لأخر لكن أعراف القرية لم تكن ترى في الزين رجلاً يصلح للزواج. فاقتضى الأمر بشارة الحنين تلك في ـ تلك الليلة المباركة ـ التي أورثت القرية عاماً من البركة عرف بعام الحنين. والأهم من كل ذلك هو أن أؤلئك الذين لم يسعدهم الحظ بحضور أحداث تلك الليلة وكانوا يستعدون لصلاة العشاء قالوا إن الإمام قد تلا في تلك اللية حين صلى بهم آيات من سورة مريم وقد روى "حاج إبراهيم"، عم الزين، ووالد نعمة وهو رجل مشهود له بالصدق، يذكر تماماً أن الإمام قرأ الآية {وهزي إليك بجذع النخل تساقط عليك رطباً جنياً} من سورة مريم وهي آية فيها الخير والبركة (عرس الزين: 81) فالربط بين حاج إبراهيم ونعمة والزين بهذه الصورة لتأكيد أهمية تلك الليلة المباركة في تاريخ ودحامد له معنى واضح خاصة إذا كان الذي أرّخ لتلك الليلة ممن لم يسعدهم الحظ بحضورها والسماع لنبوءة الحنين فيها ـ هو حاج إبراهيم فهذا يعني أنه صار جزءاً من ذلك الزخم وتلك التضحية والتي هي في وعي أهل القرية حسب النص ـ تحمل كل معاني الخير والبركة، إذاً فالجميع الآن قد تأهلوا لقبول مقام العشق وكمال الوصل الذي سيحققه الزين بالزواج من نعمة وقد لعب الحنين وسيف الدين فيها دوراً أساسياً في إخراج الزين من مقام العشق إلى مقام كمال العشق والوصل، لا شك أن الفرق واضح بين موقع الحنين وموقع سيف الدين إزاء عملية إخراج الزين هذه لكن كلاهما أخذ الزين مأخذ الجد في أشواقه تجاه النساء لم يعملا على تحويل تلك الأشواق إلى وظيفة تحتاج لها القرية حتى تحافظ على تقاليدها المرعية في صلة الرجال بالنساء فالمساحة التي أتاحتها القرية للزين هي مساحة لا تعترف بأشواقه وحبه وإنما تكتفي من كل ذلك بأن يلعب الزين وظيفة الدال على جمال الفتيات المحجوبات عن أعين الشبان لكن أن يسمع له وأن يتحول إلى كائن له أشواق وليس وظيفة اجتماعية في القرية فذلك يقتضي أن يلعب أولئك الذين أخذوه مأخذ الجد دوراً إيجابياً في تعديل تلك الصورة وفرض الواقع الجديد على القرية. لقد قامت نعمة في تعديل تلك الصورة وفرض الواقع الجديد على القرية. لقد قامت نعمة بتهيئة المحل لقبول تلك التضحية العظمية وبدفع تكاليف تلك المسؤولية الجسيمة ولقد قام الحنين بالتعبير عن ذلك الجانب الخفي الذي لم تره القرية من أن كل فتياتها يتعشقن الزين سراً ليس ـ فقط ـ كوظيفة اجتماعية ولكن كرجل بلحم ودم دون أن يبحن بذلك السر لأحد فقد عرفه الحنين وعبر عنه حينما قال (كل البنات داراتنك يالمبروك) ربما بسبب تلك الفحولة الزائدة التي في الزين برغم من قبح هيئته والتهميش الاجتماعي الذي ألبسته له القرية. فالنساء يتعشق تلك الفحلة ولكن يأبى الواقع الاجتماعي التعبير عن ذلك بسبب ما لحق بالزين من تهميش اجتماعي. لقد عرف سيف الدين ذلك الجانب فهو دون الكثيرين من أهل القرية خبر كل العهر الاجتماعي وتمثله في حياته اليومية وعبر عنه بتلك الكلمة التي يمجها الذوق الاجتماعي في القرية (الحب): أن يحب الرجل إمرة ويعبر عن ذلك الحب، بالطبع فقد بلغ سيف الدين بالتجاوز مداه بسبب أن تلك المرأة كانت هي: السارة، جارية من جواري الواحة. ولم يرد سيف الدين المشاركة في تلك المؤامرة الاجتماعية ضد الزين أما الحنين ونعمة فلم يشاركا فيها بسبب حبهما للزين ودفاعهما عن ذلك الحب جهاراً. وقد أضفى كلاهما على هذا الحب نوعاً من القدسية التي جعلت القرية بكاملها تبارك عرس الزين باعتباره تتويجاً لعام البركة، إذاً لم يكن أمر قبول القرية لأن يحقق الزين كمال مقام العشق والوصل أمراً سهلاً وإنما اقتضى كل تلك الشعائرية والغنائية التي اكتملت في حدث العرس والذي لم يكن عرس الزين فقط وإنما كان عرس كل القرية شارك الجميع في ذلك إما رغبة وحباً أو قهراً اجتماعياً مارسه حدث العرس على أؤلئك المكابرين من أمثال الناظر وإمام الجامع لم يستطع الزين فرض العرس عليهم ولكن آليات حدث العرس بكل طقوسه الاجتماعية جعلت أولئك جزءاً منه.
    لقد اختارت نعمة الزين زوجاً لها اختياراً واعياً، ليس ـ فقط ـ لأنه إبن عمها، أو لأنه محل التضحية العظمية التي كانت تحس بها في نفسها حينما تفكر في أمر الزواج، أو لأن كل النساء يتعشق الزين سراً ولا يبحن بذلك ولكن لأمر آخر ـ في غاية الأهمية ـ هو أن الزين كان متمرداً على كل شيء في القرية إلا في حبه لها، فقد بلغ في الاستسلام لها غاية لا يبلغ مداها أحد، ولذلك فقد أدركت أن خير من يستحق ذلك الحب الفياض هو ذلك الذي يعرف معنى الاستسلام الكامل في مقام العشق والوصل من جملة رجال القرية، كان الزين وحده مؤهلاً لذلك الحب الفياض الذي فيه معنى كامل التضحية والمسؤولية. وليس من عادة أهل القرية أن تكون البنت جريئة في مسائل الزواج لكن نعمة كانت أكثر جرأة من الزين نفسه فهي التي أتت إلى منزله وأخبرته بمواعيد عقد الزواج فيقول الزين لمحجوب "أي جاتني الصباح بدري في بيتنا وقالت لي قدام أمي: يوم الخميس يعقدوا لك عليّ، أنا وأنت نبقى راجل ومره. نسكن سوا ونعيش سوا" (عرس الزين: 112) وقد تأثر محجوب بكلام النعمة للزين وقال بإعجاب مفرط "على باليمين مره تملا العين، طلاق بنت مالها أخت" ثم ختم ذلك الإعجاب الباهر بالنعمة قائلاً: "يمين الزين ما ش يعرس له بنتاً تمشيه فوق العجين ما يلخبط" (عرس الزين: 112) رغم أن البعض كان يخالف محجوب في هذا الأمر إلا أن محجوباً بخبرته بالزين رأى في ذلك الزواج نهاية لمهمتهم الشاقة في السيطرة على الزين ومنعه من الوقوع في المشاكل ـ خاصة بعد وفاة الحينن. فقد كان الزين طاقة متمردة مدمرة لكن نعمة كانت أقدر الناس على تحويله لطاقة بناءة بل إن الزين قد صار من أعيان البلد فيما بعد ـ في رواية ضو البيت ـ "ما دام عبد الكريم وأحمد بقي متصوف والزين أصبح من الأعيان وسيف الدين على وشك يعمل نائب في البرلمان، إيه الغريب سعيد البوم يكون اسمه سعيد عشا البايتات؟" (ضو البيت: 11). إذاً لقد اختارت نعمة الزين ليكن زوجاً لها لأنه وحده القادر لأن يكون طوع بنانها كما هي طوع بنانه تهبه حباً فياضاً يمكنه من تحقيق كمال تمام العشق والوله ويحوله من الزين المهمّش اجتماعياً إلى واحد من أعيان البلد.
    كلما عظم المعنى الذي لأجله تتخذ الطقوس الاجتماعية كلما تفاقم ذلك الطقس الاجتماعي وتعقد، لقد كان حدث عرس الزين أمراً عظيماً لذلك اقتضى جملة من الطقوس الاجتماعية بالغة التعقيد. قبل وصف العرس يفجر الطيب صالح جملة من التساؤلات العميقة حول الحياة ويعقد مقارنة موحية بين مجموعة الجامع التي انتمى إليها سيف الدين ورفع آذان العشاء في تلك الليلة التي صاح فيها الزين بملئ فيه أنه قتيل نعمة بنت حاج ابراهيم وتستمر المقارنة بين (مجموعة محجوب) التى حالما يذهب الناس لأداء صلاة العشاء يجتمعون لتناول طعام العشاء بطقوسية بالغة التأثير. بعد فراغهم من أكل طعام "العشاء يكون الناس قد فرغوا من صلاة العشاء. يتحدثون (مجموعة محجوب) في هدوء وقناعة، ولعلهم حينئذ يشعرون ذلك الشعور الدافئ المطمئن، الذي يحسه المصلون وهم صفا خلف الإمام... ينظرون إلى نقطة بعيدة غامضة تلتقي عندها صلواتهم" (عرس الزين: 114) ثم تتصاعد الشاعرية في ذلك النص إلى "هل يحسون حينئذ أنهم يزدادون قربا من تلك النقطة؟ أم تراهم يدركون أن النقطة الغامضة الصامتة في الوسط أم تنتهي الحياة ولا ينتهي إليها المرء" (عرس الزين: 114) ثم ينتقل الطيب صالح إلى بداية وصف العرس والذي يبدأ بزغرودة فرح من أم الزين "أيوي... أيوي... أيوي.. أيويا". كأن الطيب صالح كان ينعي مجموعة محجوب والتي انتهت مهمتها في القرية بإنجاز حدث عرس الزين برغم أن تلك الليلة السابقة قد تكررت بالصورة التي وصفها بها الطيب صالح مرات ومرات إلاّ أنها في تلك الليلة كانت قد تكثفت بشاعرية بالغة لتعبر عن معنى الحياة كما تفهمه مجموعة محجوب التي لم تكن تذهب للمسجد لأداء صلاة العشاء وإنما تستعيض عن ذلك بأكل طعام العشاء في مجموعة بصورة فيها كثير من الطقوسية التي تجنح للتأمل في معنى الحياة. من هذه النقطة في التقابل ينتقل نص الرواية ليصف طقوس العرس بدقة متناهية يعبر فيها عن كل المعاني التي حملتها تلك التفاصيل لقد وهبت القرية كل تلك الطقوس ليصير معنى إنتقال الزين مما كان فيه إلى ما سيكون عليه مبرراً "والزين واقف في مكانه في قلب الدائرة، بقامته الطويلة، وجسمه النحيل، فكأنه صاري المركب" (عرس الزين: 12 هكذا يختتم نص رواية عرس الزين فهو قلب للدائرة وصاري المركب لاتخطئه عين ومساحة اجتماعية صعب تجاوزها أو تحويلها إلى وظيفة اجتماعية يستمتع بخدماتها ولايتاح لها حق الإستمتاع بالوجود الإجتماعي المعتبر. لم يكن الزين في عرسه مثل ضو البيت حيث كان في ليلة عرس ضو البيت هم ضو البيت ... (وكل فعل جميل وكل الناس "ضو البيت" (ضو البيت: 121) ورغم ان ضو البيت كان واقفا في قلب الدائرة في ليلة عرسه يهز فوق الراقصات إلاّ أن ذلك الوقوف يمثل مركزا للفوضى وليس صاري المركب كما كان الزين في وقوفه في تلك الليلة "ويقوى هدير الطبول وتتفرق الضوضاء وتتجمع حول ضو البيت وهو واقف في مركز الفوضى شاهرا سوطه فوق الجميع فكانه هنا وليس هناك" (ضو البيت: 121). لم يكن الزين كذلك بل كان هناك وجودا يمنح بقية الاشياء معناها لكن كانت طقوس العرس هي الثمن لتحقيق ذلك الوجود الاجتماعي الذي لا مرية فيه.
    لقد افتتحت رواية ضو البيت بهزيمة مجموعة محجوب وعرس عشا الباتيات واختتمت بزواج ضو البيت وإختفائه الأسطوري في النيل. هذا التحول الذي حدث في ودحامد لم تكن تسعه رواية عرس الزين، وكانت مجموعة محجوب هي عصب الحياة في ودحامد ويبدو أن دورها قد انتهى بختام عام الحنين حينما تزوج الزين نعمة، لم يكن من المعقول أن يخون الزين مجموعة محجوب أو أن يتحالف مع معسكر آخر ضدها لقد كانت نسق رواية الزين يسع التصالح والتوافق بين الأضداد ولذلك عبّر عن حدث عرس الزين بتلك الطقوسية والغنائية الفائقة التعقيد والتي تسعى لإثبات الزين لا لنفيه لرفعه في سلم التراتيب الاجتماعية لا لتحريره منها تحريراً شاملاً أما عشا البايتات وهو وجه آخر للزين فقد تحرر تحرراً شاملاً من تلك التراتيب الاجتماعية، لم يعلو درجات تلك التراتيب الاجتماعية كما فعل الزين ولكنه تجاوزها تجاوزاً تاماً، لقد حقق أكثر مما كان يحلم به في رواية عرس الزين. حيث كان يحلم بأن يتزوج واحدة من بنات الناظر ـ صار يعتقد بأنه يمكن أن يتزوج أي امرأة أراد وإن كانت تلك المرأة بنت العمدة. في رواية عرس الزين كان من المحال أن يتزوج الزين أو سعيد البوم بنت العمدة يكفي أي منهما أن يحلم أو أن يحقق مقام الزين في العشق لكن أن يجد وصلاً لذلك العشق فلم يكن نسق الرواية يسمح بذلك الأمر. ويبدو أن الطيب صالح قد بلغ حداً من إحكام نسيج نسق رواية عرس الزين بصورة تتحدد في إطارها أبعاد شخصياته وتتناغم وتتكامل في شاعرية وطقوسية مجيدة. وربما قيل أن الطيب صالح قد أدرك أن النسق الأساس في رواية عرس الزين لا يسمح بأيّ فوضى اجتماعية وإنما يتيح إمكانات حسم الصراع الاجتماعي عن طريق التصالح وكذلك تقديم طقوس اجتماعية معقّدة لقبول فكرة التصعيد الاجتماعي والانتقال من وضع اجتماعي لآخر. ولما كانت رواية ضو البيت هي للتعبير عن تلك الفوضى العارمة التي أحدثها الغزو التركي ـ المصري للسودان ومحاولة التعبير عنها بشاعرية على مستوى ودحامد فقد كان التغيير السمة الأساسية في نسق تلك الرواية وكان التحوّل هو المعيار لإعادة تنظيم مسلمات ودحامد وعليه فقد ترجم عشا البايتات ذات أحلام الزين بصورة ملتوية وفيها كثير من التجاوز لأعراف ودحامد.
    يبقى السؤال المحوري: وهو إلى أي مدى نجح الطيب صالح في التعبير عن معنى التغيير في رواية ضو البيت من خلال عرس عشا البايتات وكيف تغيّر معنى الحب والجنس في إطار مؤسسة الأسرة وما هي التحولات الأساسية في مقام العشق والوصل بين روايتي عرس الزين وضو البيت؟ للإجابة على تلك الأسئلة لا بد من النظر في علاقة سعيد البوم (عشا البايتات فيما بعد) بالمرأة في رواية عرس الزين وكيف تبدلت تلك العلاقة تماما بتبدل لقبه الاجتماعي في رواية ضو البيت. نقول: رغم أن نعمة هي إبنة عمّ الزين وفي أعراف القرية "فكون بنت العم لابن العم حجة ليس بعدها حجة في عرف أهل البلد. إنه تقليد قديم عندهم، في قدم غريرة الحياة نفسها غريرة البقاء وحفظ النوع" (عرس الزين: 91) رغم كل ذلك فقد واجهت القرية ممثلة في مجموعات مهمة منها عرس الزين بعدم القبول وقد احتاج تسويغ أمر ذلك العرس إلى طقوس فصلنا القول فيها فيما سبق.
    الناظر في رواية عرس الزين يرى أنها تنقسم إلى قسمين اثنين قسم أولى كُرِّس لبيان نبأ العرس الذي افتتحت به الرواية قالت حليمة بائعة اللبن لآمنة.. "سمعت الخبر؟ الزين مو داير يعرس" (عرس الزين: 5) ويستمر هذ القسم ليبين لنا مدى وقع الخبر على آمنة "والآن يزوجونها للزين ـ هذا الرجل الهبيل الغشيم... وشعرت آمنة كأن في الأمر اساءة موجهة إليها شخصيا، عن عمد" (عرس الزين: 43) أما القسم الثاني فهو يحتوي على الحيثيات الأساسية التي سوغت عرس الزين بما فيها الوصف الطقسي المميز الذي عبِّر به عن حدث العرس. وبين القسمة هذه جزءاً يبدو لأول وهلة أن لا صلة له بالرواية ويبدو ظاهرياً أن هذه القطعة يمكن أن تضاف إلى أيّ رواية أخرى من روايات الطيب صالح دون أن يختل السياق العام. يبدأ هذا الجزء بجملة "وتتابعت الأعوام، عام يتلو عاماً، ينتفخ صدر النيل، كما يمتلئ صدر الرجال بالغيظ..." وينتهي بجملة "وتنشق الأرض عن نبات و ثمر" (عرس الزين: 4 ويبدو النفس الشاعري الكوني عالياً في هذه القطعة وتبدو رمزية النيل في التعبير عن الرجولة والأرض في التعبير عن الأنوثة. "الأرض ساكنة مبتلة ولكنك تحس أن بطنها ينطوي على سر عظيم. كانها إمرأة عارمة الشهوة تستعد لملاقاة بعلها" (عرس الزين: 4. هذه المقابلة بين النيل والأرض والذكر والأنثى ثم الإشارة إلى حفل العرس بصورة افتراضية "فإذا أقيم حفل عرس على بعد ميلين تسمع زغاريده... كأنه إلى يمين دارك" (عرس الزين: 47ـ4 هذا الزخم الطبيعي عبّر عن الجنس بلسان ذلق، لكنه في ذات الوقت بيّن الأطر التي يقع فيها والثمار التي تجن منه وعليه تكون هذه القطعة دعوى وجودية لتسويغ عرس الزين فهي بين نبأ العرس والطقوس التي اتخذت لتبريره.
    ذاك ما كان من أمر الزين أما سعيد البوم، فهو مثله مثل الزين ترعاه مجموعة محجوب وكان بينه وبين الناظر مودة خاصة أو قل كان يستغله الناظر في جلب الحطب والماء لبيته وكان سعيد يكدح كل نهاره في الأعمال الشاقة ويدخر محصلة ذلك الجهد عند الناظر، وحينما عزم على الزواج جاء واستشار الناظر في ذلك الأمر وفيما بعد "و تباهى بعد ذلك بأن الناظر في جلالة قدره شهد عقد زواجه” (عرس الزين:94) مجرد حضور الناظر عقد زواجه كان ذلك أمراً يباهي به سعيد أهل ودحامد. إذ لم تسع رواية عرس الزين أكثر من هذا الحلم الاجتماعي. ولقد كان سعيد غريب الأطوار في مسألة الجنس "كل أحد في البلد يعرف قصة زواج سعيد، وأنه عاش مع زوجته قريبا من الحلول [الحول] لا يسمها وكادت المرأة تيأس وتطلقه." (عرس الزين: 94) كان يرى أهمية التريس ثم فيما بعد أولد امرأته أولاداً وبنات. فإن كان الزين عند بعضهم رجلاً هبيلاً وغشيماً فقد كان كذلك سعيد البوم أموره الخاصة دائرة على ألسنة أهل البلد، كيفية معاشرته لزوجته موضوعاً عاماً تتندر به أهل ودحامد في مجالسها. ولعل قصة مجئ زوجته لعبد الحفيظ في الحقل لتحكي له أمراً حدث بينها وبين سعيد في الليلة الماضية وكيف أنه "قال لها أنها امرأة "جيفة ـ هكذا لأنها لا تتعطر وتتزين كبقية النساء" (عرس الزين: 106) وتمضي القصة إلى أنها حينما ردت عليه قولاً بقول صفعها" وقال لها: "امش اخدي دروس من بنات الناظر" (عرس الزين: 106) وحينما سمع هذه القصة الطاهر ود الرواسي سخر من سعيد وعلّق على مجرد حلم سعيد بأن تتعطر امرأته
                  

العنوان الكاتب Date
شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى bayan03-04-05, 08:01 AM
  Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى bayan03-04-05, 08:09 AM
    Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى bayan03-04-05, 08:12 AM
      Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى bayan03-04-05, 08:14 AM
        Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى bayan03-04-05, 08:22 AM
          Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى bayan03-04-05, 08:25 AM
            Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى bayan03-04-05, 08:28 AM
  Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى jini03-04-05, 09:58 AM
    Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى bayan03-07-05, 08:43 AM
  Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى WadalBalad03-04-05, 10:08 AM
    Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى jini03-05-05, 01:40 PM
    Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى bayan03-07-05, 08:48 AM
    Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى jini03-07-05, 10:26 AM
  Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى WadalBalad03-06-05, 02:55 AM
  Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى Agab Alfaya03-06-05, 06:58 PM
    Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى bayan03-07-05, 08:53 AM
      Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى محمد عكاشة03-08-05, 00:55 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de