"الدّرب إنْشحط "مراجعة من بوادي الكبابيش عبيد الطيب

Quote: الدرب أنشحط.................. عزيزي عبيد الطيّب (ود المقدم). تحيّة طيّبة قرات مقالك الرصين. و كما قلت لك في رسالتي، يحق للمرء أن يختلس لحظات قليلة للراحة، رغم كل شئ، ويتناول ما يطعم الروح، اذا كان هناك من سبيل الي ذلك - خاصة في هذا الزمن المجدب، حيث صرير رياح الغربة الجافة يصمّ الآذان. أرجو أن تجد أدناه تعليقي علي مقصد الشاعر، حسبما أري، في قوله "بنوت هضاليم الخلا البنجاطن---"، التي كثر الحديث عنها، في مواضع مختلفة، وما زال. ويلزمني هنا أن أذكر أنني لست من المتبحرين في الأدب الشعبي، نثرا كان أو شعرا. لكني، مثل كثيرين من قرائك، محبٌ له، ومولع به؛ ومن الحب ما ورّط، كما تعلم. لهذا لم يكن ثمة مفرٌ من أن أتوكل علي الحي الذي لا يموت لأدلو بدلوي في هذا المورد العذب. مصدر اثنتين من القصائد التي أوردتها (استشهادآ) هو موقع "يوتيوب" وهي مبذولة للجميع، أشرت اليها بعلامة "*" في موضعها. أما الباقي فكله لشعراء مجهولين. وبالرغم من الإحالات التي ذكرت أنت وبعض القراء، أنا علي يقين أن أجود الدوبيت هو لشعراْء مجهولين. وكم جلست الساعات في زمن غابر استمع إلي معان مدهشة، يكاد يطرب لها الحجر، لأناس بسطاء، في كل شئ، لا شأن لهم ولا اسم. * نشأنا، منذ الصغر، علي أصوات الدوبيت: في البيت، وفي أفراح القرية المختلفة، من بوش ونفير، وفي أسواق القري المجاورة. حفظنا منه قدراً معتبراً ونحن بعدُ يافعين. سمعت مبكراً قول شاعرٍ مجهول "سراب القيع أمّاتو ما بِلدنّوا/ أفدع ساقو والكرباج بخوزز منو/ مزيقة سرجك كيف الصغير فاطمنو/ أصبح زي سوارها و قيل أرقق منو". وسمعت في صغري قول الآخر "إبليس النعيل جاب دفترو وقراني/ هجعة بردة ليل علي أم رشوم طراني/ خايف ينقرني الشيب نمرق قريش براني/ شايل كبدتي ونص وقّة من مصراني". وكلها بالطبع لشعراء مجهولين – كغالب اشعار الدوبيت.. وسمعت أيضأ "البارح بعد الخلوق ما هجعوا/ عاود قلبي دقاتو القديمي ؤوجعوا/ بت الشيخ مفارقي مع العريب النجعوا/ ما بتبقولنّا زي القدمونا ؤرجعوا". وغيرها الكثير، المثير. الوزن والقافية ** الدوبيت، كما هو معلوم، شعرٌ، مثله مثل الشعر الفصيح، له وزن وقافية ومعني. والقصيدة فيه رباعيّة، في الغالب. وأحياناً قد تكون ثلاثية، مثل قول القائل: "البرروبة يا البرروبة المن وسط منزرّة/ لا شالت طبق لا جابت خبر بالمرّة/ قدر ما طراك (نا) قلبي ياخد فرّة". لاحظ اننا إذا استخدمنا الكلمات "أطراك" و "أنا" يختل الوزن و قد يقول قائل: ما هي المعايير التي نرتكز عليها في حكمنا علي الموزون و المختل؟ أقول: هي "الجرس" أو الموسيقي الشعرية. وقد تكون القصيدة ثنائية أيضا – وذلك من النادر - مثل قول القائل "شبلولك الحريرة مع الوزيرة تناتلي/ الله يتلتل التلتن شلوخّا تلاتي"؛ وفي حالة القصيدة الثنائية والثلاثية، يردد الشاعر الأبيات، في وقت المطارحة، مع بعض الهمهمات أحيانآ، حتي تبدو القصيدة وكأنها رباعية. لاحظ أيضا، عزيزي القارئ، كلمة "شلوخّا"، فبنطقنا لها نحس بأنها لا تقبل ختمها بالـ"ها"، لأن ذلك سيجلب لحناً في الوزن، وربما كسر كامل. والمدهش أن اللغة المستخدمة في أشعار الدوبيت فيها إشارات لطيفة إلي مصدر القصيدة – أي في أيّ بادية تم تأليفها، و ذلك بتتبع اللهجة المستخدمة فيها. وهذا مبحث شيّق أرجو أن أجد الوقت، في المستقبل، للحديث عنه. *** عطفا علي ما سبق، فالأبيات التي أوردها الأستاذ الطيّب صالح، رحمه الله، في مقدمة كتابه "ضوالبيت"، موزونة تماما. وهي: "(1) الدرب انشحط و اللوس جبالو اتناطن/ (2) والبندر فوانيسو البيوقدن ماتن/ (3) بنوت هضاليم الخلا البنجاطن/ (4) أسرع قودع أمسيت والمواعيد فاتن". المعني **** نأتي للمعني. وهنا مربط الفرس (أو البعير)! و قد لاحظت أن بعض الباحثين يتعثر في سبر غور بعض معاني الدوبيت – و الحق يقال فهي "غميسة" جدآ أحيانآ. فبعض القصائد تتناول معني واحداً بسيطاً في المدح أو الغزل أو الهجاء أو الفخر. وهذه سهلة؛ وغالباً تأتي علي وتيرة واحدة في المقاطع الأربعة؛ وأمثلتها كثيرة ومطروقة كثيراً في الدوبيت، لا داعي حتي لايرادها هنا. و بعضها الأخر يتناول معني مركباً أوله علي شاكلة النسيب (أحيانآ) في الشعر الفصيح، إذا جازت المقارنة. في هذه الحالة يخصّص الشاعر المقطعين، الأول والثاني، لتوطئة تصف مسرح الحدث قبل الدخول في الموضوع الرئيس، في المقطعين الثالث والرابع. وأنا أري أن الأبيات، موضوعنا هنا، هي علي هذه الشاكلة، كما سأبيّن أدناه. لزم أيضا القول إن هناك تراكيب أخري معقدة في المعني، في بعض شعر الدوبيت، لا تعنينا في أمر الأبيات التي نحن بصدد شرحها. فلنترك أمر التراكيب المعقدة لمن لهم باع أطول منا في هذا المضمار، وهم كثر، لحسن الحظ. ***** في المقطع الأول و الثاني يصف الشاعر مسرح الحدث: خبيبٌ في الفلاة في الليل (بقرينة الفوانيس) علي ظهر بعير أصهب و درب طال، متجها نحو جبال اللوس التي بدأت في الظهور في الظلام كرأس الرجل يظهر من وراء ستار (حوش) وهو يتناطا – أي يرفع عنقه فوق السياج. يقول شاعر آخر في معني التناطي: *"ما ترابع المدنقر ولاّ تمشي تشاورو/ والبتناطا لعرضك أخير ما تجاورو"*. والبندر الذي تركه الشاعر وراءه خبأت أضواؤه بسبب الابتعاد عنه أو أقتراب الصبح، لا فرق. فهو الآن بعيد من البندر يقصد جبال اللوس. لكن لا بد لهذه الرحلة الليلية المحفوفة بالمخاطر (بقرينة السفر ليلآ وحيدآ في الفلاة) من هدف. فما هو الهدف؟ نعلم أن الرجل همباتي، ففي هذه الحالة غالباً ما يكون الهدف إما "أم قجّة" أو "أم رشوم". ثم يأتي المقطع الثالث، ليفضح لنا ما يدور في خاطر الشاعر: "بنوت هضاليم الخلا البنجاطن". فالرجل هابر، هبرة، و حاري ليهو بكار يشبهن بنات النعام، في نواحي جبال اللوس و يريد أن يصلها و يسوق منها، ليلا، ما فيه النصيب، قبل أن يفوت الموعد، عند شروق الشمس. وكلمة "مواعيد" هنا فيها تورية لطيفة، لكأنه علي موعد مع المحبوبة، أو لعله – كما سنري أدناه. وهنا يحث بعيره ليسرع في السير حتي لا تضيع الفرصة، بقوله: "أسرع قودع أمسيت والمواعيد فاتن". ****** يجوز، أيضا، تشبيه الحبيبة بالبكرة أو المهرة، أو العنز. فاذا ذهبنا في هذا المنحي فيمكن أن نقول إن الشاعر علي موعد مع محبوبته وصويحباتها، اللائي شبههن ببنات النعام طالما أنّ النعام شبيه البكار، أو يمكن أن يكون. أنظر قول القائل: " يا بكيرة العروري الفنتي/ من جدب الحقاب بتجوجحي ما بتقنتي" هنا يشبه المحبوبة بالبكيرة (تصغيرأ محببا) ويسخر من صاحبها، غير الجدير بها - في نظر الشاعر - لأنه "عروري و فنتي". و المعني واضح!. و قول الأخر في أمر التشبيه بالمهرة "مهرة دنقلا الفي العرضة ماخدة الزينة/ مما قال سلام أنا والمعاي ضلّينا". وفي التشبيه بالعنز (قد تعني الظبية) قال شاعر آخر "عنز الروقلن نواشي ما لاقاهن/ كيف قدري أنا و القي مرادي معاهن". والتشبيه بالظبية قد يأتي بأسماء كثيرة مثل "جدي الريل" أو "جِدِي أم شورة" أو " الجفل" أو "ود الأدرع" كما قال أحدهم: "ود الأدرع المن داب حقب قرقابو/ أمّو مدرجاه ومن الكبار تجّابو/ نزلتبو العتيق في الهجعة تتكابو/ نظرك في الوحوش فرضو وقليل تيرابو". ******* وعلي نفس منوال الأبيات التي أوردها الطيّب صالح قال شاعر مجهول "(1) الليلة الصعيد طلّق علينا دلقّن/ (2) التيراب نتج حت الضروس اتسقن/ (3) خشيماتا ملاح عيل بالإبار أندقن/ (4) أسرع عندهن قبل النجوم ما غبّن". فالموضوع الرئيس هنا هو وصل الحبيبة (صاحبة الخشيم المليح، المدقوق بالأبر)، التي وصفها في المقطع الثالث. وفي المقطع الرابع يحث بعيره أن يسرع في السير لكي يوصله عندهن قبل غياب النجم (بزوغ الفجر) حتي يتم الوصل - تماما كما فعل شاعر "الدرب أنشحط......". أما المقطعان الأول والثاني ففيهما التوطئة التي أشرت اليها أعلاه. وقال أحدهم: *"(1) تبيت بدري قبّال الصباح ما يصبي/ (2) صليت ركعتين حاضر هديتهن ربّي/ (3) المن ركفوا ممكونآ فؤادي مغبي/ (4)هاجمو الليلة كان المولي سهّل دربي"*. قارن، عزيزي القارئ، المقطع (3) في المثالين؛ ألا يعادل مقطع "بنوت هضلاليم الخلا البنجاطن"؟ ******** أما ما قال به د. خالد فرح، وورد في كتابه عن الأستاذ الطيّب صالح، المريود ؤ ما منسي – مباحث في أبداع الطيّب صالح، (ص 45، 46)، فلا أتفق معه. و قد تكرم خالد، مشكوراً، بإهدائي نسخة من كتابه هذا، في أواخر الصيف قبل الماضي، في باريس. وقد كان الكتاب صحبة ماتعة لي في رحلة طويلة، من غرب أوروبا، الي بلاد الشرق الأقصي. وقد وعدته أن أرسل له تعقيباً مختصراً علي الكتاب و لكني، للأسف، لم أفعل حتي الآن. فهلا قبل خالد هذه المساهمة، المتواضعة، كعربون، الي أن يسهّل المولي براحآ من الوقت لإكمال الباقي. وقديما قالوا: "المديون كيل منو بتاب"! والذين يعرفون الطيّب صالح عن قرب، من خلصائه، (لست منهم) ربما اتفقوا معي أن الرجل يكاد يكون موسوعة في شعر الدوبيت وفي أدب المديح أيضا. ثمّ أنّ له أذن موسيقية مرهفة، تبين حتي في نثره، مما يرجّح أنّ روايته صحيحة، خاصة أنّها تستقيم، وزنا ومعني. ومن سوء حظ المكتبة السودانيّة أنّ الطيّب لم يوثق لمعارفه الثرّة في هذا الباب – علي حدّ علمي. ********* أما الرواية التي تغيّر المقطع الثالث الي "يا ود أمات هضاليم الخلا ----" أو " يا ود رباد -----" أو "يا فروج ------" بحثآ عن معني آخر، فلا غبار عليها – إذا حذفت عنها الـ"يا" في البداية، لتفادي اللحن. غير أنها تغيّر المعني الأصلي للبيت وتحصره في مدح البعير فقط، كما أبنت أعلاه. وتلك، لعمري، خسارة فادحة، لا أظن أن الشاعر سيرضاها! مرة أخري لك الشكر، و خالص الأماني بلّة البكرى (فبراير 2013)