شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-04-2024, 06:15 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة د.نجاة محمود احمد الامين(د.نجاة محمود&bayan)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
03-04-2005, 08:22 AM

bayan
<abayan
تاريخ التسجيل: 06-13-2003
مجموع المشاركات: 15417

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى (Re: bayan)

    لقد تغير شكل العلاقة بين الريف والحضر في مستوى السياسة والتدين في الحضارة العربية الإسلامية، حيث كان الريف هو الذي يرفد المدن بالعصبيات الجديدة والقوى السياسة الناهضة التي تقوم بانشاء الدول. إذًا كان الريف هو مكان القوى الصاعدة التي تقيم الدول والممالك الجديدة. و حسب تعبير ابن خلدون كانت عصبيات العمران البدوى هى التي تناجز العمران الحضرى الهالك لتقيم دولتها الجديدة. ذلك لأن العمران الحضرى الذي يكون شكل الحكم فيه الملك الذي يفضى إلى الترف و الدعة. والترف في نهاية الأمر يفضى إلى الظلم الذي يؤذن بخراب العمران. لكن العمران البدوى معصوم من أن يؤول إلى هذه النهاية بسبب أنه ليس من طبيعته الترف ولا الدعة، وبالتالى لا تدعو طبيعته إلى الظلم، وانما الغاية التي يسعى اليها هى مناجزة العمران الحضرى، ودولته الظالمة لاقامة دولة و ملك جديد(11).
    اذًا الريادة و المبادرة السياسية كانت بيد الريف و عصبياته، لكننا الآن أمام شكل سياسى جديد حيث فقد الريف كلية هذه المبادرة و صار سلاح التنمية هو الاداة القوية لقهر الريف والتحكم في شكل العمران فيه، بالطبع لا نريد أن نخوض هنا في أمر اقتصاديات التنمية لكن تظل الملاحظة الأساسية صحيحة: وهى أن سلاح التنمية هو ليس الا مبادرة من العمران الحضرى لاحكام السيطرة على العمران البدوى. كانت آليات الحراك الاجتماعى تأتى من الريف الذي يمور بالعصبيات المتطاحنة والمتشوفة إلى آفاق أوسع وكانت المدن تتخذ الأسوار والقلاع الحصينة للدفاع عن نفسها، أى أن المدن سياسيا لم تكن في حالة طلاقة و جيشان كما هو الحال في الريف، بل هى مثال للسكون والدعة والترف. لكن في دومة ود حامد انقلب الامر تماما فكل رموز الثبات نجدها عند أهل ود حامد أولها و أهمها ذلك الميلاد الميتافيزيقى الذي يتجاوز التاريخ ـ الذي يعبر عن الثبات المطلق ـ الذي اتخذه أهل ود حامد للتعبير عن ميلاد القرية/ الدومة / الرجل الصالح. لقد تبادل الريف مقعده مع المدن وصار العمران الذي يحكم الاجتماع البشرى معاكس تماما لذلك الخط الذي رسمه ابن خلدون في مقدمته بسبب ظاهرة الاستعمار التي جعلت المدن تستند في قوتها إلى إمبراطوريات أقوى و أكبر، و ترتبط معها بعجلة السوق العالمىو تسعى إلى ربط كل أشكال الاجتماع البشرى بذلك السوق العالمى الموحد، فالدور الذي كانت يلعبه الريف في التغيير صارت تقوم به المدن تحت شعار التنمية و التحديث. اذا تحولت ديناميات التغيير من كونها كانت تأتى من الريف إلى المدن إلى الاتجاه المعاكس بسبب السكونية والثبات اللذين اكتنفا الريف وبسبب ظاهرة الاستعمار واقتصاديات دول ما بعد الاستعمار.
    ليس هذا الاتجاه في التحليل لرفع قيمة العامل الاقتصادى و لكن لاعطائه قيمته الحضارية في سنن الاجتماع البشرى، فان كانت الحضارة العربية الإسلامية التقليدية تسعى لتوحيد العمران الحضرى والعمران البدوى عن طريق اعلاء قيم الوحدانية في العبادة و التوجه، فان واحدا من أهم سمات الحضارة الغربية هو إعلاء قيم التوحيد القائمة على نفى الآخر و توحيد سوق الأوراق المالية، فتوحيد السوق العالمى واستخدام سلاح التنمية في ظل علاقة الهامش بالمركز هو الأساس الذي تسعى اليه الحضارة الغربية. بالطبع فان هناك قيما انسانية ونزعات و تيارات مناهضة لهذا التوجه في الحضارة الغربية نفسها، لكن تلك النزعات و التيارات ليست سوى جيوب منعزلة.
    واذ كان هناك ـ كما يبدو ـ سيطرة للمدن على الريف كما هو الحال في صراع ود حامد مع المركز، الا ان البعض قد يذهب إلى أن حالة ود حامد تمثل معنى آخر، ذلك لأن أهل ود حامد يدركون هذا المعنى لموقعهم من التاريخ الانسانى ويعرفون أن هذا الموقع الجغرافى كانت له سيادة و دولة فيما مضى، وأن بقايا تلك الحضارة التي سادت يوما لا زالت موجودة كما عبر عن ذلك المعنى ابراهيم ود طه راوية القرية و حافظ تراثها الشفاهى (مريود: 55)، بالطبع فان هذا الوعى بأنهم ورثة عمران حضرى ساد فترة من الزمان و باد، وأن ود حامد كانت حاضرة عامرة في يوم ما يجعلنا ننظر بنوع من التدقيق في تفاصيل العلاقة بين الريف والمدن، خاصة و ان كان ذلك الريف له وعى بميراث حضرى ضارب في التاريخ. وعليه، فان هذا ليس ريفا عاديا و انما هو مدينة متحولة إلى ريف، والخطأ الذي وقع فيه دعاة التنمية أو الحداثة هو سوء فهمهم لطبيعة العمران المتمثل في ود حامد.
    لكن فكرة الميلاد الميتافيزيقى لا تتكرر مرة أخرى في روايات الطيب صالح، وانما ينتقل ليعبر عن ثنائيات الميلاد الطبيعى والميلاد الاجتماعى للزين و مصطفى سعيد و ضوالبيت و بلال، وفى كل ثنائية من هذه الثنائيات يعالج واحدة من مشاكل الاجتماع البشرى للحضارة العربية الإسلامية عى وجه العموم أو للاجتماع البشرى في السودان، فقضايا القبول الاجتماعى للمعوقين، وفهم مؤسسة الرق، والغزو التركى المصرى للسودان، وظاهرة الاستعمار، فهذا كله تلخيص عميق لكل قضايا التاريخ الاجتماعى في السودان.
    فميلاد الزين الطبيعى يشير إلى الآليات الاجتماعية التي تتخذ لقبول المعوقين لكنها أيضا تشير إلى القيم الايجابية عندهم، بلا شك ان الأدوار التي لعبها الزين قبل ميلاده الثانى أدوار مهمة و حيوية لتسيير الحياة / اليومية في ود حامد، ولتخفيف قسوتها، ولاضفاء نوع من السخرية والضحك المحببين إلى النفوس. و ما الميلاد الاجتماعى إلاّ مواصلة لذلك المشروع دون حرمان الزين من أن يكون طرفا في الوجود الاجتماعى للقرية لا أداة تستخدمها القوى المختلفة لتحقيق أغراضها دون الانتباه إلى أن للزين رغبات مشروعة يجب أن تستوفى، و أنه يجب أن يندمج في المساحة الاجتماعية بالقرية لا أن يتخذ أداة لتحقيق مطالب ورغبات الآخرين.
    ميلاد الزين الطبيعى هو تعبير عن قيم التصالح الاجتماعى والدينى مع المتخلفين والمعاقين، والنظر إلى عاهتهم بنوع من الايجابية وأنها نعمة تستحق الشكر بنعمة من صاحب الفضل والمنة: نعمة يؤدى بها شكر نعمة بنعمة منه. هذا الموقف فيه وعى بظاهرة القصور المركوز في النفس البشرية، و فيه اعتراف بالضعف والتعامل معها بنوع من البصيرة التي تسعى لتجاوزه بقدرة و "بركة " علوية. فالزين يذكرنا بكل ذلك، ويذكرنا بأن الاجتماع البشرى في ظل الحضارة العربية الإسلامية يستطيع التعايش بوعى انسانى يعترف بالضعف ولا يُأله الانسان، لكنه كذلك يؤمن بالتعدد في المشاريع الانسانية المتاحة، فكل ميسر لما خلق له، و لا يجعل الحلم الجماعى قانونا ينطبق على الجميع، على الذي لديه القدرة على تحقيق الحلم و على ذلك الذي تعمل كل قواعد اللعبة على اقصائه من تحقيق ذلك الحلم. اذا كان من الممكن أن يلعب الزين هذا الدور الفريد في ود حامد، اذًا امكانات تحقيق المشروع الانسانى متاحة للجميع، لا أحد يضع قواعد للعب تجعل الآخرين مكتوفى الايدى. لا أحد له الحق في اقصاء الآخرين و الاستئثار بكل شئ، فالحلم الجماعى في القرية يعترف بتعدد المشارب والأفهام، وبالتالى تعدد الأحلام و التصالح معها. فهى رؤية للحلم قائمة على فهم مشروعية الآخر في أن يسعى لتحقيق حلمه و ان بدا غريبا وبعيد المنال.
    أما ميلاد مصطفى سعيد فهو يبرز ذلك التعقيد في علاقتنا بالآخر، ذلك الآخر الذي أتى بأكذوبة عبء الرجل الأبيض، ثم بوهم التنمية، ليكتشف مصطفى سعيد في النهاية جملة الأكاذيب و الأوهام دفعة واحدة في قاعة الأولد بيلى حينما تعقد المحاكمة له، وهى بلا شك محاكمة لفشل جملة من الأكاذيب والأوهام التي صدقتها الحضارة الغربية في صلتها بالآخر، بل ان الآخر كان أكثر الناس تلقيا و قبولا لتلك المشاريع الغربية، ولكن بسبب عقم تلك المشاريع و الأنانية المتأصلة فيها فهى لا تقوم الا على قهر الآخر، فالثقافة الامبريالية لا ترى في العالم غير نفسها، فلذلك هى غير مؤهلة لحمل أى عبء أيا كان نوعه، وبرغم أن الأولد بيلى قد ظهر فيها ذلك الأمر جليا الا ان مصطفى سعيد استمر في التسويف، برغم أن رجوعه إلى ود حامد و محاولته لاستئناف حياة جديدة الا ان الماضى كان يطارده. ان جرثومة العنف و التشويه الذي لحقه من جراء محاولة اندماجه في مشروع الغرب الحضارى جعل منه كائنا لا يعبر الا عن أكذوبة ذلك المشروع، لكن ود حامد لم تفقد ذلك البريق الذي يجعلها تستقبل الأبناءالذين أبعدوا النجعة وراء السراب الأجنبى، برغم طول غيابهم عنها الا انها تمتلك وهجا و ضياءا يجعلهم يختارون جوارها على ما سواه.
    ذلك نداء تمتلكه ود حامد حتى بالنسبة لأولئك الذين نجح الغرب في استلابهم كلية، برغم استحالة هذا النوع من الاستلاب من الناحية النظرية، الا ان نداء ود حامد اليهم لم يفقد معناه، تلك هى عبقرية المكان، تلك هى الجغرافية الفريدة التي تتمتع بها ود حامد دون غيرها، لقد أراد المستعمر في فترة وجوده في السودان محوها واثبات شئ آخر باسم التنمية لكن ود حامد بقيت كما هى بكل رموزها، و حينما عادت الكرة مرة أخرى في العهد الوطنى تحول الرمز إلى حلم عام ثم آثر محيميد ـ بعد نيله لشهادة الدكتوراة ـ العودة إلى ود حامد لقد عاد اليها برغم تغير و تبدل الحال فيها الا انه قرر البقاء فيها و ترك عمله في الخرطوم، وقد اختار محجوب البقاء فيها والعمل على تطويرها بمنطقها الداخلى، و المشاركة في صنع القرار فيها ثم التنحى، لتأتى دورة وقيادة جديدة. محجوب و محيميد و مصطفى سعيد هم بلا شك يمثلون تلك الردود المتباينة على أكذوبة عبء الرجل الأبيض. كل منهم قد تردد في لحظة من حياته بين ود حامد و بين السراب الأجنبى، بعضهم خطى خطوات واسعة في البعد عن ود حامد و بعضهم أمسك العصا من وسطها، و بعضهم انحاز إلى ود حامد جملة و تفصيلا، و كان لميلاده و مشروع حياته معنى متكاملا كما هو الحال عند محجوب، صحيح هو لم يواجه بكل قلق الأكذوبة والألم العميق الذي يدركه المرء الذي يعى اكذوبة دوره في الحياة، ربما كان لذلك القلق والألم قدرة على تكثيف النضج و جعل صاحبه أكثر قدرة على فهم الآخر، لكن المحصلة النهائية لكل ذلك هو الشخص المستلب أو الأكذوبة انما هو شخص برغم كل الوعى الذي حازه الا انه قد خسر نفسه. و عليه يبقى محجوب النموذج الأكثر تماسكا والرد الأكثر ندية و فهما لمنطق ود حامد في مواجهة الغرب. فهو لا يحتاج إلى فرصة أخرى ليعمل عملا صالحا أو ليصير مشروع حياته نهبا للتسويف و الاعتساف، كما حدث لمصطفى سعيد.
    يأتى بعد ذلك ميلاد ضو البيت، وهو ميلاد متعلق أيضا بعبقرية ود حامد في جذب الأخر وكسبه إلى جانبها. ضو البيت أتى منتميا إلى ود حامد دون تاريخ أو تجارب تمنعه من البقاء و التفاعل مع أهلها و الاندماج في اجتماعهم البشرى، فالغزو التركى المصرى للسودان واحدة من أكثر القضايا حساسية، لكن ميلاد ضو البيت في ود حامد بالصورة التي صورها الطيب صالح يجعل من ذلك الأمر أكثر شاعرية و ايجابية، فتجاوز هذا الأمر التاريخى الحرج على مستوى الشعر: بالحديث عن المستوى الأكثر عمقا و خطورة في الاجتماع البشرى هو الذي جعل ميلاد ضو البيت في ود حامد يضئ كثيرا من المعانى الغائبة حينما يدرس التاريخ في مستواه السياسى السطحى.
    وعلى أية حال، فقد اختار ضو البيت ود حامد اختيارا واعيا و كاملا و اندمج بالكلية فيها، الفرق بينه و بين مصطفى سعيد أن الأخير لم يطلق عالم جين موريس نهائيا، لقد كانت تلك الغرفة الخاصة التي بناها في بيته في ود حامد دلالة واضحة على حنينه لماضيه. أما ضو البيت أتى لود حامد بدون هوية باحثا عن هوية ومعنى جديد في حياته، لقد راقت له ود حامد و ألف طرائق العيش فيها وصار جزءا منها. و ضو البيت هو مؤشر لامكانات الصراع الداخلى في اطار الحضارة العربية الإسلامية، وقدرتها على قبول التعدد العرقى واللغوى و سعيها للتوحيد على آصرة العقيدة لا على أساس سوق الأوراق المالية. فعبقرية المكان في ود حامد لم تنجح ـ فقط ـ في كسب أبنائها بعد طول الشتات، و انما نجحت كذلك في كسب أناس آخرين مثل ضو البيت رأوا فيها مكانا يكرم فيه الضيف ويلجأ اليها في الشدة. اذًا هى ليست نداء قويا لأبنائها في الشتات، وانما لها جاذبية خاصة تدعو الآخر ليصير جزءا من مشروعها الانسانى. ذلك هو النجاح، وأى نجاح بعد هذا؟ ان كان المشروع الاستعمارى قد خطط بجد لربطها بالسوق العالمى عن طريق ربطها بالمدن الأكبر منها في البلاد و تدمير مقدراتها الثقافية و الاقتصادية باسم التنمية، فان ود حامد نجحت في تحقيق تنمية قائمة على منطقها الداخلى و حاجة أهلها كما فهمها محجوب و ضو البيت، و كذلك نجحت بصورة جزئية في انهاء حالة الشتات لبعض أبنائها، و ذهبت لأكثر من ذلك باستقطابها للعناصر القوية في الاطار الجغرافى الإسلامى.
    أما ميلاد بلال فكان ذلك لمعالجة أكثر الأمور حساسية في تاريخ الاجتماع البشرى في السودان، وهو أمر مؤسسة الرق. و كان ميلاد بلال الطبيعى و الاجتماعى هما محاولة لتقديم رؤية جديدة لتلك المؤسسة، فموقع بلال في المساحة الاجتماعية و الدينية للقرية بعد ميلاده الاجتماعى يذكرنا بالرجل الصالح ـ ود حامد صاحب القرية ـ فهو رمز لكل القرية لوجودها و خيالها الدينى، لكنه مثل بلال كان عبدا مملوكا، ربما كان بلال أفضل منه ـ بالمقاييس الاجتماعية السائدة حينذاك ـ لأنه ينتمى من جهة والده إلى واحد من بيوتات القرية ذات النسب.
    الشئ الذي يدعو إلى التأمل هو موقع النزعة العرقية في أنفس أهل القرية، و إلى أى مدى يرون أنفسهم من سلالة أو عرق مغاير لأعراق عبيدهم؟ و ما هى التبعات الاجتماعية و الاقتصادية و الدينية لهذه النزعة في فهم الذات في مواجهة الآخر؟ بلا شك بلال هو واحد من النماذج لكنها أسوأ نموذج يمكن أن تنتجه مؤسسة الرق ـ كان عبدا هملا ـ بالرغم من كل ذلك كانت هناك آفاق من الريادة الدينية و الاجتماعية والاقتصادية ـ بالطبع ـ تنتظره. صحيح أن القرية في زمان بلال قد حدثت فيها تغيرات أساسية ـ على مستوى وعى النص بالمؤسسة الدينية ـ في التعبير عن المؤسسة الدينية، حيث صار الشيخ نصر الله ود حبيب ـ وهو قطب زمانه ـ اماما للجامع. بالطبع فان الحقبة التاريخية التي عاش فيها بلال كانت سابقة لفترة عرس الزين، برغم أن قصة عرس الزين سبقت قصة بندر شاه (مريود). لكن على أية حال اذا نظرنا إلى النصين فان قرية ود حامد كانت أحوج ما تكون للتصالح و التوحد في زمان عرس الزين بسبب الانقسامات و الثنائيات التي كان يعيشها المجتمع. أما في بندر شاه (مريود) فالوحدة كانت السمة الغالبة، فالمؤسسة الدينية لم تنقسم على نفسها بعد، ولذلك كان المجتمع أكثر قدرة على اخراج نماذج تتجاوز ثنائيات العبد / السيد، بل و تستبدل ذلك النموذج بجدلية يكون فيها العبد عبدا و سيدا ويحقق معانى تسيده عن طريق كمال عبوديته.
    أخيرا، فان مسألة الميلاد في أدب الطيب صالح تعبر عن اشكال التعقيد و التوتر بين المطلق و المتجذر، و كيف يمكن التعبير في المستوى الاجتماعى أو الميتافيزيقى عن الميلاد، فالوعى التاريخى عند أهل ود حامد يسمح بأن يعطى الشخص فرصة ثانية لكنه يتخذ طقوسا لجعل ذلك الميلاد الثانى ممكنا على الصعيد الاجتماعى. اذ يمكننا القول بأن البناء الاجتماعى في ود حامد له آليات طقوسية لقبول الشخص مرة ثانية والتعامل معه على أساس الميلاد الجديد، او ما أسميناه بالميلاد الاجتماعى، اذ ان هذه المرونة الاجتماعية تدل على قدرة فائقة على قبول الآخر برغم الثبات الظاهرى في حالة الاجتماع البشرى في ودحامد.








    الفصل الثاني
    الزواج

    1. :
    تتداخل في معنى الزواج قضايا متعددة تمثل أمورا أساسية في صلة الأنا بالآخر، على مستوى الحب أو مستوى الجنس. الأدب الذي يتحرك الطيب صالح من خلاله هو أدب له رؤيته لمعنى الجنس و الحب.
    ان الرؤية الدينية في الأساس تنطلق من عاطفة الحب، و هى ذات العاطفة التي تكتمل بها رؤيتنا للآخر. لكن للجنس دورا آخر هو تفريغ هذه الصلة من معنى العبودية إلى معنى الاستعباد، فالوله الذي يجده المحب يتحول في صلة الجنس إلى معنى للقهر والامتلاك. فكلاهما: الجنس والحب، معانى فيها من التطرف و الغلو الذي يجعل المحل الذي يشغله أى منهما عاجز عن احتمال أكثر من وجود في داخله، لذلك إما أن ينفى الآخر ـ في حالة الجنس ـ أو يفنى هو في ذات المحب، في حالة العشق.
    حاول الطيب صالح التعبير عن هذه المعانى من خلال فهم فرويدى للجنس، و فهم وجودى صوفى للحب. كل ذلك عبر عنه في مؤسسة في غاية الحساسية و التعقيد في ظل الثقافة العربية و الإسلامية، تلك هى مؤسسة الــزواج.
    نختار ـ من بين نماذج العرس التي ظهرت في أدب الطيب صالح ـ عرس الزين و نعمة بيت حاج ابراهيم، و عرس عشا البايتات و بنت الناظر، ليمثلا معا وجها من مؤسسة الزواج، و زواج مصطفى سعيد من جين موريس، وود الريس من حسنة بنت محمود لتمثيل وجه آخر لتلك المؤسسة، ثم زواج بلال من حواء بنت العريبى كوجه ثالث لنفس المؤسسة.
    كان حدث العرس (عرس الزين / عرس عشا البايتات) عند كليهما قبولا و تتويجا لهما في السياق الاجتماعى الذي عمل ردحا من الزمان على تجاهل المساحة الاجتماعية التي يحتلها أى منهما. لم يأخذ الناس الزين وكلامه مأخذ الجد، و انما هو مهرج يصلح فقط لإضحاك الآخرين واكتشاف الجمال في القرية والترويج له، لكن أن يكون له الحق في ان يُستمع إلى صوته كما يستمع لأقرانه فذاك امر بعيد المنال ولا يسعه الخيال الاجتماعى في القرية. كذا الحال بالنسبة لعشا البايتات، فهو على هامش الحياة يكد و يكدح طوال يومه، لكن لا أحد يعترف بوجوده الاجتماعى، خاصة اذا أراد أن يكون صهرا للناظر، الذي يمثل جزءا من ارستقراطية ود حامد، والتى بالطبع لا تحفل بوجود عشا البايتات الا اذا كان مؤديا لها فروض الولاء و رافعا عنها عنت و مشقة الحياة في ود حامد، أما كونه انسانا له مطالب و أشواق مثلما لبقية أهل ود حامد فذاك أمر لا يصبر عليه.
    كلاهما ـ الناظر وامام الجامع ـ يمثلان ذلك الوجود الاجتماعى الذي لا يرى في الآخرين الا درجات تستخدم ليرتفى بها إلى المجد. و أراد الطيب صالح بزواج الزين و عشا البايتات أن يبين ضعف تلك الاسطورة الاجتماعية، وانها ما نشأت الا بحبل من الناس، وان كليهما ـ الناظر والامام ـ أضعف في ميزان الحق في مواجهة القيم الانسانية التي يمثلها الزين و عشا البايتات. لم يكن أحد يتصور أن يفضل الزين على الناظر أو امام الجامع، و ان يكون الاعتراف الاجتماعى بالزين برغم أنف الناظر و امام الجامع. و ما من أحد يصدق أن الناظر سيرضخ ويكون البوابة التي من خلالها يدخل عشا البايتات إلى آفاق المجد الاجتماعى، و أن يكون أول من يعترف بوجود عشا البايتات اجتماعيا في ود حامد هو الناظر الذي سيصير عشا البايتات صهرا له.
    أما زواج مصطفى سعيد من جين موريس، وزواج ود الريس من حسنة بنت محمود فذلك يمثل معنى آخر للزواج، فيه تتجلى علاقات الصراع والقهر و محاولات استخدام الجنس للتعبير عن تلك المعانى، فيقع العنف و العنف المضاد في محاولة يائسة لامتلاك الآخر، هذه الأنانية الفائقة تستخدم رموز التراث و الصراع بين الشمال والجنوب أو المستعمِـر و المستعمَـرلاضفاء معانى وقيم نبيلة على ذلك الصراع لتبرير تلك الوحشية وذلك الاصرار.
    فمصطفى سعيد ما جره للزواج من جين موريس الا فشله و انكساره تجاهها: هى ذلك الوجه القبيح له، هى تلك النقاط المظلمة فيه، هى الرغبة المقيتة في قهر الآخر. لكن حين يعى ذلك الآخر بتلك الرغبة أو يكون هو تجسيدا لتلك الرغبة، حينئذ لن تنفع أى محاولة للخداع، و تكون مؤسسة الزوجية أخطر العلاقات التي يمكن أن يعبر فيها عن ذلك الصراع الدفين. صراع ليس فيه ضحية و معتدى، فالضحية مشارك في فعل الصراع ومثير للعدوان. و يتكرر هذا الأمر مرة أخرى في زواج ود الريس من حسنة بنت محمود، فود الريس قد حركه ذلك الشبق الغالب في احتواء الآخر، لكنه أفصح عنه بأنه: يريد الزواج من أرملة مصطفى سعيد، فهذا أمر تقبله تقاليد القرية و أعرافها، فهو ما طلب معصية ولا خروجا عن تلك التقاليد، بل يُرى النبل في فعلته تلك، ويُرى سوء الأدب في رده على أعقابه. لكن حسنة بنت محمود كانت تريد شيئا آخر لأنها رأت في طلب ود الريس ذلك الوجه القبيح من طلبه. هذا الصراع بلاشك لا تحتمله مؤسسة الزواج. فود الريس قد رأى انكساره و فشله في قهر الآخر في عينى حسنة بنت محمود، رأى ذلك مجسدا في رفضها له، وقد رأت فيه معانى قهر الآخر عن طريق استخدام أنبل القيم، كلاهما ضحية و قاتل، و الجنس هو المخرج للتعبير عن هذا السقوط الاسطورى.
    مصطفى سعيد رأى في زواجه من جين موريس خاتمة لغزواته الجنسية ضد الشمال، رأى في ذلك تتويجا خادعا لانتصاراته على الغرب. لكن ذلك الأمر لم يدم طويلا فسرعان ما اكتشف أكذوبة ما يمثله و أكذوبة ما يتعلل به في البقاء في ساحة المواجهة مع الغرب، فلا هى تمثل الشمال و لا هو يمثل الجنوب، كلاهما جنون شبق لتحطيم الآخر. كلاهما يسعى لصيغة قانونية لتبرير انحطاطه.
    أما ود الريس فقد عبر بلسان ذلق عن غزواته الجنسية شرقا و غربا و جنوبا و شمالا. و جمع بين أصناف النساء باسم مؤسسة الزوجية كان يبحث عن معنى قهر الآخر و اكتشاف الآخر لذلك القهر، لكنه لم يرَ ذلك الأمر في كل زيجاته على تعددها و اختلافها. فهو برغم تعوده على أفخاذ النساء الا ان بغيته كانت شيئا آخر، كانت حلما مريضا في قهر الآخر والتلذذ باكتشاف الآخر لذلك المعنى. كانت حسنة بنت محمود أقدر الناس على الوعى باختلال هذه العلاقة و بالبعد الدموى الذي تحتويه، كانت ضحية لعدوان ود الريس، ومثيرة لذلك العدوان بخروجها على أعراف و تقاليد القرية المرعية. و صارت مؤسسة الزوجية ساحة للصراع بين الماضى و الحاضر، و محلا لتوجيه ذلك العنف الاسطورى ضد الآخر.
    أما زواج بلال من حواء بنت العريبى فذلك معنى آخر لصلة الأنا بالآخر، فهى صلة من لا همة له بالنساء لانشغاله بحاله عمن سواه، ولا يقدر على لفت نظره إلى الحكمة من الشهوة الا من تجلت في نفسه لطائف القدرة الإلهية وصفاء الحكمة في جعل الصلة بالآخر مودة وسكنا، لا يُلزم النفس بالوقوع في حرب مفتعلة بين العشق و التوحيد، فان إرادة المحب تتجه بكليتها إلى الحبيب الأول، لكنها تطيعه في الانصياع لمحاسن الفطرة من التزوج دون الوقوع في آفة الزواج وهى الانشغال عن الحبيب الأول، والا يكون الزواج آلة للشيطان ومطية لتغير الوجهة، وانما هو أمر جُـعل حتى يفرغ القلب لما هو أهل له وهو كمال الذكر و دفع غائلة الشهوة و العنت بالترغيب في النكاح. تلك معانى دارت في خلد بلال حينما قبل الزواج بحواء بنت العريبى، بعد توجيه شيخه له على سبيل المقارنة بين حبها له و حبه لله، حتى يتضح معنى الحب في ذهنه، وتلك القيم وعتها حواء بنت العريبى بسبب خبرتها بعاطفة الحب الخلاق من خلال طول اختبارها لأنواع الرجال واحوال نزواتهم. فهى أفضل من وعى موقع الآخر في الحب، و كانت أقدر الناس في
                  

العنوان الكاتب Date
شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى bayan03-04-05, 08:01 AM
  Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى bayan03-04-05, 08:09 AM
    Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى bayan03-04-05, 08:12 AM
      Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى bayan03-04-05, 08:14 AM
        Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى bayan03-04-05, 08:22 AM
          Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى bayan03-04-05, 08:25 AM
            Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى bayan03-04-05, 08:28 AM
  Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى jini03-04-05, 09:58 AM
    Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى bayan03-07-05, 08:43 AM
  Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى WadalBalad03-04-05, 10:08 AM
    Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى jini03-05-05, 01:40 PM
    Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى bayan03-07-05, 08:48 AM
    Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى jini03-07-05, 10:26 AM
  Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى WadalBalad03-06-05, 02:55 AM
  Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى Agab Alfaya03-06-05, 06:58 PM
    Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى bayan03-07-05, 08:53 AM
      Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى محمد عكاشة03-08-05, 00:55 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de