شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-04-2024, 02:52 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة د.نجاة محمود احمد الامين(د.نجاة محمود&bayan)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
03-04-2005, 08:12 AM

bayan
<abayan
تاريخ التسجيل: 06-13-2003
مجموع المشاركات: 15417

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى (Re: bayan)


    "وروجت ام الزين ان ابنها ولى من أولياء الله وقوى هذا الاعتقاد صداقة الزين مع الحنين" (عرس الزين: 35)، بالاضافة إلى تلك الانسانية الفائقة والصداقة الغريبة التي تربطه بعشمانة الطرشاء وموسى الأعرج وبخيت الذي ولد مشوها ـ واحسانه اليهم وسعيه في بذل أقصى جهده لخدمتهم وذلك الامر يجعل أهل القرية يقولون: " لعله [أى الزين] نبى الله الخضر، لعله ملاك أنزله الله في هيكل آدمى زرئ ليذكر عباده ان القلب الكبير قد يخفق حتى في الصدر المجوف والسمت المضحك كصدر الزين وسمته" (عرس الزين: 37). لكن الزين لا يجعل تلك الصورة ـ الدينية ـ المهيبة عنه تستقر في أذهان أهل القرية كثيرا اذ ان صوت الزين لا يلبث ان يرتفع مناديا: "يا أهل الفريق يا ناس الحلة انا مكتول" فتحطم هذه الصورة وتعود صورة الزين التي يألفها الناس ويؤثرونها (عرس الزين: 37).
    إذًا ميلاد الزين كان يحمل ـ في طياته ـ مشروعين: مشروع المهرج الأثير لدى شباب وفتيات وأطفال القرية والذى يضحك ولا يضحك بمرح! والذى يكتشف الجمال للآخرين ولا يستطيع ان يناله. والمشروع الثانى هو مشروع صاحب الهم الاجتماعى تجاه المستضعفين او قل نبى الله الخضر او احد اولياء الله الصالحين. استمر الزين يؤدى مهام المشروعين دون كلل، لا يرسخ في أذهان أهل القريةمشروعا دون الآخر. فهو الزين المهرج والولى الصالح في ذات الوقت، هو الزين الذي تتوحد عنده المتناقضات: لذلك أفلح في جمع كل المعسكرات المتعارضة والمتشابكة في عرسه.
    وعكس جملة اهل القرية كان الحنين ونعمة يأخذونه مأخذ الجد، وكذلك كان سيف الدين وامام الجامع يأخذونه مأخذ الجد ولكن من منطلق آخر. كان الحنين ونعمة وسيف الدين وامام الجامع ينظرون اليه بعين غير تلك العين التي يراه بها أهل القرية، وكان لتلك النظرة أهمية بالغة في تطور شخصية الزين. فسيف الدين لم يفهم عبث الزين وتعامل معه بجدية أخرجت العبث عن معناه الاجتماعى، ولذلك فقد رد سيف الدين على عبث الزين تجاه اخته في يوم عرسها ـ حيث قام بضرب الزين بالفأس على رأسه. وكذلك امام الجامع كان يقول عن الزين ان " الناس افسدوه بمعاملتهم له كأنه شخص شاذ، وان كون الزين ولى صالح حديث خرافة، وانه لو ربى تربية حسنة لنشأ عاديا كبقية الناس" (عرس الزين: 101)، وكان الزين يبادله بغضا ببغض " لكن الزين في موضوع الامام كان معسكرا قائما بذاته، يعامله بفظاظة، واذا قابله قادما من بعيد ترك له الطريق" (عرس الزين: 100)، من الواضح ان الزين شخص لم يعرف الكره في حياته، ولكنه في مواجهة الامام " لعل الامام الشخص الوحيد الذي يكرهه الزين، كان مجرد وجوده في مجلس يكفى لاثارته فيسب ويصرخ ويتعكر مزاجه ويتحمل الامام في وقار هيجان الزين" (عرس الزين: 100). من الواضح كذلك ان شخصية الزين تتغير تماما حينما تكون في حضرة الامام، صحيح ان هذا التغير يحدث كذلك حينما يظهر الحنين او نعمة، لكن الفارق شاسع بين التغيّر في الحالتين.
    اذن ميلاد الزين الاول كان محوره الضحك وهدفه تكريس دور المهرج في شخصية الزين، برغم ان ذات الميلاد بالكيفية التي تم بها وكذلك التطور الجسمانى للزين كان يمكن ان يقود إلى خلق شخصية الولى الصالح او نبى الله الخضر في سلم علاقات القوى الاجتماعية والدينية في القرية، لكن كان لا بد من مخاض جديد يؤدى إلى ميلاد جديد يؤهل الزين ليلعب الدور الجديد المناط به. يأتى هذا الميلاد الجديد مصاحبا لتغيرات كونية واجتماعية ودينية في ود حامد يستعصى على الذهن فهمها دون اللجؤ إلى الحديث عن الكرامات. فسقوط الجليد في منطقة صحراوية وموافقة الحكومة على اقامة مشروع زراعى في ود حامد، وبناء المدارس والمستشفيات فيها وكذلك ما حدث من تغيير في سيف الدين. كل هذه التغيرات بالاضافة إلى احساس الناس بالبركة، تلك الكلمة ذات الشفافية الفائقة في نفوس اهل القرية والتى عمت كل مناحى الحياة في ودحامد.
    يمكننا القول بأن الميلاد الثانى للزين قد جاء بعد اقصى لحظات العنف الذي مارسه الزين ضد سيف الدين ـ " وفى ضوضائهم سمعوا شخيرا يصدر من حلق سيف الدين، رأوه يضرب برجليه الطويلتين في الهواء. وصاح محجوب مات. كتلته" (عرس الزين: 65). بالرغم من ان الرجال الستة ـ الذين حضروا الحادث ـ قد فشلوا تماما في انقاذ سيف الدين من بين يدى الزين، الا ان ظهور الحنين وقوله للزين: "الزين المبروك، الله يرضى عليك" (عرس الزين: 65)، قد فعل فعلته في الزين "وانفكت قبضة الزين ووقع سيف الدين على الارض هامدا ساكنا، ووقع الرجال الستة دفعة واحدة، فقد فاجأهم صوت الحنين وباغتهم الزين بسكوته المفاجئ، فكأن حائطا أماهم كانوا يدفعونه، انهد بغتة ومضت برهة قصيرة جدا.." (عرس الزين: 65)، تلك هى لحظة الميلاد الجديد"بعد ذلك جاشت الحياة فيهم مرة أخرى وتذكروا سيف الدين. انكبت رؤوسهم عليه. ثم صاح محجوب بصوت فرح مرتعش (الحمد لله).." (عرس الزين: 65)، ثم قاموا باعادة الحياة إلى سيف الدين "وفى أصوات متوترة خافتة اخذوا يعيدونه إلى الحياة، حينئذ فقط تذكروا الزين" (عرس الزين: 65). وبالطبع كان هنالك شخص آخر يتولى أمر الزين، ليخرجه إلى ميلاده الجديد "فرأوه جالسا على مؤخرته ويداه بين ركبتيه مطأطئا رأسه. وكان الحنين قد وضع يده على كتف الزين في حنان بالغ" (عرس الزين: 65).
    ثم كانت نبوءة الحنين "كل البنات دايرتنك يا المبروك، باكر تعرس أحسن بنت في البلد دى" (عرس الزين: 65)، وحينما يؤكد هذا الامر الحنين في رده على محجوب ـ وهو الوحيد الذي استنكر حدوثه ـ يبدأ ميلاد الزين بضحكة أخرى " وفجأة ضحك الزين ضحكة بريئة، ضحكة طفل، وقال: "كت داير أموته. الحمار الدكر، يفلقنى بالفأس عشان أخته دايرانى انا؟"، ويتدخل الحنين بحزم ليبدأ الميلاد الجديد بمنطق جديد "دحين دايرنك تصالحوا"، "خلاص الفات مات، هو ضربك وانت ضربتو.." (عرس الزين: 67). ذلك الضحك ـ الذي يثير الضحك ولا يصدر عن مرح ـ والذى كان سمة للزين تحول إلى ضحك فيه رنة مرح وسرور بعد ميلاد الزين الثانى، حينما سأله الحنين: "متين سيف الدين ضربك بالفأس في رأسك؟" فأجاب الزين ضاحكا ووجهه مشبع بالمرح: "وقت عرس أخته" (عرس الزين: 67)، ويتكثف الامر بصورة أكثر وضوحا في النص التالى والذى تكمن أهميته في أنها المرة الأولى التي ينال فيها الزين ما يريد ممن قتلنه حبا، الان هو قتيل حوش حاج ابراهيم، ولن ينال احد غيره الزواج منها "وشرب الزين الشاى... وفجأة وضع الكوب من يده ثم ضحك وقال في سرور: "الحنين قال لى قدامكم كلكم باكر تعرس احسن بت في البلد دى" (عرس الزين: 112). ثم وقع شئ آخر هو ان الزين لم يعد موضع سخرية وضحك بل تحول إلى معان أخرى أجل من ان تكون مثار عبث وسخرية الآخرين "خلاصة القول ان حاج ابراهيم أعلن النبأ فجأة. وكأن الناس كانوا يتوقعونه بعد حادث الحنين. الغريب ان احدا لم يضحك او يسخر ولكنهم هزوا رؤوسهم وزادت حيرتهم وهم ينظرون إلى الزين ـ ينظرون اليه فيتضخم في نظرهم" (عرس الزين: 177).
    فيحدث الصلح والسلم الحقيقى بين الأشياء والأحياء والذى يفضى إلى
    تغيرات كونية واجتماعية وسياسية في ود حامد، هو ليس صلحا مرحليا تتوجس فيه الاطراف خيفة من مستقبل أيامها، ولكنه صلحا نهائيا تستأصل فيه شأفة الشر وتحسم مادته، ذلك هو الصلح الذي يبدأ بالاصلاح، وتدخل فيه النفس في سلام داخلى مع نفسها، تذهب تلك الروح القلقة التي كانت لدى الزين إلى غير رجعة، وكذلك يحدث ميلاد جديد لدى سيف الدين، الذي اعتقد انه في لحظة ما حينما ضيق عليه الخناق "في هذا الوقت، يقول سيف الدين انه رأى الموت وجها لوجه. ويجزم عبد الحفيظ وقد كان أقرب الناس إلى سيف الدين حين عاد إلى وعيه، ان أول كلمات فاه بها حين جاش النفس في رئتيه من جديد، اول شئ تفوه به حين فتح عينيه، انه قال: "أشهد ألاّ إله إلاّ الله وأشهد أنّ محمداً رسول الله" (عرس الزين: 72). ذلك بلا شك ميلاد جديد لسيف الدين تكثفت فيه اللحظة الدينية لتخرج الحى من الميت، لتخرج أفقا جديد من طيات حياة خربة "ومهما يكن فمما لا شك فيه ان حياة سيف الدين، منذ تلك اللحظة، تغيرت تغيرا لم يكن يحلم به أحد.." (عرس الزين: 72).
    هناك نقطة جوهرية: وهى أن الرجال الذين حضروا تلك الليلة التي حدث فيها الصلح بين الزين وسيف الدين قد أمسك كل واحد منهم بيد الحنين في صمت مهيب وقبلها " وقال الحنين بصوته الرقيق الوديع: "ربنا يجعل البركة فيكم" (عرس الزين: 6. ثم اختار الحنين أن يذهب مع الزين وان يرفض بلطف دعوة محجوب للعشاء "العشا في بيت المبروك. وغابا معا في الظلام، رف على رأسيهما برهة قبس من ضوء المصباح المعلق في دكان سعيد، ثم انزلق الضوء كما ينزلق الرداء الحريرى الأبيض عن منكب الرجل.." (عرس الزين: 6. بهذه الصورة الشاعرية وفى لحظة يتسارع فيها الزمان دون ان يدرك محتواها الوجودى، ذهب الحنين إلى حاله بعد ان اكتملت مهمته، فالحنين لم يؤذن له بحضور العرس، فهو قد حمل النبوءة بهذا العرس وقد مهد له بالميلاد الثانى للزين، وانحاز إلى معسكر الزين حينما رفض دعوة معسكر محجوب للعشاء، ومعلوم محورية معسكر محجوب في قيادة القرية وتدبير أمرها.
    كان عام الحنين يمن على الجميع في مختلف المجالات، كانت بدايته معجزة سيف الدين وانصلاح شأنه، وختامه عرس الزين ـ الذي سنفصل القول فيه حينما ننتقل إلى ذلك المستوى من التحليل الاجتماعى ـ "كانت معجزة سيف الدين بداية لاشياء غريبة تواردت على البلد في ذلك العام" (عرس الزين: 80). بعد ميلاده الجديد تغير سيف الدين تماما ـ فيما يشبه المعجزة ـ لكن ليلة الحادث نفسها كانت ليلة غير عادية في كل القرية. ونريد ان نركز في الأذهان هذا الامر البالغ الخطورة في تحليلنا للنص التالي "ويذكر الناس الذين لم يسعدهم الحظ بحضور الحادث لأنهم كانوا يتهيأون لصلاة العشاء في المسجد ان الامام تلا في تلك الليلة، حين صلى بهم، جزء من سورة مريم. وحاج ابراهيم والد نعمة وهو رجل مشهود له بالصدق يذكر تماما ان الامام قرأ الآية: {وهزى اليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا} من سورة مريم، وهى آية فيها الخير والبركة" (عرس الزين: 81). من المعلوم ان هذا الجزء من سورة مريم فيه وصف دقيق لقصة الميلاد الوحيدة التي فصلها القرآن الكريم، حيث ان مريم ابنة عمران قد بين القرآن الكريم قصة ميلاد ابنها المسيح عيسى بن مريم، كذلك قد تولى القرأن تفصيل شأن ميلاده لأهميته الدينية عند المسلمين في محاجتهم لأهل الكتاب حول طبيعة المسيح. ولعل هذه التوافق بين الميلاد الثانى للزين وسيف الدين وتلاوة هذه الآيات بالمسجد له دلالة عميقة على فكرة الميلاد هذه.
    إن ميلاد الزين الأول "ميلاده الطبيعى" كان تمهيدا لميلاده الثانى "ميلاده
    الاجتماعى"، ولا يفهم ميلاد الزين الثانى الا في اطار صلته بسيف الدين ومعسكر الامام فيما بعد، فان كانت رواية عرس الزين قد بدأت من نقطة النهاية: حدث عرس الزين، فان كلا الميلادين كان مقدمة منطقية لحدث العرس. فالميلاد الأول قد بدأ بضحكة بدل الصراخ، لكنها كانت ضحكة دون مرح، مهدت لمشروع المهرج في شخصية الزين الذي يضحك الناس دون ان يتسرب إلى نفسه المرح، ثم بدأ ميلاده الثانى بعد بشارة الحنين بأنه سيتزوج "أحسن بنت في البلد دى"، فيضحك الزين ضحكة طفل برئ، كلها مرح وثقة في المشروع القادم من حياته هو مشروع لم الشمل والتوحيد بين المعسكرات والأضداد التي لا تجتمع الا على يده "والزين واقف في مكانه في قلب الدائرة بقامته الطويلة وجسمه النحيل، فكأنه صارى المركب.." (عرس الزين: 12.
    خلاصة الأمر، أننا في رواية (عرس الزين) قد انتقلنا من مرحلة الميلاد الميتافيزيقى كما هو الحال في قصة (دومة ود حامد) إلى مستويين آخرين من الميلاد في مشروع الطيب صالح، هما الميلاد الطبيعى والميلاد الاجتماعى لشخص بلحم ودم، لشخص يسميه شيخ الحنين "المبروك" ويسمى هو شيخ الحنين في حياته "الراجل المبروك". ولا أحد يعرف عن أبى الزين شيئا سوى أنه أخ لحاج ابراهيم والد نعمة. كما واننا لا نعرف من هو أبو الزين، كذلك يسكت النص تماما عمن يكون أبو الحنين؟. لكن الزين في ليلة عرسه ـ حينما تجده مجموعة محجوب عند قبر الحنين ـ يقول، في صوت يقطعه النحيب: "أبونا الحنين ان كان ما مات كان حضر العرس" (عرس الزين: 127). وكون الزين قد وصف الحنين بأنه أب للجميع فهذا الوصف له دلالته العميقة في أن الحنين اب للزين في ميلاده الثانى! وهذه الابوة لها أهميتها في الدور الذي لعبه الزين، فهذا الابن "المبروك" قد نقل البركة عن "الراجل
    المبرواك" في عام يفيض يمنا وبركة على أهل ودحامد.
    والأهم من ذلك كله هو ان الزين نجح في جمع كل المعسكرات في عرسه في تصالح فريد من نوعه. نجح في كسر ثنائية الدين الرسمى/المؤسسة الصوفية، وقد نجح كذلك في توحيد القسمة الدينية في ود حامد: (المؤسسة الصوفية/الدين الرسمى)، حيث ان الامام كان واضحا في موقفه تجاه الحنين "لم يحفل الامام بأن الحنين وهو يمثل الجانب الخفى في عالم الروحانيات (وهو جانب لا يعترف به الامام) كان هو السبب المباشر في توبة سيف الدين (عرس الزين: 102). وبالرغم من رأى الامام الواضح في زواج الزين من نعمة بنت حاج ابراهيم الا أنه أخيرا خرج عن اهابه "أجرى الامام مراسيم الزواج في المسجد" (عرس الزين: 119)، وقال امام الاشهاد: "ان الجميع يعلمون انه عارض هذا الزواج، اما وان شاء الله له ان يتم فهو يسأله سبحانه أن يجعله زواجا مباركا.." (عرس الزين: 119)، وتعجب الناس غاية العجب حين "رأوا الامام يمشى نحو الزين ويضع يده على كتفه فالتفت اليه الزين بشئ من الدهشة. أمسك الامام يده وشد عليها بقوة وقال بصوت متأثر: (مبروك، ربنا يجعله بيت مال وعيال) " (عرس الزين: 119). اذا ميلاد الزين الثانى جعله مؤهلا لذلك الدور الخطير في كسر ثنائية (المؤسسة الصوفية/الدين الرسمى)، والذى لم يقم به الحنين نفسه في حياته.
    2ـ3 ميلاد مصطفى سعيد:
    الكتابة عن ميلاد مصطفى سعيد عثمان تستدعى أفكارا كثيرة كلها تأتى دفعة واحدة يصعب على المرء تنظيمها: من اين تبدأ؟ وما هى العلاقات التي يمكن ان تنشأ بين الأفكار المتداخلة لترسم لنا صورة أقرب للحقيقة عن ميلاد "أكذوبة مصطفى سعيد"؟ تلك الأكذوبة المؤثرة والفاعلة في الحياة من حولها.. هل كان هنالك حقا مصطفى سعيد؟ ام أنه اكذوبة؟
    هذا الوهم يبعث الحيرة والانتباه إلى معنى الميلاد حينما يتعلق بميلاد شخص كمصطفى سعيد، الحيرة التي تجئ بسبب ان مصطفى سعيد هو الوحيد الذي يمتلك تاريخا مدونا لميلاده، لديه شهادة ميلاد تقول بأنه ولد يوم 16 أغسطس1898م، لكن برغم ذلك نحن أمام وهم كبير او احتمال مريع هو اننا امام اكذوبة وجودنا الذي برغم وجود الوثائق التي تؤكده الا انه قد تناسل من رحم ملئ باحتمالات الوهم. كل ذلك يجعلنا ننظر بنوع من الحذر والانتباه لمعنى الانتقال من مرحلة الشفاهة إلى الكتابة، ان لم تكن هنالك أسباب تتخذ ليكون لذلك الانتقال معنى ضمن معان أخرى، فسوف يؤدى الامر إلى تشويش وتخليط شديد، حيث ان مرحلة الشفاهة لها عالمها ولها دلالاتها، ومعانيها الخاصة بها، وكذا الأمر بالنسبة لمرحلة الكتابة لها رموزها التي لا تأخذ معانيها الا من خلال نسق الكتابة نفسه.
    لكن مصطفى سعيد كان يمثل فوضى الانتقال من الشفاهة إلى الكتابة لذلك كان ميلاده أكذوبة ووهما كبيرا، يستعصى على الفهم ولا يورث الا الفوضى، يزعجه النظام ويستبد به العبث، ونحن نعلم ان الميلاد هو تقيد بسلسلة نسب والتزام بشرائع تنشئة تفرض فروضا وطقوس رسوم يرثها الأبناء عن الآباء والأجداد، وهى التي تقيد من معنى الحرية لدى الأبناء كما فعلت فعلتها مع الآباء، ولا مفر من ذلك البتة، فالطلاقة التي نحسها في أنفسنا تقف عند تلك القيود لتحدد هوية وتاريخ أى منا، فنحن أحرار في إطار ميلادنا الذي يمنحنا معانى جديدة لتلك الطلاقة، بل قل قيود تحدد معالم ذلك العبث، الذي تبعثه فينا طلاقة الميلاد المتحلل من القيود! لكن مصطفى سعيد كان نسيجا فريدا، فهو لم يقيده الميلاد، كان يحس في داخله بتلك القوى المدمرة، تلك الطلاقة أو الحرية القاتلة التي تحيل الوجود إلى اكذوبة إلى تحرر مطلق.
    لعل علاقة مصطفى سعيد بأمه تكون مدخلا مهما لفهم ذلك المعنى، فهو
    قد ولد دون ان تقيده قريش بأنسابها وأحسابها ـ كما يقول الفصحاء ـ لقد مات أبوه قبل ان يولد ببضعة أشهر ولم يكن له اخوة، كا هو وأمه اهلا لبعضهما البعض، لكن في ذات الوقت لم تكن صلته بأمه كصلة الابن بأمه، بل انه يقول: " كانت كأنها شخص غريب جمعتنى به الظروف صدفة في الطريق" (موسم الهجرة: 23). وشخص بهذه الكيفية لا بد وان تتكرس في نفسه نوازع الفردية وعدم الاحساس بالانتماء، بسبب ان الميلاد لم يكن يعنى ثمة شئ بالنسبة له، قد جاء إلى الحياة وهذا هو الحدث المهم، ولن يقيد مشروع حياته ـ فيما يبدو ـ ثمة شئ. سوف يقرر هو محتويات ذلك المشروع، لذلك نجده يقول: "أحس احساسا دافئا بأننى حر، بأنه ليس ثمة مخلوق، أب او أم، يربطنى كالوتد إلى بقعة معينة ومحيط معين" (موسم الهجرة: 23).
    يبدو ان مصطفى سعيد يمثل نموذجا مثاليا يمكن ان تتخذه الادارة الاستعمارية ـ في ذلك الوقت ـ لبيان خطتها في معنى عبء الرجل الأبيض، ها هو ذا شخص بلا تاريخ شخصى يصف نفسه: "كنت مثل شئ مكور من المطاط تلقيه في الماء فلا يبتل، ترميه على الأرض فيقفز" (موسم الهجرة: 24)، بالطبع فهذا هو الوصف المثالى لشخص يمكن لحركة الاستعمار أن تشكله بالكيفية التي تريد، فهو لم يتصل بميلاده بالسودان بقيد يجره إلى الصراع مع الاستعمار، هو من جيل ولد بعد انقضاء المهدية، ولم يتعلم الحذر من الاستعمار في البيت، وانما أقبل بكل روحه وطاقته على مدارس المستعمر.
    صحيح ان أمه لم تقل له شيئا حينما اختار الذهاب إلى مدرسة المستعمر ـ والتى كان الناس يخشون على أولادهم منها ـ وصحيح كذلك بأن أباه لو كان حيا لم يكن ليعترض على هذا الامر، لأنه من مجموعة قبلية كان لها دور نشط في انتصار المستعمر. لكن المهم في ذلك هو ان مصطفى سعيد يقول في شأن اختياره للذهاب إلى المدرسة "وكانت تلك نقطة تحول في حياتى. كان ذلك أول قرار اتخذته بمحض ارادتى" (موسم الهجرة: 25). نحن نقول بأن مصطفى سعيد قد اختار ذلك الطريق في بدايته، لكن كل الظروف كانت تمهد لذلك الاختيار، بل ان كل عناصر النجاح كانت تعاضد بعضها البعض ليبلغ مصطفى سعيد قمة النجاح الذي يمكن ان يتاح لشخص مثله.
    توالت من بعد تلك اللحظة التي اختار فيها مصطفى سعيد ان يدخل في المشروع الاستعمارى بكليته دونما تحفظ او تردد، فهو بحق كان وعاءً فارغا صبت فيه كل تجارب الرجل الابيض تجاه ابناء المستعمرات. استوعب تلك التجارب بطاقة مذهلة لأنه كان بميلاده معدا لذلك الدور. كان فاقد الانتماء للناس والأماكن. لم تكن الخرطوم ـ مكان ميلاده ـ سوى موضع ان عاجلا ام آجلا سوف يتركه إلى موضع جديد، وكذلك كانت القاهرة بالنسبة له، بل حتى لندن نفسها لم تكن سوى حلقة من حلقات ترحاله، برغم انها كانت تمثل النهاية الميلودرامية لذلك الميلاد الفريد.
    لكننا نلاحظ ان هذا الميلاد الذي أفضى إلى مشروع حياة فيها قدر وافر من الاستسلام للمشروع الاستعمارى ادى ـ في نهاية الأمر ـ إلى فعل مأساوى، خلق من مصطفى سعيد اكذوبة لم يقتنع هو نفسه بجدواها، وفعل المستحيل ليتخلص من تلك الأكذوبة. كانت النقطة المضيئة الوحيدة في صلته بنساء أوربا هى مسز روبنسون ـ زوجة ذلك المستشرق الذي استطاع بحكمته وانسانيته الفائقة ان يتخلص من ميراث الاستعمار والاستشراق و ينشئ علاقة مع الآخر تفضى لاعتناقه الإسلام ـ والتى استطاعت ان تلعب دور الأم الحقيققة له، لكنه لم يعترف بذلك الدور الا حينما اكتشف حقيقة اكذوبة ميلاده ومشروع حياته، كانت هى الوحيدة ـ من بينهم ـ التي وقفت بجانبه وقد وعت عظم المأساة حينما حكم عليه في الأولد بيلى بالسجن لسبع سنوات "لم أجد صدرا غير صدرها أسند رأسى اليه. ربتت على راسى وقالت: (لا تبك يا طفلى العزيز) " (موسم الهجرة: 29). وكان مصطفى سعيد برغم اختلاط الامور في ذهنه تجاه النساء الا انه قال عنها بصدق " لكنها كانت عذبة، أعذب امرأة عرفتها، تضحك بمرح، وتحنو على كما تحنو أم على ابنها" (موسم الهجرة: 30).
    ولعل مصطفى سعيد الذي لم يجد له ميلادا يشده إلى بلاده ـ إذ أطلق لنفسه العنان وراء سراب أجنبى ـ كان يبحث عن تلك الأم. وقد قيض لمسز روبنسون ان تلعب ذلك الدور بسبب صلتها بالعالم الإسلامى، وبسبب زوجها الذي أوتى حكمة وسعة جعلته يفهم الأخر، ويقدم أجل الخدمات المعرفية للحضارة العربية الإسلامية، وينتمى اليها بعيدا عن الصيغة الاستعمارية التي كانت رائجة في زمانه.
    كان من الممكن ان تعدل مسز روبنسون ذلك الميلاد الأجوف، لكن الشروط الاستعمارية كانت أقوى، ولم يكن مصطفى سعيد بميلاده الأجوف ليصلح إلا لخلق اكذوبة يصعب على الغرب ان يتخلص منها، برغم معرفة الغرب بأن المهمة التي جاء من أجلها قد أثبتت فشلها الذريع في حالة مصطفى سعيد.
    لكن مصطفى سعيد جماع لشتات غريب: الأب من قبيلة العبابدة ذات الأصل العربى المعلوم، والأم التي وصفها المأمور زميل مصطفى سعيد في الدراسة " ويقال ان امه كانت رقيقا من الجنوب من قبائل الزاندى او الباريا، الله أعلم، الناس الذين ليس لهم أصل هم الذين تبوأوا أعلى المراتب أيام الانجليز" (موسم الهجرة: 57). ومهما يكن من رأى المأمور المتقاعد في أصل مصطفى سعيد، وتلخيصه العنصرى للفوضى التي سعى المستعمر لاحداثها في السودان ـ بعد خروجه ـ فان هذا التزاوج بين العبابدة وامرأة من بقايا الرقيق (واسمها فاطمة عبد الصادق) كان واحدا من العوامل التي جعلت لمصطفى سعيد تلك الطلاقة الاجتماعية المخيفة، ومنحته الاحساس بعدم الانتماء والتوحد.
    إذًا ذلك الميلاد الذي وقع لمصطفى سعيد، هو ميلاد يقوم على رؤية معينة لذلك التمازج العرقى الذي لا يورث سوى الضياع والانسلاخ عن الأصول. فلحمة النسب في المجتمع القبلى هى التي تشعر الفرد بوجوده في التاريخ وبارتباطه، وبأنه جزء من شجرة ضاربة الجذور وليس قشة في مهب الريح. لعل الصورة الكلية لميلاد مصطفى سعيد تريد ان تركز في الأذهان هذا المعنى، ولذلك تجد التبرير للفوضى وعدم الانتماء الذي كان يكتنف حياة مصطفى سعيد حتى قتله لزوجته جين موريس. تلك البقعة المظلمة في مصطفى سعيد كانت بسبب ذلك الميلاد التعيس. تلك البقعة المظلمة في نفسه جعلته يبدد أسمى طاقة لدى الانسان، وهى طاقة الحب، ليتحول الحب والجنس عنده إلى طاقة صراع مدمر، فيبدأ الحريق من غرفة نومه ـ بلندن ـ ليتصعد لمستوى صراع عقيم بين ما تمثله الحضارة العربية الإسلامية وما تمثله الحضارة الغربية.
    لنقل بأن مصطفى سعيد هو شكل من أشكال التعبير المنحرف عن الشخصية السودانية في مواجهة الآخر، شخص بميلاده كان مؤهلا لدور الاكذوبة لكنها أكذوبة مهمة: هى التي زينت أمر عبء الرجل الابيض، وجعلته ممكنا في مستوى من المستويات. ذلك لأن مصطفى سعيد ـ عندى ـ يحمل في داخله صورة الراوى (محيميد) وكان من الممكن ان يأتى إلى بلده كما أتى محيميد لكن الفارق هو ان محيميد قد منح ميلادا عاديا، لكننا نقول كذلك بأن محيميد نفسه حينما قال " عدت سادتى" (موسم الهجرة: 5) انه ـ في الحقيقة ـ لم يعد كما توهم إلى القرية، فالقرية لم تعد القرية التي تركها كما هى او كما أراد، وهو نفسه لم يرجع كما ذهب، لقد عاد حقا إلى المكان، لكنه عاد حاملا تلك الجرثومة القاتلة، ذلك الاستلاب الذي دفع ثمنه مصطفى سعيد. وفى مستوى آخر نرى أن محجوب هو جزء من مشروع محيميد والفارق بينهما هو ان محجوب قد اختار ود حامد، حيث انه دخل المدرسة لتحقيق أهدافه هو وليس أهداف المستعمر. لذلك فان اقصى انحراف يمكن ان نجده في الشخصية السودانية في مواجهة الآخر هو ما حدث لمصطفى سعيد، والنقيض لذلك هو محجوب، والمنزلة بين المنزلتين هى لذلك المتردد محيميد، والذى برغم نقاء ميلاده الا ان الاستلاب كان قاهرا وغلابا.
    يمكننا القول بأن مصطفى سعيد كان يحمل في داخلة امكانات محيميد ومحجوب، لكنه اختار ذلك السراب الاجنبى، اختار تلك الاكذوبة المريعة. لكنه حينما أفاق التزم الجميع حياله بقوانين اللعبة، ولم يتخلصوا من تلك الاكذوبة في الأولد بيلى، لم يستطيعوا ان يحاكموا فشل مهمتهم الاستعمارية، ولم تكتب لهم الشجاعة الكافية لنقد أنفسهم، لذلك تركوا لتلك الاكذوبة خيار التسويف او الاعتساف.
    وقد اختار مصطفى سعيد لنفسه ميلادا آخر، لكنه كان اختيارا فيه كثير من التسويف، لأن دورة حياته قد اكتملت بعد قتله لجين مورس، ولن يمنح فرصة اخرى ليجعل من مشروع حياته مشروعا يماثل اختيار محجوب. جاء مصطفى سعيد هذه المرة من النيل، والأطفال ـ عادة ـ تأخذهم امهاتهم إلى النيل بُعَيْد الميلاد، لكنه في ميلاده الثانى جاء من النيل بالباخرة ومعه ذاكرته وتاريخه، وليس مثل ضو البيت ـ كما سنبين لاحقا ـ واختار مصطفى سعيد ود حامد ليعيش فيها حياة جديدة قائمة على التسويف.
    الفرق بين ميلاد مصطفى سعيد هذا وبين ميلاد الزين الثانى ـ كما بينا من قبل ـ هو ان شيخ الحنين كان هنالك يكلأ الزين بالرعاية ليخرجه للناس شخصا آخر يسهم في اداء دور خطير في تاريخ ود حامد. وفوق ذلك هو ان الزين ابن شرعى للثقافة السودانية في ترتيبها للناس، وفى صنعها للرموز التي يلتف الناس من حولها، اما مصطفى سعيد فكان السراب الاجنبى يلمع برقا خاطفا بين عينيه، يغريه بالمسير ثم يتركه لحلكة الظلام مرة أخرى وغياب شخصية الحنين من موسم الهجرة إلى الشمال جعل الجمع بين الأضداد أمرا في عداد المستحيل وفتح الباب واسعا للصراع الدموى لنموذج القتل والانتحار، كان من الممكن ان يثمر ميلاد مصطفى سعيد الثانى في ود حامد، لكن ود حامد لم تعد ود حامد، ومصطفى سعيد نفسه لم يتحرر من ميلاده الأول ومشروع حياته الذي قاد اليه ذلك الميلاد.
    كانت تلك الغرفة التي بناها في بيته بود حامد ـ والتى جمع فيها شتات ذكرياته في الغرب ـ تشده إلى عالم جين مورس، غرفة بها كل تلك الذكريات التي تشده إلى الاكذوبة، لكل ذلك كان ميلاده الثانى مصطنعا وامتدادا لمساحات التسويف في حياته، كان من الممكن لمسز روبنسون ان تكون أما لميلاده الثانى لكنها بلا شك ليس لديها عمق وقدرة زوجها مستر روبنسون والذى اختارها لمشروع حياته في القاهرة ولم تختر هى ذلك الطريق. وبالطبع هى ليست مثل الشيخ الحنين، فكان هذا الميلاد الثانى لمصطفى سعيد مفتقرا لتلك الطاقة الروحية التي تباركه.
    وأخيرا، فميلاد مصطفى سعيد يجلى امكانات الشخصية السودانية بمستوياتها الثلات (مصطفى سعيد/ محيمد/محجوب) في مواجهة الآخر في ظل شروط الاستعمار، ليقول لنا: ما لم تصلح الشخصية السودانية من شأنها وتنتج تعليما تستلهم واقعها وتراثها ولا يتعالى عليه، فسوف تستمر تعبر عن نفسها بذات الالتواء، والاستلاب في مواجهة الآخر، ولن تخلق معه حوارا خلاقا ومتكاملا. بالطبع فالمدارس التي تلد أجيالا تعلمت أن تقول "نعم" بلغة المستعمر لن توفر مشروعا انسانيا كريما لتلك الأجيال. والأهم من ذلك ـ في لغة الشعر ـ هو ان هؤلاء لن يملكوا القدرة على رؤية الدومة في أحلامهم وستكون لديهم أرواح غريبة تنكر عليهم اشياء وينكرون عليها، وحينما تتفاقم الأزمة في داخلهم ويختل نظام الأشياء من حولهم يصرخون بملئ أفواههم: اقتلوا الأكذوبة! ذلك الميلاد الثانى لمصطفى سعيد تناسل في جملة أكاذيب مريعة جعلت حياته بين طرفى الاعتساف او التسويف.
    2ـ4 ميلاد ضــوالبـيــت:
    ان رواية بندر شاه "ضو البيت" هى عبارة عن لوحتين، اللوحة الاولى عن قصة الصراع بين محجوب واولاد بكرى بكل ما يحمله هذا الصراع من معان وكل الهوامش التي يمكن ان يحتويها بالاضافة إلى ذلك الجو الاسطورى الذي يتعلق بالاسم الرهيب. اما اللوحة الثانية فهى عن ضو البيت، ويبدو لأول وهلة ان ضو البيت لا صلة له باللوحة الاولى برغم انه "صاحب الزمان" بلغة التصوف ـ او ان الرواية نفسها يفترض ان تكون عن سيرته وحسب.
    لكن بالتدقيق في بناء اللوحتين نجد ان تلك الشخصية الغامضة صاحبة الاسم الرهيب في اللوحة الاولى ما هى الا اشارة رمزية لضو البيت، وهذا الاسم الرهيب هو الذي يعطى الصراع بين محجوب وأولاد بكرى المعانى التي ارادها له الطيب صالح، وبالتالى يربط اللوحة الاولى باللوحة الثانية. ونقول بأن ذلك الصراع التاريخى حول السلطة وحول معنى التغيير الاجتماعى ينتهى بصورة فيها كثير من التلقائية دون قطرة دام تراق او احقاد تبقى في النفس لتأجج نار ذلك الصراع وتدور عجلة الحياة والتاريخ القهقرى لتدفع حساب ذلك الصراع مرة تلو الاخرى. ذلك امر سوف نتناوله بالتفصيل في موضع آخر من هذه الدراسة ـ باذن الله.
    لقد اتى من النيل لا اسم له ولا دين له غريبا خائفا منهكا يترقب، فوصل إلى مكان، كما وصفه حسب الرسول ود مختار بأنه "محل عشا الضيفان وجمة الفتران" (ضو البيت: 104). ان قصة خروج ذلك الغريب من النيل هى قصة بالغة الحساسية والتعقيد في التاريخ السياسى والاجتماعى للسودان، هى بلا شك تحكى طرفا من دخول الاتراك المصريين إلى السودان وكيف تعامل اهل ود حامد مع ذلك الامر. صحيح ان مستوى الصراع والنظر إلى تلك القصة قد تحول من مستوى الوصف او السرد التاريخى كما هو الحال في موسم الهجرة إلى الشمال التي تناولت فترة الاستعمار البريطانى للسودان وما تبع ذلك من سياسات بعد خروج المستعمر ـ إلى مستوى الشعر والاشارة الرمزية.
    يمكننا القول كذلك بأن عجز بيت أمير الشعراء احمد شوقى:
    أين التماسيح من لـــجــــة فـــى بلاد تموت من البرد حيتانــــها؟
    والذى استخدمه الطيب صالح في رواية موسم الهجرة إلى الشمال لبيان الفرق الواضح بين الشمال والجنوب لا ينطبق على حالة ضو البيت ذلك الغريب الذي اتى من النيل مثلما جاء مصطفى سعيد بعد ميلاده الثانى إلى ود حامد، والفرق بينه وبين مصطفى سعيد هو انه قد آثر الانتماء إلى ود حامد وطلق إلى غير رجعة تاريخه السابق.
    كلنا يعرف ـ بكثير من التبسيط ـ ان الاتراك المصريين قد اتوا إلى ماعرف باسم السودان كغزاة طالبين المجد ومتاع الدنيا على حساب السكان المحليين. لكن الطيب صالح اختار نموذجا معينا لحكاية تفاصيل تلك القصة على ارض ود حامد.وقد بدأ ذلك الامر قبل طلوع فجر ذلك اليوم الذي ذكره حسب الرسول ود مختار حينما حكى قصة خروج ضو البيت من النيل ـ وكيف انه في ليلة من ليالى شتاء امشير، وحيدا عند الشاطئ يدير الساقية ـ قائلا: "رايت الدهمة تتشوبح بين النهر والسماء كأنها ممدودة بين النار على الشاطئ وقبس الفجر الباهت تحت خط الافق، وأحسست بنفسى اضيع وفيما انا أهوى تذكرت اننى متوضئ لصلاة الصبح وان وضوئى ينتقض. بدأت أطفو وانا اتشبث بتلابيب القرآن اردد الاسماء بلا وعى، حال رجل من الأميين" (ضو البيت: 101،102). ولما هدأ روعه قال " رايت الدهمة صارت شيطانا واحدا، وقلت الذي كفانى شرهم يكفينى شر هذا كمان" (ضوالبيت: 102). وحينما تشجع حسب الرسول وملك ناصية امره كان أول ماقاله "وقلت للمارد الواقف بين الارض والسماء (السلام على من اتبع الهدى)" (ضو البيت: 102). لكن المارد لم يرد وانما تقدم ـ وهو يخوض الماء خطوات نحو حسب الرسول فاستعان حسب الرسول بمحفوظاته وحصيلته الدينية من التحصن والتعوذ لذلك كان السؤال الثانى ـ الذي ألقاه حسب الرسول ـ للتخلص من مخاوفه التي انبنت على مسلمة ان الآخر دائما هو الشيطان "انت شيطان ام إنسان؟" (ضو البيت: 102)، وتستمر المحاورة ويهدأ روع حسب الرسو ل بسببها، إلى ان تصل إلى السؤال الحاسم الذي يلقيه حسب الرسول "وجيت عشان ايش؟"، فيرد عليه (عشان جوعان)" (ضوالبيت: 103).
    هذه المحاورة كانت عن هوية الغريب، لكن تلك الاجابة الاخيرة ردت لحسب الرسول صوابه، فالجوع هو حالة افتقار للآخر، وهو من ضرورات الاجتماع البشرى، فهذا الآخر تحول بسبب كلمة واحدة منه إلى شئ مألوف، وانقشعت الغمة عن حسب الرسول، وعادت ود حامد كما هى لذلك ضحك حسب الرسول "ضحكت وسمعت ضحكتى تسافر إلى الشاطئ الثانى وتعود. قلت له وقد عدت حسب الرسول ود مختار، والدنيا في ودحامد فجر قرب يطلع: (يا زول شيطان جوعان؟ عليك امان الله انت بنى آدم متلى متلك) " (ضو البيت: 104). بالطبع فان الآخر "الغريب" بالنسبة لاهل ود حامد هو شيطان يريد بهم الشر خاصة وان ارتبط عندهم بالبحر فهذه واحدة من مسلماتهم، بسبب ان العالم لديهم مرتب ومفهوم ومألوف وكذلك فان اهل ود حامد لا يسرعون في الحكم على الاشياء والاحياء من حولهم ان كان الامر يتعلق بتجربة متعينة وليس افتراضا نظريا.
    برغم اعتقاد حسب الرسول بأن تلك الدهمة التي رآها قبيل طلوع ذلك الفجر قد تمثلت له في شكل شياطين جرد لها اسلحته الدفاعية من آيات الذكر الحكيم الا انها حينما صارت بالنسبة له ماردا حمد الله على ذلك وسأله ان يخلصه منه، وابتدره بالسلام ككلمة سواء بينه وبين ذلك الآخر. ثم عبر له عن مخاوفه، وكأن تلك المخاوف والحواجز التي بينه وبين الآخر قد تبددت واحدة تلو الاخرى عن طريق الكلام، عن طريق اللغة، فهى التي اختصرت المراحل وتخطت الحواجز، فذلك الآخر الذي تصوره حسب الرسول دهمة سوداء من الشياطين قد تحولت إلى مارد ثم إلى شئ يتحدث العربية بلكنة اعجمية، ثم اخيرا إلى إنسان ضعيف قد انهكه الجوع والسهر، إلى شخص تألفه وتتجه نحوه بواجب الضيافة.
    وبرغم ضيق ذات اليد الا ان حسب الرسول قد بالغ في اكرام ضيفه وآثره على نفسه لكن ذلك لم ينس اهل ود حامد الفرق الذي بينهم وبين الغريب حينما اراد ان يتزوج منهم، لذلك كانت هذه المقارنة التي عقدت بين اهل ود حامد وبين ذلك الغريب حتى بعد ان صار واحدا منهم، وتبين الفرق الذي رآه اهل ود حامد "وهو عيونه خضر ونحن عيوننا سود، وهو وجهه ابيض مثل القطن ونحن وجوهنا سوداء مثل الجلود المدبوغة، وهو خرج من الماء ونحن خرجنا من الطين، وهو مسلم منذ ستة أشهر ونحن مسلمون منذ الازل، ونحن حياتنا تبدأ وتنتهى بين النيل تحت والصحراء فوق، وهو ما ندرى حياته كيف بدأت وكيف تنتهى وهو اسمه ظهر مع ظهوره، ونحن اسماؤنا مسلسلة ابا عن جد مثل البنيان المرصوص" (ضو البيت: 117). هذه التفاصيل الدقيقة للفروق بين اهل ود حامد وبين الغريب لم تمنعهم في نهاية الامر من تزويجه ابنتهم، وبرغم من قبولهم له وقبوله المطلق لعالمهم الا ان تمثل اهل ود حامد له قد صاحبه كثير من التردد والحذر. يمكننا القول بأن: ضو البيت قد ولد فىود حامد ميلادا فيه اختيار وحب للمكان وأهله ومحاولة جادة للانتماء له، برغم كل العقبات.
    نقول: ان هذا الغريب على ود حامد من الراجح انه من عسكر الترك حسب الوصف الذي قدمه حسب الرسول حينما رآه لاول مرة " الوجه مثل الصخر والانف مثل الصقر والاسنان زى أسنان الحصان، والعيون تلمع زى الفيروز. جلت صنعة الله" (ضو البيت: 105)، ثم يضيف " وهدومه زى لبس الاتراك مشرطة ومقطعة ومبلولة وعليها بقع دم. وعنده علبة سألته عنها، قال وهو يضحك (فيها الاكسير) " (ضو البيت: 105). هذه العلبة قد حوت كل ما كان يملكه ذلك الغريب. وهذا الامر مهم للغاية وهو جزء اساسى في وصف ذلك الغريب ورمز للصراع بين المهدية والاتراك، وما حوته تلك العلبة هو التنباك "وكان هو احضر معاه بذرة التمباك في العلبة ال طلع بيها من النيل يقول عليها الاكسير" (ضو البيت: 116). هو بلاشك علمهم زراعة التنباك "وعلم الارض تنبت التنباك" (ضو البيت: 134). والناظر في طبقات ود ضيف الله يجد ذلك الحجاج الفقهى المطول حول حرمة التنباك، وكيف ان رجالا مثل الشيخ ادريس ود الارباب والشيخ محمد الهميم والشيخ حسن ود حسونة قد قالوا بحرمته،و وكذلك قصة النزاع الشهيرة بين الشيخ ادريس والشريف عبد الوهاب "راجل ام سنبل" في مسألة التنباك، ثم بعد ذلك منشورات المهدية التي جعلت عقوبة التنباك ثمانين سوطا، وهى عقوبة مغلظة، وهى مساوية لعقوبة حد القذف. لكن المهم في الأمر هو ان تعاطى التنباك كان له معنى سياسى في المهدية وكذلك الترويج له كما يفهم من مذكرات الاستاذ المرحوم بابكر بدرى، حينما ذكر قصة ذلك الدرويش الذي صاح " التنباك في كسلا" فانفض بعض الجمع من حوله لان معنى عبارته ان كسلا ستسقط في يد الطليان وسيرجع فيها التنباك الذي منع بقوة الدولة المهدية!!
    لقد اختار الطيب صالح من بين كل رموز التركية في السودان التنباك والذى حاربته الدولة المهدية استنادا على ميراث الفقه في الدولة السنارية. وقد حارب البعض الدولة المهدية بسبب موقفها من التنباك، ويجب الا ننظر إلى هذا الامر
                  

العنوان الكاتب Date
شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى bayan03-04-05, 08:01 AM
  Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى bayan03-04-05, 08:09 AM
    Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى bayan03-04-05, 08:12 AM
      Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى bayan03-04-05, 08:14 AM
        Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى bayan03-04-05, 08:22 AM
          Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى bayan03-04-05, 08:25 AM
            Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى bayan03-04-05, 08:28 AM
  Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى jini03-04-05, 09:58 AM
    Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى bayan03-07-05, 08:43 AM
  Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى WadalBalad03-04-05, 10:08 AM
    Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى jini03-05-05, 01:40 PM
    Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى bayan03-07-05, 08:48 AM
    Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى jini03-07-05, 10:26 AM
  Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى WadalBalad03-06-05, 02:55 AM
  Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى Agab Alfaya03-06-05, 06:58 PM
    Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى bayan03-07-05, 08:53 AM
      Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى محمد عكاشة03-08-05, 00:55 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de