السمندل يغني* ... قراءة في تجربة الشاعر الكبير الدكتور محمد عبد الحي

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-26-2024, 06:11 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثاني للعام 2007م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
04-25-2007, 10:23 PM

محمد جميل أحمد
<aمحمد جميل أحمد
تاريخ التسجيل: 03-21-2007
مجموع المشاركات: 1022

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
السمندل يغني* ... قراءة في تجربة الشاعر الكبير الدكتور محمد عبد الحي

    فتحت الحداثة الشعرية في السودان ، خلال الستينات ، آفاقا شكل فيها سؤال الهوية الضاغط من برزح العروبة والإفريقانية ، أو الإفريقانية المحضة ، أطيافا توا شجت مع حركة الحداثة في الشعر العربي . عبر النزوع إلى صياغة جديدة بلغ منها هدير الخطاب الآيدلوجي ؛ ما كان كافيا لتذويب الإبداع بتآكل راهنية الأحداث ، وأفول أقطابها الرافدة . وبصورة جففت كثيرا ً ما يشتغل عليه الشعر الذي يتوسل أنسنة الرؤية من أفق الفن . وتخليص لحظات التوهج من تاريخانية الحدث ، مع الإحتفاظ بإشارات تفتح عليه وجه التأويل .
    وإذا كانت هذه السمة الأسلوبية متحت من محيطها المشحون آنذاك بتحولات رجرجت ما سكن من حالات الثقافة العربية بجديد من الفكر ، والأفق ، والرؤيا ، شملت الشعر قلبا وقالبا . فإن أخطر المعالجات الشعرية كانت تلك التي تتعرض لإشكالات الهوية والخصوصية من خلال أفق إبداعي يفصل ، جماليا ً، تخومَ الفن ، عن حدود الآيدلوجيا . أي بطلاق بائن ، بين ما هو إنساني وكوني مشـّـفر بمرايا لاقطة للتفاصيل المؤنسنة ، وبين ما هو عادي ورتيب يمنع الرؤية من وراء الأفق الشعري.
    ربما كان الشاعر السوداني الراحل د. محمد عبد الحي في ذلك الوقت ، أي ستينيات القرن الماضي ، تمثيلا لأفق آخر ، وصوتا فارق طبول الآيدلوجيا ، بهسيس يرتــّم أناشيد الشعر همسا ً يتكشف فيه الرمز بمنأى عن الزمن المشروط فيزيائيا (ولهذا السبب ، ربما ، خلت القصائد في دواوينه من تواريخها . باستثناء قصيدة " الفصول الأربعة " التي كتبها أثناء الدكتوراه في أوكسفورد عام 1973) .
    ليخلق بذلك فضاءا ً شعريا أرجحـت فيه رحلة العناء في البحث عن الرمز المفقود، حالات إبداعية متوهجة ، صحب فيها العذاب دهشة الكتابة الشعرية :

    الشعر فقر
    والفقر إشراق
    والإشراق معرفة لا تـُدرك
    إلا بين النطع والسيف

    (من قصيدة سماء الكلام)

    ومن ذلك الأفق خلق محمد عبد الحي نسيجا ً متـفردا بمنوال صبغت تيماته ألوان أسطورية من منابع غريبة وكاملة الجـِّدة . مكــّن منها تجوال ٌ صهر روحه بمختلف تضاريس السودان وحساسياته الإثنية والحضارية . ودوّن في نفسه أسئلة مصيرية ظلت تتوارد عليه من مطارح شديدة الاختلاف والتمايز ، تعالقت فيها صراحة اللغة بالجذر الأنطلوجي للسودانوية الناشئة في المنزلة بين المنزلتين من التكوين الديمغرافي السوداني : (العرب والزنج) . حتى مَرَد نفسه على عناء كبير في مسار إبداعي شعر بداياته إحساسا ضاغطا وواعدا بأعماق أكثر دهشة وتجريبا ً ومغامرة حقق فيها (معادلة الرماد). تلك التي عجزت عن استيعابها مانوية الخطاب الشعري السوداني بين الأبيض والأسود في زمانه . وبالرغم من أن تجربة (جيمس جويس) في (يولسيس/ عوليس) ألهمته الأفق النوعي الخاص لتجربته في خلق الهوية بحسبانها روحا متعالية صهرت ذاتها في شعبها أو شعبها في ذاتها ، خصوصا في ديوانه المهم (العودة إلى سِنـّار) " قصيدة طويلة من خمسة أناشيد" . إلا أن تجربة محمد عبد الحي ، التي زاوجت دلالتها على أقنوم ثنائي برز في ذات تاريخية واحدة تمثــّلت في (السلطنة الزرقاء) " التي هي أول كيان تاريخي قام على حلف صهر العرب والزنج في بوتقة واحدة في القرن الخامس عشر الميلادي بمدينة سنار ، وأنتج ديمغرافيا السودان المعاصرة " ، كانت هي المصهر الوحيد لشعبه كفضاء رمزي تاريخي . لذلك ظل عبد الحي يتأول الدلالة الرمزية المزدوجة في ثنائيات مترادفة ومعبرة عن ذلك المصهر العرب / الزنج) (النخل / الأبنوس) (الطبل / والربابة ) ( الغابة / الصحراء) ، ومستصحبا تيماتها الجمالية في حدي التجربة ، من أعماق التاريخ العربي إلى أحراش الجغرافيا الاستوائية بجنوب السودان . ومن أقدار أبي العلاء المعري ، إلى طقوس قبيلة (الدينكا) النيلية (التي ينحدر منها المناضل السوداني الراحل د. جون قرنق) . ليكتشف بذلك صيرورة شعرية جديدة ارتكزت على هوية ضاع عنها طويلا ً دون أن ينتبه إليها ، لقربها الشديد واللصيق من روحه وقدره ، وتاريخه . وليعود إليها كما عاد (أبو يزيد البُسطامي) الذي ترك الحق وراءه ببسطام ، وهو يبحث عنه . فلا عجب أن يصدّر عبد الحي ديوانه المهم (العودة إلى سنار) بهذا المقطع من كتاب (الفتوحات المكية) لمحي الدين بن عربي :
    ( قال يا أبا يزيد ما أخرجك عن وطنك؟ قال طلب الحق . قال : الذي تطلبه قد تركته ببسطام. فتنبه أبو يزيد ، ورجع إلى بسطام ، ولزم الخدمة حتى فـُـتـِحَ له) .
    لقد أعاد محمد عبد الحي تجربة أبي يزيد البسطامي بعد متاه صهر في نفسه عذابات هائلة بحثا ً عن قرارة الروح ، ونشيد الإنشاد في قيثارة أرضه العظيمة . لينام بعد ذلك العناء والكشف مطمئنا ً :

    (مثلما ينام في الحصى المبلول طفل الماءْ
    والطير في أعشاشه
    والسمك الصغير في أنهاره
    وفي غصونها الثمار
    والنجوم في مشيمة السماء )

    " قصيدة العودة إلى سنار"

    والنص عند عبد الحي خلال تلك التجربة يتميز بالرؤيا ، وهي في شعره أفق شديد الدهشة والغموض الذي يستبطن مشهدية تزيح ستارها ببطء عن عالمه الخاص والعميق ، والمصقول بحساسية تستدعي قارئا نوعيا ً ليستكشف جماليات النص وتأويلاته . ذلك أن حدي الرؤيا في شعره أشبه بشفرة تخفي معان مكنونة في منجم عميق يخترق الغوص فيه الأسطورة َ والحلم والرمز . ويستدير فيه الزمان بدوائر من غير بداية ولا نهاية . فالزمن في نصه هو زمن الرؤيا والأسطورة . فحين يتكلم عبد الحي عن بداية الخليقة عبر شهود الشاعر ، باعتباره روحا أسطورية، يتعرى الزمان مشاهدَ تنحسر عن عالم غريق موحش ، تنوس فيه مخلوقات البراءة الأولى ، التي توحي بالسكون ، والابتداء ، والأزلية . بحيث يكون المكان في الرؤيا قناعا لزمانه الغريق. وهذه القدرة على ابتداع الرؤيا الكونية تؤسطر الشعر والشاعر ذاتا طليقة تكتشف الكون وتاريخه من كوة الروح .
    يقول عبد الحي في نصه الطويل بعنوان (الشيخ إسماعيل يشهد بدء الخليقة) مشيرا بذلك للشيخ إبراهيم صاحب الربابة الذي عاش أيام السلطنة الزرقاء في القرن الخامس عشر . " وكان يفعل فعلا عجيبا ً بالأنغام التي تصدر عن ربابته في الناس والحيوانات بحيث يفيق لها المجنون وتطرب لها الحيوانات والجمادات " 1 . يقول :

    (وفجأة رأينا الفهد مسترخيا ً في ظلمة الأوراق الخضراء
    الغابة في سفح الجبل
    نساء الشجر تعري نفسها
    السماء تدق طبلها الأزرق
    سيف الضوء في الصخرة القديمة التي نما عليها الطحلب
    وكتبت تحتها الحشرات لغتها السرية وحوارها مع الطقس والأرض)

    إنه الكون معبرا عن بداياته بإشارات لا تغفل رمز الرؤيا. وهذا معنى مشفر في النص تعسر دلالته إلا من خلال العنوان ، وتأويل الرؤيا الحاكمة لنص عبد الحي . بحيث يمكننا أن نؤكد أن شعر عبد الحي أشبه بنص واحد يحيل على دلالات تتداعى من مطارح عديدة في ذلك الشعر . فالشيخ إسماعيل الذي هو عنوان النص السابق ، ذات أسطورية للشاعر السوداني ، تتجدد عبر الأزمنة . لكن ابتدائها نبع من مجاز السلطنة الزرقاء . أي حدود الفضاء الزماني والمكاني للرؤيا .
    وإشارات الرموز في النص توحي البداية فيها بالعدم الوجودي ، إن صح التعبير، أي أن الفهد والغابة هنا رموز زنجية ، يوحي ذكرهما بعوالم قبلية سابقة لبداية عالم (الغابة والصحراء / السلطنة الزرقاء) الذي يحيل على الذات السودانوية الراهنة . يتضح ذلك أكثر عندما يكتمل هذا المعنى الرئيس في قصيدة (العودة إلى سنار) حيث يقول الشاعر فيها :

    ( الليلة يستقبلني أهلي
    من عتمات الجبل الصامت والأحراج
    حراس اللغة المملكة الزرقاءْ
    ذلك يخطر في جلد الفهد ِ
    وهذا يسطع في قمصان الماء)
    " نشيد البحر من قصيدة العودة إلى سنار"

    وعبد الحي هنا يتأول الطرف العربي للرؤيا من بيت أبي العراء المعري :

    على أمم إني رأيتــــك لابـسا ً
    قميصا ً يحاكي الماء إن لم يساوه

    وليركب من هذا البيت مع إشارته لجلد الفهد (الذي رمز القداسة عند قبيلة الدينكا الجنوبية) حدي الرؤيا لأقنوم / أي مفهوم الغابة والصحراء .
    وعلى هذا التركيب يعيد قراءة الرؤيا في ديوانه (السمندل يغنـّي) . بيد أن التركيب هنا دلالة على الذات التي تدل على فرادة العنصر المكون من الأقـنوم الثنائي . وهذا المعنى الرمزي يحايث طبيعة (السمندل) الأسطورية . فهذا الحيوان الخرافي /المائي/ الهوائي ، مثــّلت حياته المنقولة من التراث العربي ( كتاب حياة الحيوان للدميري) عند عبد الحي روحا مانوية متعالية . تستبطن في ذاتها الأسطورية حالات مركبة تحيل إلى عوالم عبد الحي التي تحتفل بأرخبيل موحش تتناظر فيه حدود الزمان عبر خرائب الأمكنة ، وتهدر فيه فوضى الأشياء بأصداء مالحة ، وفنتازيا للحزن المتنقل والعابر في مرايا الموت بخيال يتمدد على التاريخ والجغرافيا :

    ( أنا السمندل ُ
    يعرفني الغابر ُ والحاضرُ والمستقبلُ
    مُغـنيـّا ً مستهترا ً بين مغاني العالم المُـندثرة ْ
    وزهرة ٌ دامية ٌ في بطن أنثى في الدجى منتظرة ْ
    وكم عبرتُ والدروع ُ الحُمْـرُ حولي
    والخيول ُ المُـعْلمَة ْ
    أسوار ممفيس ، وطروادة ، والأندلس المُـهَدّمة ْ )

    هكذا تتمسرح هذه المطارح عبر الزمان والمكان في تمثلات الروح العابرة بغرائبية لا تخلو من أسطرة .
    وبالرغم من صراحة اللغة (العربية) باعتبارها لغة الكتابة للتعبير عن روح الهوية المزدوجة ،إلا أن عبد الحي استطاع أن يجسد دلالة الأقنوم (ربما كان هذا المفهوم أليق تعبير عن الذات السودانية المزدوجة والواحدة في نفس الوقت) في شفافية تطوع بنية اللغة لمفردات المعني الأفريقي والسوداني الخاص . فاللغة في نصه هوية مستغلقة تفتح معناها على النص من طبيعة العبارة الشعرية .

    (وحمل الهواء
    رائحة الأرض
    ولونا ً غير لون غير لون هذه الهاوية الخضراء
    وحشرجات اللغة المالحة الأصداء )

    هذه اللغة التائهة والمتقطعة عبر أفق يرى المكان من البحر بحثا ً عن القرار في أرض واعدة ، لغة أسيدية بخلاف لغة الينابيع في هذا القطعة من (نشيد المدينة) :

    ( لغتي أنت وينبوعي الذي يؤوي نجومي
    وعِرق الذهب المُبرق في صخرتي الزرقاء )

    هذا التغاير الذي يحمل دلالة اللغة عبر اللغة ويعيد إنتاجها في صيرورة النص بصور تخلق معناها ، هو جزء من كثافة تعبيرية تكشف عن رحابة الأفق الرمزي المتعدد لجهة اللغة وأسمائها (اللغة القديمة / اللغة الأولى/ لغة مالحة الأصداء / لغة على جسد المياه ... الخ) فالكشف عن تعدد الأسماء هنا كشف عن دالة تعبيرية تحايث النص بمعان متعددة . فهي لا ترتهن للتكرار . إذ إن تعديد أسماء اللغة عند عبد الحي ينطوي على فضاءات جديدة تختزنها هذه اللغة وتعبر عنها . بحيث تبدو اللغة الواحدة وهي تعبر عن الحساسيات المتعددة في الهوية أشبه بلغة تعبر عن فسيفساء بابلية لجهة المعنى والمضمون .
    وكما يكثف عبد الحي الصمت والسكون والبياض عبر الزمن الأسطوري المطلق ، كذلك يتوسل التجريد والترميز والإشارة ، حتى وهو يتحدث عن الأشخاص . فهو يخرج من التاريخ إلى الأزل ، ومن التجسيد إلى التجريد ، ومن المحدود إلى المطلق عاكسا ً بذلك الصور الرمزية لحقائق الأشياء ، ومتجاوزا ً التنميط إلى شفافية غامضة وإنزياح يقلب منطق الخطاب . بحيث لا يمكن معرفة موضوعة النص إلا من العنوان ، دون أن يعني ذلك قطيعة كلية بين النص وعنوانه . وإنما يعني أن المعنى مشفر في رؤية كونية إنسانية تحيل على علاقة العنوان بالنص من خلال شريط شفاف غير مرئي . ولكنه غير منقطع أيضا ً، يؤيد ما ذهبنا إليه من تلك المعرفة المشروطة لقارئ عبد الحي . فعبد الحي حين يتكلم عن (توفيق صايغ) أو (أبي نؤاس) أو (كريستوفر أكيكبو) لا يتكلم عنهم بمعنى زمني فيزيقي . بل عبر تأويل تجاربهم الإبداعية كقناع لمأزق الوعي والشعر . وبحساسية تحايث شرطهم المتذرر في عناء الأسئلة الأنطلوجية الكبرى.
    يقول عبد الحي في قصيدة (مقتل الكركدن) التي هي " سونيت إلى توفيق صايغ" :

    ( أجمل من في الغابة يصهل قرب النبع يغني
    ظل َ الشمس على أشجار التفاح
    جرح َ ربيع الروح تلألأ أجمل من كل جراح )
    " ..................................................."
    سونيتة حب ٍ أم حيوان يجهش تحت النصل المسنون
    كوميدي ٌ يتقشر بعد العرض قناعا وقناعا
    أم طفل غنى خلف الأرغن في وطن ضاعا
    أم صوت البلبل في حقل الورد يغني
    ينزف في ألم مفتون )

    إن التعبير مردوف بغنائية تتجاور فيها مفارقات المأساة بإشارات تعبر عنها دون أن تفسرها . وفي قصيدة ( أورفيوس الأسود) التي هي أيضا ً " سونيت إلى كريستوفر أكيكبو" يقول عبد الحي :

    ( مهرجان الطبول وأجراسنا الخشبية
    في فصول الحديد
    بين نجم قديم ونجم جديد
    تتأرجح موحشة ً وهي تهبط أدراجها اللولبية
    لهب دون رؤيا
    ولا شيء غير القناع الحديدي يرقص عبر المدى )

    والقصيدة لغة استوائية مؤسطرة تحيل عبر مفرداتها الأفريقية وإشاراتها الطقوسية إلى لغة عبد الحي العارفة بطبيعة الروح الأفريقية . وعبد الحي ينزع إلى تناص معنوي يتناسخ في عوالم افتراضية تعبر تماما عن الحالات المكتوبة . مثل العالم الخمري لأبي نؤاس الذي يتجلي عبر الرمز الطبيعي والنهايات المتجددة . في تأويل يخلق الحياة من العدم ، واللذة من الألم . يقول عبد الحي في قصيدة (التفاحة) التي أهداها لـ(أبي نؤاس) :

    ( فرغت كأسك وانهار النديم
    واختفى الخمار والخمرة في الليل البهيم
    عبر أنفاق الجحيم
    عادت التفاحة ُ الأولى إلى الغصن القديم )

    هكذا تتجدد الحياة ورموزها في نص عبد الحي كما لو كانت إكسيرا ً ينوس في ذلك النص . على أن ذلك التجريد والترميز لم يمنع عبد الحي من الغوص في شعرية التفاصيل الصغيرة ، واليومية . فنصوص عبد الحي أشبه بفسيفساء صغيرة تلمع بالمعاني الإنسانية الكبرى عبر معاناة مرهفة. أي أن تلك التفاصيل كُـوة لعالم فسيح يتكشف عبر ها ، دون أن تقع في المجانية والتسطيح .
    يقول الشاعر في قصيدة (أحلام العانس) :

    ( المرأة العانس في الأحلام
    يوجعها المخاض ، ثم تلد الأطفال
    ترضعهم ، وتسهر الليل تربيهم
    فرسان في أحصنة مُطهمات ْ
    وأميرات لِست ساعات
    لأنهم لو طلع الصباح
    باتوا بين أموات )

    فحين يصبح الهم حلما للسعادة ، تتجدد الحياة عبر تحقيق الرغبات الصغيرة .
    وعبد الحي يوقــِّع موسيقى الكون ، ويهمس للوجود بمعان شعرية تحسها الروح
    (بحسب عبارة الجاحظ الشهيرة عن شعر أبي العتاهية) .
    يقول عبد الحي من قصيدة (النخلة) :

    ( في الفجر تفتح الشمس بلاد الشجرة
    وتطلق العصافير
    في الليل يقفلها القمر
    ويطلق الأرواح
    ..................
    الطفل ترهقه الأسرار الصغيرة
    يا لعبء الخلود على الطفل الصغير)

    إن الرتم الداخلي في شعر عبد الحي يتصادى بشفافية حتى وهو يبدع في مواضيع تقليدية . فيتناولها برؤية جديدة ، ولغة صوفية صافية تستأنس الرمز ، وتوعز بالإشارة (ربما كان هذا من تأثير كتابات أبن عربي ، وعبد الجبار النـِّـفـَري)
    يقول عبد الحي في قصيدته الطويلة (معلقة الإشارات) " وهي قصيدة نبوية في مقام الشعر والتاريخ " يقول في مقطع " إشارة عيسوية " عن المسيح عليه السلام :

    ( هذا رنين قدم الفجر على التلال والأشجار
    يخبر كيف مرت الريح على القيثار
    "....................................."
    وبدأت أغنية الدم التي تضيء حنجرة العصفور )

    فهو هنا يرسم شفافية المسيح عليه السلام في إشارات رقيقة عابرة تفيض الجمال وترسم السلام على الحياة والوجود .
    ويجسّر عبد الحي هوة الوجود والعدم بخواتيم تأتي امتدادا للألق والاكتمال. فالموت في شعره نضج متجدد كثمار تسقط من أشجارها بعد الاكتمال لتمنح الحياة براعم جديدة ، وليس نهاية مأساوية . بل الموت عند فسحة من وراء الغيب .أي أن بين الوجود والعدم في شعره تناسخ جدلي ، وصيرورة دائمة .
    يقول الشاعر عن الموت من قصيدة ( قـِمار) :

    ( هنا أنا والموت ِ جالسان
    في حانة الزمان
    وبيننا المائدة ُ الخضراء
    والنردُ والخمرة ُ والدخانْ
    من مثلنا هذا المساءْ )

    فالموت انكسار لأيقونة الجسد وانطلاق للروح تدخل به تخوما أخرى في ملكوت أكبر :

    (هو الموت يسعى إلينا بلا قدم في الدجى والنهار
    خـُـلقنا له ناضجين
    استدرنا له
    فلماذا البكاء )

    هكذا أبدع عبد الحي الأفق الفني لجدلية الوجود والعدم عبر أناشيد خالدة تورث الحزن النبيل (وهو معنى إنساني كوني ناظم للإبداع ) . وصدح بها عبر مختلف مزاهر الشعر : العمودي ، والتفعيلة ، وقصيدة النثر. دون أي قطيعة مفترضة .
    فهو كما يكثف قصيدة النثر تمثيلا لجوهر الشعر الواحد ، كان يحذف الحشوَ من التفعيلة ، والنظمَ من القافية .
    فعبد الحي الذي بدأ كتابة قصيدته (العودة إلى سنار) وعمره 17 عاما ، ظل يصقلها بتفرد حتى رضي عنها قال عن شعره :

    كلمات شعري لم يجئ يوما ًبهــا أنبيـقُ ســاحر
    تلك القوارير القديمة لم أهجنها ولا تلـك المبــاخر

    وعبّر عن شعره أيضا ً متأولا ً أرق ( ذي الـُّرمة ) قائلا ً في أبيات (على نسق غيلان) :

    وشعر قد أرقت له غريب تملأ بالكواكب في الظلام

    والعشق عند عبد الحي (وحدة وجود) كاملة ، أو عدم محض . إحساس مانوي يقابل الفناء بالإلغاء ، والمحو بالإثبات . ذلك أن كيانية التعبير الحاد عن حالة الحب تحتل القلب تماما مثل الحب العرفاني عند الصوفية


    وسـُـجـنـتُ فـيــك معـانـقا حــَّريـتي فــي ليل سجنـي
    وقـُـتـلـــتُ فيـك مغــنــــيا ً للـموت ما جهل المغـني
    جــهــلوا فــما يدرون أنـا ملتــقـــى وتـــر ٍ ولحـن ِ

    * * * * * * *

    وأراك دوني محض وهم ٍ مشــــــرق ٍ فـــوق الــزمان
    وأراك دون قصــائــــدي لــغــة ً تــفتشُ عــن لسان

    هكذا أبدع محمد عبد الحي (الذي توفى في مستشفى سَوبا بالخرطوم عام 1989 عن 45عاما ) شعرا جميلا في حياة قصيرة . من أفق آخر جانف هتاف الآيدلوجيا ، واستوحى التجريب من ذاته وتراثه (كتابات أبن عربي ــ النفري ــ ود ضيف الله) ، وجمع بين التنظير والإبداع ليؤسس بذلك (تيار الغابة والصحراء) في الشعر السوداني ، في الستينات ، مع صديقيه : محمد المكي إبراهيم ، والنور عثمان أبـَّـكر وآخرين . وهو تيار أسس وعيا ً جديدا في الشعر السوداني برؤية شعرية استلهمت الهوية السودانية تحت أسم ( الغابة والصحراء ) كترميز دلالي لطرفي التكوين الديمغرافي في السودان (العرب والزنج) .
    ولقد ظل عبد الحي وفيا ً لمشروعه الشعري والنقدي في إجتراح أفق ملهم للهوية السودانية بشكلها الاستثنائي في المحيط العربي والأفريقي . وشحذ لذلك ثقافته العالية وتخصصه الأكاديمي المرموق عبر الترجمة والتدريس في جامعة الخرطوم . وأنتج أعمالا نقدية بالإضافة إلى مسرحية شعرية واحدة .
    وبالرغم من الريادة المبكرة لعبد الحي في إبداع نص مختلف جاور التجارب العربية الرائدة في قصيدة النثر (أدونيس ــ أنسي الحاج ــ توفيق صايغ ) إلا أنه لم تتوفر عليه دراسات نقدية تليق بقامته الشعرية باستثناء بعض الكتابات النقدية العربية النادرة . ربما كان قدر المبدع السوداني أن ينوس بين الجسد المهجور ، وشرط الذاكرة العربية، تلك الذاكرة التي وصفها الطيب صالح ذات يوم بأنها ذاكرة فقيرة فيما خص السودان من إبداع.
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    * المقال نشره الكاتب في صحيفة السفير اللبنانية 21/4/2006
    1كتاب (طبقات ود ضيف الله) للمؤلف السوداني ود ضيف الله . الذي عاش في أيام السلطنة الزرقاء في القرن الخامس عشر


















                  

04-26-2007, 01:22 AM

bayan
<abayan
تاريخ التسجيل: 06-13-2003
مجموع المشاركات: 15417

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السمندل يغني* ... قراءة في تجربة الشاعر الكبير الدكتور محمد عبد الحي (Re: محمد جميل أحمد)

    سعدت جدا بقراءة هذا المقال
    ساعود مرة اخرى ولكن اتمنى لو ثبت ثبت المراجع كاملا...

    مع التحية..
                  

04-26-2007, 02:21 AM

حيدر حسن ميرغني
<aحيدر حسن ميرغني
تاريخ التسجيل: 04-19-2005
مجموع المشاركات: 24986

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السمندل يغني* ... قراءة في تجربة الشاعر الكبير الدكتور محمد عبد الحي (Re: bayan)

    ياسلام يامحمد جميل وأنت تطوَف بنا في هذا الفضاء المحبب الى النفس

    ليت كل المنبر يتزيَن بمثل هذه القراءات

    وجميل ايضاً أن تكون الدكتورة بيان أول المتداخلين

    لها ولاخرين في هذا المنبر اقوال واقوال في حضرة هذا الشاعر
                  

04-26-2007, 10:15 AM

محمد جميل أحمد
<aمحمد جميل أحمد
تاريخ التسجيل: 03-21-2007
مجموع المشاركات: 1022

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السمندل يغني* ... قراءة في تجربة الشاعر الكبير الدكتور محمد عبد الحي (Re: حيدر حسن ميرغني)

    الأستاذة بيان شكرا على مرورك بهذه القراءة . إعتمدت على الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر محمد عبد الحي التي صدرت عن مركز الدراسات السودانية بالخرطوم 1999. هناك إحالات لدوواوين الشاعر داخل المقال . هناك بعض الإشارات في هذا المقال وردت كإضاءات نثرية في هوامش الأعمال الشعرية للشاعر . كتبها الشاعر بنفسه. أنت على حق في ذلك . لكن القراءة أصلا قائمة على تامل ذاتي في تجربة عبد الحي من خلال تأويل نقدي حاولت به التأكيد على أن شعر عبد الحي يملك خاصية عابرة للزمن من أفق محايث للمعنى الإنساني في الإبداع لأن عبد الحي كتب شعره (خصوصا العودة إلى سنار) في زمن شهد إستقطاباإيدلوجيا للإبداع . تحياتي ...
    محمد جميل

    العزيز حيدر حسن ميرغني ... شكرا على مرورك بهذا المقال وإحتفائك به ، فهذا من حسن ظنك الجميل وتعبير عن تفاعل خلاق ، يمنحني إحساسا بجدوى ما أكتب ، ربما ،
    تحياتي
                  

04-26-2007, 11:04 AM

bayan
<abayan
تاريخ التسجيل: 06-13-2003
مجموع المشاركات: 15417

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السمندل يغني* ... قراءة في تجربة الشاعر الكبير الدكتور محمد عبد الحي (Re: محمد جميل أحمد)

    Quote: تأويل نقدي حاولت به التأكيد على أن شعر عبد الحي يملك خاصية عابرة للزمن من أفق محايث للمعنى الإنساني في الإبداع لأن عبد الحي كتب شعره (خصوصا العودة إلى سنار) في زمن شهد إستقطاباإيدلوجيا للإبداع .


    شكرا لك كثيرا على هذه القراءة الحصيفة واللغة الجميلة
    لقد استمتعت بقراءة المقال...
    ومثلك احسب دائما انا قصيدة العودة الى سنار قدمت حل لازمة الهوية..
    وصمدت امام اي استقطاب سياسي.. حتى ان كاتبها تشكى عدة مرات من محاولة البعض في تأويلها لمآلات لم يفكر فيها... ورفض سرقة مشروعه الشعري الباهر...
    كما كتبت عنه في بحث الدكتوراه خاصتي...بعنوان
    ثنائية الغابة والصحراء عند محمد عبدالحي
    من خلال قصيدة العودة الى سنار


    ولكن في المقابل نجد أن محمد عبد الحي كان دائم النفي لتوجه هذه القصيدة السياسي ويرى أن البعض قد حملها تحاميل لم يرم هو إليها. حيث قال في واحدة من رسائله لأحد أصدقائه:*
    "وقد ظهر الجزء الثاني من حلقة النقاش التي أدارتها سلمى الخضراء الجيوشي. وبدأت أحس أن القصيدة قد تستعمل لأسباب سياسية هي ليست فيها ومنها. أريدهم أن يلتزموا أكثر بقضايا العرب وقضايا الأفارقة، ولكنهم الآن يهربون من الاثنين ويخافون الالتزام بالأبعاد العميقة للثقافة السودانية. وأهم من ذلك أريدهم أن يعرفوا أن الإدراك الثقافي ما هو إلا وسيلة لإدراك أعلى وأعمق ولكن القصيدة نفسها صورة وأحلام وكوابيس وتشنجات إيقاعية، ونشوة، ورعب وشيء من المعرفة الحدسية الشعرية فهي اللغة ومن اللغة وللغة".
    وتأكيداً لما سبق نجد الشاعر يقول في مقام آخر: "ما تقدمه القصيدة ليس فكراً سياسياً أو قومياً. إنها تأكيد للجوهر الديني للوجود الإنساني وهذا الجوهر وحده هو أصل الملامح المتعددة للإنسان وأفعاله وتبقى القصيدة كالشجرة وجودها في حد ذاتها. ولا تترجم إلى عناصر أو أشكال غير ما هي فيه".


    ولك ولضيفك حيدر كل التحية...
                  

04-27-2007, 03:36 PM

bayan
<abayan
تاريخ التسجيل: 06-13-2003
مجموع المشاركات: 15417

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السمندل يغني* ... قراءة في تجربة الشاعر الكبير الدكتور محمد عبد الحي (Re: bayan)

    فوق لمقام الجمال
    شاعرنا العظيم محمد عبدالحي...
                  

04-27-2007, 09:33 PM

محمد جميل أحمد
<aمحمد جميل أحمد
تاريخ التسجيل: 03-21-2007
مجموع المشاركات: 1022

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السمندل يغني* ... قراءة في تجربة الشاعر الكبير الدكتور محمد عبد الحي (Re: bayan)

    شكرا دكتورة بيان على رفع البوست ، أعتقد أن قصيدة العودة إلى سنار تنطوي على تجليات حدسية ومعرفية متقدمة ، وبالرغم من أن شاعرنا الكبير أشار إلى بعض توجيهات المعنى للقصيدة ؛ إلا ان القصيدة تبقى قابلة للعديد من مستويات القراءة النقدية والمعرفية فقبولها ذاك هو سر عظمتها ـ مثل أي نص أدبي كبير ـ ربما أراد الشاعر في كلامه عن القصيدة التنبيه إلى عدم الوقوع في القراءات السياسية المسطحة ؛ ذلك أن الشعر بإعتباره تأويلا للغة من خارج الزمن وإنكشافا (للبرق الإلهي) بحسب (مارتن هيدغر)ينطوي على تعبيرات وإشارت قد لا ينتبه الشاعرأبدا إلى آفاقها في التأويل ، ويبقى الدرس النقدي العميق هو القادر على تأويل تلك الآفاق لمعنى النص عبر مستويات عديدة من القراءات .لكن من الحقيقة أن نؤكد أن الشرط الموازي لمعنى الهوية في القصيدة غير متحقق في الواقع السياسي والإجتماعي للسودان كبنية من بنيات الوعي الناظم لطريقة إشتغال الهوية وتحققها في وعي أصحابها. ودون ذلك أشواط طويلة.وبما أن الفكر والشعر يسبقان الواقع ؛ لذلك كانت هذه القصيدة العظيمة تنطوي على تجليات حدسية ومعرفية متقدمة ..
    تحياتي
    محمد جميل
                  

04-28-2007, 08:15 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20429

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السمندل يغني* ... قراءة في تجربة الشاعر الكبير الدكتور محمد عبد الحي (Re: محمد جميل أحمد)

    عزيزي محمد جميل
    سلامات
    سبق لي ان بسطت هذه المقالة في بوستي لاهوت الوردة ،
    لم اتمكن من ايجاد الرابط .
    عموما ما يقال حول ان العودة الى سنار كرؤيا للعالم ،
    تحل مشكلة الهوية ،
    هو كلام بالغ الخطأ.
    ذلك ان رؤيا العالم في العودة الى سنار تنطلق من كناية البوتقة ،
    وهي كناية تعبر عن رؤيا عالم المستعربين السودانيين.
    ولذلك فهي كناية غير ديمقراطية.
    محبتي
    وارجو ان اعود
    المشاء

    (عدل بواسطة osama elkhawad on 04-28-2007, 08:18 AM)

                  

04-28-2007, 08:51 AM

bayan
<abayan
تاريخ التسجيل: 06-13-2003
مجموع المشاركات: 15417

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السمندل يغني* ... قراءة في تجربة الشاعر الكبير الدكتور محمد عبد الحي (Re: osama elkhawad)

    هذه مشاركة في تحليل الثنائيات على مستوى المضامين...

    المبحث الثالث: الغابة والصحراء دراسة تطبيقية على
    مستوى المضامين


    في عودته تلك ولعلها عودة عبر الزمان. وهي عودة عبر رحلة بحرية، فهل أراد الشاعر أن ينفي إحساس الزمان والمكان الذي يحسه الإنسان في السفر البحري؟ حيث الزرقة على مدى البصر. ولكن يرجع هذا العائد وهو يعلم أنه سيجد أهله في انتظاره ولكن من هم أهله؟!
    إن أهله هم حراس اللغة ـ المملكة الزرقاء، حيث الخيل التي تحجل في دائرة الضوء، وترقص حيث يصل رنين أجراسها المعلقة بأعناق هذه الخيل. وهذه الخيول مكسوة بالحرير والإشارة واضحة إلى إسماعيل صاحب الربابة شاعر السلطنة الزرقاء حيث امرأة تفتح أبواب النهر لتدعو القائمين على أمر حفظ اللغة. وهم أصحاب المملكة الزرقاء وهؤلاء الحراس يمثلان مجموعتين: واحدة تلبس جلد الفهد (ولبس جلود الحيوانات الوحشية عادة إفريقية تدل على القوة والعظمة). والبعض
    الآخر يسطع في قمصان الماء، وهذا قد يأول إلى تأويلين واحد يرمز إلى ابن العربي، والثاني إلى الابتلال، ولقد شرح الشاعر هذا في شروحاته على الديوان، وأرجعها إلى درعيات أبي العلاء المعري. وعلى كلٍ ان هذه الرموز مجتمعة ترمز إلى ثنائية الثقافة السودانية الزنجية العربية.
    الليلة يستقبلني أهلي:
    خيلٌ تحجل في دائرة النار،
    وترقص في الأجراس وفي الديباج
    امرأة تفتح باب النهر تدعو
    من عتمات الجبل الصامت والأحراج
    حرّاس اللغة ـ المملكة الزرقاء
    ذلك يخطر في جلد الفهد،
    وهذا يسطع في قمصان الماء
    ثم يخبرنا أن أهله حتماً سيكونون في استقباله. حيث أرواح جدوده تخرج من فضة أحلام النهر، ومن ليل الأسماء. إن أرواح الجدود في الثقافة الإفريقية لا تذهب، ولكنها تبقى محلقة في سماء الأحياء وتأتي في الأطفال لتمنحهم الهدايا والرشد.* وهي لأنها أرواح هجينة بين الزنجية والعربية، فهي تتشكل وتتلون بين هاتين الثقافتين. فهي تارة تتحول إلى هواء يملأ رئة مداح (رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم)، وتارة أخرى تتحول إلى قوة لتضرب على الطبول عبر سواعد ضاربيها. والمداح هو أحد ظواهر الثقافة العربية، والطبال أحد ظواهر الثقافة الإفريقية التي اشتهرت بالطبول. وفي هذا المقطع تتبدى ثنائية الغابة والصحراء، الغابة متمثلة في كل ما هو زنجي، والصحراء متمثلة في كل ما هو عربي.
    الليلة يستقبلني أهلي:
    أرواح جدودي تخرج من
    فضة أحلام النهر، ومن
    ليل الأسماء
    تتقمص أجساد الأطفال
    تنفخ في رئة المداح
    وتضرب بالساعد
    عبر ذراع الطبال
    ومرة أخرى يعيد الشاعر عبارته الافتتاحية "الليلة يستقبلني أهلي". ولكن في هذه المرة قد قدموا له الهدايا، وهي عبارة عن مسبحة من أسنان الموتى، وإبريقاً جمجمة، ومصلاة من جلد الجاموس. وهذه الأشياء هي رموز تلمع بين الغابة والصحراء. يعج هذا المقطع بثنائيات متضادة. فأولاً مسبحة والمسبحة هي عبارة عن حبات خرز منضدودة بها ثلاثة وثلاثون حبة يسبح بها المسلم لله سبحانه وتعالى، أي ترمز إلى الثقافة العربية الإسلامية، ولكن هذه المسبحة مكونة من أسنان بشرية للموتى، وهذه عادة إفريقية إذ كان الفارس عندما يقتل أحد أعداء القبيلة يحتفظ بأسنانه كتذكار. وبهذا كون أن هذه المسبحة مكونة من أسنان الموتى فهما يرمزان إلى الثقافة العربية الزنجية. كما أعطوه أيضاً إبريقاً جمجمة. هذا الإبريق يمثل الثقافة العربية، حيث يحفظ فيه المسلم الماء للوضوء، ولكن هذا الإبريق ليس من حديد أو فخار، إنما هو عبارة عن جمجمة وأيضاً يحتفظ المقاتل الإفريقي برأس أعدائه ولكن هنا يستخدم كإبريق. وكذلك ترمز هذه الثنائيات الإبريق، الجمجمة، المسبحة، أسنان الموتى إلى الثقافتين العربية الإفريقية. وأهدوه مصلاة والمصلاة تفرش ليصلي عليها المسلم، وهي عادة تكون من خرقة قماش، أو نسيج ولكن هذه المصلاة من جلد الجاموس، وجلد الجاموس يرمز إلى الثقافة الإفريقية
    فالثنائية المصلاة، وجلد الجاموس تظهر لامعة بين النخل والأبنوس. النخلة ترمز للثقافة العربية والأبنوس يرمز للثقافة الإفريقية والشاعر في إطلاقهما هنا أطلق الجزء (الأبنوس والنخلة) وأراد الكل (الغابة والصحراء). وهي كذلك أيضاً لغة تطلع مثل الرمح وتبقى معلقة لتذكرنا بالجرح الذي خلفه فقدنا للغتنا الأولى.
    الليلة يستقبلني أهلي:
    أهدوني مسبحةً من أسنان الموتى
    إبريقاً جمجمة
    مصلاة من جلد الجاموس
    رمزاً يلمع بين النخلة والأبنوس
    لغة تطلع مثل الرمح
    من جسد الأرض
    وعبر سماء الجرح
    الليلة يستقبلني أهلي:
    وكانت الغابة والصحراء
    امرأة عاريةٌ تنام
    على سرير البرق في انتظار
    ثورها الإلهي الذي يزور في الظلام
    وكان أفق الوجه والقناع شكلاً واحداً
    يزهر في سلطنة البراءة
    وحمأ البداءة
    مرة أخرى يقول الشاعر اليوم يستقبلني أهلي، وهنا يرجع الشاعر إلى الماضي
    ليخبرنا عن الغابة والصحراء، وبدايات التكوين التي لا بدايات قبلها، حيث تلك المرأة العارية التي تنام على سرير البروق لعلها كناية عن الرغبة الجنسية، وهذه المرأة كانت في انتظار ذلك الثور المقدس* الذي لا يأتي للإخصاب إلا ليلاً في العتمة. لذلك هي لم تعرف أهو ذلك الثور الذي أتى أم رجل آخر لأن الوجه والقناع كانا شكلاً واحداً لا يمكن التمييز بينهما. ليحدث الإخصاب ويكون مملكة البراءة وهي ترمز إلى سنار وهي مملكة البدايات الأولى للسودان. ولعل الشاعر هنا يرمز إلى أن المرأة الزنجية هي الأصل والذي تغشاها هو ذلك العربي الذي لم تتبين ملامحه بسبب العتمة. وهي كانت في انتظار أن يحدث الإخصاب بهذه الصورة الطقسية** ولكن لأن الظلام كان حالكاً لم تميز القناع الرامز إلى الثقافة الإفريقية أو الوجه السافر الرامز إلى الثقافة العربية وبذلك حدث الإخصاب ليكون الغابة والصحراء.
    ومن ثم نجد في هذه المقاطع يستخدم الشاعر ضمير المفرد المتكلم وهو ضمير توحدي يدل على صوت الشاعر الذي يمثل صوت الجماعة التي ينتمي إليها. وفي هذه المقاطع نلاحظ الغنائية العالية ولكن أيضاً هناك حركة درامية تتجلى في الثنائيات الضدية، التي تجعل الموضوع يقوم على طرفي نقيض الغابة بكل ما فيها من زخم ثقافي في طرف، وفي الطرف الآخر الصحراء بكل زخمها الثقافي واستطاع الشاعر بواسطة "المنلوج" أن يخبرنا من هم أهله هؤلاء. أهله الذين تنازعهم ثقافتان. فهو قد وصف لنا أهله هؤلاء فهم يلبسون الجلود وقمصان الماء وتتقمصهم أرواح الجدود الهجينة لتتشكل في محورين هما الغابة والصحراء. الرمزان اللذان يشكلان وهما في حالة اندماج ثقافتنا وهويتنا في السودان. فمن نحن بغير هذه الثنائيات المتشابهة أو المتضادة؟ ونلاحظ على الرغم من ثقة الشاعر بنفسه، إلا أنه حائر ضائع بين التأكيد والتثبيت لماهيته وهويته. باحثٌ عن أهله القانعين بما يرون دون تساؤلات ولم يسعوا لتفسير تلك التناقضات، على العكس من الشاعر. الذي ذهب يبحث عن الحقيقة فاخترق حاجز الزمن، وتخطاه "فالشاعر يتخطى الزمن الفيزيائي، الذي تنمو فيه الأشياء وتموت، فإن هذا الزمن خارج على طاعة الشاعر، ويحل الشاعر نفسه محل الزمن فيصبح زمنه وهو المعرفة، وهو الوحي وكل شيء ينبع منه وعبر هذا الزمن الخاص يسيطر الشاعر على ثلاثية الماضي / الحاضر / المستقبل في صيرورة دائبة واتحاد كامل وانتظار ما لا يجيء".
    وعلى الرغم من أن هذا الزمن لا يزال في حكم المجهول وبعيد الحدوث، ليست هناك فروق دقيقة بين ما حدث وما لم يحدث في هذا العالم الساحري. ولكن الشاعر ليس محظوظاً مثل البسطامي* فهو لا يملك ذلك الهاتف فلذلك تخبط في رحلته للبحث عن الحقيقة. فهو برهة يتوقف في سنار وينظر إلى هذه التناقضات والثنائيات المتضادة، وتحيره أكثر على فرحته للعودة. إلا إنه لا يحس بالسعادة التي عرف تماماً أنها لن تأت إلا بعد أن يحدث له الكشف، الذي يجعله ينظر إلى هذا الكل المتناقض ويجد التفسير المقنع له. ولكن بدون الحقيقة، هو عبارة عن صوت ضائع، يبحث عن الكيفية التي تم بها هذا التكوين؟ ولماذا هذه الثنائيات والتساؤلات التي تعذبه وتقلق أمنه وسعادته؟! ولذلك نجده يقف هكذا بين المتحير والمتأكد بين الشاعر الذي يبحث عن هويته وأهله الذين يعرفون من هم، تعبيراً عن الذات وتعبيراً عن الآخر والأنا متداخلة بين الخاص والعام.
    ومن ثم فإن الماضي والحاضر يلتقيان ويتحدان، وقد استطاع الشاعر أن يحطم وحدة الزمن، للتعبير عن الحدث الماضي، والحدث المعاصر. فغدا الماضي الغريب زمانياً مألوفاً وكذلك الحال في وحدة المكان وخلق الجزء من الكل (رمز يلمع بين النخلة والأبنوس) ونرى كذلك أن في لحظة انعدام الرؤية أو المعرفة، تحول شكل القناع والوجه إلى شيء موحد لا ينفصل ولا ينفك. ولعل الشاعر هنا يعني هذا
    الهجين الخلاصي، الذي يسمى السوداني، فإن القناع الأسمر هذا، يكون الثقافة العربية الإفريقية (وكان أفق الوجه والقناع شكلاً واحداً). وهذا ذات الهجين الذي كون السلطنة الزرقاء. التي توقف عندها الشاعر في خياله وفي رحلته إلى الماضي، وإلى البدايات التي ما قبلها بدايات وإلى مرحلة التكوين التي ما قبلها تكوين ويزهر سلطنة البراءة ومن البداءة.
    وفي نشيد المدينة يصل الشاعر إلى محطته الأولى، وهي سنار حيث يخاطبها بلغة غنائية عالية وبأبيات مقفيات وموزونة. واصفها بأنها مدينة الأحلام، التي تعبر بها الفصول والمواسم حيث تبدو للوهلة الأولى، وكأنها مدينة أسطورية تهتز بنار الأرض وتلفظ لهيباً، وكأنها طائر أخضر الريش، وبها كل ما يشتهيه من (ثمر أحمر في صيفي، مرايا جسد ونجوم في سمائي).
    سأعود اليوم يا سنار، حيث الحلم ينمو تحت ماء الليل أشجاراً
    تعرَّي في خريفي وشتائي
    ثم تهتز بنار الأرض، ترفض لهيباً أخضر الريش لكي
    تنضج في ليل دمائي
    ثمراً أحمر في صيفي، مرايا جسدٍ أحلامه تصعد في
    الصمت نجوماً في سمائي
    "سأعود اليوم يا سنار" بتقريرية وتأكيد يؤكد لنا الشاعر أنه سيعود اليوم إلى سنار وهذه العودة هي عودة حالمة وادعة ومحبة "وتنم عودة المجد إلى سنار في هدوء ووداعة باكتشاف الذات وقدرتها الباهرة الباقية عبر التاريخ".
    وهناك في سنار، حيث الرمز يكون رفيعاً كالخيط الذي يأتي في لمعان أسود بين الذرى والسفح. ولا يكون هذا الرمز واضحاً إلا إذا كانت هناك خلفية
    مناقضة له في اللون، لتوضح هذا الخيط الأسود، كذلك الزنجي العربي. و الثمر الناضج والأصل القديم العريق. ثم يخاطبها بصورة مباشرة، مستخدماً فيها "أنت" أداة المخاطب المفرد الحاضر، وأنت كذلك جذوري وأصلي الذي يشبه الذهب، الذهب المجمر في صخرتي الزرقاء كناية على السلطنة الزرقاء. وكذلك بك النار التي
    طهرتني, لعل الشاعر يعني بها الحقيقة التي أعطته القدرة على أن يجرأ على الحب العظيم وينظر إلى الحقيقة بحيدة وموضوعية.
    سأعود اليوم، يا سنار، حيث الرمز خيطٌ،
    من بريق أسود، بين الذرى والسفح،
    والغابة والصحراء، والثمر الناضج والجذر القديم.
    لغتي أنت.
    وعرق الذهب المبرق في صخرتي الزرقاء،
    والنار التي فيها تجاسرت على الحب العظيم
    وينتقل الشاعر هنا إلى المواجهة مع أهله حيث يطلب من الحراس أن يفتحوا له أبواب المدينة، ويعيد الشاعر هذا الطلب عدة مرات برجاء ومسكنة ومحبة، وهنا يبدو حوار درامي حيث تتداخل الأنا المزهوة بالانتماء والأنت المشبعة بالمعرفة. حيث يسأله الحراس هل أنت من البدو؟ فيرد لا. هل أنت من الزنج؟ فيرد لا.
    ولكن يخبرهم أنا منكم ضائعاً رجع إليكم يغني بلسان ويصلي بلسان. ولعله هنا يرمز للغة الأولى اللغة الزنجية التي يتغنى به، ويعبر عما يجيش في دواخله بها، ولكن عندما يصلي يصلي باللغة العربية التي هي اللغة الجديدة المكتسبة، التي بمرور الزمن حلت محل لغته الأولى، التي ما زالت رنتها في داخله تخلق له هذه الثنائية. فأنا يا أهلي عدت من رحلة في بحار بعيدة وهي ممتدة لا تعرف الموانئ، ولعله يعني سفراً لا نهاية له في البحث عن الحقيقة. وكنت في رحلاتي هذه كافراً وناكراً لهويتي جاهلاً بها. وفي غيبوبتي تلك أتحدث بلسان
    مستعار ليس متأصلاً فيّ، وحتى رؤيتي للأشياء ليست رؤى أصيلة نابعة عن معرفة سابقة. فأنا في بحثي الدائب عن هذه الحقيقة المتمثلة في ساحرة البحر الغريبة، ولعل هذا يرمز إلى الخرافة في حياتنا وكأن عندما يجدها سيجد الإجابات التي يبحث عنها وهو في رحلته هذه مسلم قياده للريح تأخذه أنى شاءت، مسافرٌ عبر الأهوال، متحملٌ العناء، والنصب، والأهوال، في سعيه الحثيث للحقيقة ومعرفة الأسرار التي تغلف حياته، ولا تفسير لها. وأنا في بحثي أحلم بأرض خلقت خصيصاً للغرباء والغربة قد تكون غربة عن المعرفة، تذوب الأرض وتختفي في النهار، وتولد من جديد في المساء. وهنا عكس لظاهرة النهار والليل، من المعروف أن الليل هو الذي يخفي والنهار يكشف ولكن الشاعر يريدنا أن نحس بأسطورية رحلته هذه. أي لا مستقبل، ولا حاضر، ولا ماضي. لعل الشاعر يرمز هنا إلى بلد فيها المستحيل. إذن هي مدينة الخرافة والأساطير واللامعقول. إنه يبحث في هذا المكان العبثي عن الحقيقة وعن هويته. وعلى ما يبدو فإن مسألة الهوية هذه مسألة مستعصية لا يمكن أن تحل إلا في عالم تختل فيه الحقائق وقوانينها فليس هناك أفضل من عوالم الأسطورة في ذلك.
    أنا منكم. تائه عاد يغني بلسانٍ
    ويصلي بلسان
    من بحار نائيات
    لم تنر في صمتها الأخضر أحلام المواني
    كافراً تهت سنيناً وسنينا
    مستعيراً لي لساناً وعيوناً
    باحثاً بين قصور الماء عن ساحرة الماء الغريبة
    مذعناً للريح في تجويف جمجمة البحر الرهيبة
    حالماً فيه بأرض جعلت للغرباء
    ـ تتلاشى تحت ضوء الشمس كي تولد من نار المساء ـ
    ببنات البحر ضاجعن إله البحر في الرغو ..
    (إلى آخره مما يغني الشعراء!)
    ثم ينتقل ليخبرهم عن الصعوبات والأهوال التي ركبها فتبدو رحلته مثل رحلة "السندباد"* مليئة بالمخاطر والأهوال في عوالم غريبة وعجائبية، رأى فيها الغرائب ومطراً أسودَ، وسماءً من نحاس وغماماً أحمراً، وشجراً أبيضاً. وكذلك سمع عن غرائب، وأشياء لا يصدقها العقل ولا تستوي والمنطق، الذي عرفه قبل رحلته الغريبة في البحث عن الحقيقة، فهو قد سمع ضحكات الهيكل العظمى في صفحة الماء "ضحكات الهيكل العظمى، واللحم المذاب وشهد في رحلة الأهوال هذه من الغرائب ما حيره وأخافه وشهد كيف تنقض الأفاعي المرعدة حينما تقذف الأمواج جثة خضراء في رمل تلظى من الظلام. فهذه الأشياء التي سمعها وشاهدها ورآها لا تستوي مع عالم الشهادة فهو يتساءل يا صاحبي ماذا ترى؟ هل رأيت أرض ديك الجن أم قيس وهي الجزيرة العربية أم أرض أوديب ولير أم متاهات عطيل؟ كل هذه الأسماء ترمز إلى الثقافة الغربية أم رأيت أرض سنغور؟ وهنا يرمز إلى الثقافة الإفريقية.
    ثم لما كوكب الرعب أضاء
    ارتميت
    ورأيت ما رأيت:
    مطراً أسود ينثوه سماءٌ من نحاس وغمامٌ أحمر
    شجراً أبيض ـ تفاحاً وتوتاً ـ يثمر
    حيث لا أرض ولا سقيا سوى ما رقرق الحامض من رغو الغمام.
    وسمعت ما سمعت:
    ضحكات الهيكل العظميِّ؛ واللحم المذاب
    فوق فسفور العباب
    يتلوى وهو يهتز بغصات الكلام.
    وشاهدت ما شهدت:
    كيف تنقض الأفاعي المرعدة
    حينما تقذف أمواج الدخان المزبدة
    جثة خضراء في رمل تلظى في الظلام.
    صاحبي قل! ما ترى بين شعاب الأرخبيل
    أرض "ديك الجن" أم "قيس" القتيل؟
    أرض "أوديب" و"لير" أم متاهات "عطيل"؟
    أرض "سنغور" عليها من نحاس البحر صهدٌ لا يسيل؟
    فكل الأسرار التي يراها هي أسرار مغلقة، لا إجابات لها، وهذه الغرائب تفرض تساؤلات قد تبدو مثل أسئلة الأطفال، المليئة بالتشوق إلى المعرفة، والتي دائماً ما تنتهي بأسئلة جديدة، وبذلك يكون طلب المعرفة غير متناهي. وعندما عجز الشاعر عن معرفة كنه الحقائق في هذا العالم الغريب الذي يغيبه. أجهش بالبكاء، وتمنى لو أن له طائراً يحمله إلى بلاده، تلك حيث أنه يعرف وعورة الدرب، وصعوبة الرحلة، وأنه سيواجه الأهوال وهناك حيث تلك اللغة المألوفة والحقائق المعروفة. وفوق هذا وذاك هذا الحب الساطع والطمأنينة. ولكن عندما اتسعت الرقعة وكثرت الأهوال، وكذلك الأشياء الشاذة غير المألوفة قال الشاعر: خفت ودخلني الشك، وسألت هل يا ترى ستكتب لي العودة بعد أن أعرف الحقيقة والإجابات على هذه الأسرار المغلقة؟ هل أرجع وأنا أحمل هذا الحلم (الحقيقة) في أطراف ذاكرتي الأولى تلك الذاكرة التي ما قبلها ذاكرة. حاملاً أحلام قبيلتي لأعيش بين موتاي لعله يعني تأريخه وأحاديث وأساطير الطفولة، وهنا لعله يبين أنه بعد أن تحدث له المعرفة، وتنتفي تجربته الأولى، وهي في مقام الغربة عن المعرفة، فهو هل يا ترى تتحول غربته من غربة مكانية إلى غربة معرفية.
    أم بخار البحر قد هيأ في البحر لنا
    مدناً طيفية؟ رؤيا جمالٍ مستحيل؟
    أم صباحاً أم أصيل؟
    أم كهوف القاع ترتج ظلالاً ورسوماً
    حينما حرّك وحش البحر فخذيه: أيصحو
    من نعاس صدفي؟ أم يمجّ النار والماء الحميما؟
    وبكيت ما بكيت:
    من يا ترى يمنحني
    طائراً يحملني
    لمغاني وطني
    عبر شمس الملح والريح العقيم
    لغة تسطع بالحب القديم.
    ثم لما امتلأ البحر بأسماك السماء
    واستفاق الجرس النائم في إشراقة الماء
    سألت:
    هل يا ترى أرجع. يوما
    لابساً صحوي حلما
    حاملاً حلمي هماًّ
    في دجى الذاكرة الأولى وأحلام القبيلة
    بين موتاي وأشكال أساطير الطفولة
    أنا منكم. جرحكم جرحي
    وقوسي قوسكم.
    وثني مجد الأرض وصوفي ضريرٌ
    مجد الرؤيا ونيران الإله
    فافتحوا،
    حراس سنار،
    افتحوا باب الدم الأول
    كي تستقبل اللغة الأولى دماه
    حيث بللور الحضور
    لهب أزرق
    في عين
    المياه
    حيث آلاف الطيور
    نبعت من جسد النار.
    وغنت
    في سماوات الجباه
    فهو هنا يصرخ فيهم قائلاً: إني أنتمي لكم وجرحي جرحكم، وقوسي هو قوسكم. ولعله يعني أنه تضمه معهم وحدة الآمال والآلام. فأنا يا حراس سنار ترشح في داخلي هذه الأشياء التي لا أعرف تفسيراً لها، فأنا في داخلي وثني مجد الأرض، والرمز هنا للثقافة الإفريقية التي يقسم فيها الناس على الأرض ومع أنني هذا الوثني، ولكنني أيضاً هذا الصوفي الضرير الذي يمجد الرؤيا ونيران الإله
    وهنا يرمز إلى الثقافة العربية الإسلامية. ويقول إنني مزيج من هاتين الثقافتين فافتحوا الباب.
    ثم يدخل إلى المدينة وهو مرهق ومتعب وحافٍ "حافياً مستخفياً في لغة مهترئة". من رحلة الأهوال تلك. في اللحظة ينام وهذه النومة هي نومة الرجوع، من غير المألوف إلى المألوف. ومن غير المعروف إلى المعروف، وتصبح سنار هي المكان الشعري الذي تتوحد فيه الذات مع عناصر الطبيعة وكائنات الكون، وتتولد فيها علاقات الألفة.
    ودخلت
    حافياً، مستخفياً في لغة مهترئة
    من بقايا عشب البحر، ومن طعم مسامير السفين الصدئة
    ونمت
    مثلما ينام في الحصى المبلول طفل الماء
    والطير في أعشاشه
    والسمك الصغير في أنهاره
    وفي غصونها الثمار
    والنجوم في مشيمة
    السماء
    وعندما يحضر الليل، يشاهد الشاعر الرعود والبروق وأيضاً هذه الغرائب، ويتحول عالمه إلى رؤى خيالية مليئة بـ"الفنتازيا" والخروج عن المألوف فتتحول روحه إلى طائر أبيض، يلف ويدور حول سماء مدينته الغريبة. ثم كذلك يجد نفسه يقترب من عوالم غير مألوفة محشودة بالغرائب، ومنها السمندل ذلك الطائر الخرافي، يطير في قميصه المصنوع من الشرر، وهناك في الليل حيث تنضج الخمرة
    قبل أن تستخرج من الكروم وكذلك قبل أن تختم في آنية الفخار وفي هذا مبالغة حيث تتحرر الأشياء من ربقة الزمان وتبدو خرافية وغير متتالية على حسب الزمان.
    تعوم روحي
    طائراً أبيض
    فوق مائها
    ويطبق الليل الذي
    يفتح
    في الجمجمة البيضاء
    خرافة تعود،
    وهلةً ووهلة،
    إلى نطفتها الأشياء
    فيها؛ وينضج اللهيب
    في عظام شمسها
    الفائرة الزرقاء
    ويعبر السمندلُ الأحلامَ
    في قميصه
    المصنوع من شرار
    في الليل، حيث البدايات التي ما قبلها بدايات في بدء الخليقة. وكذلك ان الليل يكشف لنا عن الصورة الأولى، حيث ينمو فيه الصمت ثم يرجع هذا النشيد القديم وهذا النشيد قبل أن يحمل اسماً أو يُعطى اسماً، أي منذ البدايات الأولى في لحظة التكوين حيث تظهر الكينونة الأولى قبل أن يشملها التغير، هناك في ذلك الزمن الموغل في البعد قبل أن يأخذ هذا الشكل الجديد، وقبل أن تتملكه الحيرة.
    في الليل تطفو الصورة الأولى
    وتنمو في مياه الصمت
    حيث يرجع النشيد
    لشكله القديم
    قبل أن يسمِّي أو يسمَّى،
    في تجلي الذات، قبل أن يكون غير ما يكون
    قبل أن تجوِّف الحروف
    شكله الجديد
    هل هي دعوة إلى السفر؟ والسفر هنا هو الرحيل من أجل المعرفة أو هي دعوة إلى المكوث والاستقرار في مقام واحد؟ إذ أن الأصل في الشجرة البقاء في مكان واحد ومستقر. فهل يا ترى هذه دعوة إلى الترحال؟ أم دعوة إلى الاستقرار؟ وفي هذا المقطع تتجلى عبقرية الشاعر في نفي المكان والزمان، حيث تتبدى في هذا المقطع أيضاً هذه الكونيات التي اشتهر بها الشاعر.
    رائحة البحر التي تحملها الرياح
    في آخر الليل؛ طيور أفرخت
    في الشفق البنفسجي بين آخر النجوم والصباح
    أنصت هنيهةً!
    تسمع في الحلم حفيف الريش حين يضرب الجناح
    عبر سماوات الغياب
    هل دعوة إلى السفر؟
    أم عودة إلى الشجر؟
    أم صوت بشري غامض يزحف مثل العنكب الصغير فوق خشبات الباب
    يبعثه من آخر الضمير مرة عواء آخر الذئاب
    في طرف الصحراء؛ مرة رنين معدن في الصمت؛
    أو خشخشة الشجر، يلتفّ حول جسد القمر.
    ومرة تبعثه صوت الأجراس حين ترقص الأسماء في دوائر النجوم في النهر
    وهل هذه الأصوات صوت باب يدخلني إلى عالم الأحلام وهذا الحلم كان في آخر الليل وقبل الصبح وهو موعد رؤية كما قال ابن عربي "النوم الذي لا يعطي بشري لا يعول عليه". حيث ذلك الملاك الساهر في حراسة مملكة البراءة. ليأخذه في رحلة استكشاف الذات، ليرى تأريخه، ولكنه عاجز أن يرى وحده ولذلك يحتاج لهذا الوسيط ليكون عينيه ولينقله إلى عالم الأحلام والرؤى حيث "تجاوز حدودها وتختلط في نفس الوقت وتعيد تنظيم ذاتها، وإن ما فيها من الأمور المطلقة والمتضادة كمياً (بإيجاز، الاستقطابات الزائفة) تتضاءل وتفقد كل دلالتها، ويتوحد النظام بعدم النظام، والاستمرار بعدم الاستمرار، والمحتوم بغير المحتوم، ويصبح هذا التوحد إرضاءنا الأعظم".
    "فالشاعر هنا يتخطى الزمن الفيزيائي، الذي تنمو فيه الأشياء وتموت، فإن هذا الزمن خارج على طاعة الشاعر، ويحل الشاعر نفسه محل الزمن فيصبح زمنه هو المعرفة وهو الوحي والنبي كل شيء ينبع منه وعبر هذا الزمن الخاص يسيطر الشاعر على ثالوث الماضي / الحاضر / المستقبل في صيرورة دائبة واتحاد كامل وانتظار ما لا يجيء". والجدير بالذكر أن هذا الزمن لا يزال مجهولاً بعيد الحدوث فعليه ليس هناك فروق حقيقية بين ما حدث وما لم يحدث في هذا العالم الحلمي.
    ويأتي المكان فهو مكان داخلي تخترقه حركة الخيال رأسياً وبالصعود إلى برج التحول، وثم بالهبوط إلى الأعماق، وهذه الحركة الرأسية تتخطى في حركة أفقية
    مصاحبة عناصر كونية. من ثم إن رحلته مع الملك هذه "بمثابة رحلة الإسراء والمعراج. ولكن تختلف حيث قارب الشاعر بين حركة العالي المعراج ـ الذي بدأ به قبل الإسراء، في حركة عكسية لتلاقي حركة الصعود والهبوط، وهي تخلق هذا الحلم الشعري". فبهذا المعراج دخل الشاعر في زمن آخر وهو الماضي، حيث تجول فيه، بحفظ المكان وهو السودان ليعرج به الملاك في رحلة الاستكشاف ليرى ذاته وهويته، وكانت حاجته عالية لهذا الوسيط. حيث يرى من خلاله أصله التليد القيم مثل الذهب وهو هنا يتحول إلى نطفة في مرحلة التكوين، ليحتمي ويرى صور القبيلة الأولى، تلك الصور البعيدة التي أخفيت بسبب تراكم الزمن، وفي ثورة الذاكرة الأولى في ذلك الزمن حيث صفاء الذهن والنقاء حيث البدايات التي ما قبلها بدايات.
    أم صوت باب حلمٍ يفتحه
    في آخر الليل وقبل الصبح
    المَلَكْ الساهر في مملكة البراءة
    وحمأ البداءه
    تحت سماء الجرح
    يمدّ لي يديه
    يقودني عبر رؤى عينيه
    عبر مرايا ليلك الحميمة
    للذهب الكامن في صخورك القديمة
    فأحتمي كالنطفة الأولى
    بالصور الأولى التي تضيء
    في الذاكرة الأولى
    وفي سكون ذهنك النقيّ
    حلم أبصر؟ أهذا حلم؟ أهذا وهم؟ أم هذه حقائق تتضح فيها الرؤى والخيال وحقيقة الأشياء. في منتصف الصحراء تزيح الرمل، لنرى ذلك النقش الأسود، ثم أرى مَلَكاً غامضاً ولكنه واضح يعني واضح وغامض في ذات الوقت، وهذا في عالم الشهادة مستحيل. ويرى ذلك الرمز البارز في رمال الصحراء، حيث بعد الرؤية، يسمع صوت تلك المرأة التي تفتح باباً في جبل صامت، وتأتي بقناديل العاج (كناية للثقافة الزنجية) في درجات المعبد والمذبح تنام ثم ينام الحراس أيضاً. وهناك يحدث الإخصاب وميلاد وهذا الميلاد حين يتم يتم بين الحرحر والأجراس كناية للشيخ إسماعيل صاحب الربابة أحد شيوخ سنار وهذا الجسد ينضج بين ذراعي شيخ هذا الشيخ يعرف خمر اللَّه والناس وكذلك نرى استحالة جمع هذين الخمرين إلا أن في منطق الأحلام لا يوجد مستحيل "لأن الحلم كثيراً ما يكون صورة جلية عن النفس، وهو طريق يؤدي إلى أغوارها المجهولة وبه ندرك سر تخطي ذواتنا وتمثل وجودنا نقطة صغيرة في بحر بعيد لا نهاية له". ولكن أيضاً كثيراً ما لا تستقيم فيه الأشياء والواقع ويرى اللغة الأولى في هذه التماثيل ويذهب هناك بعيداً عند الحدود الأولى للذاكرة إلى البدايات التي ما قبلها بدايات. ثم يتساءل أهذا صوتي يا ترى؟ يبدأ في التكوين من النطفة الأولى إلى طفل لكي يولد في عتبات اللغة الزرقاء وهنا يرمز إلى السلطنة الزرقاء. وهنا يتمكن الجوال من معرفة كنه الحقيقة وهويته فهو تنقل عبر الأزمان ورأى مروي وتحققت له برؤيتها معرفة أشياء كان لا يعرف تفسير لها في هويته ثم أخذه الملك ليرى سنار وبذلك يكون تجاوز مروي ليرى سنار وفجأة حدث له الكشف وانتفت الأضداد في داخله حيث حدث اندماج كامل وتوحد بين الأضداد وتم له الكشف بمعرفة أصول هذه الثنائيات المتضادة وهما مروي الرامزة إلى الأصل الزنجي وسنار الرامزة إلى الأصل العربي الإسلامي ومعاً يكونان الثقافة السودانية بثنائياتها المتضادة والتي هي مصدر ثراء وليست عيباً في هذه الثقافة. وعند حدوث الكشف انتفى الزمان والمكان وعرف من هو
    وما هي هويته وبعدها تحول جسده إلى هذا الوطن الممتد، بكل تناقضاته وأوصافه "تمرح الأفيال، تسترخي التماسيح، والطيور تهب مثل غمامه" لاحظ انتفاء العالم الأسطوري وتحوله إلى واقع، حيث يحدث التوحد تبدأ الأشياء الحاضرة، وكأنها صوت الشاعر وصوت موتاه في الماضي، وبذلك يحدث التوحد بين الحاضر والماضي، وفجأة بعد أن لم يكن له ماض وبالتالي لا حاضر يدرك الجوال أنه له الآن ماض تليد ناصع وحاضر مزهر فهل يا ترى هذا حلم؟ فتحقيق ذاته وهويته مقرون بتلك المعرفة العميقة لذاته. "أنا ماذا أكون بغير هذا الصوت" برحلة المعراج والإسراء هذه تم له الكشف الكامل وعرف من هو حيث وجد كل الإجابات التي يرومها لتساؤلات جعلته في مقام الغربة لزمن طويل، ولكنه الآن وصل إلى مقام المعرفة وعرف ذاته وصفاته.
    وتجيء أشباح مقنعة لترقص حرة، زمناً
    على جسدي الذي يمتد أحراشاً، سهوباً: تمرح الأفيال،
    تسترخي التماسيح، الطيور تهب مثل غمامةٍ؛ والنحل مروحة
    يغني وهو يعسل في تجاويف الجبال، وتستدير مدينة زرقاء
    في جسدي، ويبدأ صوتها، صوتي، يجسد صوت موتاي الطليق
    حلم؟ رؤىً وهمية؟ حقٌّ؟
    أنا ماذا أكون بغير هذا الصوت، هذا الرمز،
    يخلقني وأخلقه على وجه المدينة تحت شمس الليل
    والحب العميق
    وحينما يجنح آخر النجوم للأفول
    ويرجع الموتى إلى المخابئ القديمة
    كيما ينامون وراء حائط النهار
    أنام في انتظار
    آلهة الشمس وقد أترع قلبي الحب والقبول.
    وحينما يأتي الصباح ويرجع هؤلاء الموتى الذين يجوبون الآفاق إلى أماكنهم القديمة ليناموا في النهار ففي هذه الليلة أنام وأنا أنتظر شروق الشمس بفارغ الصبر فقلبي مليء بالقبول والحب أي أن هذا الكشف أزال عنه الهم والقلق والآن هو يقبل هذا التكوين العربي الزنجي ويتصالح معه، وهذا يحسسه بالفخر بنفسه ويوقف التمزق القديم، فهو الآن في دار المعرفة.
    وعندما يطل الصبح وهذا أول صبح بعد أن تحققت المعرفة وانتفت الغربة فامتلأ الشاعر بالقبول وتشبع به، حيث تطل الشمس في أفق القبول وهي بمثابة اللغة وتصبح مصباح المعرفة وكأنها البللور في الليالي المقمرة، وكذلك هي شيء من إيحاء ورمز مستحيل.
    مرحى! تطل الشمس هذا الصبح من أفق القبول
    لغة على جسد المياه،
    ووهج مصباحٍ من البللور في ليل الجذور،
    وبعض إيماءٍ ورمزٍ مستحيل
    ففي الصباح يخاطب الشاعر سنار بلغة جميلة يبثها حبه وقبوله، ويرى أنها هي مرحلة التكوين لهذا الإنسان الخلاصي فهو يحب أيامه فيها، ويقدرها بما فيها من غث وثمين وكذلك يحب فيها رعبه الذي تمتلئ به شرايينه ولكن من الفرح العميق لأنه يعلن قبوله لكل كينونته في سنار سواء إن كانت وحل أم لهب فيخاطب سنار قائلاً: أنا أحب صحراءك وأحنو عليها وأحس بالعطف على الرمال والجفاف وفي ذات الوقت أحنو على موسم النماء والأمطار وهنا قد تكون هناك مقابلة بين الغابة والصحراء حيث الجفاف والرمال هي الصحراء والمطر والنماء هي الغابة والمقابلات
    الضدية هنا تعني القبول التام لها.
    ثم يدعو الشاعر شمس الحقيقة والقبول أن تملأ قلبه بالمعرفة وأن تنظف وتنقي دواخله من كل ما لحق بها من غبار عدم المعرفة وكذلك يدعوها قائلاً: نظفي ونقي لغتي وغنائي ووحدي بينهما حتى أصير هذا الكل الواحد.
    اليوم يا سنار أقبل فيك أيامي بما فيها من العشب الطفيلي
    الذي يهتز تحت غصون أشجار البريق.
    اليوم أقبل فيك أيامي بما فيها من الرعب المخمَّر في شراييني
    وما فيها من الفرح العميق.
    اليوم أقبل فيك كل الوحل واللهب المقدس في دمائك، في دمائي.
    أحنو على الرمل اليبيس كما حنوتُ على مواسمك الغنية بالتدفق والنماء.
    وأقول: يا شمس القبول توهجي في القلب
    صفِّيني، وصفِّي من غبار داكنٍ
    لغتي، غنائي
    وسنار تسافر في النقاء والصحو وهي مثل الجرح الأزرق لكنها عبارة عن رموز للجبل وللاله ولطائر ولفهد ولحصان وأيضاً لرمح ولكتاب وهنا يحدث تجانس بين الأضداد الرامزة للثقافة الزنجية والثقافة العربية ولكنهما معاً يكونان هذه الثقافة القوية التي تحمل أنقى ما في الاثنين.
    سنار تسفر
    في نقاء الصحو
    جرحاً أزرقاً
    جبلاً .. إلهاً .. طائراً
    حصاناً .. فهداً
    أبيضاً
    رمحاً
    كتاب
    حيث رجعت الطيور البحرية من الفجر بعد السفر والغياب والبحر الآن يحلم وحد أحلامه الخضراء التي لا تنتهي فالبحر في دواخلنا هو شيء أخضر ويمثل حلماً كبيراً ولكن هذا البحر دائماً في انتظار ظهور اليابسة وكأن السفر هنا يمثل السفر من أجل المعرفة واليابسة هي الوصول إلى تلك المعرفة.
    رجعت طيور البحر فجراً من مسافات الغياب.
    البحر يحلم وحده أحلامه الخضراء في فوضى العباب.
    البحر؟ إن البحر فينا خضرة،
    حلم، هيولي،
    في انتظار طلوعها الأبدي في لغة التراب.
    ثم يتحول صوت الشاعر هنا إلى صوت هادئ واثق ويختفي الشاعر ويصعد حيث يراقب من مكان علوي مدينته ويرى الأشجار والقوارب فوق النهر والمزارعين في الوادي والأعراس والمآتم في ضفاف النهر والأطفال يمرحون في الساحات وهناك تحت الأشجار تكون الأرواح في وقت الظهيرة حيث يبدأ الحديث برنة اللغة القديمة تلك اللغة المفقودة. والتي لم يبق منها إلا رنتها والشمس تسبح في نقاء حضورها، وعلى غصون الأشجار عائلة الطيور ولمعة شعرية للريح والأشياء تبحر في قداستها، وتموج وتتحرك في هدوء وسكينة ودعة فلا يوجد ما يعكر هذا الصفاء فكل شيء في مكانه المناسب والتناغم يتمثل في معزوفة الأرض العظيمة، فبعد حدوث الكشف رجعت الحياة وصارت مألوفة ومتناغمة لا نشاز ولعل الشاعر يرمز إلى ان معرفتنا لتأريخنا وأصولنا واعتزازنا بها وبأصلنا الهجين سيخلق هذه الدعة والسكون والمحبة فلا حروب ولا شقاق
    حيث يحل السلام والأمن.
    وبالنظر إلى كل الأناشيد نرى الأسى والحزن والحيرة تملأ النشيد الأول والثاني والثالث والرابع ولكن النشيد الخامس مليء بالفرحة والأمل وكأن الأناشيد السابقة التي كان يصف فيها الشاعر آلامه والأهوال التي عبر بها عن الأسى واليأس في بحثه عن الحقيقة وعذاباته كلها انطفأت وتحولت إلى دعة وأمل وحب بعد أن عرف الحقيقة أي أن معرفته للحقيقة أطلقته حراً ونقلته من مقام الحزن والرعب والألم والشقاء إلى مقام الفرح والأمن والسعادة.
    ونخلص إلى أن غالبية النقاد في السودان كانوا قد أعدوا هذه القصيدة هي خطاب الهوية السودانية حيث أبرز الشاعر هذه الثنائيات المتضادة في مكون السوداني (مسبحة من أسنان الموتى ـ إبريق جمجمة ـ تمثال من العاج ـ زهرة الثالوث ... الخ الخ) وهذه الثنائيات المتضادة لا تعني أن هناك صراعاً بين الهوية الزنجية والعربية ولكنهما معاً يكونان ثراء لهذه الثقافة. فالجدلية دائماً تؤدي إلى شيء جديد ومتطور.
                  

04-28-2007, 08:54 AM

bayan
<abayan
تاريخ التسجيل: 06-13-2003
مجموع المشاركات: 15417

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السمندل يغني* ... قراءة في تجربة الشاعر الكبير الدكتور محمد عبد الحي (Re: bayan)

    جزء من ثبت المراجع ربما تداخلت مع مبحث سابق او لاحق...

    العودة إلى سنار، ص 30.
    العودة إلى سنار، ص 32.
    * البطل الأسطوري هو بطل ذو قوة خارقة وهو إله أو نصف إله كما يزعمون.
    ** البطل التراجيدي هو شخصية نبيلة
    *** اللابطل هو الإنسان العادي. راجع: حمودة، إبراهيم، معجم المصطلحات الدرامية والمسرحية، وراجع: حمودة، عبد العزيز، البناء الدرامي.
    إسماعيل صاحب الربابة هو ابن الشيخ مكي الدقلاشي وأمه خيرة سنقاريه ومن كراماته أن تحدث في المهد وحفظ القرآن على الفقيه محمد ولد منوفلي خليفة أباه الشيخ مكي. ودرس الفقه والتوحيد وله أشعار وقصائد في مدح النبي. وله شعر غزلي يمدح فيه النساء مثل تهجة وهيبة. وكان في لحظة الجذب بجمع النبات والعرايس والعرسان للرقص. وعندما يضرب الربابة: كانت كل ضربة لها نغمة يفيق فيها المجنون وتذهل منها العقول وتطرب لها الحيوانات والجمادات حتى ان الربابة يضعونها في الشمس وعندما تسمع الشيخ إسماعيل تبدأ في العزف وحدها. وكان له فرسه نبت بكر يسرجونها له ويلبسونها الحرير والجرس وكانت عندما يغني ترقص على أنغامه الفرس. وباختصار فهذا الشيخ من الملامتية ـ فرقة من الصوفية يفعلون اللوم في الشرع ـ ومات مقتولاً. انظر: ضيف اللَّه، محمد النور، كتاب الطبقات في خصوص الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء في السودان، دار جامعة الخرطوم للنشر، الطبعة الثالثة، 1985، ص 91.
    انظر: هوامش العودة إلى سنار.
    العودة إلى سنار، ص 9.
    * راجع:
    Liengharlt, U., Divinity and Experience, the Relgion of Dinka, Oxford, The Clarendon Press, 1961.
    العودة إلى سنار، ص 9.
    العودة إلى سنار، ص 9.
    العودة إلى سنار، ص 10.
    العودة إلى سنار، ص 10.
    * ثور قبيلة الدينكا. انظر:
    Deng-Francis M., The Dinka of Sudan, New York: Hotl Rinehurt, Winston, 1972.
    ** انظر:
    Deng-Francis M., African of Two Worlds - the Dinka in the Afro Arab Sudan, New Haven, Rale University Press, 1978.
    أبو غالي، مختار، المدينة في الشعر العربي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1995م، ص 305.
    * انظر: مقدمة ديوان العودة إلى سنار.
    العودة إلى سنار، ص 10.
    العودة إلى سنار، ص 13.
    الجيوشي، سلمى خضراء، ص 95.
    العودة إلى سنار، ص 14.
    انظر: أبو غالي، مختار علي، المدينة في الشعر العربي، ص 327.
    العودة إلى سنار، ص 15.
    * ألف ليلة وليلة، بيروت، دار مكتبة الحياة، 1995، الجزء الثالث والرابع.
    ديك الجن شاعر عربي معروف.
    قيس شاعر عربي معروف.
    Sophocles Volumi, The loeb Classical Library, 1951.
    Shakespear, William, King Lear-North lote House, 1995.
    A. C., Bradley, Shakespearean Tragedy, Mac Milan, 3 E., 1997, p. 149.
    سنغور: هو ليو بولد سنغور كاتب وأديب سنغالي وزعيم حركة الزنوجة، له كتابات إبداعية ونظرية وكان رئيساً لجمهورية السنغال.
    العودة إلى سنار، ص 16.
    العودة إلى سنار، ص 17.
    العودة إلى سنار، ص 20.
    العودة إلى سنار، ص 20.
    العودة إلى سنار، ص 22.
    العودة إلى سنار، ص 25.
    العودة إلى سنار، ص 25.
    انظر: هوامش العودة إلى سنار.
    أبو غالي، مختار، المدينة في الشعر العربي، ص 300.
    المرجع السابق، ص 305.
    أبو غالي، ص 314.
    العودة إلى سنار، ص 30.
    راجع: ضيف اللَّه، محمد، طبقات ود ضيف اللَّه، ص 90.
    أبو غالي، ص 317.
    أبو غالي، مختار علي، المدينة في الشعر العربي، ص 300.
    العودة إلى سنار، ص 32.
    العودة إلى سنار، ص 32.
    العودة إلى سنار، ص 35.
    العودة إلى سنار، ص 35.
    العودة إلى سنار، ص 36.
    العودة إلى سنار، ص 36.
                  

04-28-2007, 09:02 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20429

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السمندل يغني* ... قراءة في تجربة الشاعر الكبير الدكتور محمد عبد الحي (Re: bayan)

    من الاهمية بمكان ان نفرّق بين العودة الى سنار كخطاب شعري،
    و بين النظر اليها كرؤيا للعالم.
    ولذلك فالقائلات والقائلون ،
    بانها تشكل حلا مثاليا لازمة الهوية،
    هم وهن خارج التاريخ الثقافي السوداني في علاقته بالغابة والصحراء كرؤيا للعالم.
    و هذه من ازمات المؤسسة الاكاديمية السودانية في بعض وجوهها القبيحة.

    فبعد نشر المقال المهم لعبد الله على ابراهيم في عام 1989 ،
    لم يعد النظر الى الغابة والصحراء كرؤيا للعالم ،
    كما كان سابقا ممكنا.

    وبعد ان قال قرنق كلامه حول التعدد الثقافي ،
    لم تعد الغابة والصحراء حلا مثاليا ،
    لأزمة الهوية،
    من خلال كناية المصهر او البوتقة .
    وعلى الذين و اللاتي يقلن بذلك ان يأتوا ببرهانهم\ن.

    وعلى الله قصد السبيل
    المشاء

    (عدل بواسطة osama elkhawad on 04-28-2007, 09:07 AM)

                  

04-28-2007, 09:33 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20429

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السمندل يغني* ... قراءة في تجربة الشاعر الكبير الدكتور محمد عبد الحي (Re: osama elkhawad)

    عزيزي محمد جميل

    قالت الدكتورة الباحثة بيان:
    Quote: ومثلك احسب دائما انا قصيدة العودة الى سنار قدمت حل لازمة الهوية..


    هل تتفق مع رأيها حول ان الغابة والصحراء هي الحل المثالي لأزمة الهوية؟؟؟؟؟
    محبتي
    المشاء
                  

04-28-2007, 09:39 AM

محمد جميل أحمد
<aمحمد جميل أحمد
تاريخ التسجيل: 03-21-2007
مجموع المشاركات: 1022

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السمندل يغني* ... قراءة في تجربة الشاعر الكبير الدكتور محمد عبد الحي (Re: osama elkhawad)

    عزيزي أسامة الخواض شكرا على نشرك لهذا المقال في (لاهوت الورده) لم أكن على علم بذلك . أعتقد أن قصيدة العودة إلى سنار لا تنطوي على (رؤيا العالم) بل تنطوي على (رؤيا للذات) عبر كشف شعري جمالي أشبه بكشوفات الصوفية . فحين صدر عبد الحي القصيدة بإضاءة نثرية عن تجربة الصوفي الكبير أبي يزيد البسطامي ، الذي كان يبحث عن الحق خارج بلدته فيما كان الذي يبحث عنه موجود فيها دون أن ينتبه . كان عبد الحي يتماهى تماما مع تجربة أبي يزيد . أي أن طريقته في الكشف كانت كطريقة أبي يزيد في الإنتباه إلى أن ما يبحث عنه في الخارج هو موجود في الداخل دون أن ينتبه إليه . لذلك اكتشف جمالياوشعريا ما كان متحققا كحقيقة ظاهرة وموجودة في أغلب التكوين الديمغرافي للسودان (ولا أقول كله) والشاعر إنطلق من تلك الحقيقة وعبر عنها جماليا وكان إكتشافه لها نابعا من شدة سطوعها دون أن ينتبه إلى ذلك السطوع . لايمكننابدا ، معرفيا ونقديا،القول بأن القصيدة تقدم حلا لمشكلة الهوية السودانية لأنها شعر والشعر لايقدم حلولا ، بل عالمه هو الرموز والحدوس التي قد تنطوي على تنبؤات متقدمة . كقصيدة لوركا عن نيويوك ، وأدونيس أيضا عن نفس المدينة . لكن هذه القصائد وهي تعبر بهذه الحدوس لا تكون واعية لهذه التنبؤات بل معبرة عنها. وبالفعل أن من يدعي بأن قصيدة العودة إلى سنار تقدم حلا لمشكلة الهوية يكون مخطئا . هذا لا يعني أن عبد الحي لم يكن واعيا بمعطيات هذه الهوية وهو يعبر عنها جماليا ؛ بل المقصود أن التعبير ذاك كان كشفا وإنتباها لأفق شعري جديد . بل يمكننا القول أن عبد الحي كان متقدمافي زمن سياسي واجتماعي وقبيلي كان مازال يعلن إنتمائه الفج والآيدلوجي للعروبة .
    أما كون القصيدة هي رؤية المستعربين ، فأظن أن ذلك يجانب الصواب . فالإستعراب هو لغة إستفعال أي طلب ما ليس موجودا على سبيل الدعوة كالإستسقاء الذي هوطلب السقيا . أظن أن عبد الحي حين كتب هذه القصيدة كان يعبر بلغة هي لغته العربية(لكنها العربية السودانية) ولهذا تتحدث القصيدة عن اللغة بكثافة وإشارات تمنحها خصوصية . وحتى مفهوم البوتفة هنا هو من المعطيات التي تكونت عبر صيرورة تاريخية ، وكان التعبير عنها تماهيا مع رمز ديمغرافي غالب في ديموغرافيا السودان . ولهذا ربماكان من غير الدقيق معرفيا أن نطلق على هذه القصيدة بأنها (تعبر عن رؤيا عالم المستعربين السوداننين) لأن ذلك محاكمة للقصيدة من خارج بنيها كنص إبداعي . إن التعبير عن المعنى الديغرافي للقصيدة لا ينطوي بالضرورة على نفي حقيقة الزنوجة التي هي مكون أساس من مكونات الهوية السودانية . وإنما عبر الشاعر بحدى الرمز في التكوين الديمغرافي السوداني كمعطى غالب في هذه الهوية (طبعا الهوية هنا بمعنى معطى أي خصائص طبيعية وفطرية خام وليس بالضرورة تنطوي على وعي معرفي عميق بآفاقها المفترضة)أما كونها (غير ديمقراطية) فهذا، في ظني ، يحيلنا إلى محاكمة ما هو ذاتي بما هو موضوعي . فلا يمكن أن نحاكم الشعر بمنطق الديمقراطية .
    شكرا على مرة أخرى على تفاعلك مع هذا المقال وإبداء الرأي الذي بطبيعته فابل للتحريك والنقد
    تحياتي
    محمد جميل
                  

04-28-2007, 12:06 PM

bayan
<abayan
تاريخ التسجيل: 06-13-2003
مجموع المشاركات: 15417

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السمندل يغني* ... قراءة في تجربة الشاعر الكبير الدكتور محمد عبد الحي (Re: محمد جميل أحمد)

    Quote: ومن ذلك الأفق خلق محمد عبد الحي نسيجا ً متـفردا بمنوال صبغت تيماته ألوان أسطورية من منابع غريبة وكاملة الجـِّدة . مكــّن منها تجوال ٌ صهر روحه بمختلف تضاريس السودان وحساسياته الإثنية والحضارية . ودوّن في نفسه أسئلة مصيرية ظلت تتوارد عليه من مطارح شديدة الاختلاف والتمايز ، تعالقت فيها صراحة اللغة بالجذر الأنطلوجي للسودانوية الناشئة في المنزلة بين المنزلتين من التكوين الديمغرافي السوداني : (العرب والزنج) . حتى مَرَد نفسه على عناء كبير في مسار إبداعي شعر بداياته إحساسا ضاغطا وواعدا بأعماق أكثر دهشة وتجريبا ً ومغامرة حقق فيها (معادلة الرماد). تلك التي عجزت عن استيعابها مانوية الخطاب الشعري السوداني بين الأبيض والأسود في زمانه . وبالرغم من أن تجربة (جيمس جويس) في (يولسيس/ عوليس) ألهمته الأفق النوعي الخاص لتجربته في خلق الهوية بحسبانها روحا متعالية صهرت ذاتها في شعبها أو شعبها في ذاتها ، خصوصا في ديوانه المهم (العودة إلى سِنـّار) " قصيدة طويلة من خمسة أناشيد" . إلا أن تجربة محمد عبد الحي ، التي زاوجت دلالتها على أقنوم ثنائي برز في ذات تاريخية واحدة تمثــّلت في (السلطنة الزرقاء) " التي هي أول كيان تاريخي قام على حلف صهر العرب والزنج في بوتقة واحدة في القرن الخامس عشر الميلادي بمدينة سنار ، وأنتج ديمغرافيا السودان المعاصرة " ، كانت هي المصهر الوحيد لشعبه كفضاء رمزي تاريخي . لذلك ظل عبد الحي يتأول الدلالة الرمزية المزدوجة في ثنائيات مترادفة ومعبرة عن ذلك المصهر العرب / الزنج) (النخل / الأبنوس) (الطبل / والربابة ) ( الغابة / الصحراء) ، ومستصحبا تيماتها الجمالية في حدي التجربة ، من أعماق التاريخ العربي إلى أحراش الجغرافيا الاستوائية بجنوب السودان . ومن أقدار أبي العلاء المعري ، إلى طقوس قبيلة (الدينكا) النيلية (التي ينحدر منها المناضل السوداني الراحل د. جون قرنق) . ليكتشف بذلك صيرورة شعرية جديدة ارتكزت على هوية ضاع عنها طويلا ً دون أن ينتبه إليها ، لقربها الشديد واللصيق من روحه وقدره ،


    سلام اخي جميل

    مما كتبته هنا انا استنتجت انك ترى انه مشروع لحل الهوية
    اعتذر اني فهمتك خطأ..
                  

04-28-2007, 12:15 PM

bayan
<abayan
تاريخ التسجيل: 06-13-2003
مجموع المشاركات: 15417

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السمندل يغني* ... قراءة في تجربة الشاعر الكبير الدكتور محمد عبد الحي (Re: bayan)

    بما انه هنا مقام عرض اسهامات في شكل مقالات
    نتمنى ان يقوم الخواض بطرح بحوثه في الغابة والصحراء ومحمد عبدالحي
    حتى نرى رؤيته كاملة.
    وفي النهاية الدرا سات النقدية لا يوجد بها راي قاطع كلها وجهات
    نظر قابلة لتغير و التعديل والتثبيت..وهناك طرق متبعة في الحوارات
    النقدية. وهي تأخذ شكل مناظرة كل يعرض وجهة نظره المدعمة
    ولا يوجد غالب او مغلوب..
    ننتظر اسهامات الخواض النقدية حيث نرى اطروحته النقدية...
    التي اتمنى ان تكون متكاملة بصورة ممنهجة..حتى نحقق الاستفادة منها..
                  

04-28-2007, 02:51 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السمندل يغني* ... قراءة في تجربة الشاعر الكبير الدكتور محمد عبد الحي (Re: bayan)

    الشعر فقر
    والفقر إشراق
    والإشراق معرفة لا تـُدرك
    إلا بين النطع والسيف
                  

04-28-2007, 02:58 PM

Alsadig Alraady
<aAlsadig Alraady
تاريخ التسجيل: 03-18-2003
مجموع المشاركات: 788

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السمندل يغني* ... قراءة في تجربة الشاعر الكبير الدكتور محمد عبد الحي (Re: محمد جميل أحمد)

    أخي محمد جميل أحمد
    وضيوفه الكرام




    تسجيل حضور ومتابعة أولا..
    ونعود بعد قراءة وافية للخيط
                  

04-28-2007, 03:40 PM

bayan
<abayan
تاريخ التسجيل: 06-13-2003
مجموع المشاركات: 15417

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السمندل يغني* ... قراءة في تجربة الشاعر الكبير الدكتور محمد عبد الحي (Re: Alsadig Alraady)

    Quote: هذا البحث مجرد وجهة نظر تتقبل المناقشة والحوار والتعديل وليس هناك شيء قاطع فيها. .



    مصطلحات البحث:
    لقد قمت باستخدام بعض الاصطلاحات، هنا سأوضح معناها الاصطلاحي.
    القومية:
    في اللغة تعني الجماعة من الناس تجمعهم جامعة يقومون بها، والقوم في الاصطلاح الجماعة من الناس تؤلف بينهم وحدة اللغة والتقاليد الاجتماعية وأصول الثقافة وأسباب المصالح المشتركة ويرادف لفظ أمة في اللغة الإنجليزية (Nation) وهي مجموع الأفراد الذين يؤلفون وحدة سياسية تقوم على وحدة الوطن، والتأريخ، والآلام، والآمال.

    الأسطورة:
    الأسطورة في اللغة هي الحديث الذي لا أصل له، يقال: إن هذه أساطير الأولين، وللأسطورة عدة معان:
    أولاً: الأسطورة قصة خيالية ذات أصل شعبي يمثل فيها قوى الطبيعة بأشخاص يكون لأفعالهم ومغامراتهم معان رمزية كالأساطير اليونانية التي تفسر حدوث ظواهر الكون والطبيعة بتأثير آلهة متعددة أو هي حديث خرافي يفسر معطيات الواقع الفعلي كأسطورة العصر الذهبي وأسطورة الجنة المفقودة.
    ثانياً: الأساطير هي الصورة الشعرية أو الروائية التي تعبر عن أحد المذاهب الفلسفية بأسلوب رمزي يختلط الوهم بالحقيقة كأسطورة الكهف في جمهورية أفلاطون، أو قصة سلامات وابسال في فلسفة ابن سينا.
    ثالثاً: وتطلق الأسطورة على صورة المستقبل الوهمي الذي يعبر عن عواطف الناس وينتج في حملهم على إدامة الفعل.
    وقصارى القول: إن الأساطير تتضمن وصفاً لأفعال الآلهة، أو للقدرات الخارقة وهي تختلف باختلاف الأمم فلكل أمة أساطيرها ولكل شعب خرافاته الموضوعة لتعليم والتسلية، وقد قيل أيضاً إن الأسطورة هي التعبير عن الحقيقة
    بلغة الرمز والمجال.

    الصيرورة:
    انتقال الشيء من حالة إلى أخرى، أو من زمان إلى آخر، وهي مرادفة للحركة والتغير من جهة كونها انتقالاً من حالة إلى أخرى كالانتقال من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل.

    الأصالة:
    للاصالة معنيان أساسيان هما:
    الأول: هو الصدق (Authenticity) ويقال على وثيقة أو عمل صادر عن صاحبه، يقابله المنحول (Apocryenc) وهي مثل النسخة والأصلية التي كتبها المؤلف بيده، كما تطلق أيضاً على الوثائق التي تكتب بواسطة قاضي أو كاتب عدل رسمي مختص.
    والمعنى الثاني هو الجدة، أو الابتداع (Originale) وهو امتياز الشيء أو الشخص على غيره بصفات جديدة فالأصالة في الإنسان إبداعة وفي الرأي جودته وفي الأسلوب ابتكاره وهذا هو المعنى المقصود في هذا البحث.

    التجديد:
    جدد الشيء صيره جديداً والتجديد إنشاء شيء جديد أو تبديل القديم وهو مادي كتجديد الملابس والمسكن أو معنوي كتجديد التفكير وطرق التعليم ويتغلب
    على التجديد أن يكون مذموماً في المجتمعات الشديدة التمسك بتقاليدها وأن يكون محموداً في المجتمعات الصناعية التي تقدس روح الاختراع.

    الثقافة:
    ثقف الرجل ثقافة صار حاذقاً والرجل المثقف هو الحاذق الفاهم.
    الثقافة بالمعنى الخاص: هي ما يتصف به الرجل الحاذق من ذوق وحس انتقادي أو هي التربية التي أدت إلى إكسابه هذه الصفات. ولهذا المعنى أن تؤدي إلى ملائمة بين الإنسان والطبيعة وبينه وبين المجتمع.
    وإذا دل لفظ الثقافة على معنى الحضارة (Civilization) كان لهذا وجهان ـ وجه ذاتي ثقافة العقل ووجه موضوعي ـ وهو مجموع العادات والأوضاع الاجتماعية والطرق العلمية والتقنية وأنماط التفكير والإحساس والقيم الذائعة في مجتمع معين أو هي طريقة حياة الناس وكل ما يملكونه ويتداولونه اجتماعياً لا بيولوجياً. وهذا المعنى هو المراد في هذا البحث.

    الثنائية:
    أتت من (Duo) ومعناها اثنان. الثنائي من الأشياء ما كان ذا شقين. والثنائية هي القول بزوجية المبادئ المفسرة للكون كثنائية الأضداد وتعاقبها أو ثنائية الواحد والمادة ومن جهة مبدأ لعدم النفي الواحد، أو ثنائية الواحد غير المتناهي عند ميثاغورس.
    الثنوية والاثنينية: الثنوية (Dualism) الطبيعة ذات وحدتين أو هي كون الشيء الواحد مستمداً على حدين متقابلين ومتطابقين.
    الأنا:
    أنا ضمير المتكلم والألف الأخيرة فيه إنما لبيان الحركة في الوقت والمراد بـ(أنا) عند الفلاسفة العرب الإشارة إلى النفس المدركة فقال ابن سينا: "المراد بالنفس ما يشير إليه كل أحد بقوله أنا".

    مصطلح الغابة والصحراء:
    لقد حفلت كثير من القصائد التي كتبها شعراء سودانيون بالاستخدام الرمزي للغابة والصحراء فالغابة عندهم ترمز للثقافة الزنجية الإفريقية. والصحراء ترمز للثقافة العربية الإسلامية ومعاً يكونان الثقافة السودانية الهجينة. فأول من استخدم هذا المصطلح للتعبير عن الثقافة الهجينة الشاعر السنغالي ليوبولد سنغور قاصدا جنوب وشمال الصحراء، وفي السودان أول من استخدام هذا المصطلح هو الشاعر النور عثمان أبكر في قصيدته (صحو الكلمات المنسية). 1963
    وكذلك نجدها عند البعض ترمز الغابة للجنوب السوداني الزنجي، والصحراء للشمال السوداني العربي.
    وقد استخدمت أيضاً كاسم لجماعة الغابة والصحراء وهذا الاستخدام هو الذي يهمنا في هذا البحث.
    #

    تحديد مفهوم مصطلح الغابة والصحراء وتقنينه وكتابة حدوده
    من اسهامات الباحثة...
                  

04-28-2007, 08:09 PM

محمد جميل أحمد
<aمحمد جميل أحمد
تاريخ التسجيل: 03-21-2007
مجموع المشاركات: 1022

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السمندل يغني* ... قراءة في تجربة الشاعر الكبير الدكتور محمد عبد الحي (Re: bayan)

    شكرا دكتورة بيان وشكرا اللأخوين عبد الحميد البرنس والصادق الرضي على مرورهمابالمقال .
    بالعودة إلى إقتباسك د. بيان : أنا ذكرت بأن تجربة عبد الحي في (العودة إلى سنار) كانت أفقا ملهماللهوية . كما ذكرت معنى الدلالة . وذكرت أيضا في ذلك الإقتباس بأن تلك التجربة كانت هي المصهر الوحيد لشعبه كفضاء رمزي وتاريخي .والحقيقة أن التكوين الديمغرافي المزدوج العنصر كان سابقا على وجود السلطنة الزرقاء لكن عبد الحي إختارها كنموذج . لقد كانت تلك القصيدة راحة وحلا للقلق الذي عاشه عبد الحي ، وكان ذلك إكتشافا تشبعت به كينونة الشاعر . لكن الملاحظ أن عبد الحي بالرغم من إكتشافه لذلك الفضاء الشعري الجديد كتعبير عن الهوية السودانية كان يتكلم في القصيدة بضمير الفرد وصوته الخاص ، وفي ذلك معنى ما من معاني فردية الإكتشاف كإبداع يتاخم الهوية الرمزية دون أن يضمر صوتا جماعيا للتعبير عنها .فعبد الحي لم يدعي أن القصيدة تعبر عن هوية جماعية ، وبالتالي فقد كانت القصيدة حلا شخصيا للشاعر الذي شاطره كثيرون في تأويله ذاك . وبالطبع القصيدة لا تدعي حلا للهوية السودانية ، وإنما تعبر وتنطلق من معطياتها الخام ، وتضمر ذلك التعبير كأفق ملهم لهويةسودانوية كامنة بالقوة وغائبة بالفعل . إن أي قراءة تنشأ من إقامة علاقة متقابلة بين ما عبر عنه محمد عبد الحي جماليا وبين نفي الزنوجة في ذلك التعبير هي علاقة خاطئة وتجر إلى نتائج غير صحيحة . إن نفي الزنوجة هو نتيجة من نتائج التأويل الأوتقراطي لممارسات الذاكرة التاريخية والشفاهية للثقافة العربية في السودان . والحال أن أي قراءة معرفية لمعطيات هذه الهوية ستقف ضد تلك الذاكرة الشفاهيةومحمولاتها الأوتقراطية . لأن علامات الزنوجة وتقاليدها تفيض في صفات السودانيين الخلقية وعاداتهم ـ النقارات والطبول التي هي من علامات العراقة لدى كل القبائل السودانية والأفريقيةـ ربما كانت نموذجا على ذلك . وبالتالي فإن محاكمة قصيدة العودة إلى سنار وفق الفكار التي تنشأ من نقاشات الهوية السودانية لا يمكن أن يؤدي إلى نتيجة ما عبر عنه عبد الحي هو تأويل جمالي لمعطيات الهوية الخام والموجودة لكنها غير المكتشفة جماليا .
    لكن الهويةأيضا صيرورة قابلة للخلق بالإضافة إلى تلك المعطيات الخام ، وهي بهذا المعنى ليست معلقة في الفضاء وإنما تنبع من لغة ما وثقافة ما لبشر معينين ثم تستقل عنهم حين تملك تأويلها الإنساني والجمالي والثقافي الغني والعابر للحدود الأثنية الضيقة . وإذا كانت الهوية الميثيولوجية لأوربا نبعت من أثينا وأسبارطة ؛ فأين اليوم أثينا وإسبارطة من باريس ولندن وبرلين وغيرها من عواصم المتربول الثقافي الأوربي (اسبارطة حاليا تقع في تركيا)؟ وكذلك فإن اللغة الإيطالية اليوم هي في الأصل لغة أهل مدينة (توسكانا) التي جعل منها دانتي (إبن تلك المدينة)لغة عظيمة من خلال كتابه العظيم (الكوميديا الإلهية) أين اليوم توسكانا من روما ؟
    ما عنيته هو أن الهويةليست ناجزة أبدا وكاملة المعطيات ، وإنما أيضا قابلة للتحقق عبر صيرورة خلاقة من ثقافة ما ، دون أن يكون بالضرورة أهل تلك الثقافة هم أصحابها الحصريون ؟ وعلى هذا يمكننا أن نقول بأرتياح أن عبد الحي عبر عن الهوية السودانية جماليادون أن يعني ذلك حلا لمشكلات الهوية . لأن حلول هذه الهوية معرفيا في مكان آخر ليس هو الشعر . ولا أظن أن أي سوداني يختلف في أن الغناء السوداني هو من أصفى تعبيرات الهوية التي تجمع جميع السودانيين في وجدان واحد (خصوصا وردي) .
    الحقيقة أن الهوية السودانية معرفيا (أي في الفكر والسياسة والتاريخ والمواطنة ألخ) غير ناجزة ، وتحتاج إلى خلق من قبل النخبة السودانية (في مقالي : إشكالات السودانوية المنشور في البوست الخاص بي في سودانيز أون لاين تفصيل في هذا المعنى)
    وإذا كانت هذه الهوية تملك وضوحا في الشعر والغناء فلأن الفن هو أصفى تعبيرات الروح حين تتصالح مع نفسهاوتصغي إلى ماهو إنساني وجميل فيها .
    تحياتي
    محمد جميل
                  

04-29-2007, 03:10 AM

bayan
<abayan
تاريخ التسجيل: 06-13-2003
مجموع المشاركات: 15417

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السمندل يغني* ... قراءة في تجربة الشاعر الكبير الدكتور محمد عبد الحي (Re: محمد جميل أحمد)

    Quote: وإذا كانت هذه الهوية تملك وضوحا في الشعر والغناء فلأن الفن هو أصفى تعبيرات الروح حين تتصالح مع نفسهاوتصغي إلى ماهو إنساني وجميل فيها .


    وهذه خلاصة جيدة وثاقبة..
    فكرة الغابة والصحراء هي حل لازمة الهوية وصلت اليها هذه الجماعة
    ولذلك احسب ان المثقفين قد اعطوا حلا ثقافيا للمشكل
    غير ان رجال السياسة اختاروا الحرب...
    وما قصيدة العودة الى سنار الا منفستو شارحا لفكرة الهوية...

    لك التحية لي عودة
    بخاتمة بحثي التي ذكرت فيها هذه المسألة
    واذكر انه تم نقاش طويل فيها في المناقشة..وكانت اشبه بمناظرة..
    .
                  

04-29-2007, 03:19 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20429

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السمندل يغني* ... قراءة في تجربة الشاعر الكبير الدكتور محمد عبد الحي (Re: bayan)

    عزيزي محمد جميل
    تحياتي مجددا
    ساعود لمعاودة النقاش حول الفرق بين رؤية الذات كما اسميتها ورؤية العالم.
    وهنا لنك البوست الذي بسطت فيها مقالك في السفير ،
    في "لاهوت الوردة":

    لاهوت الوردة
    المشاء
                  

04-29-2007, 07:26 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20429

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السمندل يغني* ... قراءة في تجربة الشاعر الكبير الدكتور محمد عبد الحي (Re: osama elkhawad)

    عزيزي محمد جميل

    سلامات

    قلت:
    .
    Quote: أعتقد أن قصيدة العودة إلى سنار لا تنطوي على (رؤيا العالم) بل تنطوي على (رؤيا للذات) عبر كشف شعري جمالي أشبه بكشوفات الصوفية .


    بالطبع لا يمكن نفي الذات الكاتبة ،لكن توسيع علاقات الذات الكاتبة مع العالم أمر مهم.كلامك ربما ينطلق من مفهوم رومانسي عن الجينيص و هو العبقري المبدع الخلاق المنعزل عن العالم ،كأنما ان شعره مثلا هو انعكاسات لتلك العبقرية الخلاقة لا غير .
    لا أنكر ان العودة الى سنار هي رؤية للذات،لكن يفرض هذا السؤال نفسه:
    أية ذات؟
    في هوامشه يعرف عبد الحي تلك الذات ،بأن يصفها بانها تحاول ان تشكل في مصهر روحها ضمير أمتها الذي لم يخلق بعد.
    وهنا الرؤيا تبدو مستقبلية ،وتنبؤية كما تفضلت.
    وعندما نقوم بتوسيع علاقات الذات الكاتبة مع العالم،
    نجد انها تعبر عن رؤية السودانيين المستعربين عبر تبني كناية البوتقة او المصهر ،
    وهي كناية لا تعبر عن رؤيا ثقافات كثيرة حافظت الى حد كبير على ثقافاتها ولم تنصهر مع الثقافة العربية الاسلامية.

    عموما مصطلح "رؤيا العالم" هو مصطلح شائع في البنيوية التكوينية ،وقد نحته لوسيان قولدمان ،مطورا لما قال به لوكاتش عن الرواية الاوروبية.

    نعود لكلامك الآتي:

    Quote: أما كون القصيدة هي رؤية المستعربين ، فأظن أن ذلك يجانب الصواب . فالإستعراب هو لغة إستفعال أي طلب ما ليس موجودا على سبيل الدعوة كالإستسقاء الذي هوطلب السقيا . أظن أن عبد الحي حين كتب هذه القصيدة كان يعبر بلغة هي لغته العربية(لكنها العربية السودانية) ولهذا تتحدث القصيدة عن اللغة بكثافة وإشارات تمنحها خصوصية . وحتى مفهوم البوتفة هنا هو من المعطيات التي تكونت عبر صيرورة تاريخية ، وكان التعبير عنها تماهيا مع رمز ديمغرافي غالب في ديموغرافيا السودان . ولهذا ربماكان من غير الدقيق معرفيا أن نطلق على هذه القصيدة بأنها (تعبر عن رؤيا عالم المستعربين السوداننين) لأن ذلك محاكمة للقصيدة من خارج بنيها كنص إبداعي


    المسالة في غاية البساطة .
    كلامي هو عن تصنيف العرب ،من عرب بائدة او هالكة الى عرب عاربة او متعربة ثم الى عرب مستعربة.
    وكان اسماعيل من العرب المستعربة لانه حينما صاهر العرب كان يتكلم السريانية او العبرية.
    هذا ما اردنا القول به ،
    وأبقوا طيبين
    المشاء
                  

04-29-2007, 10:42 AM

محمد جميل أحمد
<aمحمد جميل أحمد
تاريخ التسجيل: 03-21-2007
مجموع المشاركات: 1022

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السمندل يغني* ... قراءة في تجربة الشاعر الكبير الدكتور محمد عبد الحي (Re: osama elkhawad)

    أهلا د. بيان . أعتقد أن (العودة إلى سنار) كانت رؤية تضمر حلا إبداعياشخصيا للهوية السودان . لأن الحل الثقافي ـ في أعتقادي ـ لم يتحقق حتى الآن ، وبما أن الحل الإبداعي ينطوي على رؤية شخصية فهو حل خاص لكنه مفتوح على أفق موضوعي .

    عزيزي الخواض . شكرا على إرسال البوست ، ولكني لم أتمكن من الوصول إلى ما نشرته من كتاباتي . سأحاول مرة أخرى .
    عزيزي لقد تحول النقاش إلى أبعد ما يمكن أن يكون حول قراءة نقدية لا تملك صوابا مطلقا أو يقينا في نتائجها .
    ما قصدته من (رؤية الذات) هو الأنا المتعالية والمكتشفة من خلال التجربة الشعرية والمعرفية لمحمد عبد الحي من خلال معطيات خام للهوية . أي أن عبد الحي إكتشف إبداعيا ذاتا متعالية حقق التماهي معها جماليا، لكنه إنطلق في ذلك من معطيات الهوية الخام تاريخيا وديمغرافيا. لا يمكننا أن نقول أن الشاعر صاغ هوية للسودان ، بل عبر عبر الكشف الشعري عن رؤية جمالية متقدمة .أو يمكننا القول أن عبد الحي كان يختبر معطيات هذه الهوية الخام ، جماليا. إذا كنت تقصد برؤية العالم هنا رؤية المستعربين لعالمهم . فالعالم هنا سيكون عالما خاصا . ففي ظني أن رؤية العالم إبداعيا تعني الموقف الجمالي من العالم بالمعنى الفلسفي أي كل ما هو خارج عن الذات . أما تعريف عبد الحي فهو إضاءة ، لكنه لا يمكن أن يكون حاسما في مستويات القراءات المتعددة لهذا النص . لأن علاقات النص وإحالاته ودلالاته تختلف بإختلاف زوايا التأويل النقدي والمعرفي له .الثقافات الكثيرة يمكن أن تكون تعبيرات عن المجموعات الثقافية والعرقية ولها الحق المطلق في التعبير عنها . ولكن لابد من من لغة واحدة في التعبير حتى عن تلك الثقافات إذا أرادت أن تكون مفهومة جميع السودانيين ، عشية الثورة الفرنسية إختار الثوار لغة واحدة من بين عدة لغات لتأكيد مفهوم الدولة ـ الأمة .
    أن مفهوم البوتقة كما ذكرت من قبل لم يكن إختراعا ، بل كان معطى من معطيات هذه الهوية الخام (في أغلب سحنات السودانيين وليس كلهم بالطبع) وكان كائنا حتى قبل قيام السلطنة الزرقاء ولهذا فإن تبناه مبدع سوداني أو جماعة سودانية فهو يتبنى معطى أصيل من معطيات هذه الهوية الخام . صحيح هي لا تعبر عن ثقافات كثيرة حافظت على أصولها ولم تنصهر في الثقافة العربية الإسلامية ، لكنها في نفس الوقت إنطوت هذه الثقافات على أفق محلي محدود أي أن إمكاناتها الذاتية لم تسمح لها بأن تكون ثقافة شائعة (وهذا ليس عيبا) ولكن حتى بعض المجموعات الثقافية للقبائل الأفريقية المحضة في السودان كانت ترى في الثقافة العربية ثقافة لا يجدون حرجا في الإنتساب إليها (مجموعات قبائل غرب السودان الأفريقية) والإشكال في ظني ناشيء من الممارسات الأوتقراطية للثقافة الشعبوية العربية . دون أن ينسحب ذلك بالضرورة على القيم الإنسانية في تلك الثقافة والتي هي قيم ترجع في أصولهاالنقية إلى الأسلام .
    هل أفهم من كلامك عن العرب المستعربة والعاربة : أنك تقصد معنى إختلاط العرب في السودان بالزنج ؟ ما قصدته من كلامك الأول أن المستعربين هم الذين يتماهون مع آيدلوجا العروبة الساذجة وينفون أي علاقة لهم بعنصر آخر .
    وإذا كان ما فهمته من كلامك الأخير هو إختلاط المجموعات العربية في السودان وتحولهم إلى مستعربين فمفهوم الإستعراب (كما في حال إسماعيل مع جرهم) والذي تقصده لاينطبق عليهم.لأن إسماعيل أخذ لغة جرهم بدلا من أن يعطيهم لغته !؟ أماالعرب الذين دخلو السودان فهم في هذه الحالة سيكونوا (متأفرقين) وليسو مستعربين . ثم أن لغتهم التي سادت لأسباب قد تكون ذاتية أو موضوعية . في النهاية أفرزت حالة من المركزية اللغوية لأغلب أهل السودان بالإضافة إلى أنها لغة في ذاتها كانت قادرة على تجاوز حدودها الإثنية (كما في أماكن أخرى من العالم) وعليه أظن أن من المهم فرز استقرار اللغة العربية في السودان عن العرب الذين جائووا بها لأنهم لم يعودوا عربا بل صاروا خليطا من العرب والزنج . لا أريد أن أدخل في مسألة اللغة العربية في السودان لكن الحديث عن الهوية والإستعراب سيجرنا إلى موضعتها خارج أسبابها الذاتية في الإنتشار . ما عنيته هو الفصل المعرفي بين اللغة العربية كلغة لجميع أهل السودان وبين العرب الذين ذابوا في القبائل السودانية الأفريقة والحامية(البجا) وغيرها . وهنا يمكننا أن نمسك بالآيدلوجيا الكثيفة التي تغيب إستحقاق العربية كلغة مركزية في نقاشات الهوية السودانية .
    لم أقصد مفهوما رومانسيا في قراءتي لعبد الحي وإنما كنت أقرأ إختباره الشعري لمعطى مهم من معطيات الهوية السودانية الخام .
    ياعزيزي نحن حتى الآم بكل أسف لم نخلق هويتنا ثقافيا ومعرفيا بعيدا عن موضوع اللغة ، كما خلقت الأمم الأوربية مصيرها الثقافي بوعي . الهوية إذا لم تكن متحققة في ممارسات ملموسة وعيانية في المواطنة والحقوق والدستور كتعبير واقعي في علاقات السودانيين اليومية ببعضهم البعض . فهي غائبة وما كتبه عبد الحي كان حلماشعريا جميلا لتمثلات هذه الهوية في الفن .
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de